تفسير سورة الحجرات

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

سورة الحجرات
مدنية. وهى ثمانى عشرة آية. ومناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لمّا مدح الصحابة، وبشّرهم بالمغفرة علّمهم الأدب لأنه من أعظم أسباب المغفرة والقرب، فقال:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، تصدير الخطاب بالنداء، تنبيهُ المخاطبين على أنّ ما في حيّزه أمر خطير يستدعي اعتنائهم بشأنه، وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم، والإيذان بأنه داع إلى المحافظة عليه ووازع عن الإخلال به، لا تُقَدِّمُوا أي: لا تفعلوا التقديم، على ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل من غير اعتبار تعلقه بأمرٍ من الأمور، على طريقة قولهم: فلان يعطي ويمنع، أو:
لا تُقدّموا أموراً من الأمور، على حذف المفعول، للعموم، أو: يكون التقديم بمعنى التقدُّم، من «قدّم» اللازم، ومنه:
مقدمة الجيش، للجماعة المتقدَّمة، ويؤيده قراءة مَن قرأ: (لا تَقدَّموا) «١» بحذف أحدى التاءين، أي: لا تتقدموا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أي: لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكما به، وحقيقة قولك: جلست بين يدي فلان: أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه، فسُميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما، توسعاً، كما يُسمّى الشيء باسم غيره إذا جاوره.
(١) وهى قراءة يعقوب، أحد القراء العشرة. انظر الإتحاف (٢/ ٤٨٥). [.....]
413
وفي هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يُسمى تمثيلاً، وفيه فائدة جليلة، وهي: تصوير الهُجْنَةِ والشناعة فيما نُهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة. ويجوز أن يجري مجرى قولك:
سرَّني زيد وحُسْنُ ماله، فكذلك هنا المعنى: لا تُقدِّموا بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم. وفائدة هذا الأسلوب: الدلالة على قوة الاختصاص، ولمَّا كان رسول الله ﷺ من الله بالمكان الذي لا يخفى سلك به هذا المسلك، وفي هذا تمهيد لما نُقِم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته لأن مَن فضَّله الله بهذه الأَثْرة، واختصه بهذا الاختصاص، كان أدنى ما يجب له من التهيُّب والإجلال: إن لا يُرفع صوتٌ بين يديه، ولا يُقطع أمر دونه، فالتقدمُ عليه تَقَدمٌ على الله لأنه لا ينطق عن الهوى، فينبغى الاقتداء بالملائكة حيث قيل فيهم: لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ... الخ «١».
قال عبد الله بن الزبير: قَدِمَ وفد من تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو بكر: لو أمَّرت عليهم القعقاع بن معبد، وقال عمر: يا رسول الله بل أَمِّر الأقرعَ بن حابس فقال أبو بكر: ما أردتُ إلا خلافي، وقال عمر: ما أردتُ خِلافَك، وارتفعت أصواتهما، فنزلت «٢». فعلى هذا يكون المعنى: لا تُقَدِّموا وُلاةً، والعموم أحسن كما تقدّم. وعبارة البخاري: «وقال مجاهد: (لا تقدموا) لا تَفْتاتُوا على رسول الله ﷺ حتى يَقضي اللهُ- عزّ وجل- على لسانه» «٣».
وعن الحسن: أن ناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة، فنزلت، فأمرهم رسولُ الله ﷺ أن يعيدوا «٤»، وعن عائشة:
أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك «٥».
وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وتذرون من الأحوال والأفعال، التي من جملتها ما نحن فيه، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بأفعالكم، فمن حقِّه أن يُتَّقى ويُراقَب.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي صلى الله عليه وسلم، بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل، وإعادة النداء مع قرب العهد للمبالغة في الإيقاظ والتنبيه، والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه أي: لا تبلغوا بأصواتكم وراء حدٍّ يبلغه
(١) من الآية ٢٧ من سورة الأنبياء.
(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير، باب إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ح ٤٨٤٧).
(٣) ذكره البخاري فى (التفسير، سورة الحجرات). وأخرجه الطبري (٢٦/ ١١٦).
(٤) أخرجه الطبري (٢٦/ ١١٧). وعزاه السيوطي فى الدر (٦/ ٨٦) لابن أبى الدنيا فى الأضاحى.
(٥) عزاه السيوطي فى الدر (٦/ ٨٦) لابن النّجار فى تاريخه، والطبراني فى الأوسط، وابن مردويه.
هذا، وما ذكره المفسر عن السيدة عائشة والحسن إنما هو داخل فى عموم الآية، لا أنه سبب النّزول لأن ما ذكر عن السيدة عائشة والحسن مخالف للرواية الصحيحة الواردة فى سبب النّزول، والتي أخرجها البخاري.
414
صوته صلّى الله عليه وسلم، بل يكون كلامه عالياً لكلامكم، وجهره باهراً لجهركم، حتى تكون مزيّته عليكم لائحةً، وسابقته لديكم واضحة.
وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ إذا كلّمتموه كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي: جهراً كائناً كالجهر الجاري فيما بينكم، بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته، واختاروا في مخاطبته القول اللين القريب من الهمس، كما هو الدأب في مخاطبة المهابِ المُعظّم، وحافظوا على مراعاة هيبة النبوة وجلالة مقدارها. وقيل: معنى: لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ: لا تقولوا: يا محمد، يا أحمد، بل: يا رسول الله. يا نبي الله، ولمَّا نزلت هذه الآية ما كلّم رسول الله ﷺ أبو بكر إلا كأخي السِّرار «١».
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنها نزلت فى ثبات بن قيس بن شماس، وكان في أذنيه وَقْر، وكان جَهْوَريَّ الصوت، وكان إذا تكلم رفع صوته، وربما كان يكلّم النبيَّ ﷺ فيتأذّى من صوته. هـ. والصحيح ما تقدّم. وفي الآية أنهم [لم] «٢» يُنهوا عن الجهر مطلقاً، وإنما نُهوا عن جهرٍ مخصوص، أي: الجهر المنعوت بمماثلة ما اعتادوه فيما بينهم، وهو الخلوّ عن مراعاة هيبة النبوة، وجلالة مقدارها.
وقوله: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ مفعول من أجله، أي: لا تجهروا خشية أن تحبط أعمالكم، وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ فإنَّ سوء الأدب ربما يؤدي بصاحبه إلى العطب وهو لا يشعر. ولمّا نزلت الآية جلس ثابت بن قيس في بيته ولم يخرج، فتفقّده صلّى الله عليه وسلم، فدعاه فسأله، فقال: يا رسول الله لقد أُنزلت عليك هذه الآية، وإني رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لست هناك، تعيش بخير، وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة» «٣».
وأما ما يُروى عن الحسن: أنها نزلت في المنافقين، الذي كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوته صلّى الله عليه وسلم فقد قيل:
محْمله: أنّ نهيهم مندرج تحت نهي المؤمنين بدليل النص.
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أي: يخفضون أصواتهم في مجلسه، تعظيماً له، وانتهاء عما نهوا عنه، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي: أخلصها وصفَّاها، من قولهم: امتحن الذهب وفَتَنه: إذا أذابه، وفي القاموس: محنَه، كمنعه: اختبره، كامتحنه، ثم قال: وامتحن القول: نَظَرَ فيه ودبّره، والله قلوبَهم: شرحها ووسّعها، وفي الأساس: ومن المجاز: محنَ الأديمَ: مدّده حتى وسعه، وبه فسّر قوله تعالى:
(١) أخرجه الحاكم (٢/ ٤٦٢) «وصحّحه على شرط مسلم، وأقره الذهبي»، والبيهقي فى الشعب (رقم ١٥٢٠ و ١٥٢١) عن أبى هريرة رضي الله عنه.
(٢) فى الأصول: [لن].
(٣) أخرجه بمعناه البخاري فى (المناقب، باب علامات النّبوة فى الإسلام ح ٣٦١٣) ومسلم فى (الإيمان، باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله، رقم ١٨٧ ح ١١٩) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
415
امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي: شرحها ووسعها، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أي: مغفرة لذنوبهم، وأجر عظيم: نعيم الجنان.
الإشارة: على هذه الآية والتي بعدها اعتمد الصوفية فيما دوَّنوه من آداب المريد مع الشيخ، وهي كثيرة أُفردت بالتأليف، وقد جمع شيخنا البوزيدى الحسنى رضي الله عنه كتاباً جليلاً جمع فيه من الآداب ما لم يُوجد في غيره، فيجب على كل مريد طالب للوصول مطالعتُه والعملُ بما فيه.
والذي يُؤخذ من الآية: أنه لا يتقدم بين يدي شيخه بالكلام، لا سيما إذا سأله أحدٌ، فمِن الفضول القبيح أن يسبق شيخَه بالجواب، فإنَّ السائل لا يرضى بجواب غير الشيخ، مع ما فيه من إظهار علمه، وإشهار شأنه، والتقدم على شيخه. ومن ذلك أيضاً: ألاَّ يقطع أمراً دون مشورته، ما دام تحت الحجرية، وألاَّ يتقدم أمامه في المشي إلا بإذنه، وأن يغضّ صوته عند حضوره، بل لا يتكلم إلا أن يأذن له في الكلام، ويكون بخفض صوت وتعظيم.
قلت: وما زالت أشياخنا تأمرنا بالتكلم عند المذاكرة إذ بالكلام تُعرف أحوال الرجال، وسَمِعتُ شيخ شيخنا، مولاي العربي الدرقاوي الحسني رضي الله عنه يقول: حُكّونا في المذاكرة ليظهر العلم، وكونوا معنا كما قال القائل: حك لي نربل لك، لا كما قال القائل: سَفِّجْ لي نعسل لك. هـ. لكن يكون بحثُه مع الشيخ على وجه الاسترشاد والاستعلام، من غير معارضة ولا جدال، وإلا فالسكوت أسلم.
قال القشيري: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: لا تعملوا في أمر الدين من ذات أنفسكم شيئاً، وقُفوا حيثما وُقِفْتم، وافعلوا ما به أُمِرْتُم، أي: اعملوا بالشرع لا بالطبع في طلب الحق، وكونوا من أصحاب الاقتداء والاتباع، لا من أرباب الابتداء أو الابتداع.
وقال في قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ... الآية، يُشير إلى أنه من شرط المؤمن: ألا يرى رأيَه وعقلَه واختيارَه فوق رأي النبي والشيخ، ويكون مستسلماً لرأيه، ويحفظ الأدب في خدمته وصحبته، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي: لا تخاطبوه كخطاب بعضكم لبعض، بل خاطبوه بالتعظيم والتبجيل، ولا تنظروا إليه بالعين التي تنظرون إلى أمثالكم، وإنه لحُسْن خُلقه قد يُلاعبكم، فلا تنبسطوا معه، متجاسرين عليه بما يُعاشركم من خُلقه، ولا تَبدأوه بحديث حتى يُفاتحكم، أن تحبط أعمالكم بسوء أدبكم، وأنتم لا تشعرون. إنَّ الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله وعند شيخه أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، أي:
انتزع عنها حبّ الشهوات، وصفّاها من دنس سوءِ الأخلاق، وتخلقت بمكارم الأخلاق، حتى انسلختْ من عادات البشرية «١». هـ.
(١) بالمعنى
416
وقال في القوت: الوقاية مقرونة بالنصرة فإذا تولاَّه نَصَره على أعدائه، وأعْدى عدُوه نفْسُه، فإذا نَصَره عليها، أخرج الشهوة منها، فامتحنَ قلبَه للتقوى، ومحّض نفسَه، فخلّصها من الهوى.. هـ.
ثم ذكر من لم يستعمل الأدب مع الحضرة النّبوية، فقال:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٤ الى ٥]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من خارجها، أو: من خلفها، أو:
من أمامها، فالوراء: الجهةُ التي تُواري عنك الشخص تُظلّله من خلف أو من قُدّام، و «من» لابتداء الغاية، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان، والحجرة: الرقعة من الأرض، المحجورة بحائطٍ يحوط عليها، فعْلة، بمعنى مفعولة، كالقُبْضَة، والجمع: حُجُرات، بضمتين، وبفتح الجيم، والمراد: حجرات النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لكل امرأة حُجرة.
نزلت في وفد بني تميم، وكانوا سبعين، وفيهم عينيةُ بن حِصنُ الفزاري، والأقرعُ بن حابس، وفَدوا على النبي ﷺ وقت الظهيرة، وهو راقد، فنادوا رسول الله ﷺ من وراء حجراته، وقالوا: اخرجْ إلينا يا محمدُ فإنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ، وذمّنا شيْن، فاستيقظ، وخرج عليه السلام وهو يقول: «ذلكم الله الذي مدحُه زين، وذمّه شين»، فقالوا: نحن قوم من بني تميم، جئنا بشاعرنا وخطيبنا، لنشاعرك، ونفاخرك، فقال صلّى الله عليه وسلم: «ما بالشعر بُعثت، ولا بالفخار أُمرت»، ثم أمر صلّى الله عليه وسلم خطيبهم فتكلّم، ثم قال لثابت بن قيس بن شماس- وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم: قم، فقام، فخطب، فأقحم خطيبَهم، ثم قام شاب منهم، فأنشأ يقول:
نَحنُ الْكرامُ فَلاَ حَيٌّ يُعَادِلُنَا فينا الرُّؤوس وفينا يُقْسَمُ الرَّبعُ
ونُطعِمُ النَّاسَ عِندَ الْقَحطِ كُلَّهمُ إنَّا كَذَلِكِ عند الفخر نرتفع «١»
(١) هكذا جاء فى الأصول، أما فى البحر المحيط (٨/ ١٠٦- ١٠٧) وأسباب النّزول للواحدى (ص ٤٠٥) وغيرهما من المصادر، فذكروا بعد البيت الأول:
417
فقال صلّى الله عليه وسلم لحسّان: قم فأجبه، فقال:
ونُطعِمُ النَّاسَ عِندَ الْقَحطِ كلهم من السديف إذا لم يؤنس الفزع
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد إنَّا كَذَلِكِ عِنْدَ الْفخرُ نرتفع.
إنَّ الذوائبَ من فِهْرٍ وإخوتهمْ قَدْ شَرَّعوا سُنَّةً للناس تُتبعُ
يرضى بها كلُّ مَن كانت سريرتُه تَقوَى الإله وكلُّ الفخر يُصطنعُ «١»
ثم قال الأقرع شعراً افتخر به، فقال عليه السلام- لحسّان، قم فأجبه، فقال حسّان:
بَنِي دَارِمٍ، لاَ تَفْخُروا، إِنَّ فَخْرَكُمْ يَعُودُ وَبالاً عِنْد ذِكْرِ الْمكَارِمِ
هَبلْتُم، عَليْنا تَفْخرُون وأَنْتُم لَنا خَوَلٌ من بَيْن ظِئْرٍ وخادِمِ «٢»
فقال صلّى الله عليه وسلم: «لقد كنتَ غنياً عن هذا يا أخا بني دارم أن يذكر منك ما قد ظننت أن الناس قد نسوه»، ثم قال الأقرعُ: تكلم خطيبُنا، فكان خطيبهُم أحسن قِيلاً، وتكلم شاعرُنا فكان شاعِرُهم أشعر. هـ «٣».
هذا ومناداتُهم من وراء الحجرات إما لأنهم أتَوْها حجرةً حجرة، فنادوه صلّى الله عليه وسلم من ورائها، أو: بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له صلى الله عليه وسلم، أو: نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها، ولكنها جُمعت إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل:
الذي ناداه عُيينةُ بن حصن والأقرعُ، وإنما أُسند إلى جميعهم لأنهم راضون بذلك وأَمروا به. أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ، إذ لو كان لهم عقل لَمَا تجاسروا على هذه العظيمة من سوء الأدب.
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا أي: ولو تحقق صبرُهم وانتظارُهم، فمحل (أنهم صبروا) رفعٌ على الفاعلية لأنَّ «أنْ» تسبك بالمصدر، لكنها تفيد التحقق والثبوت، للفرق بين قولك: بلغني قيامك، وبلغني أنك قائم، و «حتى» تُفيد أن الصبر ينبغي أن يكون مُغَيّاً بخروجه عليه السلام، فإنها مختصة بالغايات. والصبرُ: حبسُ النفس على أن تُنازع إلى هواها، وقيل: «الصبر مرٌّ، لا يتجرعه إلا حُرٌّ». أي: لو تأنوا حتى تخرج إليهم بلا مناداة لكان الصبرُ خيراً لهم من الاستعجال، لِما فيه من رعاية حسن الأدب، وتعظيمِ الرسول، الموجبتين للثناء والثواب، والإسعاف بالمسئول إذ رُوي أنهم وفدوا شافعين في أسارى بني العنبر، وذلك أنه صلّى الله عليه وسلم بعث سريةً إلى حي بني العنبر، وأمّرَ عليهم عيينة
(١) انظر ديوان حسان بشرح البرقوقى ص ٣٠١. وفيه:
إنَّ الذوائبَ من فِهْرٍ وإخوتهم قد بينوا سُنَّةً للناس تُتبعُ
يرضى بها كلُّ مَن كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
(٢) انظر ديوان حسان ص ٤٣٧.
(٣) أخرجه الواحدي فى أسباب النّزول ص (٤٠٤- ٤٠٦) عن جابر بن عبد الله. وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (ص ١٥٥- ١٥٦ رقم ١٥) للثعلبى. وأخرج الجزء الأول من القصة، الترمذي فى (التفسير، باب ومن سورة الحجرات، ح ٣٢٦٧) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
418
ابن حِصن، فهربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عُيينة، ثم قَدِم رجالُهم يَفْدون الذراري، فلما رأتهم الذراريُّ أجهشوا إلى آبائهم يَبْكون، فعَجلوا أن يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فنادَوْه حتى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم، فأطلق النصف وفادى النصف «١»، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بليغ المغفرة والرحمة واسعهما، فلن يضيق ساحتُهما عن هؤلاء إن تابوا وأصلحوا.
الإشارة: من آداب المريد ألاَّ يُوقظ شيخَه من نومه، ولو بقي ألف سنة ينتظره، وألاَّ يطلب خروجَه إليه حتى يخرجَ بنفسه، وألاَّ يقف قُبالة باب حجرته لئلا يرى بعض محارمه. ومن آدابه أيضاً: ألا يبيت معه في مسكن واحد، وألا يأكل معه، إلا أن يعزم عليه، وألا يجلس على فراشِه أو سجّادته إلا بأمره، وإذا تعارض الأمر والأدب، فهل يُقدّم الأمر أو الأدب؟ خلاف، وقد تقدم فى صلح الحديبية: أن سيدنا عليّاً- كرّم الله وجهه- قدَّم الأدب على الأمر، حين قال له صلى الله عليه وسلم: «امح اسم رسول الله من الصحيفة» «٢»، فأبى، وقال: «والله لا أمحوك أبداً».
والله تعالى أعلم.
ومن جملة الأدب: التأنى فى الأمور وعدم العجلة، كما أبان ذلك بقوله تعالى:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٦ الى ٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ. نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان من فضلاء الصحابة- رضي الله عنه- بعثه النبي ﷺ إلى بني المُصْطلِق، بعد الوقعة مصدِّقاً، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فخرجوا يتلقّونه، تعظيما لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فظنّ أنهم مقاتلوه فرجع، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد ارتدُّوا ومنعوا الزكاة، فهمّ صلّى الله عليه وسلم أن يغزوهم، ثم أتوا النبي ﷺ وأخبروه أنهم إنما خرجوا يتلقّونه تكرمة
(١) انظر تفسير البغوي (٧/ ٣٣٧). [.....]
(٢) راجع تفسير الآية ٢٦ من سورة الفتح.
419
فاتهمهم النبي ﷺ وبعث إليهم «خالد بن الوليد» خفيةً مع عسكر، وأمره أن يُخفي عليهم قدومَه، ويتطلعَ عليهم، فإن رأى ما يدلّ على إيمانهم أخذ زكاتهم ورجع، وإن رأى غير ذلك استَعمل فيهم ما يُستعمل في الكفار، فسمع خالدُ فيهم آذان صلاتي المغرب والعشاء، فأخذ صدقاتهم، ولم يرَ منهم إلا الطاعة، فنزلت الآية «١».
وسُمِّي الوليد فاسقاً لعدم تَثَبُّته فخرج بذلك عن كمال الطاعة، وفي تسميته بذلك زجرٌ لغيره، وترغيبٌ له في التوبة، والله تعالى أعلم بغيبه، حتى قال بعضهم: إنها من المتشابه، لِمَا ثبت من تحقُّق إيمان الوليد. وقال أبو عمر في الاستيعاب: لا يصح أن الآية نزلت في قضية الوليد لأنه كان في زمن النبي ﷺ من «٢» ثمانية أعوام، أو من عشرة، فكيف يبعثه رسولاً؟! «٣» هـ. قلت: لا غرابةَ فيه، وقد كان صلّى الله عليه وسلم يُؤَمِّر أسامةَ بن زيد على جيش، فيه أبو بكر وعمر، مع حداثة سِنِّه، كما في البخاري وغيره.
وفي تنكير (فاسق) و (نبأ) شِياعٌ في الفُسَّاق والأنباء، أي: إذا جاءكم فاسقٌ أيّ فاسقٍ كان، بأيِّ خبر فَتَبَيَّنُوا أي: فتوقفوا فيه، وتطلَّبوا بيان الأمر وانكشافَ الحقيقة، ولا تعتمدوا قولَ مَن لا يتحرّى الصدق، ولا يتحامى الكذب، الذي هو نوع من الفسوق.
وفي الآية دليل على قبول خبر الواحد العَدل لأنا لو توقفنا في خبره لسوّينا بينه وبين الفاسق، ولخلا التخصيص به عن الفائدة. وقرأ الأخوان: «فتثبتوا» والتثبُّت والتبيُّن متقاربان، وهما: طلبُ الثبات والبيان والتعرُّف.
أَنْ تُصِيبُوا أي: لئلا تصيبوا قَوْماً بِجَهالَةٍ: حال، أي: جاهلين بحقيقة الأمر وكُنه القصة.
فَتُصْبِحُوا فتصيروا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ مغتمِّين على ما فعلتم، متمنين أنه لم يقع، والنّدم: ضرب من الغم وهو أن يَغتم على ما وقع، يتمنى أنه لم يقع، وهو غم يصحبُ الإنسان صحبةً لها دوامٌ في الجملة.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ فلا تكْذبوا، فإن الله يُخبره، فيهتك سر الكاذب، أو: فارجعوا إليه واطلبوا رأيه، ثم استأنف بقوله: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ لوقعتم في العنت وهو الجهد والهلاك.
(١) أخرجه أحمد فى المسند (٤/ ٢٧٩) والطبراني فى الكبير (٣/ ٤٠١) والطبري (٢٦/ ١٢٣) وعبد الرّزاق فى التفسير (٢/ ٢٣١) وقال الهيثمي فى المجمع (٧/ ١١١) :«رواه الطبراني، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف، وانظر: تفسير ابن كثير (٤/ ٢٠٦- ٢١٠) والفتح السماوي مع حاشية المحقق (٣/ ١٠٠١).
(٢) هكذا فى الأصول، وأظنه: «ابن»

(٣) لم أقف عليه بهذا اللفظ، ولا على معناه، وإنما وجدت ما يفيد ترجيح ابن عبد البر بأن الوليد لم يكن غلاما فى هذا الوقت. راجع الاستيعاب (٤/ ١١٤). وهذا أيضا ما رجحه ابن حجر فى الإصابة (٣/ ٦٠١) حيث قال: قلت: ومما يؤيد أنه كان رجلا: أنه كان قدم فى فداء ابن عم أبيه «الحارث بن أبى وجزة بن أبى عمرو بن أمية»، وكان أسر يوم بدر، فافتداه بأربعة آلاف. حكاه أصحاب المغازي. هـ.
420
والتعبير بالمضارع للدلالة على أنّ عَنَتَهم إنما يلزم في استمرار طاعته لهم في كل ما يعرض من الأمور، وأما طاعته في بعض الأمور استئلافاً لهم، فلا. انظر أبا السعود. وهذا يدل على أنَّ بعض المؤمنين زيّن لرسول الله ﷺ الإيقاع ببني المصطلق تصديقاً لقول الوليد، وأنَّ بعضهم كانوا يتصوّنون ويتحرّجون الوقوعَ بهم تأنياً وتثُبتاً في الأمر، وهم الذين استثناهم الله بقوله:
وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ، وأسنده إلى الكل تنبيهاً على أن أكثرهم تحرّجوا الوقوعَ بهم وتأنّوا، وقيل: هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، وهو تجديدٌ للخطاب وتوجيه إلى بعضهم بطريق الاستدراك، بياناً لِبراءَتهم عن أوصاف الأولين وإحماداً لأفعالهم، أي: ولكنه- تعالى- جعل الإيمان محبوباً لديكم وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ حتى رسخ فيها، ولذ كل صدر منكم ما يليق به من التثبُّت والتحرُّج، وحاصل الآية على هذا: واعلموا ان فيكم رسول الله، فلا تُقِرُّون معه على خطأ، لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم، ولكن الله حبب إلى بعضكم الإيمان، فلا يأمر إلا بما هو صواب من التأنِّي وعدم العجلة.
قلت: والأحسن في معنى الاستدراك: أنَّ التقدير: لو يطعيكم في كثير من الأمر لَعَنِتُّم، ولكن الله لا يُقره على طاعتكم بل ينزل عليه الوحي بما فيه صلاحُكم وراحتكُم لأنَّ الله حبب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم، فلا يسلك بكم إلى ما يليق بشأنكم من الحِفظ والعصمة.
ثم قال: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ ولذلك تحرّجتم عمّا لا يليق مما لا يخير فيه مما يؤدي إلى عَنَتِكم، قال ابن عرفة: العطف في هذه الآية تَدَلِّي فالكفر أشدُّها، والفسوق دونه، والعصيان أخفّ لصدقه على ترك المندوبات، حسبما نقل ذلك البغداديون وحمَلوا عليه، ومَن لم يُجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم. هـ.
أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي: أولئك المستثنون، أو: المتَّصِفون بالإيمان، المزيّن في قلوبهم، هم السالكون على طريق السّوى، الموصل إلى الحق، أي: أصابوا طريقَ الحق، ولم يَميلوا عن الاستقامة. والرشدُ: الاستقامةُ على طريق الحق مع تصلُّبٍ فيه، من: الرشادة، وهي الصخرة الصماء. فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً أي: إفضالاً من الله وإنعاماً عليهم مفعولٌ من أجله، أي: حبَّب وكرّه للفضل والنعمة عليهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ مبالغ في العلم، فيعلم أحوالَ المؤمنين وما بينهم من التفاضل، حَكِيمٌ يفعل ما يفعل لحكمة بالغة.
الإشارة: إن جاءكم خاطرُ سوء بنبأ سوءٍ فتبيّنوا وتثبّتوا، ولا تُبادروا بإظهاره، خشية أن تُصيبوا قوماً بجهالة، فتظنُّوا بهم السوء، وتقعوا في الغيبة، فتُصبحوا على ما فعلتم نادمين، فالمنافق قلبه على طرَف لسانه، إذا خطر فيه شيء نطق به، فهذا هالك، والمؤمن لسانه من وراء قلبه، إذا خطر شيءٌ نظر فيه، ووَزَنه بميزان الشرع، فإن كان
421
فيه مصلحة نطق به، وإلا ردَّه وكتمه، فالواجبُ: وزن الخواطر بالقسطاس المستقيم، فلا يُظهر منها إلا ما يعود عليه منفعته.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ، قد بَيَّن لكم ما تفعلون وما تذرون، ظاهراً وباطناً، ومَن اتصل بخليفة الرسول، وهو الشيخ حكّمه على نفسه، فإن خطر في قلبه شيءٌ يهِمُّ أمرُه عَرَضه عليه، والشيخ ينظر بعين البصيرة، لو يطيعكم في كثير من أمركم التي تعزمون عليها لَعَنِتُّم، ولكنَّ الله حبب إليكم الإيمان، وزينه في قلوبكم، فتَستمعُون لما يأمركم به، وتمتثلون أمره، وكره إليكم الكفر والفسوق الخروجَ عن أمره ونهيه، والعصيان لما يأمرُكم به، فلا تَرون إلا ما يسرّكم، ويُفضي بكم إلى السهولة والراحة، فضلاً من الله ونعمة، فإنَّ السقوط على الشيخ إنما هو محض فضل وكرم، فلله الحمد وله الشكر دائماً سرمداً.
وللقشيري إشارة أخرى، قال: إن جاءكم فاسق بنبأ يشير إلى تسويلات النفوس الأمّارة بالسوء، ومجيئها كل ساعة بنبأِ شهوةٍ من شهوات الدنيا فتبيّنوا ربحَها من خسرانها، من قبل أن تُصيبوا قوماً من القلوب وصفائها بجهالة، فإنَّ ما فيه شفاءُ النفوس وحياتها فيه مرضُ القلوب ومماتُها فتُصبحوا صباحَ القيامة على ما فعلتم نادمين، واعلموا ان فيكم رسول الله، يُشير إلى رسول الإلهام في أنفسكم، يُلهمكم فجور نفوسكم وتقواها، لو يطيعكم في كثير من أمرِ النفس الأمّارة، لَعَنِتُّم لوقعتم في الهلاك، ولكنّ الله حبب إليكم الإيمان بالإلهامات الربانية، وزيَّنه في قلوبكم بقلم الكَرَم، وكرَّه بنور نظر العناية إليكم الكفر، والفسوق: هو ستر الحق والخروج إلى الباطل، والعصيان، وهو الأعراض عن طلب الحق، أولئك هم الراشدون إلى الحق بإرشاد الحق، فضلاً من الله ونعمةً منه، يُنعم به على من شاء من عباده، والله عليم حكيم «١». هـ.
ثم أمر الرّاشدين المتقدمين بالإصلاح بين النّاس، إذ لا ينجح في الغالب إلا على أيديهم، فقال:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٩ الى ١٠]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
(١) لم أقف على هذا النّص فى محله من لطائف الإشارات.
422
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا أي: تقاتلوا. والجمعُ باعتبار المعنى لأن كلّ طائفة جمعٌ كقوله: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا «١»، فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالنصح والدعاء إلى حُكم الله تعالى، فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى ولم تتأثر بالنصيحة فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ إلى حُكمه، أو: إلى ما أُمر به من الصُلح وزوال الشحناء، والفيء: الرجوع، وقد يُسمى به الظل والغنيمة، لأن الظل يرجعُ بعد نسخ الشمس، والغنيمة ترجع من أيدي الكفار إلى المسلمين.
وحكم الفئة الباغية: وجوب قتالها، فإذا كفَّت عن القتال أيديَها تُركت. قال ابن جزي: وأَمَرَ اللهُ في هذه الآية بقتال الفئة الباغية وذلك إذا تبيَّن أنها باغية، فأما الفتنُ التي تقع بين المسلمين فاختلف العلماءُ فيها على قولين، أحدهما: أنه لا يجوز النهوض، في شيء منها ولا القتال، وهذا مذهب سعد بن أبي وقاص، وأبي ذر، وجماعة من الصحابة، وحجتُهم حديث: «قتال المسلم كفر» «٢»، وحديث: الأمر بكسر السيوف في الفتن، والقولُ الثاني:
النهوضُ فيها واجبٌ، لتُكفَ الفئةُ الباغية، وهذا مذهب عليّ، وعائشة، وطلحة، وأكثر الصحابة، وهو مذهب مالك وغيره من الفقهاء، وحجتُهُم هذه الآية. فإذا فرّعنا على القول الأول، فإن دخل داخلٌ على مَن اعتزل الفرقتين منزلَه يريد نفسَه أو مالَه فعليه دفعُه، وإن أدّى ذلك إلى قتله لحديث: «مَن قُتل دون نفسه وماله فهو شهيد» «٣».
وإذا فرّعنا على الثاني، فاختُلف مع مَن يكون النهوضُ من الفئتين؟ فقيل: مع السواد الأعظم، وقيل: مع العلماء، وقيل: مع مَن يُرى أنّ الحق معه. هـ.
قلت: إذا وقعت الحرب بين القبائل فمَن تعدَّت تُربتَها إلى تربة غيرها فهي باغيةٌ، يجب كفُّها، وإذا وقعت بين الحدود فالمشهور: النهوض، ثم يقع السؤال عن السبب فمَن ظهر ظُلمه وَجَب كفّه، فإن أشكل الأمر، فالأمساك عن القتال أسلم. والله تعالى أعلم.
فَإِنْ فاءَتْ عن البغي، وأقلعت عن القتال فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بفصل ما بينهما على حُكمِ الله تعالى، ولا تكتفوا بمجرد متاركتِهما لئلا يكون بينهما قتال في وقتٍ آخر، وتقييدُ الإصلاح بالعدل لأنه مظنة الحيف لوقوعه بعد المقاتلة، وقد أكد ذلك بقوله: وَأَقْسِطُوا أي: واعدلوا في كل ما تأتون وما تَذرون،
(١) من الآية ١٩ من سورة الحج.
(٢) أخرجه أحمد فى المسند، (١/ ١٧٨) والترمذي فى (الإيمان، باب سباب المؤمن فسوق، ح ٢٦٣٤) والنّسائى فى (تحريم الدم، باب قتال المسلم) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(٣) أخرجه البخاري فى (المظالم، باب من قاتل دون ماله ح ٢٤٨٠) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، بلفظ: «من قتل دون ماله فهو شهيد». وأخرجه أبو داود فى (السنة، باب فى قتال اللصوص ح ٤٧٧٢) والترمذي فى (الديات، باب من قاتل دون ماله ح ١٤٢١) وكذا ابن ماجة والنّسائى، من حديث سعيد بن زيد، بلفظ: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد».
423
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين، فيُجازيهم أحسنَ الجزاء، والقَسط بالفتح: الجَور، وبالكسر: العدلُ، والفعل من الأول: قَسط فهو قاسط: جارَ، ومن الثاني: أقسط فهو مقسط: عَدل، وهمزتُه للسلب، أي: أزال القسط، أي: الجور.
والآية نزلت في قتالٍ حدث بين الأوس والخزرج، وذلك أن رسول الله ﷺ ذهب يعود سعدَ بنَ عُبادة، فمرّ بمجلسٍ من الأنصار، فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين، فوقف صلّى الله عليه وسلم على المجلس، ووعظ وذكَّر، فقال عبد الله ابن أُبي: يا هذا، لا تؤذنا في مجالسنا، واجلس في موضعك، فمَن جاءك فاقصص عليه، فقال عبد الله بنُ رواحة: بل أغثنا يا رسول الله وذكِّرنا، فارتفعت أصواتهما، وتضاربوا بالنعال، فنزلت الآية، وقيل غير ذلك «١».
وفي الآية دليل على أنّ الباغي لا يخرج ببغيه عن الإيمان، وأنه يجب نُصرة المظلوم، وعلى فضيلة الإصلاح بين الناس.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ أي: منتسبون إلى أصل واحدٍ، وهو الإيمان المُوجب للحياة الأبدية، فيجب الاجتهاد في التآلف بينهما لتحقُّق الأخوة. والفاء في قوله: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ للإيذان بأنّ الأخوة الدينية موجبة للإصلاح. ووضع المظهر مقامَ المضمر مضافاً إلى المأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح والتحضيض عليه، وتخصيص الاثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأَولى لتضاعف الفتنة والفساد فيه. وقيل: المراد بالأخَويْن: الأوس والخزرج. وقرأ يعقوب: «إخوتكم» بالجمع. وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما تأتون وتذرون، التي من جملتها: الإصلاحُ بين الناس لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ راجين أن تُرحموا على تقواكم، لأن التقوى تحملكم على التواصل والائتلاف، وهو سبب نزول الرحمة.
الإشارة: النفسُ الطبيعية والروح متقابلان، والحرب بينهما سِجال، فالنفس تريد السقوط إلى أرض الحظوظ والبقاء مع عوائدها، والروح تريد العروج إلى سماء المعارف وحضرة الأسرار، وبينما اتصال والتصاقٌ، فإن غلَبت النفسُ هبطت بالروح إلى الحضيض الأسفل، ومنعتها من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، وإن غلبت الروح، عرجت بالنفس إلى أعلى عليين، بعد تزكيتها وتصفيتها، فتكسوها حُلةَ الروحانية، وينكشِف لها من العلوم والأسرار ما كان للروح، ولكلٍّ جندٌ تقابل به، فيقال من طريق الإشارة: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصْلِحوا بينهما، بأن تؤخذ
(١) والذي فى الصحيح: ما أخرجه البخاري فى (الصلح، باب ما جاء فى الإصلاح بين النّاس، ح ٢٦٩١) ومسلم فى (الجهاد والسير، باب فى دعاء النبي ﷺ وصبره على أذى المنافقين ح ١٧٩٩) عن أنس بن مالك قال: قيل للنبى صلّى الله عليه وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي؟ قال: فانطلق إليه، وركب حمارا، وانطلق المسلمون، وهى أرض سبخة، فلما أتاه النبي ﷺ قال: إليك عنى، فو الله لقد آذاني نتن حمارك. فقال رجلٌ من الأنصار: والله لحمار رسول الله ﷺ أطيب ريحا منك، قال: فغضب لعبد الله رجل من قومه. قال: فغضب لكلّ واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد وبالأيدى وبالنعال، قال: فبلغت أنها نزلت فيهم:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما.
424
النفسُ بالسياسة شيئاً فشيئاً، يُنقص من حظوظها شيئاً فشيئاً، حتى تتزكى وتعالَجَ الروحُ لدخول الحضرة، وعكوف الهم في الذكر شيئاً فشيئاً، حتى تدخل الحضرة وهي لا تشعر، ثم تشعُر ويقع الاستغراق. وأما إن قُطِعت النفسً عن جميع مألوفاتها مرةً واحدة، أو كُلفت الروحَ الحضورَ في الذكر على الدوام مرةً واحدة، أفسدتهما، لقوله: صلى الله عليه وسلم:
«ادخلوا في هذا الدين برفق، فما شاد أحدكم الدين إلا غَلَبه» «١» وقال أيضاً: «لا يكن أحدكم كالمنبت، لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى» «٢» فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتِلوا التي تبغي، بأن تُردع النفس إن طغت، وتأخذ لجام الروح إن هاجت، حتى تفيء إلى أمر الله، وهو الاعتدال، فيعطي كلّ ذي حق حقه، ويُوفي كل ذي قسط قسطه.
وقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ قال الورتجبي: افهَم أيها العاقل أن الله سبحانه خلق الأرواحَ المقدسةَ من عالَم الملكوت، وألبسها أنوارَ الجبروت فمواردُها من قُربه مختلفة، لكن عينها واحدة، وخلق هياكلَها وأشباحَها من تربة الأرض التي أخلصها من جملتها، وزيّنها بنور قدرته، ونفخ فيها تلك الأرواح، [وجعل من الأرواح والأجسام النفوس] «٣» الأمّارة التي ليست من قبيل الأرواح، ولا من قبيل الأجسام، وجعلها مخالفة للأرواح ومساكِنها، فأرسل الله عليها جندَ العقول، يدفع بها شَرَّها، فإذا امتحن الله عبادَه المؤمنين هيَّج نفوسهم الأمّارة ليُظهر حقائق درجاتهم من الإيمان، فأَمَرهم أن يُعينوا العقلَ والروحَ والقلبَ على النفس حتى تنهزم لأن المؤمنين كالبنيان يشُد بعضُهم بعضاً.
ثم بيَّن أنّ في الإصلاح بين الإخوان الفلاح والنجاة، إذا كان مقروناً بالتقوى التي تقدسُ البواطن من البغي والحسد بقوله: (واتقوا الله لعلكم تُرحمون) فإذا فهِمت ما ذكرتُ علمتَ أنْ حقيقة الأخوة مصدر الاتحاد، فإنهم كنفسٍ واحدة لأن مصادرهم مصدر واحد، [وهو] «٤» آدم، ومصدر روح آدم نورُ الملكوت، ومصدرُ جسمه تربة الجنة في بعض الأقوال. لذلك يصعد الروحُ إلى الملكوت، والجسم إلى الجنة، كما قال صلّى الله عليه وسلم: «كل شيء يرجع إلى أصل «٥» ». هـ. قلت: صعود الروح إلى الملكوت هو شهود معاني الأسرار في دار الجنة، ونزول الجسم إلى الجنة هو تمتُّعه بنعيم حسها في عالم الأشباح، وكل ذلك بعد الموت، وأحسنُ العبارة أن يُقال: لأن مصادرَهم مصدر واحد، وهو بحر الجبروت، المتدفق بأنوار الملكوت، والوجود بأَسْره موجةٌ من بحر الجبروت.
(١) يريد الشيخ حديث: «إن الدين يسر، ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه... » الحديث أخرجه البخاري فى (الإيمان، باب الدين يسر، ح ٣٩) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٢) سبق تخريج الحديث عند تفسير الآية ٢٣ من سورة الجاثية
(٣) عبارة الورتجبي: [وجعل بين الأرواح والأجسام والنّفوس].
(٤) فى الأصول: [بنوا] والمثبت من الورتجبي.
(٥) على هامش النّسخة الأم مايلى: لعله يريد: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلق له» أما بهذا اللفظ فلا نراه وارد. والله أعلم. هـ. [.....]
425
ثم قال الورتجبي: قال أبو بكر النقاش: سألتُ الجنيد عن الأخ الحقيقي؟ فقال: هو أنت في الحقيقة، غير أنه غيرك في الهيكل. قلت: يعني أن الناس في الحقيقة ذاتٌ واحدة، وما افترقوا إلا في الهياكل، فكلهم أخوة. وقال أبو عثمان الحيري: أُخُوة الدين أثبت من أخوة النسب، فإن أخوة النسب تُقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تقطع بمخالفة النسب. هـ. وتقدم لنا شروط الأخوة في قوله تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ... الآية «١».
وقال القشيري هنا: ومن حق الأخوة ألا تُلجأه إلى الاعتذار، بل تُبسط عذرَه، أي: تذكر عذره قبل أن يعتذر، فإن أُشكل عليك وجهه عُدت بالملامة على نفسك في خفاء عذره عليك، وتتوب عليه إذا أذنب، وتعوده إذا مرض، وإذا أشار عليك بشيء فلا تطالبه بالدليل وإيراد الحجة، كما أنشدوا:
إِذا اسْتُنْجِدُوا لَمْ يَسأَلُوا مَنْ دَعَاهُم... لأيَّةِ حَرْبٍ أم لأيِّ مكان «٢». هـ.
ومن أوكد شروطها «٣» : التعظيم، كما أبان ذلك بقوله تعالى:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ أي:
عسى أن يكون المسخُورُ منهم خيراً عند الله- تعالى- من الساخرين لأن الناس لا يَطَّلِعون إلا على الظواهر، وهو تعليل للنهي، والقوم خاص بالرجال لأنهم القوّامون على النساء، وهو في الأصل: جمع قائم، كصوم وزور، فى جمع صائم وزائر، واختصاص القوم بالرجال صريح في الآية إذ لو كانت النساء داخلة في الرجال، لم يقل:
وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ، وحقق ذلك زهير في قوله:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي... أَقومٌ آلُ حِصْنِ أَمْ نِساءُ؟ «٤»
وأَمَّا قولهم في قوم فرعون، وقوم عاد: هم الذكور والإناث، فليس لفظ القوم شاملاً لهم، ولكن قصد ذكر الذكور، والإناث تبع لهم.
(١) الآية ٦٧ من سورة الزخرف.
(٢) البيت ينسب إلى وداك بن ثميل المازني. كما فى العقد الفريد (٥/ ٢٠٢)، ونهاية الأرب (٣/ ٢٢٩).
(٣) أي: الأخوة.
(٤) حيث أراد بالقوم الرّجال دون النّساء. والبيت من الوافر. انظر ديوان زهير (١٢) والمغني (١/ ٤١).
426
وَلا يسخر نِساءٌ مؤمنات مِنْ نِساءٍ منهن عَسى أَنْ يَكُنَّ أي: المسخور منهن خَيْراً مِنْهُنَّ أي: الساخرات، فإنّ مناط الخيرية في الفريقين ليس ما يَظهرَ من الصور والأشكال، والأوضاع والأطوار، التي عليها يدور أمر السخرية، وإنما هي الأمور الكامنة في القلوب، من تحقيق الإيمان، وكمال الإيقان، وموارد العرفان، وهي خَفيّة، فقد يُصغّر العبدُ مَن عظَّم اللهُ، ويتحقرُ مَن وقّره الله، فيسقطُ من عين الله، فينبغي ألا يجترئ أحدٌ على الاستهزاء بأحدٍ إذا رآه رَثّ الحال، أو ذا عاهة في بدنه، ولو فى دينه، فلعله يتوب ويُبتلى بما ابْتُلي به. وفي الحديث: «لا تُظْهِر الشماتَة لأخيك فيُعافِيه الله ويبتليكَ» «١». وعن ابن مسعود رضي الله عنه: البلاء موكّل بالقول، لو سخِرتُ من كلب لخشيتُ أن أُحَوَّل كلباً. هـ.
وتنكير القوم والنساء إما لإرادة البعض، أي: لا يسخر بعضُ المؤمنين والمؤمنات من بعض، وإما لإرادة الشيوع، وأن يصير كل جماعة منهم مَنهية عن السخرية، وإنما لم يقل: رجلٌ من رجلٍ، ولا امرأةٌ من امرأة إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم وغير واحدة من نسائهم على السخرية، واستفظاعاً للشأن الذي كانوا عليه.
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ ولا يعيب بعضكم بعضاً بالطعن في نسبه أو دينه، واللمز: الطعن والضرب باللسان، والمؤمنون كنفس واحدة، فإذا عاب المؤمن المؤمنُ فقد عاب نفسه. وقيل: معناه: لا تفعلوا ما تلمزون به أنفسكم بالتعرُّض للكلام لأن مَن فعل ما استحق به اللمز فقد لمزَ نفسَه حقيقة. وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي: لا يَدْعُ بعضكم بعضاً بلقب السوء، فالتنابزُ بالألقاب: التداعي بها. والتلقيبُ المنهي عنه ما يُدخِل على المدعُوِّ به كراهيةً، لكونه تقصيراً به وذمّاً له، فأمَا ما يُحبه فلا بأس به، وكذا ما يقع به التمييز، كقول المحدِّثين: حدثنا الأعمش والأحدب والأعور.
رُوي أن قوماً من بني تميم استهزأوا ببلال وخَبَّاب وعَمَّار وصُهيب، فنزلت «٢». وعن عائشة- رضي الله عنها- أنها كانت تسخر من زينب بنت خزيمة، وكانت قصيرة. وعن أنس: عَيّرت نساء النبي ﷺ أمَّ سلمة بالقِصَر، فنزلت «٣». ورُوي: أنها نزلت في ثابت بن قيس، وكان به وَقْر- أي: صمم- فكانوا يوسِّعون له في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى قوماً وهو يقول: تفسَّحوا، حتى انتهى إلى رسول الله ﷺ فقال لرجل: تنحّ فلم يفعل، فقال: مَن هذا؟
فقال: أنا فلان، فقال: فلان بن فلانة- يريد أُمّاً كان يُعَير بها في الجاهلية، فخجل الرجُل، فنزلت، فقال ثابت: والله لا أفخر على أحد بعد هذا أبدا «٤».
(١) أخرجه الترمذي فى (صفة القيامة والرّقائق، باب ٥٤، ح ٢٥٠٦) من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. وقال الترمذي: «حديث حسن غريب».
(٢) عزاه السيوطي فى الدر (٦/ ٩٦- ٩٧) لابن أبى حاتم، عن مقاتل.
(٣) ذكره الواحدي فى أسباب النّزول (ص ٤٠٩).
(٤) ذكره البغوي فى تفسيره ٧٠/ ٣٤٢- ٣٤٣) عن ابن عباس رضي الله عنه.
427
وقال ابن زيد: معنى وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ لا يقل أحد: يا يهودي، بعد إسلامه، ولا يا فاسق، بعد توبته.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ يعني: أن اللقب بئس الاسمُ هو، وهو ارتكابُ الفسق بعد الإيمان، وهو استهجان للتنابز بالألقاب، وارتكاب هذه الجريمة بعد الدخول في الإسلام، أو: بئس قولُ الرجل لأخيه: يا فاسق، بعد توبته، أو: يا يهودي، بعد إيمانه، أي: بئس الرمي بالفسوق بعد الإيمان.
رُوي: أنَّ الآية نزلت في صفية بنت حُيي، أتت رسول الله ﷺ فقالت: إن النساء يقُلن لي: يا يهودية بنتُ يهوديّين، فقال صلّى الله عليه وسلم: «هلاّ قلت: إن أبي هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم» «١»، أو: يُراد بالاسم هنا:
الذكر، من قولهم: طار اسمه فى النّاس بالكرم أو اللؤم، كأنه قيل: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائم أن يُذكروا بالفسق.
وقوله: بَعْدَ الْإِيمانِ، استقباح للجمع بين الإيمان والفسق الذي يحظره الإيمان، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة الصَّبْوة. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ عما نُهي عنه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بوضع المخالفة موضع الطاعة، فإن تاب واستغفر خرج من الظلم.
وعن حذيفة رضي الله عنه: شَكَوتُ إلى رسول الله ﷺ ذَرَب لساني، فقال: «أين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة» «٢»، والذَرَب- بفتح الذال والراء: الفحش، وفي حديث ابن عمر: كنا نعدّ لرسول الله ﷺ في المجلس الواحد مائة مرة: «رب اغفر لي، وتب عليّ، إنك أنت التوّاب الرحيم» «٣».
الإشارة: مذهب الصوفية التعظيم والإجلال لكل ما خلق الله، كائناً مَن كان لنفوذ بصيرتهم إلى شهودِ الصانع والمتجلِّي، دون الوقوف مع حس الصنعة الظاهرة، وقالوا: «شروط التصوُّف أربعة: كف الأذى، وحمل الجفا، وشهود الصفا، ورميُ الدنيا بالقفا». فشهود الصفا يجري في الأشياء كلها، فإياك يا أخي أن تَحقِر أحداً من خلق الله فتُطرد عن بابه، وأنت لا تشعر، ولله در القائل:
(١) أخرج الترمذي فى (المناقب، باب فضل أزواج النبي ﷺ ح ٣٨٩٤) والنّسائى فى الكبرى (عشرة النّساء ٣٣) من حديث أنس رضي الله عنه.
(٢) أخرجه أحمد (٥/ ٣٩٤ و ٣٩٦، ح ٢٣٢٣٣ و ٢٣٢٥٥) وابن أبى شيبة (كتاب الدعاء ٦/ ٥٧، ح ٢٩٤٣٢) والحاكم (٢/ ٤٥٧) «وصحّحه وأقره الذهبي» والبيهقي فى الشعب (٦٧٨٦).
(٣) أخرجه أبو داود فى (الصلاة، باب فى الاستغفار، ح ١٥١٦) والترمذي فى (الدعوات، باب ما يقول إذا قام من مجلسه، ح ٣٤٣٤) وقال: «حديث حسن صحيح غريب» وابن ماجة فى (الأدب، باب الاستغفار، ح ٣٨١٤) والنّسائى فى عمل اليوم والليلة (ص ١٤٨) وزاد السيوطي عزوه فى الدر (٦/ ٤٨) لابن أبى شيبة وابن مردويه، والبيهقي فى الأسماء والصفات.
428
للهِ في الخلقِ أسرار وأنوارُ ويَصطفي اللهُ مَن يَرضَى ويَخْتارُ
لاَ تَحْقِرنَّ فقيراً إن مررْت به فقد يكونُ له حظٌّ ومقْدارُ
والمرءُ بالنَّفْسِ لا بِاللَّبْس تَعْرِفُه قَد يَخْلقُ الْغِمْدُ والْهنْديُّ بتَّارُ
والتِّبْرُ في التَّربِ قد تَخْفى مَكانتُه حَتَّى يُخَلِّصُه بالسَّبْكِ مِسْبَارُ
ورُبَّ أشعثَ ذِي طِمرَيْنِ مجتهدٌ لَه على الله في الإقْسَامِ إبْرارُ
وعن أبي سعيد الخراز، قال: دخلت المسجد الجامع، فرأيت فقيراً، عليه خرقتان، فقلت في نفسي: هذا وأشباهه كَلٌّ على الناس، فناداني، وتلا: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ «١» فاستغفرتُ الله في سري، فناداني وقال: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ «٢» ثم غاب عني فلم أره. هـ.
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن المستهزئين بالناس يُفتح لأحدهم باب من الجنة، فيُقال لأحدهم: هلم، فيجيء بغمه وكربه، فإذا جاء أُغلق دونه، ثم يُفعل به هكذا مراراً، من بابٍ إلى باب، حتى يأتيه الإياس» «٣». بالمعنى من البدور السافرة.
ثم نهى عن الظن، فقال:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ أي: كونوا في جانب منه، يقال:
جنَّبه الشرّ إذا أبعده عنه، أي: جعله في جانب منه، و «جنّب» يتعدى إلى مفعولين، قال تعالى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «٤»، ومطاوعُه: اجتنب، ينقص مفعولاً، وإبهام «الكثير» لإيجاب التأمُّل في كل ظن، حتى يعلم من
(١) من الآية ٢٣٥ من سورة البقرة.
(٢) من الآية ٢٥ من سورة الشورى.
(٣) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (ح ٦٧٥٧) عن الحسن، مرسلا. [.....]
(٤) من الآية ٣٥ من سورة إبراهيم.
429
أي قبيل هو، فإنَّ مِن الظن ما يجب اتباعُه كالظن فيما لا قاطع فيه من العمليات، وحسن الظن بالله تعالى، ومنه ما يُحرم، وهو ما يُوجب نقصاً بالإلهيات والنبوات، وحيث يخالفه قاطع، وظن السوء بالمؤمنين، ومنه ما يُباح، كأمور المعاش.
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ، تعليل للأمر بالاجتناب، قال الزجاج: هو ظنّك بأهل الخير سوءاً، فأما أهل الفسق فلنا أن نظنّ بهم مثل الذي ظهر عليهم، وقيل المعنى: اجتنبوا اجتناباً كثيراً من الظن، وتحرّزوا منه، إن بعض الظن إثم، وأَوْلى كثيرُه، والإثم: الذنب الذي يستحق صاحبه العقاب، وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم: «إياكم والظن، فإن الظنَّ أكذبُ الحديث» «١»، فالواجب ألاَّ يعتمد على مجرد الظن، فيعمل به، أو يتكلم بحسبه.
قال ابن عطية: وما زال أولو العزم يحترسون من سوء الظن، ويجتنبون ذرائعه. قال النووي: واعلم أن سوء الظن حرام مثل القول، فكما يحرم أن تحدّث غيرَك بمساوئ إنسان يحرم أن تُحدِّث نفسك بذلك، وتسيء الظن به، والمراد: عقدُ القلب وحكمُه على غيره بالسوء، فأما الخواطرُ، وحديثُ النفس، إذا لم يستقر ويستمر عليه صاحبه، فمعفوٌّ عنه باتفاق لأنه لا اختيارَ له في وقوعه، ولا طريق له إلى الانفكاك عنه. هـ.
وقال في التمهيد: وقد ثبتَ عن النبي ﷺ أنه قال: «حرّم الله من المؤمن: دمَه ومالَه وعِرضَه، وألا يُظنَّ به إلا الخير» «٢». هـ. ونقل أيضاً أن عمرُ بنُ عبد العزيز كان إذا ذُكر عنده رجل بفضل أو صلاح، قال: كيف هو إذا ذُكر عنده إخوانُه؟ فإن قالوا: ينتقص منهم، وينال منهم، قال عمر: ليس هو كما تقولون، وإن قالوا: إنه يذكُرُ منهم جميلاً، ويُحسن الثناء عليهم، قال: هو كما تقولون إن شاء الله. هـ. وفي الحديث أيضاً: «خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير، حُسْن الظنِّ بالله، وحُسْن الظن بعباد الله. وخصلتان ليس فوقهما شيءٌ مِن الشرِّ، سُوءُ الظن بالله، وسوء الظن بعباد الله».
وَلا تَجَسَّسُوا لا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، يقال: تجسّس الأمر: إذا تطلّبه وبحث عنه، تَفعلٌ من: الجسّ. وعن مجاهد: خُذوا ما ظهر ودَعوا ما ستر الله. وقال سهل: لا تبحثوا عن طلب ما ستر الله على
(١) أخرجه بطوله البخاري فى (الأدب، باب يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ح ٦٠٦٦) ومسلم فى (البر والصلة، باب تحريم الظن، ح ٢٥٦٣).
(٢) انظر التمهيد (٢٠/ ١٥٧)، وأخرج الطبراني فى الكبير (١١٠/ ٣٧ ح ١٠٩٦٦) عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: نظر رسول الله ﷺ إلى الكعبة فقال: «لا إله إلا الله» ما أطيبك وأطيب ريحك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة منك، إن الله عزّ وجل جعلك حراما، وحرّم من المؤمن ماله ودمه وعرضه وأن يظن به ظنا سيئا».
430
عباده، وفي الحديث: «لا تتبعوا عورات المسلمين فإنَّ مَن تتبَّع عورات المسلمين تتبَّع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته» «١».
قال ابن عرفة: مَن هو مستور الحال فلا يحلّ التجسُّس عليه، ومَن اشتهر بشرب خمر ونحوه فالتجسُّس عليه مطلوب أو واجب. هـ. قلت: معناه: التجسُّس عليه بالشم ونحوه ليُقام عليه الحد، لا دخول داره لينظر ما فيها من الخمر ونحوه، فإنه منهي عنه، وأمّا فعل عمر- رضي الله عنه- فحالٌ غالبة، يقتصر عليها في محلها. وانظر الثعلبي، فقد ذكر عن عمر رضي الله عنه أنه فعل من ذلك أموراً، ومجملها ما ذكرنا.
وقرئ بالحاء «٢»، من «الحس» الذي هو أثر الجس وغايته، وقيل: التجسُّس- بالجيم- يكون بالسؤال، وبالحاء يكون بالاطلاع والنظر، وفي الإحياء: التجسُّس- أي: بالجيم- في تطلُّع الأخبار، والتحسُّس بالمراقبة بالعين. هـ.
وقال بعضهم: التجسُّس- بالجيم- في الشر، وبالحاء في الخير، وقد يتداخلان.
والحاصل: أنه يجب ترك البحث عن أخبار الناس، والتماس المعاذر، حتى يُحسن الظن بالجميع، فإنَّ التجسُّس هو السبب في الوقوع في الغيبة، ولذلك قدَّمه الحق- تعالى- على النهي عن الغيبة، حيث قال: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي: لا يذكر بعضُكم بعضاً بسوء. فالغيبة: الذكرُ بالعيب في ظهر الغيب، من الاغتياب، كالغِيْلَةِ من الاغتيال. وسئل صلّى الله عليه وسلم عن الغيبة، فقال: «ذِكْرُك أخاك بما يكره، فإن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّه» «٣».
وعن معاذ: كنا مع رسول الله ﷺ فذَكَر القومُ رجلاً، فقالوا: لا يأكل إلا إذا أُطعم، ولا يرحل إلا إذا رُحِّل، فما أضعفه! فقال عليه السلام: «اغتبتم أخاكم»، فقالوا: يا رسول الله، أوَ غيبة أن يُحدَّث بما فيه؟ قال: «فَحَسْبُكم غيبةً أن تُحدِّثوا عن أخيكم بما فيه» «٤». قال أبو هريرة: قام رجل من عند النبي ﷺ فرأَوْا في قيامه عَجْزاً، فقالوا: يا رسول الله، ما أعجز فلاناً! فقال عليه السلام: «أَكَلْتُم لحْمَ أخيكم واغتبتموه» ».
(١) أخرجه الترمذي فى (البر والصلة، باب ما جاء فى تعظيم المؤمن ح ٢٠٣٢) وابن حبان (موارد ص ٣٥٩) من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود فى (الأدب، باب فى الغيبة، ح ٤٨٨٠) من حديث أبى برزة الأسلمى.
(٢) نسبها فى البحر المحيط (٨/ ١١٣) للحسن وأبى رجاء وابن سيرين.
(٣) أخرجه مسلم فى (البر والصلة، باب تحريم الغيبة ح ٣٥٨٩) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٤) رواه الأصبهانى فى الترغيب (٢٢٠٨) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ولم أقف عليه من حديث معاذ رضي الله عنه.
(٥) عزاه المنذرى فى الترغيب والترهيب (ح ٤١٧٠) لأبى يعلى فى مسنده (٦١٥١) والطبراني- واللفظ له- عن أبى هريرة رضي الله عنه.
431
قال النووي: الغيبة: كلّ ما أفهمت به غيرَك نقصان مسلم عاقل، وهو حرام. هـ. قوله: ما أفهمت... الخ، يتناول اللفظ الصريح والكناية والرمزَ والتعريضَ والإشارة بالعين والرأس، والتحكية بأن يفعل مثلَه، كالتعارج، أو يحكي كلامَه على هيئته ليُضحك غيره، فهذا كله حرام، إن فهَم المخاطَب تعيين الشخص المغتاب، وإلا فلا بأس، والله تعالى أعلم. ولا فرق بين غيبة الحي والميت، لما ورد: «مَن شتمَ ميتاً أو اغتابه فكأنما شتم ألف نبي، ومَن اغتابه فكأنما اغتاب ألفَ ملَك، وأحبط الله له عمل سبعين سنة، ووضع على قدمه سبعين كيةً من نار» «١».
والسامع للغيبة كالمغتاب، إلاَّ أن يُغَير أو يقوم، وورد عن الشيخ أبي المواهب التونسي الشاذلى أن النبي ﷺ قال له: «فإن كان ولا بد من سماعك غيبة الناس- أي: وقع منك- فاقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين، واهدِ ثوابها للمغتاب فإن الله يُرضيه عنك بذلك». هـ.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: الغيبة إدامُ كلابِ الناس. هـ. وتشبيههم بالكلاب في التمزيق والتخريق، فهم يُمزقون أعراض الناس، كالكلاب على الجيفة، لا يطيب لهم مجلسٌ إلا بذكر عيوب الناس. وفي الحديث: «رأيت ليلة أُسري بي رجالاً لهم أظفار من نحاس، يَخْمشُون وجوههم ولحومَهم، فقلت: مَنْ هؤلاءِ يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم» «٢».
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً، هذا تمثيل وتصوير لما ينالُه المغتاب من عِرضِ المغتابِ على أفحش وجه. وفيه مبالغات، منها: الاستفهام الذي معناه التقرير، ومنها: فعلُ ما هو الغاية فى الكراهة موصولاً بالمحبة، ومنها: إسناد الفعل إلى أَحَدُكُمْ إشعاراً بأنَّ أحداً مِن الأحدين لا يُحبُّ ذلك، ومنها: أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأ كل لحم مطلق الإنسان، بل جعله أخاً للآكل، ومنها: أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتاً. وعن قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة مُدَوّدة أن تأكل منها كذلك فاكْرَه لحم أخيك. هـ.
ولمَّا قررهم بأن أحداً منهم لا يُحب أكل جيفة أخيه عقَّب ذلك بقوله: فَكَرِهْتُمُوهُ أي: وحيث كان الأمر كما ذُكر فقد كرهتموه، فكما تحققت كراهتُكم له باستقامة العقل فاكْرَهوا ما هو نظيره باستقامة الدين.
وَاتَّقُوا اللَّهَ في ترك ما أمِرتم باجتنابه، والندم على ما صدَر منكم منه، فإنكم إن اتقيتم وتُبتم تقبَّل الله توبتكم، وأنعم عليكم بثواب المتقين التائبين، إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ مبالغ في قبول التوبة، وإفاضة الرحمة، حيث جعل التائب كَمَن لا ذَنَب لَهُ، ولم يخص تائباً دون تائب، بل يعم الجميع، وإن كثرت ذنوبه.
(١) على هامش النّسخة الأم: يا أستاذ هذا الحديث كذب موضوع، ظاهر من لفظه. هـ.
(٢) أخرجه أبو داود فى (الأدب، باب فى الغيبة، ح ٤٨٧٨) وأحمد (٣/ ٢٢٤) من حديث أنس رضي الله عنه.
432
رُوي أنَّ سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة، ويُصلح طعامَهما، فنام عن شأنه يوماً، فبعثاه إلى رسول الله ﷺ فقال: «ما عندي شيء» فأخبرهما سلمان، فقالا: لو بعثناه إلى بئر سَميحةٍ لَغار مَاؤُها. فلما جاءا إلى رسول الله ﷺ قال لهما: «مالى أَرى حُمرَةَ اللَّحم في أَفْواهِكُما؟» فقالا: ما تناولنا لَحْماً، فقال: «إنكما قد اغْتَبتُما، مَن اغتاب مسلماً فقد أكل لحمه»، ثم قرأ الآية «١».
وقيل: غيبة الخلق إنما تكون بالغيبة عن الحق. هـ. قاله النسفي. قال بعضهم: والغيبة صاعقة الدين، فمَن أراد أن يُفرّق حسناته يميناً وشمالاً فليغتب الناس. وقيل: مثلُ صاحب الغيبة مثل مَن نصب منجنيقاً فهو يرمي به حسناته يميناً وشمالاً، شرقاً وغرباً. هـ. والأحاديث والحكايات في ذم الغيبة كثيرة، نجانا الله منها بحفظه ورعايته.
وهل هي من الكبائر أو من الصغائر؟ خلاف، رجّح بعَضٌ أنها من الصغائر لعموم البلوى بها، قال بعضهم: هي فاكهةُ القراء، ومراتعُ النساء، وبساتينُ الملوك، ومزبلة المتقين، وإدام كلاب الناس. هـ «٢».
الإشارة: مَن نظر الناسَ بعين الجمع عذَرهم فيما يصدرُ منهم، وحسَّن الظنَّ فيما لم يصدر منهم، وعظَّم الجميع، ومَن نظرهم بعين الفرق طال خصمه معهم فيما فَعلوا، وساء ظنُّه بهم فيما لم يفعلوا، وصغَّرهم حيث لم يرَ منهم ما لا يُعجبه، فالسلامةُ: النظر إليهم بعين الجمع، وإقامةُ الحقوق عليهم في مقام الفرق، قياماً بالحكمة في عين القدرة. وفي الحديث: «ثلاثة دبّت لهذه الأمة الظن، والطيرة، والحسد» قيل: فما النجاة؟ قال:
«إذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تَطَيَّرتَ فامضِ، وإذا حسدتَ فلا تبغ» «٣» أو كما- قال عليه السلام. قال القشيري: النفسُ لا تُصدَّق، والقلب لا يُكذَّب، والتمييزُ بينهما مُشْكِلٌ، ومَن بَقِيَتْ عليه من حظوظه بقيةٌ- وإن قلّت- فليس له أن يَدَّعي بيانَ القلب- أي: استفتاءه- بل يتهمَ نفسه ما دام عليه شيء من نفسه، ويجب أن يتهم نَفْسَه في كل ما يقع له من نقصان غيره، هذا أمير المؤمنين عمرُ قال وهو يخطب الناس: «كُلّ الناسِ أفقه من عمر حتى النساء» «٤». هـ.
(١) قال المناوى فى الفتح السماوي (٣/ ١٠٠٤) :«ذكره الثعلبي بغير إسناد، وروى معناه الأصبهانى فى الترغيب عن عبد الرّحمن ابن أبى ليلى».
(٢) على هامش النّسخة الأم مايلى: غريب هذا الترجيح، وأغرب منه دليله، فالأحاديث الكثيرة الصحيحة تفيد أن الغيبة من الكبائر، بل من أكبرها، بل من أربى الرّبا، وأشد من ست وثلاثين زنية، والزنا والرّبا من الكبائر، وأيضا: هى من حقوق الخلق، التي لا تكفّر إلا بالاستحلال، فكيف تكون من الصغائر أ. هـ.
(٣) ذكره ابن عبد البر فى التمهيد (٦/ ١٢٥) بلفظ (ثلاث لا يسلم منهن أحد..) الحديث، وعزاه لعبد الرّزاق، عن إسماعيل بن أمية. وذكره الهيثمي فى المجمع (٨/ ٨١) وابن كثير فى التفسير (٤/ ١٣) بلفظ «ثلاث لازمات لأمتى..» الحديث، وفيه: «وإذا حسدت فاستغفر الله» وعزاه كل منهما للطبرانى عن حارثة بن النّعمان. وقال الهيثمي: «وفيه إسماعيل بن قيس الأنصاري، وهو ضعيف».
(٤) قاله رضي الله عنه بعد أن خطب ناهيا عن المغالاة فى مهور النّساء، وأن لا يزدن عن أربعمائة درهم، فقالت له امرأة من قريش: أما سمعت الله يقول: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً [النساء/ ٢٠]. ذكره فى كنز العمال (رقم ٤٥٧٩٨) وعزاه لسعيد بن منصور، وأبى يعلى فى مسنده، والمحاملي فى أماليه، عن مسروق. وانظر: الشذرة فى الأحاديث المشتهرة (رقم ٦٩٧). [.....]
433
قوله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا.. الخ، التجسُّس عن أخبار الناس من علامة الإفلاس، قال القشيري: العارف لا يتفرّغ من شهود الحقِّ إلى شهود الخلق، فكيف يتفرّغ إلى التجسُّس عن أحوالهم؟! لأن مَن اشتغل بنفسه لا يتفرَغ إلى الخلق، ومَن اشتغل بالحق لا يتفرّغ لنفسه، فكيف إلى غيره؟! هـ.
قوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، ليست الغيبة خاصة باللسان في حق الخاصة، بل تكون أيضاً بالقلب، وحديث النفس، فيُعاتبون عليها كما تُعاتَب العامةُ على غيبة اللسان، وتذكّر قضية الجنيد مع الفقير الذي رآه يسأل، وهي مشهورة، وتقدّمت حكاية أبي سعيد الخراز، ونقل الكواشي عن أبي عثمان: أنَّ مَن وجد في قلبه غيبةً لأخيه، ولم يعمل في صرف ذلك عن قلبه بالدعاء له خاصة، والتضرُّع إلى الله بأن يُخلِّصَه منه أخاف أن يبتليه الله في نفسه بتلك المعايب. هـ. قال القشيري: وعزيزٌ رؤيةُ مَن لا يغتاب أحداً بين يديك. هـ. وقد أبيحت الغيبة في أمور معلومة، منها: التحرُّز منه لئلا يقع الاغترار بكلامه أو صحبته، والترك أسلم وأنجى.
ثم نهى عن الافتخار بالأنساب، فقال:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى آدم وحوّاء، أو: كل واحد منكم من أبٍ وأم فما منكم من أحد إلا وهو يُدلي بما يُدلي به الآخر، سواء بسواء، فلا معنى للتفاخر والتفاضل بالنسب. وفي الحديث: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقى» «١». وقال أيضاً: «ثلاثة من أمر الجاهلية الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والدعاء بدعاء الجاهلية» «٢» أو كما قال صلّى الله عليه وسلم.
وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ، الشعوب: رؤوس القبائل، مثل ربيعة ومضر، والأوس والخزرج، واحدها:
شَعب- بفتح الشين، سُمُّوا بذلك لتشعُّبهم كتشعُّب أغصان الشجرة، والقبائل: دون الشعوب، واحدها: قبيلة، كبَكر من ربيعة، وتميم من مضر. ودون القبائل: العمائر، جمع عَمارة بفتح العين، وهم كشيبان من بكر، ودارم من تميم،
(١) أخرجه مطولا: البيهقي فى الشعب (ح ٥١٣٧) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(٢) ذكره الهيثمي فى المجمع (٣/ ١٦) بنحوه، وعزاه للطبرانى فى الكبير. عن سلمان مرفوعا، وقال: «فيه عبد الغفور أبو الصباح، وهو ضعيف».
434
ودون العمائر: البطون، واحدها: بطن، وهي كبني غالب ولؤي من قريش، ودون البطون: الأفخاذ، واحدها: فَخْذ، كهاشم وأمية من بني لؤي، ثم الفصائل والعشائر، واحدها: فصيلة وعشيرة، فالشعب تجمع القبائل، والقبيلة تجمع العمائر، والعَمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ يجمع الفصائل «١». وقيل: الشعوب من العجم، والقبائل من العرب، والأسباط من بني إسرائيل. لِتَعارَفُوا أي: إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضُكم نسبَ بعض، فلا يتعدّى إلى غير آبائه، لا لتتفاخروا بالأجداد والأنساب.
ثم ذكر الخصلة التي يفضل بها الإنسان، ويكتسب الشرفَ والكرمَ عند الله، فقال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ أي: لا أنسبكم، فإنَّ مدار كمال النفوس وتفاوت الأشخاص هو التقوى، فمَن رام نيل الدرجات العلا فعليه بالتقوى، قال صلّى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّهُ أنْ يَكُونَ أكْرَم النَّاسِ فَلْيَتقِ الله» «٢» وروى أنه صلّى الله عليه وسلم طاف يوم فتح مكة، ثم حمد الله، وأثنى عليه، وقال: «الحمْدُ للهِ الَّذِي أذهب [عُبِّيَّةَ] «٣» الجاهلية وتكبُّرها يا أيها الناس إِنما الناس رجلان رجل مؤمن تَقيّ كريمٌ على الله، ورجل فاجر شقي هَيِّن على الله» ثم قرأ الآية «٤».
وعن ابن عباس- رضي الله عنهما: كرم الدنيا الغنى، وكرم الآخرة التقى. وقال قتادة: أكرم الكرم التقى، والأمُ اللؤم الفجور، وسُئل عليه السلام عن خير الناس؟ فقال: «آمرُكم بالمعروف، وأنهاكم عن المنكر، وأوصلكم للرحم» وقال عمر رضي الله عنه: «كرم الرجل: دينه وتقواه، وأصله: عقله، ومروءته: خُلقه، وحَسَبُه: ماله» «٥».
وعن يزيد بن شَجَرَةَ: مرّ رسولُ الله ﷺ في سوق المدينة، فرأى غلاماً أسود، قائماً يُنادَى عليه مَن يزيد في ثمنه، وكان الغلام يقول: مَن اشتراني فعلى شرط ألاَّ يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتراه
(١) وقد نظمها بعض الأدباء، فقال:
اقصد الشعب فهو أكثر حى عددا فى الحواء ثم القبيلة
ثم تتلوها العمارة ثم ال بطن والفخذ بعدها والفصيلة
ثم من بعدها العشيرة لكن هى فى جنب ما ذكرناه قليله
(٢) أخرجه الحاكم (٤/ ٢٧٠) والطبراني فى الكبير (١٠/ ٣٨٩) وأبو نعيم فى الحلية (٣/ ٢١٨) عن ابن عباس رضي الله عنه.
(٣) فى الأصول [غيبة] أما عن معناها، فقال ابن الأثير: يعنى الكبر، وتضم عينها وتكسر، وهى فعّولة أو فعّيلة، فإن كانت «فعّولة» فهى من التّعبية، لأن المتكبر ذو تكلف وتعبية، خلاف من يسترسل على سجيته، وإن كانت «فعّلية» فهى من عباب الماء، وهو أوله وارتفاعه. انظر النّهاية (عبب ٣/ ١٦٩)..
(٤) أخرجه بطوله الترمذي فى (التفسير سورة الحجرات، ح ٣٢٧٠)، والبغوي فى تفسيره (٧/ ٣٤٨) وفى شرح السنة (١٣/ ١٢٤) من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
(٥) أخرجه ابن أبى شيبة (٨/ ٥٢٠) والبيهقي فى السنن (١٩٥/ ١٠) من قول سيدنا عمر، موقوفا، بلفظ «حسب الرّجل دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله، وأخرج الإمام مالك فى الموطأ (ص ٤٦٣) عن سيدنا عمر موقوفا: «الكرم التقوى، والحسب والمال... »، وأخرج أحمد (٢/ ٣٦٥) والحاكم (١/ ١٢٣) والبيهقي فى السنن (٧/ ١٣٦) وابن حبان (إحسان- ٤٨٣) والقضاعي فى مسند الشهاب (١٩٠) عن أبى هريرة، مرفوعا: «كرم المرء دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه» قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم».
435
بعضهم، فعادَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم تُوفي، فتولى رسولُ الله ﷺ غُسله وتكفينَه ودفنَه، فقالت المهاجرون: هاجرنا ديارنا وأموالنا وأهلينا، فما نرى أحداً منا لقي في حياته ولا موته ما لقي هذا الغلام، وقالت الأنصار: آويناه ونصرناه وواسيناه بأموالنا، فآثر علينا عبداً حبشيّاً، فنزلت «١».
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلَى صُوَرِكُم، ولاَ إلى أموالكم، ولكن يَنظُرُ إلَى قُلوبِكُم وأعمَالِكُم، وإنما أنتم بنو آدم، أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ، وأنتم تقولون: فلان بن فلان، وأنا اليوم أرفَع نسبي وأضع أنسابكم، أين المتقون» «٢». وقِيلَ:
يا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أكرمُ الناس؟ قال: «أتقاهم» «٣». هـ وأنشدوا:
مَا يَصْنع الْعَبدُ بعِزّ الْغِنَى وَالْعِزُّ كُلُّ العزِّ للمُتَّقِي
مَنْ عرف الله فلم تُغنِه مَعرفةُ الله فذاك الشَّقِي
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ، عليم بكرم القلوب وتقواها، خبير بهمم النفوس في هواها.
الإشارة: كان سيدنا عليّ رضي الله عنه يقول: «ما لابن آدم والفخر، أوله نُطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وفيما بينهما يحمل العذرة» وكان يُنشد:
الناسُ من جِهة التمثيل أَكْفاءُ أَبوهم آدمٌ والأم حوّاءٌ
ومَن يَرْمِ منهُم فَخْراً بذي نَسب فإن أصْلَهُم الطِّينُ والماءُ
مَا الفَخْرُ إِلاَّ لأَهْلِ العِلْمِ إِنَّهُمُ عَلَى الهُدَى لَمن اهتدى أدلاَّءُ
وَقَدْرُ كل امرئ مَا كَانَ يُتْقِنُهُ والجَاهِلُون لأَهْلِ العلْمٍ أَعْدَاءُ «٤»
(١) ذكره الواحدي فى أسباب النّزول (ص ٤١١- ٤١٢) بدون إسناد.
(٢) أخرجه إلى قوله: «وأعمالكم» مسلم فى (البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله، رقم ٢٥٦٤، ح ٣٤) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه. والجزء الثاني جاء فى حديث، لفظه: «إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادى: ألا إنى جعلت نسبا وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان خير من فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبى وأضع نسبكم، أين المتقون؟» الحديث أخرجه الطبراني فى الأوسط (ح ٤٥١١) والصغير (٦٣٤) وبنحوه البيهقي فى الشعب (ح ٥١٣٩) عن أبى هريرة رضي الله عنه.
(٣) بعض حديث أخرجه البخاري فى (التفسير، سورة يوسف، باب: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ ح ٤٦٨٩) ومسلم فى (الفضائل، باب من فضائل يوسف عليه السّلام رقم ٢٣٧٨) عن أبى هريرة رضي الله عنه. ولفظ البخاري: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النّاس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم» ولفظ مسلم نحوه.
(٤) هكذا فى الأصول، وانظر ديوان «الإمام علىّ» جمع وضبط «نعيم زرزور» (ص ٥- ٦) وتفسير القرطبي (٧/ ٦٣٤٧) وإتحاف السادة المتقين (١/ ٨٨) فقد جاءت الأبيات فيها بأتم من هنا مع اختلاف.
436
وقوله: مالفخر إلا لأهل العلم.. الخ، يعني: لو كان الفخر مباحاً ما أُبيح إلاّ لهم، وإلا فهم أولى بالتواضع، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال: «مَن تواضعَ دُون قَدْره رَفَعهُ الله فوقَ قَدْره» «١» فما رفع اللهُ قدر العلماء إلا بتواضعهم حتى ينالهم الشريفُ والوضيع، والصغير والكبير، والقوي والضعيف، فمَن لم يكن هكذا فليس بعالم لأنّ الخشية تحمل على التواضع، ومَن لم يخشَ فليس بعالم حقيقة. قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «٢».
وقوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ، اعلم أنَّ نصيب كل عبد منَّ الله تعالى على قدر تقواه، وتقواه على قدر توجهه إلى الله، وتوجهه على قدر تفرُّغه من الشواغل، وتفرُّغه على قدر زهده، وزهده على قدر محبته ومحبته على قدر علمه بالله، وعلمه على قدر يقينه، ويقينه على قدر كشف الحجاب عنه، وكشف الحجاب على قدر جذب العناية، وجذب العناية على قدر السابقة، وهي سر القدر الذي لم يُكشف في هذه الدار. وسقوط العبد من عين الله على قدر قلة تقواه، وقلة تقواه على قدر ضعف توجهه، وضعف توجهه على قدر تشعُّب همومه، وتشعُّب همومه على قدر حرصه ورغبته في الدنيا، ورغبته في الدنيا على قدر ضعف محبته في الله، وضعف محبته على قدر جهله به، وجهله على قدر ضعف يقينه، وضعف اليقين من كثافة الحجاب، وكثافة الحجاب من عدم جذب العناية، وعدم جذب العناية من علامة الخذلان السابق، الذي هو سر القدر. والله تعالى أعلم.
ثم إنّ أساس التقوى: الإيمان الصادق دون الكاذب، الذي أشار إليه بقوله:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١٤ الى ١٥]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)
يقول الحق جلّ جلاله: قالَتِ الْأَعْرابُ أي: بعض الأعراب آمَنَّا، نزلت في نفر من بني أسد، قدِموا المدينةَ في سنة جدبة، فأَظْهَروا الإسلام، ولم يُؤمنوا في السر، وأفْسَدوا طرق المدنية بالعذرات، وأغلوا
(١) لم أقف عليه بهذا اللفظ، وأخرج أحمد فى المسند (٣/ ٣٦) وابن ماجه فى (الزهد ٣/ ٢/ ١٣٩٨، ح ٤١٧٦) عن أبي سعيد الخدري، قال: قال صلّى الله عليه وسلم: «من يتواضع لله سبحانه درجة يرفعه الله به درجة، ومن يتكبر على الله درجة، يضعه الله به درجة، حتى يجعله فى أسفل سافلين».
(٢) الآية ٢٨ من سورة فاطر.
437
أسعارها، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، وهم يريدون الصدقة، ويقولون: أعطنا، ويمنّون بإسلامهم «١».
قُلْ لهم: لَمْ تُؤْمِنُوا لم تُصدّقوا بقلوبكم وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا، فالإيمان هو التصديق بالقلب مع الإذعان به، والإسلام هو الدخول في السِّلْم، والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين ألا ترى إلى قوله: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ فهو يدل على أنَّ مجرد النطق بالشهادتين ليس بإيمان، فتحصَّل أن ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة للقلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلبُ اللسانَ فهو إيمان، وهذا من حيث اللغة، وأما في الشرع فهما متلازمان، فلا إسلام إلا بعد إيمان، ولا إيمان إلا بعد النطق بالشهادة إلا لعذر.
والتعبير ب «لمّا» يدل على أن الإيمان متوقَّع من بعضهم وقد وقع. فإن قلت: مقتضى نظم الكلام أن يقول: قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا، أو: قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم؟ قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أولاً، فقيل: قل لم تؤمنوا، مع حسن أدب، فلم يقل: كذبتم صريحاً، ووضع «لم تؤمنوا» الذي هو نفس ما ادَّعوا إثباته موضعه، واستغنى بقوله: لَمْ تُؤْمِنُوا عن أن يقال: لا تقولوا آمنا لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤداه النهي عن القول بالإيمان، ولم يقل: ولكن أسلمتم ليكون قولهم خارجاً مخرج الزعم والدعوى، كما كان قولهم: «آمنا» كذلك، ولو قيل: ولكن أسلمتم لكان كالتسليم، والاعتداد بقولهم، وهو غير معتدّ به.
وليس قوله: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ تكريراً لمعنى قوله: لَمْ تُؤْمِنُوا فإنّ فائدة قوله: لَمْ تُؤْمِنُوا تكذيب دعواهم، وقوله: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ توقيت لما أُمروا به أن يقولوه، كأنه قيل لهم: ولكن قولوا أسلمنا حين لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في «قولوا». قاله النسفي.
وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بالإخلاص وترك النفاق لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً من أجورها. يقال:
ألَت يألِتُ «٢»، وألات يُليت، ولات يلِيت، بمعنى، وهو النقص، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لِمَا فرط من الذنوب، رَحِيمٌ يستر العيوب.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يَشُكُّوا، من: ارتاب، مضارع رابه: إذا أوقعه في الشك والتُهمة، والمعنى: أنهم آمنوا ثم لم يقع في إيمانهم شك فيما آمنوا، ولا اتهام لمَن صدّقوه، ولمّا كان الإيقان
(١) ذكره الواحدي فى أسباب النّزول (ص ٤١٢) والبغوي فى التفسير (٧/ ٣٤٩) بدون إسناد، وعزاه ابن كثير فى التفسير (٤/ ٢١٩- ٢٢) للبزار، عن ابن عباس رضي الله عنه. [.....]
(٢) بضم اللام وكسرها، انظر البحر المحيط (٨/ ١٠٤).
438
وزوال الريب ملاك الإيمان أُفرد بالذكر بعد تقدُّم الإيمان، تنبيهاً على عُلو مكانه، وعُطف على الإيمان بثمّ إشعاراً باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضّاً جديداً. وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي:
جاهَدوا ما ينبغي جهاده من الكفار والأنفس والهوى، بالإعانة بأموالهم، والمباشرة بأنفسهم في طلب رضا الله.
أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي: الذين صدقوا فى قولهم: آمنا، لم يُكذِّبوا كما كذَّب أعرابُ بني أسد بل إيمانهم إيمان صِدق وحق. والله تعالى أعلم.
الإشارة: مذهب الصوفية: أن العمل إذا كان حدّه الجوارح الظاهرة يُسمى مقام الإسلام، وإذا انتقل لتصفية البواطن بالرياضة والمجاهدة يُسمى مقام الإيمان، وإذا فتح على العبد بأسرار الحقيقة يُسمى مقام الإحسان، وقد جعل الساحلي مقامَ الإسلام مُركّباً من ثلاثة التوبة والتقوى والاستقامة، والإيمانَ مُركباً من الإخلاص والصدق والطمأنينة، والإحسانَ مُركّباً من المراقبة والمشاهدة والمعرفة، ولكلٍّ زمان ورجال تربية واصطلاح في السير، والمقصد واحد، وهو المعرفة العيانية.
قال القشيري: الإيمان هو حياة القلوب، والقلوب لا تحيا إلا بعد ذبح النّفوس، والنّفوس لا تموت، ولكنها تغيب. هـ. أي: المقصود بقتل النفوس هو الغيبة عنها في نور التجلِّي، فإذا وقع الفناء في شهود الحق عن شهود الخلق فلا مجاهدة. وقال القشيري في مختصره: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا... الخ، يُشير إلى أنّ حقيقة الإيمان ليست مما يتناول باللسان، بل هو نور يدخل القلوب، إذا شرح الله صدر العبد للإسلام كما قال تعالى: فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ «١»، وقال عليه السلام في صفة ذلك النور: «إنّ النور إذا وقع في القلب انفسح له واتسع»، قالوا: يا رسول الله هل لذلك النور من علامة؟ قال: «بلى التَّجَافي عَن دَارِ الغُرُورِ، والإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ، والاستِعدَادُ للمَوتِ قَبل نُزُولهِ» «٢». لهذا قال تعالى: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي: نور الإيمان. هـ.
(وإن تطيعوا الله ورسوله) في الأوامر والنواهي بعد ذبح النفوس بسيف الصدق (لا يلتكم عن أعمالكم شيئاً) بل كل ما تتقربون به إلى الله من مجاهدة النفوس ترون جزاءه عاجلاً، من كشف غطاء، وحلاوة شهود، إن الله غفور
(١) من الآية ٢٢ من سورة الزمر.
(٢) أخرجه الحاكم (٤/ ٣١١) والبيهقي فى الشعب (ح ١٠٥٥٢) وابن أبى شيبة فى مصنفه (الزهد، باب ٦، ح ١٤) والبغوي فى التفسير (٧/ ١١٤- ١١٥) وابن جرير (٨/ ٢٧) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، «والحديث سكت عند الحاكم، وتعقبه الذهبي» ورواه البيهقي فى الأسماء (ص ١٥٦) وقال: «هذا منقطع» وابن المبارك فى الزهد (رقم ٣١٥، ص ١٠٦) عن أبى جعفر المدائني، مرسلا، ورواه بنحوه الحكيم الترمذي فى النّوادر (الأصل السادس والثمانين) من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وقد ذكر ابن كثير (٢/ ١٧٦) لهذا الحديث طرقا كثيرة، متصلة ومرسلة، ومال إلى تقويته لتعدد طرقه.
439
لمَن وقع له فتور، رحيم بمَن وقع منه نهوض، (إِنما المؤمنون الذين آمنوا بالله) وشاهَدوا أنواره وأسراره، (ورسولِهِ) حيث عرفوا حقيقته النورانية الأولية، (ثم لم يرتابوا) لم يخطر على بالهم خواطر سوء، ولا شكوك فيما وعد الله من الرزق وغيره لأنَّ حجاب نفوسهم قد زال عنهم، فصار الغيب شهادة، والخبر عياناً، والتعبير ب «ثم» يقتضي تأخُّر تربية اليقين شيئاً فشيئاً حتى يحصل التمكين في مقامات اليقين، مع التمكين في مقام الشهود والعيان.
ثم ذكر سبب إزاحة الشكوك عنهم بقوله: (وجاهَدوا بأموالهم) حيث بذلوها لله (وأنفسِهم) حيث جاهدوها في طلب الله (أولئك هم الصادقون) في طلب الحق، فظفروا بما أمّلوا، وربحوا فيما به تجروا. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
ثم ردّ على مَن منّ على الله بدينه، فقال:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١٦ الى ١٨]
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي: أتُخبرونه بذلك بقولكم آمنّا؟ رُوي أنه لمّا نزل قوله: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا جاؤوا يحلفون إنهم لصادقون فأكذبهم الله بقوله: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ.. «١» الخ. والتعبير عنه بالتعليم لغاية تشنيعهم، كأنهم وصفوه تعالى بالجهل. قال الهروي: و «علَّمت» و «أعلمت» في اللغة بمعنى واحد، وفي القاموس: وعلّمه العلم تعليماً، وأعلمه إياه فتعلّمه. هـ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فلا يحتاج إلى إعلام أحد، وهو حال مؤكدة لتشنيعهم، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي: مبالغ في العلم بجميع الأشياء، التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند أظهارهم الإيمان.
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أي: يعدون إسلامهم مِنّة عليك، ف «أن» نصب على نزع الخافض، والمَنُّ: ذكر النعمة على وجه الافتخار. وقال النسفي: هو ذكر الأيادي تعريضاً للشكر، و [نهينا] «٢» عنه. هـ. فانظره.
(١) انظر تفسير القرطبي (٧/ ٦٣٥٤).
(٢) فى الأصول: «ونهيا».
440
قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي: لا تعدوا إسلامكم منةً عليَّ، فإنّ نفعَه قاصرٌ عليكم إن صح، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أي: المنة إنما هي لله عليكم أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ أي: لأن هداكم، أو: بأن هداكم للإيمان على زعمكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادّعاء الإيمان، إلاَّ أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي: إنَّ كنتم صادقين في ادعائكم الإيمان فلله المنّة عليكم.
وفي سياق النظم الكريم من اللُطف ما لا يخفى فإنهم لمّا سَموا ما في صدورهم إيماناً، ومَنُّوا به، نفى تعالى كونه إيماناً، وسمّاه إسلاماً، كأنه قيل: يمنون عليك بما هو في الحقيقة إسلام وليس بإيمان، بل لو صحّ ادّعاؤهم للإيمان فلله المنّة عليهم بالهداية إليه لا لهم.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: ما غاب فيهما، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ في سِركم وعلانيتكم، وهذا بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم، يعني: الله تعالى يعلم كل مستتر في العالَم، ويُبصر كل عمل تعملونه فى سركم وعلانيتكم، لا يخفى عليه منه شيء، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم. قال الورتجبي:
ليس لله غيب، إذ الغيب شيء مستور، وجميع الغيوب عِيان لله- تعالى- وكيف يغيب عنه وهو موجده؟! يُبصرُ ببصره القديم ما كان وما لم يكن، وهناك العلم والبصر واحد. هـ. قوله: «العلم والبصر واحد» هذا على مذهب الصوفية في أن بصره يتعلق بالمعدوم، كما يتعلق به العلم، ومذهب علماء الكلام: أن متعلق البصر خاص بالموجودات، فمتعلق العلم أوسع. وانظر حاشية الفاسي على الصغرى.
الإشارة: كل مَن تمنى أن يعلم الناسُ ما عنده من العلم والسر يُقال له: أتُعلِّمون الله بدينكم، والله يعلم ما في سموات القلوب والأرواح من السر واليقين، وما في أرض النفوس من عدم القناعة بعلم الله، والله بِكُلِّ شَيْءٍ عليم.
وفي الحِكَم: «استشرافك أن يعلم الناس بخصوصِيَّتِكَ دليل على عدم صدقك في عبوديتك» «١». وكل مَن غلب عليه الجهل حتى مَنَّ على شيخِه بصُحبته له، أو بما أعطاه، يقال في حقه: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا.. الآية.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قال القشيري: فمَن لاحَظَ شيئاً من أعماله وأحواله فإن رآها من نفسه كان شِركاً، وإن رآها لنفسه كان مكراً، وإن رآها من ربه بربه كان توحيداً. وفقنا الله لذلك بمنِّه وجوده. هـ.
وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
(١) حكمة رقم ١٦١ انظر تبويب الحكم للمتقى الهندي (ص ١١).
441
Icon