تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
.
لمؤلفه
ابن عجيبة
.
المتوفي سنة 1224 هـ
ﰡ
سورة الحجرات
مدنية. وهى ثمانى عشرة آية. ومناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لمّا مدح الصحابة، وبشّرهم بالمغفرة علّمهم الأدب لأنه من أعظم أسباب المغفرة والقرب، فقال:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١ الى ٣]
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، تصدير الخطاب بالنداء، تنبيهُ المخاطبين على أنّ ما في حيّزه أمر خطير يستدعي اعتنائهم بشأنه، وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم، والإيذان بأنه داع إلى المحافظة عليه ووازع عن الإخلال به، لا تُقَدِّمُوا أي: لا تفعلوا التقديم، على ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل من غير اعتبار تعلقه بأمرٍ من الأمور، على طريقة قولهم: فلان يعطي ويمنع، أو:
لا تُقدّموا أموراً من الأمور، على حذف المفعول، للعموم، أو: يكون التقديم بمعنى التقدُّم، من «قدّم» اللازم، ومنه:
مقدمة الجيش، للجماعة المتقدَّمة، ويؤيده قراءة مَن قرأ: (لا تَقدَّموا) «١» بحذف أحدى التاءين، أي: لا تتقدموا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أي: لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكما به، وحقيقة قولك: جلست بين يدي فلان: أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه، فسُميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما، توسعاً، كما يُسمّى الشيء باسم غيره إذا جاوره.
مدنية. وهى ثمانى عشرة آية. ومناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لمّا مدح الصحابة، وبشّرهم بالمغفرة علّمهم الأدب لأنه من أعظم أسباب المغفرة والقرب، فقال:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، تصدير الخطاب بالنداء، تنبيهُ المخاطبين على أنّ ما في حيّزه أمر خطير يستدعي اعتنائهم بشأنه، وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم، والإيذان بأنه داع إلى المحافظة عليه ووازع عن الإخلال به، لا تُقَدِّمُوا أي: لا تفعلوا التقديم، على ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل من غير اعتبار تعلقه بأمرٍ من الأمور، على طريقة قولهم: فلان يعطي ويمنع، أو:
لا تُقدّموا أموراً من الأمور، على حذف المفعول، للعموم، أو: يكون التقديم بمعنى التقدُّم، من «قدّم» اللازم، ومنه:
مقدمة الجيش، للجماعة المتقدَّمة، ويؤيده قراءة مَن قرأ: (لا تَقدَّموا) «١» بحذف أحدى التاءين، أي: لا تتقدموا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أي: لا تقطعوا أمراً قبل أن يحكما به، وحقيقة قولك: جلست بين يدي فلان: أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه، فسُميت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما، توسعاً، كما يُسمّى الشيء باسم غيره إذا جاوره.
(١) وهى قراءة يعقوب، أحد القراء العشرة. انظر الإتحاف (٢/ ٤٨٥). [.....]
413
وفي هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يُسمى تمثيلاً، وفيه فائدة جليلة، وهي: تصوير الهُجْنَةِ والشناعة فيما نُهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة. ويجوز أن يجري مجرى قولك:
سرَّني زيد وحُسْنُ ماله، فكذلك هنا المعنى: لا تُقدِّموا بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم. وفائدة هذا الأسلوب: الدلالة على قوة الاختصاص، ولمَّا كان رسول الله ﷺ من الله بالمكان الذي لا يخفى سلك به هذا المسلك، وفي هذا تمهيد لما نُقِم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته لأن مَن فضَّله الله بهذه الأَثْرة، واختصه بهذا الاختصاص، كان أدنى ما يجب له من التهيُّب والإجلال: إن لا يُرفع صوتٌ بين يديه، ولا يُقطع أمر دونه، فالتقدمُ عليه تَقَدمٌ على الله لأنه لا ينطق عن الهوى، فينبغى الاقتداء بالملائكة حيث قيل فيهم: لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ... الخ «١».
قال عبد الله بن الزبير: قَدِمَ وفد من تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو بكر: لو أمَّرت عليهم القعقاع بن معبد، وقال عمر: يا رسول الله بل أَمِّر الأقرعَ بن حابس فقال أبو بكر: ما أردتُ إلا خلافي، وقال عمر: ما أردتُ خِلافَك، وارتفعت أصواتهما، فنزلت «٢». فعلى هذا يكون المعنى: لا تُقَدِّموا وُلاةً، والعموم أحسن كما تقدّم. وعبارة البخاري: «وقال مجاهد: (لا تقدموا) لا تَفْتاتُوا على رسول الله ﷺ حتى يَقضي اللهُ- عزّ وجل- على لسانه» «٣».
وعن الحسن: أن ناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة، فنزلت، فأمرهم رسولُ الله ﷺ أن يعيدوا «٤»، وعن عائشة:
أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك «٥».
وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وتذرون من الأحوال والأفعال، التي من جملتها ما نحن فيه، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بأفعالكم، فمن حقِّه أن يُتَّقى ويُراقَب.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي صلى الله عليه وسلم، بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل، وإعادة النداء مع قرب العهد للمبالغة في الإيقاظ والتنبيه، والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه أي: لا تبلغوا بأصواتكم وراء حدٍّ يبلغه
سرَّني زيد وحُسْنُ ماله، فكذلك هنا المعنى: لا تُقدِّموا بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم. وفائدة هذا الأسلوب: الدلالة على قوة الاختصاص، ولمَّا كان رسول الله ﷺ من الله بالمكان الذي لا يخفى سلك به هذا المسلك، وفي هذا تمهيد لما نُقِم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته لأن مَن فضَّله الله بهذه الأَثْرة، واختصه بهذا الاختصاص، كان أدنى ما يجب له من التهيُّب والإجلال: إن لا يُرفع صوتٌ بين يديه، ولا يُقطع أمر دونه، فالتقدمُ عليه تَقَدمٌ على الله لأنه لا ينطق عن الهوى، فينبغى الاقتداء بالملائكة حيث قيل فيهم: لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ... الخ «١».
قال عبد الله بن الزبير: قَدِمَ وفد من تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال أبو بكر: لو أمَّرت عليهم القعقاع بن معبد، وقال عمر: يا رسول الله بل أَمِّر الأقرعَ بن حابس فقال أبو بكر: ما أردتُ إلا خلافي، وقال عمر: ما أردتُ خِلافَك، وارتفعت أصواتهما، فنزلت «٢». فعلى هذا يكون المعنى: لا تُقَدِّموا وُلاةً، والعموم أحسن كما تقدّم. وعبارة البخاري: «وقال مجاهد: (لا تقدموا) لا تَفْتاتُوا على رسول الله ﷺ حتى يَقضي اللهُ- عزّ وجل- على لسانه» «٣».
وعن الحسن: أن ناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة، فنزلت، فأمرهم رسولُ الله ﷺ أن يعيدوا «٤»، وعن عائشة:
أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك «٥».
وَاتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وتذرون من الأحوال والأفعال، التي من جملتها ما نحن فيه، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بأفعالكم، فمن حقِّه أن يُتَّقى ويُراقَب.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي صلى الله عليه وسلم، بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل، وإعادة النداء مع قرب العهد للمبالغة في الإيقاظ والتنبيه، والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه أي: لا تبلغوا بأصواتكم وراء حدٍّ يبلغه
(١) من الآية ٢٧ من سورة الأنبياء.
(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير، باب إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ح ٤٨٤٧).
(٣) ذكره البخاري فى (التفسير، سورة الحجرات). وأخرجه الطبري (٢٦/ ١١٦).
(٤) أخرجه الطبري (٢٦/ ١١٧). وعزاه السيوطي فى الدر (٦/ ٨٦) لابن أبى الدنيا فى الأضاحى.
(٥) عزاه السيوطي فى الدر (٦/ ٨٦) لابن النّجار فى تاريخه، والطبراني فى الأوسط، وابن مردويه.
هذا، وما ذكره المفسر عن السيدة عائشة والحسن إنما هو داخل فى عموم الآية، لا أنه سبب النّزول لأن ما ذكر عن السيدة عائشة والحسن مخالف للرواية الصحيحة الواردة فى سبب النّزول، والتي أخرجها البخاري.
(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير، باب إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ح ٤٨٤٧).
(٣) ذكره البخاري فى (التفسير، سورة الحجرات). وأخرجه الطبري (٢٦/ ١١٦).
(٤) أخرجه الطبري (٢٦/ ١١٧). وعزاه السيوطي فى الدر (٦/ ٨٦) لابن أبى الدنيا فى الأضاحى.
(٥) عزاه السيوطي فى الدر (٦/ ٨٦) لابن النّجار فى تاريخه، والطبراني فى الأوسط، وابن مردويه.
هذا، وما ذكره المفسر عن السيدة عائشة والحسن إنما هو داخل فى عموم الآية، لا أنه سبب النّزول لأن ما ذكر عن السيدة عائشة والحسن مخالف للرواية الصحيحة الواردة فى سبب النّزول، والتي أخرجها البخاري.
414
صوته صلّى الله عليه وسلم، بل يكون كلامه عالياً لكلامكم، وجهره باهراً لجهركم، حتى تكون مزيّته عليكم لائحةً، وسابقته لديكم واضحة.
وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ إذا كلّمتموه كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي: جهراً كائناً كالجهر الجاري فيما بينكم، بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته، واختاروا في مخاطبته القول اللين القريب من الهمس، كما هو الدأب في مخاطبة المهابِ المُعظّم، وحافظوا على مراعاة هيبة النبوة وجلالة مقدارها. وقيل: معنى: لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ: لا تقولوا: يا محمد، يا أحمد، بل: يا رسول الله. يا نبي الله، ولمَّا نزلت هذه الآية ما كلّم رسول الله ﷺ أبو بكر إلا كأخي السِّرار «١».
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنها نزلت فى ثبات بن قيس بن شماس، وكان في أذنيه وَقْر، وكان جَهْوَريَّ الصوت، وكان إذا تكلم رفع صوته، وربما كان يكلّم النبيَّ ﷺ فيتأذّى من صوته. هـ. والصحيح ما تقدّم. وفي الآية أنهم [لم] «٢» يُنهوا عن الجهر مطلقاً، وإنما نُهوا عن جهرٍ مخصوص، أي: الجهر المنعوت بمماثلة ما اعتادوه فيما بينهم، وهو الخلوّ عن مراعاة هيبة النبوة، وجلالة مقدارها.
وقوله: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ مفعول من أجله، أي: لا تجهروا خشية أن تحبط أعمالكم، وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ فإنَّ سوء الأدب ربما يؤدي بصاحبه إلى العطب وهو لا يشعر. ولمّا نزلت الآية جلس ثابت بن قيس في بيته ولم يخرج، فتفقّده صلّى الله عليه وسلم، فدعاه فسأله، فقال: يا رسول الله لقد أُنزلت عليك هذه الآية، وإني رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لست هناك، تعيش بخير، وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة» «٣».
وأما ما يُروى عن الحسن: أنها نزلت في المنافقين، الذي كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوته صلّى الله عليه وسلم فقد قيل:
محْمله: أنّ نهيهم مندرج تحت نهي المؤمنين بدليل النص.
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أي: يخفضون أصواتهم في مجلسه، تعظيماً له، وانتهاء عما نهوا عنه، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي: أخلصها وصفَّاها، من قولهم: امتحن الذهب وفَتَنه: إذا أذابه، وفي القاموس: محنَه، كمنعه: اختبره، كامتحنه، ثم قال: وامتحن القول: نَظَرَ فيه ودبّره، والله قلوبَهم: شرحها ووسّعها، وفي الأساس: ومن المجاز: محنَ الأديمَ: مدّده حتى وسعه، وبه فسّر قوله تعالى:
وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ إذا كلّمتموه كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي: جهراً كائناً كالجهر الجاري فيما بينكم، بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته، واختاروا في مخاطبته القول اللين القريب من الهمس، كما هو الدأب في مخاطبة المهابِ المُعظّم، وحافظوا على مراعاة هيبة النبوة وجلالة مقدارها. وقيل: معنى: لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ: لا تقولوا: يا محمد، يا أحمد، بل: يا رسول الله. يا نبي الله، ولمَّا نزلت هذه الآية ما كلّم رسول الله ﷺ أبو بكر إلا كأخي السِّرار «١».
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أنها نزلت فى ثبات بن قيس بن شماس، وكان في أذنيه وَقْر، وكان جَهْوَريَّ الصوت، وكان إذا تكلم رفع صوته، وربما كان يكلّم النبيَّ ﷺ فيتأذّى من صوته. هـ. والصحيح ما تقدّم. وفي الآية أنهم [لم] «٢» يُنهوا عن الجهر مطلقاً، وإنما نُهوا عن جهرٍ مخصوص، أي: الجهر المنعوت بمماثلة ما اعتادوه فيما بينهم، وهو الخلوّ عن مراعاة هيبة النبوة، وجلالة مقدارها.
وقوله: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ مفعول من أجله، أي: لا تجهروا خشية أن تحبط أعمالكم، وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ فإنَّ سوء الأدب ربما يؤدي بصاحبه إلى العطب وهو لا يشعر. ولمّا نزلت الآية جلس ثابت بن قيس في بيته ولم يخرج، فتفقّده صلّى الله عليه وسلم، فدعاه فسأله، فقال: يا رسول الله لقد أُنزلت عليك هذه الآية، وإني رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال له صلى الله عليه وسلم: «لست هناك، تعيش بخير، وتموت بخير، وإنك من أهل الجنة» «٣».
وأما ما يُروى عن الحسن: أنها نزلت في المنافقين، الذي كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوته صلّى الله عليه وسلم فقد قيل:
محْمله: أنّ نهيهم مندرج تحت نهي المؤمنين بدليل النص.
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أي: يخفضون أصواتهم في مجلسه، تعظيماً له، وانتهاء عما نهوا عنه، أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي: أخلصها وصفَّاها، من قولهم: امتحن الذهب وفَتَنه: إذا أذابه، وفي القاموس: محنَه، كمنعه: اختبره، كامتحنه، ثم قال: وامتحن القول: نَظَرَ فيه ودبّره، والله قلوبَهم: شرحها ووسّعها، وفي الأساس: ومن المجاز: محنَ الأديمَ: مدّده حتى وسعه، وبه فسّر قوله تعالى:
(١) أخرجه الحاكم (٢/ ٤٦٢) «وصحّحه على شرط مسلم، وأقره الذهبي»، والبيهقي فى الشعب (رقم ١٥٢٠ و ١٥٢١) عن أبى هريرة رضي الله عنه.
(٢) فى الأصول: [لن].
(٣) أخرجه بمعناه البخاري فى (المناقب، باب علامات النّبوة فى الإسلام ح ٣٦١٣) ومسلم فى (الإيمان، باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله، رقم ١٨٧ ح ١١٩) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٢) فى الأصول: [لن].
(٣) أخرجه بمعناه البخاري فى (المناقب، باب علامات النّبوة فى الإسلام ح ٣٦١٣) ومسلم فى (الإيمان، باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله، رقم ١٨٧ ح ١١٩) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
415
امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أي: شرحها ووسعها، لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أي: مغفرة لذنوبهم، وأجر عظيم: نعيم الجنان.
الإشارة: على هذه الآية والتي بعدها اعتمد الصوفية فيما دوَّنوه من آداب المريد مع الشيخ، وهي كثيرة أُفردت بالتأليف، وقد جمع شيخنا البوزيدى الحسنى رضي الله عنه كتاباً جليلاً جمع فيه من الآداب ما لم يُوجد في غيره، فيجب على كل مريد طالب للوصول مطالعتُه والعملُ بما فيه.
والذي يُؤخذ من الآية: أنه لا يتقدم بين يدي شيخه بالكلام، لا سيما إذا سأله أحدٌ، فمِن الفضول القبيح أن يسبق شيخَه بالجواب، فإنَّ السائل لا يرضى بجواب غير الشيخ، مع ما فيه من إظهار علمه، وإشهار شأنه، والتقدم على شيخه. ومن ذلك أيضاً: ألاَّ يقطع أمراً دون مشورته، ما دام تحت الحجرية، وألاَّ يتقدم أمامه في المشي إلا بإذنه، وأن يغضّ صوته عند حضوره، بل لا يتكلم إلا أن يأذن له في الكلام، ويكون بخفض صوت وتعظيم.
قلت: وما زالت أشياخنا تأمرنا بالتكلم عند المذاكرة إذ بالكلام تُعرف أحوال الرجال، وسَمِعتُ شيخ شيخنا، مولاي العربي الدرقاوي الحسني رضي الله عنه يقول: حُكّونا في المذاكرة ليظهر العلم، وكونوا معنا كما قال القائل: حك لي نربل لك، لا كما قال القائل: سَفِّجْ لي نعسل لك. هـ. لكن يكون بحثُه مع الشيخ على وجه الاسترشاد والاستعلام، من غير معارضة ولا جدال، وإلا فالسكوت أسلم.
قال القشيري: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: لا تعملوا في أمر الدين من ذات أنفسكم شيئاً، وقُفوا حيثما وُقِفْتم، وافعلوا ما به أُمِرْتُم، أي: اعملوا بالشرع لا بالطبع في طلب الحق، وكونوا من أصحاب الاقتداء والاتباع، لا من أرباب الابتداء أو الابتداع.
وقال في قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ... الآية، يُشير إلى أنه من شرط المؤمن: ألا يرى رأيَه وعقلَه واختيارَه فوق رأي النبي والشيخ، ويكون مستسلماً لرأيه، ويحفظ الأدب في خدمته وصحبته، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي: لا تخاطبوه كخطاب بعضكم لبعض، بل خاطبوه بالتعظيم والتبجيل، ولا تنظروا إليه بالعين التي تنظرون إلى أمثالكم، وإنه لحُسْن خُلقه قد يُلاعبكم، فلا تنبسطوا معه، متجاسرين عليه بما يُعاشركم من خُلقه، ولا تَبدأوه بحديث حتى يُفاتحكم، أن تحبط أعمالكم بسوء أدبكم، وأنتم لا تشعرون. إنَّ الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله وعند شيخه أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، أي:
انتزع عنها حبّ الشهوات، وصفّاها من دنس سوءِ الأخلاق، وتخلقت بمكارم الأخلاق، حتى انسلختْ من عادات البشرية «١». هـ.
الإشارة: على هذه الآية والتي بعدها اعتمد الصوفية فيما دوَّنوه من آداب المريد مع الشيخ، وهي كثيرة أُفردت بالتأليف، وقد جمع شيخنا البوزيدى الحسنى رضي الله عنه كتاباً جليلاً جمع فيه من الآداب ما لم يُوجد في غيره، فيجب على كل مريد طالب للوصول مطالعتُه والعملُ بما فيه.
والذي يُؤخذ من الآية: أنه لا يتقدم بين يدي شيخه بالكلام، لا سيما إذا سأله أحدٌ، فمِن الفضول القبيح أن يسبق شيخَه بالجواب، فإنَّ السائل لا يرضى بجواب غير الشيخ، مع ما فيه من إظهار علمه، وإشهار شأنه، والتقدم على شيخه. ومن ذلك أيضاً: ألاَّ يقطع أمراً دون مشورته، ما دام تحت الحجرية، وألاَّ يتقدم أمامه في المشي إلا بإذنه، وأن يغضّ صوته عند حضوره، بل لا يتكلم إلا أن يأذن له في الكلام، ويكون بخفض صوت وتعظيم.
قلت: وما زالت أشياخنا تأمرنا بالتكلم عند المذاكرة إذ بالكلام تُعرف أحوال الرجال، وسَمِعتُ شيخ شيخنا، مولاي العربي الدرقاوي الحسني رضي الله عنه يقول: حُكّونا في المذاكرة ليظهر العلم، وكونوا معنا كما قال القائل: حك لي نربل لك، لا كما قال القائل: سَفِّجْ لي نعسل لك. هـ. لكن يكون بحثُه مع الشيخ على وجه الاسترشاد والاستعلام، من غير معارضة ولا جدال، وإلا فالسكوت أسلم.
قال القشيري: لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ: لا تعملوا في أمر الدين من ذات أنفسكم شيئاً، وقُفوا حيثما وُقِفْتم، وافعلوا ما به أُمِرْتُم، أي: اعملوا بالشرع لا بالطبع في طلب الحق، وكونوا من أصحاب الاقتداء والاتباع، لا من أرباب الابتداء أو الابتداع.
وقال في قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ... الآية، يُشير إلى أنه من شرط المؤمن: ألا يرى رأيَه وعقلَه واختيارَه فوق رأي النبي والشيخ، ويكون مستسلماً لرأيه، ويحفظ الأدب في خدمته وصحبته، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي: لا تخاطبوه كخطاب بعضكم لبعض، بل خاطبوه بالتعظيم والتبجيل، ولا تنظروا إليه بالعين التي تنظرون إلى أمثالكم، وإنه لحُسْن خُلقه قد يُلاعبكم، فلا تنبسطوا معه، متجاسرين عليه بما يُعاشركم من خُلقه، ولا تَبدأوه بحديث حتى يُفاتحكم، أن تحبط أعمالكم بسوء أدبكم، وأنتم لا تشعرون. إنَّ الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله وعند شيخه أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، أي:
انتزع عنها حبّ الشهوات، وصفّاها من دنس سوءِ الأخلاق، وتخلقت بمكارم الأخلاق، حتى انسلختْ من عادات البشرية «١». هـ.
(١) بالمعنى
416
وقال في القوت: الوقاية مقرونة بالنصرة فإذا تولاَّه نَصَره على أعدائه، وأعْدى عدُوه نفْسُه، فإذا نَصَره عليها، أخرج الشهوة منها، فامتحنَ قلبَه للتقوى، ومحّض نفسَه، فخلّصها من الهوى.. هـ.
ثم ذكر من لم يستعمل الأدب مع الحضرة النّبوية، فقال:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٤ الى ٥]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من خارجها، أو: من خلفها، أو:
من أمامها، فالوراء: الجهةُ التي تُواري عنك الشخص تُظلّله من خلف أو من قُدّام، و «من» لابتداء الغاية، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان، والحجرة: الرقعة من الأرض، المحجورة بحائطٍ يحوط عليها، فعْلة، بمعنى مفعولة، كالقُبْضَة، والجمع: حُجُرات، بضمتين، وبفتح الجيم، والمراد: حجرات النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لكل امرأة حُجرة.
نزلت في وفد بني تميم، وكانوا سبعين، وفيهم عينيةُ بن حِصنُ الفزاري، والأقرعُ بن حابس، وفَدوا على النبي ﷺ وقت الظهيرة، وهو راقد، فنادوا رسول الله ﷺ من وراء حجراته، وقالوا: اخرجْ إلينا يا محمدُ فإنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ، وذمّنا شيْن، فاستيقظ، وخرج عليه السلام وهو يقول: «ذلكم الله الذي مدحُه زين، وذمّه شين»، فقالوا: نحن قوم من بني تميم، جئنا بشاعرنا وخطيبنا، لنشاعرك، ونفاخرك، فقال صلّى الله عليه وسلم: «ما بالشعر بُعثت، ولا بالفخار أُمرت»، ثم أمر صلّى الله عليه وسلم خطيبهم فتكلّم، ثم قال لثابت بن قيس بن شماس- وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم: قم، فقام، فخطب، فأقحم خطيبَهم، ثم قام شاب منهم، فأنشأ يقول:
ثم ذكر من لم يستعمل الأدب مع الحضرة النّبوية، فقال:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٤ الى ٥]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من خارجها، أو: من خلفها، أو:
من أمامها، فالوراء: الجهةُ التي تُواري عنك الشخص تُظلّله من خلف أو من قُدّام، و «من» لابتداء الغاية، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان، والحجرة: الرقعة من الأرض، المحجورة بحائطٍ يحوط عليها، فعْلة، بمعنى مفعولة، كالقُبْضَة، والجمع: حُجُرات، بضمتين، وبفتح الجيم، والمراد: حجرات النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لكل امرأة حُجرة.
نزلت في وفد بني تميم، وكانوا سبعين، وفيهم عينيةُ بن حِصنُ الفزاري، والأقرعُ بن حابس، وفَدوا على النبي ﷺ وقت الظهيرة، وهو راقد، فنادوا رسول الله ﷺ من وراء حجراته، وقالوا: اخرجْ إلينا يا محمدُ فإنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ، وذمّنا شيْن، فاستيقظ، وخرج عليه السلام وهو يقول: «ذلكم الله الذي مدحُه زين، وذمّه شين»، فقالوا: نحن قوم من بني تميم، جئنا بشاعرنا وخطيبنا، لنشاعرك، ونفاخرك، فقال صلّى الله عليه وسلم: «ما بالشعر بُعثت، ولا بالفخار أُمرت»، ثم أمر صلّى الله عليه وسلم خطيبهم فتكلّم، ثم قال لثابت بن قيس بن شماس- وكان خطيب النبي صلى الله عليه وسلم: قم، فقام، فخطب، فأقحم خطيبَهم، ثم قام شاب منهم، فأنشأ يقول:
نَحنُ الْكرامُ فَلاَ حَيٌّ يُعَادِلُنَا | فينا الرُّؤوس وفينا يُقْسَمُ الرَّبعُ |
ونُطعِمُ النَّاسَ عِندَ الْقَحطِ كُلَّهمُ | إنَّا كَذَلِكِ عند الفخر نرتفع «١» |
(١) هكذا جاء فى الأصول، أما فى البحر المحيط (٨/ ١٠٦- ١٠٧) وأسباب النّزول للواحدى (ص ٤٠٥) وغيرهما من المصادر، فذكروا بعد البيت الأول: