ﰡ
مكية بإجماع، وآيها مئة واثنتا عشرة آية، وحروفها: أربعة آلاف وثماني مئة وتسعون حرفًا، وكلمها: ألف ومئة وثمان وستون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١)﴾ [الأنبياء: ١].[١] ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ﴾ أي: وقت حسابهم؛ يعني: يوم القيامة،
نزلت تخويفًا لمنكري البعث، وهي عامة في جميع الناس، وإن كان المشار إليه في ذلك الوقت كفار قريش ﴿وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ﴾ عما يُفعل بهم ﴿مُعْرِضُونَ﴾ من التأهب لذلك المقام.
روي أن رجلًا من أصحاب رسول الله - ﷺ - كان يبني جدارًا، فمر به آخر في يوم نزول هذه السورة، فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا أنزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل اليوم: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ﴾ فنفض يده من البنيان وقال: والله لا بنيت أبدًا، وقد اقترب الحساب (١).
[٢] ﴿مَا يَأْتِيهِمْ﴾ يعني: المشركين.
﴿مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ يعني: القرآن ﴿مُحْدَثٍ﴾ أي: محدث التنزيل، لا نفس القرآن؛ أي: ما يأتيهم شيء من القرآن.
﴿إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾ مستهزئين به؛ لفرط غفلتهم.
...
﴿لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣)﴾ [الأنبياء: ٣].
[٣] ﴿لَاهِيَةً﴾ غافلة ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ عما يراد منها.
﴿وَأَسَرُّوا﴾ وأخفوا ﴿النَّجْوَى﴾ هي التناجي سرًّا؛ أي: كتموا ما تناجَوْا به.
﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أي: أشركوا، ثم بين الله تعالى سرهم الذي تناجوا به، وهو قول بعضهم لبعض: ﴿هَلْ هَذَا﴾ أي: محمد - ﷺ - ﴿إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ ثم قال بعضهم لبعض على جهة التوبيخ في الجهالة: ﴿أَفَتَأْتُونَ﴾ أفتحضرون السحر؛ أي: ما يقول، شبهوه بالسحر، المعنى: أفتتبعون ﴿السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ تعلمون أنه سحر؟!
...
﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)﴾ [الأنبياء: ٤].
[٤] ﴿قَالَ﴾ أمر للنبي - ﷺ - أن يقول لهم وللناس أجمعين: {رَبِّي يَعْلَمُ
﴿وَهُوَ السَّمِيعُ﴾ لأقوالهم ﴿الْعَلِيمُ﴾ بأفعالهم.
...
﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)﴾ [الأنبياء: ٥].
[٥] ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ أخلاط أحلام رآها في النوم.
﴿بَلِ افْتَرَاهُ﴾ اختلقه.
﴿بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ أي: كذاب، وما جاءكم به شعر؛ يعني: أن المشركين اقتسموا القول فيه، ولما اقتضت الآية المتقدمة أنهم قالوا: إن ما عنده سحر، عدد الله في هذه الآية جميع ما قالته طوائفهم، ووقع الإضراب بكل مقالة عن المتقدمة؛ ليبين اضطراب أمرهم، فبعد اختلافهم في القرآن، رجعوا إلى مقترحهم من الآيات.
فقالوا: ﴿فَلْيَأْتِنَا﴾ محمد ﴿بِآيَةٍ﴾ كالناقة والعصا.
﴿كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ﴾ بالآيات.
[٦] فنزل: ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ﴾ قبل مشركي قريش ﴿مِنْ قَرْيَةٍ﴾ أي: أهل قرية عند مجيء الآيات التي اقترحوها، فلذلك ﴿أَهْلَكْنَاهَا﴾ وهذه الأمة موعودة ألَّا تستأصل إلى قيام الساعة، فلذلك لم تُعط مقترحَها.
﴿أَفَهُمُ﴾ أي: كفار قريش ﴿يُؤْمِنُونَ﴾ عند مجيء الآيات؟! هم أعتى من ذلك.
...
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧)﴾ [الأنبياء: ٧].
[٧] ونزل جواب ﴿هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ﴾ وطلبهم (١).
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ﴾ قرأحفص عن عاصم: (نُوحِي) بالنون وكسر الحاء على لفظ الجمع، وقرأ الباقون: بالياء وفتح الحاء على ما لم يُسم فاعله (٢).
﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ﴾ أهلَ العلم بالكتابين. قرأ ابن كثير، والكسائي، وخلف: (فَسَلُوا) بالنقل، والباقون: بالهمز (٣) ﴿إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذلك.
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٠).
(٣) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٠٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٠).
[٨] ثم أعلم تعالى أنه كمن تقدمه من الأنبياء بقوله: ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ﴾ أي: الأنبياء ﴿جَسَدًا﴾ ولم يقل: أجسادًا؛ لأنه اسم جنس.
﴿لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ﴾ هذا رد لقولهم ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ﴾ [الفرقان: ٧]؛ أي: لم نجعل الرسل ملائكة، بل جعلناهم بشرًا يأكلون الطعام ﴿وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ﴾ في الدنيا.
...
﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)﴾ [الأنبياء: ٩].
[٩] ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ﴾ الذي وعدناهم بإهلاك أعدائهم.
﴿فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ﴾ من المؤمنين بهم.
﴿وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ﴾ المفرطين في غَيهم وكفرهم.
...
﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠)﴾ [الأنبياء: ١٠].
[١٠] ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ﴾ يا معشر قريش ﴿كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ شرفُكم وما تحتاجون إليه من مصالح دينكم ودنياكم ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ فتؤمنون.
...
﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (١١)﴾ [الأنبياء: ١١].
[١١] ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا﴾ أهلكنا ﴿مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً﴾ أي: كافرة؛
﴿وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ أي: جئنا ببدلهم، فسكنوا مساكنهم.
...
﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (١٢)﴾ [الأنبياء: ١٢].
[١٢] ﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا﴾ أي: المهلكون ﴿بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا﴾ أي: القرية.
﴿يَرْكُضُونَ﴾ مسرعين.
نزلت هذه الآية في أهل حصورا، وهي قرية باليمن كان أهلها من العرب، فبعث الله إليهم نبيًّا يدعوهم إلى الله (١)، فكذبوه وقتلوه، فسلط الله عليهم بُخت نصَّر حتى قتلهم وسباهم، فندموا وانهزموا (٢).
...
﴿لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (١٣)﴾ [الأنبياء: ١٣].
[١٣] فقالت لهم الملائكة: ﴿لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ﴾ نُعِّمْتُم ﴿فِيهِ﴾ من الدنيا ﴿وَمَسَاكِنِكُمْ﴾ التي كانت لكم.
﴿لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ شيئًا من دنياكم؛ استهزاءً بهم.
...
(٢) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (١٧/ ٩).
[١٤] فأتبعهم بخت نصر وأصحابه (١)، وأخذتهم السيوف، ونادى مناد من جَوِّ السماء: يا ثارات الأنبياء! فلما رأوا ذلك ﴿قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ اعترفوا حين لا ينفع الاعتراف.
...
﴿فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (١٥)﴾ [الأنبياء: ١٥].
[١٥] ﴿فَمَا زَالَتْ تِلْكَ﴾ أي: قولهم: يا ويلنا ﴿دَعْوَاهُمْ﴾ سميت لأنهم دعوا ويلهم ﴿حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا﴾ أي: محصودين بالموت والسيف ﴿خَامِدِينَ﴾ ساكنين.
...
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (١٦)﴾ [الأنبياء: ١٦].
[١٦] ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ أي: عبثًا، بل لمصالح الدارين.
...
﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧)﴾ [الأنبياء: ١٧].
[١٧] ﴿لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا﴾ هو الولد والمرأة ﴿لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا﴾ من الحور والولدان والملائكة؛ لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره.
...
﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨)﴾ [الأنبياء: ١٨].
[١٨] ﴿بَلْ﴾ إضراب عن اتخاذ اللهو.
﴿نَقْذِفُ﴾ نرمي ﴿بِالحَقِّ﴾ الإيمان.
﴿عَلَى الْبَاطِلِ﴾ الشرك ﴿فَيَدْمَغُهُ﴾ يكسره ﴿فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ هالك.
﴿وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ اللهَ سبحانه به من الولد ونحوه.
...
﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩)﴾ [الأنبياء: ١٩].
[١٩] ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ عبيدًا وملكًا ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ﴾ من الملائكة، نسبوا إليه تشريفًا، لا أنه تعالى في مكان.
﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ لا يتعظمون عنها ﴿وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ يَعْيَون.
...
﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (٢٠)﴾ [الأنبياء: ٢٠].
[٢٠] ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ يضعُفون، وأصل الفتور: السكون بعد حدَّة.
***
[٢١] ﴿أَمِ﴾ معناها: بل ﴿اتَّخَذُوا﴾ والهمزة لإنكار اتخاذهم ﴿آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ﴾؛ لأن كل الأصنام منها.
﴿هُمْ يُنْشِرُونَ﴾ يحيون الموتى؛ زيادة توبيخ، أي: ليست آلهتهم كذلك، فهي غير آلهة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة.
...
﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢)﴾ [الأنبياء: ٢٢].
[٢٢] ثم بين تعالى أمر التمانع بقوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا﴾ أي: في السماء والأرض.
﴿آلِهَةٌ إِلَّا﴾ أي: غيرُ ﴿اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ وذلك بأنه كان يبغي بعضهم على بعض، ويهلك من فيهما؛ لوجود التمانع؛ لأن كل أمر بين اثنين أو أكثر لا يجري على نظام واحد، ثم نزه تعالى نفسه عما وصفه به أهل الجهالة والكفر فقال: ﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾.
...
﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (٢٣)﴾ [الأنبياء: ٢٣].
[٢٣] ثم وصف تعالى نفسه بأنه ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ سؤال إنكار؛ إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء؛ لأنه يضع الأشياء في محلها.
﴿وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ لأنهم عبيد حقيقة، وفي أفعالهم خلل كثير.
***
[٢٤] ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾ استفهام إنكار، وفي تكرار هذا التقرير مبالغة في الإنكار، وزيادة على الأول، وهي قوله: ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ فكأنه قررهم هنا على قصد الكفر بالله تعالى، ثم دعاهم إلى الحجة والإتيان بالبرهان بقوله (١): ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ أي: حجتكم على ذلك ﴿هَذَا﴾ أي: القرآن ﴿ذِكْرُ﴾ عظة ﴿مَنْ مَعِيَ﴾ على ديني. قرأ حفص عن عاصم: (مَعِيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢) ﴿وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي﴾ يعني: الكتب المنزلة، ومعناه: راجعوا القرآن والتوراة والإنجيل وسائر الكتب، هل تجدون فيها أن الله اتخذ ولدًا؟ فلما لم يرجعوا عن كفرهم، أضرب عنهم فقال:
﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ﴾ أي: جميع الكفار.
﴿لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ﴾ القرآنَ والتوحيد؛ لجهلهم.
﴿فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عن النظر فيما يجب عليهم.
...
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)﴾ [الأنبياء: ٢٥].
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٣٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٢).
فقال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ وَحِّدونِ. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (نُوحِي) بالنون وكسر الحاء على التعظيم؛ لقوله: (أَرْسَلْنَا)، وقرأ الباقون: بالياء وفتح الحاء على ما لم يسم فاعله (١)، وقرأ يعقوب: (فَاعْبُدُوني) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (٢).
...
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦)﴾ [الأنبياء: ٢٦].
[٢٦] ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ﴾ نزه نفسه عن ذلك ﴿بَلْ﴾ أي: بل هم.
﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾ مشرفون؛ يعني: الملائكة، وهذا تكذيب وردّ لقول خزاعة: الملائكة بنات الله، والعبودية تنافي الولادة.
...
﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧)﴾ [الأنبياء: ٢٧].
[٢٧] ﴿لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ﴾ أي: يتبعون أمره، ولا يتقدمون قولَه بقولهم.
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٢٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٢).
...
﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨)﴾ [الأنبياء: ٢٨].
[٢٨] ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ ما عملوا، وما هم عاملون.
﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ وهو من قال: لا إله إلا الله.
﴿وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ﴾ هيبته ﴿مُشْفِقُونَ﴾ خائفون.
...
﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)﴾ [الأنبياء: ٢٩].
[٢٩] ثم تهدد المشركين بتهديد من يدعي الربوبية فقال: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ﴾ أي: من جميع الخلائق ﴿إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
وعن ابن عباس قال: "إن الله فضل محمدًا - ﷺ - على أهل السماء، وعلى الأنبياء -صلوات الله عليهم-، قالوا: فما فضله على أهل السماء؟ قال: إن الله قال لأهل السماء: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ﴾ الآية، وقال لمحمد: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١)﴾ [الفتح: ١]، قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله قال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾
﴿فَذَلِكَ﴾ مبتدأ، خبره ﴿نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها.
...
﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (٣٠)﴾ [الأنبياء: ٣٠].
[٣٠] ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قرأ ابن كثير: (أَلَمْ) بغير واو كما هي في المصحف المكي، وقرأ الباقون: بواو قبل اللام كما هي في مصاحفهم (٢)، المعنى: ألم يعلم الكافرون.
﴿أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا﴾ أي: جنساهما.
﴿رَتْقًا﴾ شيئًا واحدًا، والرتق: هو الضم والالتحام.
﴿فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ فصلنا بينهما بالهواء، فجعلت السماء سبعًا، والأرض سبعًا، وعلم الكفار ذلك ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ﴾ النازل من السماء.
﴿كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ أي: أحييناه به؛ لأنه سبب حياته، والنبات داخل فيه.
﴿أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ مع ظهور الآيات؟!
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٨)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٣).
[٣١] ﴿وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾ جبالًا ثوابتَ ﴿أَنْ﴾ أي: لئلَّا.
﴿تَمِيدَ بِهِمْ﴾ أي: تتحرك ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا﴾ في الرواسي ﴿فِجَاجًا﴾ طرقًا واسعة ﴿سُبُلًا﴾ تفسير الفجاج ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ إلى مصالحهم.
...
﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (٣٢)﴾ [الأنبياء: ٣٢].
[٣٢] ﴿وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا﴾ أي: أن تقع على الأرض إلا بإذنه.
﴿وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا﴾ التي فيها من الشمس والقمر والنيرات.
﴿مُعْرِضُونَ﴾ لا يتفكرون فيها، ولا يعتبرون فيؤمنون.
...
﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣)﴾ [الأنبياء: ٣٣].
[٣٣] ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ﴾ تنوينه بدل من محذوف، أي: كل واحد من المذكور ﴿فِي فَلَكٍ﴾ والفلك: مدار النجوم الذي يضمها، والفلك في كلام العرب: كل شيء مستدير، وجمعه أفلاك.
﴿يَسْبَحُونَ﴾ يجرون بسرعة كالسابح، وذكر ضمير (يسبحون)، وجمع جمع العقلاء؛ لوصفهم بالسباحة، وهي فعل من يعقل.
***
[٣٤] ونزل نفيًا للشماتة بالموت لما قال المشركون: إن محمدًا سيموت:
﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ﴾ (١) البقاء.
﴿أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ وحذفت الهمزة من (أَفَهُم)؛ لدلالة الأولى عليها. قرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (مِتَّ) بكسر الميم، والباقون: بضمها (٢).
...
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٣٥)﴾ [الأنبياء: ٣٥].
[٣٥] ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ تزهق بملابسة أيسر جزء من الموت، وهذا تهويل لشأنه.
﴿وَنَبْلُوكُمْ﴾ نختبركم ﴿بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ﴾ بالشدة والرخاء، وكل ما يصح أن يكون ابتلاء.
﴿فِتْنَةً﴾ امتحانًا وكشفًا؛ ليظهر كيف شكركم فيما تحبون، وكيف صبركم فيما تكرهون.
﴿وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ فنجازيكم. قراءة الجمهور: (تُرْجَعُونَ) بالخطاب
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٤).
...
﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٦)﴾ [الأنبياء: ٣٦].
[٣٦] ﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قرأ ورش، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، وخلف، وابن ذكوان بخلاف عنه: (رَآكَ) و (رَآهُ) و (رَآهَا) بإمالة الهمزة والراء، وأمال الدوري عن أبي عمرو الهمزة بخلاف عنه، وأمال السوسي الراء (٢).
﴿إِنْ يَتَّخِذُونَكَ﴾ ما يتخذونك ﴿إِلَّا هُزُوًا﴾ سخريًّا، نزلت في أبي جهل، مر به النبي - ﷺ -، فضحك وقال: هذا نبي بني عبد مناف (٣) ﴿أَهَذَا﴾ أي: يقول بعضهم لبعض: أهذا ﴿الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ﴾ أي: يعيب أصنامكم.
﴿وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ﴾ أي: بما يذكر به من الوحدانية.
﴿هُمْ كَافِرُونَ﴾ جاحدون، وذلك أنهم كانوا يقولون: لا نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب، و (هُمْ) الثانية صلة.
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٥).
(٣) رواه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (٨/ ٢٦٩٨).
[٣٧] ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ أي: مستعجلًا، هذا توطئة للرد عليهم في استعجالهم العذاب، وطلبهم آية مقترحة، وهي مقرونة بعذاب مجهر، ووصف تعالى الإنسان الذي هو اسم الجنس بأنه خُلق من عجل، وقيل: المراد بالإنسان: آدم عليه السلام، لأنه لما دخلت الروح رأسه، أبصر ثمار الجنة، فقام نحوها عَجِلًا قبل أن تبلغ الروح رجليه ﴿سَأُرِيكُمْ آيَاتِي﴾ نقماتي، قيل لهم ذلك على جهة الوعيد أن الآيات ستأتي.
﴿فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ فلا تطلبوا العذاب من قبل وقته، فأراهم يوم بدر.
وقرأ يعقوب: (تستَعْجِلُونِي) بإثبات الياء، والباقون: بحذفها (١).
...
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨)﴾ [الأنبياء: ٣٨].
[٣٨] ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ وقت العذاب.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ يعنون: النبي - ﷺ - وأصحابه.
...
﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩)﴾ [الأنبياء: ٣٩].
[٣٩] ﴿لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ﴾ السياط ﴿وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ يمنعون من العذاب، وجواب
...
﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠)﴾ [الأنبياء: ٤٠].
[٤٠] ﴿بَلْ تَأْتِيهِمْ﴾ الساعة ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة.
﴿فَتَبْهَتُهُمْ﴾ فتحيرهم.
﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ يمهلون.
...
﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٤١)﴾ [الأنبياء: ٤١].
[٤١] ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وخلف: (وَلَقَدُ اسْتُهْزِئَ) بضم الدال في الوصل، وأبو جعفر: على أصله في فتح الياء من غير همز (١).
﴿بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ كما استهزئ بك، فصبروا.
﴿فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ فنزل بالمستهزئين العذاب جزاء استهزائهم.
...
[٤٢] فاصبر أنت، و ﴿قُلْ﴾ للمستهزئين: ﴿مَنْ يَكْلَؤُكُمْ﴾ يحفظكم.
﴿بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ﴾ من عذابه.
﴿بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ﴾ عن القرآن ومواعظه.
﴿مُعْرِضُونَ﴾ لا يُخطرونه ببالهم.
...
﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣)﴾ [الأنبياء: ٤٣].
[٤٣] ﴿أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا﴾ المعنى: أيظنون أن آلهتهم تمنعهم من دوننا؟ ثم وصف الآلهة بالضعف فقال:
﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا﴾ من عذابنا.
﴿يُصْحَبُونَ﴾ يُجارون.
...
﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (٤٤)﴾ [الأنبياء: ٤٤].
[٤٤] ﴿بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ﴾ في الكلام تقدير بعد محذوف؛ كأنه قال: ليس ثَمَّ شيء من هذا كله، بل ضل هؤلاء؛ لأنا متعناهم ومتعنا آباءهم، فنسوا عقاب الله، وظنوا أن حالهم لا يبيد، ثم وقفهم تعالى على مواضع العبر في الأمم في قوله:
﴿أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ أم نحن؟
﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (٤٥)﴾ [الأنبياء: ٤٥].
[٤٥] ﴿قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ﴾ أُخَوفكم ﴿بِالْوَحْيِ﴾ بالقرآن.
﴿وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ﴾ قرأ ابن عامر: (تُسمِعُ) بالتاء وضمها وكسر الميم من أَسمعَ، خطابًا للنبي - ﷺ -، ونصب (الصُّمَّ الدُّعَاءَ) مفعولين، وقرأ الباقون: بالياء مفتوحة غيبًا، وفتح الميم ورفع (الصُّمُّ) فاعلًا، ونصب (الدُّعَاءَ) مفعولًا (١)؛ من سمع، إخبار عن الكفار.
﴿إِذَا مَا يُنْذَرُونَ﴾ أي: هم صم عن الدعاء إلى الإيمان وقت الإنذار. واختلاف القراء في الهمزتين من (الدُّعَاءَ إِذَا) كاختلافهم فيهما من (أَوْلِيَاءَ إِنَّا) في سورة الكهف [الآية: ١٠٢].
﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٤٦)﴾ [الأنبياء: ٤٦].
[٤٦] ﴿وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ﴾ شيء قليل في الدنيا ﴿مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ﴾
﴿يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ بشركنا؛ أي: لدعوا على أنفسهم بالويل، واعترفوا عليها بالظلم.
...
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (٤٧)﴾ [الأنبياء: ٤٧].
[٤٧] ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ﴾ أي: ذوات القسط، والقسط: العدل.
﴿لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أي: لأجله ﴿فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ من الظلم.
وفي الأخبار: أن الميزان له لسان وكفتان، توزن به الأعمال (١)، ليتيين للناس المحسوس المعروف عندهم، والخفة والثقل متعلقة بأجسام يقرنها الله تعالى يومئذ بالأعمال، فإما أن تكون صحف الأعمال، أو مثالات تخلق، أو ما شاء الله تعالى.
﴿وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ صفة لحبة. قرأ نافع، وأبو جعفر: (مِثْقَالُ) برفع اللام على أن (كان) تامة؛ أي: وإن وقع زنة حبة، وقرأ الباقون: بنصب اللام (٢)، على معنى: وإن كان الشيء أو العمل
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٥)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٦٢)، و"النشر في =
﴿بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ حافظين، تَوَعَّدَهم.
...
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (٤٨)﴾ [الأنبياء: ٤٨].
[٤٨] ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ﴾ التوراة ﴿وَضِيَاءً﴾ التوراة أيضًا؛ أي: آتيناهم الفرقان مضيئًا. قرأ قنبل عن ابن كثير: (وَضِئَاءً) بهمزتين قبل الألف وبعدها، وقرأ الباقون: بهمزة واحدة بعد الألف (١) ﴿وَذِكْرًا﴾ عظة ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾.
...
﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩)﴾ [الأنبياء: ٤٩].
[٤٩] ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ﴾ يخافونه في الخلاء كخوفه بين الناس.
﴿وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ﴾ وأهوالها ﴿مُشْفِقُونَ﴾ خائفون.
...
﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)﴾ [الأنبياء: ٥٠].
[٥٠] ﴿وَهَذَا﴾ أي: القرآن ﴿ذِكْرٌ مُبَارَكٌ﴾ لمن تذكَّر به وتبرَّك
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٣٩).
...
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (٥١)﴾ [الأنبياء: ٥١].
[٥١] ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ﴾ نبوته ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل موسى وهارون؛ أي: كما هديناهما وآتيناهما النبوة، هدينا إبراهيم واصطفيناه من قبل ذلك، وقيل معنى: ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: هديناه صغيرًا.
﴿وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ﴾ أخبر تعالى أنه آتاه ذلك وهو عالم أنه لذلك أهل.
...
﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (٥٢)﴾ [الأنبياء: ٥٢].
[٥٢] ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ﴾ تهاونًا بهم.
﴿مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ﴾ الأصنام المصورة.
﴿الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا﴾ أي: عليها ﴿عَاكِفُونَ﴾ والعكوف: الملازمة للشيء، والعامل في (إِذْ) قولُه (آتينا).
...
﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (٥٣)﴾ [الأنبياء: ٥٣].
[٥٣] فلما عجزوا عن الإتيان بالدليل على ذلك ﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾ فقلدناهم.
***
[٥٤] فثم ﴿قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾ الذين قلدتموهم.
﴿فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ خطأ ظاهر.
...
﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥)﴾ [الأنبياء: ٥٥].
[٥٥] ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ﴾ أي: أجادٌّ أنت فيما تقول أم تلعب؟
...
﴿قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦)﴾ [الأنبياء: ٥٦].
[٥٦] فثم أضرب عنهم مخبرًا أنه جِدٌّ، ومثبتًا الربوبية وحدوث الأصنام.
﴿قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ﴾ عبارة عن الأصنام كأنها تعقل، وهذا من حيث لها طاعة وانقياد، وقد وصفت في مواضع بما يوصف به (١) من يعقل؛ أي: فكيف يُعبد المخلوق ويُجحد الخالق؟!
﴿وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ﴾ المذكور من التوحيد ﴿مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ بصحته.
...
﴿وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧)﴾ [الأنبياء: ٥٧].
[٥٧] ﴿وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ﴾ لأكسرن ﴿أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا﴾ عنها
...
﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨)﴾ [الأنبياء: ٥٨].
[٥٨] ثم رجع إبراهيم إلى بيت الآلهة، وكانوا قد وضعوا طعامهم لدى أصنامهم زعموا التبرك عليه، فإذا رجعوا، أكلوه، فلما لم يبق عندهم أحد، أخذ الفأس ودخل عليهم، والطعام لديهم، وقال استهزاء بهم: ﴿أَلَا تَأكُلُونَ﴾ [الصافات: ٩١]، فلم يجيبوه، فأكبَّ عليهم به (١).
﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا﴾ فتاتًا. قرأ الكسائي: بكسر الجيم، والباقون: بضمها، وهما لغتان معناهما واحد (٢)، وقوله: ﴿فَجَعَلَهُمْ﴾ ونحوه معاملة للأصنام بحال من يعقل؛ من حيث كانت تُعبد وتُنزل منزلة من يعقل.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٢٩)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٦٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٤٠).
﴿لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ﴾ إلى الأصنام (١)؛ أي: الصنم الأعظم.
﴿يَرْجِعُونَ﴾ فيسألونه عن كاسرها، وهذا تبكيت لهم، وإثبات للحجة عليهم.
...
﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩)﴾ [الأنبياء: ٥٩].
[٥٩] فلما رجع القوم من عيدهم إلى بيت آلهتهم، ورأوا ذلك ﴿قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ أي: من المجرمين.
...
﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (٦٠)﴾ [الأنبياء: ٦٠].
[٦٠] ﴿قَالُوا﴾ يعني: الذين سمعوا قول إبراهيم: ﴿وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ﴾: ﴿سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ﴾ يعيبهم.
﴿يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ هو الذي نظن أنه صنع هذا.
...
﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١)﴾ [الأنبياء: ٦١].
[٦١] فبلغ ذلك نمرود الجبار وأصحابه ﴿قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ﴾ أي: ظاهرًا بمرأى من الناس.
...
﴿قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ (٦٢)﴾ [الأنبياء: ٦٢].
[٦٢] فلما جيء به ﴿قَالُوا﴾ له: ﴿أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَاإِبْرَاهِيمُ﴾ قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وأبو جعفر، وقالون عن نافع، ورويس عن يعقوب: (أَأَنْتَ) بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والألف، وأبو عمرو، وأبو جعفر، وقالون: يفصلون بين الهمزتين بإلف، وورش: يبدلها ألفًا خالصة، وروي عنه التسهيل بين بين، وقرأ الباقون وهم الكوفيون، وابن ذكوان، وروح: بتحقيق الهمزتين من غير فصل بينهما كل القرآن، واختلف عن هشام في الفصل بألف مع تحقيق الهمزتين، واختلف عنه أيضًا في تسهيل الثانية بين بين وتحقيقها (١).
...
﴿قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣)﴾ [الأنبياء: ٦٣].
[٦٣] ﴿قَالَ﴾ إبراهيم: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ غضب من أن تعبدوا معه هذه الصغار، وهو أكبر منها، فكسرهن، وأراد إبراهيم بذلك إقامة الحجة عليهم، فذلك قوله:
﴿إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ﴾ أي: إن قدروا على النطق، قدروا على الفعل، فأراهم عجزهم عن النطق، وفي ضميره: أنا فعلت ذلك.
عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله - ﷺ - قال: "لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: اثنتين منهن في ذات الله: قوله: ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾، وقوله: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾، وقوله لسارة: هذه أختي" (٢).
وملخص قصة سارة: أنه لما نجى الله خليله - ﷺ - من النمرود الجبار، استجاب له رجال من قومه على خوف من نمرودَ وملئِه، ثم إن إبراهيم وأصحابه أجمعوا على فراق قومهم، فخرج إبراهيم هو وأهله ومن معه، فنزل الرها، ثم سار إلى مصر، وصاحبها فرعون، فَذُكِرَ لفرعون جمال سارة زوج الخليل عليه السلام، وهي ابنة عمه هاران، فسأل إبراهيمَ عنها، فقال: هذه أختي؛ يعني: في الإسلام؛ خوفًا أن يقتله، فقال له: زينها وأرسلها إلي، فأقبلت سارة إلى الجبار، وقام إبراهيم يصلي، فلما دخلت إليه ورآها، أهوى إليها يتناولها بيده، فأيبس الله يده ورجله، فلما تخلى عنها، أطلقه الله، وتكرر ذلك منه، فأطلقها، ووهبها هاجر (٣).
(٢) رواه البخاري (٣١٧٩)، كتاب: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾، ومسلم (٢٣٧١)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل إبراهيم الخليل -عليه السلام-.
(٣) انظر: و"تفسير ابن كثير" (٥/ ٣٥٠)، وأصل القصة في "الصحيح" كما سلف. =
ثم سار إبراهيم من مصر إلى الشام، وأقام بين الرملة وإيليا، فهو أول من هاجر من وطنه في ذات الله، والحديث الوارد أنه لم يكذب إلا ثلاث كذبات ليس هذا من باب الكذب الحقيقي الذي يُذم فاعله، وإنما أطلق الكذب على هذا تجوزًا، ويجوز أن يكون الله عز وجل أذن له في ذلك لقصد الصلاح، وتوبيخهم، والاحتجاج عليهم؛ كما أذن ليوسف عليه السلام حتى أمر مناديه فقال لإخوته: ﴿أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ﴾ [يوسف: ٧٠]، ولم يكونوا سرقوا (١).
...
﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤)﴾ [الأنبياء: ٦٤].
[٦٤] ﴿فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: فتفكروا بقلوبهم، ورجعوا إلى عقولهم.
﴿فَقَالُوا﴾ ما نراه إلا كما قال ﴿إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ﴾ بعبادتكم من لا يتكلم.
...
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٦٥).
[٦٥] ﴿ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ﴾ رُدُّوا إلى الكفر بعد اعترافهم بالظلم، ومنه: نكس المريض: عاد إلى المرض بعد العافية، وأصله قلبُ أعلى الشيء أسفله، وقالوا:
﴿لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ﴾ أي: لقد علمت عجزهم عن المنطق، فكيف نسألهم؟!
...
﴿قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (٦٦)﴾ [الأنبياء: ٦٦].
[٦٦] فلما اتجهت الحجة لإبراهيم عليه السلام ﴿قَالَ﴾ لهم:
﴿أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا﴾ إن عبدتموه.
﴿وَلَا يَضُرُّكُمْ﴾ إن تركتم عبادته؟!
...
﴿أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (٦٧)﴾ [الأنبياء: ٦٧].
[٦٧] ﴿أُفٍّ لَكُمْ﴾ أي: نتنًا وقذرًا لكم ﴿وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ أليس لكم عقل تعرفون هذا الذي يعرفه كل عاقل فتؤمنون؟! قرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب: (أُفَّ) بفتح الفاء من غير تنوين، وقرأ نافع، وأبو جعفر، وحفص عن عاصم: بكسر الفاء مع التنوين، وقرأ الباقون: بكسر الفاء من غير تنوين (١).
[٦٨] فلما لزمتهم الحجة، وعجزوا عن الجواب، أضربوا عن محاجته، ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ﴾ بالنار؛ لأنها أوجح وأبشع.
﴿وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ﴾ على الذي أهانها ﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ النصر لها.
...
﴿قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (٦٩)﴾ [الأنبياء: ٦٩].
[٦٩] فلما جمع نمرود قومه لإحراق إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، حبسوه في بيت بكوثا شهرًا، وبنوا بنيانًا كالحظيرة، قيل: طوله في السماء ثلاثون ذراعًا، وعرضه عشرون ذراعًا، وملؤوه من الحطب، وأوقدوا في نواحيه النيران، فصارت نارًا واحدة شديدة، حتى إن الطير لتحترق إذا مرت بها.
وروي أنهم لم يعلموا كيف يلقونه فيها، فجاء إبليس وعلمهم عمل المنجنيق، فعملوه، وعمدوا إلى إبراهيم عليه السلام، فغلُّوه ووضعوه في كفة المنجنيق، فثم قال إبراهيم: "لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك، فاستغاثت الملائكة قائلة: يا رب! هذا خليلك قد نزل به من عدوك ما أنتَ أعلمُ به، فقال تعالى: إن خليلي ليس في خليل سواه، وأنا إلهه، وليس له إله غيري، فإن استغاث بكم، فانصروه، وإلا، فخلُّوا بيني وبينه، فأتاه خازن المياه فقال له: إن أردت أخمدت النار، وأتاه خازن الرياح فقال له: إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم:
قال ابن عباس: "لو لم يقل: بردًا وسلامًا، [لمات إبراهيم من بردها، ولو لم يقل: على إبراهيم، لبقيت بردًا وسلامًا] (٢) أبدًا" (٣).
وروي أنه لم يبق في ذلك الوقت نار بمشارق الأرض ومغاربها إلا خمدت، ظانة أنها المعنية بالخطاب، قال كعب الأحبار: "جعل كل شيء يطفئ عنه النار إلا الوزغ؛ فإنه كان ينفخ في النار" فلذلك أمر النبي - ﷺ - بقتلها، وسماها فويسقًا (٤).
وعن علي رضي الله عنه: "أن البغال كانت تتناسل، وكانت أسرع الدواب في نقل الحطب لنار إبراهيم، فدعا عليها، فقطع الله نسلها، ولما
(٢) ما بين معكوفتين زيادة من "ت".
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٦٧).
(٤) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ١٦٧)، و"تفسير القرطبي" (١١/ ٣٠٤).
وروي أنه قال: "ما كنت قط أنعمَ مني من الأيام التي كنتُ فيها في النارِ" (٢).
...
﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠)﴾ [الأنبياء: ٧٠].
[٧٠] فلما رأوه، وقد أكرمه الله بما كرمه، آمن بالله جمع كبير في سر؛ خوفًا من نمرود، وخرج إبراهيم من مكانه يمشي، وفارقه جبريل عليه السلام، فأقبل نحو منزله، فأرسل إليه نمرود وسأله عن كسوته ورفيقه، فقال: "إنه ملك أرسله إلي ربي، وقص عليه القصة"، فقال نمرود: إن إلهك الذي تعبده لإله عظيم، وإني مقرب قربانًا إليه؛ لما رأيت من عزته وعظمته وقدرته فيما صنع بك حين أبيت إلا عبادته (٣)، فقرب أربعة آلاف بقرة، ثم احترم إبراهيم بعد ذلك، وكف عنه، وقد عذب الله النمرود بإرسال البعوض عليه وعلى جيشه، فأكلت لحومهم ودماءهم، وتركتهم عظامًا، ودخلت واحدة منها في منخر الملك نمرود، فلبثت في منخره، عذبه الله بها، فكان يضرب رأسه بالمرازب حتى أهلكه الله عز وجل،
(٢) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (١٧/ ٤٤) عن المنهال بن عمرو.
(٣) "إلا عبادته" زيادة من "ت".
﴿وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا﴾ (١) إحراقًا.
﴿فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ في نفقاتهم على كيده.
...
﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (٧١)﴾ [الأنبياء: ٧١].
[٧١] ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا﴾ ولد هارون أخي إبراهيم من نمرود وقومه من أرض العراق.
﴿إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ هي أرض الشام، بارك الله فيها بالخصب وكثرة الأنهار والأشجار، ولأن أكثر الأنبياء يبعثون منها.
روي أنه نزل بفلسطين، ولوط بالمؤتفكة، وبينهما يوم وليلة.
...
﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (٧٢)﴾ [الأنبياء: ٧٢].
[٧٢] ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ﴾ ولده لصلبه بدعائه حيث قال: ﴿هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)﴾ [الصافات: ١٠٠] ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ ولد الولد ﴿نَافِلَةً﴾ زيادة من غير سؤال.
﴿وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ﴾ يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
...
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (٧٣)﴾ [الأنبياء: ٧٣].
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾ وهي جميع الأعمال الصالحة.
﴿وَإِقَامَ الصَّلَاةِ﴾ المحافظة عليها، وحذفت الهاء من (إقامة)؛ لإضافتها إلى الصلاة.
﴿وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ﴾ إعطاءها ﴿وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ موحِّدين.
...
﴿وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (٧٤)﴾ [الأنبياء: ٧٤].
[٧٤] ﴿وَلُوطًا﴾ سمي بذلك؛ لأن حبه لِيطَ بقلب إبراهيم؛ أي: تعلق ولصق، وكان عمه إبراهيم يحبه حبًّا شديدًا، وهو ممن آمن به وهاجر معه إلى مصر وعاد إلى الشام.
﴿آتَيْنَاهُ حُكْمًا﴾ حكمة وفصلًا بين الخصوم ﴿وَعِلْمًا﴾ بما ينبغي علمه
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٤٢ - ١٤٣).
﴿الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ﴾ أي: يعمل أهلها.
﴿الْخَبَائِثَ﴾ إتيان الرجال، وقطع السبل، والمكس، وغير ذلك من المعاصي.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ﴾ بعملهم الخبائث.
...
﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)﴾ [الأنبياء: ٧٥].
[٧٥] ﴿وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا﴾ أي: في أهل رحمتنا.
﴿إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الذين سبقت لهم منا الحسنى.
...
﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦)﴾ [الأنبياء: ٧٦].
[٧٦] ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى﴾ دعا على قومه ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل إبراهيم ولوط ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ﴾ الغرق، وتكذيب قومه.
...
﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧)﴾ [الأنبياء: ٧٧].
[٧٧] ﴿وَنَصَرْنَاهُ﴾ منعناه ﴿مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أن يصلوا إليه بسوء.
...
﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (٧٨)﴾ [الأنبياء: ٧٨].
[٧٨] ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾ أي: اذكرهما ﴿إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ﴾ كان زرعًا أو كرمًا ﴿إِذ نَفَشَتْ فِيهِ﴾ دخلت فيه ﴿غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ فأكلته، والنفش: انتشار الغنم ليلًا بلا راع، وأصله الانتشار.
﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ أي: عالمين، لا يخفى علينا علمه، جمع اثنين فقال: ﴿لِحُكْمِهِمْ﴾ وهو يريد داود وسليمان؛ لأن الاثنين جمع، وهو مثل قوله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ﴾ [النساء: ١١]، وهو يريد: أخوين، وقيل: ﴿لِحُكْمِهِمْ﴾ أي: لحكم الحاكمينِ والمتحاكمين، وأقل الجمع ثلاثة حقيقة بالاتفاق.
...
﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (٧٩)﴾ [الأنبياء: ٧٩].
[٧٩] ﴿فَفَهَّمْنَاهَا﴾ أي: الحكومة ﴿سُلَيْمَانَ﴾ وعلمناه القضية.
فيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان؛ لأن الغنم رعت الزرع بلا راع ليلًا، فتحاكما إلى داود، فحكم لصاحب الزرع بالغنم، فقال سليمان: غير هذا أرفق بهما، وكان سنه إحدى عشرة سنة، فعزم عليه داود بالأبوة
وأما في شريعتنا، فما أفسدته البهائم من الزرع والشجر وغيرهما نهارًا بلا راع، فلا ضمان على ربها عند مالك والشافعي وأحمد، وما أفسدته ليلًا، ففيه الضمان عندهم إن فرط، وإلا، فلا؛ لأن في عرف الناس أن أصحاب الزرع يحفظونه بالنهار، والمواشي تسرح بالنهار، وترد بالليل إلى المراح.
وعند أبي حنيفة: لا ضمان في ذلك في ليل ولأنهار، إلا أن يكون معها سائق أو قائد، إلا أن ترسل عمدًا.
واختلفوا فيما أتلفت من الأنفس والأموال سوى الزروع والثمار، فقال مالك: لا ضمان على ربها في ليل ولا نهار، وقال الشافعي: يضمن ما أتلفت من نفس ومال إذا كان معها ليلًا أو نهارًا، فإن بالت أو راثت بطريق، فتلف به نفس أو مال، فلا ضمان عليه، وقال أبو حنيفة وأحمد: إذا كانت يزيد راكب أو سائق أو قائد، فيضمن ما جنت يدها أو فمها، أو وطؤها برجلها، وقيد أحمد بما [إذا كان قادرًا على التصرف فيها، ولا يضمن عندهما ما نفحت برجلها، وقيد أحمد] (١) بما إذا لم يكبحها؛ أي: يجد بها زيادة على المعتاد، أو يضربها على وجهها، ولا يضمن عندهما ما جنت بذنبها، والله أعلم.
وتقدم ذكر مذاهب الأئمة في جواز اجتهاد النبي - ﷺ - في أمر الدنيا، وحكم المجتهدين بعده في سورة التوبة عند ذكر قصة حنين، ومما يوضح أن داود وسليمان كانا على الصواب قوله: ﴿وَكُلًّا﴾ يعني: داود وسليمان.
﴿آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾ الفهم في القضاء والنبوة.
قال الحسن: لولا هذه الآية، لرأيت الحكام قد هلكوا، ولكن الله تعالى حمد هذا بصوابه، وأثنى على هذا باجتهاده (١).
﴿وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ﴾ يقدسن الله تعالى معهُ.
﴿وَالطَّيْرَ﴾ عطف على الجبال.
﴿وَكُنَّا فَاعِلِينَ﴾ قادرين على المذكور من التسبيح والتفهيم، وكان داود يفهم تسبيح الحجر والشجر، وكانت الجبال تجاوبه بالتسبيح، وكذلك الطير.
...
_________
(١) انظر: "الأم" للإمام الشافعي (٧/ ٩٣)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (١٠/ ١١٨).
[٨٠] ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ﴾ دروع ﴿لَكُمْ﴾ واللبوس في اللغة: اسم لكل ما يُلبس في الأسلحة، والمراد: الدروع؛ لأنها كانت من صفائح، فهو أول من سردها وحلقها؛ لتجتمع التحفة والحصانة.
﴿لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ﴾ أي: يحرزكم من الحرب. قرأ أبو جعفر، وابن عامر، وحفص عن عاصم: بالتاء على التأنيث، يعني: الصنعة، ورواه أبو بكر، ورويس عن يعقوب: بالنون إلى الله تعالى لقوله: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ﴾، وقرأ الباقون: بالياء على التذكير؛ أي: داود (١).
﴿فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ﴾ نعمتنا عليكم؟ خطاب لداود وأهل بيته، وقيل: لأهل مكة، فهل أنتم شاكرون نعمتي بطاعة الرسول؟
...
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (٨١)﴾ [الأنبياء: ٨١].
[٨١] ﴿وَلِسُلَيْمَانَ﴾ أي: وسخرنا لسليمان ﴿الرِّيحَ﴾ وهي هواء متحرك، وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه، ويظهر للحس بحركته، وتذكر وتؤنث. قرأ أبو جعفر: (الرِّيَاحَ) بألف بعد الياء على
﴿تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ هي الشام، فكانت تسير به وبجنده على البساط، وكان عرضه فرسخًا في فرسخ، منسوج بإبريسم، عملته له الجن -حيث شاء، ثم يعود من يومه إلى منزله، وكان يقيل بمكان بينه وبينه شهر، ويمسي بآخر بينه وبينه شهر، وكان يغدو من إيلياء فيقيل بإصطخر، ثم يروح منها فيكون رواحها بكابل، وكان مقامه بتدمر، بناها له الشياطين بالصّفّاح والعَمَد وألوان الرخام.
﴿وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ علمناه.
﴿عَالِمِينَ﴾ بصحة التدبير فيه، فنفعل مقتضى الحكمة.
...
﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (٨٢)﴾ [الأنبياء: ٨٢].
[٨٢] ﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ﴾ أي: وسخرنا منهم ﴿مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ﴾ في البحر لاستخراج الدُّرِ ونحوه ﴿وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ﴾ أي: سواه من الأعمال.
﴿وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾ لئلا يعصوه، ولئلا يفسدوا عملهم، لأنهم كانوا إذا فرغوا من عمل قبل الليل، أفسدوه إن لم يشتغلوا بغيره.
...
[٨٣] ﴿وَأَيُّوبَ﴾ أي: واذكره ﴿إِذْ نَادَى رَبَّهُ﴾ لما ابتلي بفقد جميع ماله وولده، وتمزيق جسده، وكان برًّا تقيًّا رحيمًا بالمساكين، مؤديًا لحق الله، شاكرًا لأنعم الله، وتقدم ذكر نسبه في سورة النساء، وكان صاحب أموال عظيمة، وكانت له الثنية جميعها من أعمال دمشق ملكها، فابتلاه الله تعالى بأن أذهب أمواله حتى صار فقيرًا، ثم ابتلاه في جسده حتى تجذم ودوَّد، وبقي رميًّا على مزبلة لا يطيق أحدٌ أن يشم رائحته (١)، ورفضه كل الناس غير زوجته رحمة بنت أفراييم بن يوسف بن يعقوب عليهم السلام؛ فإنها استمرت صابرة تخدمه حتى باعت ظفيرتها بشيء أكله، فتزايا لها إبليس، وقال لها: اسجدي لي لأرد مالكم، فاستأذنت أيوب، فغضب وحلف ليضربنها مئة، ثم عافاه الله تعالى بعد ثلاث سنين، أو سبع، ورزقه، ورد على امرأته شبابها وحسنها، وولدت له ستة وعشرين ذكرًا،
...
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (٨٤)﴾ [الأنبياء: ٨٤].
[٨٤] ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ نداءه ﴿فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ﴾ أولاده، روي أن الله تعالى أحياهم ﴿وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ آتاه الله مثلهم.
﴿رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا﴾ لأيوب ﴿وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ﴾ عظة للمطيعين؛ ليصبروا كصبره، فيثابوا كثوابه، وتأتي تتمة قصته في سورة (ص) إن شاء الله تعالى.
سئل رسول الله - ﷺ -: أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل
(٢) رواه هنّاد بن السّري في "الزهد" (١/ ٢٣٩)، وابن حبان في "المجروحين" (٣/ ١٢٢)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (٩٧٨٨)، والديلمي في "مسند الفردوس" (٩٧٠)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
...
﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥)﴾ [الأنبياء: ٨٥].
[٨٥] ﴿وَإِسْمَاعِيلَ﴾ يعني: ابن إبراهيم.
﴿وَإِدْرِيسَ﴾ تقدم ذكره في سورة مريم.
﴿وَذَا الْكِفْلِ﴾ هو بشر بن أيوب، بعثه الله بعد أبيه، وسماه ذا الكفل، وكان مقامه بالشام، وقبره في قرية كفل حارس من أعمال نابلس، وسمي بذلك؛ لأنه تكفل بصيام جميع نهاره، وقيام جميع ليله، وأن يقضي بين الناس ولا يغضب، فوفى، فشكر الله له، ونبأه، فسمي ذا الكفل.
﴿كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ على أمر الله.
...
﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦)﴾ [الأنبياء: ٨٦].
[٨٦] ﴿وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا﴾ يعني: النبوة.
﴿إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الكاملين في الصلاح، فإن الأنبياء صلاحهم معصوم عن كدر الفساد.
...
[٨٧] ﴿وَذَا النُّونِ﴾ أي: اذكر صاحب الحوت، وهو يونس بن متى عليه السلام، سمي به لابتلاع النون إياه، وهو الحوت.
﴿إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾ غضب على قومه لكفرهم، لا مغاضبًا لربه؛ إذ مغاضبة الله معاداة له، ومعاداة الله كفر لا تليق بالمؤمنين، فكيف بالأنبياء؟!
﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ﴾ أي: نُضَيِّق ﴿عَلَيْهِ﴾ قراءة العامة: بالنون مفتوحة وكسر الدال، وقرأ يعقوب: بالياء مضمومة وفتح الدال مخففة على المجهول (١).
﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾ بطن الحوت والبحر والليل ﴿أَنْ﴾ أي: بأن ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ بمغاضبتي، روي عن النبي - ﷺ - أنه قال: وإما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له" (٢).
...
(٢) رواه التر مذي (٣٥٠٥)، كتاب: الدعوات، باب: (٨٢)، والنسائي في "السنن الكبرى" (١٠٤٩٢)، والإمام أحمد في "المسند" (١/ ١٧٠)، وغيرهم عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه-.
[٨٨] ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ أجبناه ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ﴾ من تلك الظلمات.
﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ من كل كرب إذا استغاثوا بنا. قرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (نُجِّي) بنون واحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء، على معنى: (نُنَجِّي)، ثم حذفت إحدى النونين تَخفيفًا، كما جاء عن ابن كثير وغيره قراءة ﴿وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾ في الفرقان [الآية: ٢٥]، قال الإمام أبو الفضل الرازي في كتابه "اللوامح": ﴿وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا﴾ على حذف النون الذي هو فاء الفعل من (نُنَزِّل). قراءة أهل مكة ووجه النضب في المؤمنين: أن المصدر قام مقام الفاعل، فبقي الـ (المؤمنين) مفعولًا به صريحًا، تقديره: نجي النجاء المؤمنين، ونظيره ﴿ليَجْزِىَ قَوْمَا﴾ على قراءة أبي جعفر في الجاثية [الآية: ١٤]؛ أي: ليجزي الجزاء قومًا، وقرأ الباقون: بنونين، الثانية ساكنة مع تخفيف الجيم مستقبل أنجينا، وقد اعترض الزمخشري وغيره على قراءة ابن عامر وأبي بكر، وزعموا أنها لحن، فرد الكواشي اعتراضهم، وبين وجه الصحة فيها، وأشبع الكلام في ذلك (١).
...
وملخص قصته: أن الحوت التقمه، فكان يونس يسجد على قلب الحوت، والحوت يقول: يا يونس! أسمعني تسبيح المغمومين، وهو يقول: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾، فتقول الملائكة: "إلهنا! إنا نسمع تسبيح مكروب، كان لك شاكرًا، اللهم فارحمه في كربته وغربته"، واختلف في مدة لبثه، فمنهم من قال: أربعين يومًا، وقيل: ثلاثة أيام، فلما انقضت مدة قدرها الله تعالى له، أمر الحوت أن يرده إلى الموضع الذي أخذه منه، فشق ذلك على الحوت؛ لاستئناسه بذكر الله
...
﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (٨٩)﴾ [الأنبياء: ٨٩].
[٨٩] ﴿وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى﴾ دعا.
﴿رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا﴾ بلا ولد يرثني.
...
﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (٩٠)﴾.
[٩٠] ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى﴾ ولدًا.
﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ بتحسين خَلْقها وخُلقها، وجعلِها ولودًا بعد العقم ﴿إِنَّهُمْ﴾ أي: مَنْ ذُكر من الأنبياء.
﴿كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾ يبادرون في عمل الطاعات.
﴿وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ طمعًا وخوفًا.
﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ متواضعين ذللًا. قرأ الدوري عن الكسائي: ﴿يُسَارِعُونَ﴾ بالإمالة، وأمال أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف: (مُوسَى) و (عِيسَى) و (يَحْيَى) حيث وقع (١).
...
﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٩١)﴾.
[٩١] ﴿وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ منعته مما لا يحل، وهي مريم بنت عمران.
﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ دلالة على كمال قدرتنا حمل امرأة بلا مساسة ذكر، وكون ولد من غير أب، ووحد الآية، ولم يقل: آيتين؛ لأن معنى الكلام: وجعلنا شأنهما آية؛ لأن الآية فيهما واحدة.
...
﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢)﴾.
[٩٢] ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ الأمة: الملة، و (هذه) إشارة إلى الإسلام، فأبطل ما سواه من الأديان، و (أمتكم) رفع خبر (إن)، و (أمة واحدة) نصب حال.
﴿وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ قرأ يعقوب: (فَاعْبُدُونِي) بإثبات الياء (١).
...
﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (٩٣)﴾.
[٩٣] ثم التفت من الخطاب إلى الغيبة فقال: ﴿وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ﴾ أي: اختلفوا في الدين، فصاروا فرقًا.
﴿كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ﴾ فنجازيه.
...
[٩٤] ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ﴾ لا يجحد عمله ﴿وَإِنَّا لَهُ﴾ للسعي ﴿كَاتِبُونَ﴾ في صحيفة عمله، فنثيبه عليه.
...
﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (٩٥)﴾.
[٩٥] ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ أي: وحرام على أهل قرية حكمنا بإهلاكهم أن تقبل أعمالهم؛ لأنهم لا يرجعون عن كفرهم، وقيل: المعنى: حرام عليهم الرجوع إلى الدنيا بعد الهلاك. قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: (وَحِرْمٌ) بكسر الحاء وإسكان الراء من غير ألف، والباقون: بفتح الحاء والراء وألف بعدها، ومعناهما واحد؛ لأنهما لغتان مثل حِلّ وحلال (١).
...
﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦)﴾.
[٩٦] ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ﴾ أي: فتح سدهما. قرأ ابن عامر، وأبو جعفر، ورويس عن يعقوب: (فُتِّحَتْ) بالتشديد على التكثير،
﴿وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ﴾ هو المكان المرتفع ﴿يَنْسِلُونَ﴾ يسرعون.
...
﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (٩٧)﴾.
[٩٧] ﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾ هو يوم القيامة ﴿فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ﴾ مرتفعة الأجفان ﴿أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ فلا تكاد تطرف؛ لهول ما ترى، يقولون:
﴿يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا﴾ اليوم.
﴿بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾ بوضعنا العبادة في غير موضعها.
...
﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (٩٨)﴾.
[٩٨] ونزل خطابًا لعابدي الأصنام وإبليس وأتباعه:
(٢) عند تفسير الآية (٩٤) منها.
﴿أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ فيها داخلون.
...
﴿لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (٩٩)﴾.
[٩٩] ثم وبخهم، وأخبرهم أن آلهتهم يدخلون النار بقوله: ﴿لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ﴾؛ أي: الأصنام ﴿آلِهَةً﴾ على الحقيقة ﴿مَا وَرَدُوهَا﴾ لأن المؤاخذ المعذب لا يكون إلهًا.
﴿وَكُلٌّ﴾ من العابد والمعبود منهم ﴿فِيهَا خَالِدُونَ﴾ لا خلاص لهم منها. قرأ الكوفيون، وابن عامر، وروح عن يعقوب: ﴿هَؤُلاَءِ آلِهَةً﴾ بتحقيق الهمزتين، وقرأ الباقون: بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وهي أن تبدل ياء (١).
...
﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (١٠٠)﴾.
[١٠٠] ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ﴾ أنين وتنفس شديد.
﴿وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ﴾ شيئًا؛ لشدة غليان النار، ولما بهم من الألم، ومنعوا السمع؛ لأن فيه (٢) أنسًا.
(٢) في "ت": "فيها".
[١٠١] ولما سمع عبد الله بن الزبعرى السهمي ذلك، قال للنبي - ﷺ -: أليس اليهود عبدوا عزيرًا، والنصارى المسيح، وبنو مليح الملائكة؟ فنزل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا﴾ (١) المنزلة ﴿الْحُسْنَى﴾ السعادة، يعني: عزيرًا والمسيح والملائكة.
﴿أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾ وأنزل في ابن الزبعرى: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨)﴾ [الزخرف: ٥٨].
...
﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ خَالِدُونَ (١٠٢)﴾.
[١٠٢] ﴿لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا﴾ صوتها الخفي إذا دخلوا الجنة.
﴿وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ﴾ من النعيم ﴿خَالِدُونَ﴾ مقيمون.
...
﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)﴾.
[١٠٣] ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ﴾ قرأ أبو جعفر: بضم الياء وكسر الزاي، والباقون: بفتح الياء وضم الزاي (٢) ﴿الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ النفخة الآخرة
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٣).
﴿هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ فيه الجنة والثواب.
...
﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (١٠٤)﴾.
[١٠٤] ﴿يَوْمَ﴾ أي: واذكر يوم ﴿نَطْوِي السَّمَاءَ﴾ وطيُّها: تكوير نجومها، ومحو رسومها. قرأ أبو جعفر: (تُطْوَى) بالتاء وضمها على التأنيث وفتح الواو ورفع (السَّمَاءُ) على ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون: بالنون مفتوحة على التعظيم وكسر الواو ونصب (السَّمَاءَ) (١).
﴿كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (لِلْكُتُبِ) بضم الكاف والتاء من غير ألف على الجمع، وقرأ الباقون: بكسر الكاف وفتح التاء مع الألف على الإفراد (٢)، و (السِّجِل) الصحيفة (للكتب)؛ أي: لأجل ما كتب، معناه: كطي الصحيفة على مكتوبها، والسجل: اسم مشتق من المساجلة، وهي المكاتبة، والطيُّ: هو الدرج الذي ضد النشر، ثم أومأ إلى تبديل السماء فقال:
﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ نرده مثل أول خلقه، وأول خلقه إيجاد
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٣١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ١٩٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٥).
﴿وَعْدًا عَلَيْنَا﴾ مصدر مؤكد؛ لأن نعيده عِدة بالإعادة.
﴿إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ ذلك.
...
﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)﴾.
[١٠٥] ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ﴾ وفي جميع الكتب المنزلة. قرأ حمزة، وخلف: (الزُّبُورِ) بضم الزاي، والباقون: بفتحها (١).
﴿مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ أي: اللوح المحفوظ؛ لأنها كلها أخذت منه ﴿أَنَّ الْأَرْضَ﴾ أي: أرض الجنة، أو الأرض المقدسة.
﴿يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ هو محمد - ﷺ - وأمته، يفتحون أرض الكفار، ويدخلون الجنة. قرأ حمزة: (عِبَادِي الصَّالِحُونَ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (٢).
...
﴿إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (١٠٦)﴾ [الأنبياء: ١٠٦].
[١٠٦] ﴿إِنَّ فِي هَذَا﴾ أي: القرآن ﴿لَبَلَاغًا﴾ لكفاية.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٥٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٥).
...
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (١٠٧)﴾ [الأنبياء: ١٠٧].
[١٠٧] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ جميعًا، فهو رحمة للمؤمن في الدارين، وللكافر في الدنيا بتأخير عذاب الاستئصال والمسخ ونحوه.
...
﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨)﴾ [الأنبياء: ١٠٨].
[١٠٨] ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ منزه عما لا يليق بصفات الوحدانية ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ استفهام بمعنى الأمر؛ أي: آمنوا بالمذكور.
...
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (١٠٩)﴾ [الأنبياء: ١٠٩].
[١٠٩] ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن الإيمان ﴿فَقُلْ آذَنْتُكُمْ﴾ أعلمتكم.
﴿عَلَى سَوَاءٍ﴾ فاستوينا في العلم بما أعلمتكم به ﴿وَإِنْ أَدْرِي﴾ وما أعلم.
﴿أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ﴾ أي: لا أعلم متى يحل بكم العذاب، وهو (١) أهولُ وأخوفُ.
...
[١١٠] ﴿إِنَّهُ﴾ الضمير عائد إلى الله عز وجل ﴿يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ﴾ وفي هذه الآية تهديد؛ أي: يعلم جميع الأشياء الواقعة منكم، وهو بالمرصاد في الجزاء عليها.
...
﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (١١١)﴾ [الأنبياء: ١١١].
[١١١] ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ﴾ أي: تأخير العذاب عنكم.
﴿فِتْنَةٌ لَكُمْ﴾ أي: اختبار؛ ليرى كيف صنيعكم، وهو أعلم.
﴿وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ أي: تمتعون إلى انقضاء آجالكم.
...
﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١١٢)﴾ [الأنبياء: ١١٢].
[١١٢] ﴿قَالَ﴾ قرأ حفص عن عاصم: (قَالَ) بالألف إخبار عن النبي - ﷺ -، وقرأ الباقون: (قُلْ) بغير ألف على الأمر (١)؛ أي: أمره الله تعالى أن يقول على جهة الدعاء: ﴿رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ وقرأ أبو جعفر: (رَبُّ) بضم الباء، وقال ابن الجزري: ووجهه أنه لغة معروفة جائزة في نحو يا غلامي تنبيهًا على الضم، وأنت تنوي الإضافة، وليس ضمه على أنه منادى مفرد؛ كما ذكره أبو الفضل الرازي؛ لأن هذا ليس من نداء النكرة المقبل عليها،
﴿وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ من الكذب والباطل. قرأ الدوري عن ابن ذكوان: (يَصِفُونَ) بالغيب، وقرأ الباقون: بالخطاب (٣)، والله أعلم.
...
(٢) انظر: "القراءات الشاذة" لابن خالويه (ص: ٩٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٧)، وهذه القراءة ليست متواترة عن يعقوب.
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٤٣٢)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣١٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٤/ ١٥٧).