تفسير سورة الحجرات

تفسير الشافعي
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب تفسير الشافعي .
لمؤلفه الشافعي . المتوفي سنة 204 هـ

٣٨٢- قال الشافعي رحمه الله تعالى : قال الله تعالى :﴿ يَاأَيُّهَا اَلذِينَ ءَامَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَا فَتَبَيَّنُوا ﴾ الآية. وقال :﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اِللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ ﴾١.
قال الشافعي رحمه الله تعالى : فأمر الله من يمضي أمره على أحد من عباده أن يكون مستبينا قبل أن يمضيه، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم خاصة أن لا يحكم الحاكم وهو غضبان، لأن الغضبان مخوف على أمرين : أحدهما، قلة التثبت. والآخر، أن الغضب قد يتغير معه العقل ويتقدم به صاحبه على ما لم يكن يتقدم به لو لم يكن غضب.
أخبرنا ابن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« لا يحكم الحاكم، و لا يقضي القاضي بين إثنين وهو غضبان »٢.
قال الشافعي رحمه الله تعالى : ومعقول في قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا أنه أراد أن يكون القاضي حين يحكم في حال لا يتغير خلقه ولا عقله، والحاكم أعلم بنفسه. فأي حال أتت عليه تغير خلقه أو عقله انبغى له أن لا يقضي حتى تذهب. وأي حال صيرت إليه سكون الطبيعة واجتماع العقل انبغى له أن يتعاهدها، فيكون حاكما عندها. ( الأم : ٧/٩٤. ون أحكام الشافعي : ٢/١١٨-١١٩. )
١ - النساء: ٩٤..
٢ - رواه البخاري في الأحكام (٩٧) باب: هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان (١٣)(ر٦٧٣٩).
ورواه مسلم في الأقضية (٣٠) باب: كراهة قضاء القاضي وهو غضبان (٧)(ر١٧١٧).
ورواه أبو داود في الأقضية، والترمذي في الأحكام، والنسائي في القضاة، وابن ماجة في الأحكام..

٣٨٣- قال الشافعي رحمه الله تعالى : قال الله تبارك وتعالى :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ اَلْمُومِنِينَ اَقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتِ اِحْدياهُمَا عَلَى اَلاُخْرى فَقَاتِلُوا اَلتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ اِلَى أَمْرِ اِللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ ﴾. قال الشافعي رحمه الله تعالى : فذكر الله عز وجل اقتتال الطائفتين، والطائفتان الممتنعتان : الجماعتان كل واحدة تمتنع أشد الامتناع أو أضعف إذا لزمها اسم الامتناع، وسماهم الله تعالى المؤمنين، وأمر بالإصلاح بينهم، فحق على كل واحد دعاء المؤمنين إذا افترقوا وأرادوا القتال أن لا يقاتلوا حتى يدعوا إلى الصلح.
وبذلك قلتُ : لا يبيت أهل البغي قبل دعائهم، لأن على الإمام الدعاء كما أمر الله عز وجل قبل القتال، وأمر الله عز وجل بقتال الفئة الباغية وهي مسماة الإيمان حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت لم يكن لأحد قتالها، لأن الله عز وجل إنما أذن في قتالها في مدة الامتناع بالبغي إلى أن تفيء.
قال الشافعي : والفيء : الرجعة عن القتال بالهزيمة أو التوبة وغيرها، وأي حال ترك بها القتال فقد فاء، والفيء بالرجوع عن القتال الرجوع عن معصية الله تعالى ذكره إلى طاعته في الكف عما حرم الله عز وجل.
قال : وقال أبو ذُؤيب١ يعير نفرا من قومه انهزموا عن رجل من أهله في وقعة فقتل :
لا ينسا الله منا معشرا شهدوا يوم الأُميلح لا غابوا ولا جرحوا
عقوا بسهم فلم يشعر به أحد ثم استفاءوا وقالوا : حبذا الوضح
قال الشافعي رحمه الله تعالى : وأمر الله تعالى إن فاءوا أن يصلح بينهما بالعدل، ولم يذكر تباعة في دم ولا مال، وإنما ذكر الله تعالى الصلح آخرا كما ذكر الإصلاح بينهم أولا قبل الإذن بقتالهم، فأشبه هذا ـ والله تعالى أعلم ـ أن تكون التباعات في الجراح والدماء وما فات من الأموال ساقطة بينهم.
قال : وقد يحتمل قول الله عز وجل :﴿ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ ﴾٢ أن يصلح بينهم بالحكم إذا كانوا قد فعلوا ما فيه حكم، فيعطى بعضهم من بعض ما وجب له، لقول الله عز وجل :﴿ بِالْعَدْلِ ﴾٣ والعدل : أخذ الحق لبعض الناس من بعض.
قال الشافعي : وإنما ذهبنا إلى أن القود ساقط، والآية تحتمل المعنيين.
قال الشافعي رحمه الله تعالى : أخبرنا مطرف بن مازن٤، عن معمر بن راشد، عن الزهري قال : أدركت الفتنة الأولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت فيها دماء وأموال، فلم يقتص فيها من دم، ولا مال، ولا قرح أصيب بوجه التأويل إلا أن يوجد مال رجل بعينه فيدفع إلى صاحبه٥.
قال الشافعي : وهذا كما قال الزهري عندنا. قد كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول، وأتلفت فيها أموال، ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم وجرى الحكم عليهم، فما علمته اقتص أحد من أحد، ولا غرم له مال أتلفه، ولا علمت الناس اختلفوا في أن ما حووا في البغي من مال فوجد بعينه فصاحبه أحق به. ( الأم : ٤/٢١٤. ون أحكام الشافعي : ١/٢٨٩-٢٩٣. ومختصر المزني ص : ٢٥٥. ومناقب الشافعي : ١/٤٤٥-٤٤٦. ومناقب الإمام الشافعي ص : ٢٣٩. )
ــــــــــــ
٣٨٤- قال الشافعي : ووجدت الله تعالى قال :﴿ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ اَلْمُومِنِينَ اَقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتِ اِحْدياهُمَا عَلَى اَلاُخْرى فَقَاتِلُوا اَلتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىءَ اِلَى أَمْرِ اِللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اَللَّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ ﴾٦ فذكر الله عز وجل قتالهم، ولم يذكر القصاص بينهما، فأثبتنا القصاص بين المسلمين على ما حكم الله عز وجل في القصاص، وأَزَلْنَاهُ في المتأولين الممتنعين، ورأينا أن المعنى بالقصاص من المسلمين هو من لم يكن ممتنعا متأولا، فأمضينا الحكمين على ما أمضينا عليه. وقلتُ له : علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه ولي قتال المتأولين فلم يقصص من دم، ولا مال أصيب في التأويل، وقتله ابن ملجم٧ متأولا، فأمر بحبسه وقال لولده : إن قتلتم فلا تمثلوا ورأى له القتل٨، وقتله الحسن ابن علي رضي الله تعالى عنهما وفي الناس بقية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نعلم احدا أنكر قتله، ولا عابه، ولا خالفه في أن يقتل إذ لم يكن له جماعة يمتنع بمثلها.
ولم يقد علي وأبو بكر قبله ولي من قتلته الجماعة الممتنع بمثلها على التأويل كما وصفنا، ولا على الكفر.
قال الشافعي : والآية تدل على أنه إنما أبيح قتالهم في حال، وليس في ذلك إباحة أموالهم، ولا شيء منها. وأما قطاع الطريق، ومن قتل على غير تأويل فسواء جماعة كانوا أو وُحدانًا، يقتلون حدا وبالقصاص بحكم الله عز وجل في القتلة وفي المحاربين. ( الأم : ٤/٢١٦. ون الأم : ٤/٢١٨. )
١ - أبو ذؤيب الهذلي، هو خويلد بن خالد، جاهلي إسلامي، وكان راوية لساعدة بن جؤية الهذلي. وخرج مع عبد الله بن الزبير في مغزى نحو المغرب فمات، فولاه عبد الله بن الزبير في حفرته. الشعر والشعراء لابن قتيبة..
٢ - الحجرات: ٩..
٣ - الحجرات: ٩..
٤ - مُطَرِّف بن مازن، ويكنى أبا أيوب، وكان قد ولي القضاء بصنعاء. قال محمد بن عمر: مولى لكنانة، ومات بمنبج. وقال عبد المنعم بن إدريس: هو مولى لقيس ومات بالرقة في خلافة هارون. الطبقات الكبرى ٥/٥٤٨..
٥ - رواه البيهقي في كتاب قتال أهل البغي باب: من قال لا تباعة في الجراح والدماء وما فات من الأموال في قتال أهل البغي ٨/١٧٥..
٦ - الحجرات: ٩..
٧ - هو عبد الرحمن بن مُلْجَم المرادي من الخوارج. ن تاريخ الخلفاء ص: ١٧٥..
٨ - روى البيهقي في كتاب قتال أهل البغي باب: الرجل يقتل واحدا من المسلمين على التأويل ٨/١٨٣ عن الشافعي، عن إبراهيم بن محمد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه: أن عليا رضي الله عنه قال في ابن ملجم بعدما ضربه: « أطعموه واسقوه وأحسنوا أساره فإن عشت فأنا ولي دمي، أعفوا إن شئت وإن شئت استقدت، وإن متُّ فقتلتموه فلا تمثلوا »..
٣٨٥- قال الشافعي : قال الله تبارك وتعالى :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَللَّهِ أَتْقياكُمُ ﴾ وقال تبارك وتعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى اَلذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَنْ كاَنَ مِنكُم مَّرِيضًا اَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنَ اَيَّامٍ اَخَرَ ﴾١ وقال :﴿ إَنَّ اَلصَّلَواةَ كَانَتْ عَلَى اَلْمُومِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا ﴾٢.
قال : فبين في كتاب الله أن في هاتين الآيتين العموم والخصوص. فأما العموم منهما ففي قول الله :﴿ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ فكل نفس خوطبت بهذا في زمان رسول الله وقبله وبعده مخلوقة من ذكر وأنثى، وكلها شعوب وقبائل. والخاص منها في قول الله :﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اَللَّهِ أَتْقياكُمُ ﴾ لأن التقوى إنما تكون على من عقلها وكان من أهلها من البالغين من بني آدم، دون المخلوقين من الدواب وسواهم، ودون المغلوبين على عقولهم منهم، فلا يجوز أن يوصف بالتقوى وخلافها إلا من عقلها وكان من أهلها، أو خالفها فكان من غير أهلها.
والكتاب يدل على ما وصفت، وفي السنة دلالة عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« رفع القلم عن ثلاثة : النائم حتى يستيقظ، والصبي حتى يحتلم، والمجنون حتى يفيق »٣.
وهكذا التنزيل في الصوم والصلاة : على البالغين العاقلين، دون من لم يبلغ، ومن بلغ ممن غلب على عقله، ودون الحُيَّض في أيام حيضهن. ( الرسالة : ٥٦-٥٨. ون أحكام الشافعي : ١/٢٣-٢٥. والأم : ٧/٢٧٥. )
١ - البقرة: ١٨٣-١٨٤..
٢ - النساء: ١٠٣..
٣ - رواه أبو داود بنحوه عن ابن عباس في الحدود (٣٢) باب: في المجنون يسرق أو يصيب حدّا (١٦)(ر٤٤٠١).
ورواه النسائي بنحوه عن عائشة في الطلاق (٢٧) باب: من لا يقع طلاقه من الأزواج (ر٣٤٣٢).
ورواه ابن ماجة بنحوه عن عائشة وعلي بن أبي طالب في الطلاق (١٠) باب: طلاق المعتوه والصغير والنائم (١٥)(ر٢٠٤١-٢٠٤٢)..

٣٨٦- قال الشافعي : وأن حكم الله تعالى في الدنيا : قبول ظاهر الآدميين، وأنه تولى سرائرهم، ولم يجعل لنبي مرسل ولا لأحد من خلقه أن يحكم إلا على الظاهر، وتولى دونهم السرائر، لانفراده بعلمها. وهكذا الحجة على من قال هذا القول. وأخبر الله عز وجل عن قوم من الأعراب فقال :﴿ قَالَتِ اِلاَعْرَابُ ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُومِنُوا وَلَـاكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِِ اِلاِيـمَانُ فِى قُلُوبِكُمْ ﴾ فأعلم أنه لم يدخل الإيمان في قلوبهم، وأنهم أظهروه وحقن به دماءهم. قال مجاهد في قوله :﴿ أَسْلَمْنَا ﴾ قال : أسلمنا مخافة القتل والسباء١. ( الأم : ٦/١٦٥. ون الأم : ٧/٢٩٥. ومناقب الشافعي : ١/٣٩٦ و ١/٣٩٨. )
١ - وهو قول سعيد بن جبير ( ن تفسير ابن جرير: ١١/٤٠١.).
Icon