تفسير سورة الأنبياء

الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي ٱلْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ ٱلْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ﴾

قوله تعالى: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ﴾ الآية:
أَعْلَمَنا الله - جلَّ ذِكرُه - في هذه الآية أن (ما جَنَتْهُ) البهائمُ في الليل فيه حُكْم، وأن داودَ حَكَمَ في ذلك بما رآه، وأن الله - جلّ ذكره -فَهَّمَ سليمانَ أن الحكم فيه عنده. - والنَّفْشُ: رعيُ البهائم بالليل -.
ومن قال من أجاز نسخ القرآن بالسُّنَّة: إن هذا منسوخٌ بقوله - صلى الله عليه وسلم -:"جُرْحُ العَجْماء جُبَار" فما أَفسدَت البهائمُ في ليلٍ أو نهارٍ فلا شيءَ فيه
وأَكْثَرُ العلماء على أن الآيةَ مُحْكَمة، وقد بَيَّنَ ذلك النبيُّ - عليهالسلام - فَحَكَم بضمانِ ما أفسدَتْهُ البهائمُ باللَّيل دون النهار لأن على أصحاب المواشي حِفْظَهَا بالليل - وهو قول مالك والشافعي وغيرهما -.
ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - "العجماء جُبَار" إنما ذلك فيما ليس على صاحبهاحفظُها منه.
فأما ما على صاحبها حفظها منه وأَصَابَتْهُ وأفسدته فليس بِجُبَار، وهوضامن لذلك. والجُبَار: الهدْر الذي لا شيءَ فيه.
فالبيِّن في هذا أنها محكمة.

﴿ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّم﴾ إلى قوله ﴿لاَ يَسْمَعُون﴾:
أخبرنا اللهُ - جلَّ ذكرُه - أن العابدينَ من المشركين والمعبودين في النارخبراً عاماً في الظاهر، وقد عُبِدَ عيسى بنُ مريم وعزيرٌ ومريمُ والملائكةُوالشمسُ والكواكبُ فتأَوَّلَ بعضُ الناس أنه منسوخٌ بقوله تعالى: ﴿إنّ الّذِينَسَبَقتْ لَهُم منَّا الحُسْنى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدون﴾ [الأنبياء: ١٠١] - الآيات - يعني بذلك: عيسى (وأُمَّه) وعُزَير والملائكة.
والذي عليه أهل النظر وتوجبه الأُصول: أَنَّ هذا ليس بِنَسْخٍ، إنماهو تخصيصٌ وتبيين أَنَّ الآياتِ في قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِندُونِ الله﴾ - الآيات - غيرُ عامةٍ في كُلِّ معبودٍ من دون الله، (وأَنَّ مَنْ سبقتله) الحسنى عند الله من المعبودين غيرُ داخلين في عموم الآية، مع أنه لايجوز في مثل هذا نسخٌ لأنه خبر، والأخبارُ لا تُنْسَخ إنما تُبَيَّن، وتُخَصَّص ولا يجوز فيها النَّسْخُ ولو جاز فيها النَّسخُ لكان المخْبِرُ بها قدأخبرَ بها على غيرِ ما هي عليه والله يَتَعالى عَن ذلك.
وأيضاً فإن (هذا) لو نُسِخَ لوجبَ زوالُ حُكْمِ دخول المعبودين مندونِ اللهِ كُلِّهِم في النار لأَنَّ النسخَ إزالةُ الحكم الأَوَّل، وحلول الثانيمحلَّه، ولا يجوزُ زوالُ الحكمُ الأَوَّلُ بكُلِّيته، إِنما زالَ بعضُه، فهو تخصيصٌ وبيان. فالآيتان محكمتان لا نسخ فيهما.
وقد سمَّى جماعةٌ من المتقدمين هذا استثناءً، وليس كذلكَ لأنالاستثناءَ إنما يأتي بحرفِ الاستثناء، ولا حرفَ في هذا، فإنَّما هوتخصيصٌ وبيان.
فأما قراءةُ ابنِ مسعود "إلاَّ الذينَ سَبَقَت" بـ "إلا" فهو استثناءٌ بلا شك، وهو يدل على معنى التخصيص، لأَنّ الاستثناءَ مباينٌ لِلنَّسْخ؛ إِذِ النَّسْخُ بيانُالأزمان، والاستثناءُ والتَّخصيصُ بيانُ الأَعيان، فهما متباينان في المعنىأعني النَّسْخَ والاستثناء.
وقد ذكرنا. (ما قيل) في قوله: ﴿وَإِنْ مِنْكُم إلاَّ وارِدُهَا﴾ في سورةمريم من أنه منسوخٌ بقولِه: ﴿إنَّ الذِينَ سَبَقَت لَهُم منَّا الحُسْنَى﴾، وإنالصَّوابَ (فيها) أنه (مبيَّنٌ مُخَصَّصٌ) لا منسوخٌ، (لأنه خبر).

Icon