تفسير سورة الأحقاف

حومد
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب أيسر التفاسير المعروف بـحومد .
لمؤلفه أسعد محمود حومد .

(حَ. مِيم)
(١) - وتُقْرأُ مُقَطَّعةً كُلُّ حَرْفٍ عَلَى حِدَةٍ (حَا - مِيمْ) اللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
﴿الكتاب﴾
(٢) - إِنَّ هذا الكِتَابَ أَنْزَلَهُ اللهُ تَعَالى، العَزِيزُ الذِي لا يغالبا الحَكِيمُ في شَرْعِهِ وَتَدَبِيرِهِ، عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ لِيَكُونَ نَذِيراً لِلنَّاسِ بَيْنَ يَدَي عَذَابٍ أَلِيمٍ.
﴿السماوات﴾
(٣) - لَم يَخْلُقِ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ إِلاَّ بِالحَقِّ والعَدْلِ وَالحِكمةِ التي اقْتَضَتْها مَشِيئَتُهُ تَعَالى، لاَ لِلْعَبَثِ وَاللَّهُوِ والتَّسلِيَةِ. وَقَدَّرَ لِهذهِ الكَائِنَاتِ أَجَلاً مُعَيَّناً لِبَقَائِها، لا يَزِيدُ ولا يَنقُصُ، فإِذا حَانَ ذَلِكَ الأَجَلُ قَامَتِ القيامةا وَبُغِثَ الناسُ، وَحُوسِبَ كُلُّ واحدٍ مِنْهُمْ على عَمَلِهِ في الحَيَاةِ الدنيا وَجُزِيَ بِعَمَلِهِ.
وَمَعَ أَنَّ اللهَ تَعَالى قَدْ نَصَبَ الأَدِلَّةَ لِلْعِبَادِ في الأَنفسُ وفي الآفَاقِ عَلَى وُجُودِهِ، وَوحْدَانِيَّتِهِ، وعظمتها وَقُدْرَتِهِ عَلَى الخَلْقِ، ثمَّ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إِلى النَّاسِ بالكُتُبِ مُحَذِّرِينَ وَمنذِرينَ، فَإِنَّ الذِينَ كَفَرُوا استَمَرُّوا في كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبهِمْ وَإِعراضِهِمْ عنْ نُذُرِ اللهِ.
أَجَلٍ - مُسَمىً - هُوَ يَوْمُ القِيَامِةِ.
﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ ﴿السماوات﴾ ﴿بِكِتَابٍ﴾ ﴿أَثَارَةٍ﴾ ﴿صَادِقِينَ﴾
(٤) - قُلْ - يَا مُحَمَّدُ - لِهؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ: تَأَمَّلُوا في خَلْقِ هذا الكَوْنِ، وَمَا فِيهِ مِنْ كَائِنَاتٍ، ثُمَّ أَخْبِرُوني عَنْ حَالِ الآلِهَةِ التِي تَدْعُونَها مِنْ دُونِ اللهِ، هَلْ خَلَقُوا شَيئاً مِنَ الكَائِنَاتِ المَوْجُودَةِ في الأَرْضِ لِيَسْتَحِقُّوا العِبَادَةَ مِنْ أَجْلِ خَلْقِهِ؟ وَلَوْ أَنَّهم كَانُوا خَلَقُوا شَيئاً لَظَهَرَ التَّفَاوُتُ في الخَلْقِ بينَ مَا خَلَقَ اللهُ، وَمَا خَلَقُوهُ هُمْ.
وَلكِنَّ خَلْقَ الكَونِ مُتَناسِقٌ بديعا وَكُلُّ مَا فِيهِ مِنْ نِظَامٍ وَاتّسَاقٍ وَجَمالٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَالَقَهُ وَاحدٌ. وَإِذ ظَهَرَ أَنَّهُمْ لَم يَخلُقُوا شَيئاًَ في الأَرْضِ، فإِنَّهُمْ لاَ شَرِكَةَ لَهُمْ فِي خَلْقِ شَيءٍ في السَّماواتِ لِيَسْتَحِقُّوا العِبَادَةَ مِنْ أجلِ خَلْقِهِ، أَو الاشتِراكِ في خَلْقِهِ وَتَدْبِيرِهِ.
إِنَّ المُلْكَ كُلَّهُ للهِ، وَلَهُ وَحْدَهُ التَّصَرُّفُ في الوُجُودِ، فَكَيفَ تَعبُدُونَ مَعَهُ غَيرَهُ؟ وَكَيفَ تُشرِكُونَ الأَصْنَامَ مَعَهُ في العِبَادَةِ؟ وَمَنْ أَرْشَدَكُم إِلى هذا؟ اللهُ سُبْحَانَهُ أَمَركُمْ بِهذا؟ أَمْ هُوَ شَيءٌ اقْتَرَحْتًُمُوهُ أَنْتُمْ مِنْ عِنْدِ أَنفُسِكُم؟ فَإِذا كَانَ مَا تَقُولُونَهُ عَنْ عِبَادَتِكُمْ لهذِهِ الآلهةِ والأَصْنَامِ والأَوثَانِ حَقّاً، فَهَاتوا كِتاباً مِنْ كُتُبِ اللهِ المُنَزَّلَةِ عَلَى رُسُلِهِ يَأْمُرُكُمْ فِيهِ بِعِبَادَتِها، أَوْ هَاتُوا شَيئاً تَبَقَّى لَكُمْ مِنْ عِلْمِ الأَوَّلينَ المُفَكِّرِينَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُرِشدُ إِلى اسْتِحْقَاقِ الأَصْنَامِ لِلْعِبَادَةِ؟
لَهُم شِرْكٌ - شَرِكَةٌ وَنَصِيبٌ مَعَ اللهِ.
أثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ - بَقِيَّةٍ مِنْ عِلْمٍ عِنْدَكُمْ.
﴿يَدْعُواْ﴾ ﴿القيامة﴾ ﴿دُعَآئِهِمْ﴾ ﴿غَافِلُونَ﴾
(٥) - وَيُقَرِّعُ اللهُ تَعَالى المشركينا الذِينَ يَتْرُكُونَ عِبَادَةَ اللهِ القَادِرِ القَاهِرِ المُبْدِعِ، وَيَعْبُدُونَ أصْنَاماً وَأَوْثَاناً لا تَضُرُّ وَلا تَنْفَعُ، فَيقُولُ تَعَالى: لاَ أَحَدَ أَكثَرُ ضَلاَلاً مِمَّنْ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً هِيَ أَصْنَامٌ وَأوْثَانٌ، لاَ تَسْمَعُ دَعْوَتَهُم إِذا دَعَوْهَا، وَلاَ تَسْتَجِيبُ لِدُعَائِهِمْ أَبَدَ الدَّهْرِ (إِلى يَومِ القِيَامَةِ) إِذا دعوها إِذْ إِنَّ هذِهِ الآلِهَةَ في غَفْلَةٍ عَنْ دُعَاءِ مَنْ يَدْعُوها لأَنَّها حِجَارَةٌ صَمَّاءُ لاَ حَيَاةَ فِيهَا، لاَ تَسْمَعُ ولا تُبْصِرُ، وَلاَ تَتَكَلَّمُ.
﴿كَافِرِينَ﴾
(٦) - وَالمَعْبُودَاتُ التِي يَعبُدُهَا الكَفَرَةُ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ تَنْفَعُ عَابِدِيها شَيْئاً فِي الدُّنْيا وَكَذَلِكَ فَإِنَّها لاَ تَنْفَعُهُم في الآخِرَةِ، وَسَتَكُونُ عَلَيْهمْ ضِدّاً فِي ذَلِكَ اليَوْمِ، إِذْ أَنَّها سَتَكْفُرُ بِعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهَا، وَسَتَتَبَرَّأُ مِنْهُمْ وَهُمْ أَحْوَجُ مَا يَكُونُونَ إِلَيْهَا.
﴿آيَاتُنَا﴾ ﴿بَيِّنَاتٍ﴾
(٧) - وَإِذا تُلِيَتْ عَلَى هؤُلاءِ الكَافِرِينَ آيَاتُ اللهِ، وَهِيَ بَيِّنَةٌ جَلِيَّةٌ وَاضِحَةٌ، قَالوا: هذا سِحْرٌ وَاضِحٌ يُؤَثِّرُ في النُّفُوسِ، كَما يُؤَثِّرُ السِّحْرُ فِيمَنْ شَاهَدَهُ.
﴿افتراه﴾
(٨) - أَم إِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحمَّداً افْتَرى القُرآنَ، وَوَضَعهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ، وَنَسَبَهُ إِلى اللهِ تَعَالى. وََيَأْمرُ اللهُ تَعَالى رَسُولَه الكَرِيمَ ﷺ بِأَنْ يَرُدَّ عَلى فِرْيَةِ هؤُلاءِ المُفتَرِينَ، وَأَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَوْ أَنَّني كَذَبْتُ عَلى اللهِ، وَزَعَمْتُ أَنَّهُ بَعَثَنِي إِليكُم رَسُولاً، وََهُوَ لَم يَبْعَثْنِي رَسُولاً، لَعَاقَبَنِي أَجْرُؤُ عَلَى الإِقدَامِ عَلَى هذِهِ الفِرْيَةِ، وأُعرِّضُ نَفْسِي لِعِقَابِ اللهِ؟ وَاللهُ أَعْلَمُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِما تَخُوضُونَ فِيهِ مِنْ التَّكْذِيبِ بِالقُرآنِ، والطَّعْنِ في آيَاتِهِ والقولِ إِنَّها سِحْرٌ.
وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً لِي ِالصِّدْقِ فِيمَا أُبَلِّغُكُمْ عَنْهُ، وَيَشْهَدُ عَلَيكُمْ بِالكُفْرِ والتَّكْذِيبِ، وَهُوَ الغَفُورُ إِن تبتما وأَقْلَعْتُمْ عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيهِ مِنَ الكُفْرِ والتَّكْذِيبِ، وَهُوَ الرَّحِيمُ بِعِبَادِهِ يَرْحَمُ التَّائِبِينَ المُسْتَغْفِرِينَ.
تُفِيضُونَ فِيهِ - تَنْدَفِعُونَ فِيهِ طَعْناً وَتَكْذِيباً.
(٩) - وَقُلْ لَهُمْ يَا مُحمَّدُ: إِنَّني لَسْتُ بِأَوَّلِ رَسُولٍ جَاءَ إِلى الخَلْقِ في الأَرْضِ وَبلِّغَ رِسَالَةً عَنْ رَبِّهِ، فَقَدْ جَاءَتْ رُسُلٌ قَبْلي، وَأَبْلَغُوا أَقْوَامَهُمْ رِسَالاتِ رَبِّهِمْ، وَتَلَوا عَلَيهِمْ آيَاتِهِ وَكُتُبَهُ المُنَزَّلةَ عَلَيهِمْ.
وَأَنا بَشَرٌ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ آتيِ بِشَيءٍ مِنْ عِنْدِي، والذِي يُرسِلُ المُعجِزاتِ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ، يُرسِلُها حِينَما يشاءا وأَنا لاَ أَعْلَمُ مَا يُفْعَلُ بي في الدُّنيا أَأُخْرَجُ مِنْ بَلَدِي أَمْ أُقتَلُ؛ وأَنا لاَ أَتَّبعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِليَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالى مِنَ القُرآنِ، لا أَبْتَدِعُ شَيْئاً مِن عِندِي، وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ أُنذِرُكُمْ عِقَابَ اللهِ، وَأُخَوِّفُكُمْ مِنْ عذابها وَآتِيكُمْ بِالشَّوَاهِدِ الوَاضِحَةِ عَلَى صِدْقِ مَا جِئْتُكمْ بِهِ.
﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ ﴿إِسْرَائِيلَ﴾ ﴿فَآمَنَ﴾ ﴿الظالمين﴾
(١٠) - قُلْ يَا مُحمَّدُ لهؤُلاءِ المُشْرِكِينَ الكَافِرِينَ بالقُرآنِ: أَخْبِرُوني عَنْ حَالِكُمْ إِنْ ثَبَتَ أَنَّ هذا القُرآنَ مُنزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ تعالى وأَنَّهُ لَيْسَ بِسِحْرٍ وَلا مُفْتَرًى عَلَى كَمَا تَزْعمُونَ، ثُمَّ كَذَّبْتُمْ أَنْتُمْ بها وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ عُلَماءِ بَني إِسْرائِيلَ عَلَى أَنَّ هذا القُرآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فآمَنَ هُوَ بِهِ، واسْتَكْبَرتُمْ أَنْتُمْ عَنِ الإِيمَانِ بِهِ، أَفَلا تَكُونُونَ أَضَلَّ النَّاسِ وأَظْلَمَهُمْ؟ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمينَ.
(وَقِيلَ إِنَّ هذا الشَّاهِدَ مِنْ بَني إِسْرَائِيلَ هُوَ عبدُ اللهِ بنُ سَلاَّمٍ، وَكَانَ حَبراً مِنْ أَحْبَارِ اليَهُودِ ثُمَّ أَسْلَمَ).
﴿آمَنُواْ﴾
(١١) - وَقَالَ مُشْرِكُو مَكَّةَ اسْتِهْزاءً بِالمُؤْمِنينَ، واسْتِعْلاَءً عَلَيهِمْ: لَوْ كَانَ مَا أَتَى بِهِ مُحمَّدٌ حَقّاً، مَا سَبَقَنَا إِليهِ فُقَرَاءُ المُؤْمِنينَ، وضعفاؤهما وَعَبِيدُهُمْ (مِثْلُ بِلاَلٍ وَصُهَيبٍ وَعَمَّارٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ..) لأَنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ أَعَالِي الأُمُورِ لاَ يَنَالُها إِلاَّ أَصْحَابُ الجَاهِ والسلطانا وَأَصْحَابُ مُحمَّدٍ أكثَرُهُمْ فُقَرَاءُ وَعَبيدٌ، لِذَلِكَ استَبْعَدَ رُؤُوسُ الشِّرْكِ أَنْ يَسْبِقَهُمْ غَيرُهُم إِلَى الخَيْرِ، وَإِلى الحَقّ. وَبِمَا أَنَّهُم لم يَهْتَدُوا، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِرِسَالَةِ مُحمَّدٍ وقرآنها فَسَيقُولُونَ: هذا كَذِبٌ قَدِيمٌ مِنْ أَسَاطِيرِ الأَوَّلِينَ.
إِفْكٌ قَدِيمٌ - كَذِبٌ مُتَقَادِمٌ.
﴿كِتَابُ﴾
(١٢) - وَقَبْلَ هذا القُرآنِ، الذِي يُكَذِّبُ بِهِ المَلأُ مِنْ قُرَيشٍ، أَنْزَلَ اللهُ التَّورَاةَ عَلَى عَبْدِهِ مُوسَى، وَجَعَلَهَا إِماماً وقُدْوَةً لِبَنِي إِسْرَائِيلِ وَرَحْمَةً لَهُمْ. وَقَدْ أَشَارَتِ التَّوراةُ إِلى مَبْعَثِ مُحمَّدٍ، وَرِسَالتِهِ، وَصِفَاتِهِ. وَبِما أَنَّ المُشْرِكِينَ لاَ يُمَارُونَ في أَنَّ التَّورَاةَ مُنَزَّلةٌ مِنْ عِندِ اللهِ، وَبما أَنَّ التَّورَاةَ بَشَّرَتْ بِمُحَمَّدٍ وَكِتاَبِهِ، فَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحمَّدٌ صَادِقاً في رِسَالَتهِ، وَلاَ بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ هذا القُرآنُ مُنَزَّلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالى.
وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللهُ بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ لِيُنْذِرَ الذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالشِّرْكِ، وَليبشِّرَ المُؤمِنينَ المُحْسِنينَ بِأَنَّ لَهُمُ الثَّوابَ الجَزِيلَ عِنْدَ اللهِ تَعَالى.
وَقَدْ جَاءَ القُرآنُ مُوَافِقاً لما جَاءَ في التَّوراةِ، وَمُصَدِّقاً لَها فِيما جَاءَتْ بِهِ، مَعَ أَنَّها نَزَلَتْ بالعبرانيةا والقُرآنُ جَاءَ بالعَرَبِيَّةِ، فَتَوَافقُهُمَا في الأغْراضِ وَالأَفكَارِ والمبَادِئِ الأَسَاسِيَّةِ يَدُلُّ عَلَى وَحدَةِ المَصْدَرِ وَهُوَ اللهُ تَعَالَى.
﴿استقاموا﴾
(١٣) - إِنَّ الذِينَ قَالُوا: رَبُّنَا اللهُ لا إِلَهَ غَيرُهُ، وَلاَ مَعْبُودَ سِوَاهُ، ثُمَّ ثَبَتُوا عَلَى تَصْدِيقِهِم بِذَلِكَ، وَلَمْ يَخْلِطُوا إِيمَانَهم بِشِرْكٍ أَوْ ظُلْمٍ، وَلَمْ يُخالِفُوا أَمْرَ اللهِ، أُولئِكَ لا خَوْفٌ عَلَيهِمْ فِيما يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ يَومَ القيامةا وَلا يَحزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ وَرَاءَهُم في الدُّنيا.
﴿أولئك﴾ ﴿أَصْحَابُ﴾ ﴿خَالِدِينَ﴾
(١٤) - وََهَؤُلاءِ الذِينَ آمَنُوا باللها واستَقَامُوا عَلَى الإِيمَانِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، هُمْ أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَخلُدُونَ فِيها أبداً، ثَواباً لَهُمْ مِنْ عِنْدِ اللها وَجَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَاتٍ فِي الدُّنيا.
﴿الإنسان﴾ ﴿بِوَالِدَيْهِ﴾ ﴿إِحْسَاناً﴾ ﴿فِصَالُهُ﴾ ﴿ثَلاَثُونَ﴾ ﴿وَالِدَيَّ﴾ ﴿صَالِحاً﴾ ﴿تَرْضَاهُ﴾
(١٥) - بَعْدَ أَنْ أَمَرَ اللهَ تَعَالى عِبَادَهَ بالإِيمانِ بِهِ وَبِتَصْدِيقِ رَسُولِهِ، وبما جاءَ بِهِ مِنْ كِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ، والاستِقَامَةِ عَلَى الإِيمانِ، حَثَّ النَّاسَ عَلَى الإِحسَانِ إِلى الوَالِدَينِ فأَخبَرَ تَعَالَى: أَنَّهُ أَمَرَ الإِنسَانَ بالإِحسَانِ إِلى وَالديْهِ، وَبِالحُنُوِّ عَلَيهِما، وَجَعَلَ برَّهُما مِنْ أَفْضَلِ القُرُبَاتِ إِلى اللهِ، وَجَعَلَ عُقُوقَهُما مِنَ كَبَائِرِ الذُّنوبِ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالى سَبَبَ تَوصِيَتِهِ الإِنسَانَ بِبِرِّ وَالدَيهِ، فَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ قَاسَتْ في حَمْلِهِ مَشَقَّةً وَتَعَباً، وَقَاسَتْ في وَضعِهِ مَشَقَّةً وأَلماً، وَكُلُّ ذَلِكَ يَسْتَدعي مِنَ الإِنسانِ الشكرَ، واستِحقَاقَ التَّكريمِ، وَجَميلَ الصُّحْبَةِ. وَمُدَّةُ حَمْلِ الطّفْلِ، وفِطَامِهِ، ثَلاثُونَ شَهْراً تَتَحَمَّلُ فِيها الأٌمُ أَعْظَمَ المَشَاقِّ. حَتَّى إِذَا بَلَغَ الطّفْلُ كَمَالَ قُوَّتِهِ وَعَقْلِهِ، وَبَلَغَ أَربَعِينَ سَنَةً مِنْ عُمْرِهِ قَالَ: رَبِّ أَلْهِمْنِي وَوَفِّقْنِي إِلى شُكْرِ نِعْمَتِكَ التِي أَنْعَمْتَ بِها عَلَيَّ، وَعَلَى وَالِدَيَّّ، مِنْ صِحَّةِ جِسْمٍ، وَسَعَةِ عَيْشٍ، واجْعْلَنْي أَعْمَل عَمَلاً صَالِحا يُرضِيكَ عَنِّي لأَنَالَ مَثُوبَتَهُ عِنْدَكَ، وَاجَعْلِ اللهُمَّ الصَّلاَحَ سَارِياً في ذُرِّيَّتِي، إِني تُبتُ إِليكَ مِنْ ذُنُوبِي التِي صَدَرتَ عَنِّي فِيما سَلَفَ مِنْ أَيَّامِي، وَإِنِّي مِنَ المُستَسلِمِينَ لأَمرِكَ وَقَضَائِكَ.
وَصِّينا - أَمَرْنا وَأَلزَمْنا.
كُرْهاً - ذَاتَ كُرهٍ وَمَشَقَّةٍ.
حَمْلُهُ وفِصَالُهُ - مُدَّةُ حَملِهِ وَفِطَامِهِ.
بَلَغَ أَشُدَّهُ - بَلَغَ كَمَالَ قُوَّتِهِ وَعَقْلِهِ.
رَبِّ أَوْزِعْني - يا رَبِّ أَلْهِمْنِي وَوَفّقْنِي.
﴿أولئك﴾ ﴿أَصْحَابِ﴾
(١٦) - وَهؤلاءِ المُتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ السَّابِقَةِ (التَّائِبُونَ إِلى اللهِ، المُنِيبُونَ إِليهِ، المُسْتَدْرِكُونَ مَا فَاتَ بِالتُّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ..) هُمُ الذِينَ يَتَقَبَّلُ اللهُ تَعَالى مِنْهُمْ أحسَنَ مَا عَمِلُوهُ في الدُّنيا، وَيَصْفَحُ عَنْ سَيِّئاتهِمْ فَيَغْفِرُ لَهُمُ الكَثيرَ مِنَ الزَّلَلِ الذِي صَدَرَ مِنْهُم فِي حِيَاتِهم الدُّنيا، ولمْ يَتَرسَّخْ فِعْلُهُ في نُفُوسِهِم، وَيَقْبَلُ القَليلَ مِنَ العَمَلِ. وَهُمْ في عِدادِ أَهْلِ الجَنَّةِ تَحقيقاً للوَعْدِ الصِّدْقِ الذِي وَعَدَهُمْ بِهِ رَبُّهم فِي الدُّنيا، وَلا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ أَبداً.
(وَرُوِيَ أَنَّ هذهِ الآيةَ نَزَلَتْ في سَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ.
وَرُوِيَ أَيْضاً أَنَّها نَزَلَتْ في أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. والآيَةُ تَنْطَبِقُ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ فَهُوَ مُوصىً بِوالِدَيهِ، مَأْمُورٌ بِشُكْر أَنْعُمِ الله عَلَيهِ وَعليهِما، وَبأَنْ يَعْمَلَ صَالِحاً، وَأَنْ يَسْعَى في إِصْلاَحِ ذُرِّيَّتهِ، وَأَنْ يَدْعُوَ اللهَ أَنْ يُوِّفقَهُ إِلى عَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ).
﴿لِوَالِدَيْهِ﴾ ﴿آمِنْ﴾ ﴿أَسَاطِيرُ﴾
(١٧) - بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَعَالى حَالَ البَرَرَةِ الصَّالحينَ، وَما أَعَدَّهُ لَهُمْ مِنَ النَّعِيم في الدُّنيا وَالآخِرَةِ، جَاءَ عَلَى ذِكْرِ الأَشْقِيَاءِ أَهْلِ العُقُوقِ لِلْوَالِدَينِ، المُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ والنُّشُورِ، فَأَخْبَرَ تَعَالى: أَنّ الذِي أَجَابَ وَالديهِ حِينَما دَعَواهُ إِلى الإِيمَانِ باللهِ والإِقْرارِ بالبَعْثِ وَالحِسَابِ: أُفٍّ لَكُما، أَتَقُولاَنِ إِنَّني سأُبْعَثُ مِنْ قَبْرِي حَيّاً بَعْدَ مَوتِي، وَبَعْدَ أَنْ أَصِير تُراباً وَرَمِيماً؟ إِنَّ هَذا لأَمْرٌ لا يُصدَّقُ، فَهذِهِ أَجْيَالٌ مِنَ البَشَرِ مَضَتْ، وَأُمَمٌ قَدْ خَلَتْ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا أَحَدٌ، وَلَوَ كُنْتُ مَبُعُوثاً بَعْدَ مَوتي لَكَانَ بُعِثَ مَنْ مَضَى مِنَ الأُمَمِ الغَابِرَةِ. وَقَدِ استَغَاثَ وَالِدَاهُ بِاللهِ استِعْظَاماً لجُرمِهِ، وَقَالاَ لَهُ، وَهُما يَحُثَّانِهِ عَلَى الإِيمَانِ بِاللهِ: هَلَكْتَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنْ بِما وَعَدَ اللهُ مِنَ المَعَادِ مِنْ بَعْدِ المَوتِ، ثُمَّ بِالحِسَابِ وبِالجَزَاءِ عَلى الأَعْمالِ، فَوَعْدُ اللهِ حَقٌ لاَ شَكَّ فِيهِ، واللهُ تَعالى لا يُخْلِفُ وَعْدَه أبداً. وَيَرُدُّ الوَلَدُ عَلى نَصِيحَةِ وَالِدَيهِ قَائِلاً: إِنَّ مَا يَقُولاَنِهُ لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ شَيءٌ مِمَّا سَطَّرهُ الأَوَّلُونَ مِنْ أَبَاطِيلهِمْ، وَلا ظِلَّ لَهُ مِنَ الحَقِيقَةِ.
أُفٍّ لَكُما - أفٍّ كَلِمَةُ تَضَجُّرٍ وَتَبَرُّمٍ بِما يَقُولاَنِ. وَهِيَ اسْمُ فِعْلٍ مُضَارِعٍ.
أَنْ أُخْرَجَ - أَن أُبْعَثَ مِنْ قَبْرِي بَعْد َأَنْ تَصِيرَ عِظامي رَميماً.
خَلَتِ القُرُونَ - مَضَتِ الأُمَمُ وَلَمْ تُبْعَثْ.
وَيْلَكَ - هَلَكْتَ، وَهِيَ هُنَا تَعنِي حَثَّهُ عَلَى الإِيمَانِ.
أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ - قَصَصُ الأَوَّلِينَ وَخُرَافَاتُهُمْ المَسْطُورَةُ في كُتِبِهمْ.
﴿أولئك﴾ ﴿خَاسِرِينَ﴾
(١٨) - وَهؤُلاءِ الذِينَ اتَّصفُوا بِصَفاتِ أَهْلِ الكُفْرِ بِاللهِ، والعُقُوقِ لِلوالِدَينِ، يُصَنَّفُونَ في زُمْرَةِ أَمَثَالِهِم مِنَ الكَافِرينً مِنْ أُمَمٍ قَدْ مَضَتْ قَبْلَهُمْ مِنَ الإِنْسِ وَالجِنِّ، فَحَقَّتْ عَلَيهِم عُقُوبَةُ اللهِ وَعَذَابُهُ، لأَنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ إِذِ اشتَرَوا الضَّلاَلَةَ بِالهُدَى.
حَقَّ عَلَيهِم القَوْلُ - وَجَبَ عَلَيهِمْ وَعِيدُ اللهِ.
قَدْ خَلَتْ - مَضَتْ وَتَقَدَّمَتْ.
﴿دَرَجَاتٌ﴾ ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾
(١٩) - وَلِكُلٍّ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، يَوْمَ القِيَامةِ، مَنَازِلُ تُنَاسِبُ أَعْمالِهم، وَلا يَظلِمُهم اللهُ شَيئاً: فَلا يَزيدُ فِي سَيِّئَاتِهم، وَلا يَنقصُهُم شَيئاً مِنْ حَسَناتِهم.
﴿طَيِّبَاتِكُمْ﴾
(٢٠) - ويَومَ القِيامَةِ يُوقَفُ الذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ، وَيُقَالُ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ والتَّأْنِيبِ: إِنَّ كُلَّ ما قُدِّر لَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ والنَّعِيمِ قدِ استَمْتَعْتُمْ بِهِ، واستَوفَيْتُمُوهُ في حَيَاتِكُمُ الدُّنيا واستَهْلَكْتُمُوهُ فِيها، ولم يَبْقَ لَكُم شَيءٌ مِنَ المُتَعِ واللَّذَّاتِ. وَهكَذَا لَم يَبْقَ لَكُمْ شَيءٌ في الآخِرَةِ تَنَالُونَهُ غيرُ الخِزْيِ وَالإِهَانةِ، جَزَاءً لَكُمْ عَلى استِكْبَارِكُمْ عَنِ اتِّباعِ الحَقِّ، وَعَلى فسْقِكُم وَخُرُوجِكُم عَنْ طَاعَةِ رَبِّكُمْ.
الفِسْقُ - الخُروجُ عَنِ الطَّاعَةِ.
(٢١) - ويُسَلِّي اللهُ تَعَالى رَسُولَه الكَريمَ عَمَّا يُلاقِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ، واسْتِهْزَائِهِمْ بهِ، وَيُذَكِّرُهُ بِقَصَصِ الأَنبِيَاءِ الذِينَ قَبْلَهُ، فَكَذَّبَهمْ أَقْوامُهُم، وَاسْتَهْزَاؤوا بِهِمْ فَجَاءَ نَصْرُ اللهِ فَنَجَّى الرُّسُلَ وَالذِينَ آمَنُوا، وأَهْلَكَ المُجْرِمينَ.
وَهُنَا يَبْدَأُ تَعَالى بِسَرْدِ قِصَّةِ هُودٍ، عَلَيهِ السَّلاَمُ، مَعَ قُومِهِ عَادٍ، وَقَدْ كَانوا يَسْكُنُونَ الأَحْقَافَ في مِنْطَقَةِ حَضْرَمَوْتَ، جَنُوبيِّ الجَزِيرَةِ العَرَبيَّةِ، فَقَدْ بَعَثَهُ اللهُ إِليهِمْ فَدَعَاهُم إِلى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَذَكَّرَهُمْ بِأَنْعُمِ اللهِ عَلَيهِم، وَبِما مَنَّ عَلَيهِمْ بِهِ من قُوَّةٍ وَغِنىً، وَكَثْرَةِ عَدَدٍ، وَأَنذَرَهُمْ بَأسَ اللهِ الشَّدِيدَ وَعِقَابَهُ إِن أَقَامُوا عَلى كُفْرِهم وَظُلْمِهِمْ. وَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ قَبْلَ هُودٍ رُسُلاً آخرِينَ دَعَوا أَقْوَامَهُم إِلى الإِيمانِ باللهِ، وَأَنْذَرُوهُمْ عَذَابَ اللهِ إِنْ أَصَرُّوا عَلَى كُفْرِهِمْ، وَحَثُّوهُمْ عَلَى الإِقْلاَعِ عَنِ الشِّرْكِ بِاللهِ، وَعَلى إِفرادِهِ تَعَالى بِالأُلُوهِيَّةِ وَحْدَهُ. وَقَالَ هُودٌ لِقَوْمِهِ نَاصِحاً: إِنِّي أَخَافُ عَلَيكُم عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمِ الهَوْلِ، هُوَ َيَوْمُ القِيَامَةِ إِذا أَصَرُّوا علَى كَفْرهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ.
الأَحْقَافُ - فِي جَنُوبيِّ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ - حَضْرَ مَوْتُ.
﴿آلِهَتِنَا﴾ ﴿الصادقين﴾
(٢٢) - فَرَدُّوا عَليه قَائِلِينَ: أَجِئتَنَا لِتَصْرِفَنَا عَنْ عِبَادَةِ آلهِتنا إِلى عِبَادةِ رَبِّكَ الذِي تَدْعُونا إِليهِ، فَعَجِّلْ لَنَا بِإِنْزَالِ العَذَابِ عَلَينا، إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقينَ في وَعِيدِكَ لَنا (وَهُوَ أَنَّ رَبَّكَ سَيُنْزِلُ عَلينا عَذاباً مُدَمِّراً مُهْلِكاً يُبِيدُنا بهِ إِذا ما بقينا مُقِيمِينَ عَلَى عِبَادَةِ أَصْنَامِنا).
لِتَأْفِكَنَا - لِتَصْرِفَنا.
﴿أَرَاكُمْ﴾
(٢٣) - فَقَالَ لَهُم هُودٌ عَلَيهِ السَّلامُ: إِنَّ اللهَ هُو الذِي يَعْلَمُ إِنْ كُنْتُمْ تَسْتَحِقُّونَ العَذَابَ، وَهُوَ القَادِرُ عَلى إِنزالِهِ بِكُمِ، وَهُوَ العَالِمُ بالوَقْتِ الذِي يُنزِلُهُ بِكُم إِنْ شَاءَ، أَمَّا أَنَا فَمَهَمَّتِي هِيَ إِبْلاغُكُمْ ما أَرْسَلَنِي بهِ إِليكُم، وأَنا لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُعجِّلَ العَذَابَ الذِي تَطْلُبُونَهُ، وَلاَ أَقدِرُ عَليهِ، وإِنِّي أَعْتَقِدُ أَنَّكُم قَوْمٌ تَجْهَلُونَ مَهَمَّةَ الرَّسُولِ، ولِذَلِكَ طَلَبتُمْ مِنّي أَنْ أُعَجَّلَ لَكُمُ العَذَابَ، كَمَا أَنِّي أَعتَقِدُ أَنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ عَظَمَةَ اللهِ وَقُدْرَتَهُ وَشِدَّةَ بَأسِهِ، لِذَلِكَ طَلبتُمْ تَعْجِيلَ إِنْزالِ العَذَابِ بِكُمْ، والعَذَابُ لا يَطْلُبُ عَاقِلٌ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ.
(٢٤) - وَكَانَ اللهُ تَعَالى قَدْ حَبَسَ المَطَرَ عَنْ عَادٍ مُدَّةً مِنَ الزَّمَنِ، حَتَّى اشتَدَّ بِهِم العَطَشُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِليهِمْ غُيُوماً كَثِيفَةً اتَّجَهَتْ إِلى أودِيَتِهِمْ فَفَرِحَ بها قَوْمُ عَادٍ، واستَبْشَرُوا ظَنَّاً مِنْهُمْ أَنَّها سَحَائِبُ تَحمِلُ المَطَرَ.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هذا سَحَابٌ سَيُمْطِرُنا.
وَقَالَ لهُمُ اللهُ تَعَالى (أَوْ قَالَه لَهُمْ هُودٌ عَليهِ السَّلاَمُ).
بَل هُوَ العَذَابُ الذِي استَعْجَلْتُم بإِنْزَالِهِ بِكُم، حِينَ قُلْتُمْ لِرَسُولِكُم ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ إِنَّهُ رِيحٌ تحمِلُ إِليكُمْ عَذاباً مُهْلِكاً شَدِيدَ الإِيلامِ.
عارِضاً - سحاباً يَعْرِضُ فِي الأُفُقِ.
﴿مَسَاكِنُهُمْ﴾
(٢٥) - وهذهِ الرِّيحُ التي أَرسَلَها اللهُ عَلَى قَوْمِ عَادٍ تُهلكُ وَتُخَرِّبُ كُلَّ شَيءٍ مَرَّتْ بِهِ بإِذن رَبِّها. وَوَصَفَهَا تَعَالى في آيةٍ أخْرى بأنَّها ﴿مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم﴾
وَسَلَّطَ اللهُ تَعَالى هذهِ الرِّيحَ العَاتيةَ على قَومِ عَادٍ، فَهَبَّتْ عَلَيهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيةَ أيَّامٍ كَامِلاَتٍ مُتَتَالِيَاتٍ، فَأهْلَكَتْهُمْ جَميعاً، ولم تَترُكْ لَهُمْ في أَرْضِهِمْ مِنْ بَاقِيةٍ، وَلَم يَعُدْ يُرى في دِيَارِهم إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ خَالِيةً لا سَاكِنَ فِيها.
وَيُخْبِرُ تَعَالى أَنَّهُ يُعَاقِبُ بِمِثْلِ هذِهِ العُقُوبَةِ كُلَّ مَنْ كَذَّبَ رُسُلَهُ، وَخَالَفَ أَوامِرَهُ.
تُدَمِّر - تُهْلِكُ وَتُخَرِّبُ.
﴿مَكَّنَاهُمْ﴾ ﴿مَّكَّنَّاكُمْ﴾ ﴿أَبْصَاراً﴾ ﴿أَبْصَارُهُمْ﴾ ﴿بِآيَاتِ﴾ ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾
(٢٦) - وَقَدْ مَكنَّا لِقَومِ عَادٍ في الدُّنيا فِيمَا لمْ نُمَكِّنْكُمْ فيهِ، وَأَعْطَينَاهُمْ مَا لَمْ نُعْطِكُم مِثْلَهُ، وَلاَ قَريباً مِنْهُ، مِنَ الأَمْوالِ الكَثِيرَة، وَالأَولادِ، وَبَسْطَةِ الأَجْسَام، وَقُوَّةِ الأَبدَانِ، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَسْماعاً وَأَبْصَاراً، فَلَم يَسْتَعْمِلُوا شَيئاً مِنْ أَسْماعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وأَفْئِدَتِهِمْ فِيما خُلِقَتْ لَهُ، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِها في الاهتداء إِلى وُجودِ الخالِق وَوحْدَانِيتهِ، وَقُدْرَتِهِ العَظِيمَةِ عَلَى الخَلْقِ، لأَنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ رُسُلَ اللهِ، وَيُنْكِرُونَ آياتِهِ فَأَنزَلَ اللهُ تَعَالى بَأْسَهُ وَعَذَابَهُ عَلَيهِم، وَأَحَاطَ بِهِم العَذَابُ الذِي كَانُوا يَسْتَهِزِئُونَ بِهِ، وَيَسْتَبْعِدُونَ وُقُوعَهُ بِهِمْ، فَاستَعْجِلُوهُ. فَلْيَحْذَرْ مُشْرِكُو مَكَّةَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِقَوْمِ عَادٍ، إِذا استَمَرَوُا عَلَى كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبهِمْ.
مَكَّنَاهُمْ - أَقْدَرنَاهُمْ وَبَسَطْنا لَهُمْ.
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ - فَمَا دَفَعَ عَنْهُمْ.
حَاقَ بِهِمْ - أَحَاطَ وَنَزَلَ بِهِمْ.
﴿الآيات﴾
(٢٧) - وَلَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ تَعَالى القُرَى مِنْ حَوْلِ مَكَّةَ (مِثْلَ عَادٍ وَثَمُودَ وَمَدْينَ وَقَوْمِ لُوطٍ)، وَأَهْلُ مَكَّةَ يَعْرِفُونَ مَنَازِلَ تِلْكَ الأقوامِ، وَكَانُوا يَمُرُّونَ بِها وَهُمْ غَادُونَ رَائِحُونَ في أَسْفَارِهِمْ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللهُ أَهْلَ هذهِ القُرى بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُمْ، وَحَذَّرَهُمْ، وَضَرَبَ لَهُمُ الأَمثَالَ، وَبَيَّنَ لَهُمْ دَلاَئِلَ قُدْرَتِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ غَيِّهِمْ وَطُغْيَانِهِمْ، فَلَم يَرْجِعُوا، وَلَمْ يَتَّعِظُوا، فَأَخَذَهُمُ اللهُ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ.
﴿آلِهَةَ﴾
(٢٨) - فَهَلاَّ نَصَرَهُمُ الأَرْبابُ الذِينَ اتَّخَذُوا عِبَادَتَهُمْ قُرْبَةً يَتَقَرَّبُونَ بِها إِلى اللهِ فِيما زَعَمُوا، حِينَما نَزَلَ بِهِمْ بَأسُ اللهِ وَأَمْرُهُ فَأَنْقَذُوهُمْ ممَّا نَزَلَ بِهِمْ؟ لَكِنَّ هَؤُلاَءِ الأَرْبَابَ أَصْنَامٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ وَقَدْ غَابُوا عَنْهُم، وَهُمْ أَحْوَجُ مَا يَكُونُونَ إِليهِمْ. وَعَجْزُ هؤُلاءِ الأَرْبَابِ عَنْ نُصْرَتِهِمْ أَثْبَتَ لَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ في اتَّخَاذِهِمْ آلهَةً، وَأَنَّهُم يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ في زَعْمِهِمْ أَنَّهُم يُقَرِّبُونَهُم إِلى اللهِ زُلْفَى، وَيَشْفَعُونَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالى.
قُرْبَاناً آلهةً - مُتَقَرَّباً بِهِمْ إِلى اللهِ.
إِفْكُهُمْ - أَثَرُ كَذِبِهِمْ في اتِخَاذِها آلهةً.
يَفْتَرُونَ - يَخْتَلِقُونَ في قَوْلِهم إِنَّها آلهةٌ.
﴿القرآن﴾
(٢٩) - يَقُصُّ اللهُ تَعَالى عَلى رَسُولِهِ الكَرِيمِ قِصَّةَ نَفْرٍ مِنَ الجِنِّ وَجَّهَهُمُ اللهُ تَعَلى إِلى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ يَقرَأُ القُرآنَ، فَاسْتَمَعُوا إِليهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَنصِتُوا واستَمِعُوا لهذا القُرآنِ.
فَلَمَّا فَرَغَ الرَّسُولُ مِنْ تِلاَوتِهِ انْصَرَفُوا إِلى جَمَاعَتِهم يُخْبرِونَهم بما سَمِعُوا، وَيُحَذِّرُونَهم مِنَ الكُفْرِ، وَيَدْعُونَهم إِلى الإِيمانِ بِاللهِ، وَبِما أَنْزَلَ عَلَى رُسُلهِ.
صَرَفْنا إِليكَ - وَجَّهْنَا نَحْوَك.
أَنصِتُوا - اسْتَمِعُوا وَاسْكُتُوا.
قُضِيَ - أُتِمَّ وَفُرِغَ مِنْ قِراءَتِهِ.
﴿ياقومنآ﴾ ﴿كِتَاباً﴾
(٣٠) - وَقَالَ النَّفَرُ مِنَ الجِنِّ، الذِينَ اسْتَمَعُوا إِلى تَلاوَة الرَّسُولِ ﷺ القُرآنَ لِقَومِهِمْ: يَا قُومَنَا إِنَّنا سَمِعْنَا كِتاباً أَنزَلَهُ اللهُ بَعْدَ التَّوراةِ، الذِي أَنزَلَه عَلَى مُوسى، يُصَدِّقُ مَا أَنْزَلَه اللهُ قَبلَه مِنَ الكُتُبِ عَلَى رُسُلِه، وَيُرْشِدُ إِلى سَبيلِ الحَقِّ والهُدى، وَإِلى الطَّريقِ القَوِيمِ الذِي يُوصِلُ إِلى رِضْوانِ اللهِ وَجَنَّتِه.
(وَقَدْ خَصَّ اللهُ التَّوْرَاةَ بالذِّكْرِ لأَنَّهُ الكِتَابُ الإِمامُ لِبَنِي إِسْرائِيلَ، وَلأَنَّ الإِنْجِيلَ مُتَمَّمٌ لِشَرِيعَةِ التَّورَاةِ).
﴿ياقومنآ﴾ ﴿وَآمِنُواْ﴾
(٣١) - وَتَابَعَ النَّفْرُ مِنَ الجِنِّ نُصْحَهُمْ لِقَومِهِمْ فَقَالُوا: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا رَسُولَ اللهِ مُحَمَّداً الذِي يَدْعُوكُم إِلى الإِيمَانِ بِرَبِّكُمْ، والإِخْلاَصِ في طَاعَتِهِ، وَصَدِّقُوه فِيما جَاءَ بِهِ مِنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، يَغْفِرْ لَكُمْ رَبًُّكُمْ مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيَقِكُمْ مِنْ عَذَابِهِ الأَلِيمِ.
﴿أولئك﴾ ﴿ضَلاَلٍ﴾
(٣٢) - وَمَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ إِلى مَا يَدْعُو إِليهِ رَسُولُ اللهِ مِنَ الإِيمَانِ باللهِ وَحْدَه لا شرِيكَ لَهُ، وَالإِخلاصِ في العَمَلِ، فَإِنَّهُ لا يَسْتَطِيعُ الإِفلاتَ مِنْ عِقَابِ رَبِّهِ إِذا أَرَادَ عُقُوبَتَهُ، وَلاَ يَجدُ لهُ مَنْ يَنْصُرُهُ مِنْ بَأسِ اللهِ، وَلاَ مَنْ يَدْفَعُ عَنْهُ سُوءَ العَذَابِ.
والذِينَ لا يَسْتَجِيبُونَ للهِ وَللرَّسُولِ يَكُونُونَ في ضَلالٍ وَاضِحٍ بَيِّنٍ، وَيَسْتَحِقُّونَ العِقَابَ الشَّديدَ مِنَ اللهِ تَعَالى.
فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ - فَلَيْسَ بِفَائِتٍ مِنْهُ بِالهَرَبِ.
﴿السماوات﴾ ﴿بِقَادِرٍ﴾ ﴿يُحْيِيَ﴾
(٣٣) - أَوَ لَمْ يَعْلَمْ هؤلاءِ المُنْكِرُونَ لِلبَعْثِ، المُسْتَبْعِدُونَ إِحْيَاءَ الأَمْواتِ يَوْمَ القِيَامةِ، وَإِخْرَاجَهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، أَنَّ اللهَ هُوَ الذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأَرضَ وَمَا فِيهِما خَلْقاً مُبْتَدأً، وَلم يُعْجِزْهُ خَلْقُهُما، وَلَم يَضِقْ بِهِ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ الذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ والأَرْضَ لاَ يُعجزُهُ أَنْ يُعِيدَ بَعْثَ الأَمْواتِ مِنَ القُبُورِ بَعْدَ أَنْ صَارَتْ أَجسَادُهُم وَعِظَامُهُم رَميماً بالياً. فَاللهُ تَعَالى إِذا أَرادَ شَيئاً فإِنَّما يَقُولُ لَهُ: كُنْ، فَيَكُونُ الشَّيءُ لِسَاعَتِهِ.
بَلَى إِنَّ الذِي خَلَقَ الأَكْوَانَ لَذُو قُدْرَةٍ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، وَلاَ يُعْجِزُهُ إِعَادَةُ بَعْثِ الأَمْواتِ مِنَ القُبُورِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
لَم يَعْيَ - لَم يَتْعَبْ، أَوْ لَمْ يُعْجِزْهُ.
بَلى - إِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِحيَاءِ المَوتَى.
(٣٤) - وَفِي يَوْمِ القِيَامَةِ يُوقَفُ هؤُلاءِ الكَافِرُونَ المُكَذِّبُونَ بِالبَعْثِ والنُّشُورِ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ، وَيُقَالُ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيعِ والتَّأنِيبِ: أَلَيْسَ هذا الذِي تَرَوْنَهُ، مِنْ بَعْثٍ وَحَشْرٍ وَحِسَابٍ وَجَزَاءٍ عَلى الأَعْمَالِ، وَنَارٍ وَقُودُها النَّاسُ والحِجَارَةُ... حَقّاً؟ وَكُنْتُم تُكَذِّبُونَ بهِ في الحياةِ الدُّنيا؟ فَيَقُولُونَ: بَلى وَرَبِّنا إِنَّهُ لَحَقٌّ. فَيُقَالُ لَهُمْ: ذُوقُوا الآنَ العَذَابَ في نَارِ جَهَنَّمَ، جَزَاءً لَكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ، وَتَكْذِيبِكُمْ بِالحَقِّ.
﴿أُوْلُواْ﴾ ﴿بَلاَغٌ﴾ ﴿الفاسقون﴾
(٣٥) - فَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلى مَا تُلاقِيهِ مِنْ تَكْذِيبِ قَومِكَ لَكَ، كَمَا صَبَرَ أَصْحَابُ القُوَّةِ والثِّبَاتِ، مِنَ الرُّسُلِ الذِينَ سَبَقُوكَ، عَلَى تَكْذِيبِ أَقْوامِهِمْ لَهُمْ حِينَما أَبْلَغُوهُمْ دَعْوَةَ اللهِ إِلى الإِيمَانِ بِهِ. وَلا تَسْتَعْجِلْ بِسُؤَالِ رَبِّكَ أَنْ يُنزِلَ بِهِم العَذَابَ، فَهُوَ واقعٌ بِهِمْ لا مَحَالَةَ. وَأِنَّهُمْ حِينَما يَنْزِلُ بِهِم العَذَابُ يَومَ القِيَامَةََ يَرَوْنَ أَنَّ مُدَّةَ لَبِثِهِمْ في الدُّنيا (أَوْ في قُبُورِهِمْ) كَانَتْ قَصِيرةً، حَتَّى لَيَحْسَبُوها سَاعَةً مِنْ نَهارٍ.
وَهذا الذِي وُعِظْتُم بِهِ لكَافٍ في المَوعِظَةِ، وَلاَ يَهلِكُ بالعَذابِ إِلا الكَافِرُونَ الخَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ وَأَمْرِهِ، لأَنَّ اللهَ لا يُعَذِّبُ إِلا مَنْ يَسْتَحِقُّ العَذَابَ.
Icon