تفسير سورة الأحقاف

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

فقالوا لها: أصابك اللات والعزى، فردّ الله عليها بصرها، فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيرًا.. ما سبقتنا إليه زِنِّيرَةُ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال ابن عباس والكلبي والزجاج: إنّ الذين كفروا هم بنو عامر وغطفان وتميم وأسد وحنظلة وأشجع، قالوا لمن أسلم من غفار وأسلم وجهينة ومزينة وخزاعة: لو كان ما جاء به محمد خيرًا، ما سبقتنا إليه رعاة البهم، إذ نحن أعز منهم.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿حم (١)﴾؛ أي: هذه السورة (١) مسماة بـ ﴿حم (١)﴾. وقال بعضهم: ﴿الحاء﴾، إشارة إلى حماية أهل التوحيد، و ﴿الميم﴾: إلى مرضاته منهم مع المزيد، وهو النظر إلى وجهه الكريم. وقال بعضهم: معناه: حميت قلوب أهل عنايتي فصنتها عن الخواطر والهواجس، فلاح فيها شواهد الدين، وأشرقت بنور اليقين.
يقول الفقير: فيه إشارة إلى أنّ القرآن حياة الموتى، كما قال: ﴿أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى﴾، وكذا حياة الموتى من القلوب، فإنّ العلوم والمعارف، والحكم حياة؛ القلوب والأرواح والأسرار. وأيضًا إشارةٌ إلى الأسماء الحسنى، فإنَّ حاء وميم من حساب البسط تسعةٌ وتسعون. وأيضًا إلى الصفات السبع التي خلق الله آدم عليها: وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، فـ ﴿الحاء﴾، حاء الحياة، و ﴿الميم﴾ ميم الكلام، فأشير بالأول والآخر إلى المجموع؛ يعني: أنّ الله تعالى أنزل القرآن لتحصى أسماؤه الحسنى، وتعرف به صفاته العليا، ويتخلق بأخلاقه العظمى.
٢ - ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾؛ أي؛ القرآن المشتمل على هذه السورة، وعلى سائر السور الجليلة، وهو مبتدأ، خبره: قوله: ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: كائن منه تعالى، وما كان من الله فهو حق وصدق، فإنه قال: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾. ﴿الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الغالب الذي لا يُغالب، وما كان من العزيز فهو عزيز غالب على جميع الكتب بنظمه ومعانيه، ودليل ظاهر
(١) روح البيان.
لأرباب الظواهر والباطن ﴿الْحَكِيمُ﴾؛ أي: المتقين في صنعه، وما كان من الحكيم ففيه حكمة بالغة،
٣ - فإنّ الله تعالى لا يفعل إلا ما فيه مصلحة لعباده، كما قال: ﴿مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ بما فيهما من حيث الجزئية منهما، ومن حيث الاستقرار فيهما ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ من المخلوقات: كالنار والهواء والسحاب والأمطار والطيور المختلفة ونحوها ﴿إِلا﴾ خلقا متلبسًا ﴿بِاَلحَق﴾؛ أي: بالغرض الصحيح، والحكمة البالغة، وأنّ جعلها مقارًّا للمكلفين، ليعملوا فيجازيهم يوم القيامة، لا بالعبث والباطل، فإنه ما وجد شيء إلا لحكمة. وفي الآية إشارة إلى أنّ المخلوقات كلها ما خلقت إلا لمعرفة الحق تعالى، كما قال: فخلقت الخلق لأعرف، ولهذه المعرفة خلقت سموات الأرواح، وأراضي النفوس، وما بينهما من العقول والقلوب والقوى.
﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾: معطوف (١) على ﴿الْحَقِّ﴾ بتقدير المضاف المحذوف؛ أي: وإلا بتقدير أجل معين ينتهي إليه أمور الكل، وبقاؤه في هذه الدنيا؛ لأنَّ اقتران الخلق ليس إلا به، لا بالأجل نفسه، وهذا الأجل هو يوم القيامة، فإنه ينتهي فيه السموات والأرض وما بينهما، وتبدل الأرض غير الأرض والسموات. وقيل: المراد بالأجل المسمى: هو انتهاء أجل كل فرد من أفراد المخلوقات، وهو آخر مدة بقائه المقدر له. والأول أولى، وفيه إشارة إلى قيام الساعة، وانقضاء مدّة الدنيا، وأنّ الله سبحانه لم يخلق خلقًا باطلًا وعبثا لغير شيء، بل خلقه للثواب والعقاب، وفيه موعظة وزجر؛ أي: فانتبهوا أيها الناس، وانظروا ما يراد بكم، ولم خلقتم.
والمعنى (٢): أي ما خلقناهما إلا خلقا متلبسًا بالعدل، وبتقدير أجل مسمى لكل مخلوق، إليه ينتهي بقاؤه في هذه الحياة الدنيا، وهذا يستدعي أن يكون خلقه لحكمة وغاية، وأنَّ هناك يومًا معلوما للحساب والجزاء؛ لئلا يتساوى من أحسن في الدار الأولى، ومن أساء فيها، ومن أطاع ربه واتبع أوامره ونواهيه، ومن دسَّ
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
نفسه وركب رأسه واتبع شيطانه وهواه، وسلك سبل الغواية، فلم يترك منها طريقًا إلا سلكه، ولا بابًا إلا ولجه.
ثم بين غفلة المشركين، وإعراضهم عما أنذروا به فقال: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: مشركوا أهل مكة ﴿عَمَّا أُنْذِرُوا﴾ وخوّفوا به في القرآن من البعث والحساب والجزاء، وأهوال يوم القيامة ﴿مُعْرِضُونَ﴾؛ أي: مولّون غير مستعدين له بالإيمان والعمل الصالح. والجملة (١): في محل النصب على الحال؛ أي: والحال أنهم معرضون عنه غير مؤمنين به. و ﴿ما﴾ في قوله: ﴿عَمَّا أُنْذِرُوا﴾: يجوز أن تكون موصولةً، وأن تكون مصدريةً؛ أي: عن إنذار الرسول إياهم.
والمعنى (٢): أي مع ما نصبنا من الأدلة، وأرسلنا من الرسل، وأنزلنا من الكتب بقي هؤلاء الكفار معرضين عنه غير ملتفتين إليه، فلا هم بما أنزلنا من الكتب اتعظوا، ولا بما شاهدوا من أدلة الكون اعتبروا، وأنى لهم ذلك فهم صُمٌّ بكمٌ عميٌّ لا يعقلون.
٤ - وبعد أن أثبت لنفسه الألوهية، وأنه رحيم عادل، وأثبت البعث والجزاء يوم القيامة.. ردَّ على عبدة الأصنام فقال: ﴿قُل﴾ يا محمد للكافرين توبيخًا وتبكيتًا ﴿أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ﴾؛ أي: أخبروني ما تعبدون ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه من الأصنام والكواكب وغيرهما ﴿أَرُونِي﴾ تأكيد لـ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي: أخبروني ﴿مَاذَا خَلَقُوا﴾؛ أي: الآلهة ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ بيان للإبهام في ﴿مَاذَا﴾؛ أي: أخبروني أيَّ جزءٍ من أجزاء الأرض تفردوا بخلقه دون الله، فالمفعول الأول لـ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ قوله: ﴿مَا تَدْعُونَ﴾، والثاني ﴿مَاذَا خَلَقُوا﴾. ومآله أخبروني عن حال آلهتكم، ويحتمل أن لا يكون ﴿أَرُونِي﴾ تأكيدًا، بل يكون هذا من باب التنازع؛ لأنَّ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ يطلب مفعولًا ثانيًا، و ﴿أَرُونِي﴾ كذلك. ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ﴾؛ أي: شركة مع الله، و ﴿أَمْ﴾ هذه هي المنقطعة المقدرة ببل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري التوبيخي؛ أي: بل ألهؤلاء الأصنام شركة مع الله تعالى ﴿فِي﴾ خلق ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ أو ملكها
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
16
وتدبيرها، حتى يتوهم أن يكون لهم شائبة استحقاق للعباد، فإنَّ ﴿ما﴾ لا مدخل له في وجود شيء من الأشياء بوجه من الوجوه، فهو بمعزل من ذلك الاستحقاق بالكلية، وإن كانوا من الأحياء العقلاء.. فما ظنكم بالجماد.
فإن قلت (١): فما تقول في عيسى عليه السلام، فإنه كان يحيي الموتى، ويخلق الطير، ويفعل ما لا يقدر عليه غيره؟
قلت: هو بإقدار الله تعالى وإذنه، وذلك لا ينافي عجزه في نفسه، وذكر الشرك في الجهات العلوية دون السفلية؛ أي: دون أن يعم بالأرض أيضًا؛ لأنَّ الآثار العلوية أظهر دلالة على اختصاص الله تعالى بخلقها لعلوّها، وكونها مرفوعة بلا عمد ولا أوتاد، أو للاحتراز عمّا يتوهم أنّ للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفلية؛ يعني: لو قال: أم لهم شرك في الأرض.. لتوّهم أنّ للسموات دخلًا وشركة في إيجاد الحوادث السفلية، هذا على تقدير أن تكون ﴿أَمْ﴾: منقطعة، والأظهر: أن تجعل الآية من حذف معادل أم المتصلة لوجود دليله، والتقدير: ألهم شرك في الأرض أم لهم شرك في السموات كما في "حواشي سعدي المفتي".
والمعنى (٢): أي قل لهم أيها الرسول: أخبروني عن حال آلهتكم بعد التأمل في خلق السموات والأرض وما بينهما، والنظام القائم المبنيّ على الحكمة ودقة الصنع، والإبداع في التكوين، هل تعقلون لهم مدخلًا في خلق جزء من هذا العالم السفليّ، فيستحقوا لأجله العبادة؟ ولو كان لهم ذلك لظهر التفاوت في هذا النظام، والمشاهد أنه على حال واحدة يستمدُّ أدناه من أعلاه، ويرتبط بعضه ببعض، وكل فرد في الأرض مخدوم بجميع الأفراد فيهما، أم هل تظنون أن لهم شركة في خلق العالم العلويّ: شموسه وأقماره كواكبه ونجومه سياراتها وثوابتها.
وقصارى ذلك: نفى استحقاق آلهتهم للمعبودية على أتمَّ وجه، فقد نفى أنَّ لها دخلًا في خلق شيء من أجزاء العالم السفليّ استقلالًا، ونفى ثانيًا أنّ لها
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
17
دخلًا على سبيل الشركة في خلق شيء من أجزاء العالم العلويّ، ونفي ذلك يستلزم نفي استحقاق المعبودية أيضًا.
وبعد أن بكتهم، وعجزهم عن الإتيان بسند عقلي.. عجَّزهم وبكَّتهم عن الإتيان بسند نقليّ، فقال: ﴿ائْتُونِي بِكِتَابٍ...﴾ إلخ. تبكيت (١) لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقليّ. و ﴿الباء﴾ (٢): للتعدية؛ أي: ائتوني بكتاب إلهي كائن ﴿مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾ الكتاب الذي أنزل عليَّ؛ أي: من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد، وابطال الشرك، دالٍّ ذلك الكتاب على صحة دينكم؛ يعني: أنَّ جميع الكتب السماوية ناطقة بمثل ما نطق به القرآن ﴿أَو﴾ ائتوني بـ ﴿أَثَارَةٍ﴾ مصدر بوزن سماحة وغواية؛ أي: بقية كائنة ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ الأولين؛ أي: بقيةٍ كائنة من علم بقيت عليكم من علوم الأولين، شاهدة باستحقاقهم للعبادة ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في دعواكم صحة عبادتها، فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو نقليّ، وحيث لم يقم عليها شيء منهما، وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل تبيَّن بطلانها.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿أَوْ أَثَارَةٍ﴾ وهو مصدر كالشجاعة والسماحة، وهي البقية من الشيء، وقرأ عليُّ وابن عباس بخلاف عنهما وزيد بن علي وعكرمة وقتادة والحسن والسلمي وأبو رجاء والأعمش وعمرو بن ميمون: ﴿أَوْ أَثَارَةٍ﴾ بفتح الهمزة والثاء بغير ألف، وهي واحدة جمعها أثر، كقترة وقتر، وقرأ عليّ والسلمي وقتادة أيضًا: بإسكان الثاء، وهي الفعلة الواحدة مما يؤثر؛ أي: قد قنعت لكم بخبر واحد، وأثر واحد يشهد بصحة قولكم، وقرأ الكسائي: ﴿أثرة﴾ بضم الهمزة وسكون الثاء، وهي لغة فيها.
وعبارة البيضاوي هنا: وقرىء: ﴿أَثَارَةٍ﴾ - بالكسر؛ أي: مناظرة، فإن المناظرة تثير المعاني، وأثرة؛ أي: شيء أوثرتم به، وإثرة بالحركات الثلاث في
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
18
الهمزة وسكون الثاء، فالمفتوحة للمرة من مصدر أثر الحديث: إذا رواه، والمكسورة بمعنى الأثر، والمضمومة اسم ما يؤثر. انتهى.
والمعنى (١): أي أحضروا لي دليلًا مكتوبًا قبل القرآن مما نزل على الأنبياء، كالتوراة والإنجيل، يدلُّ على صحة عبادتكم لآلهتكم، أو ببقية بقيت عندكم من علم الأولين المفكرين في خلق السموات والأرض ترشد إلى استحقاق الأصنام والأوثان للعبادة، وتدل على صحة هذا المنهج الذي سلكتموه ونهجتموه، إن كنتم صادقين في ادّعائكم ألوهية الأصنام.
والمعنى: لا دليل لكم نقليًا ولا عقليًا على ذلك.
والخلاصة: أنّ الدليل إما وحى من الله، أو بقية من كلام الأوائل، وإما إرشاد من العقل، فإن كان الأول.. فأين الكتاب الذي يدل على أنهم شركاء؟ وإن كان الثاني.. فأين هو؟.
٥ - وبعد أن أبطل شركة الأصنام في الخلق بعدم قدرتها على ذلك.. أتبعه إبطاله بعدم علمها بالعبادة، فقال: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ﴾ ﴿مِنْ﴾: للاستفهام الإنكاري، خبره. قوله: ﴿أَضَل﴾؛ أي: وأيُّ امرىءٍ أبعد من الحق وأقرب إلى الجهل ﴿مِمَّنْ يَدْعُو﴾ ويعبد ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه؛ أي: حال كونه متجاوزًا دعاء الله وعبادته ﴿مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ﴾؛ أي: أصنامًا وجمادًا لا تستجيب لداعيها. والموصول مع صلته مفعول ﴿يَدْعُو﴾؛ أي: لا أضل منه ولا أجهل، فإنه دعا من لا يسمع، فكيف يطمع في الإجابة فضلًا عن جلب نفع أو دفع ضر؟ فتبيَّن به أنه أجهل الجاهلين، وأضل الضالّين، وما هنا للشوكاني من أنّ الاستفهام للتقريع والتوبيخ غير صواب؛ لأنّ قوله هذا يناقض تفسيره أولًا؛ أي: هم أضل من كل ضالّ، حيث تركوا عبادة خالقهم السميع القادر المجيب الخبير، إلى عبادة مصنوعهم العاري عن السمع والقدرة والاستجابة. وقوله: ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾: غاية لنفي الاستجابة؛ أي: ما دامت الدنيا.
(١) التفسير المنير.
19
فإن قيل (١): يلزم منه أن منتهى عدم الاستجابة يوم القيامة؛ للإجماع على اعتبار مفهوم الغاية.. قلنا: لو سلّم.. فلا يعارض المنطوق، وقد دلّ قوله: ﴿وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ﴾ الآية. على معاداتهم إياهم، فأنَّى الاستجابة. وقد يجاب بأنّ انقطاع عدم الاستجابة حينئذٍ؛ لاقتضائه سابقة الدعاء ولا دعاء، ويردّه قوله تعالى: ﴿فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ﴾ إلّا أن يخصّ الدعاء بما يكون عن رغبة. كما في "حواشي سعدي المفتي".
وقال ابن الشيخ: وإنما جعل ذلك غاية، مع أنّ عدم استجابتهم أمر مستمرّ في الدنيا والآخرة، إشعارًا بأنّ معاملتهم مع العابدين بعد قيام الساعة أشدّ وأفظع مما وقعت في الدنيا، إذ يحدث هناك العداوة والتبرّي، ونحوه: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨)﴾ فإنّ اللعنة على الشيطان، وإن كانت أبدية، لكن يظهر يوم الدين أمر أفظع منها، تنسى عنده كأنها تنقطع.
﴿وهُمْ﴾؛ أي: والحال أنّ الأصنام ﴿عَنْ دُعَائِهِمْ﴾؛ أي: عن دعاء الداعين المشركين وعبادتهم، فالضمير الأول لمفعول ﴿يَدْعُوا﴾، والثاني لفاعله، والجمع فيهما باعتبار معنى ﴿مِنَ﴾ كما أنّ الإفراد فيما سبق باعتبار لفظها ﴿غَافِلُونَ﴾؛ أي: جاهلون لكونهم جمادات لا يعقلون، فكيف يستجيبون؟ وعلى تقدير كون معبوديهم أحياء كالملائكة ونحوهم، فهم عباد مسخرون مشغولون بأحوالهم، وضمائر العقلاء؛ لإجرائهم الأصنام مجرى العقلاء، ووصفها بما ذكر من ترك الاستجابة والغفلة مع ظهور حالها؛ للتهكم بها وبعبدتها.
والمعنى (٢): أي لا أحد أضل وأجهل ممن يعبد من دون الله أصنامًا، ويتخذهم آلهةً، ويطلب منها ما لا تستطيعه، وهم إذا دُعوا لا يسمعون ولا يجيبون إلى يوم القيامة؛ أي: لا يجيبون أبدًا ما داموا في الدنيا، إذ هم في غفلة. عن دعائهم؛ لأنهم أحجار، فهم صمّ بكم لا يسمعون ولا يتكلمون ولا يعقلون، وقوله: ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ تأبيد على عادة العرب، ما دامت الدنيا، وما أنكى
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
20
هذا التوبيخ، وما أمضى ألمه لهؤلاء المشركين على سوء رأيهم، وقبح اختيارهم في عبادتهم ما لا يعقل شيئًا ولا يفهم، وتركهم عبادة من بيده جميع نعمهم، ومن به إغاثتهم حين تنزل بهم الجوائح والمصائب.
٦ - وبعد أن أبان أنهم لا ينفعونهم في الدنيا، ولا يستجيبون لهم دعاء.. أبان حالهم في الآخرة فقال: ﴿وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ﴾ أي: وإذا جمع الناس لموقف الحساب.. ﴿كَانُوا﴾؛ أي: الأصنام ﴿لَهُم﴾؛ أي؛ لعابديهم ﴿أَعْدَاءً﴾ يضرُّونهم ولا ينفعونهم؛ أي: كانت هذه الآلهة التي يعبدونها في الدنيا أعداء لهم؛ إذ يتبرؤون منهم ﴿وَكَانُوا﴾؛ أي: الأصنام ﴿بِعِبَادَتِهِمْ﴾؛ أي: بعبادة عابديهم ﴿كَافِرِينَ﴾؛ أي؛ منكرين مكذبين بلسان الحال، أو المقال، على ما يروى أنه تعالى يحيي الأصنام فتتبرأ من عبادتهم، وتقول: إنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم (١)؛ لأنها الآمرة بالإشراك.
والمعنى (٢): أي وإذا جمع الناس العابدون للأصنام في موقف الحساب.. كانت الأصنام لهم أعداء تتبرّأ منهم وتلعنهم، وكانوا جاحدين مكذبين منكرين لعبادتهم، فيخلق الله الحياة في الأصنام فتكذّبهم، وتتبرّأ الملائكة والمسيح وعزير والشياطين ممن عبدوهم يوم القيامة، ونظير الآية قوله تعالى في سورة مريم: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢)﴾، وقوله في سورة العنكبوت حكاية عن إبراهيم عليه السلام: ﴿وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٥)﴾.
٧ - ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على الكفار ﴿آيَاتُنَا﴾ القرآنية حالة كونها ﴿بَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: واضحات الدلالة على مدلولاتها من حلال وحرام وحشر ونشر وغيرها.. ﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من أهل مكة ﴿للْحَقَّ﴾؛ أي: لأجل الحقّ، وشأنه الذي هو
(١) التفسير المنير.
(٢) روح البيان.
الآيات المتلوّة.
ويجوز (١) أن تكون ﴿اللام﴾ بمعنى الباء؛ أي: كفروا بالحق، والتعدية بـ ﴿اللام﴾ من حمل النقيض على النقيض، فإن الإيمان يتعدّى بها كما في قوله: ﴿آمَنْتُمْ لَهُ﴾ وغيره. والحق هنا عبارة عن الآيات المتلوّة وضع موضع ضميرها تنصيصًا على حقّيتها، ووجوب الإيمان بها، كما وضع الموصول موضع ضمير المتلوّ عليهم؛ تسجيلًا بكمال الكفر والضلالة عليهم ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ﴾؛ أي: في أول ما جاءهم من غير تدبّر ولا تأمل ﴿هَذَا﴾ الحق الذي هو القرآن المتلوّ عليهم ﴿سِحْرٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: ظاهر كونه سحرًا وباطلًا لا حقيقة له، وإذا جعلوه سحرًا.. فقد أنكروا ما نطق به من البعث والحساب والجزاء، وصاروا أكفر من الحمير؛ أي: أجهل وأبلد من الحمير؛ لأنّ الكفر من الجهل والعياذ بالله.
والمعنى (٢): أي وإذا تليت على هؤلاء حججنا التي أودعناها كتابنا، الذي أنزلناه عليك حال كونها بينة واضحةً جليةً.. قالوا في شأن الحق الذي أتاهم، وهو القرآن: هذا سحر واضح، وتمويه خادع، يفعل فعل السحر في قلب من سمعه، فكذّبوا به وافتروا وكفروا وضلوا.
٨ - ثم انتقل من هذه المقالة الشنعاء إلى ما هو أشنع منها، فقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾؛ أي: بل أيقول كفار مكة: افترى محمد هذا القرآن؛ أي: اختلقه من عند نفسه، وأضافه إلى الله كذبًا، فقولهم هذا منكر، ومحل تعجب، فإن القرآن كلام معجز خارج عن حيّز قدرة البشر، فكيف يقوله محمد - ﷺ - ويفتريه؟.
واعلم: أنّ كلًّا من السحر والافتراء كفر، لكن الافتراء على الله أشنع من السحر، و ﴿أَمْ﴾ هنا هي (٣) المنقطعة المقدرة بمعنى بل، وهمزة الاستفهام التوبيخي التعجبي من صنيعهم، ويل للانتقال عن تسميتهم الآيات سحرًا إلى قولهم: إنّ رسول الله - ﷺ - افترى ما جاء به، وفي ذلك من التوبيخ والتقريع ما لا
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
22
يخفى؛ أي: دع هذا واسمع القول المنكر العجيب، إنهم يقولون: إنّ محمدًا افتراه على الله محمدًا، واختلقه عليه اختلاقًا.
ثمّ أمره الله سبحانه أن يجيب عنهم، ويبطل شبهتهم بقوله: ﴿قُل﴾ لهم يا محمد ﴿إِنِ افْتَرَيْتُهُ﴾ واختلقته على سبيل الفرض والتقدير ﴿فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾؛ أي: فلا تقدرون أن تدفعوا عنّي من عذاب الله شيئًا، إذ لا ريب في أنّ الله تعالى يعاقبني حينئذٍ، فكيف أفتري على الله كذبًا، وأعرض نفسي للعقوبة التي لا خلاص منها؟.
والمعنى: أي قل لهم يا محمد: لو كذبت على الله، وزعمت أنه أرسلني إليكم، ولم يكن الأمر كذلك.. لعاقبني أشدّ العقاب، ولم يقدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم أن يجيرني منه، فكيف أقدم على هذه الفرية، وأعرض نفسي لعقابه؟ فالملوك لا يتركون من كذب عليهم دون أن ينتقموا منه، فما بالكم بمن يتعمد الكذب على الله في الرسالة، وهي الجامعة لأمور عظيمة، ففيها الإخبار عن تكليف الناس بما يصلح شأنهم في دينهم ودنياهم.
ونحو الآية قوله: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٢) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (٢٣)﴾ وقوله ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧)﴾.
ثم علَّل ما أفاده الكلام من وجوب الانتقام منهم بقوله: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى: ﴿أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ﴾؛ أي: أعلم بما تخوضون فيه من قدح القرآن، وطعن آياته، وتسميته سحرًا تارةً، وفريةً أخرى؛ أي: هو أعلم من كل أحد بما تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن وغيره.
ثم أكد صدق ما يقول بنسبة علم ذلك إلى الله تعالى فقال: ﴿كَفَى بِهِ﴾ سبحانه وتعالى - و ﴿الباء﴾: صلة - ﴿شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ حيث يشهد لي بالصدق في البلاغ، وعليكم بالتكذيب والجحود، ولا يخفى ما في هذا من الوعيد الشديد على إفاضتهم في الطعن في الآيات.
23
ثم فتح لهم باب الرحمة بعد الإنذار السابق لعلهم يتوبون، ويثوبون إلى الحق، فقال: ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الغَفُورُ﴾ لمن تاب وآمن وصدّق بالقرآن، وعمل بما فيه ﴿الرَّحِيمُ﴾ له بقبول توبته؛ أي: ومع كل ما صدر منكم من تلك المطاعن الشنعاء، إن أنتم تبتم وأنبتم إلى ربكم، وصحّ عزمكم على الرجوع عما أنتم عليه تاب عليكم، وعفا عنكم، وغفر لكم ورحمكم.
٩ - وبعد أن حكى عنهم طعنهم في القرآن.. أمر رسوله أن يرد عليهم مقترحاتهم العجيبة، وهي طلبهم من الرسول - ﷺ - أن يأتيهم بمعجزات بحسب ما يريدون ويشتهون، وكلها تدور حول الإخبار بشؤون الغيب، فقال: ﴿قُل﴾ لهم يا محمد: ﴿مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ﴾؛ أي: ما كنت رجلًا غير مسبوق بمثله من الرسل، والبدع (١) بالكسر: البديع، وهو من الأشياء ما لم ير مثله، كانوا يقترحون عليه - ﷺ - آيات عجيبة، ويسألونه عن المغيبات عنادًا ومكابرةً، فأمر عليه السلام بأن يقول لهم: ما كنت بدعًا من الرسل؛ أي: لست بأول مرسل أرسل إلى البشر، فإنه تعالى قد بعث قبلي كثيرًا من الرسل، وكلهم قد اتفقوا على دعوة عباد الله إلى توحيده وطاعته، ولست داعيًا إلى غير ما يدعون إليه، بل أدعو إلى الله بالإخلاص في التوحيد، والصدق في العبودية، وبعثت لأتمم مكارم الأخلاق، ولست قادرًا على ما لم يقدروا عليه، حتى آتيكم بكل ما تقترحونه، وأخبركم بكل ما تسألون عنه من الغيوب، فإن من قبلي من الرسل ما كانوا يأتون إلا بما آتاهم الله تعالى من الآيات، ولا يخبرون قومهم إلا بما أوحي إليهم، فكيف تنكرون منّي أن دعوتكم إلى ما دعا إليه من قبلي من الأنبياء؟ وكيف تقترحون عليّ ما لم يؤته الله إيّاي؟.
وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة (٢): ﴿بِدَعًا﴾: بكسر الباء وفتح الدال جمع بدعة، وهو على حذف مضاف؛ أي: ذا بدع، وقرأ مجاهد: ﴿بَدِعًا﴾ بفتح الباء، وكسر الدال كحذر على الوصف، وقرأ الجمهور: بكسر الباء وسكون الدال.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
24
والمعنى: أي قل لهم: لست بأول رسول بلَّغ عن ربه، بل قد جاءت رسل من قبلي، فما أنا بالفذِّ في لم يعهد له نظير حتى تستنكروا وتستبعدوا رسالتي إليكم، وأما أنا بالذي يسشطيع أن يأتي بالعجزات متى شاء، بل ذلك بإذنه تعالى، وتحت قبضته وسلطانه، وليس لي من الأمر شيء، وإلى ذلك أشار بقوله: ﴿وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ﴾ أيها المكذبون. ﴿ما﴾ الأولى: نافية، و ﴿لا﴾ تأكيد لها، والثانية: استفهامية مرفوعة بالابتداء، خبرها: ﴿يُفْعَلُ﴾. وجُوِّز أن تكون الثانية موصولة منصوبة بـ ﴿أَدْرِي﴾ والاستفهامية أقضى لحق مقام التبرّي من الدراية؛ أي: (١) وما أعلم أيُّ شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان، وإلام يصير أمري وأمركم في الدنيا، فإنه قد كان من الأنبياء من يسلم من المحن، ومنهم من يمتحن بالهجرة من الوطن، ومنهم من يبتلى بأنواع الفتن، وكذلك الأمم منهم من أهلك بالخسف، ومنهم من كان هلاكه بالقذف، وكذا بالمسخ وبالريح وبالصيحة وبالغرق وبغير ذلك، فنفى عليه السلام علم ما يفعل به وبهم من هذه الوجوه، وعلم من هو الغالب المنصور منه ومنهم، ثم عرّفه الله بوحيه إليه عاقبة أمره وأمرهم، فأمره بالهجرة، ووعده العصمة من الناس، وأمره بالجهاد، وأخبر أنه سيظهر دينه على الأديان كلها، ويسلَّط على أعدائه ويستأصلهم.
وقيل (٢): يجوز أن يكون المنفي هي الدراية المفصلة؛ أي: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدارين على التفصيل، إذ لا علم لي بالغيب، وكان بالإجمال معلومًا بقوله فإن جند الله هم الغالبون وإن مصير الأبرار إلى النعيم، ومصير الكفار إلى الجحيم، وقال أبو السعود - رحمه الله تعالى -: والأظهر الأوفق لما، ذكر من سبب النزول: أنّ ﴿ما﴾ عبارة عما ليس في علمه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية، دون ما سيقع في الآخرة، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة، وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين هذا.
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
25
وقرأ الجمهور (١): ﴿مَا يُفْعَلُ﴾ بضم الياء مبنيًا للمفعول، وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة: بفتحها مبنيًا للفاعل.
وخلاصة المعنى: أي ولا أعلم ما يفعل بي في الدنيا، أأخرج من بلدي كما أخرجت أنبياء من قبلي؟ أم أقتل كما قتل منهم من قتل؟ ولا ما يفعل بكم أيها المكذبون، أترمون بحجارة من السماء؟ أم تخسف بكم الأرض؟ كل هذا علمه عند ربّي جلّ وعلا.
وفي "صحيح البخاري" وغيره من حديث أمّ العلاء أنها قالت: لما مات عثمان بن مظعون - رضي الله عنه -: قلت: رحمة الله عليك يا أبا السائب، لقد أكرمك الله تعالى، فقال رسول الله - ﷺ -: "وما يدريك أنّ الله أكرمه، أما هو فقد جاءه اليقين من ربّه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم" قالت أم العلاء: فوالله ما أزكّي بعده أحدًا، وفي رواية الطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس، أنه لما مات.. قالت امرأته أو امرأة: هنيئًا لك ابن مظعون الجنة، فنظر إليها رسول الله - ﷺ - نظر مغضب، وقال: "وما يدريك، والله إني لرسول الله، وما أدري ما يفعل بي" فقالت: يا رسول الله صاحبك وفارسك وأنت أعلم، فقال: "أرجو له رحمة ربه تعالى، وأخاف عليه ذنبه".
ومن هذا يعلم أنّ ما ينسب إلى بعض الأدعياء من العلم بشؤون الغيب فهو فرية على الله ورسوله، وكفى بما سلف ردًّا عليهم.
ثم أكد ما سلف وقرّره بقوله: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾؛ أي: ما أتبع إلا القرآن، ولا أبتدع شيئًا من عندي؛ أي: ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إليّ، على معنى قصر أفعاله - ﷺ - على اتباع الوحي، لا قصر اتباعه على الوحي، كما هو المتسارع إلى الأفهام، وهو جواب عن اقتراحهم الإخبار عما لم يوح إليه من الغيوب. وقيل: عن استعجال المسلمين أن يتخلصوا من أذية المشركين، والأول هو الأوفق لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ﴾ أنذركم عقاب الله، وأخوفكم عذابه
(١) البحر المحيط.
26
حسبما يوحى إليّ، وآتيكم بالشواهد الواضحة على صدق رسالتي، ولستُ أقدر على شيء من الأعمال الخارجة عن قدرة البشر ﴿مُبِينٌ﴾؛ أي: بيّن الإنذار لكم بالمعجزات الباهرة، ففيه أنه - ﷺ - أرسل مبلِّغًا وليس له من الهداية شيء، ولكن الله يهدي من يشاء.
وقرأ ابن عمير (١): ﴿ما يوحي﴾ بكسر الحاء؛ أي: الله عَزَّ وَجَلَّ
١٠ - ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد، ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي: أخبروني أيها القوم ﴿إن كَانَ﴾ ما يوحى إليّ من القرآن في الحقيقة ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ لا سحرًا ولا مفترى كما تزعمون ﴿وَكَفَرْتُمْ بِهِ﴾؛ أي: والحال أنكم قد كفرتم به، فهو (٢) حال بإضمار قد من الضمير في الخبر وسط بين أجزاء، الشرط، مسارعة إلى التسجيل عليهم بالكفر، ويجوز أن يكون عطفًا على كان كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ﴾ لكن لا على أنَّ نظمه في سلك الشرط المتردِّد بين الوقوع وعدمه عندهم، باعتبار حاله في نفسه، بل باعتبار حال المعطوف عليه عندهم، فإن كفرهم به متحقق عندهم أيضًا، وإنما تردُّدهم في أنَّ ذلك كفر بما عند الله أم لا؟ وكذا الحال، قوله: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ وما بعده من الفعلين، فإن الكل أمور متحققة عندهم، وإنما تردّدهم في أنها شهادة وإيمان بما عند الله، واستكبار منهم أم لا؟ ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ﴾ عظيم الشأن ﴿مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ الواقفين على شؤون الله، ، وأسرار الوحي بما أوتوا من التوراة ﴿عَلَى مِثْلِهِ﴾؛ أي: على مثل القرآن من المعاني المنطوية في التوراة، المطابقة لما في القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك، فإنها عين ما فيه في الحقيقة، كما يعرب عنه قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦)﴾، وهذه المثلية هي باعتبار تطابق المعاني وإن اختلفت الألفاظ. وقال الجرجاني: مثل صلة؛ يعني: عليه.
والمعنى: وشهد شاهد على القرآن أنه من عند الله. وكذا قال الواحدي. و ﴿الفاء﴾ في قوله: ﴿فَآمَنَ﴾: للدلالة على أنه سارع في الإيمان بالقرآن لما علم
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
27
أنه من جنس الوحي الناطق بالحق، وليس من كلام البشر ﴿وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾ عطف على ﴿شهد شاهد﴾؛ أي: فآمن الشاهد بالقرآن، واستكبرتم أنتم عن الإيمان. وجواب (١) الشرط محذوف، والتقدير: أخبروني إن كان من عند الله، وشهد على ذلك أعلم بني إسرائيل فآمن به من غير تباطؤ، واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه المرتبة، فمن أضل منكم؟ بقرينة قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ الذين يضعون الجحد والإنكار موضع الإقرار والتسليم، وصفهم بالظلم؛ للإشعار بعلية الحكم، فإن تركه تعالى لهدايتهم لظلمهم وعنادهم بعد وضوح البرهان. وقال أبو حيان: ومفعولا ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾: محذوفان؛ لدلالة المعنى عليهما، والتقدير: أرأيتم حالكم إن كان كذا، ألستم ظالمين؟ فالأول حالكم، والثاني ألستم ظالمين، وجواب الشرط، محذوف؛ أي: فقد ظلمتم، ولذلك جاء فعل الشرط ماضيًا. إنتهى.
وفيه إشارة إلى أنه لا عذر لهم بحال، إذ عند وجود الشاهد على حقّية الدعوى تبطل الخصومة، وذلك الشاهد في الآية عبد الله بن سلام بن الحارث حبر أهل التوراة، وكان اسمه الخصين، فسمّاه رسول الله - ﷺ - عبد الله - رضي الله عنه - لما سمع بقدم رسول الله - ﷺ - المدينة.. أتاه، فنظر إلى وجه الكريم، فعلم أنه ليس بوجه كذّاب، وتأمّله فتحقق أنه النبي المنتظر، فقال له: إني أسألك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبيّ: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما حال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال النبي - ﷺ -: "أما أول أشراط الساعة.. فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام أهل الجنة.. فزيادة كبد الحوت، وأما الولد.. فإن سبق ماء الرجل.. نزعه، وإن سبق ماء المرأة.. نزعته" فقال: أشهد أنك رسول الله حقًا، فقام ثم قال: يا رسول الله، إنّ إليهود قوم بهتٌ، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عنّي بهتوني عندك، فجاء اليود وهم خمسون، فقال لهم النبي - ﷺ -: "أيّ رجل عبد الله فيكم؟
(١) روح البيان.
28
قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، قال: "أرأيتم إن أسلم عبد الله" قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فقالوا، شرّنا وابن شرنا، وانتقصوه. قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر. قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: ما سمعت رسول الله - ﷺ - يقول لأحد يمشي على الأرض: "إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، وفيه نزل: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾.
وقال مسروق - رضي الله عنه -: والله ما نزلت في عبد الله بن سلام، فإن آل ﴿حمَ (١)﴾ نزلت بمكة، وإنما أسلم عبد الله بالمدينة قبل وفاة النبي - ﷺ - بعامين، وأجاب الكلبي بأن الآية مدنية، وإن كانت السورة مكية، فوضعت في المكية على ما أمر رسول الله - ﷺ -.
ومعنى الآية: أي قل لهم (١): أخبروني حالكم إن ثبت أنّ القرآن من عند الله لعجز الخلق عن معارضته، لا أنه سحر ولا مفترى كما تزعمون، ثم كذبتم به، وشهد أعلم بني إسرائيل بكونه من عند الله، فآمن واستكبرتم، أفلستم تكونون أضل الناس وأظلمهم؟
والخلاصة (٢): أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، وشهادة منصف من بني إسرائيل عارف بالتوراة على مثل ما قلت، فآمن به مع استبكاركم، أفلا تكونون ظالمين لأنفسكم؟
ثم ذكر أن في استكبارهم عن الإيمان ظلمًا لأنفسهم، وكفرا بآيات ربهم، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: إنّ الله لا يوفق لإصابة الحق، وهدى الصراط المستقيم من ظلموا أنفسم باستحقاقهم بسخط الله لكفرهم به بعد قيام الحجة الظاهرة عليهم، وهذا استئناف بياني تعليل لاستكبارهم.
١١ - ثم حكى نوعًا آخر من أقاويلهم الباطلة في القرآن العظيم والمؤمنين به
(١) المراغى.
(٢) المراغي.
29
فقال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ من أهل مكة ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: لأجلهم، فليس الكلام على المواجهة والخطاب حتى يقال: ما سبقتمونا؛ أي: قالوا لأجل إيمان من آمن من فقراء المؤمنين كعمار وصهيب وابن مسعود ومن لف لفهم: ﴿لَوْ كَانَ﴾ ما جاء به محمد - ﷺ - من القرآن والدين ﴿خَيْرًا﴾؛ أي: حقًا ﴿مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾؛ أي: ما سبقنا إليه هؤلاء الأراذل والفقراء، فإنّ معالي الأمور لا تنالها أيدي الأراذل، وهؤلاء سقاط الناس، ورعاة الإبل والشاء، وقد قالوا (١) ذلك زعمًا منهم أنّ الرياسة الدينية مما ينال بأسباب دنيوية، وقد غاب عنهم أنها منوطة بكمالات نفسانية، وملكات روحانية مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا الدنية، والإقبال على الآخرة بالكلية، وأنّ من فاز بها.. فقد حازها بحذافيرها، ومن حرمها.. فما له منها من خلاق، ولم يعلموا أنّ الله يختصّ برحمته من يشاء، ويصطفي لدينه من يشاء.
يقول الفقير: الأولى في مثل هذا المقام أن يقال: إنّ الرياسة الدينية فضل الله تعالى، يؤتيه من يشاء بغير علل ولا أسباب، فإن القابلية أيضًا إعطاء من الله تعالى. انتهى.
﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ﴾: ظرف لمحذوف يدل عليه ما قبله، ويترتب عليه ما بعده، لا لقوله: ﴿فَسَيَقُولونَ﴾ فإنه للاستقبال، و ﴿إذ﴾ للمضي؛ أي: وإذ لم يهتدوا بالقرآن كما اهتدى به أهل الإيمان قالوا ما قالوا؛ أي: وحين لم يهتدوا بالقرآن ظهر عنادهم وقالوا: لو كان خيرًا ما سبقونا إليه ﴿فَسَيَقُولُونَ﴾ في المستقبل غير مكتفين بنفي خيريّته: ﴿هَذَا﴾ القرآن ﴿إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ وكذب مأثور عن الناس الأقدمين، كما قالوا: أساطير الأولين بقصد انتقاص القرآن وأهله، فقد جهلوا بلبّ القرآن وعادوه؛ لأنّ الناس أعداء ما جهلوا، ومن كان مريضًا مرّ الفم.. يجد الماء الزّلال مرًا، فلا ينبغي لأحد أن يستهين بشيء من الحق إذا لم يهتد عقله به، ولم يدركه فهمه، فإنّ ذلك من محض الضلالة والجهالة، بل ينبغي أن
(١) روح البيان.
30
يطلب الاهتداء من الهادي ويجدَّ فيه.
١٢ - ثمّ ردّ عليهم طعنهم في القرآن، وأثبت صحته فقال: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ﴾؛ أي: من قبل القرآن ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾؛ أي: التوراة.
قرأ الجمهور (١): بكسر الميم من ﴿مِنْ﴾ على أنها حرف جر، وهي ومجرورها خبر مقدم، و ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: في محل نصب على الحال، أو هي مستأنفة، والكلام مسوق لردّ قولهم: ﴿إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾، وإبطال له، فإن كونه مصدقًا لكتاب موسى مقرّر لحقيته قطعًا؛ يعني: كيف يصحّ هذا القول منهم، وقد سلّموا لأهل كتاب موسى أنهم من أهل العلم؟ وجعلوهم حكمًا يرجعون لقولهم في هذا النبي، وهذا القرآن مصدق له، أو له ولسائر الكتب الإلهية؛ أي: فإن كون القرآن موافقًا لكتاب موسى في أصول الشرائع، يدل على أنه حق، وأنه من عند الله، ويقتضي بطلان قولهم: ﴿هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾.
وقرأ الكلبي بفتح ميم ﴿مَن﴾ على أنها موصولة ونصب ﴿كتاب﴾ على أنه مفعول لفعل محذوف؛ أي: وآتينا من قبل القرآن، أو قبل محمد - ﷺ - كتاب موسى ﴿إِمَامًا﴾ حال من ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾؛ أي: حال كون كتاب موسى إمامًا يقتدى به في دين الله سبحانه ﴿و﴾ حال كونه ﴿رحمة﴾ لمن آمن به، وعمل بموجبه ﴿وَهَذَا﴾ القرآن في يقولون في حقه ما يقولون ﴿كِتَابٌ﴾ عظيم الشأن ﴿مُصَدِّقٌ﴾ لكتاب موسى الذي هو إمام ورحمة، أو مصدق لما بين يديه من جميع الكتب الإلهية ﴿لِسَانًا عَرَبِيًّا﴾ حال من ضمير ﴿كِتَابٌ﴾ في ﴿مُصَدِّقٌ﴾؛ أي: حال كون هذا القرآن ملفوظًا به على لسان العرب؛ لكون القوم عربًا.
قرأ الجمهور (٢): ﴿لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ بياء الغيبة على أنّ فاعله ضمير يرجع إلى الكتاب أو الله أو الرسول، والأول أولى، وهو متعلق بـ ﴿مُصَدِّقٌ﴾، وقرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو رجاء وشيبة والأعرج وأبو جعفر: ﴿لتنذر﴾ بتاء الخطاب للرسول، واختار هذه القراءة أبو حاتم وأبو عبيد؛ أي: وهذا كتاب
(١) الشوكاني.
(٢) الشوكاني.
31
مصدق لما بين يديه، أنزل بلسان عربي مبين؛ لينذر الذين ظلموا أنفسهم بالإشراك وهم كفار مكة. وقوله: ﴿وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ في حيّز النصب عطفًا على محل ﴿لِيُنْذِرَ﴾؛ لأنه مفعول له؛ أي: أنزل بلسان عربي لينذر الظالمين بعبادة الأصنام من عذاب الله سبحانه، وليبشّر المحسنين بالإيمان والعمل الصالح بالجنة، وبرضوان الله تعالى. وقال الزجاج: الأجود أن يكون في محل رفع؛ أي: وهو ﴿بشرى للمحسنين﴾ وقوله: ﴿لِلْمُحْسِنِينَ﴾ متعلق بـ ﴿بشرى﴾.
ومن الظالمين (١): اليهود والنصارى، فإنهم قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، وغيّروا ذكر محمد - ﷺ -، ونعته في التوراة والإنجيل، وحرّفوا الكلم عن مواضعه، فكان - ﷺ - نذيرًا لهم، وبشيرًا للذين آمنوا بجميع الأنيياء والكتب المنزلة، وهدوا إلى الصراط المستقيم، وثبتوا على الدين القويم.
والخلاصة: كيف يكون إفكًا قديمًا وهو مصدق لكتاب موسى الذي تعترفون بصدقه، وهو بلسان عربيّ، والتوراة بلسان عبريّ؟ فتصديق الأول للثاني مع اختلاف لغتهما دليل على اتحادهما صدقًا، فبطل كونه إفكًا قديمًا، وثبت له الصدق القديم.
ومجمل معنى الآية (٢): أي ومما يدلّ على أنّ القرآن حق وصدق، وأنه من عند الله... اعترافكم بإنزال الله التوراة على موسى الذي هو إمام وقدوة يقتدى به في الدين، وهو رحمة لمن آمن به، وهذا القرآن الموافق للتوارة في أصول الشرائع مصدق لكتاب موسى ولغيره من الكتب الإلهية المتقدمة، أنزله الله حال كونه بلغة عربية واضحة فصيحة، يفهمونها، من أجل أن ينذر به هذا النبي الكريم من عذاب الله الذين ظلموا أنفسهم، وهم مشركوا مكة، ويبشّر به المؤمنين الذين أحسنوا عملًا، فهو مشتمل على النذارة للكافرين، والبشارة للمؤمنين، وهو ليس إفكًا قديمًا كما يزعمون، بدليل توافقه مع التوراة.
(١) روح البيان.
(٢) التفسير المنير.
32
الإعراب
﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤)﴾.
﴿حم (١)﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه السورة حم؛ أي: مسماة بلفظ حم، والجملة: مستأنفة. ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، أو مبتدأ، خبره ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ والجملة: مستأنفة. ﴿الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾: صفتان للجلالة. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ والجملة: مستأنفة. ﴿وَمَا﴾ اسم موصول معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿بَيْنَهُمَا﴾: ظرف متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿ما﴾. ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرّغ. ﴿بِالْحَقِّ﴾: صفة لمصدر محذوف، تقديره: إلا خلقًا متلبسًا بالحق والحكمة. ﴿وَأَجَلٍ﴾: معطوف على ﴿الحق﴾ ﴿مُسَمًّى﴾: صفة لـ ﴿الحق﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿الذين﴾: مبتدأ، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿عَمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُعْرِضُونَ﴾ وجملة ﴿أُنْذِرُوا﴾: صلة الموصول، والعائد: محذوف؛ أي: عن الذي أُنذروه. ﴿مُعْرِضُونَ﴾: خبر ﴿الذين﴾ ويجوز أن تكون ﴿مَا﴾: مصدرية، أي: عن إنذارهم ذلك اليوم، والجملة الاسمية، معطوفة على الجملة الفعلية قبلها. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾: فعل وفاعل، و ﴿مَا﴾ مفعول به أول، وجملة ﴿تَدْعُونَ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور، حال من فاعل ﴿تَدْعُونَ﴾؛ أي: تدعونهم مجاوزين الله في دعائهم. ﴿أَرُونِي﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة: توكيد لـ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾. ﴿مَاذَا﴾: اسم استفهام مركب في محل النصب مفعول مقدم وجوبًا لـ ﴿خَلَقُوا﴾. ﴿خَلَقُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ حال من مفعول ﴿خَلَقُوا﴾، والجملة الفعلية سادّة مسدّ المفعول الثاني لـ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ وإن شئت قلت: ﴿ما﴾:
33
اسم استفهام مبتدأ، ﴿ذا﴾ اسم موصول خبره، وجملة ﴿خَلَقُوا﴾: صلة الموصول، والجملة الاسمية سادة مسد المفعول الثاني لـ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ ويجوز أن لا تكون ﴿أَرُونِي﴾ توكيدًا لـ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ فتكون المسألة من باب التنازع؛ لأنّ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾: يطلب مفعولًا ثانيًا. و ﴿أَرُونِي﴾ كذلك، وقوله: ﴿مَاذَا خَلَقُوا﴾ هو المتنازع فيه. ﴿أَمْ﴾: منقطعة، بمعنى همزة الاستفهام وبل الإضرابية. كما مر. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿شِرْكٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿شِرْكٌ﴾ والجملة الاسمية: جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿ائْتُونِي﴾: فعل أمر وفاعل ونون وقاية ومفعول به، والجملة: من تتمّة المقول. ﴿بِكِتَابٍ﴾: متعلق بـ ﴿ائْتُونِي﴾. ﴿مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه صفة لـ ﴿كتاب﴾. ﴿أَوْ أَثَارَةٍ﴾: معطوف على ﴿كتاب﴾ ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾ صفة لـ ﴿أَثَارَةٍ﴾. ﴿إِن﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف، تقديره: إن كنتم صادقين فائتوني به، وجملة الشرط، من تتمّة المقول.
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (٥) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (٦) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)﴾.
﴿وَمَنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿من﴾: اسم استفهام معناه الإنكار، في محل الرفع مبتدأ. ﴿أَضَلُّ﴾: خبره، والجملة مستأنفة. ﴿مِمَّنْ﴾: متلعق بـ ﴿أَضَلُّ﴾، وجملة ﴿يَدْعُو﴾: صلة ﴿مَن﴾ الموصولة ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: حال من فاعل ﴿يَدْعُو﴾، ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَدْعُو﴾، ﴿لا﴾: نافية. ﴿يَسْتَجِيبُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿مَن﴾. ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْتَجِيبُ﴾ والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة. ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْتَجِيبُ﴾ أو حال من فاعله. ﴿وَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿هم﴾: مبتدأ. ﴿عَنْ دُعَائِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿غَافِلُونَ﴾ و ﴿غَافِلُونَ﴾: خبر ﴿هم﴾، والجملة: في محل النصب حال من مفعول ﴿يَدْعُو﴾، والجمع باعتبار معنى ﴿مَن﴾ الموصولة.
34
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿حُشِرَ النَّاسُ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة، في محل الخفض فعل شرط لـ ﴿إذا﴾، ﴿كَانُوا﴾: فعل ماض ناقص واسمه. ﴿لَهُمْ﴾ حال من ﴿أَعْدَاءً﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿أَعْدَاءً﴾: خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾ جواب ﴿إذا﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة. ﴿وَكَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، معطوف على ﴿كان﴾ الأولى، ﴿بِعِبَادَتِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿كَافِرِينَ﴾ و ﴿كَافِرِينَ﴾ خبر ﴿كان﴾. ﴿وإذَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إذا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿تُتْلَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿تُتْلَى﴾، ﴿آيَاتُنَا﴾ نائب فاعل، والجملة: فعل شرط لـ ﴿إذا﴾. ﴿بَيِّنَاتٍ﴾: حال من ﴿آيات﴾ وجملة ﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: جواب ﴿إذا﴾ وجملة ﴿إذا﴾: معطوفة على جملة ﴿إذا﴾ الأولى. ﴿لِلْحَقّ﴾: متعلق بـ ﴿قَالَ﴾ و ﴿اللام﴾ فيه: للتعليل. ﴿لَمَّا﴾: ظرف بمعنى حين، في محل النصب على الظرفية، مبنيّ على السكون، والظرف: متعلق بـ ﴿قَالَ﴾. ﴿جَاءَهُمْ﴾ فعل ومفعول به وفاعل يعود على ﴿الحق﴾ والجملة؛ في محل الخفض بإضافة ﴿لَمَّا﴾ إليها. ﴿هَذَا سِحْرٌ﴾ مبتدأ وخبر. ﴿مُبِينٌ﴾: صفة ﴿سِحْرٌ﴾ والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨)﴾.
﴿أَمْ﴾: منقطعة مقدرة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري. ﴿يَقُولونَ﴾ فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿افْتَرَاهُ﴾: فعل ماض، ومفعول به، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: في محل النصب مقول ﴿يَقُولُونَ﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿افْتَرَيْتُهُ﴾: فعل ماض وفاعل ومفعول به في محل الجزم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إِن﴾ الشرطية وجوبًا؛ لاقتران الجواب بـ ﴿لا﴾ النافية ﴿لا﴾: نافية. ﴿تَمْلِكُونَ﴾: فعل مضارع وفاعل مرفوع بثبات النون. ﴿لِي﴾: متعلق بـ ﴿تَمْلِكُونَ﴾. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ حال من
35
﴿شَيْئًا﴾ و ﴿شَيْئًا﴾ مفعول ﴿تَمْلِكُونَ﴾، وجملة ﴿تَمْلِكُونَ﴾: جواب ﴿إن﴾ الشرطية، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قُل﴾. ﴿هُوَ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾ وجملة ﴿تفُيضُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾، ﴿فِيه﴾: متعلق بـ ﴿تُفِيضُونَ﴾. ﴿كَفَى﴾: فعل ماض، ﴿بِهِ﴾ ﴿الباء﴾: زائدة، و ﴿الهاء﴾: ضمير مجرور لفظًا في موضع رفع فاعل ﴿كَفَى﴾ والجملة: في محل النصب قول ﴿قُلْ﴾. ﴿شَهِيدًا﴾: تمييز لفاعل ﴿كَفَى﴾، ﴿بَيْنِي﴾: متعلق بـ ﴿شَهِيدًا﴾ ﴿وَبَيْنَكُمْ﴾: معطوف على ﴿بَيْنِي﴾، ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ. ﴿الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾: خبران لـ ﴿هو﴾ والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾.
﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. ﴿مَا﴾، نافية. ﴿كُنْتُ بِدْعًا﴾: فعل ناقص واسمه وخبره، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُل﴾، ﴿مِنَ الرُّسُلِ﴾: صفة لـ ﴿بِدْعًا﴾. ﴿مَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية، ﴿أَدْرِي﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد. ﴿مَا﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ وجملة ﴿يُفعَلُ﴾: من الفعل المغير ونائب فاعله في محل الرفع خبر المبتدأ. والجملة الاسمية سادّة مسدّ مفعولي ﴿أَدْرِي﴾ وهي معلقة عنها باسم الاستفهام. ﴿بِي﴾: متعلق بـ ﴿يُفْعَلُ﴾. ﴿وَلَا بِكُم﴾: معطوف عليه. قال الزمخشري: و ﴿مَا﴾ في ﴿مَا يُفْعَلُ﴾: يجوز أن تكون موصولةً منصوبةً، وأن تكون استفهامية مرفوعة. انتهى. وجملة ﴿وَمَا أَدْرِي﴾: معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لـ ﴿قُل﴾. ﴿إن﴾ نافية. ﴿أَتَّبِعُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿إلَّا﴾ أداة حصر. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿أَتَّبِعُ﴾، ﴿يُوحَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير مستتر يعود على ﴿مَا﴾، ﴿إِلَيَّ﴾: متعلق بـ ﴿يُوحَى﴾، وجملة ﴿يُوحَى﴾، صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿أَنَا﴾: مبتدأ، ﴿إلا﴾: أداة حصر. ﴿نَذِيرٌ﴾: خبره ﴿مُبِينٌ﴾: صفة ﴿نَذِيرٌ﴾،
36
والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على ما قبلها، على كلونها مقولا لـ ﴿قُلْ﴾.
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قل﴾ ومفعولا ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾: محذوفان تقديرهما: أرأيتم حام إن كان كذا وكذا ألستم ظالمين؟. وجواب الشرط: محذوف أيضًا، تقديره: فقد ظلمتم، وقيل: تقديره: فمن المحق منّا ومن المبطل؟ وقيل: جواب الشرط ﴿فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾. ﴿إن﴾: حرف شرط، ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص في محل الجزم بـ ﴿إِنَّ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، واسمه ضمير يعود على القرآن. ﴿مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾: خبره، وجواب ﴿إِن﴾ الشرطية: محذوف، كما قدرنا آنفًا، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ ﴿وَكَفَرْتُمْ﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿كفرتم﴾: فعل وفاعل ﴿بهِ﴾: متعلق بـ ﴿كفرتم﴾ والجملة الفعلية: في محل النصب حال من اسم ﴿كاَنَ﴾ ولكن بتقدير قد. ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ﴾: فعل وفاعل في محل النصب معطوف على: ﴿كفرتم﴾. ﴿مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿شَاهِدٌ﴾. ﴿عَلَى مِثْلِهِ﴾: متعلق بـ ﴿شهد﴾. ﴿فَآمَنَ﴾ ﴿الفاء﴾ عاطفة. ﴿آمن﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿شَاهِدٌ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿شهد﴾، ﴿وَاسْتَكْبَرْتُمْ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿آمَنَ﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَهْدِي﴾: فعل مضارع. وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿الْقَوْمَ﴾: مفعول ﴿يَهْدِي﴾، ﴿الظَّالِمِينَ﴾: صفة للقوم، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾: في محل النصب مقول ﴿قُل﴾ أو مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة، أو معطوفة على ما قبلها، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾. صلة الموصول. ﴿لِلَّذِينَ﴾ متعلق بـ ﴿قال﴾
37
و ﴿اللام﴾: للتعليل، ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿كَانَ﴾ فعل ماض ناقص واسمها ضمير يعود على القرآن، أو على ما جاء به محمد. ﴿خَيْرًا﴾: خبرها، والجملة: فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب ﴿مَا﴾: نافية ﴿سَبَقُونَا﴾ فعل وفاعل ومفعول به ﴿إِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿سَبَقُونَا﴾ والجملة جواب ﴿لا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾: في محل النصب مقول ﴿قال﴾.
﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢)﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بمحذوف، تقديره: ظهر عنادهم وتسبّب عنه قوله: ﴿فَسَيَقُولُونَ﴾، ولا يعمل في ﴿إذ﴾ قوله: ﴿فَسَيَقُولونَ﴾؛ لتضاد الزمانين، ولأجل ﴿الفاء﴾ أيضًا. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿يَهْتَدُوا﴾: فعل مضارع. وفاعل جزوم بحذف النون. ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَهْتَدُوا﴾ والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾، والظرف: متعلق بذلك المحذوف، والجملة المحذوفة: معطوفة عمى جملة قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾. ﴿فَسَيَقُولونَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، و ﴿السين﴾: حرف استقبال. ﴿يقولون﴾: فعل وفاعل معطوف على الجملة المحذوفة، التي هي متعلق ﴿إذ﴾ الظرفية. ﴿هَذَا إِفْكٌ﴾: مبتدأ وخبر ﴿قَدِيمٌ﴾ صفة ﴿إِفْكٌ﴾، والجملة: في محل النصب مقول لـ ﴿يقولون﴾، ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿من قبله﴾: جار ومجرور خبر مقدم، ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة. ﴿إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾: حالان من ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾. ﴿وَهَذَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿هذا﴾: مبتدأ. ﴿كِتَابٌ﴾: خبره، والجملة: معطوفة على ما قبلها. ﴿مُصَدِّقٌ﴾: صفة ﴿كِتَابٌ﴾. ﴿لِسَانًا﴾: حال مؤولة من الضمير المستكن في ﴿مُصَدِّقٌ﴾، أو من ﴿كِتَابٌ﴾. والعامل فيه، معنى الإشارة، والتقدير: ملفوظًا به بلغة عربية. ﴿عَرَبِيًّا﴾: صفة ﴿لِسَانًا﴾، ﴿لِيُنْذِرَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿ينذر﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله: ضمير مستتر يعود على الكتاب. ﴿الَّذِينَ﴾: مفعول
38
به، وجملة ﴿ظَلَمُوا﴾: صلة الموصول، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور ﴿باللام﴾ الجار والمجرور: متعلق بمحذوف، تقديره: أنزل لإنذاره الذين ظلموا. ﴿وَبُشْرَى﴾: معطوف على محل ﴿لِيُنْذِرَ﴾ إن كان مفعولًا لأجله، ويجوز أن يكون خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: وهو بشرى ﴿لِلْمُحْسِنِينَ﴾ متعلق بـ ﴿بشرى﴾ أو صفة له.
التصريف ومفردات اللغة
﴿عَمَّا أُنْذِرُوا﴾؛ أي: خوّفوا. ﴿مُعْرِضُونَ﴾؛ أي: مولّون لاهون. ﴿مَا تَدْعُونَ﴾؛ أي: تعبدون. ﴿أَرُونِي﴾ أصله: أرئيوني، نقلت حركة الهمزة إلى الراء ثمّ حذفت للتخفيف واستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمّت الراء لمناسبة الواو، وحذفت نون الرفع لبناء الأمر على ذلك. ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ﴾؛ أي: نصيب وفي "السمين": والشرك: المشاركة. اهـ. وهذا أولى. ﴿ائْتُونِي﴾ أصله: ائتيونني، استثقلت الضمة على الياء ثم حذفت فالتقى ساكنان، ثم حذفت الياء ثم حركت التاء بحركة مجانسة للواو، ثم حذفت نون الرفع لبناء الأمر على ذلك.
تنبيه: أبدل ورش والسوسي الهمزة الثانية من ﴿ائْتُونِي﴾ في الوصل ياء، وحققها الباقون، ومن المعلوم أنّ الأولى همزة تسقط في الوصل، وأما الابتداء بها.. فجميع القرّاء أبدلوها ياءً بعد الابتداء بهمزة الوصل مكسورةً. اهـ "خطيب".
﴿أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ﴾؛ أي: بقية كائنة من علم الأثارة بفتح الهمزة، ومثلها الأثرة بالتحريك، بقيةٌ من علم، والمَكْرُمة المتوارثة، والفعل المجيد، من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من شحم ولحم، أي: على بقية لحم وشحم كانت بها من لحم وشحم ذاهبٍ ذائبٍ. وعن ابن الأعرابي: أغضبني فلانٌ على أثارة غضبٍ، أي: على أثر غضب كان قبل ذلك، وهم أثارةٌ من علم؛ أي: بقيةٌ منه يأثرونها عن الأولين، ويقال: لبني فلان أثارةٌ من شرف، إذا كانت عندهم شواهد قديمة. وفي "المختار": وأثر الحديث: ذكره عن غيره فهو آثر بالمد، وبابه نصر، ومنه حديث مأثور، ينقله خلف عن سلف. اهـ. وفي "السمين": قوله: أو أثارة
39
العامة على أثارة، وهي مصدر على فعالة كالشجاعة والغواية والضلالة والسماحة، ومعناها: البقية. والمعنى: بما يؤثر ويروى؛ أي: ائتوني بخبر واحد يشهد بصحة قولكم، وهذا على سبيل التنّزل للعلم بكذب المدّعي اهـ.
﴿أَضَلُّ﴾ أصله: أَضْلل، نقلت حركة اللام الأولى إلى الضاد فسكنت فأدغمت في اللام الثانية. ﴿عَنْ دُعَائِهِمْ﴾ فيه إعلالٌ بالإبدال، أصله: دعاوهم، أبدلت الواو همزة لتطرّفها إثر ألف زائدة. ﴿وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ﴾ والحشر، الجمع. كما في "القاموس". قال الراغب: الحشر: إخراج الجماعة عن مقرّهم، وإزعاجهم عنه إلى الحرب وغيرها، ولا يقال إلا في اجماعة. وسمّي يوم القيامة يوم الحشر، كما سمّي يوم البعث، ويوم النشر. ﴿افْتَرَاهُ﴾ كذب عليه عمدًا.
﴿فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا﴾؛ أي: لا تغنون عنّي من الله شيئًا إن أراد تعذيبي. ﴿تُفِيضُونَ فِيهِ﴾؛ أي: تخوضون فيه، يقال: أفاضوا في الحديث: إذا خاضوا فيه وشرعوا؛ أي: تخوضون في قدح القرآن، وطعن آياته، وتسميته سحر تارة، وفرية أخرى، وهو من فاض الماء وأفاضه: إذا سال، وأصله: تفيضون، بوزن تفعلون مضارع أفاض، نقلت حركة الياء إلى الفاء فسكنت إثر كسرة، فصارت حرف مد. ﴿كَفَى بِهِ شَهِيدًا﴾ أصله: كفى بوزن فعل كرمي، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا﴾ البدع والبديع من كل شيء: المبتدع المحدث دون سابقة له من الابتداع، وهو الاختراع. ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ يوحى: فيه إعلال بالقلب، أصله: يوحي قلبت الياء ألفًا؛ لتحركها بعد فتح.
﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ﴾ أصله: يهتديون، حذفت نون الرفع؛ لدخول الجازم وهو ﴿لَمْ﴾ فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلما سكنت... التقى ساكنان فحذفت الياء وضمت الدال لمناسبة الواو. ﴿هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾؛ أي: من قول الأقدمين، فهذا على حدّ قولهم: هو أساطير الأولين. وفي "الخطيب" ﴿قَدِيمٌ﴾؛ أي: أَفَكَه غيره وعثر هو عليه وأتى به، ونسبه إلى الله تعالى، كما قالوا: أساطير الأولين.
﴿وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ﴾ لم يقل له؛ أي: لكتاب موسى تعميمًا وإيذانًا بأنه
40
مصدق للكتب السماوية كلِّها، لا سيما نفسه؛ لكونه معجزًا. اهـ "كرخي". ﴿وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ وبشرى مصدر على وزن فعلى، كرجعى، وهي بمعنى البشارة، والبشارة: الخبر السار، سمي بشارة؛ لطلاقة بشرة وجهه عند سماعه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الكناية في قوله: ﴿عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾؛ لأنه كناية عن ترك الاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ و ﴿أَرُونِي﴾.
ومنها: التبكيت في قوله: ﴿ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا﴾؛ لأنّ الغرض منه تبكيتهم، وتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقليّ.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿يَدْعُوا﴾ ﴿وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ﴾.
ومنها: النكتة البلاغية الرائعة في قوله: ﴿إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة، ومن شأن الغاية انتهاء المعنى عندها، لكن عدم الاستجابة مستمرّ بعد هذه الغاية؛ لأنهم في القيامة أيضًا لا يستجيبون لهم، فالوجه: أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها، وإن وافق ما قبلها، إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثاني، حتى كأنّ الحالتين، وإن كانتا نوعًا واحدًا لتفاوت ما بينهما كالشيء وضده، وذلك أنّ الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة، لا تزيد على عدم الاستجابة، والحالة الثانية التي في القيامة زادت على عدم الاستجابة بالعداوة وبالكفر، بعبادتهم إياهم.
ومنها: التغليب، فغلب العاقل على غيره على سبيل المجاراة معهم، حيث عبّر عن الأصنام وغيره بضمير العقلاء في قوله: ﴿وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ﴾؛ لأن عابدي الأصنام يصفونها بالتمييز جهلًا منهم وغباوةً.
41
ومنها: وصفها بما ذكر من ترك الاستجابة والغفلة، مع ظهور حالها للتهكم بها وبعَبَدَتِها.
ومنها: وضع الموصول موضع ضمير المتلوّ عليهم في قوله: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ﴾ تسجيلًا عليهم بكمال الكفر والضلالة، وفيه أيضًا: وضع الحق موضع ضمير الآيات المتلوّة تنصيصًا على حقّيتها، ووجوب الإيمان بها.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ حيث استعمل الإفاضة في الأخذ في الشيء، والاندفاع فيه.
ومنها: القصر في قوله: ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾؛ أي: ما أفعل إلا اتباع ما يوحي إليّ على معنى قصر أفعاله - ﷺ - على اتباع الوحي، لا قصر اتباعه على الوحي كما هو المتسارع إلى الأفهام.
ومنها: الطباق بين: ﴿آمن﴾ و ﴿كفرتم﴾ وبين: ﴿ينذر﴾ و ﴿بشرى﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ﴾.
ومنها: حذف المتعلق في قوله: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ﴾ حيث لم يقل: مصدق له؛ أي: لكتاب موسى؛ إفادة للتعميم، وإيذانًا بأنه مصدق للكتب السماوية كلها، لا سيما نفسه، لكونه معجزًا كما سبق عن الكرخي.
ومنها: تنكير ﴿كِتَابٌ﴾ في قوله: ﴿وَهَذَا كِتَابٌ﴾؛ إيذانًا بفخامة شأنه، وعلوّ قدره.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار، في قوله: ﴿لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ تسجيلًا عليهم بصفة الظلم؛ لأنّ مقتضى السياق أن يقال: لينذرهم؛ أي: أهل مكة.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
42
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠) وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها:
43
أنّ الله سبحانه لما ذكر (١) في سابق الآيات توحيده سبحانه، وإخلاص العبادة له، والاستقامة في العمل.. أردف هذا بالوصية بالوالدين؛ وقد فعل هذا في غير موضع من القرآن الكريم، كقوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، وقوله ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾.
وعبارة "التفسير المنير": مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر (٢) جزاء المؤمنين الموحدين المستقيمين على الشريعة.. أمر ووصّى ببرّ الوالدين، وأشاد بصفة خاصة بالبارّ بوالديه بعد بلوكه سنَّ الأربعين، وبشره بقبول أعماله الصالحة، والتجاوز عن سيئاته، وجعله في عداد أصحاب الجنة وعدًا منجزًا لا خلف فيه. انتهى.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر (٣) حال الداعين للوالدين البررة بهما، ثم ذكر ما أعد لهم من الفوز والنجاة في الدار الآخرة.. أعقب هذا بذكر حال الأشقياء العاقّين للوالدين، المنكرين للبعث والحساب، المحتّجين بأنّ القرون الخوالي لم تبعث، ثم ردّ الأباء عليهم بأنّ هذا اليوم حقّ لا شك فيه، بإجابة الأبناء لهم بأنّ هذه أساطير الأولين وخرافاتهم، ثم ذكر أنّ أمثال هؤلاء ممن حقّ عليهم القول بأنّ مصيرهم إلى النار.
ثم أردف هذا بأنّ لكل من البررة والكفرة منازل عند ربهم، كفاء ما قدموا من عمل، وسيجزون عليها الجزاء الأوفى، ثم أخبر بأنه يقال للكفار حين عرضهم على النار: أنتم قد تمتعتم في الحياة الدنيا، واستكبرتم عن اتباع الحق، وتعاطيتم الفسوق والمعاصي، فجازاكم الله بالإهانة والخزي، والآلام الموجبة للحسرات المتتابعة في دركات النار.
قوله: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه
(١) المراغي.
(٢) التفسير.
(٣) المراغي.
44
الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أورد الدلائل على إثبات التوحيد والنبوة، التي أعرض عنها أهل مكة، ولم يلتفتوا إليها، ولم تجدهم فتيلا ولا قطميرًا لاستغراقهم في الدنيا، واشتغالهم بطلبها.. أردف هذا بذكر قصص عاد وما حدث منهم مع نبيهم هود عليه السلام، وضرب لهم به المثل ليعتبروا فيتركوا الاغترار بما وجوده من الدنيا، ويقبلوا على طاعة الله، فقد كانوا أكثر منهم أموالًا، وأقوى منهم جندًا، فسلَّط الله عليهم العذاب بسب كفرهم، ولم يغن عنهم مالهم من الله شيئًا، وفيه تسلية للنبي - ﷺ - في تكذيب قومه.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية (١): ما روى الواحدي عن ابن عباس قال: أنزلت في أبي بكر - رضي الله عنه - وذلك أنه صحب رسول الله - ﷺ - وهو ابن ثمان عشرة، ورسول الله - ﷺ - وابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام في التجارة، فنزلوا منزلًا فيه سدرةٌ - شجرة السدرة - فقعد رسول الله - ﷺ - في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال له: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: هذا والله نبيّ، وما استظل تحتها أحد بعد عيسى ابن مريم إلا محمد نبي الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، وكان لا يفارق رسول الله - ﷺ - في أسفاره وحضوره، فلما نبّىء رسول الله - ﷺ - وهو ابن أربعين سنة، وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة أسلم، وصدق رسول الله - ﷺ -، فلما بلغ أربعين سنة.. قال: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ.
وقال السّدي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. أخرج مسلم، وأهل السنن إلا ابن ماجه عن سعد - رضي الله عنه - قال: قالت أم سعد لسعد: أليس الله قد أمر بطاعة الوالدين، فلا آكل طعامًا ولا أشرب،
(١) أسباب النزول للواحدي النيسابوري ص ٢١٦.
45
حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا، ونزلت هذه الآية: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾.
وقال الحسن البصري: هي مرسلة نزلت على العموم، وهذا هو الأولى؛ لأنّ حمل اللفظ على العموم منذ بداية نزول الوحي أوقع وأفيد وأشمل، وإن كانت العبرة دائمًا لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي قال: نزلت هذه الآية: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا...﴾ في عبد الرحمن بن أبي بكر، قال لأبويه، وكانا قد أسلما وأبى هو، فكانا يأمرانه بالإِسلام، فيردّ عليهما ويكذبهما ويقول: فأين فلان وأين فلان؟ يعني: مشايخ قريش ممن قد مات، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه، فنزلت توبته في هذه الآية: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا...﴾ الآية. وأخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس مثله، لكن أخرج البخاري من طريق يوسف بن ماهان قال: قال مروان بن الحكم في عبد الرحمن بن أبي بكر: إنَّ هذا هو في أنزل الله فيه: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا﴾ فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئًا من القرآن، إلا أنّ الله أنزل عذري.
وأخرج عبد الرزاق من طريق مكيّ أنه سمع عائشة تنكر أن تكون الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، وقالت: إنما نزلت في فلان، وسمَّت رجلًا. وقال الحافظ بن حجر: ونفي عائشة أصح إسنادًا، وأولى بالقبول. وقال ابن كثير: ومن زعم أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما.. فقوله، ضعيفٌ؛ لأنّ عبد الرحمن أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكان من خيار أهل زمانه. قال القرطبي: الصحيح أن الآية نزلت في عبد كافر عاق لوالديه.
التفسير وأوجه القراءة
١٣ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ وحده ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ على أداء فرائض الله
تعالى، واجتناب معاصيه ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من لحوق مكروه ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ من فوات محبوب. والمراد (١): دوام نفي الحزن؛ أي: إنّ الذين جمعوا بين التوحيد في هو خلاصة العلم، والاستقامة في أمور الدين، التي هي منتهى العمل، و ﴿ثُمَّ﴾ في قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾: للدلالة على تراخي رتبة العمل، وتوقّف الاهتداء به على التوحيد. قال ابن طاهر: استقاموا على ما سبق منهم من الإقرار بالتوحيد، فلم يروا سواه منعمًا، ولم يشكروا سواه في حال، ولم يرجعوا إلى غيره، وثبتوا معه على منهاج الاستقامة. و ﴿الفاء﴾ في قوله: ﴿فَلَا خَوْفٌ﴾: زائدة في خبر الموصول جوازًا، لما فيه من معنى الشرط.
والمعنى (٢): أي إنّ الذين جمعوا بين التوحيد والاستقامة على منهج الشريعة، لا يخافون من وقوع مكروه بهم في المستقبل، ولا يحزنون من فوات محبوب في الماضي؛ أي: فلا خوف عليهم من فزع يوم القيامة وأهواله، ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم بعد مماتهم
١٤ - ﴿أُولَئِكَ﴾ المؤمنون الموحدون المستقيمون على أمر الله هم ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾؛ أي: ملازموها حالة كونهم ﴿خَالِدِينَ﴾؛ أي: ماكثين ﴿فِيهَا﴾ مكثًا مؤبّدًا، فهو حال من الضمير المستكن في ﴿أَصْحَابُ﴾ يجزون الجنة ﴿جَزَاءً﴾ وكفاءَ ﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ في الدنيا من الأعمال الصالحة، فـ ﴿جَزَاءً﴾: منصوب إما بعامل مقدر كما قدّرنا، أو بمعنى ما تقدم، فإنّ قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾. في معنى جازيناهم.
وفي هذه الآية من الترغيب أمر عظيم، فإنّ نفي الخوف والحزن على الدوام، والاستقرار في الجنة على الأبد، مما لا تطلب الأنفس سواه، ولا تتشوف إلى ما عداه،
١٥ - ولما كان رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما كما ورد في الحديث.. حث الله سبحانه عليه، بقوله: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: عهدنا إليه، وأمرناه بأن يحسن ﴿بِوَالِدَيْهِ﴾؛ أي: بأبويه وإن عليا ﴿إِحْسَانًا﴾ فحذف الفعل واقتصر على المصدر دالًّا عليه.
(١) روح البيان.
(٢) التفسير المنير.
47
وقرأ الجمهور (١): ﴿حسنا﴾ بضم الحاء وإسكان السين، وقرأ عليّ والسلمي وعيسى بفتحهما، وعن عيسى: بضمهما، وقرأ الكوفيون: ﴿إِحْسَانًا﴾ فقيل: ضمّن ﴿وصينا﴾ معنى ألزمنا، فيتعدى لاثنين، فانتصب ﴿حسنًا﴾ و ﴿إِحْسَانًا﴾ على الفعول الثاني لـ ﴿وصينا﴾. وقيل: التقدير: إيصاء ذا حسن أو ذا إحسان، ويجوز أن يكون ﴿حسنًا﴾ بمعنى إحسان، فيكون مفعولًا له؛ أي: ووصّيناه بهما لإحساننا إليهما، فيكون الإحسان من الله تعالى.
والمعنى (٢): أي أمرنا الإنسان بالإحسان إليهما، والحنوّ عليهما، والبرّ بهما في حياتهما وبعد مماتهما، والإنفاق عليهما عند الحاجة، والبشاشة عند لقائهما، وجعلنا البرّ بهما من أفضل الأعمال، وعقوقهما من الكبائر. والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
ثم ذكر سبب التوصية وعلته، وخصّ الكلام بالأم؛ لأنها أضعف وأولى بالرعاية، وفضلها أعظم، كما ورد في صحيح الأحاديث، ومن ثم كان لها ثلثا البّر، فقال: ﴿حَمَلَتهُ﴾؛ أي: حملت الإنسان ﴿أُمُّهُ﴾ الأمّ (٣) بإزاء الأب وهي الوالدة القريبة التي ولدته، والوالدة البعيدة التي ولدت من ولدته، ولهذا قيل لحوّاء عليها السلام: هي أُمُّنا، وإن كان بيننا وبينها وسائط. ويقال لكل ما كان أصلًا لوجود الشي أو تربيته أو إصلاحه أو مبدأه أمٌّ. ﴿كُرْهًا﴾ حال من فاعل ﴿حَمَلَتْهُ﴾؛ أي: حملته حال كونها ذات كره، وهو المشقة والصعوبة، يريد حالة ثقل الحمل في بطنها لا في ابتدائها، فإنّ ذلك لا يكون فيه مشقة، أو حملته حملًا ذا كره ومشقة.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿كُرْهًا﴾ بضم الكاف في الموضعين، وقرأ شيبة أبو جعفر، والأعرج والرحميان نافع وابن كثير وأبو عمرو بالفتح، وبهما معًا أبو رجاء ومجاهد وعيسي، والضم والفتح لغتان بمعنى واحد، كالعَقْرِ والعُقْرِ. وقالت
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) البحر المحيط.
48
فرقة بالضم: المشقة، وبالفتح: الغلبة والقهر.
﴿وَوَضَعَتْهُ﴾؛ أي: ولدته ﴿كُرْهًا﴾ وهي شدة الطلق. وفي الحديث (١) "اشتدي أزمة تنفرجي". قال - ﷺ - لامرأة مسماة بأزمة، حين أخذها الطلق؛ أي: تصبري يا أزمة حتى تنفرجي عن قريب بالوضع. كذا في "المقاصد الحسنة".
والمعنى: أي حملته في بطنها بمشقة، فقاست في حال حمله مشقةً وتعبًا، من وَحْمٍ وغثيانٍ وثقلٍ وكربٍ، ووضعته بمشقةٍ أيضًا، فقاست بسبب وضعه مشقة ألم الطلق وشدته، ووجع الولادة، ثم الرضاع والتربية، وكانت أيام الوحم تمنع من الطعام والشراب، وتعاف كل شيء، وكل هذا مما يستدعي البر بها، والإحسان الزائد إليها، واستحقاقها للكرامة، وجميل الصحبة.
ثم بين سبحانه مدة حمله وفصاله، فقال: ﴿وَحَمْلُهُ﴾؛ أي: ومدة حمله في البطن ﴿وَفِصَالُهُ﴾ وهو الفطام؛ أي: قطع الولد ومنعه عن اللبن. والمراد به: الرضاع التام المنتهى به، فيكون مجازًا مرسلًا عن الرضاع التام، بعلاقة أنّ أحدهما بغاية الآخر ومنتهاه، كما أراد بالأمد المدّة من قال:
كُلُّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ مُدَّةَ الْعُمْـ ـرِ وَمَرْديٌّ إِذَا انْتَهَى أَمَدُهُ
أي: هالك إذا انتهت مدة عمره، ونظيره: التعبير عن المسافة بالغاية في قولهم: مَن لابتداء الغاية، وإلى لانتهاء الغاية؛ أي: ومدة حمله ورضاعه ﴿ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ تمضي عليها بمقاساة الشدائد، والشهر: مدة معروفة مشهورة بإهلال الهلال، أو باعتبار جزء من اثني عشر جزءًا من دوران الشمس من نقطة إلى تلك النقطة، سمي به لشهرته، والمراد به: الشهر القمري، لا الشمسي.
وقرأ الجمهور ﴿وَفِصَالُهُ﴾، وهو مصدر فاصل الرباعيِّ، كأنه من اثنين فاصل أمه وفاصلته، وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة والجحدري: ﴿وفَصْلُه﴾. قيل: والفصل والفصال: مصدران، كالفطم والفطام.
(١) روح البيان.
49
أي: إنّ مدة حمله (١) ورضاعه ثلاثون شهرًا؛ أي: عامان ونصف، تكابد الأمُّ فيها الآلام الجسمية والنفسية، فتسهر الليالي ذوات العدد إذا مرض، وتقوم بغذائه وتنظيفه، وكلِّ شؤونه بمحبةٍ وحنانٍ بلا ضجرٍ ولا سآمة، وتحزن إذا اعتل جسمه، أو ناله مكروه يؤثِّر في نموه وحسن صحته.
وفي هذه الآية إشارة إلى أنّ حق الأمّ آكد من حق الأب؛ لأنها حملته بمشقة ووضعته بمشقة، وأرضعته وحضنته وعنيت به بتعب وصبر، ولم يشاركها الأب في شيء من ذلك، وإن تعب في الكسب والإنفاق، كذا جاءت الأحاديث النبوية تؤكد بر الأم، وتقدمه بمراتب ثلاث على مرتبة الأب، أخرج الشيخان، البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "جاء رجل إلى النبي - ﷺ - فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمُّك، قال: ثم مَنْ؟ قال: أمُّك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك".
وفي الآية أيضًا (٢): إيماءٌ إلى أنّ أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لأنّ أكثر مدة الإرضاع حولان كاملان؛ لقوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ فلم يبق للحمل إلا ستة أشهر، وبذلك يعرف أقل العمل وأكثر الإرضاع.
وأول من استنبط هذا الحكم من هذه الآية عليّ - كرم الله وجهه - وهو استنباط صحيح، ووافقه عليه عثمان، وجمع من الصحابة - رضي الله عنهم - روى ابن أبي حاتم ومحمد بن إسحاق صاحب "السيرة" عن معمر بن عبد الله الجهني قال: تزوّج رجل منا امرأة من جهينة، فولدت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان - رضي الله عنه - فذكر ذلك له، فبعث إليها، فلما قامت لتلبس ثيابها.. بكت أختها، فقالت لها: وما يبكيك، فوالله ما التبس بي أحدٌ من خلق الله تعالى غيره قط، فيقضي الله فيّ ما شاء، فلما أتي بها إلى عثمان رضي الله عنه.. أمر برجمها، فبلغ ذلك عليًّا - رضي الله عنه - فأتاه فقال له: ما
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
50
تصنع؟ قال: ولدت تمامًا لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له عليُّ - رضي الله عنه -: أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قال: أما سمعت الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾؟ وقال: ﴿حَولَين كَامِلَين﴾ فلم نجده أبقى إلا ستة أشهر، فقال عثمان: والله ما فطنت لهذا، عليَّ بالمرأة، فوجدها قد فرغ منها (١).. قال معمر: فوالله ما الغراب بالغراب، ولا البيضة بالبيضة بأشبه منه بأبيه، فلمَّا رآه أبوه.. قال: ابني والله لا أشك فيه.
وروى ابن أبي حاتم أيضًا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر.. كفاه من الرضاع أحد وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لسبعة أشهر.. كفاه من الرضاعة ثلاثة وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لستة أشهر... فحولان كاملان؛ لأنّ الله تعالى يقول: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾. وقال أبو حنيفة: المراد بحمله: العمل على اليد، ولو حمل على حمل البطن.. كان بيان الأقل مع الأكثر. انتهى.
قيل: ولعلَّ (٢) تعيين أقل مدة الحمل، وأكثر مدة الرضاع؛ أي: في الآية؛ لانضباطهما، وتحقُّق ارتباط النسب، والرضاع بهما، فإن من ولدت لستة أشهر من وقت التزوج، يثبت نسب ولدها، كما وقع في زمان على رضي الله عنه فحكم بالولد على أبيه، فلو جاءت بولد لأقلَّ من ستة.. لم يلزم الولد للزوج، ويفرَّق بينهما، ومن مصَّ ثدي امرأة في أثناء حولين من مدة ولادته.. تكون المرضعة أُمًّا له، ويكن زوجها الذي لبنها منه أبًا له. قال في "الحقائق": الفتوى في مدة الرضاع على قولهما. وفي "فتح الرحمن": اتفق الأئمة على أنَّ أقل مدة الحمل ستة أشهر، واختلفوا في أكثر مدته، فقال أبو حنيفة: سنتان. والمشهور عن مالك: خمس سنين، وروي عنه أربع وسبع. وعند الشافعي، وأحمد: أربع سنين، وغالبها تسعة أشهر. انتهى.
(١) وفي رواية: أنّ عثمان رجع عن قوله ولم يحدّها؛ أي: أن الأمر تم قبل الحد. اهـ.
(٢) روح البيان.
51
وحكي عن أرسطوطاليس أنه قال: إنّ مدة الحمل لكل الحيوان مضبوطةٌ، سوى الإنسان، فربما وضعت لسبعة أشهر ولثمانية، وقيل ما يعيش الولد في الثامن إلا في بلاد معينة، مثل: مصر. انتهى. وفي "إنسان العيون": ذكر أنَّ مالكًا رحمه الله مكث في بطن أمه سنتين، وكذا الضحاك بن مزاحم التابعي. وفي "محاضرات السيوطي": أنَّ مالكًا مكث في بطن أمه ثلاث سنين. وأخبر مالك أنَّ جارةً له ولدت ثلاثة أولاد في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل ولد أربع سنين. انتهى.
﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ غاية (١) لمحذوف؛ أي: أخذ ما وصَّيناه به، حتى إذا بلغ وقت أشده بحذف المضاف. وبلوغ الأشد: أن يكتهل ويستوفي السن الذي تستحكم فيه قوته وعقله وتمييزه. وسن الكهولة ما بين سنّ الشباب وسنّ الشيخوخة. قال في "فتح الرحمن": ﴿أَشُدَّهُ﴾: كمال قوته وعقله ورأيه. وأقلُّه: ثلاث وثلاثون، وأكثره: أربعون ﴿وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾؛ أي: تمام أربعين، بحذف المضاف. قيل: لم يبعث نبي قبل أربعين، وهو ضعيف جدًا، يدل عى ضعفه أنّ عيسى ويحيى عليهما السلام بعثا قبل الأربعين. كما في "بحر العلوم". وجوابه: أنه من إقامة الأكثر الأغلب مقام الكل. قال ابن الجوزي: قوله: "ما من نبيٍ نبىء إلا بعد الأربعين" موضوع؛ لأنَّ عيسى نبىء ورفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنةً، فاشتراط الأربعين في حق الأنبياء ليس بشيء. انتهى. وكذا نُبِّىء يوسف عليه السلام وهو ابن ثماني عشرة سنة. كما في كتب التفاسير، وقيس على النبوة قوة الإيمان والإِسلام. وقوله: ﴿وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ قمريةً، لا الشمسية، ما أفادته الآية. ما في "الروح" يفيد أن بلوغ الأربعين هو شيءٌ وراء بلوغ الأشد، وهو (٢) نهاية استحصاد العقل واستكماله، ومن ثم روي عن ابن عباس: "من أتى عليه الأربعون ولم يغلب خيره شرَّه.. فليتجهز إلى النار" ولهذا قيل:
إِذَا الْمَرْءُ وَافَى الأَرْبَعِيْنَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ دُوْنَ مَا يَهْوَى حَيَاءٌ وَلَا سِتْرُ
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
52
فدَعْهُ فَلاَ تَنْفَسْ عَلَيْهِ الَّذِي مَضَى وَإِنْ جَرَّ أَسْبَابَ الْحَيَاةِ لَهُ الْعُمْرُ
﴿قَالَ﴾ ذلك الإنسان ﴿رَبِّ﴾ ـي، ويا مالك أمري ﴿أَوْزِعْنِي﴾؛ أي: وَفَّقْني، وألهمني ﴿أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ﴾ بها ﴿عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾ من نعمة الهداية إلى الدين الحق والتوحيد وغير ذلك من نعم الدنيا، كسلامة العقل والصحة والعافية، وسعة العيش وتمام الخلقة السوية، وحنان الأبوين حين ربيّاني صغيرًا، وجمع بين شكري النعمة عليه وعلى والديه؛ لأن النعمة عليهما نعمة عليه.
وقوله: ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ﴾: معطوف (١) على قوله: ﴿أَنْ أَشْكُرَ﴾؛ أي: ألهمني ووفّقني للعمل الصالح في ترضاه منّي، والعمل الصالح المرضي: هو ما يكون سالمًا من شوائب عدم القبول. وفيه إشارةٌ إلى أنه لا يمكن للعبد أن يعمل عملًا يرضي به ربه إلا بتوفيقه وإرشاده ﴿وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾؛ أي: واجعل الصلاح ساريًا في ذريتي، متمكنًا من نفوسهم، راسخًا في قلوبهم؛ أي: اجعل ذرّيتي صالحين راسخين في الصلاح متمكنين منه. وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي لمن بلغ عمره أربعين سنة أن يستكثر من هذه الدعوات. وأصل ﴿أصلح﴾: يتعدى بنفسه كما في قوله: ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾، وإنما عدي هنا بالحرف ﴿في﴾؛ لإفادة الرسوخ والسريان. قال سهلٌ: اجعلهم لي خلف صدق، ولك عبيدا حقًا. وقال محمد بن عليّ: لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلًا. وفيه إشارة إلى أنَّ صلاحية الآباء تورث صلاحية الأبناء ﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ من ذنوبي التي فُرِّطت منى في أيامي الخوالي ﴿وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾؛ أي: من الخاضعين لك بالطاعة، المستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك.
قال ابن كثير: وهذا فيه إرشادٌ لمن بلغ الأربعين أن يجدّد التوبة والإنابة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، ويعزم عليها. وقد روى أبو داود في "سننه" عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنّ رسول الله - ﷺ - كان يعلّمهم أن يقولوا في التشهد: "اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجنا من الظلمات إلى
(١) التفسير المنير.
53
النور، وجنّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرّياتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك، قابليها وأتمها علينا.
قال عليّ رضي الله عنه: هذه الآية: ﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي﴾ نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه أسلم أبواه جميعًا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أبواه غيره، فأوصاه الله بهما، ولزم ذلك من بعده، ووالده: هو أبو قحافة عثمان بن، عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، وأمه: أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد، وأم أبيه أبي قحافة: قيلة، وامرأة أبي بكر الصديق اسمها: قتيلة بنت عبد العزّى.
وقال ابن عباس عن قوله تعالى: ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي﴾ أجاب الله دعاء أبي بكر، فاعتق تسعةً من المؤمنين يعذَّبون في الله، منهم: بلال وعامر بن فهيرة، ولم يدع شيئًا من الخير إلا أعانه الله عليه، ولم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا آمنوا بالله وحده، ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله - ﷺ - أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر وهذا دليل على استجابة دعاء أبي بكر رضي الله عنه.
١٦ - ثم ذكر جزاء أصحاب هذه الأوصاف الجليلة، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة إلى الإنسان المذكور، ولأنّ المراد به: الجنس المتصف بالوصف المحكي عنه، وهو مبتدأ خبره الموصول المذكور بعده؛ أي: أولئك المنعوتون بما ذكر من النعوت الجليلة هم ﴿الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾ من الطاعات واجبة أو مندوبة، فإن المباحات حسن لا يثاب عليها، فأفعل التفضيل على بابه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يتقبل﴾ مبنيًا للمفعول ﴿أحسن﴾ رفعًا، وكذا ﴿ويتجاوز﴾. وقرأ زيد بن عليّ وابن وثّاب وطلحة وأبو جعفر والأعمش بخلاف عنه، وحمزة والكسائي وحفص: ﴿نَنَقَبَّل﴾ ﴿أَحْسَنَ﴾ نصبًا، ﴿وَنَتَجَاوَزُ﴾ بالنون
(١) البحر المحيط.
54
فيهما، وقرأ الحسن والأعمش وعيسى: بالياء فيهما مفتوحةً، ونصب ﴿أَحْسَنَ﴾.
﴿وَنَتَجَاوَزُ﴾؛ أي: نتسامح ﴿عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾؛ أي: ما فعلوا قبل التوبة، ولا يعاقبون عليها. قال الحسن: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ إنما ذلك من أراد الله سبحانه هوانه، وأما من أراد كرامته.. فإنه يتجاوز عن سيئاته حال كونهم كائنين ﴿في﴾ عداد ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ منتظمين في سلكهم، فالجار والمجرور: في محل النصب على الحال، كقولك: أكرمني الأمير في أصحابه؛ أي: كائنًا في جملتهم. وقيل: إن ﴿في﴾ بمعنى: مع؛ أي: مع أصحاب الجنة. وقيل: إنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هم في أصحاب الجنة ﴿وَعْدَ الصِّدْقِ﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة؛ لأنّ قوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ﴾ إلخ. في معنى الوعد بالتقبل والتجاوز.
والمعنى عليه: وعد الله أهل الإيمان أن يتقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق. ويجوز أن يكون مصدرًا لفعل محذوف؛ أي: وعدهم الله وعد الصدق ﴿الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾ به في الدنيا على ألسنة الرسل، كما في قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ الآية.
ومعنى الآية: أي (١) هؤلاء الذين هذه صفاتهم، هم الذين يتقبل الله عنهم أحسن ما عملوا في الدنيا من صالح الأعمال، فيجازيهم به، ويثيبهم عليه، ويصفح عن سيئات أعمالهم التي فرطت منهم في الدنيا لمامًا ولم تكن عادة لهم، بل جاءت بحافزة من القوة الشهوانية، أو القوة الغضبية، فلا يعاقبهم عليها، وهم منتظمون في سلك أصحاب الجنة، داخلون في عدادهم.
ثم أكد الوعد السابق بقوله: ﴿وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾؛ أي: وعدهم الله الوعد الحق في لا شك فيه ولا خلف، وأنه موفّ به.
وهذه الآية كما تنطبق على سعد بن أبي وقاص، وعلى أبي بكر الصديق، اللذين قيل: في كل منهما نزلت الآية، تنطبق على كل مؤمن، فهو موصى
(١) المراغي.
55
بوالديه، مأمور أن يشكر نعمة الله عليه، وعلى والديه، وأن يعمل صالحًا، وأن يسعى في إصلاح ذرّيته، ويدعو الله أن يوفقه لعمل أهل الجنة.
١٧ - ولما ذكر سبحانه من شكر نعمة الله سبحانه عليه وعلى والديه.. ذكر من قال لهما قولًا يدل على التضجر منهما عند دعوتهما له إلى الإيمان، فقال: ﴿وَالَّذِي﴾: مبتدأ، خبره: قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾؛ لأنَّ المراد به - أي: بالموصول - الجنس ﴿قَالَ لِوَالِدَيْهِ﴾ عند دعوتهما له إلى الإيمان، ويدخل فيه كل عبد سوءٍ عاقٍ لوالديه فاجرٍ لربّه ﴿أُفٍّ لَكُمَا﴾ و ﴿أُفٍّ﴾: (١) كلمة تصدر عن قائلها عند تضجره من شيء يرد عليه، وكراهيته له. و ﴿اللام﴾: لبيان المؤفف له، كما في ﴿هَيْت لَكَ﴾؛ أي: هذا التأفيف لكما خاصَّة. وقال الراغب: أصل الأفّ؛ كل مستقذر من وسخ وقلامة ظفر وما يجري مجراهما، ويقال ذلك لكل مستخفٍ به، استقذارًا له؛ أي: نتنًا وقبحًا لكما، أتضجر منكما. فـ ﴿اللام﴾ بمعنى: منْ.
وقرأ نافع وحفص (٢): ﴿أُفٍّ﴾ بكسر ﴿الفاء﴾ مع التنوين، وقرأ ابن كثير وابن عامر وابن محيصن: بفتحها من غير تنوين، وقرأ الباقون، بكسر من غير تنوين، وهي لغات. وقد مضى الكلام على ﴿أُفٍّ﴾ مدلولًا. ولغات، وقراءةً في سورة الإسراء مبسوطًا، وقرأ الجمهور: ﴿أَتَعِدَانِنِي﴾ بنونين خفيفتين الأولى مكسورة، وفتح ياءه أهل المدينة ومكة، وأسكنها الباقون، وقرأ الحسن وعاصم وأبو عمرو في روايةٍ، وهشامٌ، بإدغام نون الرفع في نون الوقاية، وقرأ نافع في رواية، وجماعةٌ: بنونٍ واحدةٍ، وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر بخلاف عنه، وعبد الوارث عن أبي عمرو وهارون بن موسى عن الجحدري وسامٌ عن هشام: بفتح النون الأولى، كأنهم فرَّوا من توالي الكسرتين والياء إلى الفتح؛ طلبًا للتخفيف، ففتحوا كما فرَّ من أدغم ومن حذف، وقال أبو حاتم: فتح النون باطل غلط.
وقرأ الجمهور: ﴿أَنْ أُخْرَجَ﴾ بضم الهمزة، وفتح الراء مبنيًا للمجهول، وقرأ الحسن وابن يعمر والأعمش وأبو العالية وابن مصرِّف والضحاك: بفتح الهمزة،
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
56
وضم الراء مبنيًا للفاعل.
والمعنى: أتعدانني وتخبرانني أن أبعث بعد الموت، وأخرج من القبر ﴿و﴾ الحال أنه ﴿قَدْ خَلَتِ﴾ ومضت ﴿الْقُرُونُ﴾؛ أي: أمة بعد أمة ﴿مِنْ قَبْلِي﴾ فماتوا ولم يبعث منهم أحد ولم يرجع. فالجملة: في محل النصب على الحال من مفعول ﴿أَتَعِدَانِنِي﴾، وكذا جملة قوله: ﴿وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ﴾: في محل النصب على الحال من قوله: ﴿لِوَالِدَيْه﴾؛ أي: قال لهما ذلك، والحال: أنهما يستغيثان الله سبحانه له، ويسألانه، ويطلبان منه أن يغيثه، ويوفقه للإيمان، واستغاث يتعدَّى بنفسه، وبالباء، يقال: استغاث الله، واستغاث به. وقال الرازي: معناه: يستغيثان الله من كفره، فلما حذف الجار.. وصل الفعل؛ أي: يقولان: الغياث بالله منك ومن قولك، وهو استعظام لقوله؛ أي: يستغيثان الله حال كونهما قائلين له: ﴿وَيْلَكَ﴾؛ أي: هلكت هلاكك، وهو في الأصل: دعاء عليه بالهلاك أريد به الحث والتحريض على الإيمان، لا حقيقة الهلاك. وانتصابه: إما على المصدر (١) بفعل ملاقٍ له في المعنى دون اللفظ؛ أي: هلكت هلاكك، وهو من المصادر التي لم تستعمل أفعالها كالويح والويس والويب، وإمَّا على المفعول به؛ أي: ألزمك الله ويلك. وعلى كلا التقديرين، فالجملة معمولة لقول مقدر؛ أي: يقولان: ﴿وَيْلَكَ آمِنْ﴾. والقول المقدر: في محل النصب على الحال من فاعل ﴿يَسْتَغِيثَانِ﴾، كما مرت الإشارة إليه ﴿آمِنْ﴾؛ أي: صدِّق بالبعث، والإخراج من الأرض، وهو فعل أمر من الإيمان، وهو من جملة مقولهما ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ بالبعث؛ أي: إنّ موعوده وهو البعث ﴿حَقٌّ﴾؛ أي: كائن واقع لا محالة؛ لأنَّ الخلف في الوعد نقص يجب تنزيه الله منه، وأضاف الوعد إليه تعالى في قوله: ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾ تحقيقًا للحق، وتنبيهًا على خطأه في إسناده الوعد إليهما. في قوله: ﴿أَتَعِدَانِنِي﴾ ﴿فَيَقُولُ﴾ مكذبًا لهما: ﴿مَا هَذَا﴾ الذي تسميانه وعد الله ﴿إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: إلا أكاذيب الأقدمين، وأباطيلهم التي يسطرونها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة، كأحاديث رستم، وبهرام، واستنديار.
(١) الفتوحات.
57
وقرأ الجمهور (١): ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ بكسر ﴿إِن﴾ على الاستئناف، أو على التعليل وقرأ الأعرج، وعمرو بن فائد: بفتحها على أنها معمولةٌ لآمن بتقدير الباء؛ أي: آمن بأنَّ وعد الله بالبعث حقٌّ.
والمعنى: أي والذي قال لوالديه لأجل أن دعواه إلى الإيمان والإقرار ببعث الله خلقه من قبورهم، ومجازاته إياهم بأعمالهم: أفٍّ لكما؛ أي: قبحًا لكما، إنّي لضجر منكما، أتقولان: إني أبعث من قبري حيًّا بعد موتي وفنائي، وما لحق بي من بلى، وتفتت عظام، إنَّ هذا لعجب عاجب، فها أولئك قرون قد مضت، وأمم قد خلت من قبلي، كعاد وثمود، ولم يبعث منهم أحدٌ، ولو كنت مبعوثًا بعد وفاتي كما تقولان.. لبعث من قبلي من القرون الغابرة، ووالداه يستصرخان الله عليه، ويستغيثانه أن يوفقه إلى الإيمان بالبعث، ويقولان له حثًّا وتحريضًا: هلاكًا لك، صدق بوعد الله، وأنك مبعوث بعد وفاتك، إنّ وعد الله في وعده خلقه أنه باعثهم من قبورهم ومخرجهم منها إلى موقف الحساب لمجازاتهم حق لا شك فيه.
والخلاصة (٢): أنهما يستعظمان قوله، ويلجآن إلى الله في دفعه، ويدعوان عليه بالويل والثبور ليستحثاه على ترك ما هو فيه، ويشعراه بأن ما يرتكبه جدير بأن يهلك فاعله.
ثم ذكر ردَّه عليهما مع الاستهزاء بهما، والتعجيب من حالهما. بقوله: ﴿فَيَقُولُ﴾ إلخ؛ أي: فيقول ذلك الولد مجيبًا لوالديه، رادًّا عليهما نصحهما، مكذِّبًا بوعد الله: ما هذا الذي تقولان لي، وتدعواني إليه إلا ما سطره الأولون من الأباطيل، فأصبتماه أنتما وصدَّقتما به، ولا ظل له من الحقيقة.
١٨ - ثم ذكر سبحانه جزاء هؤلاء على ما قالوا واعتقدوا، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ القائلون هذه المقالات الباطلة هم ﴿الَّذِينَ حَقَّ﴾ ووجب ﴿عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾؛ أي: العذاب بقوله سبحانه لإبليس: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ كما يفيده
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
قوله: ﴿فِي أَمْرٍ﴾: حال من الضمير المجرور في ﴿عَلَيْهِمُ﴾؛ أي: حال كون أولئك القائلين في عداد أمم ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ بيان للأمم، وجملة قوله: ﴿إِنَّهُمْ﴾ جميعًا؛ أي: هم والأمم ﴿كَانُوا خَاسِرِينَ﴾؛ لأنهم قد ضيَّعوا فطرتهم الأصلية الجارية مجرى رؤوس أموالهم باتباع الشيطان؛ تعليل للحكم بطريق الاستئناف التحقيقي.
والمعنى (١): أي هؤلاء الذين هذه أوصافهم، هم الذين وجب عليهم عذاب الله، وحلت عليهم عقوبته وسخطه فيمن حل به العذاب من الأمم الذين قد مضوا من قبلهم من الجن والإنس ممن كذّبوا الرسل، وعتوا عن أمر ربهم.
وفي الآية (٢): إيماء إلى أنَّ الجن يموتون قرنًا بعد قرن كالإنس، قال أبو حيان في "البحر": قال الحسن البصري في بعض مجالسه: الجن لا يموتون، فاعترضه قتادة بالآية فسكت، وفيها رد أيضًا على من قال: إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر؛ لأنه رضي الله عنه أسلم وَجُبَّ عنه ما قبل الإِسلام، وكان من أفاضل الصحابة، أما من حق عليه القول... فهو من علم الله تعالى أنه لا يسلم أبدًا.
ثم ذكر العلة في هذا العذاب المهين، فقال: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ لأنهم ضيَّعوا فطرهم التي فطرهم الله عليها، واتبعوا الشيطان، فغبنوا ببيعهم الهدى بالضلال، والنعيم بالعذاب.
١٩ - ثم ذكر أنّ لكل من الفريقين الذين قالوا: ربنا الله، والذي قال لوالديه أُفٍّ مراتب متفاوتة، فقال: ﴿وَلِكُلٍّ﴾ من الفريقين المذكورين ﴿دَرَجَاتٌ﴾ ومراتب متفاوتة ﴿مِمَّا عَمِلُوا﴾؛ أي (٣): من أجزية ما عملوا من الخير والشر، فـ ﴿من﴾ نعت لـ ﴿دَرَجَاتٌ﴾ ويجوز أن تكون بيانية. و ﴿ما﴾ موصولة، أو من أجل ما عملوا، فـ ﴿ما﴾ مصدرية، و ﴿من﴾: متعلق بقوله: ﴿لكل﴾ أي: ولكل من الفريقين من
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
59
أجل ما عملوا درجات متفاوة حسنًا وقبحًا، والدرجات: طبقات عالية في مراتب المثوبة، وإيرادها هنا بطريق التغليب، قال ابن زيد: درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفلًا، ودرجات أهل الجنة تذهب علوًا.
فإن قلت (١): كيف وصف الفريقين بأنّ لكل منها درجات، مع أنَّ أهل النار لهم دركات لا درجات؟
قلت: الدرجات: هي الطبقات من المراتب مطلقًا، أو فيه إضمارٌ تقديره: ولكل فريق درجات أو دركات، لكن حذف الثاني اختصارًا لدلالة المذكور عليه.
و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿وَلِيُوَفِّيَهُمْ﴾: معللة لمحذوف، تقديره: وجازاهم بما ذكر ليوفِّيهم ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾؛ أي: ليعطيم الله سبحانه أجزية أعمالهم وافيةً تامةً، من وفاه حقّه. إذا أعطاه إياه وافيًا تامًا ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾: بنقص ثواب الأولين وزيادة عقاب الآخرين
وفي"الروح": ﴿اللام﴾ في ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ﴾ متعلقة بمحذوف مؤخر، كأنه قيل: وليوفهم أعمالهم ولا يظلمم حقوقهم فعل ما فعل من تقدير الأجزية على تقدير أعمالهم، فجعل الثواب درجات والعقاب دركات، وجملة قوله: ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ في محل النصب على الحال من مفعول ﴿يُوَفِّيَهُمْ﴾، أو مستأنفة مقررة لما قبلها.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَلِيُوَفِّيَهُمْ﴾ بالياء؛ أي: الله تعالى، وقرأ الأعمش والأعرج وشيبة وأبو جعفر والأخوان: حمزة والكسائي وابن ذكوان ونافع بخلاف عنه: بالنون، وقرأ السلميّ: بالتاء من فوق؛ أي: ﴿ولتوفيهم﴾ الدرجات، أسند التوفية إليها مجازًا.
والمعنى: أي ولكل من الأبرار والفجار من الإنس والجن مراتب عند الله يوم القيامة بحسب أعمالهم، من خير أو شرّ في الدنيا، وليوفيهم أجور أعمالم: المحسن منهم بإحسانه، والمسيء منهم بإساءته، وهم لا يظلمون شيئًا، فلا
(١) فتح الرحمن.
(٢) البحر المحيط.
60
يعاقب المسيء إلا بعقوبة ذنبه، ولا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يبخس المحسن منهم ثواب إحسانه.
٢٠ - وبعد أن بين سبحانه أنه يعطي كل ذي حق حقه.. بين الأهوال التي يلاقيها الكافرون، فقال: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾ والظرف تعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك أهوال يوم ينكشف الغطاء، ويعرض الذين كفروا؛ أي: يقرب الذين كفروا على النار لتعذيبهم، وينظرون إليها.
وقيل: معنى (١) ﴿يُعْرَضُ﴾: يعذبون، من قولهم: عرض الأسارى على السيف؛ أي: قتلوا، وإلا فالمعروض عليه يجب أن يكون من أهل الشعور والإطلاع، والنار ليست منه، وقيل: تعرض النار عليهم بأن يوقفوا بحيث تبدو لهم النار، ومواقعم فيها، وذلك قبل أن يلقوا فيها، فيكون من باب القلب مبالغةً بادعاء كون النار مميزًا ذا قهر وغلبة.
يقول الفقير: لا حاجة عندي إلى هذين التأويلين، فإن نار الآخرة لها شعور وإدراك، بدليل أنها تقول: ﴿هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾، وتقول للمؤمنين: "جُزْ يا مؤمن فإن نورك أطفأ ناري"، وأمثال ذلك، وأيضًا لا بعد في أن يكون عرضهم على النار باعتبار ملائكة العذاب، فإنهم حاضرون عندها بأسباب العذاب، وأهل النار ينظرون إليهم وإلى ما يعذبونهم به عيانًا. والله أعلم.
أي: اذكر يوم يقربون إليها، فيقال لهم توبيخًا وتقريعًا: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ﴾؛ أي: أصبتم وأخذتم ما كتب لكم من طيبات الدنيا ولذائذها وحظوظها ﴿فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾؛ أي: بالطيبات وانتفعتم بها، فلم يبق لكم بعد ذلك شيء منها؛ لأنّ إضافة الطيبات تفيد العموم. قال سعدي المفتي: قوله: ﴿وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾ كأنه عطف تفسيري لـ ﴿أَذْهَبْتُمْ﴾. والطيبات هنا (٢): المستلذّات من المآكل والمشارب والملابس والمفارش والمراكب والمواطىء وغير ذلك، مما يتنعم به أهل الرفاهية.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
61
والمعنى: أنه كانت تكون لكم طيبات الآخرة لو آمنتم، لكنكم لم تؤمنوا فاستعجلتم طيباتكم في حياتكم الدنيا، فهذه كناية عن عدم الإيمان، ولذلك ترتب عليه: ﴿فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾، ولو أريد الظاهر ولم يكن كنايةً عما ذكر.. لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَذْهَبْتُمْ﴾ على الخبر؛ أي: فيقال لهم: ﴿أَذْهَبْتُمْ﴾ ولذلك حسنت ﴿الفاء﴾ في قوله: ﴿فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ﴾، وقرأ قتادة ومجاهد وابن وثاب وأبو جعفر والأعرج وابن كثير: بهمزة بعدها مدة مطولة، وقرأ ابن عامر: بهمزتين حققهما ابن ذكران، وليَّن الثانية هشام. وابن كثير في رواية، وعن هشام: الفصل بين المحقَّقَة والمَلَيَّنَة بألف. وهذا الاستفهام على معنى التوبيخ والتقرير، فهو خبر في المعنى، فلذلك حسنت ﴿الفاء﴾ بعدها، ولو كان استفهامًا محضًا.. لم تدخل ﴿الفاء﴾.
﴿فَالْيَوْمَ﴾؛ أي: ففي هذا اليوم الحاضر؛ يعني يوم القيامة ﴿تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾؛ أي: الذل والحقارة؛ أي: العذاب الذي فيه ذلّ، لكم وخزي عليكم، وقرىء: الهوان، وهو والهون بمعنى واحد.
ثم بين تلك الكناية بقوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿تَسْتَكْبِرُونَ﴾ وتترفعون عن الإيمان ﴿فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾؛ أي: بغير استحقاق لذلك.
وفيه إشارة (٢) إلى أنّ الاستكبار إذا كان بحق، كالاستكبار على الظلمة.. لا ينكر ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾؛ أي: تخرجون عن طاعة الله تعالى؛ أي: تجزون عذاب الهون بسبب استكباركم، وفسقكم المستمرين، علّل سبحانه ذلك العذاب بأمرين:
أحدهما: الاستكبار عن قبول الحق والإيمان بمحمد - ﷺ -، وهو ذنب القلب.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
62
والثاني: الفسق والمعصية بترك المأمورات، وفعل المنهيات، وهو ذنب الجوارح، وقدّم الأول على الثاني؛ لأنّ ذنب القلب أعظم تأثيرًا من ذنب الجوارح، وهذا شأن الكفرة، فإنهم قد جمعوا بينهما، وهذه الآية محرضة على التقليل من الدنيا، وترك التنعم فيها، والأخذ بالتقشف، وما يجتزي به رمق الحياة.
ومعنى الآية: أي (١) واذكر يا محمد لقومك حال الذين كفروا حين يعذبون في النار، ويقال لهم على سبيل التوبيخ: إنّ كل ما قدّر لكم من اللذات والنعيم قد استوفيتموه في الدنيا ونلتموه، ولم يبق لكم منه شيء، ولكن بقيت لكم الإهانة والخزي جزاء استكباركم، وفسوقكم عن أمر ربكم، وخروجكم عن طاعته.

فصل في ذكر نبذة من الأحاديث المحرضة على التزهد في الدنيا


ولما وبّخ (٢) الله سبحانه الكافرين بالتمتع بالطيبات.. آثر النبي - ﷺ - وأصحابه والصالحون بعدهم اجتناب اللذات في الدنيا، رجاء ثواب الآخرة، فقد وردت أحاديث صحيحة دالة على ذلك:
فمنها: ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: دخلت على رسول الله - ﷺ -، فإذا هو متّكىء على رمال حصير قد أثّر في جنبه، فقلت: أستأنس يا رسول الله، قال: "نعم" فجلست فرفعت رأسي في البيت، فوالله ما رأيت فيه شيئًا يردّ البصر إلا أهبة ثلاثة، فقلت: ادع الله أن يوسع على أمّتك، فقد وسَّع على فارس والروم، ولا يعبدون الله، فاستوى جالسًا ثم قال: "أفيّ شكّ أنت يا ابن الخطاب، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا" فقلت: استغفر لي يا رسول الله. متفق عليه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد من خبز شعير يومين متتابعين، حتى قبض رسول الله - ﷺ -. متفق عليه.
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
63
وعنها قالت؛ كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارًا، إنما هو الأسودان: التمر والماء، إلا أن نؤتى باللحيم. وفي رواية أخرى قالت: إنا كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلّة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله - ﷺ - نار. قال عروة: قلت: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله - ﷺ - جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، فكانوا يرسلون إلى رسول الله - ﷺ - من ألبانها فيسقينا. متفق عليه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله - ﷺ - يبيت الليالي المتتابعة طاويًا، وأهله لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير). أخرجه الترمذي، وله عن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لقد أخفت في الله ما لم يخف أحد، وأوذيت في الله ما لم يؤذ أحد، ولقد أتى عليَّ ثلاثون من بين يوم وليلة، وما لي ولبلال طعام إلّا شيء يواري إبط بلال".
وعن أبي هريرة قال: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم، فمنها ما يبلغ نصف الساقين، ومنها ما يبلغ الكعبين، فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته. أخرجه البخاري.
وعن إبراهيم بن عبد الرحمن: أنّ عبد الرحمن بن عوف أتي بطعام وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير منّى، فكفّن في بردة إن غطِّي رأسه.. بدت رجلاه، وإن غطّي رجلاه.. بدا رأسه، قال: وأراه، قال: قتل حمزة وهو خير منّى، فلم يوجد ما يكفّن فيه إلا بردة، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، وقد خشيت أن تكون عجلت لنا طيّباتنا في حياتنا الدنيا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام، أخرجه البخاري أيضًا.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عمر: أنّ عمر رضي الله عنه رأى في يد جابر بن عبد الله رضي الله عنه درهمًا، فقال: ما هذا الدرهم؟ قال: أريد أن أشتري به لأهلي لحمًا قرموا إليه،
64
فقال: أكلما اشتهيتم شيئًا اشتريتوه؟ أين تذهب عنكم هذه الآية: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا﴾؟.
وقد كان (١) السلف الصالح يؤثرون التقشف والزهد في الدنيا؛ رجاء أن يكون ثوابهم في الآخرة أكمل، لا أن التمتع بزخارف الدنيا ما يمتنع، بدليل قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾.
نعم: إنّ الاحتراز عن التنعم أولى؛ لأنّ النفس إذا اعتادت ذلك، وألفته.. صعب عليها تركه والاكتفاء بما دونه، ولله در البوصيري إذ يقول:
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلهُ شَبَّ عَلَى حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
والذي يضبط هذا الباب، ويحفظ قانونه: أنّ على المرء أن يأكل ما وجد، طيبًا كان أو قفارًا - الطعام بلا إدام - ولا يتكلف الطيب، ويتخذه عادةً. وقد كان النبي - ﷺ - يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمده أصلًا، ولا يجعله في يدنًا له.
قِصّة هود عليه السلام مع قومه عاد
٢١ - ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ﴾؛ أي: واذكر يا محمد لكفار مكة هودًا عليه السلام مع قومه، ليعتبروا من حال قومه، فمعنى (٢) ﴿أَخَا عَادٍ﴾. واحدًا منهم في النسب لا في الدين، كما في قولهم: يا أخا العرب، وعاد: هم ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. وهود: وابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد ﴿إِذْ أَنْذَرَ﴾ وخوَّف ﴿قَوْمَهُ﴾ عادًا من عذاب الله تعالى، والظرف: بدل اشتمال من ﴿أَخَا عَادٍ﴾ لأنّ ﴿أَخَا عَادٍ﴾ وهو هود، يلابس وقت إنذاره وما وقع له معهم، فـ ﴿إذ﴾: ظرف للماضي، بمعنى الوقت مضافة لما بعدها ﴿بِالْأَحْقَافِ﴾؛ أي: بموضع يقال له: الأحقاف واد باليمن به منازلهم، وليس صلةً لـ ﴿أنذَرَ﴾ كما قد
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
65
يتوهم، بل هو حال من ﴿عَادٍ﴾؛ أي: حال كونهم كائنين بالأحقاف؛ أي: نازلين به، أو صفة؛ أي: أخا عاد الكائنين بالأحقاف؛ أي: بالوادي المعلوم. اهـ شيخنا. وأمَّا صلة ﴿أنذَرَ﴾ فهي قوله الآتي: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾.
والأحقاف: جمع حقفٍ، وهو الرمل العظيم المستطيل المعوج. قاله الخليل وغيره. وكانوا قهروا أهل الأرض بقوتهم، وكثيرًا ما تحدث هذه الأحقاف في بلاد الرمل في الصحارى؛ لأنَّ الريح تصنع ذلك. وقال في "فتح الرحمن": الصحيح من الأقوال: أنَّ بلاد عاد كانت في اليمن، ولهم كانت إرم ذات العماد. وعن عليّ رضي الله عنه: شر وادٍ بين الناس وادي الأحقاف، وواد بحضرموت يدعى برهوت، تلقى فيه أرواح الكفار، وخير واد وادي مكة، ووادٍ نزل به ادم بأرض الهند، وخير بئر في الناس بئر زمزم، وشر بئر في الناس بئر برهوت. كذا في "كشف الأسرار".
﴿وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ﴾؛ أي: مضت الرسل، جمع نذير بمعنى المنذر ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ﴾؛ أي: من قبل هود، كنوح عليهما السلام ﴿وَمِنْ خَلْفِهِ﴾؛ أي: ومن بعد هود، كصالح عليهما السلام. وهذه الجملة: معترضة بين المفسِّر والمفسَّر، أو المتعلِّق والمتعلَّق، مقرِّرة لما قبلها، مؤكدة لوجوب العمل بموجب الإنذار، وسَّط بها بين إنذار قومه وبين قوله: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ مسارعةً إلى ما ذكر من التقرير والتأكيد، وإيذانًا باشتراكهم في العبادة المحكيّة.
وفي "الفتوحات" (١): المضي بالنسبة لزمن محمد - ﷺ - خوطب به محمد، وأخبر به لبيان أنَّ إنذار هود لعاد وقع مثله للرسل السابقين عليه، والمتأخرين عنه، فأنذروا أممهم كما أنذر هود أمته، فصحَّ قوله: ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾، فالذين قبله أربعة: آدم وشيث وإدريس ونوح، والذين بعده: كصالح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وكذا سائر أنبياء بني إسرائيل.
والمعنى (٢): واذكر يا محمد لقومك إنذار هود قومه عاقبة الشرك، والعذاب
(١) الجمل.
(٢) روح البيان.
66
العظيم، وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك. قال في "بحر العلوم": ﴿أن﴾، مخففة من الثقيلة؛ أي: أنه يعني: أنَّ الشأن والقصة لا تعبدوا إلا الله، أو مفسرة بمعنى أي، أي: لا تعبدوا إلا الله أو مصدرية بحذف الباء؛ أي: بأن لا تعبدوا إلا الله، وتلك الباء للتصوير والتفسير؛ أي: صورة إنذاره أن قال: لا تعبدوا إلخ. و ﴿لا﴾: ناهية. وإنما كان هذا إنذارًا؛ لأنّ النهي عن الشيء إنذار. وتخويف من مضرّته. اهـ. "بيضاوي". فصح أنّ قوله: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا﴾ مفسر للإنذار، ومتعلق به. اهـ "شهاب".
وقوله: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ بسبب شرككم، وإعراضكم عن التوحيد، تعليل لقوله: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا﴾؛ أي إنما أحذركم أن لا تعبدوا إلا الله لأني أخاف عليكم بسبب شرككم ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ أي: هائل واليوم العظيم يوم نزول العذاب عليهم، فعظيم مجاز عن هائل؛ لأنّه يلزم العظم، ويجوز أن يكون من قبيل الإسناد إلى الزمان مجازًا، وأن يكون الجر على الجوار.
والمعنى (١): أي واذكر أيها الرسول لقومك المكذبين ما جئتهم به من الحق هودًا أخا عاد، فقد كذّبه قومه بالأحقاف حين أنذرهم بأس الله وشديد عذابه، وقد مضت رسل من قبله ومن بعده منذرة أممها أن لا تشركوا مع الله شيئًا في عبادتكم إياه، بل أخلِصوا له العبادة، وأفرِدوا له الألوهية، وقد كانوا أهل أوثان يعبدونها من دون الله، فقال لهم ناصحًا: إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم الهول ﴿يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١)﴾ ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩)﴾،
٢٢ - وحين نصحهم بذلك أجابوه و ﴿قَالُوا﴾ له: ﴿أَجِئْتَنَا﴾ يا هود بالتوحيد والإيمان، والاستفهام فيه (٢): للتقرير والتوبيخ، والتعجيز له فيما أنذره إياهم من العذاب العظيم، على ترك إفراد الله تعالى بالعبادة. ذكره في "البحر". ﴿لِتَأْفِكَنَا﴾؛ أي: لتصرفنا وتردنا ﴿عَنْ آلِهَتِنَا﴾؛ أي: عن عبادتها إلى دينك، وهذا مما لا يكون ولا يعقل ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾ وتخبرنا من
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
العذاب العظيم. و ﴿الباء﴾: للتعدية ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في وعدك بنزوله بنا
٢٣ - ﴿قَالَ﴾ هود ﴿إِنَّمَا الْعِلْمُ﴾ بوقت مجيئه أو العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾ وحده لا عندي، لا علم لي بوقت نزوله، ولا مدخل لي في إتيانه وحلوله، وإنما علمه عند الله تعالى، فيأتيكم به في وقته المقدر له ﴿وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ﴾ إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار، وبيان نزول العذاب إن لم تنتهوا عن الشرك من غير وقوف على وقت نزوله.
وقرأ أبو عمرو: ﴿أبلغكم﴾ بالتخفيف ﴿وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ حيث بقيتم مصرين على كفركم، ولم تهتدوا بما جئتكم به، بل تقترحون عليّ ما ليس من وظائف الرسل من الإتيان بالعذاب، وتعيين وقت نزوله. وفي "التأويلات النجمية": تجهلون الصواب من الخطأ، والصلاح من الفساد حين أدلكم على الرشاد.
والمعنى (١): أي قال قومه له: أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا إلى عبادة ما تدعونا إليه، وإلى اتباعك فيما تقول، هلمّ فهات ما تعدنا به من العذاب على عبادة ما نعبد من الآلهة، إن كنت صادقًا في قولك وعدتك.
والخلاصة: أتزيلنا بضروب من الكذب عن آلهتنا وعبادتها، فأتنا بما تعدنا من معالجة العذاب على الشرك إن كنت صادقًا في وعيدك، وقد استعجلوا عذاب الله. وعقوبته، استبعادًا منهم لوقوعه، كما قال تعالى: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾. فردّ هود عليهم مقالتهم، قال: إنما العلم بوقت نزوله عند الله وحده لا عندي، فلا أستطيع تعجيله، ولا أقدر عليه، ثم بين وظيفته فقال: وأبلغكم ما أرسلت به إليكم من ربكم من الإنذار، لا أن آتي يالعذاب، فليس ذلك من مقدوري، بل هو من مقدورات ربّي، ثمّ بيّن لهم أنم جاهلون بوظيفة الرسل، فقال: ﴿وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ...﴾ إلخ؛ أي: وإنّي لأعتقد فيكم الجهل، ومن ثم بقيتم مصرين على كفوكم، ولم تهتدوا بما جئتكم به، بل أقترحتم عليّ ما ليس
(١) المراغي.
من شأن الرسل، وهو الإتيان بالعذاب.
٢٤ - ثمّ ذكر مجيء العذاب إليهم، وانتقامه منهم، واستئصال شأفتهم، فقال: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ﴾ ﴿الفاء﴾. عاطفة على محذوف، تقديره: فأتاهم العذاب الموعود به، فلمّا رأوه وأبصروه حال كونه ﴿عَارِضًا﴾؛ أي: سحابًا يعرض في أفق السماء، أو يبدو في عرض السماء ﴿مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ﴾؛ أي: متوجهًا تلقاء أوديتهم، والإضافة فيه (١) لفظية، ولذا وقع صفة للنكرة، قال المفسّرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أيامًا، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد لهم، يقال له: المُعَتِّب، فلمّا شاهدوها.. ﴿قَالُوا﴾ مستبشرين مسرورين بها: ﴿هَذَا﴾ السحاب ﴿عَارِضٌ﴾؛ أي: غيم ﴿مُمْطِرُنَا﴾؛ أي: يأتينا بالمطر، فلما قالوا ذلك.. أجاب عليهم هود، فقال: ليس الأمر كذلك ﴿بَلْ هُوَ﴾؛ أي: هذا العارض ﴿مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ﴾ من العذاب حيث قلتم: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾. وقرىء: ﴿ما استعجلتم﴾ بضم التاء وكسر الجيم. ذكره في "البحر". ﴿رِيحٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو ريح ﴿فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ والجملة الاسمية: صفة أولى لـ ﴿رِيحٌ﴾ والريح التي عُذّبوا بها نشأت من ذلك السحاب في رأوه. وقرىء ﴿قل بل ريح﴾؛ أي: بل هي ريح. ذكره البيضاوي.
٢٥ - وكذا جملة قوله: ﴿تُدَمِّرُ﴾؛ أي: تهلك ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ مرّت عليه من نفوسهم وأموالهم، صفة ثانية لـ ﴿رِيحٌ﴾. والاستغراق فيه عرفيّ، والمراد: المشركون منهم ﴿بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾؛ أي: بإذن ربها وإرادته، إذ لا حركة ولا سكون إلا بمشيئته تعالى، وأضاف الرب إلى الريح، مع أنه تعالى ربّ كل شيء؛ لتعظيم شأن المضاف إليه، وللإشارة إلى أنها في حركتها مأمورة، وأنها من أكابر جنود الله؛ يعني: ليس ذلك من باب تأثيرات الكواكب والقرانات، بل هو أمر حدث ابتداءً بقدرة الله تعالى لأجل التعذيب.
وقرأ الجمهور: ﴿تُدَمِّرُ﴾ بضم التاء وكسر الميم المشددة من التدمير وهو: الإهلاك، وكذا الدمار، وقرأ (٢) زيد بن علي: ﴿تَدْمُرُ﴾ بفتح التاء وسكون الدال
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
69
وضم الميم. ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾ بالنصب، وقرىء: ﴿يَدْمُر﴾ بالتحتية المفتوحة والدال الساكنة، والميم المضمومة، ورفع ﴿كل﴾ على الفاعلية، من دمر دمارًا: إذا هلك ﴿فَأَصْبَحُوا﴾، أي: صاروا من العذاب بحال ﴿لَا يُرَى﴾ فيها ﴿إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ بعد ذهاب أنفسهم وأموالهم، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف، تقديره: فجاءتهم الريح فدمَّرتهم، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم.
وقرأ الجمهور (١) ﴿لا تَرَى إلا مساكنهم﴾ بفتح التاء الفوقية على الخطاب، ونصب ﴿مساكنهم﴾؛ أي: لاترى أنت يا محمد، أو كل من يصلح للرؤية إلا مساكنهم بعد ذهاب أنفسهم وأموالهم، وقرأ عبد الله ومجاهد وزيد بن علي وقتادة وأبو حيوة وطلحة وعيسى والحسن وعمرو بن ميمون بخلافٍ عنهما، وعاصم وحمزة: ﴿لَا يُرَى﴾ بالتحتية المضمومة مبنيًا للمفعول، ورفع ﴿مَسَاكِنُهُمْ﴾ قال سيبويه: معناه: لا يرى أشخاصُهم إلا مساكنَهم واختار أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة، قال الكسائي، والزجاج: معناها: لا يُرى شيء إلا مساكنهم، فهي محمولة على المعنى، كما تقول: ما قام إلا هند، والمعنى: ما قام أحد إلا هند، وقرأ الجحدريّ، والأعمش، وابن أبي إسحاق والسلميّ: بالتاء من فوق مضمومة، ﴿مَسَاكِنُهُمْ﴾ بالرفع. وهذا لا يجيزه أصحابنا إلا في الشعر، كقوله:
فَمَا بَقِيَتْ إلَّا الضُّلُوعُ الْجَرَاشِعُ
وبعضهم يجيزه في الكلام، وقرأ عيسى الهمدانيّ: ﴿لا يرى﴾ بضم الياء، ﴿إلا مسكنهم﴾ بالتوحيد، وروى هذا عن الأعمش، ونصر بن عاصم، وقرىء: ﴿لا ترى﴾ بتاء مفتوحة للخطاب، ﴿إلا مسكنهم﴾ بالتوحيد مفردًا منصوبًا. واجتزىء بالمفرد عن الجمع تصغيرًا لشانهم، وأنهم لمّا هلكوا في وقت واحد.. فكأنهم كانوا في مسكن واحد. ﴿كَذَلِكَ﴾ ﴿الكاف﴾: صفة لمصدر محذوف، تقديره: جزاءً مثل ذلك الجزاء الفظيع، يعني: الهلاك بعذاب الاستئصال ﴿نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: المتمردّين في الإجرام المستمريّن على الإشراك الذين منهم هؤلاء.
(١) البحر المحيط.
70
والمعنى: أي كما جازينا عادًا بكفرهم بالله ذلك العقاب في الدنيا فأهلكناهم بعذابنا، كذلك نجزي كل مجرم كافر بالله متمادٍ في غيّه، والآية وعيد لأهل مكة على إجرامهم بالتكذيب، فإنّ الله تعالى قادر على أن يرسل عليهم ريحًا مثل ريح عاد أو نحوها فلا بد من الحذر.
قيل (١): أوحى الله تعالى إلى خزّان الريح، أن أرسلوا مقدار منخر البقر، فقالوا: يا رب ننسف الأرض ومن عليها! فقال تعالى: مثل حلقة الخاتم، ففعلوا، فجاءت ريح باردة من قبل المغرب، وأول ما عرفوا به أنه عذاب أن رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم ومواشيهم تطير بها الريح بين السماء والأرض، وترفع الظعينة في الجوّ حتى ترى كأنها جرادة، فتدمغها بالحجارة، فدخلوا بيوتهم، وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، فأمال الله الأحقاف عليهم، فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام لهم أنين، ثم كشفت الريح عنهم الأحقاف، فاحتملتهم فطرحتهم في البحر، وقد قالوا: من أشد منا قوة، فلا تستطيع الريح أن تزيل أقدامنا، فغلبت عليهم الريح بقوتها، فما أغنت عنهم قوتهم، وبقي هود ومن آمن معه، وكانوا أربعة آلاف.
وفي "الخازن": وقيل: إنّ هودًا عليه السلام لما أحسَّ بالريح.. خطَّ على نفسه وعلى من معه من المؤمنين خطًا، فكانت الريح تمر بهم لينة باردة طيبة، والريح التي تصيب قومه شديدة عاصفة مهلكة، وهذه معجزة عظيمة لهود عليه السلام. انتهى.
٢٦ - ولما أخبر سبحانه بهلاك قوم عاد.. خاطب قريشًا على سبيل الموعظة، فقال: ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُم﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أقدرنا عادًا، وملكناهم ﴿فِيمَا﴾؛ أي: في الذي ﴿إِن﴾ نافية بمعنى ما؛ أي: في الذي ما ﴿مَكَّنَّاكُمْ﴾ يا أهل مكة ﴿فِيه﴾ من السعة، والبسطة، وطول الأعمار، وسائر مبادي التصرفات، ومما (٢) يحسن وقوع ﴿إِن﴾ هاهنا دون ما التقصي والفرار عن تكرر لفظة ما، وهو
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
71
الداعي إلى قلب ألفها هاء في مهما.
أي: (١) ولقد مَكَّنَّا عادًا الذين أهلكناهم بكفرهم فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا، وأعطيناهم منها ما لم نعطكم مثله ولا قريبًا منه من الأموال الكثيرة، وبسطة الأجسام، وقوة الأبدان، وهم على ذلك ما نجوا من عقاب الله، فتدبروا أمركم، وفكروا فيما تعملون قبل أن يحل بكم العذاب، ولا تجدون منه مهربًا.
﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ﴾؛ أي: خلقنا لعاد، وأعطيناهم ﴿سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً﴾؛ أي: قلوبًا ليستعملوها فيما خلقت له، ويعرفوا بكل منها ما نيطت به معرفته من فنون النعم، ويستدلّوا بها على شؤون منعمها عَزَّ وَجَلَّ، ويدوموا على شكرها، ولعل (٢) توحيد السمع وإفراده لأنه لا يدرك به إلا الصوت وما يتبعه بخلاف البصر، حيث يدرك به أشياء كثيرة، بعضها بالذات، وبعضها بالواسطة، والفؤاد يعمّ إدراك كل شيء، والفؤاد من القلب كالقلب من الصدر؛ سُمِّيَ به لتفؤده؛ أي: لتوقده وتحرقه ﴿فَمَا﴾: نافية؛ أي: فيما ﴿أَغْنَى﴾ ودفع ﴿عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ﴾ حيث لم يستعملوه في استماع الوحي، ومواعظ الرسل، يقال: أغنى عنه كذا: إذا كفاه ﴿وَلَا أَبْصَارُهُمْ﴾ حيث لم يجتلوا بها الآيات التكوينية المنصوبة في صحائف العالم ﴿وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ﴾ حيث لم يستعملوها في معرفة الله سبحانه ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾؛ أي: شيئًا من الإغناء، و ﴿مِنَ﴾: مزيدة للتأكيد.
والمعنى (٣): أي إنا فتحنا عليهم أبواب نعمنا، فأعطيناهم سمعًا فما استعملوه في سماع الأدلة والحجج ليعتبروا ويتذكروا، وأعطيناهم أبصارًا ليروا ما نصبناه من الشواهد الدالة على وجودنا فما اتنفعوا بها، وأعطيناهم قلوبًا تفقه حكمة الله في خلق الأكوان فما استفادوا منها ما يفيدهم في آخرتهم، ويقرِّبهم من جوار ربهم، بل صرفوها في طلب الدنيا ولذاتها، لا جرم لم ينفعهم ما أعطيناهم من السمع والأبصار والأفئدة، إذ لم يستعملوها فيما خلقت له من شكر من أنعم
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
72
بها، ودوام عبادته.
ثم بيّن العلة في عدم إغناء ذلك عنهم، فقال: ﴿إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، ويكذّبون رسله، وينكرون معجزاتهم. و ﴿إذ﴾، ظرف جرى مجرى التعليل، متعلق بـ ﴿بما أغنى﴾ من حيث إنّ الحكم مرتب على ما أضيف إليه، فإنّ قولك: أكرمته إذ أكرمني في قوة قولك: أكرمته لإكرامه؛ لأنك إذا أكرمته وقت إكرامه... فإنما أكرمته فيه لوجود إكرامه فيه، وكذا الحال حيث ﴿وَحَاقَ﴾ أي: أحاط ونزل ﴿بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء، فيقولون: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾.
وفي هذا تخويف لأهل مكة حتى يحذروا من عذاب الله، ويخافوا عقابه، فإنّ عادًا لمَّا اغتروا بدنياهم، وأعرضوا عن قبول الحق.. نزل بهم العذاب، ولم تغن عنهم قوتهم ولا كثرتهم شيئًا، فأهل مكة مع عجزهم وضعفهم أولى.
وفي الآية (١): إشارة إلى أنَّ هذه الآلات التي هي السمع والبصر، والفؤاد، أسباب تحصيل التوحيد، وبدأ بالسمع؛ لأنّ جميع التكليف الوارد على القلب إنما يوجد من قبل السمع، وثنَّى بالبصر؛ لأنه أعظم شاهد بتصديق المسموع منه، وبه حصول ما به التفكر والاعتبار غالبًا، تنبيا على عظمة ذلك، وإن كان المبصر هو القلب، ثم رجع إلى الفؤاد الذي هو العمدة في ذلك.
٢٧ - ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا﴾؛ أي: وعزتي وجلالى، لقد أهلكنا يا أهل مكة ﴿مَا حَوْلَكُمْ﴾؛ أي: ما حول قريتكم ﴿مِنَ الْقُرَى﴾ المكذِّبة للرسل كعاد، وقد كانوا بالأحقاف بحضرموت، وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام، وسبأ باليمن، ومدين وكانت في طريقهم في رحلاتهم صيفًا وشتاءً؛ أي: أهلكنا تلك الأمم المكذَّبة بعد أن أنذرناهم بالمثلات، فلم يغن ذلك عنهم شيئًا، فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ﴿وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ﴾؛ أي: ولقد كررنا، وبيَّنا لهم قبل إهلاكهم الآيات التي يعتبر بها بتكرير ذكرها، وإعادة أقاصيص الأمم الخالية بتكذيبها وشركها؛
(١) روح البيان.
أي (١): بينَّا لهم دلائل قدرتنا، وبديع حججنا ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾؛ أي: لكي يرجعوا عن غيِّهم الذي استمسكوا به لمحض التقليد، أو لشبهة عرضت لهم، فلم يرجعوا، فحل بهم سوء العذاب، ولم يجدوا لهم نصيرًا، ولا دافعًا لعذاب الله.
٢٨ - ثم أبان الله تعالى مدى الكرب والشدَّة بفقد الأعوان والنصراء لدفع عذاب الله، فقال: ﴿فَلَوْلَا﴾: تحضيضية؛ أي: فهلَّا نصر أولئك الأمم المكذّبة، حين أهلكهم الله تعالى الأصنام والأوثان ﴿الَّذِينَ اتَّخَذُوا﴾ هم ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً﴾؛ أي: اتخذوها آلهة من دون الله، يتقربون بعبادتها إلى ربهم؛ أي: فهلَّا نصرهم أوثانهم وآلهتهم التي اتخذوا عبادتها قربانًا يتقرَّبون به إلى ربهم فيما
زعموا، حين جاءهم بأسه، فأنقذوهم من عذابه إن كانوا يشفعون عنده ﴿بَلْ ضَلُّوا﴾ وغابوا ﴿عَنْهُمْ﴾ ولم يفيدوهم شيئًا، و ﴿بَلْ﴾ للإضراب الانتقالي عن نفي النصرة لما هو أخص منه، إذ نفيها يصدق بحضورها عندهم بدون النصرة، فأفاد بالإضراب أنهم لم يحضروا بالكلية، فضلًا عن أن ينصروهم، والقربان: كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من طاعة ونسيكة، والجمع: قرابين، كرهبان ورهابين، وأحد (٢) مفعولي ﴿اتَّخَذُوا﴾: ضمير محذوف راجع إلى الموصول، والثاني: ﴿آلِهَةً﴾ و ﴿قُرْبَانًا﴾: حال، والتقدير: فهلّا نصرهم وخلّصهم من العذاب الذين اتخذوهم آلهة، حال كونها متقرَّبًا بها إلى الله تعالى، حيث كانوا يقولون: ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، وفيه تهكم بهم ﴿بَلْ ضَلُّوا﴾؛ أي: بل ضلت الآلهة وغابت عنهم؛ أي: عن عابديها عند حلول البأس بهم، وفيه تهكم آخر بهم، كأنّ عدم نصرتهم لغيبتهم أو ضاعوا عنهم: أي: ظهر ضياعهم عنهم بالكلية.
﴿وَذَلِكَ﴾؛ أي: ضياع (٣) آلهتهم عنهم، وامتناع نصرتهم ﴿إِفْكُهُمْ﴾؛ أي: أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها، ونتيجة شركهم، وثمرته ﴿وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
74
عطف على ﴿إِفْكُهُمْ﴾ أي: وما كانوا يكذبون بقولهم: إنها آلهة، وإنها تشفع لهم، و ﴿ما﴾: إما مصدرية؛ أي: أثر افترائهم على الله، أو موصولة؛ أي: وأثر ما كانوا يفترونه عليه تعالى، من نسبة الشركاء إليه تعالى.
والمعنى (١): أي فهلَّا نصرتهم آلهتهم التي تقرَّبوا بها إلى الله لتشفع لهم، ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم، بل غابوا وذهبوا عنهم، ولم يحضروا لنصرتهم عند الحاجة إليهم. وذلك الضلال والضياع سببه اتخاذهم إياها آلهةً، وزعمهم الكاذب أنها تقرِّبهم إلى الله تعالى، وتشفع، وافتراؤهم وكذبهم بقولهم: إنها آلهة، وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها، واعتمادهم عليها.
وفي هذا (٢): تقريع لأهل مكة، وتأنيبٌ لهم على أنه لو كانت آلهتهم التي يعبدونها من دون الله تغني عنهم شيئًا، أو تنفعهم عنده.. لأغنت عمن كان قبلهم من الأمم الذين أُهلكوا بعبادتهم لها، فدفعت عنهم العذاب إذ نزل بهم، أو لشفعت لهم عند ربهم، لكنها أضرّتهم ولم تنفعهم، وغابت عنهم أحوج ما كانوا إليها، فما أحراهم أن يتنبهوا لما هم فيه من خطل الرأي، وسوء التقدير للأمور.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿إِفْكُهُمْ﴾ بكسر الهمزة وإسكان الفاء وضم الكاف، مصدر أفك يأفك إفكًا؛ أي: كذبهم، وقرأ ابن عباس في رواية: بفتح الهمزة مع سكون الفاء وهو أيضًا مصدر لأفك، وقرأ ابن عباس أيضًا وابن الزبير، والصباح بن العلاء الأنصاري وأبو عياض، وعكرمة، وحنظلة بن النعمان بن مرة، ومجاهد: ﴿أَفَكَهم﴾ بثلاث فتحات، على أنه فعل ماض؛ أي: ذلك القول صرفهم عن التوحيد، وقرأ أبو عياض وعكرمة أيضًا: كذلك، إلا أنهما شدَّدا الفاء للتكثير، فقالا: أفَّكهم من باب فعّل المضعف، وقرأ ابن الزبير أيضًا، وابن عباس فيما ذكر ابن خالويه: ﴿آفكَهم﴾ بالمدّ، فاحتمل أن يكون بزنة فاعل، فـ ﴿الهمزة﴾ أصلية، وأن يكون بزنة أفعل، فـ ﴿الهمزة﴾: للتعدية؛ أي: جعلهم
(١) التفسير المنير.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
75
يأفكون، ويكون أفعل بمعنى المجرد، وعن الفرّاء أنه قرىء: ﴿أفَكُهم﴾ بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف، وهي لغة في الإفك، فيكون له ثلاثة مصادر: الأفْك، والإفْك بفتح الهمزة وكسرها مع سكون الفاء، والأفك بفتح الهمزة والفاء، وقرأ ابن عباس فيما روى قطرب، وأبو الفضل الرازي: ﴿آفكهم﴾ اسم فاعل من أفك؛ أي: صارفهم، والإشارة بذلك على قراءة من قرأ: ﴿أفكهم﴾ مصدرًا إلى اتخاذ الأصنام آلهةً؛ أي: ذلك كذبهم وافتراؤهم، وقال الزمخشري: وذلك إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم، وضلالهم عنهم؛ أي: وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهةً، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب، من كونه ذا شركاء. انتهى.
وعلى قراءة من جعله فعلًا معناه: وذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق، وكذلك قراءة اسم الفاعل؛ أي: صارفهم عن الحق، ويحتمل أن تكون ﴿ما﴾ في قوله: ﴿وما يفترون﴾: مصدرية كما مرّ؛ أي: وافتراؤهم، وهذا الاحتمال هو الأحسن، ليُعْطَف مصدرَ على مثله، وأن تكون بمعنى الذي، والعائد: محذوف؛ أي: والذي يفترونه.
الإعراب
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول. ﴿رَبُّنَا الله﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿قَالُوا﴾. ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: زائدة في خبر الموصول، لما فيه من معنى الشرط. ﴿لا﴾ نافية ﴿خَوْفٌ﴾ مبتدأ، وسوّغ الابتداء به تقدم النفي عليه، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ خبر المبتدأ، والجملة الاسمية. في محل الرفع خبر ﴿إِن﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة، ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: حرف عطف، ﴿لا﴾: زائدة لتكررها ﴿هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَحْزَنُونَ﴾: خبره، والجملة: معطوفة على الجملة السابقة.
﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)﴾.
76
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾. خبر، والجملة: خبر ثان لـ ﴿إنّ﴾ ﴿خَالِدِينَ﴾: حال من ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾. ﴿جَزَاءً﴾: مصدر منصوب بفعل محذوف؛ أي: يجزون جزاءً، والجملة المحذوفة: في محل النصب حال ثانية من ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾. وجوّز أبو البقاء إعرابه حالًا. ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿جَزَاءً﴾، و ﴿ما﴾: موصولة أو مصدرية. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة أو المصدرية.
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾.
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: مستأنفة. ﴿بِوَالِدَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿وصينا﴾. ﴿إِحْسَانًا﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف، تقديره: وصّيناه أن يحسن إليهما إحسانًا، أو مفعول به على تضمين ﴿وصّينا﴾ معنى ألزمنا، فيكون مفعولًا ثانيًا؛ أي: ألزمنا الإنسان إحسانًا بوالديه، ﴿حَمَلَتْهُ﴾: فعل ومفعول به، ﴿أُمُّهُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية: مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالوصية. ﴿كُرْهًا﴾: حال من ﴿أُمُّهُ﴾؛ أي: حالة كونها ذات كره ومشقة وتعب، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: حملًا كرهًا. ﴿وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾: معطوف على ما قبله. ﴿وَحَمْلُهُ﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿حمله﴾: مبتدأ. ﴿وَفِصَالُهُ﴾: معطوف عليه. ﴿ثَلَاثُونَ﴾: خبر. ﴿شَهْرًا﴾ تمييز، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من مفعول ﴿وضعته﴾ ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿بَلَغَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الإنسان ﴿أَشُدَّهُ﴾: مفعول به، والجملة: في محل الخفض مضاف إليه على كونها فعل شرط، والظرف: متعلق بالجواب. ﴿وَبَلَغَ﴾: فعل وفاعل مستتر. ﴿أَرْبَعِينَ﴾: مفعول به. ﴿سَنَةً﴾: تمييز، والجملة: معطوفة على جملة ﴿بَلَغَ﴾ الأول.
﴿قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي في ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، يعود على الإنسان، والجملة جواب
77
﴿إِذَا﴾: لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ من فعل شرطها وجوابها: في محل الجر بـ ﴿حَتَّى﴾ الجارة المتعلقة بمحذوف، تقديره: وعاش إلى قوله: رب أوزعني وقت بلوغه أشده، وبلوغه أربعين سنة. ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿أَوْزِعْنِي﴾: فعل دعاء مبني على السكون، وفاعله: ضمير يعود على الله، والنون: للوقاية، والياء: مفعول به أول، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿أَشْكُرَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر. ﴿نِعْمَتَكَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية مع أن المصدرية في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿أَوْزِعْنِي﴾ تقديره: رب أوزعني شكر نعمتك. ﴿الَّتِي﴾: صفته لـ ﴿نِعْمَتَكَ﴾. ﴿أَنْعَمْتَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: أنعمتها. ﴿عَلَيَّ﴾: متعلق بـ ﴿أَنْعَمْتَ﴾. ﴿وَعَلَى وَالِدَيَّ﴾: معطوف على ﴿عَلَيَّ﴾، ﴿وَأَن﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أن أعمل﴾: ناصب ومنصوب وفاعل مستتر معطوف على ﴿أَنْ أَشْكُرَ﴾؛ أي: وعملي. ﴿صَالِحًا﴾: مفعول به، أو صفة لمصدر محذوف، وجملة ﴿تَرْضَاهُ﴾: صفة لـ ﴿صَالِحًا﴾. ﴿وَأَصْلِحْ﴾: فعل دعاء وفاعل مستتر يعود على الله، معطوف على ﴿أَوْزِعْنِي﴾. ﴿لِي﴾: متعلق بـ ﴿أصلح﴾، ﴿في ذُرِّيَّتِي﴾: متعلق بـ ﴿أصلح﴾ أيضًا؛ أي: واجعل لي الصلاح في ذريتي راسخًا فيهم. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿تُبْتُ﴾ خبر، ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق بـ ﴿تُبْتُ﴾ وجملة ﴿إِنّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل الدعاء المذكور قبله، وجملة ﴿وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾: معطوفة على جملة ﴿إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا﴾.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة: مستأنفة. وجملة ﴿نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ﴾: صلة الموصول. ﴿أَحْسَنَ﴾: مفعول به. و ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، وجملة ﴿عَمِلُوا﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة. ويجوز أن تكون ﴿مَا﴾: مصدرية؛ أي: أحسن عملهم. ﴿وَنَتَجَاوَزُ﴾: معطوف على ﴿نَتَقَبَّلُ﴾ داخل في حيز الصلة. ﴿عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾. متعلق بـ ﴿نتجاوز﴾. ﴿في أَصْحَابِ الْجَنَّةِ﴾: حال من
78
الموصول؛ أعني: الذين نتقبل عنهم. ﴿وَعْدَ الصِّدْقِ﴾: منصوب بفعله المقدر؛ أي: وعدهم الله وعد الصدق؛ أي: وعدًا صادقًا لا خلف فيه، وهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة. ﴿الَّذِي﴾: صفة لوعد الصدق. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يُوعَدُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: يوعدونه ﴿وَالَّذِي﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿الذي﴾، مبتدأ، وجملة ﴿قَالَ﴾: صلته. ﴿لِوَالِدَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿قَالَ﴾، ﴿أُفٍّ﴾: اسم فعل مضارع بمعنى أتضجر، مبني على الكسر لشبهه بالحرف شبهًا استعماليًا، وفاعله: ضمير مستتر فيه وجوبًا، تقديره: أنا وجملة اسم الفعل: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾: ﴿لَكُمَا﴾: متعلق بـ ﴿أُفٍّ﴾.
﴿أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧)﴾.
﴿أَتَعِدَانِنِي﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري. ﴿تعدان﴾: فعل مضارع مرفوع بثبات النون، والألف: فاعل، والنون: للوقاية، والياء: مفعول أول له، والجملة الاستفهامية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَنْ أُخْرَجَ﴾: ناصب وفعل مغير ونائب فاعل مستتر، والجملة: في تأويل مصدر منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿تعدانني﴾؛ أي: تعدانني خروجي من القبر. ﴿وَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿قَدْ﴾ حرف تحقيق. ﴿خَلَتِ الْقُرُونُ﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ قَبْلِي﴾: متعلق بـ ﴿خَلَتِ﴾، والجملة: في محل النصب حال من نائب ﴿أُخْرَجَ﴾، ﴿وَهُمَا﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿همام﴾: مبتدأ. ﴿يَسْتَغِيثَانِ اللهَ﴾: فعل وفاعل، ومفعول به، والجملة: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من ﴿والديه﴾. ﴿وَيْلَكَ﴾: منصوب على المصدرية بفعل مقدر من معناه لا من لفظه؛ لأنّ العرب أماتوا لفظ فعله، تقديره: هلكت ويلك؛ أي: هلاكك، أو مفعول به لفعل محذوف تقديره: ألزمك الله ويلك، والجملة المحذوفة: في محل النصب مقول لقول محذوف وقع حالًا من فاعل ﴿يَسْتَغِيثَانِ﴾، تقديره: وهما يستغيثان الله حال كونهما قائلين: ويلك آمن. ﴿آمِنْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على الولد، والجملة الفعلية: من تتمّة مقولهما. ﴿إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ﴾: ناصب
79
واسمه وخبره، وجملة ﴿إن﴾: في محل النصب من تتمّة قولهما، مسوقة لتعليل الأمر بالإيمان. ﴿فَيَقُولُ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على القول المحذوف. ﴿يقول﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الولد. ﴿مَا﴾ نافية، ﴿هَذَا﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر ﴿أَسَاطِيرُ﴾: خبر. ﴿الْأَوَّلِينَ﴾: مضاف إليه، والجملة الاسمية: في محل النصب مقول لـ ﴿يقول﴾، وجملة ﴿يقول﴾: معطوفة على جملة يقولان المحذوف.
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٩)﴾.
﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ثان. ﴿الَّذِينَ﴾: خبره، والجملة الاسمية: في محل الرفع خبر لقوله السابق: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ﴾. والجمع هنا باعتبار المعنى. ﴿حَقَّ﴾: فعل ماض. ﴿عَلَيْهِمُ﴾: متعلق به. ﴿الْقَوْلُ﴾: فاعل، والجملة: صلة الموصول. ﴿في أُمَمٍ﴾ حال من الضمير المجرور بـ ﴿على﴾؛ أي: حال كونهم كائنين في عداد أمم. وجملة ﴿قَدْ خَلَتْ﴾: صفة لـ ﴿أُمَمٍ﴾. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَتْ﴾ ﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾: حال من فاعل ﴿خَلَتْ﴾، أو صفة لـ ﴿أُمَمٍ﴾، ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿كَانُوا خَاسِرِينَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾: وجملة ﴿إن﴾ جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب. ﴿وَلِكُلٍّ﴾: خبر مقدم. ﴿دَرَجَاتٌ﴾: مبتدأ مؤخو، والجملة: مستأنفة. ﴿مِمَّا﴾: صفة لـ ﴿دَرَجَاتٌ﴾ وجملة ﴿عَمِلُوا﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿وَلِيُوَفِّيَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾ حرف جر وتعليل. ﴿يُوَفِّيَهُمْ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله: ضمير يعود على الله، و ﴿الهاء﴾: مفعول أول. ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾: مفعول ثان، والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: ولتوفيته إياهم أعمالهم، والجار والمجرور: متعلقان بمعلول محذوف، والمعلول المحذوف، معطوف على مقدر تقديره: فعل بهم ما فعل، ليعدل بينهم، وجازاهم بما ذكر، ليوفيهم أعمالهم. ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ. وجملة ﴿لَا يُظْلَمُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب حال مؤكدة من ضمير ﴿يوفيهم﴾.
80
﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ في الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿يوم﴾: ظرف متعلق بمحذوف، تقديره: يقال لهم يوم عرضهم على النار: أذهبتم، والقول المحذوف: مستأنف. ﴿يُعْرَضُ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة. ﴿الَّذِينَ﴾: نائب فاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يوم﴾. ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول ﴿عَلَى النَّارِ﴾: متعلق بـ ﴿يُعْرَضُ﴾، ﴿أَذْهَبْتُمْ﴾: فعل وفاعل، ﴿طَيِّبَاتِكُمْ﴾: مفعول به. ﴿في حَيَاتِكُمُ﴾: متعلق بـ ﴿أَذْهَبْتُمْ﴾. ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿الحياة﴾، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول للقول المحذوف. ﴿وَاسْتَمْتَعْتُمْ﴾: معطوف على ﴿أَذْهَبْتُمْ﴾، ﴿بِهَا﴾: متعلق بـ ﴿استمتعتم﴾. ﴿فَالْيَوْمَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿اليوم﴾: ظرف متعلق بـ ﴿تُجْزَوْنَ﴾ و ﴿تُجْزَوْنَ﴾: فعل مضارع ونائب فاعل، والجملة: معطوفة على ﴿أَذْهَبْتُمْ﴾. ﴿عَذَابَ الْهُونِ﴾: مفعول به ثان. ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿تُجْزَوْنَ﴾. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَسْتَكْبِرُونَ﴾: خبره، ﴿في الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿تَسْتَكْبِرُونَ﴾، ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾: متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿تَسْتَكْبِرُونَ﴾، وجملة ﴿كان﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿وَبِمَا﴾: معطوف على الجار والمجرور في قوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ﴾، وجملة ﴿كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾. ويجوز أن تكون ﴿ما﴾: في الموضعين موصوفةً أو مصدرية.
﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.
﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، ومفعول به، والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان قصة عاد قوم هود. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، في محل النصب بدل اشتمال من ﴿أَخَا عَادٍ﴾. ﴿أَنْذَرَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿أَخَا عَادٍ﴾. ﴿قَوْمَهُ﴾: مفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿بِالْأَحْقَافِ﴾: حال من ﴿قَوْمَهُ﴾. ﴿وَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: اعتراضية. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿خَلَتِ﴾: فعل وفاعل، ﴿مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ﴾: حال من ﴿النُّذُرُ﴾ ﴿وَمِنْ خَلْفِهِ﴾: معطوف عليه، والجملة: اعتراضية لا محل لها
81
من الإعراب؛ لاعتراضها بين المفسِّر والمفسَّر، أو بين المتعلِّق والمتعلَّق. ﴿أَلَّا﴾ ﴿أن﴾: مخففة من الثقيلة، أو مصدرية أو مفسرة، واسمها. ضمير الشأن؛ أي: أنه ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَعْبُدُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ولفظ الجلالة ﴿اللهَ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ المخففة، وجملة ﴿أن﴾ المخففة، في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة، الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿أَنْذَرَ﴾؛ أي: إذ أنذر قومه بعدم عبادتهم إلا الله. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿أَخَافُ﴾: خبر ﴿إِنّ﴾ ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَخَافُ﴾. ﴿عَذَابَ يَوْمٍ﴾: مفعول به. ﴿عَظِيمٍ﴾: صفة ﴿يَوْمٍ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾ تعليلية لا محل لها من الإعراب؛ لأنها تعليل للنهي عن عبادة غير الله.
﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٣)﴾.
﴿قَالُوا﴾ فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿أَجِئْتَنَا﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري التوبيخي. كما في "البحر"، ﴿جئتنا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ ﴿لِتَأْفِكَنَا﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿تأفكنا﴾: فعل مضارع، ومفعول به، وفاعل مستتر، يعود على هود. ﴿عَنْ آلِهَتِنَا﴾: متعلق به، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: لإفكك إيّانا عن آلهتنا، الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿جئتنا﴾. ﴿فَأْتِنَا﴾ ﴿الفاء﴾، عاطفة. ﴿ااتنا﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، ومفعول به، ﴿بِمَا﴾: متعلق به، والجملة: معطوفة على جملة ﴿أَجِئْتَنَا﴾ لتوافقهما في الطلبية. ﴿تَعِدُنَا﴾: فعل مضارع: وفاعل مستتر. ومفعول به، والجملة: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: بما تعدناه. ﴿إِن﴾: حرف شرط. ﴿كنُتَ﴾: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إِن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿مِنَ الصَّادِقِينَ﴾: خبر ﴿كان﴾ وجواب ﴿إِن﴾ الشرطية: معلوم مما قبلها؛ أي: إن كنت من الصادقين. فأتنا بما تعدنا. وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على هود، والجملة: مستأنفة. ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، ﴿الْعِلْمُ﴾: مبتدأ ﴿عِنْدَ اللهِ﴾: خبر، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
82
﴿وَأُبَلِّغُكُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أبلغكم﴾: فعل مضارع. وفاعل مستتر، ومفعول به. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب. مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ﴾. ﴿أُرْسِلْتُ﴾: فعل ماض، مغير الصيغة. ونائب فاعل. ﴿بِهِ﴾: متعلق به والجملة: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة. ﴿وَلَكِنِّي﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَكِنِّي﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿أَرَاكُمْ﴾: خبره، والجملة: معطوفة على ما قبلها. ﴿أَرَاكُمْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول أوّل. ﴿قَوْمًا﴾: مفعول ثان له، وجملة ﴿تَجْهَلُونَ﴾: صفة ﴿قَوْمًا﴾.
﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٤)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿لمّا﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿رَأَوْهُ﴾: فعل ماض وفاعل ومفعول به. ﴿عَارِضًا﴾: حال من المفعول؛ لأنّ الرؤية بصرية، والجملة: فعل شرط لـ ﴿لمّا﴾. ﴿مُسْتَقْبِلَ﴾ صفة ﴿عَارِضًا﴾؛ لأنّ الإضافة فيه لفظية. ﴿أَوْدِيَتِهِمْ﴾ مضاف إليه ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة، جواب ﴿لمّا﴾، وجملة ﴿لمّا﴾: معطوفة على محذوف، تقديره: فجاءهم العذاب، فلمّا رأوه قالوا. إلخ. ﴿هَذَا﴾: مبتدأ، ﴿عَارِضٌ﴾: خبره، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿مُمْطِرُنَا﴾: صفة ﴿عَارِضٌ﴾؛ لأنّ الإضافة فيه لفظية، كما مرّ آنفًا. ﴿بَل﴾: حرف ابتداء وإضراب، ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة: مقول لقول محذوف، تقديره: قال هود: بل هو ما استعجلتم به. ﴿اسْتَعْجَلْتُمْ﴾: فعل وفاعل، ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿رِيحٌ﴾: بدل من ﴿مَا﴾ أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هي ريح. ﴿فِيهَا﴾: خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿أَلِيمٌ﴾ صفة ﴿عَذَابٌ﴾، والجملة الاسمية: نعت أول لـ ﴿رِيحٌ﴾.
﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)﴾.
﴿تُدَمِّرُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود على ﴿رِيحٌ﴾. ﴿كُلَّ شَيْءٍ﴾:
83
مفعول به، ﴿بِأَمْرِ﴾ متعلق بـ ﴿تُدَمِّرُ﴾، ﴿رَبِّهَا﴾: مضاف إليه، والجملة: نعت ثان لـ ﴿رِيحٌ﴾. ﴿فَأَصْبَحُوا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف، تقديره: فأدركتهم الريح فأصبحوا إلخ. ﴿أصبحوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿لا﴾: نافية. ﴿يُرَى﴾: فعل مضارع مغيّر الصيغة. ﴿إِلا﴾: أداة حصر. ﴿مَسَاكِنُهُمْ﴾ نائب فاعل، والرؤية هنا بصريّة، تتعدّى إلى مفعول واحد، وجملة ﴿لَا يُرَى﴾: في محل النصب خبر ﴿أصبح﴾ وجملة ﴿أصبح﴾: معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف. ﴿نَجْزِي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، يعود على الله. ﴿الْقَوْمَ﴾: مفعول به. ﴿الْمُجْرِمِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمَ﴾. والجملة الفعلية: مستأنفة؛ أي: نجزي القوم المجرمين جزاءً مثل ذلك الجزاء الفظيع.
﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٢٦)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿مَكَّنَّاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. والجملة: جواب لقسم محذوف، وجملة القسم: مستأنفة. ﴿فِيمَا﴾: جار ومجرور، متعلّق بـ ﴿مَكَّنَّاهُمْ﴾. ﴿إِن﴾: نافية، ﴿مَكَّنَّاكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. فِيه: متعلق بـ ﴿مَكَّنَّاكُمْ﴾ والجملة: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة؛ أي: ولقد مكنَّاهم في الذي ما مكّناكم فيه. ﴿وَجَعَلْنَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿مَكَّنَّاهُمْ﴾، ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿جعلنا﴾؛ لأنّه بمعنى خلقنا. ﴿سَمْعًا﴾: مفعول به لـ ﴿جعلنا﴾، ﴿وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً﴾: معطوفان عليه. ﴿فَمَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: نافية. ﴿أَغْنَى﴾: فعل ماض. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَغْنَى﴾، ﴿سَمْعُهُمْ﴾: فاعل، ﴿وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ﴾: معطوفان عليه. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿شَيْءٍ﴾. مفعول مطلق مجرور لفظًا، منصوب محلًا؛ أي: شيئًا من الإغناء. وجملة ﴿ما أغنى﴾: معطوفة على جملة ﴿جعلنا﴾. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، مفيدة للتعليل، متعلق بمعنى النفي؛ لأنّ المعلّل هو النفي؛ أي: انتفى نفع هذه الحواس عنهم؛ لأنّهم كانوا يجحدون. ﴿كَانُوا﴾ فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَجْحَدُونَ﴾: خبره. وجملة ﴿كان﴾: في محل الجر
84
بإضافة ﴿إِذْ﴾ إليه. ﴿بِآيَاتِ اللهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَجْحَدُونَ﴾. ﴿وَحَاقَ﴾: فعل ماض. ﴿بِهِم﴾: متعلق به، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل. والجملة: معطوفة على جملة ﴿كَانُوا﴾. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾، وجملة ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾: خبر ﴿كان﴾ وجملة ﴿كان﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة.
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، و ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿أَهْلَكْنَا﴾: فعل وفاعل. والجملة: جواب القسم، وجملة جواب القسم مستأنفة. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، ﴿حَوْلَكُمْ﴾: منصوب على الظرفية المكانية، متعلق بمحذوف صلة لـ ﴿مَا﴾، ﴿مِنَ الْقُرَى﴾: حال من الضمير المستقرّ في الصلة أو من ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿أَهْلَكْنَا﴾. ﴿لَعَلَّهُمْ﴾: ناصب واسمه وجملة ﴿يَرْجِعُونَ﴾: خبره. وجملة ﴿لعل﴾: تعليلية لا محل لها من الإعراب. ﴿فَلَوْلَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿لولا﴾: حرف تحضيض بمعنى هلّا. ﴿نَصَرهُمُ﴾: فعل ومفعول به. ﴿الَّذِينَ﴾: فاعل. والجملة: معطوفة على جملة القسم. ﴿اتَّخَذُوا﴾: فعل وفاعل والمفعول الأول لـ ﴿اتَّخَذُوا﴾: محذوف، تقديره: فلولا نصرهم الذين اتخذوهم، وهو عائد الموصول. ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾: متعلق بـ ﴿اتَّخَذُوا﴾، ﴿قُرْبَانًا﴾: حال من المفعول الأول المحذوف. ﴿آلِهَةً﴾: مفعول ثان. وجملة ﴿اتخذ﴾: صلة الموصول. وقال ابن عطية والحوفيّ: المفعول الأول: محذوف، كما قلنا: و ﴿قُرْبَانًا﴾: مفعول ثان، ﴿آلِهَةً﴾: بدل منه. وقد أنكر الزمخشريّ هذا الوجه؛ لفساد المعنى عليه. ﴿بَل﴾: حرف عطف وإضراب للانتقال عن نفي النصرة لما هو أخص منه، إذ نفيها يصدق بحضورها عندهم بدون النصرة، فأفاد بالإضراب أنهم لم يحضروا بالكلّية، فضلًا عن أن ينصروهم. ﴿ضَلُّوا﴾: فعل وفاعل. ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به. والجملة الإضرابية: معطوفة على جملة ﴿فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ﴾.
85
﴿وَذَلِكَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿ذلك﴾: مبتدأ، ﴿إِفْكُهُمْ﴾: خبر. والجملة مستأنفة. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: مصدرية أو موصولة، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَفْتَرُونَ﴾: خبره. وجملة ﴿كان﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ المصدرية؛ أي: وافتراؤهم، أو الموصولة؛ أي: والذي يفترونه.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا﴾ من التوصية. والتوصية، وكذا الإيصاء، والوصيّة: بيان الطريق القويم لغيرك ليسلكه، أو الأمر المقترن بضرورة الاعتناء والاهتمام؛ أي: أمرنا، والإحسان: خلاف الإساءة، والحسن: خلاف القبح. والمراد: أنه يفعل معهما فعلًا ذا حسن.
﴿كُرْهًا﴾ والكره بالضم والفتح، كالضُعف والضَعف: المشقّة والتعب.
﴿وَحَمْلُهُ﴾؛ أي: مدّة حمله ستة أشهر. ﴿وَفِصَالُهُ﴾؛ أي: المدّة القصوى لفطامه من الرضاع سنتان. والمراد به: الرضاع التامّ، المنتهي بالفطام. وفي "المختار": الفصال، هو الفطام. وقرىء: ﴿وفصله﴾ وهو مصدر فاصل الرباعيّ، كأنّ الأمّ فاصلته، وهو فاصلها. والفصل والفصال: بمعنى واحد كالفطم والفطام، والقطف والقطاف، وفي الآية تجوّز، كما سيأتي من حيث إنّ المراد بالفص الذيها: الرضاع: أي: مدّته التي يعقبها الفطام، فهو مجاز، علاقته المجاورة.
﴿بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ وبلوغ الأشدّ أن يكتهل، ويستوفي السنّ التي تستحكم فيها قوته وعقله وتمييزه، وذلك إذا أناف على الثلاثين، وناطح الأربعين. ﴿أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ والمراد بالسنة: القمرية، على ما أفادته الآية، كما قال: شهرًا لا الشمسية، اهـ "الروح". كما مرّ.
﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي﴾؛ أي: ألهمني ووفّقني ورغّبني، من أوزعته بكذا: إذا جعلته مولَّعا به، راغبًا في تحصيله. وأصله: الإعاء بالشيء من قولهم: فلان موزع
86
بكذا؛ أي: مغرى به. وقال الراغب: وتحقيقه أولعني بذلك.
﴿وَأَصْلِحْ لِي في ذُرِّيَّتِي﴾ من ذرأ الشيء إذا كثر. ومنه: الذرّيّة لنسل الثقلين. كما في "القاموس"؛ أي: واجعل الصلاح ساريًا في ذريتي، راسخًا فيهم. كما مرّ.
﴿نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ﴾ والقبول: هو الرضا بالعمل، والإثابة عليه. ﴿أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا﴾؛ أي: حسن أعمالهم وطاعاتهم، فإنّ المباح حسن، ولا يثاب عليه. فالقبول ليس قاصرًا على أحسن، وأفضل عبادتهم، بل يعم كل طاعاتهم أفضلها ومفضولها.
﴿أُفٍ﴾ هو صوت يصدر من الإنسان حين تضجره، وكتب عليه الكرخي في سورة الإسراء: وهو مصدر أفّ يؤف أفًّا، بمعنى تبًّا وقبحًا، أو صوت يدلّ على تضجّر، أو اسم الفعل الذي هو أتضجر. اهـ. فجعل فيه احتمالات ثلاثة: مصدر، واسم صوت، واسم فعل. لكن المراد: أيُّ كلام يؤذيهما فيه كسر لخاطرهما.
﴿يَسْتَغِيثَانِ﴾ من الغوث. أصله: يستغوثان، نقلت حركة الواو إلى الغين إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مد. ﴿أُخْرَجَ﴾؛ أي: أبعث من القبر للحساب.
﴿وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي﴾؛ أي: مضت ولم يخرج منها أحد. والقرون: جمع قرن، والقرن: القوم المقترنون في زمن واحد.
﴿يَسْتَغِيثَانِ اللهَ﴾؛ أي: يقولان: الغياثُ بالله منك، يقال: استغاث الله، واستغاث بالله. والمراد: أنهما يستغيثان بالله من كفره إنكارًا، واستعظامًا له حتى لجأ إلى الله في دفعه. كما يقال: العياذ بالله من كذا. ﴿وَيْلَكَ﴾ دعاء عليه بالثبور والهلاك، ويراد به: الحثُّ على الفعل أو تركه، إشعارًا بأنّ مرتكبه حقيق بأن يهلك، فإذا سمع ذلك.. ارعوى عن غيّه، وترك ما هو فيه، وأخذ بما ينجيه. وهو من المصادر التي لم تستعمل أفعالها، ومثله: ويحه، وويسه، وويبه.
﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾؛ أي: أباطيلهم التي سطّورها في الكتب من غير أن يكون
87
لها حقيقة، كما مرّ. ﴿حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ﴾؛ أي: وجب عليهم قوله لإبليس: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ﴾ الآية.
﴿خَاسِرِينَ﴾؛ أي: كانوا من الذين ضيّعوا نظرهم الشبيه برؤوس الأموال باتّباعهم همزات الشياطين. ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ﴾ والدرجات: المنازل، واحدها: درجة. وهي المنزلة، ويقال لها: منزلة إذا اعتبرت صعودًا، ودركة إذا اعتبرت حدورًا. ومن ثمّ يقال: درجات الجنة، ودركات النار. فالتعبير بالدرجات هنا على سبيل التغليب. ﴿وَلِيُوَفِّيَهُمْ﴾ من وفّاه حقّه: إذا أعطاه إيّاه وافيًا تامًّا.
﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ﴾ الإذهاب: الاشتغال بالطيّبات المستلذّات.
وعبارة الخطيب: والمعنى: أنّ ما قدّم لكم من الطيبات والدرجات.. فقد استوفيتموه في الدنيا، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظوظكم في الدنيا شيء في الآخرة. انتهت. قال ابن بحر: الطيبات: الشباب والقوّة، مأخوذ من قولهم: ذهب أطيباه؛ أي: شبابه وقوّته. قال الماروديّ: ووجدت الضحاك قاله أيضًا. قال القرطبيّ: القول الأول: أظهر. ﴿الْهُونِ﴾؛ أي: الهوان، والذلّ. ﴿تَفْسُقُونَ﴾: تخرجون عن طاعة الله تعالى.
﴿بِالْأَحْقَافِ﴾ جمع حقف بالكسر والسكون، وهو: ما استطال من الرمل العظيم واعوجّ، ولم يبلغ أن يكون جبلًا. والجمع: حقاف وأحقاف: وحقوف. وجمع الجمع: حقائف وحقفة. يقال: احقوقف الرمل والهلال: إذا اعوجّ. وفي المراد بالأحقاف هنا خلاف. فقال ابن زيد: هي رمال مشرفة على البحر، مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالًا، وشاهد ما ذكرناه ما قال قتادة: هي جبال مشرفة بالشحر، والشَّحَر: موضع قريب من عدن. وفي "القاموس": الشعر كمنع، فتح الفم، وساحل البحر بين عمان وعدن. وقال ابن إسحاق: الأحقاف: رمل فيما بين عمان إلى حضرموت. وقال قتادة: الأحقاف: رمال مشرفة على هجر بالشحر من أرض اليمن. قال ياقوت: فهذه ثلاثة أقوال غير مختلفة في المعنى، مأخوذ من احقوقف الشيء: إذا اعوجَّ، وإنما أخذ الحقف من احقوقف، مع أنّ الأمر ينبغي أن يكون بالعكس؛ لأنّ احقوقف أجلى معنى،
88
وأكثر استعمالًا. فكانت له من هذه الجهة أصالةٌ، اهـ من "الروح".
﴿لِتَأْفِكَنَا﴾؛ أي: تصرفنا من الأفك بالفتح مصدر أفكه يأفكه أفكًا: إذا قلبه، وصرفه عن الشيء. ﴿عَنْ آلِهَتِنَا﴾؛ أي: عبادتها. ﴿بِمَا تَعِدُنَا﴾ من معالجة العذاب على الشرك. ﴿عَارِضًا﴾ والعارض: السحاب الذي يعرض في أفق السماء. قال الأعشى:
يَا مَنْ رَأى عَارِضًا قَدْ بِتُّ أرْمُقُهُ كَأنَّمَا الْبَرْقُ فِيْ حَافَاتِهِ الشُّعَلُ
﴿عَنْ آلِهَتِنَا﴾ أصله: أألِهَةٌ، بوزن أفعلة، أبدلت الهمزة الساكنة حرف مدّ مجانسًا لحركة الأولى المفتوحة.
﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ﴾ أصله: رأيوه، بوزن فعلوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان: الألف، وواو الجماعة، فحذفت الألف. ﴿فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ﴾ أصله: يرءي، بوزن يفعل، نقلت حركة الهمزة إلى الراء، ثم حذفت للتخفيف، ثمّ أبدلت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. وكذلك القول في قراءة من قرأ ﴿ترى﴾ بالتاء والبناء للفاعل.
وفي "صحيح مسلم" عن ابن عباس: أنّ النبيّ - ﷺ - قال: "نُصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور". قال شاعرهم يحكي هذا القصص فيما رواه ابن الكلبيّ:
فَدَعَا هُوْدٌ عَلَيْهِمْ دَعْوَةً أَضْحَوْا هُمُوْدَا
عَصَفَتْ ريحٌ عَلَيْهِمْ تَرَكَتْ عَادًا خُمْوْدَا
سُخِّرَتْ سَبْعَ لَيَالِيْ لَمْ تَدَعْ فِيْ الأَرْضِ عُوْدَا
﴿عَادٍ﴾ قبيلة عربية من إرم. ﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ﴾؛ أي: لقد جعلنا لهم مكنة، وقدرة في الذي ما مكّنّاكم فيه يا أهل مكة. ﴿أَغنى﴾ أصله: أغني بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ﴾ وحول الشيء: جانبه الذي يمكنه أن يحوّل إليه. ﴿قُرْبَانًا﴾ والقربان: ما يتقرّب به إلى الله تعالى. يجمع على قرابين، كرهبان ورهابين، كما مرّ.
89
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ﴾ بعد قوله: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ﴾؛ لزيادة العناية والاهتمام بشأن الأمّ؛ لحقّها العظيم.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَفِصَالُهُ﴾؛ لأنه مجاز عن مدّة الرضاع التام التي يعقبها الفطام، فهو مجاز علاقته المجاورة.
ومنها: الطباق بين: ﴿حَمَلَتْهُ﴾ ﴿وَوَضَعَتْهُ﴾.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾؛ لأنّ الكلام على حذف المضاف؛ أي: بلغ وقت أشدّه، وكذا قوله: ﴿وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ على حذف مضاف؛ أي: تمام أربعين سنة، وكذا قوله: ﴿أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ﴾؛ أي: أن أشكرك على نعمتك.
ومنها: التنوين في قوله: ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا﴾ للتفخيم والتعميم.
ومنها: زيادة ﴿في﴾ في قوله: ﴿وَأَصْلِحْ لِي في ذُرِّيَّتِي﴾ مع أنّ الصلاح يتعدّى بنفسه، كما في قوله: ﴿وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ﴾ ليدلّ على أنّ المدعو جعل الصلاح ساريًا في ذرّيّته، راسخًا فيهم.
ومنها: الجناس المغاير بين ﴿صَالِحًا﴾ ﴿وَأَصْلِحْ﴾ في قوله: ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي في ذُرِّيَّتِي﴾.
ومنها: إضافة الموصوف إلى صفته في قوله: ﴿وَعْدَ الصِّدْقِ﴾؛ أي: الوعد الصادق الذي لا خلف فيه.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾.
ومنها: الإضافة في قوله: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ﴾ أضافه إلى لفظ الجلالة؛
90
تحقيقًا للحقّ، وتنبيهًا على خطئه في إسناد الوعد إليهما في قوله: ﴿أَتَعِدَانِنِي﴾.
ومنها: صيغة الحصر في قوله: ﴿مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾.
ومنها: التغليب في قوله: ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ﴾؛ لأنّه غلَّب درجات السعداء على دركات الأشقياء، فعبّر عن الكل بالدرجات على طريق التغليب.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعيّة في قوله: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾؛ لأنَّه استعار العرض للتعذيب، فاشتقَّ منه ﴿يُعْرَضُ﴾ بمعنى يعذّب على طريق الاستعارة التصريحية التبعية، فالعرض هنا مجاز عن التعذيب، نظير قوله: عرض الأسارى على السيف؛ أي: قتلوا، وإلّا فالمعروض عليه يجب أن يكون من أهل الشعور والاطلاع، والنار ليست منهم. قال الفرَّاء: معنى عرضهم عليها: إبرازها لهم، كما في قوله تعالى: ﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (١٠٠)﴾؛ أي: أبرزناها، حتى نظر الكفار إليها، فالمعروض عليه، يجب أن يكون من أهل الشعور، والنار ليست منه، فلا بدَّ أن يحمل العرض على التعذيب مجازًا بطريق التعبير عن الشيء باسم ما يؤدي إليه، كما يقال: عرض بنو فلان على السيف، فقتلوا به، أو يكون باقيًا على أصل معناه، ويكون الكلام محمولًا على القلب. والأصل: ويوم تعرض النار على الذين كفروا؛ أي: تظهر وتبرز عليهم، والنكتة في اعتبار القلب: المبالغة بادّعاء أنَّ النار ذات تمييزٍ، وقهرٍ وغلبةٍ.
ومنها: الإيجاز بالحذف مع التوبيخ والتقريع في قوله: ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ في حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا﴾؛ أي: يقال لهم: أذهبتم.
ومنها: إضافة الرب إلى الريح في قوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ مع أنه تعالى ربّ كل شيء؛ لتعظيم شأن المضاف إليه، وللإشارة إلى أنَّها في حركتها مأمورةٌ، وأنها من أكابر جنود الله تعالى.
ومنها: إضافة الموصوف إلى صفته في قوله: ﴿عَذَابَ الْهُونِ﴾.
ومنها: الإطناب بتكرار اللفظ في قوله: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً﴾
91
ثم قال: ﴿فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ﴾؛ لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم.
ومنها: الزيادة والحذف في عدَّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
92
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ في ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (٣٥)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (١): أن الله سبحانه لمّا بيَّن أنَّ الإنس مؤمن وكافر، وذكر أن الجنّ فيهم مؤمن وكافر، وكان ذلك بأثر قصة هود وقومه، لما كان عليه قومه من الشدّة والقوّة، والجنّ توصف أيضًا بذلك، كما قال تعالى: ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾، وأنَّ ما أهلك به قوم هود هو الريح، وهو من العالم الذي لا يشاهد، وإنما يحيى بهبوبه، والجن أيضًا من العالم الذي لا يشاهد، وإن هودًا عليه السلام كان من العرب، ورسول الله - ﷺ - من العرب.. فهذه تجوز أن تكون مناسبةً لهذه الآية بما قبلها، وفيها أيضًا توبيخ لقريش، وكفّار العرب، حيث أنزل عليهم هذا الكتاب المعجز، فكفروا به وهم من أهل اللسان الذي أنزل به القرآن، وآمنوا به، وبمن أنزل عليه، وعلموا أنّه من عند الله، بخلاف قريش وأمثالها، فهم مصرّون على الكفر به، ذكره أبو حيّان.
(١) البحر المحيط.
93
وعبارة المراغي هنا: مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لمّا ذكر أنّ في الإنس من آمن، ومنه من كفر.. أعقب هذا ببيان أنّ الجنّ كذلك، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر، وأنّ مؤمنهم معرّض للثواب، وكافرهم معرّض للعقاب، وأنّ الرسول - ﷺ - كما أرسل إلى الإنس أرسل إلى الجنّ.
واعلم (١): أنّ عالم الملائكة وعالم الجنّ لا يقوم عليهما دليل من العقل، فهما بمعزل عن ذلك، وإنّما دليلهما السمع وإخبار الأنبياء بذلك فقط، فعلينا أنّ نؤمن بما جاء به فحسب، ولا نزيد على ذلك شيئًا، ولا نتوسّع في بحثه وتأويله وتفصيله، فإنّ ذلك من عالم الغيب، لم نؤت من علمه كثيرًا ولا قليلًا، فعلينا أن نؤمن بأنّ اتصالًا قد تمّ بين النبيّ - ﷺ - وعالم الملائكة، وبه تلقى الوحي على أيديهم، وأنّه اتصل بعالم الجنّ، فعلمهم وبشرهم وأنذرهم، ولكنّا لا ندري كيف كان الاتصال؟ ولا كيف تلقَّوا عنه القرآن؟. ولعلّ تقدم العلوم في مستأنف الأيّام يلقي علينا ضوءًا من هذه المعرفة، أو لعل قراءة علم الروح والتوسع في دراسته بيَّن لنا بعض السرّ في ذلك، ففي هذه الدراسة معرفة شيء من أحوالنا في الحياة الأخرى بعد هذه الحياة، وسيأتي تفصيل لهذا القصص في سورة الجنّ.
قوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر في أول السورة (٢) ما يدلّ على وجود الإله القادر الحكيم، وأبطل قول عبدة الأصنام، ثمّ ثنّى بإثبات النبوة، وذكر شبهاتهم في الطعن فيها، وأجاب عنها.. أردف ذلك بإثبات البعث، وأقام الدليل عليه، فذكر أنّ من خلق السموات والأرض على عظمهنّ، فهو قادر على أن يحيي الموتى، ثمّ أعقب هذا بما يجري مجرى العظة والنصيحة لرسوله - ﷺ - بالصبر على أذى قومه، كما صبر من قبله أولوا العزم من الرسل، وبعدم استعجال العذاب لهم، فإنّه نازل بهم لا محالة وإن تأخّر، وحين نزوله بهم سيستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا، حتى يحسبونها ساعة من نهار لهول ما عاينوا.
ثم ختم السورة بأنّ في هذه العظات كفاية أيَّما كفايةٍ، وما يهلك إلا من
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
94
خرج عن طاعة ربّه، ولم ينقد لأمره ونهيه.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ إلى ﴿ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ سبب (١) نزولها: ما أخرجه الحاكم بسنده عن زرّ بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: هبطوا على النبيّ - ﷺ - وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلمّا سمعوه.. أنصتوا، قالوا: صه، وكانوا تسعة، أحدهم: زوبعة، فأنزل الله عزّ وجل: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا...﴾ الآية، إلى ﴿ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾. صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وأقرّه الذهبيّ، وأخرجه الحافظ البيهقي من طريق الحاكم بهذا السند في "دلائل النبوّة" (ج ٢/ ص: ١٣).
التفسير وأوجه القراءة
٢٩ - ولمَّا بيَّن سبحانه أنّ في الإنس من آمن، وفيهم من كفر.. بيّن أيضًا أنّ في الجن كذلك، فقال: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾ والعامل في الظرف محذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك قصة إذ صرفنا ووجَّهنا، وأملنا إليك نفرًا وجماعة من الجنّ، وأقبلنا بهم نحوك.
وقرىء ﴿صرَّفْنَا﴾ بتشديد الراء؛ لأنّهم كانوا جماعة، فالتكثير بحسب الحال. ذكره في "البحر". والنفر: دون العشرة، وجمعه أنفار. قال الراغب: النفر: عدة رجال يمكنهم النفر إلى الحرب ونحوها.
واعلم (٢): أنَّ الجن بعض الروحانيين، وذلك أنَّ الروحانيين ثلاثة أجناس: أخيار وهم الملائكة، وأشرار وهم الشياطين، وأوساط فيهم أخيار وأشرار، وهم الجنّ.
قال سعيد بن المسيّب: الملائكة ليسوا بذكور ولا إناث، ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون، والشياطين ذكور وإناث، يتوالدون ولا يموتون، بل يُخَلَّدون
(١) المسند الصحيح.
(٢) روح البيان.
95
في الدنيا، كما خلد إبليس، والجن يتوالدون، وفيهم ذكور وإناث، ويموتون.
يقول الفقير: يؤيّده: ما ثبت أنَّ في الجنّ مذاهب مختلفة كالإنس، حتى الرافضي ونحوه، وإنّ بينهم حروبًا وقتالًا، ولكن يشكل قولهم: إبليس هو أبو الجنّ، فإنه يقتضي أن لا يكون بينهم وبين الشياطين فرق، إلا بالإيمان والكفر فاعرف.
﴿يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾ حال مقدرة من ﴿نَفَرًا﴾ لتخصيصه بالصفة، أو صفة أخرى له، ونقل بعضهم: إنّ أولئك الجنّ كانوا يهودًا فأسلموا.
أي: واذكر يا محمد لقومك وقت صرفنا إليك نفرًا كائنًا من الجنّ، مقدَّرا استماعهم القرآن، ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ﴾؛ أي: حضروا القرآن عند تلاوته، وقيل: حضروا النبي - ﷺ -، ويكون في الكلام التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة، والأوَّل أولى.
﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال بعضهم لبعض: ﴿أَنْصِتُوا﴾؛ أي: اسكتوا لنسمعه، وفيه إشارة إلى أنّ من شأنهم فضول الكلام واللغط كالإنس، ورمز إلى الحرص المقبول. قال بعض العارفين: هيبة الخطاب، وحشمة المشاهدة، حبست ألسنتهم، فإنّه ليس في مقام الحضرة إلّا الخمول والذبول؛ أي: أمر بعضهم بعضًا بالإنصات لأجل أن يسمعوا.
﴿فَلَمَّا قُضِيَ﴾ القرآن؛ أي: فرغ من تلاوته ﴿وَلَّوْا﴾؛ أي: انصرفوا ﴿إِلَى قَوْمِهِمْ﴾ ورجعوا إليهم، حال كونهم ﴿مُنْذِرِينَ﴾ لهم؛ أي: مقدرين إنذارهم عند رجوعهم إليهم؛ يعني: آمنوا به، وأجابوا إلى ما سمعوا، ورجعوا إلى قومهم منذرين؛ أي: مخوّفين لهم من عقاب الله إن خالفوه؛ أي: انصرفوا وتفرقوا في البلاد، قاصدين إلى من ورائهم من قومهم، منذرين لهم عن مخالفة القرآن، ومحذّرين لهم، ولا يلزم من رجوعهم بهذه الصفة أن يكونوا رسل رسول الله - ﷺ -، إذ يجوز أن يكون الرجل نذيرًا ولا يكون نبيًا أو رسولًا من جانب أحد، فالنذارة في الجنّ من غير نبوّة، وفي "الخطيب": رجعوا إلى قومهم منذرين بأمر رسول الله - ﷺ -، فجعلهم رسلًا إلى قومهم. اهـ.
96
وقرأ الجمهور (١): ﴿فَلَمَّا قُضِيَ﴾ مبنيًا للمفعول، وأبو مجلز وخبيب بن عبد الله بن الزبير: ﴿قَضَى﴾ مبنيًا للفاعل؛ أي: قضى محمد ما قرأ؛ أي: أتمَّه وفرغ منه.
وقال ابن عمرو وجابر بن عبد الله: قرأ عليهم سورة الرحمن، فكان إذا قال: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾.. قالوا: لا شيء من آيات ربّنا نكذّب، ربنا لك الحمد.
ومعنى الآية (٢): أي واذكر يا محمد لقومك موبِّخًا لهم على كفرهم بما آمنت به الجنّ، لعلّهم يتنبهون لجهلهم، ويرعوون عن غيّهم وقبيح ما هم فيه من كفر بالقرآن، وإعراض عنه، مع أنهم أهل اللسان الذي به نزل، ومن جنس الرسول الذي جاء به، وأولئك استمعوه، وعلموا أنه من عند الله، وآمنوا به، وليسوا من أهل لسانه، ولا من جنس رسوله في ذلك الوقت الذي وجه الله إليه جماعةً من الجنّ ليستمعوا القرآن، ويتعظوا بما فيه من عبر وعظات، فلمَّا حضروا الرسول، قال بعضهم لبعض: أنصتوا مستمعين، فلمّا فرغ من تلاوته.. رجعوا إلى قومهم لينذروهم بأس الله وشديد عذابه.
وذكر الوقت (٣) ذكر لما فيه من الأحداث التي يراد إخبار السامع بها، لما لها من خطر جليل، وشأن عظيم، فيراد علمه بها، ليكون لها في نفسه الأثر الدي يقصدى منها من تركيب أو ترهيب، ومسرّة أو حزن إلى نحو أولئك من أغراض الكلام ومقاصده.
قال العلماء (٤): إنّه - ﷺ - بعث إلى الجن قطعًا، وهم مكلّفون، وفيهم العصاة والطائعون، وقد أعلمنا الله أنّ نفرًا من الجنّ رأوه عليه الصلاة والسلام، وآمنوا وسمعوا القرآن، فهم صحابة فضلاء من حيث رؤيتهم وصحبتهم، وحينئذٍ يتعيّن ذكر من عرف منهم في الصحابة رضي الله عنهم هذا في "شرح النخبة" لعليِّ
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
(٤) روح البيان.
97
القاري. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أولئك تسعة: سليط، شاصر، ماصر، حاصر، حسا، مسا، عليم، أرقم، أدرس. قيل: ومنهم زوبعة. قال في "القاموس": الزوبعة بفتح الزاي المعجمة والباء الموحدة: اسم شيطان، أو رئيس الجنّ، فتكون الأسماء عشرة.
تنبيه (١): ذكروا في سبب هذه الواقعة قولين:
أحدهما: أنّ الجنّ كانت تسترق السمع، فلمّا رجموا من السماء حين بعث النبيّ - ﷺ -... قالوا: ما هذا إلّا لشيء أحدث في الأرض، فذهبوا فيها يطلبون، وكان قد اتفق أنَّ النبي - ﷺ - في السنة الحادية عشرة من النبوّة، لمّا أيس من أهل مكة.. خرج إلى الطائف يدعوهم إلى الإِسلام فلم يجيبوه، فانصرف راجعًا إلى مكة، فقام ببطن نخلة يقرأ القرآن، فمرّ به نفر من جنّ نصيبين، كان إبليس قد بعثهم يطلبون السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم بالشهب، فسمعوا القرآن، فعرفوا أنّ ذلك هو السبب.
والقول الثاني: أنّ الله أمر رسوله أن ينذر الجنّ، ويدعوهم إلى الله، ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نفرًا منهم يستمعون القرآن، وينذرون قومهم، وذلك لأنّ الجنّ مكلّفون، لهم الثواب، وعليهم العقاب، ويدخلون الجنة، ويأكلون فيها، ويشربون كالإنس، فانتهض النبيُّ - ﷺ - ذات ليلة، وقال: "إنّي أمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة القرآن، فأيكم يتبعني" فأطرقوا، فتبعه عبد الله بن مسعود، قال عبد الله بن مسعود: ولم يحضر معه أحد غيري، قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة.. دخل النبيّ - ﷺ - شعبًا يقال له: شعب الحجون، وخط لي خطّا، وأمرني أن أجلس فيه، وقال لي: لا تخرج حتى أعود إليك، فانطلق حتى وصل إليهم، فافتتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي، وسمعت لغطًا شديدًا، حتى خفت على نبيّ الله، وغشيته أسودة كثيرة، حالت بيني وبينه، حتى لم أسمع صوته، ثمّ طفقوا يتقطّعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ النبيّ منهم مع الفجر،
(١) الفتوحات.
98
فانطلق إليّ، فقال لي: "قد نمت"، فقلت: لا والله، ولكنّي هممت أن آتي إليك لخوفي عليك، فقال - ﷺ - لي: "لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم، فأولئك جنّ نصيبين": بلدة قاعدة ديار ربيعة أو مدينة بالشام أو باليمن. فقلت: يا رسول الله، سمعت لغطًا شديدًا، فقال: "إنّ الجنّ اختصموا في قتيل قتل بينهم، فتحاكموا إليّ فقضيت بينهم بالحقّ". وكانت عدة هؤلاء الجن اثني عشر ألفًا.
وأخرج البخاري ومسلم، وغيرهما عن مسروق قال: سألت ابن مسعود من آذن النبي - ﷺ - بالجنّ ليلة استمعوا القرآن؟. قال: آذنته بهم الشجرة.
وأخرج أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب رسول الله - ﷺ - منكم أحد ليلة الجنّ؟. قال: ما صحبه منّا أحد، ولكنّا فقدناه ذات ليلة، فقلنا: اغتيل، استطير، ما فعل؟ قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلمّا كان في وجه الصبح.. إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فأخبرناه، فقال: إنّه أتاني داعي الجن، فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن، فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وقد وردت أحاديث كثيرة أنّ الجنّ بعد هذا وفدت على رسول الله - ﷺ - مرةً بعد مرةً، وأخذت عنه الشرائع والأحكام الدينية.
٣٠ - ثمّ فصّل ما قالوه لهم في إنذارهم، فقال: ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال أولئك النفر الجنّيون عند رجوعهم إلى قومهم: ﴿يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا﴾ فيه إطلاق الكتاب على بعض أجزائه، إذ لم يكن القرآن كلّه منزلًا حينئذٍ. ﴿أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ﴾ كتاب ﴿مُوسَى﴾ عليه السلام، وفي الكلام (١) حذف، والتقدير: فوصلوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إلخ. قيل: ذكروا موسى؛ لأنّهم كانوا على اليهودية وأسلموا. قال (٢) سعدي المفتي في "حواشيه": قلت: الظاهر أنَّه مثل قول ورقة بن نوفل: هذا الناموس الذي نزّل الله على موسى، فقد قالوا في وجهه وعلّته: إنه ذكر موسى مع أنه كان نصرانيًّا، تحقيقًا للرسالة؛ لأنّ نزوله على موسى متفق عليه بين اليهود والنصارى، بخلاف عيسى، فإن اليهود ينكرون نبوّته، أو لأنَّ النصارى
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
99
يتبعون أحكام التوراة، ويرجعون إليها، وهذان الوجهان متأتِّيان هنا أيضًا.
يقول الفقير: قد صحّ أنّ التوراة أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع، بخلاف ما قبله من الكتب، فإنها لم تشتمل على ذلك، إنما كانت مشتملة على الإيمان بالله وتوحيده، ومن ثم قيل لها: صحف، وإطلاق الكتب عليها مجاز، كما صرَّح به في "السيرة الحلبية". فلمّا كان القرآن مشتملًا على الأحكام والشرائع أيضًا.. صارت الكتب الإلهية كلها في حكم كتابين: التوراة والقرآن، فلذا خصَّصوا موسى بالذكر، وفيه بيان لشرف الكتابين وجلالتهما.
حالة كون ذلك الكتاب ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾؛ أي: موافقًا لما قبله من التوراة والكتب الإلهية في الدعوة إلى التوحيد والتصديق، وحقّية أمر النبوّة والمعاد وتطهير الأخلاق، فهو حال من ﴿كِتَابًا﴾ لتخصصه بالصفة، أو صفة ثانية له. ﴿يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾ والصواب من العقائد الصحيحة ﴿وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾؛ أي: موصل إليه، لا عوج فيه، وهو الشرائع، والأعمال الصالحة، قال ابن عطاء: يهدي إلى الحق في الباطن، وإلى طريق مستقيم في الظاهر، وجملة ﴿يَهْدِي﴾: إما حال ثانية، أو صفة ثالثة لـ ﴿كِتَابًا﴾.
والمعنى (١): أي قالوا: يا قومنا من الجنّ إنّا سمعنا كتابًا أنزله الله من بعد توراة موسى، يصدِّق ما قبله من كتب الله التي أنزلها على رسله، ويرشد إلى سبيل الحقّ، وإلى ما فيه لله رضًا، وإلى الطريق الذي لا عوج فيه، وخصوا التوراة؛ لأنّه متفق عليه عند أهل الكتابين، كما مرّ آنفًا. وقال عطاء: لأنهم كانوا على اليهوديّة، وهذا يحتاج إلى نقل صحيح. قيل: وأسلم (٢) من قومهم حين رجعوا إليهم وأنذروهم سبعون. اهـ "خطيب". وقالوا: إنّ الجنّ لهم مللٌ مثل الإنس، ففيهم اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام، وفي مسلميهم مبتدعة، ومن يقول بالقدر، وخلق القرآن، ونحو ذلك من المذاهب والبدع، وروي: أنهم ثلاثة أصناف:
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
100
صنف: لهم أجنحة يطيرون بها.
وصنف: على صورة الحيات والكلاب.
وصنف: يحلون ويظعنون.
واختلف العلماء في مؤمني الجنّ، فقال قوم: ليس لهم ثواب إلّا النجاة من النار، وعليه أبو حنيفة. وحكي عن الليث وبعد نجاتهم من النار يقال لهم: كونوا ترابًا مثل البهائم، وقال آخرون: لهم الثواب على الإحسان، كما عليهم العقاب على الإساءة، وهذا هو الصحيح، وعليه ابن عباس والأئمّة الثلاثة، فيدخلون الجنة ويأكلون ويشربون، وقال عمر بن عبد العزيز: إنّهم حول الجنة في ربضٍ ورحابٍ، وليسوا فيها. اهـ "خازن".
٣١ - ﴿يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ يعني: محمدًا - ﷺ -، لأنّه لا يوصف بهذا غيره، أو أرادوا ما سمعوه من الكتاب، فإنّه كما أنه هاد، كذلك هو داع إلى الله تعالى، وفي الآية دليل على أنّه مبعوث إلى الإنس والجنّ جميعًا، قال مقاتل: لم يبعث الله تعالى نبيًّا إلى الإنس والجنّ قبله - ﷺ -. ﴿وَآمِنُوا بِهِ﴾ تعالى.
فإن قلت (١): قوله: ﴿أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ﴾ أمر بإجابته في كل ما أمر به، فيدخل فيه الأمر بالإيمان، فلم أعاد ذكره بلفظ التعيين؟
قلت: إنّما أعاده؛ لأنّ الإيمان أهمّ أنواع المأمور به وأشرفها، فلذلك ذكره على التعيين، فهو من باب ذكر العام، ثم يعطف عليه أشرف أنواعه كقوله: ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾.
﴿يَغْفِرْ لَكُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾؛ أي: (٢) بعض ذنوبكم، وهو ما كان في خالص حقّ الله تعالى، وحق الحربيّ، فإنَّ حقوق العباد غير الحربيين لا تغفر بالإيمان، بل برضى أربابها؛ يعني: إذا أسلم الذميُّ لا يغفر عنه
(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
101
حقوق العباد بإسلامه، وكذا لا تغفر عن الحربي إذا كان الحقّ ماليًّا، قالوا: ظلامة الكافر وخصومة الدابة أشدُّ؛ لأنّ المسلم إمّا أن يحمل عليه ذنب خصمه بقدر حقّه، أو يأخذ من حسناته، والكافر لا يأخذ من الحسنات، ولا ذنب للدابّة، ولا يؤهل لأخذ الحسنات، فتعيَّن العقاب. وقيل: ﴿من﴾: زائدة؛ لأنّ الإِسلام يجب ما قبله، فلا يبقى معه تبعة، وقيل: إنّ ﴿من﴾ (١) لابتداء الغاية.
والمعنى: أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب، ثمّ ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى.
﴿وَيُجِرْكُمْ﴾؛ أي: ينجيكم ويؤمنكم ﴿مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾: شديد معدٍّ للكفرة، وهو عذاب النار، قال ابن عباس: فاستجاب لهم من قومهم نحو: سبعين رجلًا من الجنّ، فرجعوا إلى رسول الله - ﷺ - فوافوه بالبطحاء، فقرأ عليهم القرآن، وأمرهم ونهاهم.
والمعنى: أي (٢) يا قومنا أجيبوا رسول الله محمدًا - ﷺ - إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله، وصدِّقوه فيما جاء به من أمر الله ونهيه، يغفر لكم بعض ذنوبكم، ويسترها لكم، ولا يفضحكم بها في الآخرة بعقوبته لكم عليها، وينقذكم من عذاب موجع إذا أنتم تبتم من ذنوبكم، وأنبتم إلى ربّكم، وأخلصتم له العبادة، وفي الآية إيماء إلى أنّ حكم الجنّ حكم الإنس في الثواب والعقاب، والتعبّد بالأوامر والنواهي، وقال الحسن (٣): ليس لمؤمني الجنّ ثواب غير نجاتهم من النار، وبه قال أبو حنيفة، والأوّل أولى وبه قال مالك والشافعيّ، وابن أبي ليلى، فقد قال الله تعالى في مخاطبة الجنّ والإنس: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (٤٧)﴾، فامتَّن سبحانه على الثقلين، بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، ولا ينافيه الاقتصار هاهنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم، ومما يؤيد هذا: أنّ الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار وهو مقام عدل، فكيف لا
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
102
يجازي محسنهم بالجنة وهو مقام فضل؟ ومما يؤيّد هذا أيضًا: ما في القرآن في غير موضع، أنّ جزاء المؤمنين الجنّة، وجزاء من عمل صالحًا الجنة، وجزاء من قال: لا إله إلا الله الجنّة، وغير ذلك مما هو كثير في الكتاب والسنة.
وقد اختلف أهل العلم: هل أرسل الله سبحانه إلى الجنّ رسلًا منهم أم لا؟.
وظاهر الآيات القرآنية أنَّ الرسل من الإنس فقط، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ في الْأَسْوَاقِ﴾ وقال سبحانه في إبراهيم الخليل: ﴿وَجَعَلْنَا في ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾. فكل نبيّ بعثه الله بعد إبراهيم فهو من ذريّته، وأمّا قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ﴾ فقيل: المراد من مجموع الجنسين، وصدق على أحدهما وهم الإنس، كقوله: ﴿يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (٢٢)﴾؛ أي: من أحدهما.
٣٢ - ثم حذروا قومهم، وتوعَّدوهم، وأوجبوا إجابتهم داعي الله بطريق الترهيب إثر إيجابها بطريق "الترغيب" فقالوا: ﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ﴾؛ أي: ومن لم يجب رسول الله محمدًا - ﷺ - إلى ما دعا إليه من التوحيد، والعمل بطاعته، فـ ﴿مِنَ﴾: شرطيَّة. و ﴿لا﴾: نافية، ﴿فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ﴾ ربَّه بهرب ﴿في الْأَرْضِ﴾ فلا يفوت ربّه، ولا يسبقه هربًا إذا أراد عقوبته على تكذيبه داعيه، وإن هرب كل مهرب من أقطارها، أو دخل في أعماقها ﴿وَلَيْسَ لَهُ﴾؛ أي: لذلك المنكر ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَوْلِيَاءُ﴾؛ أي: أنصار ينصرونه، ويدفعون عنه عذابه، وهذا (١) بيان لاستحالة نجاته بواسطة الغير إثر بيان استحالة نجاته بنفسه، وجمع الأولياء باعتبار معنى ﴿من﴾ فيكون من باب مقابلة الجمع بالجمع، لانقسام الآحاد إلى الآحاد.
ثمّ بيَّن أنّ من فعل ذلك.. فقد بلغ الغاية في الضلال، والبعد عن الصراط
(١) روح البيان.
المستقيم، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بعدم إجابة الداعي ﴿في ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: ظاهر كونه ضلالًا، بحيث لا يخفى على أحد، حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه؛ أي: (١) وأولئك الذين يفعلون ذلك الإعراض، يكونون في ضلال بيّن، وجورٍ عن قصد السبيل، لأنّ طريق الحقّ واضحة، وأعلامه منصوبة، والوصول إليه ميسور، فمن جانفه وأعرض عنه.. فقد أجرم واستحقّ الجزاء الذي هو له أهلٌ.
٣٣ - ثم ذكر سبحانه دليلًا على البعث، فقال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ ﴿الهمزة﴾ (٢) فيه: للاستفهام الإنكاري، داخلة على مقدر يستدعيه المقام، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المقدّر، والرؤية هنا: هي القلبية التي بمعنى العلم؛ أي؛ ألم يتفكروا، ولم يعلموا علمًا جازمًا في حكم المشاهدة والعيان ﴿أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ ابتداءً من غير مثال؛ أي: خلق هذه الأجرام العظام. ﴿وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنّ﴾؛ أي: لم يتعب، ولم ينصب بذلك أصلًا، أو لم يعجز عنه.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَلَم يَعىَ﴾ بسكون العين وفتح الياء، مضارع عيي على وزن فعل بكسر العين، وقرأ الحسن: بكسر العين وسكون الياء، ووجهه: أنّه فتح في الماضي عين الكلمة، كما قالوا في بقي بقا. وهي لغة لطيء، ولمّا بني الماضي على فعل بفتح العين.. بني مضارعه على يفعل بكسر العين، فجاء يعيي، فلمَّا دخل الجازم.. حذف الياء، فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين، فسكنت الياء وبقي يعي.
﴿بِقَادِرٍ﴾: خبر ﴿أَنْ﴾ ووجه (٤) دخول الباء: اشتمال النفي الوارد في صدر الآية على ﴿أَنْ﴾ وما في حيّزها، كأنّه قيل: أو ليس الله بقادر ﴿عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ ولذا أجيب عنه بقوله: ﴿بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تقريرٌ للقدرة على وجه عام يكون كالبرهان على المقصود؛ يعني: أن الله تعالى إذا كان قادرًا على
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
(٤) روح البيان.
كل شيء.. كان قادرًا على إحياء الموتى لأنّه من جملة الأشياء، وقدرته تعالى لا تختص بمقدور دون مقدور، فـ ﴿بلى﴾: يختص بالنفي، ويفيد إبطاله على ما هو المشهور، وإن حكى الرضي عن بعضهم: أنه جاز استعمالها في الإيجاب.
وقرأ الجمهور (١): ﴿بِقَادِرٍ﴾ اسم فاعل، و ﴿الباء﴾: زائدة في خبر ﴿أنْ﴾ وحسّن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي، وقرأ الجحدريّ وزيد بن عليّ وعمرو بن عبيد وعيسى والأعرج: بخلاف عنه، ويعقوب: ﴿يَقْدِرُ﴾ مضارعًا، واختار أبو عبيدة القراءة الأولى، واختار أبو حاتم القراءة الثانية، قال: لأنّ دخول الباء في حيّز أنّ قبيح.
والمعنى (٢): أي أو لم ينظر هؤلاء المنكرون إحياء الخلق بعد وفاتهم، وبعثه إيّاهم من قبورهم بعد بلاهم، فيعلموا أنّ الذي خلق السموات السبع والأرض، فابتدعهنّ من غير شيء، ولم يعي في إنشائهنّ، بقادر على أن يحيي الموتى، فيخرجهم من بعد بلاهم في قبورهم أحياء كهيئتهم قبل وفاتهم، ونحو الآية قوله عزّ وجل: ﴿لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
والخلاصة: أنّ من قال للسموات والأرض: كُوني فكانت، لا ممانعةً، ولا مخالفةً، طائعةً خائفةً وجلةً، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ ثمّ أجاب عن ذلك الاستفهام مقرّرًا للقدرة على وجه عام، فقال: ﴿بَلَى إِنَّهُ﴾ إلخ؛ أي: بلى إنّ الذي خلق ذلك ذو قدرة على كل شيء أراد خلقه، ولا يعجزه شيء أراد فعله، وقد أجاب سبحانه عن هذا السؤال لوضوح الجواب، إذ لا يختلف فيه أحد، ولا يعارض فيه ذو لبٍّ.
٣٤ - ولما أثبت البعث بما أقام من الأدلة.. ذكر ما يحدث حينئذٍ من الأهوال، فقال: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾؛ أي: يعذَّبون بها كما سبق في هذه السورة، والظرف: متعلق بقول محذوف، تقديره: يقال لهم: يومئذٍ على سبيل
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
التوبيخ والتأنيب: ﴿أَلَيْسَ هَذَا﴾ العذاب الذي ترونه ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: حقًّا، وكنتم تكذّبون به، وفيه تهكّم بهم، وتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله، ووعيده، وقولهم: وما نحن بمعذَّبين، وفي الاكتفاء (١) بمجرّد الإشارة من التهويل للمشار إليه، والتفخيم لشأنه ما لا يخفى، كأنّه أمر لا يمكن التعبير عنه بلفظ يدلّ عليه ﴿قَالُوا بَلَى﴾؛ أي: إنه الحقّ ﴿وَرَبِّنَا﴾؛ أي: أقسمنا بربّنا ومالك أمرنا على حقّيته، أكدوا جوابهم بالقسم؛ لأنّهم يطمعون في الخلاص بالاعتراف بحقّيته الآن كما في الدنيا، وأنَّى لهم ذلك.
والمعنى (٢): أي ويوم يعرض هؤلاء المكذّبون بالبعث، وبثواب الله لعباده على أعمالهم الصالحة، وعقابه إيّاهم على أعمالهم السيئة على نار جهنم، يقال لهم على سبيل التأنيب والتوبيخ: أليس هذا العذاب الذي تُعَذَّبونه اليوم، وقد كنتم تكذّبون به في الدنيا بالحقّ الذي لا شكّ فيه؟ قالوا من فورهم: بلى وربّنا إنه لحق.
﴿قَالَ﴾ الله تعالى أو خازن النار: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾؛ أي: أحسوا به إحساس الذائق المطعوم ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ به في الدنيا. و ﴿الباء﴾: للسببية، ومعنى الأمر: الإهانة بهم، والتوبيخ لهم على ما كان منهم في الدنيا، من الكفر والإنكار لوعد الله ووعيده، قال ابن الشيخ: الظاهر: أنّ صيغة الأمر لا مدخل لها في التوبيخ، وإنما هو مستفاد من قوله: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾؛ أي: قال آمرًا لهم على طريق الإهانة والتوبيخ: ذوقوا عذاب النار الآن، جزاء جحودكم به في الدنيا، وإبائكم الاعتراف به، إذا دعيتم للتصديق به.
٣٥ - ولمّا قرّر التوحيد والنبوّة والبعث، وأجاب عن شبهاتهم.. أردف ذلك بما يجرى مجرى العظة والنصيحة لنبيّه؛ لأنّ الكفّار كانوا يؤذونه، ويوغرون صدره، فقال: ﴿فَاصْبِرْ﴾ و ﴿الفاء﴾ فيه: فاء الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت عاقبة الكفرة، وأنه لم ينجح فيهم الإنذار، وأردت بيان
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
106
ما هو الأصلح والنصيحة لك.. فأقول لك: اصبر أيها الرسول على ما أصابك في الله من أذى مكذّبيك من قومك، الذين أرسلناك إليهم منذرًا.
﴿كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ﴾؛ أي: أصحاب الحزم والثبات ﴿مِنَ الرُّسُلِ﴾ على القيام بأمر الله، والانتهاء إلى طاعته، فإنك منهم.
والخلاصة: اصبر على الدعوة إلى الحق، ومكابدة الشدائد، كما صبر إخوانك الرسل من قبلك، قيل: هذه الآية منسوخة بآية السيف، وقيل: محكمة، والأظهر: أنها منسوخة؛ لأنّ السورة مكيّة.
والمعنى: أي إذا كان عاقبة أمر الكفرة ما ذكر.. فاصبر على ما يصيبك من جهتهم، كما صبر أولوا الثبات والحزم من الرسل، فإنك من جملتهم، بل من أفضلهم، و ﴿من﴾: للتبين، فيكون الرسل كلهم أولي عزم وجدٍّ في أمر الله. قال في "التكملة": (١) وهذا لا يصحّ لإبطال معنى تخصص الآية، وقيل: ﴿من﴾: للتبعيض على أنهم أولوا عزم، وغير أولي عزم، والمراد بأولي العزم: أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيسيها وتقريرها، وصبروا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاغين فيها، ومشاهيرهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمَّد عليهم السلام، وقد نظمهم بعضهم بقوله:
أَوْلُوْا الْعَزْمِ:
نُوْحٌ وَالْخَلِيْلُ المُمَجَّدُ مُوْسَى وَعِيْسَى وَالْحَبِيْبُ مُحَمَّدُ
قال في "الأسئلة المقحمة": هذا القول هو الصحيح، وقيل هم الصابرون على بلاء الله: كنوح، صبر على أذيّة قومه، كانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وإبراهيم صبر على النار، وعلى ذبح ولده، والذبيح صبر على الذبح، ويعقوب على فقد الولد، ويوسف على الجب والسجن، وأيوب على الضرّ، وموسى قال قومه: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢)﴾ ويونس على بطن الحوت، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة، وقال: إنها معبرة فاعبروها، ولا تعمروها،
(١) روح البيان.
107
صلوات الله عليهم أجمعين، وقيل: غير ذلك من الأقوال المتلاطمة مما لا طائل تحتها.
ولمّا أمره بالصبر، وهو أعلى الفضائل.. نهاه عن العجلة، وهو أخس الرذائل، فقال: ﴿وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾؛ أي: لأجلهم، فـ ﴿اللام﴾ للتعليل والمفعول: محذوف؛ أي: لا تستعجل العذاب يا محمد لكفّار مكة؛ أي: ولا تطلب من ربّك عجلة العذاب لهم، فإنه نازل بهم لا محالة، ومهلهم ليستعدوا بالتمتعات الحيوانية للعذاب العظيم، فإنّي أمهلهم رويدًا، كأنَّه ضجر بعض الضمير، فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم، فأمر بالصبر، وترك الاستعجال، ونحو الآية لقوله تعالى: ﴿وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (١١)﴾، وقوله: ﴿فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (١٧)﴾.
ثم أخبر بأنَّ العذاب إذا نزل بالكافرين.. استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا، حتى يحسبونها ساعةً من نهار، فقال: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ﴾ من العذاب ﴿لَمْ يَلْبَثُوا﴾؛ أي: لم يمكثوا في الدنيا، والتمتّع بنعيمها ﴿إِلَّا سَاعَةً﴾ يسيرةً وزمانًا قليلًا ﴿مِنْ نَهَارٍ﴾ لما يشاهدون من شدّة العذاب، وطول مدّته؛ يعني (١): أنَّ هول ما ينزل بهم ينسيهم مدّة اللبث، وأيضًا إنَّ ما مضى، وإن كان دهرًا طويلًا، لكنه يظن زمانًا قليلًا، بل يكون كأن لم يكن، فغاية التنعم الجسماني هو العذاب الروحانيّ كما في البرزخ، والعذاب الجسمانيّ أيضًا كما في يوم القيامة.
والمعنى: أي كأنّهم حين يرون عذاب الله الذي أوعدهم بأنّه نازل بهم، لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة من نهار؛ لأنّ شدّة ما ينزل بهم منه ينسيهم قدر ما مكثوا في الدنيا من السنين والأعوام، فيظنّونها ساعة من نهار، ونحو الآية قوله: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ في الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (١١٣)﴾، وقوله: ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (٤٦)﴾.
﴿بَلَاغٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي (٢): هذا القرآن الذي وعظتم به بلاغٌ
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
108
وكفاية لهم في الموعظة إن فكروا واعتبروا، ودليله قوله تعالى: ﴿هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ﴾، وقوله: ﴿إِنَّ في هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (١٠٦)﴾. أو تبليغ من الرسول إليهم، فالعبد يضرب بالعصا، والحرّ يكفيه الإشارة.
ثمّ أوعد وأنذر، فقال: ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ﴾؛ أي: ما يهلك بالعذاب ﴿إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾؛ أي: الخارجون عن الاتعاظ به، أو الخارجون عن طاعة الله، المخالفون لأمره ونهيه، إذ لا يعذِّب إلا من يستحق العذاب، وقال بعض أهل التأويل؛ أي: الخارجون عن عزم طلبه إلى طلب ما سواه، وفي هذه الألفاظ وعيد محضٌ، وإنذارٌ بيِّن، وقال قتادة: لا يهلك على الله إلا هالك مشرك، وهذه الآية أقوى آية من الرجاء، ومن ثم قال الزجاج: تأويله: لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون، وهذا تطميع في سعة فضل الله سبحانه وتعالى.
وقرأ أبيٌّ: ﴿من النهار﴾، وقرأ الجمهور (١): ﴿مِنْ نَهَارٍ﴾ وقرأ الجمهور: ﴿بَلَاغٌ﴾ بالرفع، وقرأ الحسن وزيد بن عليّ وعيسى: ﴿بلاغًا﴾ بالنصب، فاحتمل أن يراد بلاغًا في القرآن؛ أي: بلِّغوا بلاغًا، أو بلَّغنا بلاغًا، وقرأ الحسن أيضًا: ﴿بلاغ﴾ بالجرّ نعتًا لـ ﴿نَهَارٍ﴾. وقرأ أبو مجلز وأبو سراح الهذليَّ: ﴿بلِّغ﴾ على الأمر للنبيّ - ﷺ -، وعن أبي مجلز أيضًا: ﴿بلَّغ﴾ فعلا ماضيًا، وقرأ الجمهور: ﴿يُهْلَكُ﴾ بضم الياء وفتح اللام وابن محيصن فيما حكى عنه ابن خالويه: بفتح الياء وكسر اللام، وعنه أيضًا: بفتح الياء واللام، وماضيه هلك بكسر اللام، وهي لغة، وقال أبو الفتح: هي مرغوبٌ عنها، وقرأ زيد بن ثابت: ﴿يُهلك﴾ بضم الياء وكسر اللام، ﴿إلا القوم الفاسقين﴾ بالنصب.
الإعراب
﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا﴾.
﴿وَإِذْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق
(١) البحر المحيط.
109
بمحذوف، تقديره: واذكر يا محمد لقومك إذ صرفنا إليك. ﴿صَرَفْنَا﴾: فعل وفاعل. ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق به، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾. ﴿نَفَرًا﴾ مفعول به. ﴿مِنَ الْجِنِّ﴾: صفة ﴿نَفَرًا﴾. ﴿يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل النصب، صفة ثانية لـ ﴿نَفَرًا﴾ أو حال منه لتخصصه بالصفة. ﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿حَضَرُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: فعل شرط لـ ﴿لمّا﴾: لا محل لها من الإعراب ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: جواب شرط لـ ﴿لمّا﴾، وجملة ﴿لمّا﴾: معطوفة على محذوف، تقديره: إذ صرفنا إليك نفرًا من الجن فحضروه، فلمّا حضروه قالوا: أنصتوا. ﴿أَنْصِتُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب مقول لـ ﴿قَالُوا﴾.
﴿فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (٣١)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿لما﴾: حرف شرط، ﴿قُضِيَ﴾: فعل ماض مغيّر الصيغة، ونائب فاعله: ضمير مستتر، يعود على القرآن، والجملة: فعل شرط لـ ﴿لمّا﴾. ﴿وَلَّوْا﴾: فعل ماض وفاعل، ﴿إِلَى قَوْمِهِمْ﴾: متعلق به. ﴿مُنْذِرِينَ﴾ حال من فاعل ﴿وَلَّوْا﴾. والجملة: جواب ﴿لمّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لمّا﴾: معطوفة على جملة ﴿لمّا﴾ الأولى. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: جواب لـ ﴿لمّا﴾ المحذوفة، تقديره: فلمّا رجعوا إلى قومهم.. قالوا: يا قومنا إلخ. ﴿يَا قَوْمَنَا﴾: منادى مضاف، والجملة: في محلّ النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه. ﴿سَمِعْنَا كِتَابًا﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾، وجملة ﴿إنّ﴾: في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ونائب فاعله: ضمير يعود على ﴿كِتَابًا﴾. والجملة: صفةٌ أولى لـ ﴿كِتَابًا﴾. ﴿مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾: متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾. ﴿مُصَدِّقًا﴾: صفة ثانية لـ ﴿كِتَابًا﴾ أو حال منه
110
لتخصصه بالصفة. ﴿لِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿مُصَدِّقًا﴾ ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوفٍ صلةٍ لـ ﴿ما﴾، ﴿يَهْدِي﴾: فعل مضارع، وفاعله: ضمير يعود على ﴿كِتَابًا﴾. والجملة: نعت ثالث لـ ﴿كِتَابًا﴾ أو حال منه. ﴿إِلَى الْحَقِّ﴾: متعلق بـ ﴿يَهْدِي﴾. ﴿وَإِلَى طَرِيقٍ﴾: معطوف على ﴿إِلَى الْحَقِّ﴾. ﴿مُسْتَقِيمٍ﴾ صفة ﴿طَرِيقٍ﴾. ﴿يَا قَوْمَنَا﴾: منادى مضاف، والجملة: مقول لـ ﴿قَالُوا﴾ ﴿أَجِيبُوا﴾: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، والواو فاعل. ﴿دَاعِيَ اللهِ﴾: مفعول به، والجملة: في محل النصب، مقول لـ ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَآمِنُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿أَجِيبُوا﴾. ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿آمِنُوا﴾. ﴿يَغْفِرْ﴾: فعل مضارع مجزوم بالطلب السابق، وفاعله: ضمير يعود على الله. ﴿لَكُمْ﴾. متعلق بـ ﴿يَغْفِرْ﴾. ﴿مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَغْفِرْ﴾ أيضًا. و ﴿مِن﴾: تبعيضية. ﴿وَيُجِرْكُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ﴿يَغْفِر﴾، ﴿مِنْ عَذَابٍ﴾: متعلق بـ ﴿يُجِر﴾ ﴿أَلِيمٍ﴾: صفة ﴿عَذَابٍ﴾.
﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ في الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ في ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٢)﴾.
﴿وَمَن﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿مَن﴾: اسم شرط جازم، في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يُجِبْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿مَن﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿دَاعِيَ اللهِ﴾ مفعول به. ﴿فَلَيْسَ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿مَن﴾ الشرطية وجوبًا، لكون الجواب جملة جامديّة. ﴿ليس﴾: فعل ناقص، في محل الجزم بـ ﴿مَن﴾ على كونه جوابًا لها، واسمها: ضمير مستتر يعود على ﴿مَن﴾. ﴿بِمُعْجِزٍ﴾ ﴿الباء﴾: زائدة، ﴿معجز﴾: خبر ﴿ليس﴾. ﴿في الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿معجز﴾. وجملة ﴿مَن﴾ الشرطية: معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لـ ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَلَيْسَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ليس﴾: فعل ناقص. ﴿لَهُ﴾: خبرها مقدم. ﴿مِنْ دُونِهِ﴾: حال من ﴿أَوْلِيَاءُ﴾، ﴿أَوْلِيَاءُ﴾: اسمها مؤخر، والجملة: معطوفة على جملة ﴿ليس﴾ الأولى. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿في ضَلَالٍ﴾ خبر. ﴿مُبِينٍ﴾: صفة ﴿ضَلَالٍ﴾، والجملة: في محل النصب، مقول ﴿قَالُوا﴾.
111
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)﴾.
﴿أَوَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف معلوم من المقام، و ﴿الواو﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: ألم يتفكروا ولم يروا، والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم، ﴿يَرَوْا﴾ فعل مضارع وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، والجملة: معطوفة على تلك المحذوفة. ﴿أَنَّ اللهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿الَّذِي﴾: صفة للجلالة. ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة الموصول ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾. ﴿وَلَمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم، ﴿يَعْيَ﴾: فعل مضارع، مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، وعلامة جزمه حذف حرف العلّة، وهي الألف، وفاعله: ضمير يعود على الموصول، والجملة: معطوفة على جملة ﴿خَلَقَ﴾؛ ﴿بِخَلْقِهِنَّ﴾: متعلق بـ ﴿يَعْيَ﴾، ﴿بِقَادِرٍ﴾ ﴿الباء﴾: زائدة في خبر ليس ﴿قادر﴾ خبرها. وجملة ﴿أَنْ﴾ من اسمها وخبرها: في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي ﴿يَرَوْا﴾. ﴿عَلَى﴾ حرف جرّ، ﴿أن﴾: حرف مصدر ونصب. ﴿يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿عَلَى﴾؛ أي: على إحيائه الموتى، الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿قادر﴾. ﴿بَلَى﴾: حرف جواب لإبطال النفي، فهي تبطل النفي، وتقرّر نقيضه. ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾. متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾ و ﴿قَدِيرٌ﴾: خبر ﴿إِن﴾ وجملة ﴿إِن﴾: جملة جوابيّة، لا محل لها من الإعراب.
﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤)﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿يوم﴾: ظرف متعلق بمحذوف، تقديره: ويقال لهم. والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿يُعْرَضُ﴾: فعل مضارع، مغير الصيغة. ﴿الَّذِينَ﴾: نائب فاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يوم﴾، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول. ﴿عَلَى النَّارِ﴾: متعلق بـ ﴿يُعْرَضُ﴾ ﴿أَلَيْسَ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري. ﴿ليس﴾: فعل ناقص. ﴿هَذَا﴾: اسمها. ﴿بِالْحَقِّ﴾: خبرها،
112
و ﴿الباء﴾: زائدة، والجملة: في محل النصب، مقول للقول المحذوف. ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿بَلَى﴾: حرف جواب قائم مقام الجواب، تقديره: بلى هو الحق، وجملة الجواب، في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾. ﴿وَرَبِّنَا﴾ ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم. ﴿ربنا﴾: مقسم به، مجرور بواو القسم، الجار والمجرور: متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: نقسم بربّنا، وجملة القسم: في محل النصب، مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر، يعود على الله أو على خازن النار، والجملة: مستأنفة. ﴿فَذُوقُوا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا اعترفتم بحقّية هذا العذاب، وأردتم بيان ما هو المستحق لكم.. فأقول لكم: ﴿ذوقوا﴾. ﴿ذوقوا﴾: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل. ﴿الْعَذَابَ﴾: مفعول به. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور، متعلّق بـ ﴿ذوقوا﴾. والجملة الفعلية: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة، في محل النصب، مقول قال. ﴿بِمَا﴾ ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿تَكْفُرُونَ﴾: خبر، وجملة ﴿كان﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية، ﴿ما﴾ مع صلتها: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿الباء﴾؛ أي: بسبب كفركم، الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿ذوقوا﴾ كما مرّ آنفًا.
﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (٣٥)﴾.
﴿فَاصْبِرْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت عاقبة الكفّار، وأن الإنذار لا ينجح فيهم، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: اصبر كما صبر أولوا العزم. ﴿اصبر﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿كَمَا﴾ ﴿الكاف﴾: حرف جرّ، ﴿مَا﴾: مصدرية. ﴿صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ﴾: فعل وفاعل مرفوع بالواو. ﴿مِنَ الرُّسُلِ﴾: حال من ﴿أُولُو الْعَزْمِ﴾. والجملة الفعلية: صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية ﴿ما﴾ مع صلتها في
113
تأويل مصدر مجرور بـ ﴿الكاف﴾ تقديره: كصبر أولي العزم، الجار والمجرور، صفة لمصدر محذوف، تقديره: فاصبر صبرًا كائنًا كصبر أولي العزم، بَلْ أعلى منه. ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية. ﴿تَسْتَعْجِلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله: ضمير يعود على محمد. ﴿لَهُمْ﴾: متعلّق بـ ﴿يستعجل﴾. والجملة: معطوفة على جملة ﴿فَاصْبِرْ﴾. ﴿كَأَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه، ﴿يَوْمَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿لَمْ يَلْبَثُوا﴾ الآتي، ﴿يَرَوْنَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به لـ ﴿يَرَوْنَ﴾ لأنّ الرؤية هنا بصرية. ﴿يُوعَدُونَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ونائب فاعل، والجملة: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والتقدير: ما يوعدونه. ﴿لَمْ يَلْبَثُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿سَاعَةً﴾: ظرف متعلق بـ ﴿يَلْبَثُوا﴾ أو مفعول به على التوسع. ﴿مِنْ نَهَارٍ﴾: صفة ﴿سَاعَةً﴾. وجملة ﴿يَلْبَثُوا﴾: في محل الرفع خبر ﴿كأنّ﴾ وجملة ﴿كأنّ﴾: مستأنفة. ﴿بَلَاغٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذا الذي وعظتم به بلاغ، وقيل: تقديره: هذا القرآن بلاغ، والجملة الاسمية: مستأنفة. ﴿فَهَلْ﴾ ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع. ﴿هل﴾: حرف استفهام للاستفهام الإنكاري. ﴿يُهْلَكُ﴾: فعل مضارع مغيّر الصيغة. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿الْقَوْمُ﴾ نائب فاعل. ﴿الْفَاسِقُونَ﴾ صفة ﴿الْقَوْمُ﴾. والجملة الفعلية: معطوفة على الاسمية قبلها لكونها في معنى الاسمية، كأنّه قيل: هذا بلاغٌ، فما هالك بعده إلّا القوم الفاسقون.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَإِذْ صَرَفْنَا﴾؛ أي: وجَّهنا نحوك. ﴿نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ﴾؛ أي: جماعة من الجنّ. والنفر: ما بين الثلاثة والعشرة من الرجال، سمّوا بذلك؛ لأنّهم ينفرون إذا حزبهم أمر لكفايته. وفي "المختار": النَّفر بفتحتين: عدَّة رجال من ثلاثة إلى عشرة، وكذا النفير والنفر والنفرة بسكون الفاء فيها. انتهى. وهم جنّ نصيبين أو حسن نينوى، وكانوا سبعة أو تسعة، وكان - ﷺ - فيما رواه الشيخان ببطن نخلة على نحو ليلة من مكة منصرفه من الطائف، يصلّي بأصحابه الفجر في السنة الحادية
114
عشرة من البعثة. كما مرّ.
﴿يَسْتَمِعُونَ﴾ ورد الفعل جمعًا نظرًا للمعنى، والاستماع: الإصغاء مع قصد السماع. ﴿أَنْصِتُوا﴾ أمر من الإنصاف. وهو الإصغاء مع السكوت؛ أي: أسكتوا. ﴿قُضِيَ﴾ فرغ من تلاوته. ﴿وَلَّوْا﴾؛ أي: رجعوا. ﴿مُنْذِرِينَ﴾؛ أي: مخوّفين لهم عواقب الضلال، وكانوا يهودًا، ثّم أسلموا.
﴿أَجِيبُوا﴾ أصله: أجوبوا بوزن أفعلوا، نقلت حركة الواو إلى الجيم، فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياءً حرف مدّ. ﴿دَاعِيَ اللهِ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: داعو، قلبت الواو ياءً؛ لتطرُّفها إثر كسرة.
﴿وَيُجِرْكُمْ﴾ أصله: يجوركم بوزن يفعل، مضارع أجار، نقلت حركة الواو إلى الجيم فسكنت فالتقى ساكنان: الواو والراء، فحذفت الواو، فوزنه يفلكم. ﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ﴾ أصله: يجوب، نقلت حركة الواو إلى الجيم فسكنت فالتقى ساكنان، فحذفت الواو، فوزنه يفل. ﴿أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ﴾ قد اجتمع هاهنا همزتان مضمومتان من كلمتين، وليس لهما نظير في القرآن؛ أي: لا وجود لهما في محل منه غير هذا. اهـ "خطيب".
﴿وَلَمْ يَعْيَ﴾؛ أي: لم يتعب بذلك، ولم يعجز عنه، يقال: عييت بالأمر: إذا لم تعرف وجهه، وأَعْيَيْتُ: تعبت. وفي "القاموس": أعيى الماشي: إذا كلَّ، قال الكسائي: يقال: أَعْيَيْتُ من التعب، وعَيِيْتُ من انقطاع الحيلة والعجز، قال عبيد بن الأبرص:
عَيُّوْا بِأَمْرِهِمُ كَمَا عَيَّتْ بَبَيْضَتِهَا الْحَمَامَهْ
وحكي في سبب تعلّم الكسائي النحو على كبره: أنّه مشى يومًا، حتى أعيَ ثم جلس إلى قوم ليستريح، فقال: قد عييت، بالتشديد بغير همزة، فقالوا له: لا تجالسنا وأنت تلحن، قال الكسائي: وكيف؟ قالوا: إن أردت من التعب.. فقل: أعييت، وإن أردت من انقطاع الحيلة، والتعجيز في الأمر.. فقل: عييت مخفّفًا، فقام من فوره، وسأل عمَّن يعلم النحو، فأرشدوه إلى معاذٍ، فلزمه حتى نفد ما
115
عنده، ثمّ خرج إلى البصرة إلى الخليل بن أحمد. اهـ من "روح البيان" (ج: ٨، ص: ٤٩٣).
﴿فَاصْبِرْ﴾ قال القشيري: الصبر: الوثوق بحكم الله، والثبات من غير بثٍّ ولا استكراهٍ، اهـ "خطيب".
﴿كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ﴾؛ أي: ذوو الحزم والصبر. والعزم في اللغة: الجدّ، والقصد مع القطع.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، في قوله: ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ﴾ إذا أعيد الضمير إلى النبيّ - ﷺ -؛ لأنّ مقتضى السياق حينئذٍ أن يقال: فلمّا حضروك.
ومنها: إطلاق الكتاب على بعض أجزائه، في قوله: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا﴾ إذ لم يكن القرآن كلُّه منزلًا حينئذٍ.
ومنها: تخصيص موسى بالذكر دون عيسى؛ لكون نزول الكتاب عليه متفقًا عليه بين اليهود والنصارى، بخلاف عيسى؛ لأنّ اليهود تنكر نبوّته، ونزول الكتاب عليه.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ لأنّه نفس الحق المذكور قبله، أطنب به للتأكيد وللتفخيم لشأنه.
ومنها: فن التنكيت في قوله: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ فقد عبر بـ ﴿مِنْ﴾ التبعيضية إشارةً إلى أنَّ الغفران يقع على الذنوب الخاصة، أما حقوق العباد فلا يمكن غفرانها، إلا بعد أن يُرضَّى أصحابها، فإنّ الله تعالى لا يغفر بالإيمان ذنوب المظالم.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ﴾ ﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ﴾.
116
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار، في قوله: ﴿وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللهِ﴾؛ لأنّ مقتضى السياق أن يقال: ومن لم يجبه، أظهره تفخيمًا لشأنه، وإظهارًا لنباهته.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ﴾؛ لأنّه مجاز عن الانقطاع عن العمل، علاقته: السببيّة؛ لأنّ العيّ؛ أي: التعب مستحيل عليه تعالى، وهو سبب للانقطاع عن العمل أو النقص فيه والمتأخر في إنجازه، فهو العلاقة في هذا المجاز.
ومنها: تعليل الخاصّ بالعام في قوله: ﴿إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾؛ لأنّه تعالى إذا كان قادرًا على كل شيء.. كان قادرًا على إحياء الموتى؛ لأنّه من جملة الأشياء، وقدرته لا تختصّ بمقدور دون مقدور.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ﴾؛ لأنّه مجاز عن التعذيب بها، كما مرّ.
ومنها: التهكم بهم والتوبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾؛ أي: باشروا العذاب؛ لأنّه مستعار من إحساس الذائق المطعوم.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
117
خلاصة ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة
اشتملت هذه السورة على المقاصد التالية:
١ - إقامة الأدلة على التوحيد، والردّ على عبدة الأصنام والأوثان.
٢ - المعارضات التي ابتدعها المشركون للنبوّة، والإجابة عنها، وبيان فسادها.
٣ - ذكر حال أهل الاستقامة الذين وحّدوا الله تعالى، وصدَّقوا أنبياءه، وبيان أنَّ جزاءهم الجنة.
٤ - ذكر وصايا المؤمنين من إكرام الوالدين، وعمل ما يرضي الله.
٥ - بيان حال من انهمكوا في الدنيا ولذّاتها.
٦ - قصص عاد، وفيه بيان أنَّ صرف النعم في غير وجهها يورث الهلاك.
٧ - استماع الجنّ للرسول - ﷺ -، وتبليغهم قومهم ما سمعوه.
٨ - عظةٌ للنبي - ﷺ - والمؤمنين من أمّته.
٩ - بيان أنّ القرآن فيه البلاغ والكفاية في الإنذار.
١٠ - من عدل الله ورحمته أن لا يعذّب إلّا من خرج عن طاعته، ولم يعمل بأمره ونهيه (١).
(١) تمّ تفسير هذه السورة بمعونة الله وتوفيقه، آخر الساعة الثالثة من يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر صفر، من شهور سنة ١٢/ ٢/ ١٤١٥ ألف وأربع مئة وخمس عشرة، سنة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلوات، وأزكى التحيّات، بيد مؤلفه وجامعه في مكة المكرمّة، في المسفلة في حارّة الرشد جوار المسجد الحرام، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين، آمين آمين، لا أرضى بواحدةٍ، حتى أكمل ألف ألفي آمين.
118
فائدة: أخرج الطبراني في الدعاء عن أنس: أَنَّ النبيّ - ﷺ - كان يدعو: "اللهم إنّي أسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل برّ، والفوز بالجنّة، والنجاة من النار، اللهم لا تدع لي ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرّجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها، برحمتك يا أرحم الراحمين".
والله أعلم
* * *
119
سورة محمد
سورة محمد - ﷺ -، وتسمّى سورة القتال، وسورة الذين كفروا. وهي مدنية، قال الماوردي في قول الجميع إلا ابن عباس، وقتادة، فإنهما قالا: إلا آية منها نزلت بعد حجة الوداع حين خرج من مكة، وجعل ينظر إلى البيت وهو يبكي حزنًا عليه، فنزل قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ﴾. وقال الثعلبيُّ (١): إنها مكية، وحكاه ابن هبة الله عن الضحاك، وسعيد بن جبير وهو غلطٌ من القول، فالسورة مدنية كما لا يخفى. وقد أخرج ابن الضريس عن ابن عباس قال: نزلت سورة القتال بالمدينة، وأخرج النحاس، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عنه قال: نزلت سورة محمد بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت بالمدينة سورة الذين كفروا.
وهي (٢) ثمان أو تسع وثلاثون آية، وخمس مئة وتسع وثلاثون كلمة، وألفان وثلاث مئة وتسعة وأربعون حرفًا، نزلت بعد سورة الحديد.
تسميتها: سمّيت سورة محمد؛ لبيانها تنزيل القرآن على محمد - ﷺ -، بقوله: ﴿وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ﴾، ولم يذكر محمد باسمه في القرآن إلا في أربع مواضع: في سورة آل عمران: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ﴾. وفي سورة الأحزاب: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ﴾، وهنا في هذه السورة، وفي سورة الفتح: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ﴾. وأما في غير هذه المواضع الأربعة، فيذكر بصفة الرسول أو النبيّ.
وسميت أيضًا سورة القتال؛ لبيان أحكام قتال الكفار فيها في أثناء المعارك وبعد انتهائها: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾.
مناسبتها لما قبلها: قال أبو حيان: مناسبة أولها لآخر ما قبلها واضحة
(١) الشوكاني.
(٢) المراح.
120
جدًّا. اهـ. وفي "التفسير المنير": هذه السورة يرتبط أولها ارتباطًا قويًا بآخر سورة الأحقاف ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾ حتى لو أسقطت البسملة بينهما لكان الكلام متصلًا مباشرةً بما قبله اتصالًا لا تنافر فيه كالآية الواحدة، ولكان بعضه آخذًا بحجز بعض.
فضلها: ما أخرجه الطبرانيّ في "الأوسط" عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّ النبيّ - ﷺ - كان يقرؤها في صلاة المغرب.
الناسخ والمنسوخ منها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم رحمه الله تعالى: جميعها محكم إلا آية واحدة، وهي قوله تعالى. ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ نسخ المنّ والفداء بآية السيف، وقيل: في سورة محمد - ﷺ - آيتان منسوختان الثانية منهما: قوله تعالى: ﴿وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾ (الآية ٣٦). نسخت بقوله تعالى: ﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (٣٧)﴾ (الآية ٣٧).
والله أعلم
* * *
121

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (٢) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (٣) فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ الله لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (٨) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ الله فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (١٠) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْ وَى لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ في النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفُ اأُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ الله عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (١٩)﴾.
المناسبة
قد تقدم لك بيان المناسبة بين أول هذه السورة وآخر السابقة.
122
واعلم: أنّ الله سبحانه قسم الناس في أول هذه السورة إلى فريقين (١):
أهل الكفر الذين صدّوا الناس عن سبيل الله، وهؤلاء يبطل أعمالهم، سواء كانت حسنةً كصلة الأرحام وإطعام الطعام، أو سيئة كالكيد لرسول الله - ﷺ -، والصدّ عن سبيل الله، فالأولى يبطل الله ثوابها، والثانية يمحو أثرها، وهكذا كل من قاوم عملًا شريفًا، فإنّ مآله الخذلان.
وأهل الإيمان بالله ورسوله الذين أصلحوا أعمالهم، أولئك يغفر الله لهم سيئات أعمالهم، ويوفّقهم في الدين والدنيا، كما أضاع أعمال الكافرين ولم يثب عليها.
ثم علل ما سلف بأنّ أعمال الفريقين جرت على ما سنَّه الله في الخليقة بأنّ الحق منصور، وأنّ الباطل مخذول، سواء كان في أمور الدين أم في أمور الدنيا، فالصناعات المحكمة إنما يقبل الناس عليها، ويؤثرونها؛ لأنها جارية على الطريق القويم والنسق الحق، وهكذا الشأن في المزروعات، والمصنوعات المتقنة الجيّدة، والسياسات الحكيمة.
والصناعات المرذولة، والسلع المزجاة، لن يكون حظها إلا الكساد والبوار؛ لأنّ الباطل لا ثبات له، والحق هو الثابت، والله هو الحق فينصر الحقّ، والعلم الصحيح، والدين الصحيح، والصناعات الجيّدة والآراء الصادقة نتائجها السعادة، وضدّها عاقبته الشقاء والبوار.
وقصارى ذلك: أنّ الله سبحانه خلق السموات والأرض بالحق، وعلى قوانين ثابتة منظمة، فكل ما قرب إلى الحق كان باقيًا، وكل ما ابتعد عنه كان هالكًا، فرجال الجدّ والنشاط مؤيَّدون، ورجال الكسل والتواكل مخذولون، والمُحِقُّون في كل شيء محبوبون منصورون.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه
(١) المراغي.
123
الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر (١) فيما سلف أنّ الناس فريقان:
أحدهما: متّبعٌ للباطل، وهو حزب الشيطان.
وثانيهما: متّبعٌ للحق، وهو حزب الرحمن.. ذكر هنا وجوب قتال الفريق الأول، حتى يفيء إلى أمر الله، ويرجع عن غيِّه، وتخضد شوكته.
قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنَّ الله سبحانه لما نعى على الكافرين مغبّة أعمالهم، وأنّ النار مثوى لهم.. أردف هذا أمرهم بالنظر في أحوال الأمم السالفة، ورؤية آثارهم، لما للمشاهدت الحسّية من آثار في النفوسّ، ونتائج لدى ذوي العقول إذا تدبّروها واعتبروا بها.
قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا بينّ الفارق بين الفريقين في الاهتداء والضلال.. ذكر الفارق بينهما في مرجعهما ومآلهما، فذكر ما للأوّلين من النعيم المقيم، واللذات التي لا يدركها الإحصاء، وما للآخرين من العذاب اللازب في النار، وشرب الماء الحار الذي يقطّع الأمعاء.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر حال المشركين، وبيّن سوء مغبّتهم.. أردف هذا ببيان أحوال المنافقين الذين كانوا يحضرون مجلس رسول الله - ﷺ - فيسمعون كلامه ولا يعونه تهاونًا واستهزاء به، حتى إذا خرجوا من عنده.. قالوا للواعين من الصحابة: ماذا قال قبل افتراقنا وخروجنا من عنده؟. وهؤلاء قد طبع الله على قلوبهم، واتبعوا أهواءهم، ومن ثم تشاغلوا عن سماع كلامه، وأقبلوا على جمع حطام الدنيا.
ثم أعقبه بذكر حال من اهتدوا، وألهمهم وبهم ما يتقون به النار، ثم عنف
(١) المراغي.
124
أولئك المكذّبين، وذكر أن عليهم أن يرعووا قبل أن تجيء الساعة التي بدت علاماتها بمبعث محمد - ﷺ -، والذكرى لا تنفع حينئذٍ.
ثم أمر رسوله - ﷺ - بالثبات على ما هو عليه من وحدانية الله، وإصلاح نفسه بالاستغفار من ذنبه، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات، والله هو العلم بمنصرفكم في الدنيا، ومصيركم إلى الجنّة أو إلى النار في الاخرة.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ...﴾ أخرج (١) ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أنها نزلت في أهل مكة ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ قال: هم الأنصار.
وأخرج عن قتادة في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ قال: ذكر لنا أنّ هذه الآية نزلت يوم أحد ورسول الله - ﷺ - في الشعب، وقد نشبت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون يومئذٍ: أعل هبل، ونادى المسلمون: الله أعلى وأجل، فقال المشركون: إنّ لنا العزّى، ولا عزّى لكم، فقال رسول الله: - ﷺ - "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم".
قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً...﴾ إلخ. سبب نزولها: ما أخرجه أبو يعلى عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله - ﷺ - تلقاء الغار.. نظر إلى مكة فقال: "أنت أحبّ بلاد الله إليّ، ولولا أنّ أهلك أخرجوني منك.. لم أخرج منك، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ...﴾ الآية.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج قال: كان المؤمنون والمنافقون يجتمعون إلى النبيّ - ﷺ -، فيسمع المؤمنون منه ما يقول ويعونه، ويسمعه المنافقون فلا يعونه، فإذا
(١) لباب النقول.
125
Icon