قال وهب بن منبه : من أحب أن يعرف قضاء الله عز وجل في خلقه فليقرأ سورة الغرف. وهي مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد. وقال ابن عباس : إلا آيتين نزلتا بالمدينة، إحداهما :" الله نزل أحسن الحديث " [ الزمر : ٢٣ ] والأخرى " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " [ الزمر : ٥٣ ] الآية. وقال آخرون : إلا سبع آيات من قوله تعالى :" قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم " [ الزمر : ٥٣ ] إلى آخر سبع آيات نزلت في وحشي وأصحابه على ما يأتي. روى الترمذي عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ الزمر وبني إسرائيل. وهي خمس وسبعون آية. وقيل : اثنتان وسبعون آية.
ﰡ
[تفسير سورة الزمر]
سورة الزمر يقال سُورَةُ الْغُرَفِ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَعْرِفَ قَضَاءَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ في خلفه لفليقرأ سُورَةَ الْغُرَفِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَجَابِرٍ بْنِ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِلَّا آيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ إِحْدَاهُمَا" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ" [الزمر: ٢٣] وَالْأُخْرَى" قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ" [الزمر: ٥٣] الْآيَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِلَّا سَبْعَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ" [الزمر: ٥٣] إِلَى آخِرِ سَبْعِ آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي وَحْشِيٍّ وَأَصْحَابِهِ عَلَى مَا يَأْتِي. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الزُّمَرَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ. وَهِيَ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ آيَةً. وَقِيلَ: اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ آيَةً.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ١ الى ٤]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)قَوْلُهُ تَعَالَى:" تَنْزِيلُ الْكِتابِ" رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ" مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِمَعْنَى هَذَا تَنْزِيلٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ. وَأَجَازَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ أَيْضًا" تَنْزِيلُ" بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَيِ اتَّبِعُوا وَاقْرَءُوا" تَنْزِيلُ الْكِتابِ". وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ عَلَى الْإِغْرَاءِ مِثْلَ قَوْلِهِ:" كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ" [النساء: ٢٤] أَيِ الْزَمُوا. وَالْكِتَابُ الْقُرْآنُ. سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مكتوب.
(٢). راجع ج ٥ س ٤٢٥ طبعه أولى أو ثانيه.
(٣). راجع ج ١١ ص ٦٩ وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٥ الى ٦]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ" أَيْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى الْكَمَالِ الْمُسْتَغْنِي عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ، وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَحَقُّهُ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعِبَادَةِ لَا أَنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ. وَنَبَّهَ بِهَذَا عَلَى أَنْ يَتَعَبَّدَ الْعِبَادَ بِمَا شَاءَ وَقَدْ فَعَلَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ" قَالَ الضَّحَّاكُ: أَيْ يُلْقِي هَذَا عَلَى هَذَا وَهَذَا عَلَى هَذَا. وَهَذَا عَلَى مَعْنَى التَّكْوِيرِ فِي اللُّغَةِ وَهُوَ طَرْحُ الشَّيْءِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، يُقَالُ كَوَّرَ الْمَتَاعَ أَيْ أَلْقَى بَعْضَهُ على بعض،
(٢). راجع ص ٢٩ وما بعدها من هذا الجزء طبعه أولى أو ثانية.
(٣). راجع ج ٧ ص ٣٣٧ طبعه أولى أو ثانية.
[سورة الزمر (٣٩): آية ٧]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ" شَرْطٌ وَجَوَابُهُ." وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ" أَيْ إِنْ يَكْفُرُوا أَيْ لَا يُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْكُفْرَ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ:" إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ" [الإسراء: ٦٥]. وكقوله:" عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ" [الإنسان: ٦] أَيِ الْمُؤْمِنُونَ. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الرِّضَا وَالْإِرَادَةِ. وَقِيلَ: لَا يَرْضَى الْكُفْرَ وَإِنْ أَرَادَهُ، فَاللَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَبِإِرَادَتِهِ كَفَرَ لَا يَرْضَاهُ وَلَا يُحِبُّهُ، فَهُوَ يُرِيدُ كَوْنُ مَا لَا يَرْضَاهُ، وَقَدْ أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَلْقَ إِبْلِيسَ وَهُوَ لَا يَرْضَاهُ، فَالْإِرَادَةُ غَيْرُ الرِّضَا. وَهَذَا مذهب أهل السنة.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٨ الى ٩]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ" يَعْنِي الْكَافِرَ" ضُرٌّ" أَيْ شِدَّةٌ مِنَ الْفَقْرِ وَالْبَلَاءِ" دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ" أَيْ رَاجِعًا إِلَيْهِ مُخْبِتًا مُطِيعًا لَهُ مُسْتَغِيثًا بِهِ فِي إِزَالَةِ تِلْكَ الشِّدَّةِ عَنْهُ." ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ" أَيْ أَعْطَاهُ وَمَلَّكَهُ. يُقَالُ: خَوَّلَكَ اللَّهُ الشَّيْءَ أَيْ مَلَّكَكَ إِيَّاهُ، وَكَانَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ يُنْشِدُ:
هُنَالِكَ إِنْ يُسْتَخْوَلُوا الْمَالَ يُخْوِلُوا | وَإِنْ يَسْأَلُوا يُعْطَوْا وَإِنْ يَيْسِرُوا يُغْلُوا «٤» |
(٢). في الأصول: ورش عن نافع، وفي البيضاوي: وقرا ابن كثير ونافع في رواية إلخ يعنى ورواية أخرى بالاختلاس كما هو المشهور في رواية ورش. [..... ]
(٣). راجع ج ٧ ص ١٥٧ طبعه أولى أو ثانية. وج ١٠ ص ٢٣٠ طبعه أولى أو ثانية.
(٤). البيت لزهبر، ويروى: هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا. والإخيال الإعارة أي يستعيرون الناقة للانتفاع بألبانها وأوبارها والفرس للغزو عليها. وإن ييسروا يغلوا: أي إذا قامروا بالميسر يأخذون. سمان الإبل فيقامرون عليها.
أعطى فلم يبخل ولبخل | وكوم الذُّرَى مِنْ خَوَلِ الْمُخَوَّلِ |
أبني لبيني لستم بيد | وإلا يَدًا لَيْسَتْ لَهَا عَضُدُ |
أَدَارًا بِحُزْوَى هِجْتِ لِلْعَيْنِ عَبْرَةً | وفماء الْهَوَى يَرْفَضُّ أَوْ يَتَرَقْرَقُ |
[سورة الزمر (٣٩): آية ١٠]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا" أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِعِبَادِيَ الْمُؤْمِنِينَ" اتَّقُوا رَبَّكُمْ أَيِ اتَّقُوا مَعَاصِيهِ وَالتَّاءُ مُبْدَلَةٌ مِنْ وَاوٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ إِلَى الْحَبَشَةِ. ثُمَّ قَالَ:" لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ" يَعْنِي بِالْحَسَنَةِ الْأُولَى الطَّاعَةَ وَبِالثَّانِيَةِ الثَّوَابَ فِي الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةٌ فِي الدُّنْيَا، يَكُونُ ذَلِكَ زِيَادَةً عَلَى ثَوَابِ الْآخِرَةِ، والحسنة الزائد فِي الدُّنْيَا الصِّحَّةُ وَالْعَافِيَةُ وَالظَّفَرُ وَالْغَنِيمَةُ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّ الْكَافِرَ قَدْ نَالَ نِعَمَ الدُّنْيَا. قُلْتُ: وَيَنَالُهَا مَعَهُ الْمُؤْمِنُ وَيُزَادُ الْجَنَّةَ إِذَا شَكَرَ تِلْكَ النِّعَمَ. وَقَدْ تَكُونُ الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا الثَّنَاءَ الْحَسَنَ، وَفِي الْآخِرَةِ الْجَزَاءَ." وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ" فَهَاجِرُوا فِيهَا وَلَا تُقِيمُوا مَعَ مَنْ يَعْمَلُ بِالْمَعَاصِي. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا مُسْتَوْفًى فِي" النِّسَاءِ" «٢» وَقِيلَ: الْمُرَادُ أَرْضُ الْجَنَّةِ، رَغَّبَهُمْ فِي سَعَتِهَا وَسَعَةِ نعيمها، كما قال:" عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ" [آل عمران: ١٣٣] والجنة قد تسمى أرضا،
(٢). راجع ج ٥ ص ٣٤٨ وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
مستوفى.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ١١ الى ١٦]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ" تَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ" وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ" مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَكَذَلِكَ كَانَ فَإِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ مَنْ خَالَفَ دِينَ آبَائِهِ وَخَلَعَ الْأَصْنَامَ وَحَطَّمَهَا، وَأَسْلَمَ لِلَّهِ وَآمَنَ بِهِ، وَدَعَا إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ:" لِأَنْ أَكُونَ" صلة زائدة، قاله الْجُرْجَانِيُّ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: لَامُ أَجْلٍ. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ أَيْ أُمِرْتُ بِالْعِبَادَةِ" لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ". يريد عذاب يوم القيامة. وقاله حِينَ دَعَاهُ قَوْمُهُ إِلَى دِينِ آبَائِهِ، قَالَ أكثر أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ" [الفتح: ٢] فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُغْفَرَ ذنب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ١٧ الى ١٨]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها" قَالَ الْأَخْفَشُ: الطَّاغُوتُ جَمْعٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاحِدَةً مُؤَنَّثَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ «١». أَيْ تَبَاعَدُوا مِنَ الطَّاغُوتِ وَكَانُوا مِنْهَا عَلَى جَانِبٍ فَلَمْ يَعْبُدُوهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هُوَ الْأَوْثَانُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ الْكَاهِنُ. وَقِيلَ إِنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مِثْلَ طَالُوتَ وَجَالُوتَ وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ مُشْتَقٌّ مِنَ الطُّغْيَانِ، وَ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نصب بدلا من الطاغوت، تقديره: والذين
[سورة الزمر (٣٩): آية ١٩]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ" كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرِصُ عَلَى إِيمَانِ قَوْمٍ وَقَدْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الشَّقَاوَةَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَبَا لَهَبٍ وَوَلَدَهُ وَمَنْ تَخَلَّفَ مِنْ عَشِيرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ. وَكَرَّرَ الِاسْتِفْهَامَ فِي قَوْلِهِ:" أَفَأَنْتَ" تَأْكِيدًا لِطُولِ الْكَلَامِ، وَكَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ" [المؤمنون: ٣٥] عَلَى مَا تَقَدَّمَ «١». وَالْمَعْنَى:" أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ" أَفَأَنْتَ تُنْقِذُهُ. وَالْكَلَامُ شَرْطٌ وَجَوَابُهُ. وجئ بِالِاسْتِفْهَامِ، لِيَدُلَّ عَلَى التَّوْقِيفِ وَالتَّقْرِيرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: المعنى أفأنت تنقذ من حقت عليه
[سورة الزمر (٣٩): آية ٢٠]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ" لَمَّا بَيَّنَ أن للكفار ظلا مِنَ النَّارِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ بَيَّنَ أَنَّ لِلْمُتَّقِينَ غُرَفًا فَوْقَهَا غُرَفٌ، لِأَنَّ الْجَنَّةَ دَرَجَاتٌ يَعْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا وَ" لكِنِ" لَيْسَ للاستدرار، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ نَفْيٌ كَقَوْلِهِ: مَا رَأَيْتُ زَيْدًا لَكِنْ عَمْرًا، بَلْ هُوَ لِتَرْكِ قِصَّةٍ إِلَى قِصَّةٍ مُخَالِفَةٍ لِلْأُولَى كَقَوْلِكَ: جَاءَنِي زَيْدٌ لَكِنْ عَمْرٌو لَمْ يَأْتِ." غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ زَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ" تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ" أَيْ هِيَ جَامِعَةٌ لِأَسْبَابِ النُّزْهَةِ." وَعْدَ اللَّهِ" نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّ مَعْنَى" لَهُمْ غُرَفٌ" وَعَدَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ وَعْدًا. وَيَجُوزُ الرَّفْعُ بِمَعْنَى ذَلِكَ وَعْدُ اللَّهِ." لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ" أي ما وعد الفريقين.
[سورة الزمر (٣٩): آية ٢١]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً" أَيْ إِنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ فِي إِحْيَاءِ الْخَلْقِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ كَمَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِنْزَالِ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ." أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ" أَيْ مِنَ السحاب" ماء" أي المطر" فسلكه" أَيْ فَأَدْخَلَهُ فِي الْأَرْضِ
يَنْبَاعُ من ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أن معناه ينبع فأشبع الفتحة فصارت ألفا، نبوعا خرج. والينبوع عين الماء والجمع الينابيع. وقد مضى في " سبحان ". " ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه " ثم يخرج به أي بذلك الماء الخارج من ينابيع الأرض " زرعا " هو للجنس أي زروعا شتى لها ألوان مختلفة، حمرة وصفرة وزرقة وخضرة ونورا. قال الشعبي والضحاك : كل ماء في الأرض فمن السماء نزل، إنما ينزل من السماء إلى الصخرة، ثم تقسم منها العيون والركايا. " ثم يهيج " أي ييبس. " فتراه " أي بعد خضرته " مصفرا " قال المبرد قال الأصمعي : يقال هاجت الأرض تهيج إذا أدبر نبتها وولى. قال : كذلك هاج النبت. قال : وكذلك قال غير الأصمعي. وقال الجوهري : هاج النبت هياجا أي يبس. وأرض هائجة يبس بقلها أو اصفر، وأهاجت الريح النبت أيبسته، وأهيجنا الأرض أي وجدناها هائجة النبات، وهاج هائجه أي ثار غضبه، وهدأ هائجه أي سكنت فورته. " ثم يجعله حطاما " أي فتاتا مكسرا من تحطم العود إذا تفتت من اليبس. والمعنى أن من قدر على هذا قدر على الإعادة. وقيل : هو مثل ضربه الله للقرآن ولصدور من في الأرض، أي أنزل من السماء قرآنا فسلكه في قلوب المؤمنين " ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه " أي دينا مختلفا بعضه أفضل من بعض، فأما المؤمن فيزداد إيمانا ويقينا، وأما الذي في قلبه مرض فإنه يهيج كما يهيج الزرع. وقيل : هو مثل ضربه الله للدنيا ؛ أي كما يتغير النبت الأخضر فيصفر كذلك الدنيا بعد بهجتها. " إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب ".
يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ
أَنَّ مَعْنَاهُ يَنْبُعُ فَأَشْبَعَ الْفَتْحَةَ فَصَارَتْ أَلِفًا، نُبُوعًا خَرَجَ. وَالْيَنْبُوعُ عَيْنُ الْمَاءِ وَالْجَمْعُ الْيَنَابِيعُ. وَقَدْ مَضَى فِي" سُبْحانَ" «٢»." ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ" أَيْ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْخَارِجِ مِنْ يَنَابِيعِ الْأَرْضِ" زَرْعاً" هُوَ لِلْجِنْسِ أَيْ زُرُوعًا شَتَّى لَهَا أَلْوَانٌ مُخْتَلِفَةٌ، حُمْرَةً وَصُفْرَةً وَزُرْقَةً وَخُضْرَةً وَنُورًا. قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: كُلُّ مَاءٍ فِي الْأَرْضِ فَمِنَ السَّمَاءِ نَزَلَ، إِنَّمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الصَّخْرَةِ، ثُمَّ تُقْسَمُ مِنْهَا الْعُيُونُ وَالرَّكَايَا." ثُمَّ يَهِيجُ" أَيْ يَيْبَسُ." فَتَراهُ" أَيْ بَعْدَ خُضْرَتِهِ" مُصْفَرًّا" قَالَ الْمُبَرِّدُ قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: يُقَالُ هَاجَتِ الْأَرْضُ تَهِيجُ إِذَا أَدْبَرَ نَبْتُهَا وَوَلَّى. قَالَ: كَذَلِكَ هَاجَ النَّبْتُ. قَالَ: وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ الْأَصْمَعِيِّ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: هَاجَ النَّبْتُ هِيَاجًا أَيْ يَبِسَ. وَأَرْضٌ هَائِجَةٌ يَبِسَ بَقْلُهَا أَوِ اصْفَرَّ، وَأَهَاجَتِ الرِّيحُ النَّبْتَ أَيْبَسَتْهُ، وَأَهْيَجْنَا الْأَرْضَ أَيْ وَجَدْنَاهَا هَائِجَةَ النَّبَاتِ، وَهَاجَ هَائِجُهُ أَيْ ثَارَ غَضَبُهُ، وَهَدَأَ هَائِجُهُ أَيْ سَكَنَتْ فَوْرَتُهُ." ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا" أَيْ فُتَاتًا مُكَسَّرًا مِنْ تَحَطَّمَ الْعُودُ إِذَا تَفَتَّتَ مِنَ الْيُبْسِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى هَذَا قَدَرَ عَلَى الْإِعَادَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْقُرْآنِ وَلِصُدُورِ مَنْ فِي الْأَرْضِ، أَيْ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ قُرْآنًا فَسَلَكَهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ" ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ" أَيْ دِينًا مُخْتَلِفًا بَعْضُهُ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَزْدَادُ إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَأَمَّا الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ فَإِنَّهُ يَهِيجُ كَمَا يَهِيجُ الزَّرْعُ. وَقِيلَ: هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلدُّنْيَا، أَيْ كَمَا يَتَغَيَّرُ النَّبْتُ الْأَخْضَرُ فَيَصْفَرُّ كَذَلِكَ الدُّنْيَا بَعْدَ بَهْجَتِهَا." إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ".
[سورة الزمر (٣٩): آية ٢٢]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)
زيافة مثل الفنيق المقرم
(٢). راجع ج ١٠ ص ٣٣٠ طبعه أولى أو ثانيه.
، [سورة الزمر (٣٩): آية ٢٣]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)
فِيهِ ثلاث مسائل: الاولى- قوله تعالى:" نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ" يَعْنِي الْقُرْآنَ لَمَّا قَالَ" فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ" بَيَّنَ أَنَّ أَحْسَنَ مَا يُسْمَعُ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْقُرْآنُ. قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ حَدَّثْتَنَا فَأَنْزَلَ اله عَزَّ وَجَلَّ" اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ" فَقَالُوا: لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنَا فَنَزَلَ" نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ" فَقَالُوا: لَوْ ذَكَّرْتَنَا فَنَزَلَ" أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ" الْآيَةَ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملموا مَلَّةً فَقَالُوا لَهُ: حَدِّثْنَا فَنَزَلَتْ. وَالْحَدِيثُ مَا يُحَدِّثُ بِهِ الْمُحَدِّثُ. وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ حَدِيثًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحدث به
فَبِتُّ أكابد ليل التمام «١» | ووالقلب مِنْ خَشْيَةٍ مُقْشَعِرُّ |
تَرْصِيعِهِ وَتَهَيُّبًا لِمَا فِيهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ" [الحشر: ٢١] فَالتَّصَدُّعُ قَرِيبٌ مِنَ الِاقْشِعْرَارِ، وَالْخُشُوعُ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ:" ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ" وَمَعْنَى لِينِ الْقَلْبِ رِقَّتُهُ وَطُمَأْنِينَتُهُ وَسُكُونُهُ." ذلِكَ هُدَى اللَّهِ" أَيِ الْقُرْآنُ هُدَى اللَّهِ. وقيل: أي الذي وهبه الله لهؤلاء منخشية عِقَابِهِ وَرَجَاءِ ثَوَابِهِ هُدَى اللَّهِ." وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ" أَيْ مَنْ خَذَلَهُ فَلَا مُرْشِدَ لَهُ. وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ مَضَى مَعْنَى هَذَا كُلِّهِ مُسْتَوْفًى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَوَقَفَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ عَلَى قَوْلِهِ:" هادٍ" في الموضعين بالياء، الباقون بغير ياء.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٢٤ الى ٢٦]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ" قَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ زَيْدٍ: يُرْمَى بِهِ مَكْتُوفًا في النار فأول شي تَمَسُّ مِنْهُ النَّارُ وَجْهَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ أَنَّ الْكَافِرَ يُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ مَغْلُولَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ، وَفِي عُنُقِهِ صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ كَالْجَبَلِ الْعَظِيمِ مِنَ الْكِبْرِيتِ، فَتَشْتَعِلُ النَّارُ فِي الْحَجَرِ وَهُوَ مُعَلَّقٌ فِي عُنُقِهِ، فَحَرُّهَا وَوَهَجُهَا عَلَى وَجْهِهِ، لَا يُطِيقُ دَفْعَهَا عَنْ وَجْهِهِ مِنْ أَجْلِ الْأَغْلَالِ. وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ. قَالَ الْأَخْفَشُ: أَيْ" أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ" أَفْضَلُ أَمْ مَنْ سُعِدَ، مِثْلَ:" أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ" [فصلت: ٤٠]." وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ" أَيْ وَتَقُولُ الْخَزَنَةُ لِلْكَافِرِينَ" ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ" أَيْ جَزَاءَ كَسْبِكُمْ مِنَ الْمَعَاصِي. وَمِثْلُهُ" هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ" [التوبة: ٣٥]. قَوْلُهُ تَعَالَى:" كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ. فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا" تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ «١». وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ لِكُلِّ مَا نَالَ الْجَارِحَةَ مِنْ شي قَدْ ذَاقَتْهُ، أَيْ وَصَلَ إِلَيْهَا كَمَا تَصِلُ الْحَلَاوَةُ وَالْمَرَارَةُ إِلَى الذَّائِقِ لَهُمَا. قَالَ: وَالْخِزْيُ مِنَ الْمَكْرُوهِ وَالْخَزَايَةُ مِنَ الِاسْتِحْيَاءِ" وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ" أَيْ مِمَّا أَصَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا" لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ".
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
وَقَدْ أَتَاكَ يَقِينٌ غَيْرُ ذِي عِوَجٍ | ومن الْإِلَهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوبِ |
[سورة الزمر (٣٩): آية ٢٩]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ" قَالَ الْكِسَائِيُّ: نُصِبَ" رَجُلًا" لِأَنَّهُ تَرْجَمَةٌ لِلْمَثَلِ وَتَفْسِيرٌ لَهُ، وَإِنْ شِئْتَ نَصَبْتَهُ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، مَجَازُهُ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بِرَجُلٍ" فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ" قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ مُخْتَلِفُونَ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ مُتَعَاسِرُونَ مِنْ شَكِسَ يَشْكُسُ شُكْسًا بِوَزْنِ قُفْلٍ «١» فَهُوَ شَكِسٌ مِثْلَ عَسُرَ يَعْسُرُ عُسْرًا فَهُوَ عَسِرٌ، يُقَالُ: رَجُلٌ شَكِسٌ وَشَرِسٌ وَضَرِسٌ وضبس. ويقال: رجل ضبس وضبيس أي
شَكْسٌ عَبُوسٌ عَنْبَسٌ عَذَوَّرُ
وَقَوْمٌ شُكْسٌ مِثَالُ رَجُلٍ صَدْقٍ وَقَوْمٌ صُدْقٌ. وَقَدْ شَكِسَ بِالْكَسْرِ شَكَاسَةٍ. وَحَكَى الْفَرَّاءُ: رَجُلٌ شَكْسٌ. وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَهَذَا مَثَلُ مَنْ عَبَدَ آلِهَةً كَثِيرَةً." وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ" أَيْ خَالِصًا لِسَيِّدٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ مَثَلُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ." هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا" هَذَا الَّذِي يَخْدُمُ جَمَاعَةً شُرَكَاءَ أَخْلَاقُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ وَنِيَّاتُهُمْ مُتَبَايِنَةٌ، لَا يَلْقَاهُ رَجُلٌ إِلَّا جَرَّهُ وَاسْتَخْدَمَهُ، فَهُوَ يَلْقَى مِنْهُمُ الْعَنَاءَ وَالنَّصَبَ وَالتَّعَبَ الْعَظِيمَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا يُرْضِي وَاحِدًا مِنْهُمْ بِخِدْمَتِهِ لِكَثْرَةِ الْحُقُوقِ فِي رَقَبَتِهِ، وَالَّذِي يَخْدُمُ وَاحِدًا لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ أَحَدٌ، إِذَا أَطَاعَهُ وَحْدَهُ عَرَفَ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنْ أَخْطَأَ صَفَحَ عن خطأه، فَأَيُّهُمَا أَقَلُّ تَعَبًا أَوْ عَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ. وقرا أهل الكوفة واهل المدينة:" ورجلا سالما" وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَعَاصِمٌ الْجَحْدَرِيُّ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ وَيَعْقُوبُ:" وَرَجُلًا سَالِمًا" وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ لِصِحَّةِ التَّفْسِيرِ فِيهِ. قَالَ: لِأَنَّ السَّالِمَ الْخَالِصَ ضِدُّ الْمُشْتَرَكِ، وَالسَّلَمَ ضِدُّ الْحَرْبِ وَلَا مَوْضِعَ لِلْحَرْبِ هُنَا. النَّحَّاسُ: وَهَذَا الِاحْتِجَاجُ لَا يَلْزَمُ، لِأَنَّ الْحَرْفَ إِذَا كَانَ لَهُ مَعْنَيَانِ لَمْ يُحْمَلْ إِلَّا عَلَى أَوْلَاهُمَا، فَهَذَا وَإِنْ كَانَ السَّلَمُ ضِدَّ الْحَرْبِ فَلَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ، كَمَا يُقَالُ لَكَ فِي هَذَا الْمَنْزِلِ شُرَكَاءُ فَصَارَ سَلَمًا لَكَ. وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا فِي سَالِمٍ مَا أَلْزَمَ غَيْرَهُ، لِأَنَّهُ يُقَالُ شي سَالِمٌ أَيْ لَا عَاهَةَ بِهِ. وَالْقِرَاءَتَانِ حَسَنَتَانِ قَرَأَ بِهِمَا الْأَئِمَّةُ. وَاخْتَارَ أَبُو حَاتِمٍ قِرَاءَةَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ" سَلَمًا" قَالَ وَهَذَا الَّذِي لَا تنازع فيه. وقرا سعيد ابن جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَنَصْرٌ" سِلْمًا" بِكَسْرِ السِّينِ وَسُكُونِ اللَّامِ. وَسَلَمًا وَسِلْمًا مَصْدَرَانِ، وَالتَّقْدِيرُ: وَرَجُلًا ذَا سِلْمٍ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَ" مَثَلًا" صِفَةٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، وَالْمَعْنَى هَلْ تَسْتَوِي صِفَاتُهُمَا وَحَالَاهُمَا. وَإِنَّمَا اقْتُصِرَ فِي التَّمْيِيزِ عَلَى الْوَاحِدِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ." الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" الحق فيتبعونه.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٣٠ الى ٣١]
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)قرأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ" إِنَّكَ مَائِتٌ وَإِنَّهُمْ مَائِتُونَ" وَهِيَ قِرَاءَةٌ حَسَنَةٌ وَبِهَا قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ. النَّحَّاسُ: وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَلِفِ تُحْذَفُ فِي الشَّوَاذِّ وَ" مَائِتٌ" فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِثْلُهُ مَا كَانَ مَرِيضًا وَإِنَّهُ لَمَارِضٌ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: الْمَيِّتُ بِالتَّشْدِيدِ مَنْ لَمْ يَمُتْ وَسَيَمُوتُ، وَالْمَيْتُ بِالتَّخْفِيفِ مَنْ فَارَقَتْهُ الرُّوحُ، فَلِذَلِكَ لَمْ تُخَفَّفْ هُنَا. قَالَ قَتَادَةُ: نُعِيَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسُهُ، وَنُعِيَتْ إِلَيْكُمْ أَنْفُسُكُمْ. وَقَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: نَعَى رَجُلٌ إِلَى صِلَةَ بْنِ أَشْيَمَ أَخًا لَهُ فَوَافَقَهُ يَأْكُلُ، فَقَالَ: ادْنُ فَكُلْ فَقَدْ نُعِيَ إِلَيَّ أَخِي مُنْذُ حِينٍ، قَالَ: وَكَيْفَ وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ أَتَاكَ بِالْخَبَرِ. قَالَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَعَاهُ إِلَيَّ فَقَالَ:" إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ". وَهُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ بِمَوْتِهِ وَمَوْتِهِمْ، فَاحْتَمَلَ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا مِنَ الْآخِرَةِ. الثَّانِي أَنْ يَذْكُرَهُ حَثًّا عَلَى الْعَمَلِ. الثَّالِثُ أَنْ يَذْكُرَهُ تَوْطِئَةً لِلْمَوْتِ. الرَّابِعُ لِئَلَّا يَخْتَلِفُوا فِي مَوْتِهِ كَمَا اخْتَلَفَتِ الْأُمَمُ فِي غَيْرِهِ، حَتَّى إِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَنْكَرَ مَوْتَهُ احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَأَمْسَكَ. الْخَامِسُ لِيُعْلِمَهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ سَوَّى فِيهِ بَيْنَ خَلْقِهِ مَعَ تَفَاضُلِهِمْ فِي غَيْرِهِ، لِتَكْثُرَ فِيهِ السَّلْوَةُ وَتَقِلَّ فِيهِ الْحَسْرَةُ" ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ" يَعْنِي تَخَاصُمَ الْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَالظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَفِي خَبَرٍ فِيهِ طُولٌ: إِنَّ الْخُصُومَةَ تَبْلُغُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى أَنْ يُحَاجَّ الرُّوحُ الْجَسَدَ. وَقَالَ الزُّبَيْرُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُكَرَّرُ عَلَيْنَا مَا كَانَ بَيْنَنَا فِي الدُّنْيَا مَعَ خَوَاصِّ الذُّنُوبِ؟ قَالَ:" نَعَمْ لَيُكَرَّرَنَّ عَلَيْكُمْ حَتَّى يُؤَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ" فَقَالَ الزُّبَيْرُ: وَاللَّهِ إِنَّ الْأَمْرَ لَشَدِيدٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرِنَا وَنَحْنُ نَرَى هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِينَا وَفِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ:" ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ" فَقُلْنَا: وَكَيْفَ نَخْتَصِمُ وَنَبِيُّنَا وَاحِدٌ وَدِينُنَا وَاحِدٌ، حَتَّى رَأَيْتُ
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٣٢ الى ٣٥]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)
أثوى وقصر ليلة ليزودا | وومضى وَأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدَا |
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٣٦ الى ٣٧]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ" حُذِفَتِ الْيَاءُ مِنْ" كَافٍ" لِسُكُونِهَا وَسُكُونِ التَّنْوِينِ بَعْدَهَا، وَكَانَ الْأَصْلُ أَلَّا تُحْذَفَ فِي الْوَقْفِ لِزَوَالِ التَّنْوِينِ، إِلَّا أَنَّهَا حُذِفَتْ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي الْوَصْلِ. وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يُثْبِتُهَا فِي الْوَقْفِ عَلَى الْأَصْلِ فَيَقُولُ: كَافِي. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" عَبْدَهُ" بِالتَّوْحِيدِ يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْفِيهِ اللَّهُ وَعِيدَ الْمُشْرِكِينَ وَكَيْدَهُمْ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" عِبَادَهُ" وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ أَوِ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُؤْمِنُونَ بهم. واختار أبو عبيد قِرَاءَةَ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ عَقِيبَهُ:" وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ". وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ لَفْظَ الْجِنْسِ، كَقَوْلِهِ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:" إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ" [العصر: ٢] وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى رَاجِعَةً إِلَى الثَّانِيَةِ. وَالْكِفَايَةُ شَرُّ الْأَصْنَامِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُخَوِّفُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَصْنَامِ، حَتَّى قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ." وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ" [الأنعام: ٨١]. وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: إِنَّ اللَّهَ كَافٍ عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ وعبده الكافر، هذا بالثواب وهذا بالعقاب.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٣٨ الى ٤١]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ" أَيْ ولين سَأَلْتَهُمْ يَا مُحَمَّدُ" مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" بَيَّنَ أَنَّهُمْ مَعَ عِبَادَتِهِمُ الْأَوْثَانَ مُقِرُّونَ بِأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ اللَّهُ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ هُوَ الْخَالِقُ فَكَيْفَ يُخَوِّفُونَكَ بِآلِهَتِهِمُ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ الذي خلقها وخلق السموات وَالْأَرْضَ." قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ" أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ بَعْدَ اعْتِرَافِهِمْ بِهَذَا" أَفَرَأَيْتُمْ" إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ" بِشِدَّةٍ وَبَلَاءٍ" هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ" يَعْنِي هَذِهِ الْأَصْنَامَ" أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ
الضَّارِبُونَ عميرا عن بيوتهم | وبالليل يَوْمَ عُمَيْرٌ ظَالِمٌ عَادِي |
هَلْ أَنْتَ بَاعِثُ دِينَارٍ لحاجتنا | واو عَبْدِ رَبٍّ أَخَا عَوْنِ بْنِ مِخْرَاقِ |
أحكم كحكم فتاه الحي إذ نظرات | وإلى حَمَامٍ شَرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ «٣» |
(٢). راجع ج ٤ ص ١٨٩ وص ٢٥٣ طبعه أولى أو ثانية.
(٣). يقول الشاعر للنعمان بن المنذر وكان واجدا عليه: كن حكيما في أمرى كحكم زرقاء اليمامة في حزرها للحمام التي مرت طائرة بها. وخبرها مشهور. والشراع: الموضع الذي ينحدر منه إلى الماء والثمد: الماء القليل على وجه الأرض.
(٤). راجع ج ٧ ص ٨٩ طبعه أولى أو ثانية.
[سورة الزمر (٣٩): آية ٤٢]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها" أَيْ يَقْبِضُهَا عِنْدَ فَنَاءِ آجَالِهَا" وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها" اخْتُلِفَ فِيهِ. فَقِيلَ: يَقْبِضُهَا عَنِ التَّصَرُّفِ مَعَ بَقَاءِ أَرْوَاحِهَا فِي أَجْسَادِهَا" فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى " وَهِيَ النَّائِمَةُ فَيُطْلِقُهَا بِالتَّصَرُّفِ إِلَى أَجَلِ مَوْتِهَا، قَالَ ابْنُ عِيسَى «٢». وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى وَيَقْبِضُ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ أَجَلِهَا. قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ تَوَفِّيهَا نَوْمَهَا، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ وَفَاتُهَا نَوْمُهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ تَلْتَقِي فِي الْمَنَامِ فَتَتَعَارَفُ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْهَا، فَإِذَا أَرَادَ جَمِيعُهَا الرُّجُوعَ إِلَى الْأَجْسَادِ أَمْسَكَ اللَّهُ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ عِنْدَهُ، وَأَرْسَلَ أَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ إِلَى أَجْسَادِهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّ اللَّهَ يَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْأَمْوَاتِ إِذَا مَاتُوا، وَأَرْوَاحَ الْأَحْيَاءِ إِذَا نَامُوا، فَتَتَعَارَفُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَتَعَارَفَ" فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى " أَيْ يُعِيدُهَا. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَمَا رَأَتْهُ نَفْسُ النَّائِمِ وَهِيَ فِي السَّمَاءِ قَبْلَ إِرْسَالِهَا إِلَى جَسَدِهَا فَهِيَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، وَمَا رَأَتْهُ بَعْدَ إِرْسَالِهَا وَقَبْلَ اسْتِقْرَارِهَا فِي جَسَدِهَا تُلْقِيهَا الشَّيَاطِينُ، وَتُخَيِّلُ إِلَيْهَا الْأَبَاطِيلَ فَهِيَ الرؤيا الكاذبة.
(٢). في نسخة: قاله أبو عيسى.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٤٣ الى ٤٥]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ" أَيْ بَلِ اتَّخَذُوا يَعْنِي الْأَصْنَامَ وَفِي الْكَلَامِ مَا يَتَضَمَّنُ لَمْ، أَيْ" إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" لَمْ يَتَفَكَّرُوا وَلَكِنَّهُمُ اتَّخَذُوا آلِهَتَهُمْ شُفَعَاءَ." قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً" أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ أَتَتَّخِذُونَهُمْ شُفَعَاءَ وإن كانوا
(٢). راجع ج ١ ص ٣٢٣ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
إِذَا عَضَّ الثِّقَافُ بِهَا اشْمَأَزَّتْ | وَوَلَّتْهُمْ عَشَوْزَنَةً زَبُونَا «١» |
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٤٦ الى ٤٨]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي مَا كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨)
فإن قناتنا يا عمرو أعيت | - على الأعداء قبلك أن تلينا |
(٢). راجع ج ٩ ص ٣٠٧ طبعه أولى أو ثانية. [..... ]
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٤٩ الى ٥٢]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ مَا كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا" قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ." ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ" قَالَ قَتَادَةُ:" عَلى عِلْمٍ" عِنْدِي بِوُجُوهِ الْمَكَاسِبِ، وَعَنْهُ أَيْضًا" عَلى عِلْمٍ" على خير عندي قيل:" عَلى عِلْمٍ" أَيْ عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ بِفَضْلِي. وَقَالَ الْحَسَنُ:" عَلى عِلْمٍ" أَيْ بِعِلْمٍ عَلَّمَنِي اللَّهُ إِيَّاهُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ قَدْ عَلِمْتُ أَنِّي إِذَا أُوتِيتُ هَذَا فِي الدُّنْيَا أَنَّ لِي عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً،" فَقَالَ اللَّهُ:" بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ" أَيْ بَلِ النِّعَمُ الَّتِي أُوتِيتَهَا فِتْنَةٌ تُخْتَبَرُ بِهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: أَنَّثَ" هِيَ" لِتَأْنِيثِ الْفِتْنَةِ، وَلَوْ كَانَ بَلْ هُوَ فِتْنَةٌ لَجَازَ. النَّحَّاسُ: التَّقْدِيرُ بَلْ أَعْطَيْتُهُ فِتْنَةً." وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ" أَيْ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ إِعْطَاءَهُمُ الْمَالَ اخْتِبَارٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى:" قَدْ قالَهَا" أُنِّثَ عَلَى تَأْنِيثِ الْكَلِمَةِ." الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ" يَعْنِي الْكُفَّارَ قَبْلَهُمْ كَقَارُونَ وَغَيْرِهِ حَيْثُ قَالَ:" إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي"." فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ"" مَا" لِلْجَحْدِ أَيْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا أَوْلَادَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا. وَقِيلَ:
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٥٣ الى ٥٩]
قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ" وَإِنْ شِئْتَ حَذَفْتَ الْيَاءَ، لِأَنَّ النِّدَاءَ مَوْضِعُ حَذْفٍ. النَّحَّاسُ: وَمِنْ أَجَلِّ مَا رُوِيَ فِيهِ مَا رَوَاهُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعْنَا على الهجرة، اتعدت
(٢). راجع ج ١٣ ص ٧٦ وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه.
(٢). راجع ج ٩ ص ٢٨٥ طبعه أولى أو ثانية.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٣٦ طبعه أولى أو ثانية.
وَرُبَّ بَقِيعٍ لَوْ هَتَفْتُ بِجَوِّهِ | أَتَانِي كَرِيمٌ يَنْفُضُ الرَّأْسَ مُغْضَبَا |
يَا مَرْحَبَاهُ بِحِمَارٍ نَاجِيَهْ «١» | إِذَا أَتَى قَرَّبْتُهُ لِلسَّانِيَهْ |
قُسِمَ مَجْهُودًا لِذَاكَ الْقَلْبُ | النَّاسُ جَنْبٌ وَالْأَمِيرُ جَنْبُ |
أَلَا تَتَّقِينَ اللَّهَ فِي جَنْبِ عَاشِقٍ | لَهُ كَبِدٌ حَرَّى عَلَيْكِ تَقَطَّعُ |
لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي | أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ |
فَمَا لَكَ مِنْهَا غَيْرُ ذِكْرَى وَخَشْيَةٍ | وَتَسْأَلَ عَنْ رُكْبَانِهَا أَيْنَ يَمَّمُوا فنصب |
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٦٠ الى ٦٤]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤)
أَلَّا أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى «٢»
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الوجه قراءة من قرأ" أعبد" بالنصب.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ) قِيلَ: إِنَّ فِي الْكَلَامِ تقديما وتأخيرا، والقدير: لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ وَأُوحِيَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ كَذَلِكَ، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى بَابِهِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّوْحِيدُ مَحْذُوفٌ، ثُمَّ قَالَ:" لَئِنْ أَشْرَكْتَ" يَا مُحَمَّدُ (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) وَهُوَ خطاب للنبي
(٢). البيت من معلقة طرفة وتمامه:
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
.
: [سورة الزمر (٣٩): الآيات ٦٧ الى ٦٨]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) قَالَ الْمُبَرِّدُ: مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ مِنْ قَوْلِكَ فُلَانٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ، قَالَ النَّحَّاسُ: وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا وَمَا عظموه حق عظمته إذ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ وَهُوَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ وَمَالِكُهَا، ثم أخبر عن قدرته وعظمته فقال: (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ). ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ ذلك بجارحة
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ | تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ باليمين «١» |
الشَّمْسَ أَشْرَقَ نُورُهَا | تَنَاوَلْتُ مِنْهَا حَاجَتِي بِيَمِينِ |
«١» قَتَلْتُ شُنَيْفًا ثُمَّ فَارَانَ بَعْدَهُ | وَكَانَ عَلَى الْآيَاتِ غَيْرَ أَمِينِ |
(٢). راجع ج ١ ص ١٤٢ طبعه ثانية أو ثالثة.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٢٣٩ وما بعدها طبعه أولى أو ثانية.
(٤). راجع ج ط ص ٢٠ طبعه أولى أو ثانية.
(٢). راجع ج ١٣ ص ٢٤١ طبعه أولى أو ثانية.
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠)
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً" هَذَا بَيَانُ تَوْفِيَةِ كُلِّ نَفْسٍ عَمَلَهَا، فَيُسَاقُ الْكَافِرُ إِلَى النَّارِ وَالْمُؤْمِنُ إِلَى الْجَنَّةِ. وَالزُّمَرُ: الْجَمَاعَاتُ وَاحِدَتُهَا زُمْرَةٌ كَظُلْمَةٍ وَغُرْفَةٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ:" زُمَراً" جَمَاعَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ بَعْضُهَا إِثْرَ بَعْضٍ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَتَرَى النَّاسَ إِلَى مَنْزِلِهِ... وزمرا تنتابه بعد زمر
وقال آخر:
حتى أحزأت... وزمر بعد زمر
[سورة الزمر (٣٩): الآيات ٧٣ الى ٧٥]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً" يَعْنِي مِنَ الشُّهَدَاءِ وَالزُّهَّادِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنِ اتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى وَعَمِلَ بِطَاعَتِهِ. وَقَالَ فِي حَقِّ الْفَرِيقَيْنِ" وَسِيقَ" بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، فَسَوْقُ أَهْلِ النَّارِ طَرْدُهُمْ إِلَيْهَا بالخزي والهوان، كما يفعل بالأسارى والخارجين
(٢). راجع ج ١٠ ص ١٠٠ طبعه أولى أو ثانيه.
فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً | - وَلَكِنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أَنْفُسَا |
(٢). راجع ج ٨ ص ٢٧١ طبعه أولى أو ثانيه.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٣٨٢ وما بعدها طبعه أولى أو ثانيه. [..... ]
[تفسير سورة غافر]
تفسير سُورَةُ غَافِرٍ وَهِيَ سُورَةُ الْمُؤْمِنِ، وَتُسَمَّى سُورَةُ الطَّوْلِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَعِكْرِمَةَ وَجَابِرٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ إِلَّا قَوْلَهُ:" وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ" [غافر: ٥٥] لِأَنَّ الصَّلَوَاتِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْهَا نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ وَهُمَا" إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ" [غافر: ٥٦] والتي بعدها. وهي خمس وَثَمَانُونَ آيَةً. وَفِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كُنَّ الْحَوَامِيمَ يُسَمَّيْنَ الْعَرَائِسَ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" الْحَوَامِيمُ دِيبَاجُ الْقُرْآنِ" وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: وَآلُ حم سُوَرٌ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: آلُ حم دِيبَاجُ الْقُرْآنِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِكَ آلُ فُلَانٍ وَآلُ فُلَانٍ كَأَنَّهُ نَسَبَ السُّورَةَ كُلَّهَا إِلَى حم، قَالَ الْكُمَيْتُ:وَجَدْنَا لَكُمْ فِي آلِ حَامِيمَ آيَةً | - تَأَوَّلَهَا مِنَّا تَقِيٌّ وَمُعْزِبُ «١» |
وَبِالْحَوَامِيمِ الَّتِي قَدْ سُبِّغَتْ «٢»
قَالَ: وَالْأَوْلَى أَنْ تُجْمَعَ بِذَوَاتِ حم. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" لكل شي ثَمَرَةٌ وَإِنَّ ثَمَرَةَ الْقُرْآنِ ذَوَاتُ حَم هُنَّ روضا ت حِسَانٌ مُخَصَّبَاتٌ مُتَجَاوِرَاتٌ فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَرْتَعَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَلْيَقْرَأِ الْحَوَامِيمَ". وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" مَثَلُ الْحَوَامِيمِ فِي الْقُرْآنِ كَمَثَلِ الْحَبِرَاتِ فِي الثِّيَابِ" ذَكَرَهُمَا الثَّعْلَبِيُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَحَدَّثَنِي حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: رَأَى رَجُلٌ سَبْعَ جَوَارٍ حِسَانٍ مُزَيَّنَاتٍ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لِمَنْ أَنْتُنَّ بَارَكَ اللَّهُ فِيكُنَّ فَقُلْنَ نَحْنُ لِمَنْ قَرَأَنَا نَحْنُ الْحَوَامِيمُ.
(٢). صدره:
وبالطواسين التي قد ثلثت.