" بسم الله " اسم كريم من تنصل إليه من زلاته تفضل عليه بنجاته، ومن توسل إليه بطاعاته تطول عليه بدرجاته.
" بسم الله " اسم عزيز من تقرب إليه بمناجاته قابله بلطف أفضاله، ومن تحبب إليه بإيمانه أقبل عليه بكشف جلاله وجماله.
ﰡ
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ : شهادةٌ للمنادَى بالشَّرف.
﴿ لاَ تُقَدِّمُواْ ﴾ أَمْرٌ بتحمُّل الكُلَف. قدَّمَ الإكرام بالشرف على الإلزام بالكُلَف أي لا تقدموا بحكمكم ﴿ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ : أي لا تقضوا أمراً من دون الله ورسوله أي لا تعملوا من ذات أنفسِكم شيئاً.
ويقال : فقوا حيثما وُقِفْتم، وافعلوا ما به أُمِرْتُم، وكنوا أصحابَ الاقتداءِ والاتّباع. . لا أربابَ الابتداءِ والابتداع.
أَمرَهم بحفظ حرمته، ومراعاةِ الأدب في خدمته وصحبته، وأَلاَّ ينظروا إليه بالعين التي ينظرون بها إلى أمثالهم. وأنه إذا كان بخُلُقهِ يُلاينُهم فينبغي ألا يتبسَّطوا معه مجاسرين، ولا يكونوا مع ما يعاشرهم به مِنْ تَخَلُّقِه عن حدودِهم زائدين.
ويقال : لا تبدأوه بحديثٍ حتى يُفَاتِحَكم.
هم الذين تقع السكينةُ عليهم من هيبة حضرته، أولئك هم الذين امتحن اللَّهُ قلوبَهم للتقوى بانتزاع حُبِّ الشهوات منها، فاتقوا سوءَ الأخلاقِ، وراعوا الأدبَ.
ويقال : هم الذين انسلخوا من عادات البشرية.
أي لو عرفوا قَدْرَكَ لَمَا تركوا حُرْمَتَك، والتزموا هَيبَتَك.
ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم ولم يستعجلوا، ولم يوقظوك وقت القيلولة بمناداتهم لكان خيراً لهم.
أمَّا أصحابه - صلواتُ الله عليه وسلامه - الذين يعرفون قدْره فإنَّ أحدهم - كما في الخبر :" كأنه يَقْرَعُ بابَه بالأظافر ".
دلَّت الآية على تَرْكِ السكون إلى خَبَرِ الفاسق إلى أن يظهر صِدْقُه.
وفي الآية إشارة إلى تَركِ الاستماعِ إلى كلام الساعي والنَّمامِ والمغتابِ للناس.
والآيةُ تَدُلُّ على قبول خبرِ والواحدِ إذا كان عَدْلاً.
والفاسقُ هو الخارجُ عن الطاعة. ويقال هو الخارج عن حدِّ المروءة.
ويقال : هو الذي ألقى جِلبابَ الحياء.
أي لو وافقكم محمدٌ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في كثير مما تطلبون من لوقعتم في العَنَتِ - وهو الفساد. ولو قَبِلَ قولَ واحدٍ ( قَبْلَ وضوحِ الأمر ) لأَصابتكم من ذلك شدة.
والرسول صلوات الله عليه لا يطيعكم في أكثر الأمور إذا لم يَرَ في ذلك مصلحة لكم وللدين.
﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ ﴾ : الإسلام والطاعة والتوحد، وزيَّنَها في قلوبكم.
﴿ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾ : هذا من تلوين الخطاب.
وفي الآية دليلٌ على صحة قول أهل الحقِّ في القَدَر، وتخصيص المؤمنين بألطافٍ لا يشترك فيها الكفارُ. ولولا أنَّه يوفِّر الدواعي للطاعات لَحَصَلَ التفريط والتقصير في العبادات.
تدل الآية على أن المؤمن بفسقه - والفسق دون الكفر - لا يخرج عن الإيمان لأن إحدى الطائفتين - لا محالة - فاسقة إذا اقتتلا.
وتدل الآية على وجوب نصرة المظلوم ؛ حيث قال :﴿ فَإِِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى ﴾.
الإشارة فيه : أن النفس إذا ظَلَمتْ القلب بدعائه إلى شهواتها، واشتغالها في فسادها فيجب أن يقاتلها حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة، فإن استجابت إلى الطاعة يُعْفَى عنها لأنها هي المطيَّةُ إلى باب الله.
إيقاعُ الصلح بين المتخاصمين مِنْ أوْكَد عزائم الدِّين.
وإذا كان ذلك واجباً فإنه يدل على عِظَمِ وِزْرِ الواشي والنَّمام ؛ والمصْدَرِ في إفساد ذات البَيْن.
( ويقال إنما يتم ذلك بتسوية القلب مع الله فإن الله إذا علم صِدْق هِمةِ عبدٍ في إصلاح ذات البيْن ) فإنه يرفع عنهم تلك العصبيَّة.
فأما شرط الأخوة : فمِنْ حقِّ الأُخُوةِ في الدِّين إلا تُحُوِجَ أخاك إلى الاستعانة بك أو التماس النصرة عنك، وألا تُقصِّر في تَفَقُّدِ أحواله بحيث يشكل عليك موضع حاجته فيحتاج إلى مساءلتك.
ومن حقِّه ألا تُلْجِئَه إلى الاعتذار لك بل تبسط عُذْرَه ؛ فإنْ أُشْكِل عليكَ وَجْهُه عُدْت باللائمة على نفسك في خفاء عُذْرِه عليك ومن حقه أنْ تتوبَ عنه إذا أذْنَبَ، وتَعودَه إذا مرض. وإذا أشار عليك بشيءٍ فلا تُطَالِبْه بالدليل عليه وإبراز الحُجَّة - كما قالوا :
إذا اسْتَنْجِدُوا لم يسألوا مَنْ دعاهم *** لأيَّةِ حَرْبٍ أم لأي مكان
ومِنْ حقِّه أَنْ تَحفَظَ عَهْدَه القديم، وأَنْ تُراعِيَ حقَّه في أهله المتصلين به في المشهد المغيب، وفي حال الحياة وبعد الممات - كما قيل :
وخليل إن لم يكن *** منصفاً كُنْتَ منصفا
تتحسَّى له الأمَرَّ *** يْن وكُنْ ملاطفا
إنْ يَقُل لكَ استوِ احترفْ *** ت رضًى لا تكلُّفا
نهى اللَّهُ - سبحانه تعالى - عن ازدراءِ الناس، وعن الغَيْبَةِ، وعن الاستهانةِ بالحقوق، وعن تَرْكِ الاحترام.
﴿ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ : أي لا يَعِيبَنَّ بعضُكم بعضاً، كقوله :﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٩ ].
ويقال : ما استصغر أحدٌ أحداً إلا سُلِّطَ عليه. ولا ينبغي أن يُعْتَبَر بظاهر أحوال الناس فإنَّ في الزوايا خبايا. والحقُّ يستر أولياءَه في حجابِ الضّعَة ؛ وقد جاء في الخبر :" رُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يُؤْبَهُ له لو أقسم على الله لأَبَرَّه ".
النَّفْسُ لا تَصْدُقُ، والقلبُ لا يَكْذِبُ. والتمييز بين النفس والقلب مُشْكِلٌ ومَنْ بَقِيَتْ عليه من حظوظه بقيَّةٌ - وإنْ قَلَّتْ - فليس له أن يَدعَّى بيانَ القلب بل هو بنفسه ما دام عليه شيءٌ من نَفْسِه، ويجب أن يَتَّهِمَ نَفْسَهُ في كل ما يقع له من نقصان غيره. . هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو يخطب. " كلُّ الناس أفقهُ من عمر. . . امرأة أفقهُ من عمر ".
﴿ وَلاَ تَجَسَّسُواْ ﴾ والعارف لا يتفرغ من شهود الحقِّ إلى شهود الخَلْق. . فكيف يتفرغ إلى تجَسُّسِ أحوالهم ؟ وهو لا يتفرغ إلى نَفْسِه فكيف إلى غيره ؟ ﴿ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾ : لا تحصل الغيبة للخَلق إلاَّ من الغيبةِ عن الحقِّ.
﴿ أَيَحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً ﴾ جاء في التفسير أن المقصود بذلك الغيبة، وعلى ذلك يدل ظاهر الآية. وأَخَسُّ الكفّار وأَقَلُّهم قَدْراً مَنْ يأَكل الميتةَ. . وعزيزٌ رؤيةُ مَنْ لا يغتاب أحداً بين يديك.
إنَّا خلقناكم أجمعكم من آدمَ وحواء، ثم جعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا لا لتُكَاثروا ولا لتنافسوا. فإذا كانت الأصولُ تربةً ونطفةً وعَلَقَةً. . فالتفاخر بماذا ؟ أبا لحمأ المسنون ؟ أم بالنطفة في قرار مكين ؟ أم بما ينطوي عليه ظاهرك مما تعرفه ؟ ! وقد قيل :
إِنَّ آثارَنا تَدُل علينا | فانْظُروا بَعْدَنا إلى الآثارِ |
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِند اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ ؟ أتقاكم أي أَبْعَدكم عن نَفْسِه، فالتقوى هي التحرُّر من النفس وأطماعها وحظوظها. فأكرمُ العبادِ عند اللَّهِ مَنْ كان أَبْعد عن نَفْسِه وأَقرَبَ إلى الله تعالى.
الإيمانُ هو حياة القلب، والقلب لا يحيا إلا بعد ذَبْح النَّفس، والنفوسُ لا تموت ولكنها تغيب، ومع حضورها لا يَتمُّ خيرٌ، والاستسلامُ في الظاهر إسلام. وليس كلُّ مَنْ استسلَمَ ظاهراً مخلصٌ في سِرِّه.
﴿ وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾.
في هذا دليلٌ على أن محلَّ الإيمانِ القلبُ. كما أنه في وصف المنافقين قال تعالى :
﴿ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ [ البقرة : ١٠ ] ومَرَضُ القلبِ والإيمانُ ضدان.
جَعَلَ اللَّهُ الإيمانَ مشروطاً بخصالٍ ذَكَرَها، ونَصَّ عليها بلفظ ﴿ إِنَّمَا ﴾ وهي للتحقيق الذي يقتضي طَرْدَ العِكْسِ ؛ فمَنْ خَرَج عن هذه الشرائط التي جَعَلَها للإِيمان فمردودٌ عليه قَوْلُه.
والإيمانُ يوجِبُ للعبد الأَمان، فما لم يكن الإيمان موجِباً للأَمانِ فصاحبُه بغيره أَوْلَى.
تدل الآية على أَنَ الوقوف في المسائل الدينية يُعْتَبرُ واجباً ؛ فالأسامي منه تَؤْخَذ، والأحكامُ منه تُطْلَب، وأوامره مُتَّبعة.
مَنْ لاحظ شيئاً من أعماله وأحواله فإنْ رآها مِنْ نَفْسه كان شِرْكاً، وإنْ رآها لنفسه كان مكراً فكيف يمن العبد بما هو شِرْكٌ أو بما هو مكر ؟ !
والذي يجب عليه قبول المِنَّة. . كيف يرى لنفسه على غيره مِنَّة ؟ ! هذا لعمري فضيحةّ ! بل المِنَّةُ لله ؛ فهو وليُّ النعمة. ولا تكون المنةُ منةً إلا إذا كان العبدُ صادقاً في حاله، فأمَّا إذا كان معلولاً في صفة من صفاته فهي محنةٌ لصاحبها لا مِنَّة.
والمِنَّةُ تُكَدَّرُ الصنيعَ إذا كانت من المخلوقين، ولكن بالمِنَّةِ تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله.
ومَنْ وُقِف ها هنا تكدَّرَ عليه عِيْشُه ؛ إذ ليس يدري ما غيبه فيه، وفي معنى هذا قول القائل :
*** أبكي. . . وهل تدرين ما يبكيني ؟ ***
*** أبكي حذاراً أن تفارقيني ***
*** وتقطعي وَصْلي وتهجريني ***