تفسير سورة الأنبياء

أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن .
لمؤلفه الشنقيطي - أضواء البيان . المتوفي سنة 1393 هـ

قوله تعالى :﴿ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ ﴾ الآية.
قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في أول سورة «النحل » فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار أخفوا النجوى فيما بينهم، قائلين : إن النَّبي صلى الله عليه وسلم ما هو إلا بشر مثلهم، فيكف يكون رسولاً إليهم ؟ والنجوى : الإسرار بالكلام وإخفاؤه عن الناس. وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من دعواهم : أن بشراً مثلهم لا يمكن أن يكون رسولاً، وتكذيب الله لهم في ذلك جاء في آيات كثيرة، وقد قدمنا كثيراً من ذلك، كقوله :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جاءهم الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ﴾، وقوله :﴿ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ ﴾ الآية، وقوله :﴿ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إنا إِذاً لفي ضَلالٍ وَسُعُرٍ ﴾ وقوله :﴿ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ٣٣ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ مَال هذا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي في الأسواق ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا ﴾ الآية. والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، كما تقدم إيضاح ذلك.
وقد رد الله عليهم هذه الدعْوَى الكاذبة التي هي منع إرسال البشر، كقوله هنا في هذه السورة الكريمة :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تعلمون ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ في الأسواق ﴾، وقوله هنا :﴿ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ ٨ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات. وجملة ﴿ هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾. قيل بدل من «النجوى » ؛ أي أسروا النجوى التي هي هذا الحديث الخفي الذي هو قولهم : هل هذا إلا بشر مثلكم. وصدر به الزمخشري، وقيل : مفعول به للنجوى ؛ لأنها بمعنى القول الخفي ؛ أي قالوا في خفية :﴿ هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾. وقيل : معمول قول محذوف ؛ أي قالوا هل هذا إلا بشر مثلكم. وهو أظهرها ؛ لأطراد حذف القول مع بقاء مقوله. وفي قوله :﴿ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ أوجه كثيرة من الإعراب معروفة، وأظهرها عندي : أنها بدل من الواو في أوله :﴿ وَأَسَرُّواْ ﴾ بدل بعض من كل، وقد تقرر في الأصول : أن بدل البعض من الكل من المخصصات المتصلة، كقوله تعالى :﴿ وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾. فقوله ﴿ مِنْ ﴾ بدل من «الناس » : بدل بعض من كل، وهي مخصصه لوجوب الحج بأنه لا يجب إلاَّ على من استطاع إليه سبيلاً. كما قدمنا هذا في سورة «المائدة ».
قوله تعالى :﴿ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴾.
إعراب هذه الجملة جار مجرى إعراب الجملة التي قبلها، التي هي ﴿ هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ﴾، والمعنى : أنهم زعموا أن ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم سحر، وبناء على ذلك الزعم الباطل أنكروا على أنفسهم إتيان السحر وهم يبصرون. يعنون بذلك تصديق النَّبي صلى الله عليه وسلم، أي لا يمكن أن نصدقك ونتبعك، ونحن نبصر أن ما جئت به سحر. وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع أنهم ادعوا أن ما جاء به صلى الله عليه وسلم سحر، كقوله عن بعضهم :﴿ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾، وقوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ٥٢ ﴾.
وقد رد الله عليهم دعواهم أن القرآن سحر بقوله هنا :﴿ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ في السماء والأرض وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ٤ ﴾ يعني أن الذي يعلم القول في السماء والأرض الذي هو السميع العليم، المحيط علمه بكل شيء، هو الذي أنزل هذا القرآن العظيم، وكون من أنزله هو العالم بكل شيء يدل على كمال صدقه في الأخبار وعدله في الأحكام، وسلامته من جميع العيوب والنقائص، وأنه ليس بسحر. وقد أوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع : كقوله تعالى :﴿ قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّمَاواتِ والأرض ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ﴾ إلى غير ذلك من الآيات. وقرأ هذا الحرف حمزة والكسائي وحفص عن عاصم ﴿ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ ﴾ بألف بعد القاف وفتح اللام بصيغة الفعل الماضي، وقرأه الباقون ﴿ قُلْ ﴾ بضم القاف وإسكان اللام بصيغة الأمر.
قوله تعالى :﴿ بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ﴾.
الظاهر أن الإضراب في قوله هنا ﴿ بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ ﴾ إلخ، إضراب انتقالي لا إبطالي، لأنهم قالوا ذلك كله، وقال بعض العلماء : كل هذه الأقوال المختلفة التي حكاها الله عنهم صدرت من طائفة متفقة لا يثبتون على قول، بل تارة يقولون هو ساحر، وتارة شاعر، وهكذا، لأن المبطل لا يثبت على قول واحد. وقال بعض أهل العلم : كل واحد من تلك الأقوال قالته طائفة : كما قدمنا الإشارة إلى هذا في سورة «الحجر » في الكلام على قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْآنَ عِضِينَ ﴾ وقد رد الله عليهم هذه الدعاوى الباطلة في آيات من كتابه : كرده دعواهم أنه شاعر أو كاهن في قوله تعالى :﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ ٤١ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ٤٢ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ٤٣ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل ٤٤ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ٤٥ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ٤٦ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ٤٧ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ٦٩ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ٧٠ ﴾، وقوله في رد دعواهم إنه افتراه :﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ٣٧ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٣٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ١٣ ﴾، وقوله تعالى :﴿ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ١١١ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات، وكقوله في رد دعواهم إنه كاهن أو مجنون :﴿ مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ٢ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ٢٢ ﴾، وقوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَي عَذَابٍ شَدِيدٍ ٤٦ ﴾، وقوله :﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ٦٩ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ٧٠ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات المبينة إبطال كل ما ادعوه في النَّبي صلى الله عليه وسلم والقرآن. وقوله ﴿ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ ﴾ أي أخلاط كالأحلام المختلفة التي يراها النائم ولا حقيقة لها كما قال الشاعر :
أحاديث طسم أو سراب بفدفد ترقرق للساري وأضغاث حالم
وعن اليزيدي : الأضغاث ما لم يكن له تأويل.
قوله تعالى :﴿ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأٌوَّلُونَ ٥ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار اقترحوا على نبينا أن يأتيهم بآية كآيات الرسل قبله ؛ نحو ناقة صالح، وعصى موسى، وريح سليمان، وإحياء عيسى للأموات وإبرائه الأكمه والأبرص، ونحو ذلك. وإيضاح وجه التشبيه في قوله ﴿ كَمَا أُرْسِلَ الأوَّلُونَ ﴾ هو أنه في معنى : كما أتى الأولون بالآيات. لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات. فقولك أرسل محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزة. وقد بين تعالى أن الآيات التي اقترحوها لو جاءتهم ما آمنوا وأنها لو جاءتهم وتمادوا على كفرهم أهلكهم الله بعذاب مستأصل. كما أهلك قوم صالح لما عقروا الناقة. كقوله تعالى :﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بها الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بها ﴾ الآية، وكقوله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ليُؤْمِنُنَّ بها قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ١٠٩ ﴾. وأشار إلى ذلك هنا في قوله :﴿ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ٦ ﴾.
﴿ مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ٦ ﴾.
يعني أن الأمم الذين اقترحوا الآيات من قبلهم وجاءتهم رسلهم بما اقترحوا، لم يؤمنوا بل تمادوا فأهلكهم الله وأنتم أشد منهم عُتُواً وعِناداً. فلو جاءكم ما اقترحتم، ما آمنتم، فهلكتم كما هلكوا. وقال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ٩٦ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وبين أنهم جاءتهم آية هي أعظم الآيات، فيستحق من لم يكتف بها التقريع والتوبيخ، وذلك في قوله :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ٥٠ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ ﴾ الآية. وقد ذكرنا أن هذا المعنى يشير إليه قوله :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا في الصُّحُفِ الأولَى ١٣٣ ﴾، وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً ﴾ إلى قوله ﴿ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ ٨ ﴾ قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ ٩ ﴾.
بين جل وعلا في هذه الآيات : أنه أرسل الرسل إلى الأمم فكذبوهم، وأنه وعد الرسل بأن لهم النصر والعاقبة الحسنة، وأنه صدق رسله ذلك الوعد فأنجاهم. وأنجى معهم ما شاء أن ينجيه.. والمراد به من آمن بهم من أممهم، وأهلك المسرفين وهم الكفار المكذبون الرسل، وقد أوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله تعالى ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّي مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ١١٠ ﴾، وقوله :﴿ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ٤٧ ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ١٣ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ﴾، وقوله :﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِين ١٧١ َإِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ ١٧٢ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ١٧٣ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾ الّآية، وقوله :﴿ وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات. والظاهر أن «صدق » تتعدى بنفسها وبالحرف، تقول : صدقته الوعد، وصدقته في الوعد. كقوله هنا :﴿ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ ﴾، وقوله :﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾. فقول الزمخشري «صدقناهم الوعد » كقوله :«واختار موسى قومه سبعين رجلاً » لا حاجة إليه، والله أعلم. والإسراف : مجاوزة الحد في المعاصي كالكفر، ولذلك يكثر في القرآن إطلاق المسرفين على الكفار.
قوله تعالى :﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ ١١ ﴾.
«كم » هنا للإخبار بعدد كثير، وهي في محل نصب لأنها مفعول «قصمنا » أي قصمنا كثير من القرى التي كانت ظالمة، وأنشأنا بعدها قوماً آخرين. وهذا المعنى المذكور هنا جاء مبيناً في مواضع كثيرة من كتاب الله. كقوله تعالى :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا ١٧ ﴾، وقوله :﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِي خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبها وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً ٨ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً ٩ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا ﴾ أصل القصم : أفظع الكسر لأنه الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء، بخلاف الفصم بالفاء فهو كسر لا يبين تلاؤم الأجزاء بالكلية. والمراد بالقصم في الآية : الإهلاك الشديد.
قوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ١٦ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة «الحجر » فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وكذلك قوله :﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ ﴾ الآية. قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة «بني إسرائيل »، وكذلك الآيات التي بعد هذا قدْ قدمنا في مواضع متعددة ما يبينها من كتاب الله.
قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ٢٦ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار لعنهم الله قالوا عليه أنه اتخذ ولداً. وقد بينا ذلك فيما مضى بياناً شافياً في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك. سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وبين هنا بُطلان ما ادعوه على ربهم من اتخاذ الأولاد وهم في زعمهم الملائكة بحرف الإضراب الإبطالي الذي هو «بل » مبيناً : أنهم عباده المكرمون، والعبد لا يمكن أن يكون ولداً لسيِّده. ثم أثنى على ملائكته بأنهم عباد مكرمون.
قوله تعالى :﴿ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ٢٧ ﴾.
لا يسبقون ربهم بالقول أي لا يقولون إلا ما أمرهم أن يقولوه لشدة طاعتهم له ﴿ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ٢٧ ﴾. وما أشار إليه في هذه الآية الكريمة من أن الملائكة عبيده وملكه، والعبد لا يمكن أن يكون ولداً لسيده أشار له في غير هذا الموضع. كقوله في «البقرة » :﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ١١٦ ﴾، وقوله في «النساء » :﴿ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ وما في السَّمَاوَات وَمَا في الأرض وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ١٧١ ﴾ أي والمالك بكل شيء لا يمكن أن يكون له ولد. لأن الملك ينافي الولدية، ولا يمكن أن يوجد شيء سواه إلا وهو ملك له جل وعلا.
وما ذكره في هذه الآية الكريمة : من الثناء الحسن على ملائكته عليهم صلوات الله وسلامه بينه في غير هذا الموضع. كقوله تعالى ﴿ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ٦ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ١٠ كِرَاماً كَاتِبِينَ ١١ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ١٢ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلَهُ مَن في السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ١٩ يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ٢٠ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
مسألة
أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن : أن الأب إذا ملك ابنة عتق عليه بالملك. ووجه ذلك واضح. لأن الكفار زعموا أن الملائكة بنات الله. فنفى الله تلك الدعوى بأنهم عباده وملكه. فدل ذلك على منافاة الملك الولدية، وأنهما لا يصح اجتماعهما. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ٢٨ ﴾.
الضمير في قوله ﴿ مِنْهُمْ ﴾ عائد إلى الملائكة المذكورين في قوله :﴿ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ٢٦ ﴾ والمعنى : أنهم مع كرامتهم على الله لو ادعى أحد منهم أن له الحق في صرف شيء من حقوق الله الخاصة به إليه فكان مشركاً، وكان جزاؤه جهنم. ومعلوم أن التعليق يصح فيما لا يمكن ولا يقع ؛ كقوله :﴿ قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ ﴾ الآية، وقوله :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ والمراد بذلك تعظيم أمر الشرك. وهذا الفرض والتقدير الذي ذكره جل وعلا هنا في شأن الملائكة، ذكره أيضاً في شأن الرسل على الجميع صلوات الله وسلامه قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ٦٥ ﴾ ولما ذكر جل وعلا من ذكر من الأنبياء في سورة «الأنعام » في قوله :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ ﴾ إلى آخر من ذكر منهم قال بعد ذلك ﴿ ذلك هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ٨٨ ﴾.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ﴾ الآية دليل قاطع على أن حقوق الله الخالصة له من جميع أنواع العبادة لا يجوز أن يصرف شيء منها لأحد ولو ملكاً مقرباً، أو نبياً مرسلاً. ومما يوضح ذلك قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ٧٩ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ٨٠ ﴾، وقوله تعالى مخاطباً لسيِّد الحق صلوات الله وسلامه عليه :﴿ قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِك بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ٦٤ ﴾.
قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا ﴾.
قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن كثير «أولم ير » بواو بعد الهمزة : وقرأه ابن كثير «ألم ير الذين كفروا » بدون واو، وكذلك هو في مصحف مكة. والاستفهام لتوبيخ الكفار وتقريعهم، حيث يشاهدون غرائب صنع الله وعجائبه، ومع هذا يعبدون من دونه ما لا ينفع من عَبَده، ولا يضر من عَصَاه، ولا يقدر على شيء.
وقوله ﴿ كَانَتَا ﴾ التثنية باعتبار النوعين اللذَين هما نوع السماء، ونوع الأرض. كقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَن تَزُولاَ ﴾ ونظيره قول عمر بن شبيم :
ألم يحزنك أن جبال قيس وتغلب قد تباينتا انقطاعا
والرتق مصدر رَتَقه رتْقاً : إذا سده. ومنه الرتقاء. وهي التي انسد فرجها، ولكن المصدر وصف به هنا ولذا أفرده ولم يقل كانتا رتقين. والفتق : الفصل بين الشيئين المتَّصلين. فهو ضد الرتق. ومنه قول الشاعر :
يهون عليهم إذا يغضبو ن سخط العداة وإرغامها
ورتق الفتوق وفتق الرتو ق ونقض الأمور وإبرامها
واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالرتق والفتق في هذه الآية على خمسة أقوال، بعضها في غاية السقوط، وواحد منها تدل له قرائن من القرآن العظيم :
الأول أن معنى ﴿ رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ أي كانت السماوات والأرض متلاصقة بعضها مع بعض، ففتقها الله وفصل بين السماوات والأرض، فرفع السماء إلى مكانها، وأقر الأرض في مكانها، وفصل بينهما بالهواء الذي بينهما كما ترى.
القول الثاني أن السماوات السبع كانت رتقاً. أي متلاصقة بعضها ببعض، ففتقها الله وجعلها سبع سماوات، كل اثنتين منها بينهما فصل، والأرضون كذلك كانت رتقاً ففتقها، وجعلها سبعاً بعضها منفصل عن بعض.
القول الثالث أن معنى ﴿ رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ أن السماء كانت لا ينزل منها مطر، والأرض كانت لا ينبت فيها نبات، ففتق الله السماء بالمطر، والأرض بالنبات.
القول الرابع ﴿ رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ أي في ظلمة لا يرى من شدتها شيء ففتقهما الله بالنور. وهذا القول في الحقيقة يرجع إلى القول الأول، والثاني.
القول الخامس وهو أبعدها لظهور سقوطه. أن الرتق يراد به العدم. والفتق يراد به الإيجاد. أي كانتا عدماً فأوجدناهما. وهذا القول كما ترى.
فإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه الآية، فاعلم أن القول الثالث منها وهو كونهما كانتا رتقاً بمعنى أن السماء لا ينزل منها مطر، والأرض لا تنبت شيئاً ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات قد دلت عليه قرائن من كتاب الله تعالى.
الأولى أن قوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ ﴾ يدل على أنهم رأوا ذلك. لأن الأظهر في رأى أنها بصرية، والذي يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر، والأرض ميتة هامدة لا نبات فيها. فيشاهدون بأبصارهم إنزال الله المطر، وإنباته به أنواع النبات.
القرينة الثانية أنه أتبع ذلك بقوله :﴿ وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ﴾. والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله ؛ أي وجعلنا من الماء الذي أنزلناه بفتقنا السماء، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض كل شيء حي.
القرينة الثالثة أن هذا المعنى جاء موضحاً في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى :﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ١١ والأرض ذَاتِ الصَّدْعِ ١٢ ﴾ لأن المراد بالرَّجْع نزول المطر منها تارة بعد أخرى، والمراد بالصَّدْع : انشقاق الأرض عن النبات. وكقوله تعالى :﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ٢٤ أنا صببنا الماء صبا ٢٥ ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً ٢٦ ﴾ الآية. واختار هذا القول ابن جرير وابن عطية وغيرهما للقرائن التي ذكرنا. ويؤيد ذلك كثرة ورود الاستدلال بإنزال المطر، وإنبات النبات في القرآن العظيم على كمال قدرة الله تعالى، وعظم منته على خلقه، وقدرته على البعث. والذين قالوا : إن المراد بالرتق والفتق أنهما كانتا متلاصقتين ففتقهما الله وفصل بعضهما عن بعض قالوا في قوله ﴿ أَوَ لَمْ يَرَ ﴾ أنها من رأي العلمية لا البصرية، وقالوا : وجه تقريرهم بذلك أنه جاء في القرآن، وما جاء في القرآن فهو أمر قطعي لا سبيل للشك فيه. والعلم عند الله تعالى.
وأقرب الأقوال في ذلك هو ما ذكرنا دلالة القرائن القرآنية عليه، وقد قال فيه الفخر الرازي في تفسيره : ورجَّحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك :﴿ وجعلنا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيء حَيٍّ أَفَلاَ ﴾ وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم، ولا يكون كذلك إلاَّ إذا كان المراد ما ذكرنا.
فإن قيل : هذا الوجه مرجوح. لأن المطر لا ينزل من السماوات بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا.
قلنا : إنما أطلق عليه لفظ الجمع لأن كل قطعة منها سماء. كما يقال ثوب أخلاق، وبرمة أعشار ا ه منه. قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيء حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ ٣٠ ﴾.
الظاهر أن «جَعل » هنا بمعنى خَلَق. لأنها متعدية لمفعول واحد. ويدل لذلك قوله تعالى في سورة «النور » :﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّاءٍ ﴾.
واختلف العلماء في معنى خلق كل شيء من الماء. قال بعض العلماء : الماء الذي خلق منه كل شيء هو النطفة. لأن الله خلق جميع الحيوانات التي تولد عن طريق التناسل من النطف، وعلى هذا فهو من العام المخصوص.
وقال بعض العلماء : هو الماء المعروف، لأن الحيوانات إما مخلوقة منه مباشرة كبعض الحيوانات التي تتخلق من الماء. وإما غير مباشرة لأن النطف من الأغذية، والأغذية كلَّها ناشئة عن الماء، وذلك في الحبوب والثمار ونحوها ظاهر، وكذلك هو في اللحوم والألبان والأسمان ونحوها : لأنه كله ناشئ بسبب الماء.
وقال بعض أهل العلم : معنى خَلْقه كل حيوان من ماء : أنه كأنما خلقه من الماء لفرط احتياجه إليه، وقلة صبره عنه. كقوله :﴿ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ إلى غير ذلك من الأقوال. وقد قدمنا المعاني الأربعة التي تأتي لها لفظة «جعل » وما جاء منها في القرآن وما لم يجئ فيه في سورة «النحل ».
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه : لقائل أن يقول : كيف قال وخلقنا من الماء كل حيوان ؟ وقد قال ﴿ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ٢٧ ﴾ وجاء في الأخبار : أن الله تعالى خلق الملائكة من النور، وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام :﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي ﴾، وقال في حق آدم ﴿ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ﴾.
والجواب : اللفظ وإن كان عاماً إلا أن القرينة المخصصة قائمة، فإن الدليل لا بد وأن يكون مشاهداً محسوساً ليكون أقرب إلى المقصود. وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى وعليهم السلام، لأن الكفار لم يروا شيئاً من ذلك ا ه منه.
ثم قال الرازي أيضاً : اختلف المفسِّرون، فقال بعضهم : المراد من قوله ﴿ كُلَّ شَيء حَيٍّ ﴾ الحيوان فقط. وقال آخرون : بل يدخل فيه النبات والشجر، لأنه من الماء صار نامياً، وصار فيه الرطوبة والخضرة، والنور والثمر. وهذا القول أليق بالمعنى المقصود، كأنه تعالى قال : ففتقنا السماء لإنزال المطر، وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حياً. حجة القول الأول : أن النبات لا يسمى حياً. قلنا : لا نسلم، والدليل عليه قوله تعالى ﴿ كَيْفَ يُحْيي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ انتهى منه أيضاً.
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا في الأرض رَوَاسِي أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ٣١ ﴾.
قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة «النحل » فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ٣٢ ﴾.
تضمنت هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :
الأولى أن الله جل وعلا جعل السماء سقفاً، أي لأنها للأرض كالسقف للبيت.
الثانية أنه جعل ذلك السقف محفوظاً.
الثالثة أن الكفار معرضون عما فيها «أي السماء » من الآيات، لا يتعظون به ولا يتذكرون. وقد أوضح هذه المسائل الثلاث في غير هذا الموضع :
أما كونه جعلها سقفاً فقد ذكره في سورة «الطور » أنه مرفوع وذلك في قوله :﴿ وَالطُّور ١ ِوَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ ٢ في رَقٍّ مَّنْشُورٍ ٣ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ٤ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ٥ ﴾ الآية.
وأما كون ذلك السقف محفوظاً فقد بينه في مواضع من كتابه، فبين أنه محفوظ من السقوط في قوله :﴿ وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾، وقوله :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ والأرض بِأَمْرِهِ ﴾ وقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَن تَزُولاَ ﴾، وقوله :﴿ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ والأرض وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّّ الْعَظِيمُ ٢٥٥ ﴾، وقوله ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ١٧ ﴾ على قول من قال : وما كنا عن الخلق غافلين. إذ لو كنا نغفل لسقطت عليهم السماء فأهلكتهم. وبين أنه محفوظ من التشقق والتفطر، لا يحتاج إلى ترميم ولا إصلاح كسائر السقوف إذا طال زمتها ؛ كقوله تعالى :﴿ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ٣ ﴾، وقوله تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ٦ ﴾ أي ليس فيها من شقوق ولا صدوع. وبين أن ذلك السقف المذكور محفوظ من كل شيطان رجيم. كقوله :﴿ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ١٧ ﴾، وقد بينا الآيات الدالة على حفظها من جميع الشياطين في سورة «الحجر ». وأما كون الكفار معرضين عما فيها من الآيات فقد بينه في مواضع من كتابه. كقوله تعالى :﴿ وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ في السَّمَاوَاتِ والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ١٠٥ ﴾، وقوله :﴿ وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ ﴾ الآية، وقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ٩٦ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ﴾، وقوله :﴿ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ١٠١ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ٣٤ ﴾.
قال بعض أهل العلم : كان المشركون ينكرون نبوته صلى الله عليه وسلم ويقولون : هو شاعر يتربَّص به ريب المنون، ولعله يموت كما مات شاعر بني فلان. فقال الله تعالى : قد مات الأنبياء من قبلك، وتولى دينه بالنصر والحياطة، فهكذا نحفظ دينك وشرعك.
وقال بعض أهل العلم : لما نعى جبريل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم نفسه قال :«فَمَنْ لأُمتي » ؟ فنزلت ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ﴾ والأول أظهر. لأن السورة مكية : ومعنى الآية : أن الله لم يجعل لبشر قبل نبيه الخلد. أي دوام البقاء في الدنيا، بل كلهم يموت.
وقوله :﴿ أفإن مت فهم الخالدون ﴾ استفهام، إنكاري معناه النفي. والمعنى : أنك إن مت فهم لن يخلدوا بعدك، بل سيموتون. ولذلك أتبعه بقوله :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾. وما أشار إليه جل وعلا في هذه الآية من أنه صلى الله عليه وسلم سيموت، وأنهم سيموتون، وأن الموت ستذوقه كل نفس أوضحه في غير هذا الموضع. كقوله تعالى :﴿ إنك ميت وإنهم ميتون ٣٠ ﴾، وكقوله :﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ٢٦ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ ٢٧ ﴾، وقوله في سورة «آل عمران » :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾، وقوله في سورة «العنكبوت » :﴿ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ٥٦ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ٥٧ ﴾، وقوله تعالى في سورة «النساء » :﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ في بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا في سورة «الكهف » استدلال بعض أهل العلم بهذه الآية الكريمة على موت الخضر عليه السلام. وقال بعض أهل العلم في قوله :﴿ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ٣٤ ﴾ : هو استفهام حذفت أداته. أي أفهم الخالدون. وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها جائز، وهو قياسي عند الأخفش مع «أم » ودونها ذكر الجواب أم لا : فمن أمثلته دون «أم » ودون ذكر الجواب قول الكميت :
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب
يعني : أو ذو الشيب يلعب. وقول أبي خراش الهذلي واسمه خويلد :
وَفَوني وقالوا يا خُوَيْلِدُ لم تُرَع فقلتُ وأنكرتُ الوجوهَ همُ همُ
يعني : أهم هم على التحقيق. ومن أمثلته دون «أم » مع ذكر الجواب قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد النجم والحصى والتراب
يعني : أتحبها على الصحيح. وهو مع «أم » كثير جداً، وأنشد له سيبويه قول الأسود يعفر التميمي :
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
يعني : أشعيث بن سهم، ومنه قول أبي ربيعة المخزومي :
بدا لي منها معصم يوم جمرت وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبعٍ رَمَيْتُ الجمرَ أم بثمان
يعني : أبسبع. وقول الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
يعني : أكذبتك عينك. كما نص سيبوبه في كتابه على جواز ذلك في بيت الأخطل هذا، وإن خالف في ذلك الخليل قائلاً : إن «كذبتك » صيغة خبرية ليس فيها استفهام محذوف، وإن «أم » بمعنى بل. ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى «الرجوع ». وقد أوضحنا هذه المسألة وأكثرنا من شواهدها العربية في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة «آل عمران » وذكرنا أن قوله تعالى في آية «الأنبياء » هذه ﴿ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ٣٤ ﴾ من أمثلة ذلك. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ أَفَإِيْن مِّتَّ ﴾ قرأه نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي «مِتَّ » بكسر الميم. والباقون بضم الميم. وقد أوضحنا في سورة «مريم » وجه كسر الميم. وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ٣٤ ﴾ يُفهم منه أنه لا ينبغي للإنسان أن يفرح بموت أحد لأجل أمر دنيوي يناله بسبب موته. لأنه هو ليس مخلداً بعده.
وروي عن الشافعي رحمه الله أنه أنشد هذين البيتين مستشهداً بهما :
تمنَّى أن رجالٌ أموتَ وإن أمُت فتلك سبيلٌ لست فيها بأوحد
فقل لِلذي يَبْقَى خِلاَف الذي مضى تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
ونظير هذا قول الآخر :
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٤:قوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ٣٤ ﴾.
قال بعض أهل العلم : كان المشركون ينكرون نبوته صلى الله عليه وسلم ويقولون : هو شاعر يتربَّص به ريب المنون، ولعله يموت كما مات شاعر بني فلان. فقال الله تعالى : قد مات الأنبياء من قبلك، وتولى دينه بالنصر والحياطة، فهكذا نحفظ دينك وشرعك.
وقال بعض أهل العلم : لما نعى جبريل إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم نفسه قال :«فَمَنْ لأُمتي » ؟ فنزلت ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ﴾ والأول أظهر. لأن السورة مكية : ومعنى الآية : أن الله لم يجعل لبشر قبل نبيه الخلد. أي دوام البقاء في الدنيا، بل كلهم يموت.
وقوله :﴿ أفإن مت فهم الخالدون ﴾ استفهام، إنكاري معناه النفي. والمعنى : أنك إن مت فهم لن يخلدوا بعدك، بل سيموتون. ولذلك أتبعه بقوله :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾. وما أشار إليه جل وعلا في هذه الآية من أنه صلى الله عليه وسلم سيموت، وأنهم سيموتون، وأن الموت ستذوقه كل نفس أوضحه في غير هذا الموضع. كقوله تعالى :﴿ إنك ميت وإنهم ميتون ٣٠ ﴾، وكقوله :﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ٢٦ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ ٢٧ ﴾، وقوله في سورة «آل عمران » :﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾، وقوله في سورة «العنكبوت » :﴿ يا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ٥٦ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ٥٧ ﴾، وقوله تعالى في سورة «النساء » :﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ في بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا في سورة «الكهف » استدلال بعض أهل العلم بهذه الآية الكريمة على موت الخضر عليه السلام. وقال بعض أهل العلم في قوله :﴿ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ٣٤ ﴾ : هو استفهام حذفت أداته. أي أفهم الخالدون. وقد تقرر في علم النحو أن حذف همزة الاستفهام إذا دل المقام عليها جائز، وهو قياسي عند الأخفش مع «أم » ودونها ذكر الجواب أم لا : فمن أمثلته دون «أم » ودون ذكر الجواب قول الكميت :
طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب
يعني : أو ذو الشيب يلعب. وقول أبي خراش الهذلي واسمه خويلد :
وَفَوني وقالوا يا خُوَيْلِدُ لم تُرَع فقلتُ وأنكرتُ الوجوهَ همُ همُ
يعني : أهم هم على التحقيق. ومن أمثلته دون «أم » مع ذكر الجواب قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد النجم والحصى والتراب
يعني : أتحبها على الصحيح. وهو مع «أم » كثير جداً، وأنشد له سيبويه قول الأسود يعفر التميمي :
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
يعني : أشعيث بن سهم، ومنه قول أبي ربيعة المخزومي :
بدا لي منها معصم يوم جمرت وكف خضيب زينت ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب بسبعٍ رَمَيْتُ الجمرَ أم بثمان

يعني : أبسبع. وقول الأخطل :
كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
يعني : أكذبتك عينك. كما نص سيبوبه في كتابه على جواز ذلك في بيت الأخطل هذا، وإن خالف في ذلك الخليل قائلاً : إن «كذبتك » صيغة خبرية ليس فيها استفهام محذوف، وإن «أم » بمعنى بل. ففي البيت على قول الخليل نوع من أنواع البديع المعنوي يسمى «الرجوع ». وقد أوضحنا هذه المسألة وأكثرنا من شواهدها العربية في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة «آل عمران » وذكرنا أن قوله تعالى في آية «الأنبياء » هذه ﴿ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ٣٤ ﴾ من أمثلة ذلك. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ أَفَإِيْن مِّتَّ ﴾ قرأه نافع وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي «مِتَّ » بكسر الميم. والباقون بضم الميم. وقد أوضحنا في سورة «مريم » وجه كسر الميم. وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ٣٤ ﴾ يُفهم منه أنه لا ينبغي للإنسان أن يفرح بموت أحد لأجل أمر دنيوي يناله بسبب موته. لأنه هو ليس مخلداً بعده.
وروي عن الشافعي رحمه الله أنه أنشد هذين البيتين مستشهداً بهما :
تمنَّى أن رجالٌ أموتَ وإن أمُت فتلك سبيلٌ لست فيها بأوحد
فقل لِلذي يَبْقَى خِلاَف الذي مضى تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد

ونظير هذا قول الآخر :
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا


قوله تعالى :﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ٣٥ ﴾.
المعنى : وتختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا، ومما يجب فيه الشكر من النعم، وإلينا مرجعكم فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر أو الشكر، وقوله ﴿ فِتْنَةً ﴾ مصدر مؤكد ل﴿ وَنَبْلُوكُم ﴾ من غير لفظة.
وما ذكره جل وعلا : من أنه يبتلي خلقه أي يختبرهم بالشر والخير قد بينه في غير هذا الموضع، كقوله تعالى :﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ١٦٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ٤٢ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ ٤٣ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيء حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ ٤٤ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ٤٥ ﴾ وقوله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍ إِلاَ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ٩٤ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ٩٥ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآيات الكريمة :﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ ﴾ يدل على أن بلا يبلو تستعمل في الاختبار بالنِّعم، وبالمصائب والبلايا. وقال بعض العلماء : أكثر ما يستعمل في الشرِّ بلا يبلو، وفي الخير أبلى يبلي. وقد جمع اللغتين في الخير قول زهير بن أبي سلمى :
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله ﴿ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ ﴾ قال : أي نبتليكم بالشر والخير فتنة بالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَاكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ ٣٦ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار إذا رأوا النَّبي صلى الله عليه وسلم ما يتخذونه إلا هزواً، أي مُستهزأً به مستخفاً به. والهزؤ : السخرية، فهو مصدر وصف به. ويقولون : أهذا الذي يذكر آلهتكم أي يعيبها وينفي أنها تشفع لكم وتقربكم إلى الله زلفى، ويقول : إنها لا تنفع من عبدها، ولا تضر من لم يعبدها، وهم مع هذا كله كافرون بذكر الرحمان. فالخطاب في قوله ﴿ وَإِذَا رَآكَ ﴾ للنبي صلى الله عليه وسلم. و«إن » في قوله ﴿ إِن يَتَّخِذُونَكَ ﴾ نافية. والاستفهام في قوله ﴿ أَهَذَا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ﴾ قال فيه أبو حيان في البحر : إنه للإنكار والتعجيب. والذي يظهر لي أنهم يريدون بالاستفهام المذكور التحقير بالنَّبي صلى الله عليه وسلم، كما تدلَّ عليه قرينة قوله ﴿ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً ﴾. وقد تقرر في فن المعاني : أن من الأغراض التي تؤدي بالاستفهام التحقير. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : إن جواب «إذَا » هو القول المحذوف، وتقديره : وإذا رآك الذين كَفَروا يقولون أهذا الذي يذكر آلهتكم. وقال : إن جملة ﴿ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً ﴾ جملة معترضة بين إذا وجوابها. واختار أبو حيان في البحر أن جواب «إذَا » هو جملة ﴿ إِن يَتَّخِذُونَكَ ﴾ وقال : إن جواب إذا بجملة مصدرة ب«إن » أو ما النافيتين لا يحتاج إلى الاقتران بالفاء. وقوله ﴿ يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ﴾ أي يعيبها. ومن إطلاق الذكر بمعنى العَيْب قوله تعالى :﴿ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ٦٠ ﴾ أي يعيبهم. وقول عنترة :
لا تَذْكُرِي مُهْري وما أَطْعَمْتُه فيكون جلدُكِ مثلَ جلدِ الأجْرَبِ
أي لا تعيبي مهري، قاله القرطبي.
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : الذِّكر يكون بخير وبخلافِه. فإذا دلت الحال على أحدهما أُطلق ولم يقيد، كقولك للرجل : سمعت فلاناً يذكرك، فإذا كان الذاكر صديقاً فهو ثناء. وإن كان عدواً فَذم، ومنه قوله تعالى :﴿ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ﴾، وقوله :﴿ أَهَذَا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ﴾ انتهى محل الغرض منه. والجملة في قوله :﴿ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ ٣٦ ﴾ حالية. وقال بعض أهل العلم : معنى كفرهم بذكر الرحمن هو الموضح في قوله تعالى ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً ٦٠ ﴾، وقولهم : ما نعرف الرحمن إلا رحمان، اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب. وقد بين ابن جرير الطبري وغيره : أن إنكارهم لمعرفتهم الرحمن تجاهل منهم ومعاندة مع أنهم يعرفون أن الرحمن من أسماء الله تعالى. قال : وقال بعض شعراء الجاهلية الجهلاء :
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا قطع الرحمن ربي يمينها
وقال سلامة بن جندل الطهوي :
عجلتم علينا عجلتينا عليكم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
وفي هذه الآية الكريمة دلالة واضحة على سخافة عقول الكفار. لأنهم عاكفون على ذكر أصنام لا تنفع ولا تضر، ويسوءهم أن تذكر بسوء، أو يقال إنها لا تشفع ولا تقرب إلى الله. وأما ذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية فهم به كافرون لا يصدقون به، فهم أحق بأن يتخذوا هزؤا من النَّبي صلى الله عليه وسلم الذي اتخذوه هزؤا، فإنه محق وهم مبطلون. فإذا عرفت معنى هذه الآية الكريمة فاعلم أن هذا المعنى الذي دلت عليه جاء أيضاً مبيناً في سورة «الفرقان » في قوله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ٤١ إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً ٤٢ ﴾ فتحقيرهم لعنهم الله له صلى الله عليه وسلم المذكور في قوله في «الأنبياء » في قوله :﴿ أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ﴾ هو المذكور في قوله في «الفرقان » :﴿ أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً ٤١ ﴾. وذكره لآلهتهم بالسوء المذكور في «الأنبياء » في قوله :﴿ يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ ﴾ هو المذكور في «الفرقان » في قوله :﴿ إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا ﴾ أي لما يبين من معائبها، وعدم فائدتها، وعظم ضرر عبادتها.
قوله تعالى :﴿ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ ٣٧ ﴾.
قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر بعض العلماء في الآية قولاً ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول. فإذا علمت ذلك فاعلم أن في قوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ مِنْ عَجَلٍ ﴾ فيه للعلماء قولان معروفان، وفي نفس الآية قرينة تدل على عدم صحة أحدهما. أما القول الذي دلت القرينة المذكورة على عدم صحته : فهو قول من قال : العجل الطين وهي لغة حميرية. كما قال شاعرهم :
البيع في الصخرة الصماء منبته والنخل ينبت بين الماء والعَجَل
يعني : بين الماء والطين. وعلى هذا القول فمعنى الآية : خلق الإنسان من طين، كقوله تعالى ﴿ أَأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ٦١ ﴾، وقوله :﴿ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ٧ ﴾. والقرينة المذكورة الدالة على أن المراد بالعجل في الآية ليس الطين قوله بعده :﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ ٣٧ ﴾، وقوله :﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ٣٨ ﴾. فهذا يدل على أن المراد بالعجل هو العجلة التي هي خلاف التأني والتثبت. والعرب تقول : خلق من كذا. يعنون بذلك المبالغة في الإنصاف. كقولهم : خلق فلان من كرم، وخلقت فلانة من الجمال. ومن هذا المعنى قوله تعالى :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ﴾ على الأظهر. ويوضح هذا المعنى قوله تعالى :﴿ وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً ١١ ﴾ أي ومن عجلته دعاؤه على نفسه أو ولده بالشر. قال بعض العلماء : كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى العلم والإقرار، ويقولون متى هذا الوعد. فنزل قوله :﴿ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ للزجر عن ذلك. كأنه يقول لهم : ليس ببدع منكم أن تستعجلوا. فإنكم مجبولون على ذلك، وهو طبعكم وسجيتكم. ثم وعدهم بأنه سيريهم آياته، ونهاهم أن يستعجلوا بقوله :﴿ سَأُوْرِيكُمْ آياتي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ ٣٧ ﴾. كما قال تعالى :﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الأفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾. وقال بعض أهل العلم : المراد بالإنسان في قوله :﴿ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ آدم. وعن سعيد بن جبير والسدي : لما دخل الروح في عَيني آدم نظر في ثمار الجنة، فلما دخل جوفه اشتهى الطعام، فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة. فذلك قوله :﴿ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾. وعن مجاهد والكلبي وغيرهما : خلق آدم يوم الجمعة في آخر النهار، فلما أحيا الله رأسه استعجل وطلب تتميم نفخ الروح فيه قبل غروب الشمس. والظاهر أن هذه الأقوال ونحوها من الإسرائيليات. وأظهر الأقوال أن معنى الآية : أن جنس الإنسان من طبعه العجل وعدم التأني كما بينا، والعلم عند الله تعالى.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : والحكمة في ذكر عجلة الإنسان ها هنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم، واستعجلت ذلك. فقال الله تعالى :﴿ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ لأنَّه تعالى يملي الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يؤجل ثم يعجل، وينظر ثم لا يؤخر. ولهذا قال :﴿ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي ﴾ أي نقمي وحكمي، واقتداري على من عصاني فلا تستعجلون. انتهى منه.
قوله تعالى :﴿ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ ٣٩ ﴾.
جواب «لَوْ » في هذه الآية محذوف، وقد قدمنا أدلة ذلك وشواهده من «العربية » في سورة «البقرة »، وأشرنا إليه في سورة «إبراهيم » وسورة «يوسف ». ومعنى الآية الكريمة : لو يعلم الكفار الوقت الذي يسألون عنه بقولهم : متى هذا الوعد ؟ وهو وقت صعب شديد، تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام. فلا يقدرون على منعها ودفعها عن أنفسهم، ولا يجدون ناصراً ينصرهم، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم بذلك هو الذي هونه عليهم. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من المعاني جاء مبيناً في مواضع أخر من كتاب الله تعالى.
أما إحاطة النار بهم في ذلك اليوم فقد جاءت موضحة في آيات متعددة، كقوله تعالى :﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ٢٩ ﴾، وقوله تعالى :﴿ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ١٦ ﴾، وقوله تعالى :﴿ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ٥٠ ﴾. وقوله تعالى :﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ١٠٤ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات. نرجو الله الكريم العظيم أن يعيذنا منها ومن كل ما قرب إليها من قول وعمل، إنه قريب مجيب. وما تضمنته من كونهم في ذلك اليوم ليس لهم ناصر ولا قوة يدفعون بها عن أنفسهم جاء مبيناً في مواضع أخر.
كقوله تعالى :﴿ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ ١٠ ﴾، وقوله تعالى :﴿ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُون ٢٥ َبَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ٢٦ ﴾ والآيات في ذلك كثيرة.
وما أشارت إليه هذه الآية من أن الذي هون عليهم ذلك اليوم العظيم حتى استعجلوه واستهزءوا بمن يخوفهم منه إنما هو جهلهم به جاء مبيناً أيضاً في مواضع أخر. كقوله تعالى :﴿ يَسْتَعْجِلُ بها الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بها وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ﴾، وقوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَأيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ٥٠ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ لَوْ يَعْلَمُ ﴾ قال بعض أهل العلم : هو فعل متعد، والظاهر أنها عرفانية، فهي تتعدى إلى مفعول واحد. كما أشار له في الخلاصة بقوله :
لعلم عرفان وظن تهمه *** تعدية لواحد ملتزمه
وعلى هذا فالمفعول هذا قوله :﴿ حِينٍ ﴾ أي لو يعرفون حين وقوع العذاب بهم وما فيه من الفظائع لما استخفوا به واستعجلوه. وعلى هذا فالحين مفعول به لا مفعول فيه. لأن العلم الذي هو بمعنى المعرفة واقع على نفس الحين المذكور. وقال بعض أهل العلم : فعل العلم في هذه الآية منزل منزلة اللازم، فليس واقعاً على مفعول. وعليه فالمعنى : لو كان لهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين. وعلى هذا فالآية كقوله تعالى :﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ والمعنى : لا يستوي من عنده علم ومن لا علم عنده. وقد تقرر في فن المعاني : أنه إذا كان الغرض إثبات الفعل لفاعله في الكلام المثبت، أو نفيه عنه في الكلام المنفي مع قطع النظر عن اعتبار تعلق الفعل بمن وقع عليه، فإنه يجري مجرى اللازم، كقوله :﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ لأنه يراد منه أن من ثبتت له صفة العلم لا يستوي هو ومن انتفت عنه، ولم يعتبر هنا ونوع العلم على معلومات من اتصف بذلك العلم. وعلى هذا القول فقوله :﴿ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ ﴾ منصوب بمضمر. أي حين لا يكفون عن وجههم النار يعلمون أنهم كانوا على الباطل. والأول هو الأظهر. واستظهر أبو حيان أن مفعول «يعلم » محذوف، وأنه هو العامل في الظرف الذي هو «حِين »، والتقدير : لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي استعجلوه حين لا يكفُّون لما كفروا واستعجلوا واستهزءوا.
واعلم أنه لا إشكال في قوله تعالى :﴿ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ ﴾ مع قوله ﴿ فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ ٣٧ ﴾ فلا يقال : كيف يقول : إن الإنسان خلق من العجل وجبل عليه، ثم ينهاه عما خلق منه وجبل عليه، لأنه تكليف بمحالا ؟ لأنا نقول : نعم هو جبل على العجل، ولكن في استطاعته أن يلزم نفسه بالتأني. كما أنه جبل على حب الشهوات مع أنه في استطاعته أن يلزم نفسه بالكف عنها. كما قال تعالى :﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ٤٠ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هي الْمَأْوَى ٤١ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ٤١ ﴾.
في هذه الآية الكريمة تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن إخوانه من الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم استهزأ بهم الكفار، كما استهزءوا به صلى الله عليه وسلم. يعني : فاصبر كما صبروا، ولك العاقبة الحميدة، والنصر النهائي كما كان لهم. وما تضمنته هذه الآية الكريمة من ذلك جاء موضحاً في مواضع من كتاب الله ؛ كقوله تعالى :﴿ مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ٣٤ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِير ٢٥ ِثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ٢٦ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمور ﴾ والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ فَحَاقَ بِهِم ﴾ أي أحاط بهم. ومادة حاق يائية العين. بدليل قوله في المضارع :﴿ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ ولا تستعمل هذه المادة إلا في إحاطة المكروه خاصة. فلا تقول : حاق به الخير بمعنى أحاط به. والأظهر في معنى الآية : أن المراد : وحاق بهم العذاب الذي كانوا يكذبون به في الدنيا ويستهزؤون به، وعلى هذا اقتصر ابن كثير. وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة :﴿ فَحَاقَ ﴾ أي أحاط ودار ﴿ بِالَّذِينَ ﴾ كفروا و﴿ سَخِرُواْ مِنْهُمْ ﴾ وهزءوا بهم ﴿ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ٤١ ﴾ أي جزاء استهزائهم. والأول أظهر، والعلم عند الله تعالى. والآية تدل على أن السخرية من الاستهزاء وهو معروف.
قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَانِ ﴾.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يقول للمعرضين عن ذكر ربهم :﴿ مَن يَكْلَؤُكُم ﴾ أي من هو الذي يحفظكم ويحرسكم ﴿ بالليل ﴾ في حال نومكم ﴿ وَالنَّهَارِ ﴾ في حال تصرفكم في أموركم. والكِلاءة بالكسر : الحفظ والحِراسة. يقال : اذهب في كِلاءة الله. أي في حفظه، واكتلأت منهم : احترست. ومنه قول ابن هرمة :
إنَّ سُلَيمى والله يكلؤها ضنَّت بشيء ما كان يَرْزَؤُها
وقول كعب بن زهير :
أنَخْت بَعيري واكْتَلأَت بِعَيْنِه وآمرت نفسي أي أمري أفعلُ
و«من » في قوله ﴿ مِنَ الرَّحْمَانِ ﴾ فيها للعلماء وجهان معروفان : أحدهما وعليه اقتصر ابن كثير : أن «من » هي التي بمعنى بدل. وعليه فقوله ﴿ مِنَ الرَّحْمَانِ ﴾ أي بدل الرحمان، يعني غيره. وأنشد ابن كثير لذلك قول الراجز :
جارية لم تلبس المرققا ولم تذق من البقول الفستقا
أي لم تذق بدل البقول الفستق. وعلى هذا القول فالآية كقوله تعالى :﴿ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ ﴾ أي بدلها ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر :
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ظلما ويكتب للأمير أفيلا
يعني أخذوا في الزكاة المخاض من بدل الفصيل. والوجه الثاني أن المعنى ﴿ مَن يَكْلَؤُكُم ﴾ أي يحفظكم ﴿ مِنَ الرَّحْمَانِ ﴾ أي من عذابه وبأسه. وهذا هو الأظهر عندي. ونظيره من القرآن قوله تعالى :﴿ فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ﴾ أي من ينصرني منه فيدفع عني عذابه. والاستفهام في قوله تعالى :﴿ مَن يَكْلَؤُكُم ﴾ قال أبو حيان في البحر : هو استفهام تقريع وتوبيخ. وهو عندي يحتمل الإنكار والتقرير. فوجه كونه إنكارياً أن المعنى : لا كالئ لكم يحفظكم من عذاب الله البتَّة إلاَّ الله تعالى. أي فكيف تعبدون غيره. ووجه كونه تقريريَّاً أنهم إذا قيل لهم : من يكلؤكم ؟ اضطروا إلى أن يقروا بأن الذي يكلؤهم هو الله. لأنهم يعلمون أنه لا نافع ولا ضار إلا هو تعالى، ولذلك يخلصون له الدعاء عند الشدائد والكروب، ولا يدعون معه غيره، كما قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة «الإسراء » وغيرها. فإذا أَقروا بذلك توجه إليهم التوبيخ والتقريع، كيف يصرفون حقوق الذي يحفظهم باللَّيل والنهار إلى ما لا ينفع ولا يضر. وهذا المعنى الذي أشارت إليه هذه الآية الكريمة : أنه لا أحد يمنع أحداً من عذاب الله، ولا يحفظه ولا يحرسه من الله، وأن الحافظ لكل شيء هو الله وحده جاء مبيناً في مواضع أخر. كقوله تعالى :﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ على أظهر التفسيرات، وقوله تعالى :﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً ﴾، وقوله تعالى :﴿ قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ١٧ ﴾، وقوله تعالى :﴿ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن في الأرض جَمِيعاً ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ٨٨ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ ٤٣ ﴾.
قوله في هذه الآية الكريمة ﴿ أَمْ ﴾ هي المنقطعة، وهي بمعنى بل والهمزة، فقد اشتملت على معنى الإضراب والإنكار، والمعنى : ألهم لآلهة تجعلهم في منعة وعزّ حتى لا ينالهم عذابنا. ثم بين أن آلهتهم التي يزعمون لا تستطيع نفع أنفسها، فكيف تنفع غيرها بقوله :﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ ﴾. وقوله ﴿ مِّن دُونِنَا ﴾ فيه وجهان : أحدهما أنه متعلق. ﴿ آلِهَةٌ ﴾ أي ألهم آلهة ﴿ مِّن دُونِنَا ﴾ أي سوانا ﴿ تَمْنَعُهُمْ ﴾ مما نريد أن نفعله بهم من العذاب ! كلا ! ليس الأمر كذلك. الوجه الثاني أنه متعلق. ﴿ تَمْنَعُهُمْ ﴾ لقول العرب : منعت دونه، أي كففت أذاه.
والأظهر عند الأول. ونحوه كثير في القرآن كقوله :﴿ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ ﴾ الآية وقوله :﴿ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة : من كون الآلهة التي اتخذوها لا تستطيع نصر أنفسها فكيف تنفع غيرها جاء مبيناً في غير هذا الموضع ؟ كقوله تعالى :﴿ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ١٩١ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ١٩٢ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ ١٩٣ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ١٩٤ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بها أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بها قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ ١٩٥ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ١٩٧ وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ١٩٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ١٣ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن تلك الآلهة المعبودة من دون الله ليس فيها نفع البتة.
وقوله تعالى :﴿ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ ٤٣ ﴾ أي يجارون : أي ليس لتلك الآلهة مجير يجيرهم منا. لأن الله يجير ولا يجار عليه كما صرح بذلك في سورة ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ في قوله :﴿ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيء وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ٨٨ ﴾. والعرب تقول : أنا جار لك وصاحب من فلان. أي مجير لك منه. ومنه قول الشاعر :
ينادى بأعلى صوته متعوِّذا ليصحب منا والرماح دواني
يعني ليجار ويُغاث منا. وأغلب أقوال العلماء في الآية راجعة إلى ما ذكرنا. كقول بعضهم ﴿ يُصْحَبُونَ ٤٣ ﴾ يُمنعون. وقول بعضهم يُنصرون. وقول بعضهم ﴿ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ ٤٣ ﴾ أي لا يصحبهم الله بخير، ولا يجعل الرحمة صاحباً لهم. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ ﴾.
الظاهر أن الإضراب. ﴿ بَلِ ﴾ في هذه الآية الكريمة انتقالي. والإشارة في قوله ﴿ هَؤُلاء ﴾ راجعة إلى المخاطبين من قبل في قوله :﴿ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَانِ ﴾ الآية، وهم كفَّار قريش، ومن اتخذ آلهة من دون الله. والمعنى : أنه متَّع هؤلاء الكفار وآباءهم قبلهم بما رزقهم من نعيم الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة، فحملهم ذلك على الطغيان واللجاج في الكفر.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة : من أنه تعالى يمهل الكفار ويملي لهم في النعمة، وأن ذلك يزيدهم كُفراً وضلالاً جاء موضحاً في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى، كقوله :﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نملي لَهُمْ خَيْرٌ لأنفسهم إِنَّمَا نملي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ١٧٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ١٨٢ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ١٨٣ ﴾، وقوله تعالى :﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً ١٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ٢٩ وَلَمَّا جاءهم الْحَقُّ قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ٣٠ ﴾ والآيات بمثل ذلك كثيرة. والعمر يطلق على مدة العيش.
قوله تعالى :﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نأتي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ٤٤ ﴾.
في معنى إتيان الله الأرض ينقصها من أطرافها في هذه الآية الكريمة أقوال معروفة للعلماء : وبعضها تدل له قرينة قرآنية :
قال بعض العلماء : نقصها من أطرافها : موت العلماء، وجاء في ذلك حديث مرفوع عن أبي هريرة. وبعد هذا القول عن ظاهر القرآن بحسب دلالة السياق ظاهر كما ترى.
وقال بعض أهل العلم : نقصها من أطرافها خرابها عند موت أهلها.
وقال بعض أهل العلم : نقصها من أطرافها هو نقص الأنفس والثمرات، إلى غير ذلك من الأقوال، وأما القول الذي دلت عليه القرينة القرآنية : فهو أن معنى ﴿ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ﴾ أي ننقص أرض الكفر ودار الحرب، ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها، وردها دار إسلام. والقرينة الدالة على هذا المعنى هي قوله بعده ﴿ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ٤٤ ﴾. والاستفهام لإنكار غلبتهم. وقيل : لتقريرهم بأنهم مغلوبون لا غالبون، فقوله :﴿ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ٤٤ ﴾ دليل على أن نقص الأرض من أطرافها سبب لغلبة المسلمين للكفار، وذلك إنما يحصل بالمعنى المذكور. ومما يدل لهذا الوجه قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِي وَعْدُ اللَّهِ ﴾ على قول من قال : إن المراد بالقارعة التي تصيبهم ضرايا النَّبي صلى الله عليه وسلم تفتح أطراف بلادهم، أو تحل أنت يا نبي الله قريباً من دارهم. وممن يروي عنه هذا القول : ابن عباس وأبو سعيد وعكرمة ومجاهد وغيرهم. وهذا المعنى الذي ذكر الله هنا ذكره في آخر سورة «الرعد » أيضاً في قوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نأتي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ٤١ ﴾. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير آية «الأنبياء » هذه : إن أحسن ما فُسِّر به قوله تعالى :﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نأتي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها ﴾ هو قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ٢٧ ﴾.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ما ذكره ابن كثير رحمه الله صواب، واستقراء القرآن العظيم يدل عليه. وعليه فالمعنى : أفلا يرى كفار مكة ومن سار سيرهم في تكذيبك يا نبي الله، والكفر بما جئت به ﴿ أَنَّا نأتي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أطرافها ﴾ أي بإهلاك الذين كذبوا الرسل كما أهلكنا قوم صالح وقوم لوط، وهم يمرون بديارهم. وكما أهلكنا قوم هود، وجعلنا سبأ أحاديث ومزقناهم كل مُمَزَّق كل ذلك بسبب تكذيب الرسل، والكفر بما جاءوا به. وهذا هو معنى قوله :﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ الْقُرَى ﴾ كقوم صالح وقوم لوط وقوم هود وسبأ، فاحذروا من تكذيب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. لئلا ننزل بكم مثل ما أنزلنا بهم. وهذا الوجه لا ينافي قوله بعده ﴿ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ٤٤ ﴾ والمعنى : أن الغلبة لحزب الله القادر على كل شيء، الذي أهلك ما حولكم من القرى بسبب تكذيبهم رسلهم، وأنتم لستم بأقوى منهم، ولا أكثر أموالاً ولا أولاداً. كما قال تعالى :﴿ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ ﴾. وقال تعالى :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً في الأرض فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ٨٢ ﴾، وقال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَسيرُواْ في الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وإنذار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم بما وقع لمن كذب من قبله من الرسل كثير جداً في القرآن. وبه تعلم اتجاه ما استحسنه ابن كثير رحمه الله من تفسير آية «الأنبياء » هذه بآية «الأحقاف » المذكورة كما بينا.
وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة : فإن قلت : أي فائدة في قوله ﴿ نَأْتِي الأرض ﴾ ؟ قلت : فيه تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين، وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها ( ا ه منه ). والله جل وعلا أعلم.
قوله تعالى :﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بها وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ٤٧ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه يضع الموازين القسط ليوم القيامة. فتوزن أعمالهم وزناً في غاية العدالة والإنصاف : فلا يظلم الله أحداً شيئاً، وأن عمله من الخير والشر، وإن كان في غاية القلة والدقة كمثقال حبة من خردل، فإن الله يأتي به. لأنه لا يخفى عليه شيء وكفى به جل وعلا حاسباً. لإحاطة علمه بكل شيء.
وبين في غير هذا الموضع : أن الموازين عند ذلك الوزن منها ما يخف، ومنها ما يثقل. وأن من خفت موازينه هلك، ومن ثقلت موازيه نجا ؛ كقوله تعالى :﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون ٨ َوَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ٩ ﴾ وقوله تعالى :
﴿ فَإِذَا نُفِخَ في الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ ١٠١ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ١٠٢ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ في جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ١٠٣ ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ٦ فَهُوَ في عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ٧ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ٨ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ٩ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن موازين يوم القيامة موازين قسط ذكره في «الأعراف » في قوله :﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ﴾ لأن الحق عدل وقسط. وما ذكره فيها : من أنه لا تظلم نفس شيئاً بينه في مواضع أخر كثيرة، كقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ٤٠ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٤٤ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ٤٩ ﴾ وقد قدمنا الآيات الدالة على هذا في سورة «الكهف ».
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من كون العمل وإن كان مثقال ذرة من خير أو شر أتى به جل وعلا أوضحه في غير هذا الموضع، كقوله عن لقمان مقرراً له :﴿ يا بُنَيَّّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أَوْ في السَّمَاوَاتِ أَوْ في الأرض يَأْتِ بها اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ١٦ ﴾، وقوله تعالى :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ ٧ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ٨ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ ﴾ جمع ميزان. وظاهر القرآن تعدد الموازين لكل شخص، لقوله :﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴾، وقوله :﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾ فظاهر القرآن يدل على أن للعامل الواحد موازين يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله، كما قال الشاعر :
ملك تقوم الحادثات لعدله فلكل حادثة لها ميزان
والقاعدة المقررة في الأصول : أن ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه. وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة : الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه. وقد قدمنا في آخر سورة «الكهف » كلام العلماء في كيفية وزن الأعمال، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله في هذه الآية ﴿ الْقِسْطَ ﴾ أي العدل، وهو مصدر، وصف به، ولذا لزم إفراده، كما قال في الخلاصة :
ونعتوا بمصدر كثيرا فالتزموا الإفراد والتذكيرا
كما قدمناه مراراً. ومعلوم أن النعت بالمصدر يقول فيه بعض العلماء : إنه المبالغة. وبعضهم يقول : هو بنية المضاف المحذوف، فعلى الأول كأنه بالغ في عدالة الموازين حتَّى سماها القسط الذي هو العدل. وعلى الثاني فالمعنى : الموازين ذوات القسط.
واللام في قوله :﴿ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ فيها أوجه معروفة عند العلماء :
( منها ) أنها للتوقيت، أي الدلالة على الوقت، كقول العرب : جئت لخمس ليال بقين من الشهر، ومنه قول نابغة ذبيان :
توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
( ومنها ) أنها لام كي، أي نضع الموازين القسط لأجل يوم القيامة، أي لحساب الناس فيه حساباً في غاية العدالة والإنصاف.
( ومنها ) أنها بمعنى في، أي نضع الموازين القسط في يوم القيامة.
والكوفيون يقولون : إن اللام تأتي بمعنى في، ويقولون : إن من ذلك قوله تعالى :﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ أي في يوم القيامة، وقوله تعالى :﴿ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ﴾ أي في وقتها. ووافقهم في ذلك ابن قتيبة من المتقدمين، وابن مالك من المتأخرين، وأنشد مستشهداً لذلك قول مسكين الدارمي :
أُولئك قومي قد مَضوا لسبيلهم كما قد مَضَى من قَبل عاد وتبَّع
يعني مضوا في سبيلهم. وقول الآخر :
وكل أب وابن وإن عَمَّرا معا مقيمَيْن مفقود لوقتٍ وفاقد
أي في وقت.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ﴾ يجوز أن يكون ﴿ شَيْئاً ﴾ هو المفعول الثاني ل﴿ تُظْلَمُ ﴾ ويجوز أن يكون ما ناب عن المطلق. أي شيئاً من الظلم لا قليلاً ولا كثيراً. ومثقال الشيء : وزنه. والخردل : حب في غاية الصغر والدفة. وبعض أهل العلم يقول : هو زريعة الجرجير. وأنث الضمير في قوله ﴿ بها ﴾ هو راجع إلى المضاف الذي هو ﴿ مِثْقَالَ ﴾ وهو مذكر لاكتسابه التأنيث من المضاف إليه الذي هو ﴿ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ ﴾ على حد قوله في الخلاصة :
وربما أكسب ثان أولا تأنيثاً إن كان لحذف مؤهّلا
ونظير ذلك من كلام العرب قول عنترة في معلقته :
جاء عليه كل عين ثرة فتركن كل قرارة كالدرهم
وقول الراجز :
طول الليالي أسرعت في نقضي نقضن كلي ونقضن بعضي
وقول الأعشى :
وتشرق بالقول الذي قد أذعته كما شرقت صدر القناة من الدم
وقول الآخر :
مشين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم
فقد أنث في البيت الأول لفظة «كل » لإضافتها إلى «عين ». وأنث في البيت الثاني لفظة «طول » لإضافتها إلى «الليالي » وأنث في البيت الثالث الصدر لإضافته إلى «القناة » وأنث في البيت الرابع «مر » لإضافته إلى «الرياح ». والمضافات المذكورة لو حذفت لبقي الكلام مستقيماً. كما قال في الخلاصة :
* ... ... إن كان لحذف مؤهلا *
وقرأ هذا الحرف عامة القراء ما عدا نافعاً ﴿ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ ﴾ بنصب ﴿ مِثْقَالَ ﴾ على أنه خبر ﴿ كَانَ ﴾ أي وإن كان العمل الذي يراد وزنه مثقال حبة من خردل. وقرأ نافع وحده ﴿ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ ﴾ بالرفع فاعل ﴿ كَانَ ﴾ على أنها تامة. كقوله تعالى :﴿ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ ﴾ الآية.
قوله تعالى :﴿ وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ٥٠ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن هذا القرآن العظيم ﴿ ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ ﴾ أي كثير البركات والخيرات. لأن فيه خير الدنيا والآخرة. ثم وبخ من ينكرونه منكِراً عليهم بقوله ﴿ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ٥٠ ﴾. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن هذا القرآن مبارك بينه في مواضع متعدِّدة من كتابه. كقوله تعالى في «الأنعام » :﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ١٥٥ ﴾، وقوله فيها أيضاً :﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ الآية ؛ وقوله تعالى في «ص » ﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألباب ٢٩ ﴾، إلى غير ذلك من الآيات. فنرجو الله تعالى القريب المجيب : أن تغمرنا بركات هذا الكتاب العظيم المبارك بتوفيق الله تعالى لنا لتدبر آياته، والعمل بما فيها من الحلال والحرام، والأوامر والنواهي. والمكارم والآداب : امتثالاً واجتناباً، إنه قريب مجيب.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ ﴾ الآيات.
قد قدمنا ما يوضح هذه الآيات إلى آخر القصة من القرآن في سورة «مريم » فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى ﴿ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ٦٨ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما أفحم قومه الكفرة بالبراهين والحجج القاطعة، لجؤوا إلى استعمال القوة فقالوا :﴿ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ٦٨ ﴾ أي اقتلوا عدوها إبراهيم شر قتلة، وهي الإحراق بالنار.
ولم يذكر هنا أنهم أرادوا قتله بغير التحريق : ولكنه تعالى ذكر في سورة «العنكبوت » أنهم ﴿ قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ﴾ وذلك في قوله :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ﴾ الآية.
وقد جرت العادة بأن المبطل إذا أفحم بالدليل لجأ إلى عنده من القوة ليستعملها ضد الحق.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ٦٨ ﴾ أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً مؤزّراً. فاختاره له أفظع قتلة، وهي الإحراق بالنار. وإلا فقد فرطتم في نصرها.
قوله تعالى :﴿ قُلْنَا يا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْرَاهِيم ٦٩ ﴾.
في الكلام حذف دل المقام عليه، وتقديره : قالوا حرقوه فرموه في النار، فلما فعلوا ذلك ﴿ قُلْنَا يا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَامَا ﴾ وقد بين في «الصافات » أنهم لما أرادوا أن يلقوه في النار بنوا له بنياناً ليلقوه فيه.
وفي القصة : أنهم ألقوه من ذلك البنيان العالي بالمنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس ( يعنون الأكراد )، وأن الله خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، قال تعالى :﴿ قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ في الْجَحِيمِ ٩٧ ﴾. والمفسرون يذكرون من شدة هذه النار وارتفاع لهبها، وكثرة حطبها شيئاً عظيماً هائلاً. وذكروا عن نبي الله إبراهيم أنهم لما كتفوه مجرداً ورموه إلى النار، قال له جبريل : هل لك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا، وأما الله فنعما قال : لم لا تسأله ؟ قال : علمه بحالي كاف عن سؤالي.
وما ذكر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أنه أمر النار بأمره الكوني القدري أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم يدل على أنه أنجاه من تلك النار. لأن قوله تعالى :﴿ كُونِي بَرْداً ﴾ يدل على سلامته من حرِّها. وقوله :﴿ وَسَلَاماً ﴾. يدل على سلامته من شرِّ بردها الذي انقلبت الحرارة إليه. وإنجاؤه إياه منها الذي دل عليه أمره الكوني القدري هنا جاء مصرحاً به في «العنكبوت » في قوله تعالى :﴿ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ ﴾ وأشار إلى ذلك هنا بقوله :﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً ﴾ الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ ٧٠ ﴾ يوضحه ما قبله. فالكيد الذي أرادوه به إحراقه بالنار نصراً منهم لآلهتهم في زعمهم، وجعله تعالى إياهم الأخسرين. أي الذين هم أكثر خسراناً لبطلان كيدهم وسلامته من نارهم.
وقد أشار تعالى إلى ذلك أيضاً في سورة «الصافات » في قوله :﴿ فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ ٩٨ ﴾ وكونهم الأسفلين واضح لعلوه عليهم وسلامته من شرهم. وكونهم الأخسرين لأنهم خسروا الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. وفي القصة : أن الله سلط عليهم خلقاً من أضعف خلقه فأهلكهم وهو البعوض. وفيها أيضاً : أن كل الدواب تطفئ عن إبراهيم النار، إلا الوزغ فإنه ينفخ النار عليه.
وقد قدمنا الأحاديث الواردة بالأمر بقتل الأوزاغ في سورة «الأنعام » وعن أبي العالية : لو لم يقل الله ﴿ وَسَلَاماً ﴾ لكان بردها أشد عليه من حرها. ولو لم يقل على «إبْرَاهِيمَ » لكان بردها باقياً إلى الأبد. وعن علي وابن عباس رضي الله عنهم لو لم يقل «وسلاماً » لمات إِبَرَاهِيم من بردها. وعن السدي : لم تبق في ذلك اليوم نار إلا طفئت. وعن كعب وقتادة : لم تحرق النار من إبراهيم إلا وثاقه. وعن المنهال بن عمرو : قال إبراهيم ما كنت أياماً قط أنعم مني في الأيام التي كنت فيها في النار. وعن شعيب الحماني : أنه ألقي في النار وهو ابن ست عشر سنة. وعن ابن جريج : ألقي فيها وهو ابن ست وعشرين. وعن الكلبي بردت نيران الأرض جميعاً، فما أنضجت ذلك اليوم كراعاً. وذكروا في القصة : أن نمروذ أشرف على النار من الصرح فرأى إبراهيم جالساً على السرير يؤنسه ملك الظل، فقال : نعم الرب ربك، لأقرين له أربعة آلاف بقرة وكف عنه. وكل هذا من الإسرائيليات. والمفسرون يذكرون كثيراً منها في هذه القصة وغيرها من قصص الأنبياء.
وقال البخاري في صحيحه : حدثنا أحمد بن يونس، أُرَاهُ قال : حدثنا أبو بكر عن أبي حَصِين عن أبي الضُّحَى عن ابن عباس «حسبنا الله ونعم الوكيل » قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقي في النَّار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا :﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ١٧٣ ﴾ حدثنا مالك بن إسماعيل، حدثنا إسرائيل عن أبي حَصِين عن أبي الضَّحَى عن ابن عباس قال : كان آخرهم قول إبراهيم حين أُلقي في النار :«حسبي الله ونعم الوكيل » انتهى.
قوله تعالى :﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ٧١ ﴾.
الضمير في قوله :﴿ وَنَجَّيْنَاهُ ﴾ عائد إلى إبراهيم. قال أبو حيان في البحر المحيط : وضمن قوله ﴿ وَنَجَّيْنَاهُ ﴾ معنى أخرجناه بنجاتنا إلى الأرض. ولذلك تعدى «نجَّيناه » بإلى. ويحتمل أن يكون «إلى » متعلقاً بمحذوف. أي منتهياً إلى الأرض، فيكون في موضع الحال. ولا تضمين في «ونجَّيناه » على هذا. والأرض التي خرجا منها : هي كوثى من أرض العراق، والأرض التي خرجا إليها : هي أرض الشام ا ه منه. وهذه الآية الكريمة تشير إلى هجرة إبراهيم ومعه لوط من أرض العراق إلى الشام فراراً بدينهما.
وقد أشار تعالى إلى ذلك في غير هذا الموضع. كقوله في «العنكبوت » ﴿ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي ﴾ الآية، وقوله في «الصافات :» ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ٩٩ ﴾ على أظهر القولين. لأنه فار إلى ربه بدينه من الكفار. وقال القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى :﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ٩٩ ﴾ : هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة، وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام، وذلك حين خلصه الله من النار قال :﴿ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي ﴾ أي مهاجر من بلد قومي ومولدي، إلى حيث أتمكن من عبادة ربي ﴿ فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ﴾ فيما نويت إلى الصواب. وما أشار إليه جل وعلا من أنه بارك العالمين في الأرض المذكورة، التي هي الشام على قول الجمهور في هذه الآية بقوله :﴿ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴾ بينه في غير الموضع. كقوله :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ سُبْحَانَ الذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاٌّقْصَا الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ الآية. ومعنى كونه ( بارك فيها ). هو ما جعل فيها من الخصب والأشجار والأنهار والثمار. كما قال تعالى :﴿ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السماء والأرض ﴾ ومن ذلك أنه بعث أكثر الأنبياء منها.
وقال بعض أهل العلم : ومن ذلك أن كل ماء عذب أصل منبعه من تحت الصخرة التي عند بيت المقدس. وجاء في ذلك حديث مرفوع، والظاهر أنه لا يصح. وفي قوله تعالى :﴿ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ أقوال أخر تركناها لضعفها في نظرنا.
وفي هذه الآية الكريمة دليل على أن الفرار بالدين من دار الكفر إلى بلد يتمكن فيه الفار بدينه من إقامته دينه واجب. وهذا النوع من الهجرة وجوبه باق بلا خلاف بين العلماء في ذلك.
قوله تعالى :﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ٧٢ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه وهب لإبراهيم ابنه إسحاق، وابن ابنه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وأنه جعل الجميع صالحين. وقد أوضح البشارة بهما في غير هذا الموضع، كقوله تعالى :﴿ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ٧١ ﴾، وقوله :﴿ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ ١١٢ ﴾. وقد أشار تعالى في سورة «مريم » إلى أنه لما هجر الوطن والأقارب عوضه الله من ذلك قرة العين بالذرية الصالحة، وذلك في قوله :﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً ٤٩ ﴾.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ نَافِلَةً ﴾ قال فيه ابن كثير : قال عطاء ومجاهد : نافلة عطية. وقال ابن عباس وقتادة والحكم بن عتيبة : النافلة : ولد الولد، يعني أن يعقوب ولد إسحاق.
قال مقيده عفا لله عنه وغفر له : أصل النافلة في اللغة : الزيادة على الأصل، ومنه النوافل في العبادات، لأنها زيادات على الأصل الذي هو الفرض. وولد الولد زيادة على لأصل، الذي هو ولد الصلب، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي :
فإن تك أنثى من معد كريمة علينا فقد أعطيت نافلة الفضل
أي أعطيت الفضل عليها والزيادة في الكرامة علينا، كما هو التحقيق في معنى بيت أبي ذؤيب هذا، وكما شرحه به أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري في شرحه لأشعار الهذليين. وبه تعلم أن إيراد صاحب اللسان بيت أبي ذؤيب المذكور مستشهداً به لأن النافلة الغنيمة غير صواب، بل هو غلظ. مع أن الأنفال التي هي الغنائم راجعة في المعنى إلى معنى الزيادة، لأنها زيادة تكريم أكرم الله بها هذا النَّبي الكريم فأحلها له ولأمته. أو لأن الأموال المغنومة أموال أخذوها زيادة على أموالهم الأصلية بلا تمن.
وقوله :﴿ نَافِلَةً ﴾ فيه وجهان من الإعراب، فعلى قول من قال : النافلة العطية فهو ما ناب عن المطلق من «وَهَبْنَا » أي وهبنا له إسحاق ويعقوب هبة. وعليه النافلة مصدر جاء بصيغة اسم الفاعل كالعاقبة والعافية. وعلى أن النافلة بمعنى الزيادة فهو حال من «يَعْقُوبَ » أي وهبنا له يعقوب في حال كونه زيادة على إسحاق.
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاة وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ ٧٣ ﴾.
الضمير في قوله ﴿ جَعَلْنَاهُمْ ﴾ يشمل كل المذكورين : إبراهيم، ولوطاً وإسحاق، ويعقوب، كما جزم به أبو حيان في البحر المحيط، وهو الظاهر.
وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن الله جعل إسحاق ويعقوب من الأئمة، أي جعلهم رؤساء في الدين يقتدى بهم في الخيرات وأعمال الطاعات وقوله «بِأَمْرِنَا » أي بما أنزلنا عليهم من الوحي والأمر والنهي، أو يهدون الناس إلى ديننا بأمرنا إياهم، بإرشاد الخلق ودعائهم إلى التوحيد.
وهذه الآية الكريمة تبين أن طلب إبراهيم الإمامة لذريته المذكور في سورة «البقرة » أجابه فيه بالنسبة إلى بعض ذريته دون بعضها، وضابط ذلك : أن الظالمين من ذريته لا ينالون الإمامة بخلاف غيرهم. كإسحاق ويعقوب فإنهم ينالونها كما صرح به تعالى في قوله هنا ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً ﴾. وطلب إبراهيم هو المذكور في قوله تعالى :﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ١٢٤ ﴾. فقوله :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي ﴾ أي واجعل من ذريتي أئمة يقتدى بهم في الخير. فأجابه الله بقوله ﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ١٢٤ ﴾ أي لا ينال الظالمين عهدي بالإمامة. على الأصوب. ومفهوم قوله ﴿ الْظَّالِمِينَ ﴾ أن غيرهم يناله عهده بالإمامة، كما صرح به هنا. وهذا التفصيل المذكور في ذرية إبراهيم أشار له تعالى في «الصافات » بقوله :﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ ١١٣ ﴾ وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ﴾ أي أن يفعلوا الطاعات، ويأمروا الناس بفعلها. وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة من جملة الخيرات، فهو من عطف الخاص على العام. وقد قدمنا مراراً النكتة البلاغية المسوغة للإطناب في عطف الخاص على العام. وعكسه في القرآن. فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله :﴿ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ ٧٣ ﴾ أي مطيعين باجتناب النواهي وامتثال الأوامر بإخلاص. فهم يفعلون ما يأمرون الناس به، ويجتنبون ما ينهونهم عنه. كما قال نبي الله شعيب :﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ الآية. وقوله :﴿ أَئِمَّةَ ﴾ معلوم أنه جمع إمام، والإمام : هو المقتدى به، ويطلق في الخير كما هنا، وفي للشر كما في قوله :﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ الآية. وما ظنه الزمخشري من الإشكال في هذه الآية ليس بواقع : كما نبه عليه أبو حيان. والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَإِقَامَ الصَّلاة ﴾ لم تعوض هنا تاء عن العين الساقطة بالاعتلال على القاعدة التصريفية المشهورة. لأن عدم تعويضها عنه جائز كما هنا، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله :
... ... وألف بالإفعال واستفعال
أزل لذا الإعلال والتا الزم عوض وحذفها بالنقل ربما عرض
وقد أشار في أبنية المصادر إلى أن تعويض التاء المذكورة من العين هو الغالب بقوله :
واستعذ استعاذة ثم أقم إقامة وغالباً ذا التا لزم
وما ذكره من أن التاء المذكورة عوض عن العين أجود من قول من قال : إن العين باقية وهي الألف الباقية، وأن التاء عوض عن ألف الإفعال.
قوله تعالى :﴿ وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِين َ٧٤ ﴾.
قوله ﴿ وَلُوطاً ﴾ منصوب بفعل مضمر وجوباً يفسر ﴿ أتَيْنَاهُ ﴾ كما قال في الخلاصة :
فالسابق انصبه بفعل أمضرا حتماً موافق لما قد أظهرا
قال القرطبي في تفسير هذه الآية : الحكم : النبوة. والعلم : المعرفة بأمر الدين، وما يقع به الحكم بين الخصوم. وقيل : علماً فهماً. وقال الزمخشري : حكماً : حكمة، وهو ما يجب فعله، أو فصلاً بين الخصوم، وقيل : هو النبوة.
قال مقيده عفا الله عنه : أصل الحكم في اللغة : المنع كما هو معروف. فمعنى الآيات : أن الله آتاه من النبوة والعلم ما يمنع أقواله وأفعاله من أن يعتريها الخلل. والقرية التي كانت تعمل الخبائث : هي سدوم وأعمالها، والخبائث التي كانت تعملها جاءت موضحة في آيات من كتاب الله :﴿ مِنْهَا ﴾ اللواط، وأنهم هم أول من فعله من الناس، كما قال تعالى ﴿ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بها مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ ٨٠ ﴾، وقال ﴿ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ١٦٥ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ١٦٦ ﴾. ومن الخبائث المذكورة إتيانهم المنكر في ناديهم، وقطعهم الطريق، كما قال تعالى :﴿ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ في نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ﴾ الآية. ومن أعظم خبائثهم : تكذيب نبي الله لوط وتهديدهم له بالإخراج من الوطن. كما قال تعالى عنهم :﴿ قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ ١٦٧ ﴾، وقال تعالى :﴿ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ٥٦ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات. وقد بين الله في مواضع متعددة من كتابه : أنه أهلكهم فقلب بهم بلدهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل، كما قال تعالى :﴿ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ٧٤ ﴾ والآيات بنحو ذلك كثيرة. والخبائث : جمع خبيثة، وهي الفعلة السيئة كالكفر واللواط وما جرى مجرى ذلك.
وقوله ﴿ قَوْمَ سَوْء ﴾ أي أصحاب عمل سيئ، ولهم عند الله جزاء يسوءهم : وقوله :﴿ فَاسِقِينَ ﴾ أي خارجين عن طاعة الله.
وقوله ﴿ وَأَدْخَلْنَاهُ ﴾ يعني لوطاً ﴿ في رَحْمَتِنَا ﴾ شامل لنجاته من عذابهم الذي أصابهم، وشامل لإدخاله إياه في رحمته التي هي الجنة، كما في الحديث الصحيح :«تحاجَّت النَّار والجنة ». الحديث. وفيه :«فقال للجنة أنت رَحْمَتِي أرحم بها من أَشَاء من عبَادِي ».
قوله تعالى :﴿ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ٧٦ ﴾.
قوله :﴿ وَنُوحاً ﴾ منصوب ب «اذكر » مقدراً، أي واذكر نوحاً حين نادى من قبل، أي من قبل إبراهيم ومن ذكر معه. ونداء نوح هذا المذكور هنا هو المذكور في قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ٧٥ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ٧٦ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ٧٧ ﴾ وقد أوضح الله هذا النداء بقوله :﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ٢٦ إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً ٢٧ ﴾، وقوله تعالى :﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ٩ فَدَعَا رَبَّهُ أَنُّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ١٠ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ١١ ﴾ الآية.
والمراد بالكرب العظيم في الآية : الغرق بالطوفان الذي تتلاطم أمواجه كأنها الجبال العظام، كما قال تعالى :﴿ وَهِي تَجْرِي بِهِمْ في مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ﴾، وقال تعالى :﴿ فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ ﴾ الآية، إلى غير ذلك من الآيات. والكرب : هو أقصى الغم، والأخذ بالنفس.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ﴾ يعني إلا من سبق عليه القول من أهله بالهلاك مع الكفرة الهالكين، كما قال تعالى :﴿ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ﴾ الآية. ومن سبق عليه القول منهم : ابنه المذكور في قوله :﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾ وامرأته المذكورة في قوله ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ ﴾ إلى قوله ﴿ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَاخِلِينَ ﴾
قوله تعالى :﴿ وداود وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ في الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ٧٨ ﴾.
قوله تعالى :﴿ وَدَاوُدَ ﴾ منصوب ب «اذكر » مقدراً. وقيل : معطوف قوله :﴿ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ ﴾ أي واذكر نوحاً إذا نادى من قبل ﴿ وداود وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ في الْحَرْثِ ﴾ الآية، وقوله :﴿ إِذْ ﴾ بدل من «دَاوُدَ وَسُلَيْمَان » بدل اشتمال كما أوضحنا في سورة «مريم » وذكرنا بعض المناقشة فيه، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً ويكون في نفس الآية قرينة تدل على خلاف ذلك القول. وذكرنا في هذا الكتاب مسائل كثيرة من ذلك. فإذا علمت ذلك فاعلم أن جماعة من العلماء قالوا : إن حكم داود وسليمان في الحرث المذكور في هذه الآية كان بوحي : إلا أن ما أوحى إلى سليمان كان ناسخاً لما أوحى إلى داود.
وفي الآية قرينتان على أن حكمهما كان باجتهاد لا بوحي، وأن سليمان أصاب فاستحق الثناء باجتهاده، وإصابته، وأن داود لم يصب فاستحق الثناء باجتهاده، ولم يستوجب لوماً ولا ذماً بعدم إصابته ؛ كما أثنى على سليمان بالإصابة في قوله :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾، وأثنى عليهما في قوله :﴿ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ﴾ فدل قوله ﴿ وَكُلاًّ آتَيْنَا ﴾ على أنهما حكماً فيها معاً، كل منهما بحكم مخالف لحكم الآخر، ولو كان وحياً لما ساغ الخلاف.
ثم قال :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ فدل ذلك على أنه لم يفهمها داود، ولو كان حكمه فيها بوحي لكان مفهماً إياها كما ترى. فقوله ﴿ وَكُلاًّ آتَيْنَا ﴾ مع قوله ﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ﴾ قرينة على أن الحكم لم يكن بوحي بل باجتهاد، وأصاب فيه سليمان دون داود بتفهيم الله إياه ذلك.
والقرينة الثانية هي أن قوله تعالى :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا ﴾ الآية يدل على أنه فهمه إياها من نصوص ما كان عندهم من الشرع ؛ لا أنه أنزل عليه فيها وحياً جديداً ناسخاً ؛ لأن قوله تعالى :﴿ فَفَهَّمْنَاهَا ﴾ أليق بالأول من الثاني، كما ترى.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى اعلم أن هذا الذي ذكرنا أن القرينة تدل عليه في هذه الآية من أنهما حكما فيها باجتهاد، وأن سليمان أصاب في اجتهاده جاءت السنة الصحيحة بوقوع مثله منهما في غير هذه المسألة ؛ فدل ذلك على إمكانه في هذه المسألة، وقد دلت القرينة القرآنية على وقوعه، قال البخاري في صحيحه ( باب إذا ادعت المرأة ابناً ) حدثنا أبو اليَمَان، أخبرنا شُعَيْب، حدثنا أبو الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه : أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«كانت امْرَأتان مَعَهما ابْنَاهما، جاء الذِئْب فَذَهب بابن إحداهما، فقالت لِصَاحِبَتِها : إنما ذَهَب بابْنِك. فقالت الأُخْرَى : إنَّما ذَهَب بِابْنِك. فَتَحَاكَمَتَا إلى دَاوُد عليه السَّلام، فَقَضَى بِهِ للْكُبْرَى، فَخَرِجَتَا على سُلَيْمَان بن دَاوُد عليهما السَّلام، فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَال : ائْتُونِي بِالسِّكِين أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى : لاَ تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ الله هُو ابْنُهَا ؛ فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى. قَالَ أبو هُرَيْرَة : والله إنْ سَمِعْتُ بالسِّكِين قَطّ إلا يَوْمَئِذ، وَمَا كُنَّا نَقُولُ إلاَّ الْمُدْيَة » انتهى من صحيح البخاري. وقال مسلم بن الحجاج في صحيحه : حدثني زُهَيْر بن حَرْب، حدثني شَبَابَة » حدثني وَرْقَاء عن أبِي الزِّناد، عنِ الأَعْرَج عن أبي هُرَيْرَة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«بينما امرأتان معهما أبناهما جَاء الذِّئْبِ فذهب بِابْنِ إحداهما. فَقَالَتْ هَذِهِ لصاحبتها : إنما ذَهبَ بِابْنِك أَنتِ. وَقالت الأُخرَى : إنمَا ذَهَب بِابْنِك، فَتَحاكَمَتا إلى دَاود فَقَضى بهِ لِلْكبرى. فَخرجَتَا عَلى سُلَيمانَ بن دَاود عليهما السلام ؛ فَأَخبرتاه فقال : ائتونِي بالسِّكِين أَشقُّه بَيْنكما. فقالت الصغرى : لاَ يَرْحَمُكَ الله » انتهى منه فهذا الحديث الصحيح يدل دلالة واضحة على أنهما قضيا معاً بالاجتهاد في شأن الولد المذكور، وأن سليمان أصاب في ذلك، إذ لو كان قضاء داود بوحي لما جاز نقضه بحال. وقضاء سليمان واضح أنه ليس بوحي، لأنه أوهم المرأتين أنه يشقه بالسكين، ليعرف أمه بالشفقة عليه، ويعرف الكاذبة برضاها بشقه لتشاركها أمه في المصيبة لعرف الحق بذلك. وهذا شبيه جداً بما دلت عليه الآية حسبما ذكرنا، وبينا دلالة القرينة القرآنية عليه. ومما يشبه ذلك من قضائهما القصة التي أوردها الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في ترجمة «سليمان » عليه السلام من تاريخه، من طريق الحسن بن سفيان، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم، وعن سعيد بن بشر، عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس فذكر قصة مطولة، ملخصها : أن امرأة حسناء في زمان بني إسرائيل راودها عن نفسها أربعة من رؤسائهم، فامتنعت على كل منهم، فاتفقوا فيما بينهم عليها ؛ فشهدوا عند داود عليه السلام أنها مكنت من نفسها كلباً لها، قد عودته ذلك منها، فأمر برجمها فلما كان عشية ذلك اليوم جلس سليمان، واجتمع معه ولدان مثله ؛ فانتصب حاكماً وتزيا أربعة منهم بزي أولئك، وآخر بزي المرأة، وشهدوا عليها بأنها مكنت من نفسها كلباً، فقال سليمان : فرقوا بينهم. فسأل أولهم : ما كان لون الكلب ؟ فقال أسود، فعزله. واستدعى الآخر فسأله عن لونه ؟ فقال أحمر. وقال الآخر أغبش. وقال الآخر أبيض، فأمر عند ذلك بقتلهم، فحكى ذلك لداود عليه السلام، فاستدعى من فوره بأولئك الأربعة فسألهم متفرقين عن لون ذلك الكلب فاختلفوا عليه، فأمر بقتلهم انتهى بواسطة نقل ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريمة. وكل هذا مما يدل على صحة ما فسرنا به الآية، لدلالة القرينة القرآنية عليه. وممن يسرها بذلك الحسن البصري رحمه الله كما ذكره البخاري وغيره عنه. قال البخاري رحمه الله في صحيحه ( باب متى يستوجب الرجل القضاء ) : وقال الحسن : أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى ولا يخشوا الناس، ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً إلى أن قال وقرأ ﴿ وداود وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ في الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِين ٧٨ َفَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ﴾ فحمد سليمان ولم يلم داود. ولولا ما ذكره الله من أمر هذين لرأيت أن القضاة ملكوا، فإنه أثنى على هذا بعلمه، وعذر هذا باجتهاده انتهى محل الغرض منه. وبه تعلم أن الحسن رحمه الله يرى أن معنى الآية الكريمة كما ذكرنا، ويزيد هذا إيضاحاً ما قدمناه في سورة «بني إسرائيل » من الحديث المتفق عليه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة رضي الله عنهما «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر » كما قدمنا إيضاحه.
المسألة الثانية
اعلم أن الاجتهاد في الأحكام في الشرع دلت عليه أدلة من الكتاب والسنة ؟ منها هذا الذي ذكرنا هنا. وقد قدمنا في سورة بني «إسرائيل » طرفاً من ذلك، ووعدنا بذكره مستوفى في هذه السورة الكريمة، وسورة «الحشر »، وهذا أوان الوفاء بذلك الوعد في هذه السورة الكريمة. وقد علمت مما مر في سورة «بني إسرائيل » أنا ذكرنا طرفاً من الأدلة على الاجتهاد فبينا إجماع العلماء على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بالإلحاق بنفي الفارق الذي يسميه الشافعي القياس في معنى الأصل، وهو تنقيح المناط. وأوضحنا أنه لا ينكره إلا مكابر، وبينا الإجماع أيضاً على العمل بنوع الاجتهاد المعروف بتحقيق المناط، وأنه لا ينكره إلا مكابر، وذكرنا أمثلة له في الكتاب والسنة، وذكرنا أحاديث دالة على الاجتهاد، منها الحديث المتفق عليه المتقدم ومنها حديث معاذ حين بعثه النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمين، وقد وعدنا بأن نذكر طرقه هنا إلى آخر ما ذكرنا هناك.
اعلم أن جميع روايات هذا الحديث المذكورة في المسند والسنن، كلها من طريق شعبة عن أبي عون عن الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة عن أناس من أصحاب معاذ، عن معاذ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الرواية المتصلة الصحيحة التي ذكرنا سابقاً عن ابن قدامة في ( روضة الناظر ) أن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ، فهذا الإسناد وإن كان متصلاً ورجاله معرفون بالثقة، فإني لم أقف على من خرج هذا الحديث من هذه الطريق، إلا ما ذكره العلامة بن القيم رحمه الله في ( إعلام الموقعين ) عن أبي بكر الخطيب بلفظ : وقد قيل، إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ ا ه منه. ولفظة «قيل » صيغة تمريض كما هو معروف. وإلا ما ذكره ابن كثير في تاريخه، فإنه لما ذكره فيه حديث معاذ المذكور باللفظ الذي ذكرنا بالإسناد الذي أخرجه به الإمام أحمد قال : وأخرجه أبو داود، والترمذي من حديث شعبة به. وقال الترمذي : لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس إسناده عندي بمتصل. ثم قال ابن كثير : وقد رواه ابن ماجه من وجه آخر عنه، إلا أنه من طريق محمد بن سعيد بن حسان وهو المصلوب أحد الكذابين، عن عبادة بن نسي عن عبد الرحمن عن معاذ به نحوه.
واعلم أن النسخة الموجودة بأيدينا من تاريخ ابن كثير التي هي من الطبعة الأولى سنة ١٥٣١ فيها تحريف مطبعي في الكلام الذي ذكرنا. ففيها محمد بن سعد بن حسان، والصواب محمد بن سعيد لا سعد. وفيها : عن عياذ بن بشر، والصواب عن عبادة بن نسي.
وما ذكره ابن كثير رحمه الله من إخراج ابن ماجه لحديث معاذ المذكور من طريق محمد بن سعيد المصلوب، عن عبادة نسي، عن عبد الرحمن وهو ابن غنم عن معاذ لم أره في سنن ابن ماجه، والذي في سنن ابن ماجه بالإسناد المذكور من حديث معاذ غير المتن المذكور، وهذا لفظه : حدثنا الحسن بن حماد سجادة، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن محمد بن سعيد بن حسان، عن عبادة بن نسي، عن عبد الرحمن بن غنم، حدثنا معاذ بن جبل قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال :«لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم، وإن أشكل عليك أمر فقف حتى تبينه أو تكتب إلى فيه » ا ه منه. وما أدري أو هم الحافظ ابن كثير فيما ذكر ؟ أو هو يعتقد أن معنى «تنبيه » في الحديث أي تعلمه باجتهادك في استخراجه من المنصوص، فيرجع إلى معنى الحديث المذكور وعلى كل حال فالرواية المذكورة من طريق عبادة بن نسي عن ابن غنم عن معاذ فيها كذاب وهو محمد بن سعيد المذكور الذي قتله أبو جعفر المنصور في الزندقة وصلبه. وقال أحمد بن صالح : وضع أربعة آلاف حديث ؛ فإذا علمت بهذا انحصار طرق الحديث المذكور الذي فيه أن معاذاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنه إن لم يجد المسألة في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهد فيها رأيه. وأقره للنبي صلى الله عليه وسلم على ذلك في الطريقتين المذكورتين علمت وجه تضعيف الحديث ممن ضعفه، وأنه يقول طريق عبادة بن نسي عن ابن غنم لم تسندوها ثابتة من وجه صحيح إليه. والطريق الأخرى التي في المسند والسنن فيها الحارث بن أخي المغيرة وهو مجهول، والرواة فيها أيضاً عن معاذ مجاهيل ؛ فمن أين قلتم بصحتها ؟ وقد قدمنا أن ابن كثير رحمه الله قال في مقدمة تفسيره : إن الطريقة المذكورة في المسند والسنن بإسناد جيد. وقلنا : لعله يرى أن الحرث المذكور ثقة، وقد وثقه ابن حبان، وأن أصحاب معاذ لا يعرف فيهم كذاب ولا متهم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : ويؤيد ما ذكرنا عن مراد ابن كثير بجودة الإسناد المذكور ما قاله العلامة ابن القيم رحمه الله في ( إعلام الموقعين )، قال فيه : وقد أقر النَّبي صلى الله عليه وسلم معاذاً على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصاً عن الله ورسوله، فقال شعبة : حدثني أبو عون عن الحارث بن عمرو، عن أناس من أصحاب معاذ : أن رسوله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال :«كيف تصنع إن عرض لك قضاء » ؟ قال : أقضى بما في كتاب الله. قال :«فإن لم يكن في كتاب الله » ؟ قال : فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال «فإن لم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم » ؟ قال : أجتهد رأي، لا آلو. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري ثم قال :«الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يرضى رسول الله ». فهذا حديث إن كان عن غير مسمين فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك ؛ لأنه يدل على شهرة الحديث. وأن الذي حدث له الحرث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهرة
وقوله تعالى :﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ﴾.
الضمير في قوله ﴿ عَلَّمْنَاهُ ﴾ راجع إلى داود، والمراد بصيغة اللبوس : صنعة الدروع ونسجها ؛ والدليل على أن المراد باللبوس في الآية الدروع : أنه أتبعه بقوله ﴿ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ ﴾ أي لتحرز وتقي بعضكم من بأس بعض، لأن الدرع تقيه ضرر الضرب بالسيف، والرمي بالرمح والسهم، كما هو معروف. وقد أوضح هذا المعنى بقوله :﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيد ١٠ َأَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ في السَّرْدِ ﴾ فقوله ﴿ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ ﴾ أي أن اصنع دروعاً سابغات من الحديد الذي ألناه لك. والسرد : نسج الدرع. ويقال فيه الزرد، ومن الأول قول أبي ذؤيب الهذلي :
وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع
ومن الثاني قول الآخر :
نقريهم لهذميات نقد بها ما كان خاط عليهم كل زراد
ومراده بالزراد : ناسج الدرع. وقوله ﴿ وَقَدّرْ في السَّرْدِ ﴾ أي اجعل الحلق والمسامير في نسجك الدرع بأقدار متناسبة ؛ فلا تجعل المسمار دقيقاً لئلا ينكسر، ولا يشد بعض الحلق ببعض، ولا تجعله غليظاً غلظاً زائداً فيفصم الحلقة. وإذا عرفت أن اللبوس في الآية الدروع فاعلم أن العرب تطلق اللبوس على الدروع كما في الآية ؛ ومنه قول الشاعر :
عليها أسود ضاويات لبوسهم سوابغ بيض لا يخرقها النبل
فقوله «سوابغ » أي دروع سوابغ، وقول كعب بن زهير :
شم العرانيين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيل
ومراده باللبوس التي عبر عنها بالسرابيل : الدروع. والعرب تطلق اللبوس أيضاً على جميع السلاح درعاً كان أو جوشناً أو سيفاً أو رمحاً. ومن إطلاقه على الرمح قول أبي كبير الهذلي يصف رمحاً :
ومعي لبوس للبئيس كأنه روق بجبهة نعاج مجفل
وتطلق اللبوس أيضاً على كل ما يلبس ؛ ومنه قول بيهس :
البس كل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها
وما ذكره هنا من الامتنان على الخلق بتعليمه صنعة الدروع ليقيهم بها من بأس السلاح تقديم إيضاحه في سورة «النحل » في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ﴾ الآية.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ الظاهر فيه أن صيغة الاستفهام هنا يراد بها الأمر، ومن إطلاق الاستفهام بمعنى الأمر في القرآن قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ في الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ أي انتهوا. ولذا قال عمر رضي الله عنه : انهيتنا يا رب. وقوله تعالى :﴿ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ ﴾ الآية، أي اسلموا. وقد تقرر في فن المعاني : أن في المعاني التي تؤدي بصيغة الاستفهام : الأمر، كما ذكرنا.
وقوله ﴿ شَاكِرُونَ ﴾ شكر العبد لربه : هو أن يستعين بنعمه على طاعته، وشكر الرب لعبده : هو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل. ومادة «شكر » لا تتعدى غالباً إلا باللام، وتعديتها بنفسها دون اللام قليلة، ومنه قول أبي نخيلة :
شكرتك إن الشكر حبل من التقى وما كل من أوليته نعمة يقضى
وفي قوله ﴿ لِتُحْصِنَكُمْ ﴾ ثلاث قراءات سبعية : قرأه عامة السبعة ما عدا ابن عامر وعاصماً ﴿ لِتُحْصِنَكُمْ ﴾ بالياء المثناة التحتية، وعلى هذه القراءة فضمير الفاعل عائد إلى داود، أبو إلى اللبوس، لأن تذكيرها باعتبار معنى ما يلبس من الدروع جائز. وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم ﴿ لِتُحْصِنَكُمْ ﴾ بالتاء المثناة الفوقية، وعلى هذه القراءة فضمير الفاعل راجع بالى اللبوس وهي مؤنثة، أو إلى الصنعة المذكورة في قوله :﴿ صَنْعَةَ لَبُوسٍ ﴾، وقرأه شعبة عن عاصم ﴿ لِنَحْصِنَكُمْ ﴾ بالنون الدالة على العظمة وعلى هذه القراءة فالأمر واضح.
قوله تعالى :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيء عَالِمِينَ ٨١ ﴾.
قوله :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ ﴾ معطوف على معمول «سَخَّرْنَا »، في قوله :﴿ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ ﴾ أي وسخرنا لسليمان الريح في حال كونها عاصفة ؛ أي شديدة الهبوب. يقال عصفت الريح أي اشتدت، فهي ريح عاصف وعصوف، وفي لغة بني أسد ( أعصفت ) فهي معصف ومعصفة، وقد قدمنا بعض شواهده العربية في سورة ( الإسراء ).
وقوله ﴿ تَجْرِى بِأَمْرِهِ ﴾ أي تطيعه وتجري إلى المحل الذي يأمرها به، وما ذكره في هذه الآية : من تسخير الريح لسليمان، وأنها تجري بأمره بينه في غير هذا الموضع وزاد بيان قدر سرعتها، وذلك في قوله ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾، وقوله :﴿ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ٣٦ ﴾.
تنبيه
اعلم أن في هذه الآيات التي ذكرنا سؤالين معروفين :
الأول أن يقال : إن الله وصف الريح المذكورة هنا في سورة «الأنبياء » بأنها عاصفة ؛ أي شديد الهبوب، ووصفها في سورة «ص » بأنها تجري بأمره رخاء. والعاصفة غير التي تجري رخاء.
والسؤال الثاني هو أنه هنا في سورة «الأنبياء » خص جريها به بكونه إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين، وفي سورة «ص » قال :﴿ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ٣٦ ﴾، وقوله ﴿ حَيْثُ أَصَابَ ٣٦ ﴾، يدل على التعميم في الأمكنة التي يريد الذهاب إليها على الريح. فقوله :﴿ حَيْثُ أَصَابَ ٣٦ ﴾ أي حيث أراد ؛ قاله مجاهد. وقال ابن الأعرابي : العرب تقول : أصاب الصواب، وأخطأ الجواب : أي أراد الصواب وأخطأ الجواب. ومنه قول الشاعر :
أصاب الكلام فلم يستطع فاخطأ الجواب لدى المفصل
قاله القرطبي. وعن رؤبة : أن رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه عن معنى «أصاب ». فخرج إليهما فقال : أين تصيبان ؟ فقالا : هذه طلبتنا. ورجعا.
أما الجواب عن السؤال الأول فمن وجهين : الأول أنها عاصفة في بعض الأوقات، ولينة رخاء في بعضها بحسب الحاجة ؛ كأن تعصف ويشتد هبوبها في أول الأمر حتى ترفع البساط الذي عليه سليمان وجنوده، فإذا ارتفع سارت به رخاء حيث أصاب.
الجواب الثاني هو ما ذكره الزمخشري قال : فإن قلت : وصفت هذه الريح بالعصف تارة بالرخاء أخرى، فما التوفيق بينهما ؟ قلت : كانت في نفسها رخية طيبة كالنسيم، فإذا مرت بكرسيه أبعدت به في مدة يسيرة، على ما قال ﴿ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾. فكان جمعها بين الأمرين : أن تكون رخاء في نفسها، وعاصفة في عملها مع طاعتها لسليمان، وهبوبها على حسب ما يريد ويحتكم ا ه محل الغرض منه.
وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو أن قوله ﴿ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ ﴾ يدل على أنها تجري بأمره حيث أراد من أقطار الأرض. وقوله ﴿ تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا ﴾ لأن مسكنه فيها وهي الشام، فترده إلى الشام. وعليه فقوله :﴿ حَيْثُ أَصَابَ ﴾ في حالة الذهاب. وقوله :﴿ إِلَى الأرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ في حالة الإياب إلى محل السكنى. فانفكت الجهة فزال الإشكال. وقد قال نابغة ذبيان :
إلا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
وتدمر : بلد بالشام. وذلك مما يدل على أن الشام هو محل سكناه كما هو معروف.
قوله تعالى :﴿ ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين ﴾.
الأظهر في قوله ﴿ مِنْ يغوصون ﴾ أنه في محل نصب عطفاً على معمول ﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا ﴾ أي وسخرنا له من يغوصون له من الشياطين. وقيل :«من » مبتدأ، والجار والمجرور قبله خبره.
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه سخر لسليمان من يغوصون له من الشياطين ؛ أي يغوصون له في البحار فيستخرجون له منها الجواهر النفيسة ؛ كاللؤلؤ، والمرجان. والغوص : النزول تحت الماء والغواص : الذي يغوص البحر ليستخرج منه اللؤلؤ ونحوه ؛ ومنه قول نابغة ذبيان :
أو درة صدفية غواصها بهج متى يراها يهل ويسجد
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أيضاً. أن الشياطين المسخرين له يعملون له عملاً دون ذلك ؛ أي سوى ذلك الغوص المذكور ؛ أي كبناء المدائن والقصور، وعمل المحاريب والتماثيل، والجفان والقدور الراسيات، وغير ذلك من اختراع الصنائع العجيبة.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ٨٢ ﴾ أي من أن يزيغوا عن أمره، أو يبدلوا أو يغيروا، أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه. وهذه المسائل الثلاث التي تضمنتها هذه الآية الكريمة جاءت مبينة في غير هذا الموضع. كقوله في الغوص والعمل سواء :﴿ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ ٣٧ ﴾ الآية، وقوله في العمل غير الغوص :﴿ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾، وقوله :﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾، وكقوله في حفظهم من أن يزيغوا عن أمره :﴿ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ١٢ ﴾، وقوله :﴿ وَآخرين مُقَرَّنِينَ في الأصْفَادِ ٣٨ ﴾.
وصفة البساط، وصفة حمل الريح له، وصفة جنود سليمان من الجن والإنس والطير كل ذلك مذكور بكثرة في كتب التفسير، ونحن لم نطل به الكلام في هذا الكلام المبارك.
قوله تعالى :﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ٨٣ ﴾.
الظاهر أن قوله ﴿ وَأَيُّوبَ ﴾ منصوب باذكر مقدراً، ويدل على ذلك قوله تعالى في «ص » ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ٤١ ﴾.
وقد أمر جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين نبيه صلى الله عليه وسلم : أن يذكر أيوب حين نادى ربه قائلاً :﴿ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ٨٣ ﴾ وأن ربه استجاب له فكشف عنه جميع ما به من الضر، وأنه آتاه أهله، وآتاه مثلهم معهم رحمة منه جل وعلا به، وتذكيراً للعابدين أي الذين يعبدون الله لأنهم هم المنتفعون بالذكرى.
وهذا المعنى الذي ذكره هنا ذكره أيضاً في سورة «ص » في قوله :﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ٤١ ﴾ إلى قوله ﴿ لأوْلِى الألْبَابِ ٤٣ ﴾ والضر الذي مس أيوب، ونادى ربه ليكشفه عنه كان بلاء أصابه في بدنه وأهله وماله. ولما أراد الله إذهاب الضر عنه أمره أن يركض برجله ففعل، فنبعت له عين ماء فاغتسل منها فزال كل ما بظاهر بدنه من الضر، وشرب منها فزال كل ما بباطنه ؛ كما أشار تعالى إلى ذلك في قوله :﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ٤٢ ﴾.
وما ذكره في «الأنبياء » : من أنه آتاه أهله ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى لمن يعبده بينه في «ص » في قوله، ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأوْلِى الألْبَابِ ٤٣ ﴾، وقوله في «الأنبياء »، ﴿ وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ٨٤ ﴾ مع قوله في «ص »، ﴿ وَذِكْرَى لأٌوْلِى الألْبَابِ ٤٣ ﴾ فيه الدلالة الواضحة على أن أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال، هم الذين يعبدون الله وحده ويطيعونه. وهذا يؤيد قول من قال من أهل العلم، إن من أوصى بشيء من ماله لأعقل الناس أن تلك الوصية تصرف لأتقى الناس وأشدهم طاعة لله تعالى ؛ لأنهم هم أولو الألباب ؛ أي العقول الصحيحة السالمة من الاختلال.
تنبيه
في هذه الآيات المذكورة سؤال معروف، وهو أن يقال : إن قول أيوب المذكور في «الأنبياء » في قوله، ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِي الضُّرُّ ﴾ وفي «ص » في قوله، ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ٤١ ﴾ يدل على أنه ضجر من المرض فشكا منه. مع أن قوله تعالى، ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ٤٤ ﴾ يدل على كمال صبره ؟
والجواب أن ما صدر من أيوب دعاء وإظهار فقر وحاجة إلى ربه، لا شكوى ولا جزع.
قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة، ولم يكن قوله ﴿ مَسَّنِي الضُّرُّ ﴾ جزعاً ؛ لأن الله تعالى قال :﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً ﴾ بل كان ذلك دعاء منه. والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا. قال الثعلبي : سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول : حضرت مجلساً غاصاً بالفقهاء والأدباء في دار السلطان ؛ فسئلت عن هذه الآية الكريمة بعد اجتماعهم على أن قول أيوب كان شكاية وقد قال الله تعالى :﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً ﴾ فقلت : ليس هذا شكاية، وإنما كان دعاء. بيانه ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾ والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء. فاستحسنوه وارتضوه ؛ وسئل الجنيد عن هذه الآية الكريمة فقال : عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكرم النوال انتهى منه.
ودعاء أيوب المذكور ذكره الله في سورة «الأنبياء » من غير أن يسند مس الضر أيوب إلى الشيطان في قوله :﴿ أَنِّى مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ٨٣ ﴾ وذكره في سورة «ص » وأسند ذلك الشيطان في قوله :﴿ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ٤١ ﴾ والنصب على جميع القراءات معناه : التعب والمشقة، والعذاب : الألم. وفي نسبة ما أصابه من المشقة والألم إلى الشيطان في سورة «ص » هذه إشكال قوي معروف ؛ لأن الله ذكر في آيات من كتابه : أن الشيطان ليس له سلطان على مثل أيوب من الأنبياء الكرام ؛ كقوله :﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٩٩ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ١٠٠ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ الآية، وقوله تعالى مقرراً له :﴿ وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ عبادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ٤٢ ﴾.
وللعلماء عن هذا الإشكال أجوبة ؛ منها ما ذكره الزمخشري قال :
فإن قلت : لم نسبه إلى الشيطان، ولا يجوز أن يسلطه على أنبيائه ليقضي إن إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحاً إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب ؟
قلت : لما كانت وسوسته إليه، وطاعته له فيما وسوس سبباً فيما مسه الله به من النصب والعذاب نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل.
وروي أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين ؛ فارتد أحدهم فسأل عنه، فقيل : ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء الصالحين. وذكر في سبب بلائه : أن رجلاً استغاثه على ظالم فلم يغثه. وقيل : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه. وقيل. أعجب بكثرة ماله انتهى منه.
ومنها ما ذكره جماعة من المفسرين : أن الله سلط الشيطان على ماله وأهله ابتلاء لأيوب ؛ فأهلك الشيطان ماله وولده، ثم سلطه على بدنه ابتلاء له فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها، فصار في جده ثآليل، فحكها بأظافره حتى دميت، ثم بالفخار حتى تساقط لحمه، وعصم الله قلبه ولسانه. ( وغالب ذلك من الإسرائيليات ) وتسليطه للابتلاء على جسده، وماله وأهله ممكن، وهو أقرب من تسليطه عليه بحمله على أن يفعل ما لا ينبغي ؛ كمداهنة الملك المذكور، وعدم إغاثة الملهوف، إلى غير ذلك من الأشياء التي يذكرها المفسرون. وقد ذكروا هنا قصة طويلة تتضمن البلاء الذي وقع فيه، وقدر مدته ( وكل ذلك من الإسرائيليات ) وقد ذكرنا هنا قليلاً.
وغاية ما دل عليه القرآن : أن الله ابتلى نبيه أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأنه ناداه فاستجاب له وكشف عنه كل ضر، ووهبه أهله ومثلهم معهم، وأن أيوب نسب ذلك في «ص » إلى الشيطان. ويمكن أن يكون سلطه الله على جسده وماله وأهله ؛ ابتلاء ليظهر صبره الجميل، وتكون له العافية الحميدة في الدنيا والآخرة، ويرجع له كل ما أصيب فيه، والعلم عند الله تعالى وهذا لا ينافي أن الشيطان لا سلطان له على مثل أيوب، لأن التسليط على الأهل والمال والجسد من جنس الأسباب التي تنشأ عنها الأعراض البشرية كالمرض، وذلك يقع للأنبياء، فإنهم يصيبهم المرض، وموت الأهل، وهلاك المال لأسباب متنوعة. ولا مانع من أن يكون جملة تلك الأسباب تسليط الشيطان على ذلك للابتلاء وقد أوضحنا جواز وقوع الأمراض والتأثيرات البشرية على الأنبياء في سورة «طه » وقول الله لنبيه أيوب في سورة «ص » :﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ ﴾ الآية، قال المفسرون فيه : إنه حلف في مرضه ليضربن زوجه مائة سوط، فأمره الله أن يأخذ ضغثاً فيضربها به ليخرج من يمينه، والضغث : الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو نحو ذلك. والمعنى : أنه يأخذ حزمة فيها مائة عود فيضربها بها ضربة واحدة، فيخرج بذلك من يمينه. وقد قدمنا في سورة «الكهف » الاستدلال بآية ﴿ وَلاَ تَحْنَثْ ﴾ على أن الاستثناء المتأخر لا يفيد ؛ إذ لو كان يفيد لقال الله لأيوب قل إن شاء الله ؛ ليكون ذلك استثناء في يمينك.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٣:قوله تعالى :﴿ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ٨٣ ﴾.
الظاهر أن قوله ﴿ وَأَيُّوبَ ﴾ منصوب باذكر مقدراً، ويدل على ذلك قوله تعالى في «ص » ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ٤١ ﴾.
وقد أمر جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين نبيه صلى الله عليه وسلم : أن يذكر أيوب حين نادى ربه قائلاً :﴿ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ٨٣ ﴾ وأن ربه استجاب له فكشف عنه جميع ما به من الضر، وأنه آتاه أهله، وآتاه مثلهم معهم رحمة منه جل وعلا به، وتذكيراً للعابدين أي الذين يعبدون الله لأنهم هم المنتفعون بالذكرى.
وهذا المعنى الذي ذكره هنا ذكره أيضاً في سورة «ص » في قوله :﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ٤١ ﴾ إلى قوله ﴿ لأوْلِى الألْبَابِ ٤٣ ﴾ والضر الذي مس أيوب، ونادى ربه ليكشفه عنه كان بلاء أصابه في بدنه وأهله وماله. ولما أراد الله إذهاب الضر عنه أمره أن يركض برجله ففعل، فنبعت له عين ماء فاغتسل منها فزال كل ما بظاهر بدنه من الضر، وشرب منها فزال كل ما بباطنه ؛ كما أشار تعالى إلى ذلك في قوله :﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ٤٢ ﴾.
وما ذكره في «الأنبياء » : من أنه آتاه أهله ومثلهم معهم رحمة منه وذكرى لمن يعبده بينه في «ص » في قوله، ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وَذِكْرَى لأوْلِى الألْبَابِ ٤٣ ﴾، وقوله في «الأنبياء »، ﴿ وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ٨٤ ﴾ مع قوله في «ص »، ﴿ وَذِكْرَى لأٌوْلِى الألْبَابِ ٤٣ ﴾ فيه الدلالة الواضحة على أن أصحاب العقول السليمة من شوائب الاختلال، هم الذين يعبدون الله وحده ويطيعونه. وهذا يؤيد قول من قال من أهل العلم، إن من أوصى بشيء من ماله لأعقل الناس أن تلك الوصية تصرف لأتقى الناس وأشدهم طاعة لله تعالى ؛ لأنهم هم أولو الألباب ؛ أي العقول الصحيحة السالمة من الاختلال.
تنبيه
في هذه الآيات المذكورة سؤال معروف، وهو أن يقال : إن قول أيوب المذكور في «الأنبياء » في قوله، ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِي الضُّرُّ ﴾ وفي «ص » في قوله، ﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ٤١ ﴾ يدل على أنه ضجر من المرض فشكا منه. مع أن قوله تعالى، ﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ٤٤ ﴾ يدل على كمال صبره ؟
والجواب أن ما صدر من أيوب دعاء وإظهار فقر وحاجة إلى ربه، لا شكوى ولا جزع.
قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة، ولم يكن قوله ﴿ مَسَّنِي الضُّرُّ ﴾ جزعاً ؛ لأن الله تعالى قال :﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً ﴾ بل كان ذلك دعاء منه. والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى، والدعاء لا ينافي الرضا. قال الثعلبي : سمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول : حضرت مجلساً غاصاً بالفقهاء والأدباء في دار السلطان ؛ فسئلت عن هذه الآية الكريمة بعد اجتماعهم على أن قول أيوب كان شكاية وقد قال الله تعالى :﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً ﴾ فقلت : ليس هذا شكاية، وإنما كان دعاء. بيانه ﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾ والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء. فاستحسنوه وارتضوه ؛ وسئل الجنيد عن هذه الآية الكريمة فقال : عرفه فاقة السؤال ليمن عليه بكرم النوال انتهى منه.
ودعاء أيوب المذكور ذكره الله في سورة «الأنبياء » من غير أن يسند مس الضر أيوب إلى الشيطان في قوله :﴿ أَنِّى مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ٨٣ ﴾ وذكره في سورة «ص » وأسند ذلك الشيطان في قوله :﴿ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ٤١ ﴾ والنصب على جميع القراءات معناه : التعب والمشقة، والعذاب : الألم. وفي نسبة ما أصابه من المشقة والألم إلى الشيطان في سورة «ص » هذه إشكال قوي معروف ؛ لأن الله ذكر في آيات من كتابه : أن الشيطان ليس له سلطان على مثل أيوب من الأنبياء الكرام ؛ كقوله :﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٩٩ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ١٠٠ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ الآية، وقوله تعالى مقرراً له :﴿ وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ عبادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ٤٢ ﴾.
وللعلماء عن هذا الإشكال أجوبة ؛ منها ما ذكره الزمخشري قال :
فإن قلت : لم نسبه إلى الشيطان، ولا يجوز أن يسلطه على أنبيائه ليقضي إن إتعابهم وتعذيبهم وطره، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحاً إلا وقد نكبه وأهلكه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب ؟
قلت : لما كانت وسوسته إليه، وطاعته له فيما وسوس سبباً فيما مسه الله به من النصب والعذاب نسبه إليه، وقد راعى الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو. وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، ويغريه على الكراهة والجزع، فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل.
وروي أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين ؛ فارتد أحدهم فسأل عنه، فقيل : ألقى إليه الشيطان أن الله لا يبتلي الأنبياء الصالحين. وذكر في سبب بلائه : أن رجلاً استغاثه على ظالم فلم يغثه. وقيل : كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه ولم يغزه. وقيل. أعجب بكثرة ماله انتهى منه.
ومنها ما ذكره جماعة من المفسرين : أن الله سلط الشيطان على ماله وأهله ابتلاء لأيوب ؛ فأهلك الشيطان ماله وولده، ثم سلطه على بدنه ابتلاء له فنفخ في جسده نفخة اشتعل منها، فصار في جده ثآليل، فحكها بأظافره حتى دميت، ثم بالفخار حتى تساقط لحمه، وعصم الله قلبه ولسانه. ( وغالب ذلك من الإسرائيليات ) وتسليطه للابتلاء على جسده، وماله وأهله ممكن، وهو أقرب من تسليطه عليه بحمله على أن يفعل ما لا ينبغي ؛ كمداهنة الملك المذكور، وعدم إغاثة الملهوف، إلى غير ذلك من الأشياء التي يذكرها المفسرون. وقد ذكروا هنا قصة طويلة تتضمن البلاء الذي وقع فيه، وقدر مدته ( وكل ذلك من الإسرائيليات ) وقد ذكرنا هنا قليلاً.
وغاية ما دل عليه القرآن : أن الله ابتلى نبيه أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وأنه ناداه فاستجاب له وكشف عنه كل ضر، ووهبه أهله ومثلهم معهم، وأن أيوب نسب ذلك في «ص » إلى الشيطان. ويمكن أن يكون سلطه الله على جسده وماله وأهله ؛ ابتلاء ليظهر صبره الجميل، وتكون له العافية الحميدة في الدنيا والآخرة، ويرجع له كل ما أصيب فيه، والعلم عند الله تعالى وهذا لا ينافي أن الشيطان لا سلطان له على مثل أيوب، لأن التسليط على الأهل والمال والجسد من جنس الأسباب التي تنشأ عنها الأعراض البشرية كالمرض، وذلك يقع للأنبياء، فإنهم يصيبهم المرض، وموت الأهل، وهلاك المال لأسباب متنوعة. ولا مانع من أن يكون جملة تلك الأسباب تسليط الشيطان على ذلك للابتلاء وقد أوضحنا جواز وقوع الأمراض والتأثيرات البشرية على الأنبياء في سورة «طه » وقول الله لنبيه أيوب في سورة «ص » :﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ ﴾ الآية، قال المفسرون فيه : إنه حلف في مرضه ليضربن زوجه مائة سوط، فأمره الله أن يأخذ ضغثاً فيضربها به ليخرج من يمينه، والضغث : الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو نحو ذلك. والمعنى : أنه يأخذ حزمة فيها مائة عود فيضربها بها ضربة واحدة، فيخرج بذلك من يمينه. وقد قدمنا في سورة «الكهف » الاستدلال بآية ﴿ وَلاَ تَحْنَثْ ﴾ على أن الاستثناء المتأخر لا يفيد ؛ إذ لو كان يفيد لقال الله لأيوب قل إن شاء الله ؛ ليكون ذلك استثناء في يمينك.

قوله تعالى :﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى في الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ٨٧ ﴾.
أي واذكر ذا النون. والنون : الحوت. «وذا » بمعنى صاحب. فقوله ﴿ ذَا النُّونِ ﴾ معناه صاحب الحوت ؛ كما صرح الله بذلك في «القلم » في قوله ﴿ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ﴾ الآية. وإنما أضافه إلى الحوت لأنه النقمة كما قال تعالى :﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ١٤٢ ﴾.
وقوله :﴿ فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ فيه وجهان من التفسير لا يكذب أحدهما الآخر :
الأول أن المعنى ﴿ فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ أي لن نضيق عليه في بطن الحوت. ومن إطلاق «قدر » بمعنى «ضيق » في القرآن قوله تعالى :﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ ﴾ أي ويضيق الرزق على من يشاء، وقوله تعالى :﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ﴾ الآية. فقوله :﴿ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ﴾ أي ومن ضيق عليه رزقه.
الوجه الثاني أن معنى ﴿ لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ لن نقضي عليه ذلك. وعليه فهو من القدر والقضاء. «وقدر » بالتخفيف تأتي بمعنى «قدر » المضعفة : ومنه قوله تعالى :﴿ فَالْتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ١٢ ﴾ أي قدره الله. ومنه قول الشاعر وأنشده ثعلب شاهداً لذلك :
فليست عشيات الحمى برواجع لنا أبداً ما أورق السلم النضر
ولا عائذ ذاك الزمان الذي مضى تباركت ما تقدر يقع ولك الشكر
والعرب تقول : قدر الله لك الخير يقدره قدراً، كضرب بضرب، ونصر ينصر، بمعنى قدره لك تقديراً ؛ ومنه على أصح القولين «ليلة القدر » لأن الله يقدر فيها الأشياء ؛ كما قال تعالى :﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ٤ ﴾ والقدر بالفتح، والقدر بالسكون : ما يقدره الله من القضاء ؛ ومنه قول هدبة بن الخشرم :
ألا يا لقومي للنوائب والقدر وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري
أما قول من قال :( إن ﴿ لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾ من القدرة فهو قول باطل بلا شك ؛ لأن نبي الله يونس لا يشك في قدرة الله على كل شيء، كما لا يخفى.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ مُغَاضِباً ﴾ أي في حال كونه مغاضباً لقومه. ومعنى المفاعلة فيه : أنه أغضبهم بمفارقته وتخوفهم حلول العذاب بهم، وأغضبوه حين دعاهم إلى الله مدة فلم يجيبوه، فأوعدهم بالعذاب. ثم خرج من بينهم على عادة الأنبياء عند نزول العذاب قبل أن يأذن الله له في الخروج ؛ قاله أبو حيان في البحر. وقال أيضاً : وقيل معنى «مُغَاضِباً » غضبان، وهو من المفاعلة التي لا تقتضي اشتراكاً ؛ نحو عاقبت اللص، وسافرت ا ه.
واعلم أن قول من قال ﴿ مُغَاضِباً ﴾ أي مغاضباً لربه كما روي عن ابن مسعود، وبه قال الحسن والشعبي وسعيد بن جبير، واختاره الطبري والقتبي، واستحسنه المهدوي يجب حمله على معنى القول الأول ؛ أي مغاضباً من أجل ربه. قال القرطبي بعد أن ذكر هذا القول عمن ذكرنا : وقال النحاس : وربما أنكر هذا من لا يعرف اللغة، وهو قول صحيح، والمعنى : مغاضباً من أجل ربه كما تقول : غضبت لك أي من أجلك، والمؤمن يغضب لله عز وجل إذا عصى انتهى منه. والمعنى على ما ذكر : مغاضباً قومه من أجل ربه، أي، من أجل كفرهم به، وعصيانهم له. وغير هذا لا يصح في الآية.
وقوله تعالى :﴿ فَنَادَى في الظُّلُمَاتِ ﴾.
أي ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت. «وأن » في قوله ﴿ أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ ﴾ مفسرة، وقد أوضحنا فيما تقدم معنى «أن لا إله »، ومعنى «سبحانك »، ومعنى الظلم، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله :﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾ أي أجبناه ونجيناه من الغم الذي هو فيه في بطن الحوت، وإطلاق استجاب بمعنى أجاب معروف في اللغة، ومنه قول كعب بن سعد الغنوي :
وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية : من نداء نبيه يونس في تلك الظلمات هذا النداء العظيم، وأن الله استجاب له ونجاه من الغم أوضحه في غير هذا الموضع.
وبين في بعض المواضع : أنه لو لم يسبح هذا التسبيح العظيم للبث في بطن الحوت إلى يوم البعث ولم يخرج منه. وبين في بعضها أنه طرحه بالعراء وهو سقيم.
وبين في بعضها : أنه خرج بغير إذن كخروج العبد الآبق، وأنهم اقترعوا على من يلقى في البحر فوقعت القرعة على يونس أنه هو الذي يلقى فيه.
وبين في بعضها : أن الله تداركه برحمته ؛ ولو لم يتداركه بها لنبذ بالعراء في حال كونه مذموماً، ولكنه تداركه بها فنبذ غير مذموم، قال تعالى في «الصافات » :﴿ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ١٣٩ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ١٤٠ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ١٤١ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيم ١٤٢ ٌفَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ١٤٣ لَلَبِثَ في بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ١٤٤ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيم ١٤٥ ٌوَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ ١٤٦ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ١٤٧ فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ١٤٨ ﴾. فقوله في آيات «الصافات » المذكورة ﴿ إِذْ أَبَقَ ﴾ أي حين أبق، وهو من قول العرب : عبد آبق، لأن يونس خرج قبل أن يأذن له ربه، ولذلك أطلق عليه اسم الإباق. واستحقاق الملامة في قوله :﴿ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ لأن المليم اسم فاعل ألام إذا فعل ما يستوجب الملام. وقوله :﴿ فَسَاهَمَ ﴾ أي قارع بمعنى أنه وضع مع أصحاب السفينة سهام القرعة ليخرج سهم من يلقى في البحر. وقوله :﴿ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴾ أي المغلوبين في القرعة ؛ لأنه خرج له السهم الذي يلقى صاحبه في البحر. ومن ذلك قول الشاعر :
قتلنا المدحضين بكل فج فقد قرت بقتلهم العيون
وقوله ﴿ فَنَبَذْنَاهُ ﴾ أي طرحناه، بأن أمرنا الحوت أن يلقيه بالساحل. والعراء : الصحراء. وقول من قال : العراء الفضاء أو المتسع من الأرض، أو المكان الخالي أو وجه الأرض راجع إلى ذلك، ومنه قول الشاعر وهو رجل من خزاعة :
ورفعت رجلالاً أخاف عثارها ونبذت بالبلد العراء ثيابي
وشجرة اليقطين : هي الدباء. وقوله :﴿ وَهُوَ سَقِيمٌ ﴾ أي مريض لما أصابه من التقام الحوت إياه، وقال تعالى في «القلم ». ﴿ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُوم ٤٨ ٌلَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُوم ٤٩ ٌفَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ٥٠ ﴾ فقوله في آية «القلم » هذه :﴿ إِذْ نَادَى ﴾ أي نادى أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، وقوله :﴿ وَهُوَ مَكْظُومٌ ﴾ أي مملوء غماً، كما قال تعالى :﴿ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ﴾ وهو قول ابن عباس ومجاهد. وعن عطاء وأبي مالك ﴿ مَكْظُومٌ ﴾ : مملوء كرباً. قال الماوردي : والفرق بين الغم والكرب : أن الغم في القلب. والكرب في الأنفاس. وقيل ﴿ مَكْظُومٌ ﴾ محبوس. والكظم : الحبس ؛ ومنه قولهم : كظم غيظه، أي حبس غضبه، قاله ابن بحر. وقيل : المكظوم المأخوذ بكظمه، وهو مجرى النفس، قاله المبرد انتهى من القرطبي.
وآية «القلم » المذكورة تدل على أن نبي الله يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عجل بالذهاب ومغاضبة قومه، ولم يصبر الصبر اللازم بدليل قوله مخاطباً نبينا صلى الله عليه وسلم فيها :﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ ﴾ الآية. فإن أمره لنبينا صلى الله عليه وسلم بالصبر ونهيه إياه أن يكون كصاحب الحوت دليل على أن صاحب الحوت لم يصبر كما ينبغي. وقصة يونس، وسبب ذهابه ومغاضبته قومه مشهورة مذكورة في كتب التفسير. وقد بين تعالى في سورة «يونس » : أن قوم يونس آمنوا فنفعهم إيمانهم دون غيرهم من سائر القرى التي بعثت إليهم الرسل، وذلك في قوله :﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمنوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْي في الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ٩٨ ﴾.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَكَذلك نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ٨٨ ﴾ يدل على أنه ما من مؤمن يصيبه الكرب والغم فيبتهل إلى الله داعياً بإخلاص، إلا نجاه الله من ذلك الغم، ولاسيما إذا دعا بدعاء يونس هذا. وقد جاء في حديث مرفوع عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال في دعاء يونس المذكور :«لم يدع به مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له » رواه أحمد والترمذي وابن أبي حاتم وابن جرير وغيرهم. والآية الكريمة شاهدة لهذا الحديث شهادة قوية كما ترى، لأنه لما ذكر أنه أنجى يونس شبه بذلك إنجاءه المؤمنين. وقوله ﴿ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ٨٨ ﴾ صيغة عامة في كل مؤمن كما ترى. وقرأ عامة القراء السبعة غير ابن عامر وشعبة عن عاصم ﴿ وَكَذلك نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ٨٨ ﴾ بنونين أولاهما مضمومة،
والثانية ساكنة بعدها جيم مكسورة مخففة فياء ساكنة، وهو مضارع أنجى الرباعي على صيغة أفعل، والنون الأولى دالة على العظمة، وقرأ ابن عامر وشعبة عن عاصم ﴿ وَكَذلك نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ ٨٨ ﴾ بنون واحدة مضمومة بعدها جيم مكسورة مشددة فياء ساكنة. وهو على هذه القراءة بصيغة فعل ماض مبني للمفعول من نجى المضعفة على وزن فعل بالتضعيف. وفي كلتا القراءتين إشكال معروف. أما قراءة الجمهور فهي من جهة القواعد العربية واضحة لا إشكال فيها، ولكن فيها إشكال من جهة أخرى، وهي : أن هذا الحرف إنما كتبه الصحابة في المصاحف العثمانية بنون واحدة، فيقال : كيف تقرأ بنونين وهي في المصاحف بنون واحدة ؟ وأما على قراءة ابن عامر وشعبة بالإشكال من جهة القواعد العربية، لأن نجى على قراءتهما بصيغة ماض مبني للمفعول، فالقياس رفع ﴿ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ بعده على أنه نائب الفاعل، وكذلك القياس فتح باء «نجى » لا إسكانها.
وأجاب العلماء عن هذا بأجوبة : منها ما ذكره بعض الأئمة، وأشار إليه ابن هشام في باب الإدغام من توضيحه : أن الأصل في قراءة ابن عامر وشعبة «ننجي » بفتح النون الثانية مضارع نجى مضعفاً، فحذفت النون الثانية تخفيفاً. أو ننجي بسكونها مضارع أنجى وأدغمت النون في الجيم لاشتراكهما في الجهر والانفتاح والتوسط بين القوة والضعف، كما أدغمت في «إجاصة وإجابة » بتشديد الجيم فيهما، أو الأصل «إنجاصة وإنجانة » فأدغمت النون فيهما. والإجاصة : واحدة الإجاص، قال في القاموس : الإجاص بالكسر مشدداً : ثمر معروف دخيل، لأن الجيم والصاد لا يجتمعان في كلمة، الواحدة بهاء. ولا تقل انجاص، أو لغية ا ه. والإجانة. واحدة الأجاجين. قال في التصريح : وهي بفتح الهمزة وكسرها. قال صاحب الفصيح : قصربة يعجن فيها ويغسل فيها. ويقال : إنجانة كما يقال إنجاصة، وهي لغة يمانية فيهما أنكرها الأكثرون ا ه. فهذا وجهان في توجيه قراءة ابن عامر وشعبة، وعليهما فلفظة «المؤمنين » مفعول به ل«ننجي ».
ومن أجوبة العلماء عن قراءة ابن عامر وشعبة : أن «نجى » على قراءتهما فعل ماض مبني للمفعول، والنائب عن الفاعل ضمير المصدر، أي نجّى هو أي الإنجاء، وعلى هذا الوجه فالآية كقراءة من قرأ ﴿ لِيَجْزِىَ قَوْماً ﴾ الآية، ببناء «يجزي » للمفعول والنائب ضمير المصدر، أي ليجزي هو أي الجزاء ونيابة المصدر عن الفاعل في حال كون الفعل متعدياً للمفعول ترد بقلة، كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وقابل من ظرف أو من مصدر أو حرف جر بنيابة حري
ولا ينوب بعض هذا إن وجد في اللفظ مفعول به وقد يرد
ومحل الشاهد منه قوله :«وقد يرد » وممن قال بجوار ذلك الأخفش والكوفيون وأبو عبيد. ومن أمثلة ذلك في كلام العرب قول جرير يهجو أم الفرزدق :
ولو ولدت قفيرة جرو كلب لسب بذلك الجرو الكلابا
يعني لسب هو أي السب. وقول الراجز :وأما إسكان ياء «نجي » على هذا القول فهو على لغة من يقول من العرب : رضي، وبقي بإسكان الياء تخفيفاً. ومنه قراءة الحسن ﴿ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَا ﴾ بإسكان ياء «بقي » ومن شواهد تلك اللغة قول الشاعر :
لم يعن بالعلياء إلا سيدا ولا شفى ذا الغي إلا ذو هدى
خمر الشيب لمنى تخميرا وحدا بي إلى القبور البعيرا
ليت شعري إذ القيامة قامت ودعى بالحساب أين المصيرا
وأما الجواب عن قراءة الجمهور فالظاهر فيه أن الصحابة حذفوا النون في المصاحف لتمكن موافقة قراءة ابن عامر وشعبة للمصاحف لخفائها، أما قراءة الجمهور فوجهها ظاهر ولا إشكال فيها، فغاية الأمر أنهم حذفوا حرفاً من الكلمة لمصلحة مع تواتر الرواية لفظاً بذكر الحرف المحذوف والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ٩٢ ﴾. قد قدمنا معاني «الأمة » في القرآن في سورة «هود ». والمراد بالأمة هنا : الشريعة والملة. والمعنى : وأن هذه شريعتكم شريعة واحدة، وهي توحيد الله على الوجه الأكمل من جميع الجهات، وامتثال أمره، واجتناب نهيه بإخلاص في ذلك ؛ على حسب ما شرعه لخلقه ﴿ وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ٩٢ ﴾ أي وحدي. والمعنى دينكم واحد وربكم واحد، فلم تختلفون
﴿ وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ﴾ أي تفرقوا في الدين وكانوا شيعاً ؛ فمنهم يهودي، ومنهم نصراني، ومنهم عابد وثن إلى غير ذلك من الفرق المختلفة.
ثم بين بقوله :﴿ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ٩٣ ﴾ أنهم جميعهم راجعون إليه يوم القيامة، وسيجازيهم بما فعلوا. وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية الكريمة ﴿ وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ ﴾ المعنى : جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً كما يتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه ؛ فيصير لهذا نصيب ولذلك نصيب. تمثيلاً لاختلافهم فيه، وصيرورتهم فرقاً شتى ا ه.
وظاهر الآية أن «تقطع » متعدية إلى المفعول ومفعولها «أمرهم » ومعنى تقطعوه. أنهم جعلوه قطعاً كما ذكرنا. وقال القرطبي قال الأزهري :﴿ وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ ﴾ أي تفرقوا في أمرهم فنصب «أمرهم » بحذف «في » ومن إطلاق الأمة بمعنى الشريعة والدين كما في هذه الآية : قوله تعالى عن الكفار :﴿ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ﴾ أي على شريعة وملة ودين. ومن ذلك قول نابغة ذبيان :
حلفت فلم أترك في نفسك ريبة وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
ومعنى قوله :«وهل يأثمن ذو أمة.. الخ » أن صاحب الدين لا يرتكب الإثم طائعاً.
وما ذكره جل وعلا في هاتين الآيتين الكريمتين : من أن الدين واحد والرب واحد فلا داعي للاختلاف. وأنهم مع ذلك اختلفوا أو صاروا فرقاً أوضحه في سورة ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ وزاد أن كل حزب من الأحزاب المختلفة فرحون بما عندهم ؛ وذلك في قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ٥١ وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ٥٢ فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ٥٣ فَذَرْهُمْ في غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ٥٤ ﴾. وقوله في هذه الآية ﴿ زُبُراً ﴾ أي قطعاً كزبر الحديد والفضة، أي قطعها. وقوله ﴿ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُون ٥٣َ ﴾ أي كل فرقة من هؤلاء الفرق الضالين المختلفين المتقطعين دينهم قطعاً فرحون بباطلهم، مطمئنون إليه، معتقدون أنه هو الحق.
وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع : أن ما فرحوا به، واطمئنوا إليه باطل، كما قال تعالى في سورة «المؤمن » :﴿ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئونَ ٨٣ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ٨٤ ﴾، وقال :﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ في شَيء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ١٥٩ ﴾.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ إِنَّ هذه ﴾ «هَذِهِ » اسم «إنَّ » وخبرها ﴿ أُمَّتُكُمْ ﴾. وقوله ﴿ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ حال هو ظاهر.
قوله تعالى :﴿ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أهل النار لهم فيها زفير والعياذ بالله تعالى ؛ وأظهر الأقوال في الزفير : أنه كأول صوت الحمار، وأن الشهيق كآخره وقد بين تعالى أن أهل النار لهم فيها زفير في غير هذا الموضع وزاد على ذلك الشهيق والخلود، كقوله في «هود » :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ ففي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ١٠٦ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ الآية.
قوله تعالى :﴿ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ١٠٠ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أهل النار لا يسمعون فيها. وبين في غير هذا الموضع : أنهم لا يتكلمون ولا يبصرون، كقوله في «الإسراء » :﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى ﴾، وقوله :﴿ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ ٨٥ ﴾ مع أنه جلا وعلا ذكر في آيات أخر ما يدل على أنهم يسمعون ويبصرون ويتكلمون، كقوله تعالى :﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾ الآية، وقوله :﴿ قالوا رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ﴾ الآية. وقد بينا أوجه الجمع بين الآيات المذكورة في «طه » فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ١٠١ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ؛ إن الذين سبقت لهم منه في علمه الحسنى وهي تأنيث الأحسن، وهي الجنة أو السعادة مبعدون يوم القيامة عن النار ؛ وقد أشار إلى نحو ذلك في غير هذا الموضع، كقوله :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾، وقوله :﴿ هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ٦٠ ﴾، ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ١٠٣ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن عباده المؤمنين الذين سبقت لهم منه الحسنى ﴿ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ﴾ أي تستقبلهم بالبشارة، وتقول لهم :﴿ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ١٠٣ ﴾ أي توعدون فيه أنواع الكرامة والنعيم. قيل : نستقبلهم على أبواب الجنة بذلك. وقيل : عند الخروج من القبور كما تقدم.
وما ذكره جل وعلا من استقبال الملائكة لهم بذلك بينه في غير هذا الموضع، كقوله في «فصلت » :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ ٣٠ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآٌخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُون ٣١ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ٣٢ ﴾ وقوله في «النحل » :﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ٣٢ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَي السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾.
قوله ﴿ يَوْمَ نَطْوِى السَّمَاءَ ﴾ منصوب بقوله :﴿ لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ ﴾، أو بقوله ﴿ وَتَتَلَقَّاهُمُ ﴾. وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يوم القيامة يطوي السماء كطي السجل الكتب. وصرح في «الزمر » بأن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، وأن السماوات مطويات بيمينه، وذلك في قوله :﴿ وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون ٦٧ ﴾. وما ذكره من كون السماوات مطويات بيمينه في هذه الآية جاء في الصحيح أيضاً عن النَّبي صلى الله عليه وسلم وقد قدمنا مراراً أن الواجب في ذلك إمراره كما جاء، والتصديق به مع اعتقاد أن صفة الخالق أعظم من أن تمائل صفة المخلوق. وأقوال العلماء في معنى قوله ﴿ كَطَي السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ﴾ راجعة إلى أمرين :
الأول أن السجل الصحيفة : والمراد بالكتب : ما كتب فيها، واللام بمعنى علي، أي كطي السجل على الكتب، أي كطي الصحيفة على ما كتب فيها، وعلى هذا فطي السجل مصدر مضاف إلى مفعوله، لأن السجل على هذا المعنى مفعول الطي.
الثاني أن السجل ملك من الملائكة، وهو الذي يطوي كتب أعمال بني آدم إذا رفعت إليه، ويقال : إنه في السماء الثالثة، ترفع إليه الحفظة الموكلون بالخلق أعمال بني آدم في كل خميس واثنين، وكان من أعوانه ( فيما ذكروا ) هاروت وماروت، وقيل، إنه لا يطوي الصحيفة حتى يموت صاحبها فيرفعها ويطويها إلى يوم القيامة، وقول من قال : إن السجل صحابي، كاتب للنبي صلى الله عليه وسلم ظاهر السقوط كما ترى.
وقوله في هذه الآية الكريمة «للكتاب » قرأه عامة السبعة غير حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «للكتاب » بكسر الكاف وفتح التاء بعدها ألف بصيغة الإفراد. وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «للكتب » بضم الكاف والتاء بصيغة الجمع. ومعنى القراءتين واحد ؛ لأن المراد بالكتاب على قراءة الإفراد جنس الكتاب، فيشمل كل الكتب.
قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ ١٠٥ ﴾.
أظهر الأقوال عندي في هذه الآية الكريمة : أن الزبور الذي هو الكتاب يراد به جنس الكتاب فيشمل الكتب المنزلة، كالتوراة والإنجيل، وزبور داود، وغير ذلك. وأن المراد بالذكر : أم الكتاب، وعليه فالمعنى : ولقد كتبنا في الكتب المنزلة على الأنبياء أن الأرض يرثها عبادي الصالحون بعد أن كتبنا ذلك في أم الكتاب. وهذا المعنى واضح لا إشكال فيه. وقيل الزبور في الآية : زبور داود، والذكر : التوراة ؛ وقيل غير ذلك. وأظهرها هو ما ذكرنا واختاره غير واحد.
واعلم أن قد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن الآية قد يكون فيها قولان للعلماء، وكلاهما حق ويشهد له قرآن فنذكر الجميع ؛ لأنه كله حق داخل في الآية. ومن ذلك هذه الآية الكريمة، لأن المراد بالأرض في قوله هنا ﴿ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ ١٠٥ ﴾ فيه للعلماء وجهان :
الأول أنها أرض الجنة يورثها الله يوم القيامة عبادة الصالحين. وهذا القول يدل له قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ٧٤ ﴾ وقد قدمنا معنى إيراثهم الجنة مستوفى في سورة «مريم ».
الثاني أن المراد بالأرض : أرض العدو يورثها الله المؤمنين في الدنيا : ويدل لهذا قوله تعالى :﴿ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيء قَدِيراً ٢٧ ﴾، وقوله :﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبها ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُواْ بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ١٢٨ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمنوا مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأٌرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ الآية، وقوله تعالى ﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِين ١٣ َوَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ هذا الحرف عامة القراء غير حمزة ﴿ في الزَّبُورِ ﴾ بفتح الزاي ومعناه الكتاب. وقرأ حمزة وحده ( فِي الزُّبُورِ ) بضم الزاي. قال القرطبي : وعلى قراءة حمزة فهو جمع زبر. والظاهر أنه يريد الزبر بالكسر بمعنى الزبور أي المكتوب. وعليه فمعنى قراءة حمزة : ولقد كتبنا في الكتب : وهي تؤيد أن المراد بالزبور على قراءة الفتح جنس الكتب لا خصوص زبور وداود كما بينا. وقرأ حمزة «يَرِثُهَا عِبَادِيْ » بإسكان الياء، والباقون بفتحها.
قوله تعالى :﴿ إِنَّ في هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ١٠٦ ﴾.
الإشارة في قوله ﴿ هَذَا ﴾ للقرآن العظيم، الذي منه هذه السورة الكريمة. والبلاغ : الكفاية، وما تبلغ به البغية. وما ذكره هنا من أن هذا القرآن فيه الكفاية للعابدين، وما يبلغون به بغيتهم، أي من خير الدنيا والآخرة ذكره في غير هذا الموضع. كقوله :﴿ هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ٥٢ ﴾ وخص القوم العابدين بذلك لأنهم هم المنتفعون به.
قوله تعالى :﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ١٠٧ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه ما أرسل هذا النَّبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلى الخلائق إلا رحمة لهم ؛ لأنه جاءهم بما يسعدهم وينالون به كل خير من خير الدنيا والآخرة إن اتبعوه. ومن خالف ولم يتبع فهو الذي ضيع على نفسه نصيبه من تلك الرحمة العظمى. وضرب بعض أهل العلم لهذا مثلاً قال : لو فجر الله عيناً للخلق غزيرة الماء، سهلة التنازل ؛ فسقى الناس زروعهم ومواشيهم بمائها. فتتابعت عليهم النعم بذلك، وبقي أناس مفرطون كسالى عن العمل ؛ فضيعوا نصيبهم من تلك العين، فالعين المفجرة في نفسها رحمة من الله، ونعمة للفريقين. ولكن الكسلان محنة على نفسه حيث حرمها ما ينفعها. ويوضح ذلك قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ٢٨ ﴾. وقيل : كونه رحمة للكفار من حيث إن عقوبتهم أخرت بسببه، وأمنوا به عذاب الاستئصال. والأول أظهر.
وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أنه ما أرسله إلا رحمة للعالمين يدل على أنه جاء بالرحمة للخلق فيما تضمنه هذا القرآن العظيم. وهذا المعنى جاء موضحاً في مواضع من كتاب الله، كقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ في ذلك لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ٥١ ﴾، وقوله :﴿ وَمَا كُنتَ تَرْجُو أَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ الآية.
وقد قدمنا الآيات الدالة على ذلك في سورة «الكهف » في موضعين منها. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله قال : قيل : يا رسول الله، ادع على المشركين. قال :«إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة ».
قوله تعالى :﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ ﴾.
قوله ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾ أي أعرضوا وصدوا عما تدعوهم إليه ﴿ فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ ﴾ أي أعلمتكم أني حرب لكم كما أنكم حرب لي، بريء منكم كما أنتم براء مني. وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية أشارت إليه آيات أخر، كقوله :﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ ﴾ أي ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء.
وقوله تعالى :﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِئ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾. وقوله :﴿ آذَنتُكُمْ ﴾ الأذان : الإعلام ؛ ومنه الأذان الصلاة. وقوله تعالى :﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ ﴾ الآية، أي إعلام منه، قوله :﴿ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ ﴾ الآية، أي اعلموا. ومنه قول الحرث بن حلزة :
آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء
يعني أعلمتنا ببينها.
قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ ﴾.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه علم ما يجهر به خلقه من القول، ويعلم ما يكتمونه. وقد أوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى :﴿ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾، وقوله :﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ في الموضعين، وقوله :﴿ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾، وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾، وقوله :﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ ﴾.
قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير حفص عن عاصم ﴿ قَالَ رَبِّ ﴾ بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر. وقرأه حفص وحده ﴿ قَالَ ﴾ بفتح القاف واللام بينهما ألف بصيغة الماضي. وقراءة الجمهور تدل على أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يقول ذلك. وقراءة حفص تدل على أنه امتثل الأمر بالفعل. وما أمره أن يقوله هنا قاله نبي الله شعيب كما ذكره الله عنه في قوله :﴿ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ﴾. وقوله ﴿ افْتَحْ ﴾ أي احكم كما تقدم. وقوله :﴿ وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ أي تصفونه بألسنتكم من أنواع الكذب بادعاء الشركاء والأولاد وغير ذلك ؛ كما قال تعالى :﴿ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ ﴾ الآية، وقال :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ ﴾ الآية. وما قاله النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قاله يعقوب لما علم أن أولاده فعلوا بأخيهم يوسف شيئاً غير ما أخبروه به ؛ وذلك في قوله :﴿ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ والمستعان : المطلوب منه العون. والعلم عند الله تعالى.
وهذا آخر الجزء الرابع من هذا الكتاب المبارك، ويليه الجزء " الخامس " إن شاء الله
وأوله سورة ( الحج ) وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه ا ه.
Icon