فيها سبع آيات
ﰡ
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ أَنْزَلَ فِي كَذَا وَكَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ. الثَّانِي : نُهُوا أَنْ يَتَكَلَّمُوا بَيْنَ يَدَيْ كَلَامِهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
الثَّالِثُ لَا تَفْتَاتُوا عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَشَاءُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
الرَّابِعُ - أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ ذَبَحُوا قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الذَّبْحَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ [ لِأَصْحَابِهِ فِي ] يَوْمِ الْأَضْحَى : مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ قَدَّمَهُ لِأَهْلِهِ ؛ فَقَامَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ خَالُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا يَوْمٌ يُشْتَهَى فِيهِ اللَّحْمُ، وَإِنِّي ذَبَحْت قَبْلَ أَنْ أُصَلِّيَ، وَعِنْدِي عَنَاقُ جَذَعَةٍ خَيْرٌ من شَاتَيْ لَحْمٍ. فَقَالَ : تُجْزِئُك، وَلَنْ تُجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَك. الْخَامِسُ لَا تُقَدِّمُوا أَعْمَالَ الطَّاعَةِ قَبْلَ وَقْتِهَا ؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ.
المسألة الثَّانِيَةُ : قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَة تَدْخُلُ تَحْتَ الْعُمُومِ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ مَا كَانَ السَّبَبُ الْمُثِيرُ لِلْآيَةِ مِنْهَا، وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ دُونَ سَبَبٍ.
المسألة الثَّالِثَةُ : إذَا قُلْنَا : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَقْدِيمِ [ النَّحْرِ عَلَى الصَّلَاةِ وَذَبْحِ الْإِمَامِ سَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْكَوْثَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
المسألة الرَّابِعَةُ : إذَا قُلْنَا إنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَقْدِيمِ ] الطَّاعَاتِ عَلَى أَوْقَاتِهَا فَهُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ مُؤَقَّتَةٍ بِمِيقَاتٍ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ، إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الزَّكَاةِ لَمَّا كَانَتْ عِبَادَةً مَالِيَّةً، وَكَانَتْ مَطْلُوبَةً لِمَعْنًى مَفْهُومٍ ؛ وَهُوَ سَدُّ خَلَّةِ الْفَقِيرِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْجَلَ من الْعَبَّاسِ صَدَقَةَ عَامَيْنِ، وَلِمَا جَاءَ من جَمْعِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ حَتَّى تُعْطَى لِمُسْتَحِقِّهَا يَوْمَ الْوُجُوبِ، وَهُوَ يَوْمُ الْفِطْرِ ؛ فَاقْتَضَى ذَلِكَ كُلُّهُ جَوَازَ تَقْدِيمِهَا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا لِعَامٍ وَلِاثْنَيْنِ.
فَإِنْ جَاءَ رَأْسُ الْعَامِ وَالنِّصَابُ بِحَالِهِ وَقَعَتْ مَوْقِعَهَا، وَإِنْ جَاءَ رَأْسُ الْحَوْلِ وَقَدْ تَغَيَّرَ النِّصَابُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ.
وَقَالَ أَشْهَبُ : لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْحَوْلِ لَحْظَةً، كَالصَّلَاةِ، وَكَأَنَّهُ طَرَدَ الْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ، فَرَأَى أَنَّهَا إحْدَى دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ، فَوَفَّاهَا حَقَّهَا فِي النِّظَامِ وَحُسْنِ التَّرْتِيبِ. وَرَأَى سَائِرُ عُلَمَائِنَا أَنَّ التَّقْدِيمَ فِيهَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فِي الشَّرْعِ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ. وَمَا قَالَهُ أَشْهَبُ أَصَحُّ، فَإِنَّ مُفَارَقَةَ الْيَسِيرِ الْكَثِيرَ فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ صَحِيحٌ، وَلَكِنَّهُ لِمَعَانٍ تَخْتَصُّ بِالْيَسِيرِ دُونَ الْكَثِيرِ، فَأَمَّا فِي مَسْأَلَتِنَا فَالْيَوْمُ فِيهِ كَالشَّهْرِ وَالشَّهْرُ كَالسَّنَةِ، فَإِمَّا تَقْدِيمٌ كُلِّيٌّ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَإِمَّا حِفْظُ الْعِبَادَةِ وَقَصْرُهَا عَلَى مِيقَاتِهَا كَمَا قَالَ أَشْهَبُ وَغَيْرُهُ، وَذَلِكَ يَقْوَى فِي النَّظَرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى ﴿ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ أَصْلٌ فِي تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِأَقْوَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِيجَابِ اتِّبَاعِهِ، وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ ؛ وَلِذَلِكَ «قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِحَفْصَةَ : قُولِي لَهُ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، وَأَنَّهُ مَتَى يَقُمْ مَقَامَك لَا يُسْمِعُ النَّاسَ من الْبُكَاءِ، فَمُرْ عَلِيًّا فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ.
يَعْنِي بِقَوْلِهِ : صَوَاحِبُ يُوسُفَ الْفِتْنَةَ بِالرَّدِّ عَنْ الْجَائِزِ إلَى غَيْرِ الْجَائِزِ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ بَيَانًا شَافِيًا.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ :«كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلَكَا : أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ، وَأَشَارَ الْآخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ قَالَ نَافِعٌ عَنْهُ : لَا أَحْفَظُ اسْمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ : مَا أَرَدْت إلَّا خِلَافِي. قَالَ : مَا أَرَدْت ذَلِكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ﴾ الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : فَمَا كَانَ عُمَرُ يَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ ] حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ.
المسألة الثَّانِيَةُ : حُرْمَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا، وَكَلَامُهُ الْمَأْثُورُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الرِّفْعَةِ مِثْلُ كَلَامِهِ الْمَسْمُوعِ من لَفْظِهِ ؛ فَإِذَا قُرِئَ كَلَامُهُ وَجَبَ عَلَى كُلِّ حَاضِرٍ أَلَّا يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعْرِضَ عَنْهُ، كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِهِ، وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى دَوَامِ الْحُرْمَةِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ﴾. وَكَلَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الْوَحْيِ وَلَهُ من الْحُرْمَةِ مِثْلُ مَا لِلْقُرْآنِ إلَّا مَعَانِي مُسْتَثْنَاةٌ، بَيَانُهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ مُصَدِّقًا إلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَلَمَّا أَبْصَرُوهُ أَقْبَلُوا نَحْوَهُ فَهَابَهُمْ وَرَجَعَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ. فَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَثَبَّت وَلَا يَعْجَلَ، فَانْطَلَقَ خَالِدٌ حَتَّى أَتَاهُمْ لَيْلًا، فَبَعَثَ عُيُونَهُ، فَلَمَّا جَاءُوا أَخْبَرُوا خَالِدًا أَنَّهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِالْإِسْلَامِ، وَسَمِعُوا آذَانَهُمْ وَصَلَاتَهُمْ، فَلَمَّا أَتَاهُمْ خَالِدٌ، وَرَأَى صِحَّةَ مَا ذَكَرُوهُ عَادَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ». فَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ :«الْعَجَلَةُ من الشَّيْطَانِ وَالتَّأَنِّي من اللَّهِ ».
المسألة الثَّانِيَةُ : مَنْ ثَبَتَ فِسْقُهُ بَطَلَ قَوْلُهُ فِي الْأَخْبَارِ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ أَمَانَةٌ، وَالْفِسْقَ قَرِينَةٌ تُبْطِلُهَا، فَأَمَّا فِي الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَبْطُلُ إجْمَاعًا. وَأَمَّا فِي الْإِنْسَانِ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : لَا يَكُونُ وَلِيًّا فِي النِّكَاحِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ : يَكُونُ وَلِيًّا ؛ لِأَنَّهُ يَلِي مَالَهَا فَيَلِي بُضْعَهَا، كَالْعَدْلِ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فِي دِينِهِ إلَّا أَنَّ غِيرَتَهُ مُوَفَّرَةٌ، وَبِهَا يَحْمِي الْحَرِيمَ، وَقَدْ يَبْذُلُ الْمَالَ وَيَصُونُ الْحُرْمَةَ، فَإِذَا وُلِّيَ الْمَالَ فَالْبُضْعُ أَوْلَى.
المسألة الثَّالِثَةُ : وَمِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُجَوِّزَ الشَّافِعِيُّ وَنُظَرَاؤُهُ إمَامَةَ الْفَاسِقِ وَمَنْ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى حَبَّةِ مَالٍ كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُؤْتَمَنَ عَلَى قِنْطَارِ دِينٍ ؛ وَهَذَا إنَّمَا كَانَ أَصْلُهُ أَنَّ الْوُلَاةَ [ الَّذِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ بِالنَّاسِ ] لَمَّا فَسَدَتْ أَدْيَانُهُمْ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَرَاءَهُمْ، وَلَا اسْتُطِيعَتْ إزَالَتُهُمْ صَلَّى مَعَهُمْ وَوَرَاءَهُمْ، كَمَا قَالَ عُثْمَانُ : الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَفْعَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنُوا فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إسَاءَتَهُمْ ؛ ثُمَّ كَانَ من النَّاسِ مَنْ إذَا صَلَّى مَعَهُمْ تَقِيَّةٌ أَعَادُوا الصَّلَاةَ لِلَّهِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَجْعَلُهَا صَلَاتَهُ. وَبِوُجُوبِ الْإِعَادَةِ أَقُولُ ؛ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الصَّلَاةَ خَلْفَ مَنْ لَا يَرْضَى من الْأَئِمَّةِ، وَلَكِنْ يُعِيدُ سِرًّا فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُؤْثَرُ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِهِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : وَأَمَّا أَحْكَامُهُ إنْ كَانَ [ حَاكِمًا ] وَالِيًا فَيُنَفِّذُ مِنْهَا مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَيَرُدُّ مَا خَالَفَهُ، وَلَا يَنْقُضُ حُكْمَهُ الَّذِي أَمْضَاهُ بِحَالٍ، وَلَا تَلْتَفِتُوا إلَى غَيْرِ هَذَا الْقَوْلِ من رِوَايَةٍ ثُؤْثَرُ، أَوْ قَوْلٍ يُحْكَى ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ كَثِيرٌ، وَالْحَقَّ ظَاهِرٌ.
المسألة الْخَامِسَةُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا عَنْ غَيْرِهِ فِي قَوْلٍ يُبَلِّغُهُ، أَوْ شَيْءٍ يُوَصِّلُهُ أَوْ إذْنٍ يُعَلِّمُهُ، إذَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَقِّ الْمُرْسِلِ وَالْمُبَلِّغِ ؛ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِمَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ. فَهَذَا جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَصَرَّفْ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الْمَعَانِي إلَّا الْعُدُولُ. لم يَحْصُلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِعَدَمِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةٍ :
المسألة الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ رَوَى عَطَاءُ بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانَ بَيْنَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِتَالٌ بِالسَّعَفِ وَالنِّعَالِ وَنَحْوِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ.
الثَّانِي : مَا رَوَى سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ من الْأَنْصَارِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُلَاحَاةٌ فِي حَقٍّ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : لَآخُذَنَّهُ عَنْوَةً لِكَثْرَةِ عَشِيرَتِهِ، وَإِنَّ الْآخَرَ دَعَاهُ إلَى الْمُحَاكِمَةِ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبَى أَنْ يَتّبِعَهُ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ الْأَمْرُ حَتَّى تَدَافَعُوا، وَتَنَاوَلَ بَعْضُهُمْ بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ.
الثَّالِثُ مَا رَوَاهُ أَسْبَاطُ عَنْ السُّدِّيِّ أَنَّ رَجُلًا من الْأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ تُدْعَى أُمَّ زَيْدٍ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ أَرَادَتْ أَنْ تَزُورَ أَهْلَهَا فَحَبَسَهَا زَوْجُهَا، وَجَعَلَهَا فِي عِلِّيَّةٍ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا أَحَدٌ من أَهْلِهَا، وَإِنَّ الْمَرْأَةَ بَعَثَتْ إلَى أَهْلِهَا، فَجَاءَ قَوْمُهَا فَأَنْزَلُوهَا لِيَنْطَلِقُوا بِهَا، فَخَرَجَ الرَّجُلُ فَاسْتَغَاثَ بِأَهْلِهِ ؛ فَجَاءَ بَنُو عَمِّهِ لِيَحُولُوا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ أَهْلِهَا ؛ فَتَدَافَعُوا وَاجْتَلَدُوا بِالنِّعَالِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ.
الرَّابِعُ مَا حَكَى قَوْمٌ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَهْطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ من الْخَزْرَجِ وَرَهْطِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ من الْأَوْسِ، وَسَبَبُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَهُوَ فِي مَجْلِسِ قَوْمِهِ، فَرَاثَ حِمَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ سَطَعَ غُبَارُهُ، فَأَمْسَكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ، وَقَالَ : لَقَدْ آذَانَا نَتِنُ حِمَارِك. فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، وَقَالَ : إنَّ حِمَارَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَطْيَبُ رِيحًا مِنْك وَمِنْ أَبِيك ؛ فَغَضِبَ قَوْمُهُ وَاقْتَتَلُوا بِالنِّعَالِ وَالْأَيْدِي، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ ».
المسألة الثَّانِيَةُ : أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ : الْأَخِيرَةُ، وَالْآيَةُ تَقْتَضِي جَمِيعَ مَا رُوِيَ لِعُمُومِهَا وَمَا لَمْ يُرْوَ، فَلَا يَصِحُّ تَخْصِيصُهَا بِبَعْضِ الْأَحْوَالِ دُونَ بَعْضٍ.
المسألة الثَّالِثَةُ : الطَّائِفَةُ كَلِمَةٌ تُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْوَاحِدِ من الْعَدَدِ، وَعَلَى مَا لَا يَحْصُرُهُ عَدَدٌ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ.
المسألة الرَّابِعَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ الْأَصْلُ فِي قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُمْدَةُ فِي حَرْبِ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَعَلَيْهَا عَوَّلَ الصَّحَابَةُ، وَإِلَيْهَا لَجَأَ الْأَعْيَانُ من أَهْلِ الْمِلَّةِ، وَإِيَّاهَا عَنَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ :﴿ يَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ ﴾ وَقَوْلُهُ فِي شَأْنِ الْخَوَارِجِ :«يَخْرُجُونَ عَلَى خَيْرِ فِرْقَةٍ من النَّاسِ » أَوْ عَلَى حِينِ فِرْقَةٍ، وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ لِقَتْلِهِمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إلَى الْحَقِّ، وَكَانَ الَّذِي قَتَلَهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ [ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ ] فَتَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَثَبَتَ بِدَلِيلِ الدِّينِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إمَامًا، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَيْهِ بَاغٍ، وَأَنَّ قِتَالَهُ وَاجِبٌ حَتَّى يَفِيءَ إلَى الْحَقِّ، وَيَنْقَادَ إلَى الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُتِلَ، وَالصَّحَابَةُ بُرَآءُ من دَمِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ من قِتَالِ مَنْ ثَارَ عَلَيْهِ، وَقَالَ : لَا أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ خَلَفَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أُمَّتِهِ بِالْقَتْلِ ؛ فَصَبَرَ عَلَى الْبَلَاءِ، وَاسْتَسْلَمَ لِلْمِحْنَةِ، وَفَدَى بِنَفْسِهِ الْأُمَّةَ، ثُمَّ لَمْ يُمْكِنْ تَرْكُ النَّاسِ سُدًى، فَعُرِضَتْ الْإِمَامَةُ عَلَى بَاقِي الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ عُمَرُ فِي الشُّورَى، وَتَدَافَعُوهَا، وَكَانَ عَلِيٌّ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا، فَقَبِلَهَا حَوْطَةً عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تُسْفَكَ دِمَاؤُهَا بِالتَّهَارُجِ وَالْبَاطِلِ، وَيُتَخَرَّقُ أَمْرُهَا إلَى مَا لَا يَتَحَصَّلُ، وَرُبَّمَا تَغَيَّرَ الدِّينُ، وَانْقَضَّ عَمُودُ الْإِسْلَامِ ؛ فَلَمَّا بُويِعَ لَهُ طَلَبَ أَهْلِ الشَّامِ فِي شَرْطِ الْبَيْعَةِ التَّمْكِينَ من قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَأَخْذَ الْقَوَدِ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ عَلِيٌّ : اُدْخُلُوا فِي الْبَيْعَةِ، وَاطْلُبُوا الْحَقَّ تَصِلُوا إلَيْهِ فَقَالُوا : لَا تَسْتَحِقُّ بَيْعَةً وَقَتَلَةُ عُثْمَانَ مَعَك نَرَاهُمْ صَبَاحًا وَمَسَاءً، فَكَانَ عَلِيٌّ فِي ذَلِكَ أَسَدَّ رَأْيًا، وَأَصْوَبَ قَوْلًا ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا لَوْ تَعَاطَى الْقَوَدَ مِنْهُمْ لَتَعَصَّبَتْ لَهُمْ قَبَائِلُ، وَصَارَتْ حَرْبًا ثَالِثَةً فَانْتَظَرَ بِهِمْ أَنْ يَسْتَوْثِقَ الْأَمْرُ، وَتَنْعَقِدَ الْبَيْعَةُ الْعَامَّةُ، وَيَقَعَ الطَّلَبُ من الْأَوْلِيَاءِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ، فَيَجْرِي الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَأْخِيرُ الْقِصَاصِ إذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى إثَارَةِ الْفِتْنَةِ أَوْ تَشْتِيتِ الْكَلِمَةِ، وَكَذَلِكَ جَرَى لِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ ؛ فَإِنَّهُمَا مَا خَلَعَا عَلِيًّا عَنْ وِلَايَةٍ، وَلَا اعْتَرَضَا عَلَيْهِ فِي دَيَّانَةٍ، وَإِنَّمَا رَأَيَا أَنَّ الْبدَاءَةَ بِقَتْلِ أَصْحَابِ عُثْمَانَ أَوْلَى، فَبَقِيَ هُوَ عَلَى رَأْيِهِ لَمْ يُزَعْزِعْهُ عَمَّا رَأَى وَهُوَ كَانَ الصَّوَابُ كَلَامُهُمَا، وَلَا أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ قَوْلُهُمَا. وَكَذَلِكَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَما يُثْنِي عَلَى صَاحِبِهِ [ وَيَذْكُرُ مَا فِيهِ ] وَيَشْهَدُ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَيَذْكُرُ مَنَاقِبَهُ ؛ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى خِلَافِ هَذَا لَتَبْرَأَ كُلُّ وَاحِدٍ [ مِنْهُمَا ] من صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَكُنْ تَقَاتُلُ الْقَوْمِ عَلَى دُنْيَا، وَلَا بَغْيًا بَيْنَهُمْ فِي الْعَقَائِدِ، وَإِنَّمَا كَانَ اخْتِلَافًا فِي اجْتِهَادٍ ؛ فَلِذَلِكَ كَانَ جَمِيعُهُمْ فِي الْجَنَّةِ.
المسألة الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى :﴿ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ :
أَمَرَ اللَّهُ بِالْقِتَالِ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَعْضِ الْبَاقِينَ ؛ وَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ قَوْمٌ من الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ هَذِهِ الْمَقَامَاتِ، كَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. وَصَوَّبَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَهُمْ، وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعُذْرٍ قَبِلَهُ مِنْهُ.
وَيُرْوَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَفْضَى إلَيْهِ الْأَمْرُ عَاتَبَ سَعْدًا عَلَى مَا فَعَلَ، وَقَالَ لَهُ : لَمْ تَكُنْ مِمَّنْ أَصْلَحَ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ حِينَ اقْتَتَلَا، وَلَا مِمَّنْ قَاتَلَ الْفِئَةَ الْبَاغِيَةَ ؛ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ : نَدِمْت عَلَى تَرْكِي قِتَالَ الْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْكُلِّ دَرَكٌ فِيمَا فَعَلَ، وَإِنَّمَا كَانَ تَصَرُّفًا بِحُكْمِ الِاجْتِهَادِ وَإِعْمَالًا بِمَا اقْتَضَاهُ الشَّرْعُ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُقْسِطِ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ وَمُتَعَلِّقَهُ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ.
المسألة السَّادِسَةُ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِالصُّلْحِ قَبْلَ الْقِتَالِ، وَعَيَّنَ الْقِتَالَ عِنْدَ الْبَغْيِ ؛ فَعَلَ عَلِيٌّ بِمُقْتَضَى حَالِهِ فَإِنَّهُ قَاتَلَ الْبَاغِيَةَ الَّتِي أَرَادَتْ الِاسْتِبْدَادَ عَلَى الْإِمَامِ، وَنَقْضَ مَا رَأَى من الِاجْتِهَادِ وَالتَّحَيُّزِ عَنْ دَارِ النُّبُوَّةِ وَمَقَرِّ الْخِلَافَةِ بِفِئَةٍ تَطْلُبُ مَا لَيْسَ لَهَا طَلَبُهُ إلَّا بِشَرْطِهِ، من حُضُورِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ وَالْقِيَامِ بِالْحُجَّةِ عَلَى الْخَصْمِ ؛ وَلَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يَقُدْ عَلَيَّ مِنْهُمْ مَا احْتَاجُوا إلَى مُجَاذَبَةٍ ؛ فَإِنَّ الْكَافَّةَ كَانَتْ تَخْلَعُهُ، وَاَللَّهُ قَدْ حَفِظَهُ من ذَلِكَ، وَصَانَهُ. وَعَمِلَ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمُقْتَضَى حَالِهِ، فَإِنَّهُ صَالَحَ حِينَ اسْتَشْرَى الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِأَسْبَابٍ سَمَاوِيَّةٍ، وَمَقَادِيرَ أَزَلِيَّةٍ، وَمَوَاعِيدَ من الصَّادِقِ صَادِقَةٍ، وَمِنْهَا مَا رَأَى من تَشَتُّتِ آرَاءِ مَنْ مَعَهُ، وَمِنْهَا أَنَّهُ طُعِنَ حِينَ خَرَجَ إلَى مُعَاوِيَةَ فَسَقَطَ عَنْ فَرَسِهِ وَدَاوَى جُرْحَهُ حَتَّى بَرِئَ ؛ فَعَلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَنْ يُنَافِقُ عَلَيْهِ وَلَا يَأْمَنُهُ عَلَى نَفْسِهِ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ رَأَى الْخَوَارِجَ أَحَاطُوا بِأَطْرَافِهِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ إنْ اشْتَغَلَ بِحَرْبِ مُعَاوِيَةَ اسْتَوْلَى الْخَوَارِجُ عَلَى الْبِلَادِ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِالْخَوَارِجِ اسْتَوْلَى عَلَيْهَا مُعَاوِيَةُ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ تَذَكَّر
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : النَّبْزُ هُوَ اللَّقَبُ فَقَوْلُهُ : لَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ، أَيْ لَا تَدَاعَوْا بِالْأَلْقَابِ. وَاللَّقَبُ هُنَا اسْمٌ مَكْرُوهٌ عِنْدَ السَّامِعِ.
وَكَذَلِكَ يُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَلِكُلِّ رَجُلٍ اسْمَانِ وَثَلَاثَةٌ ؛ فَكَانَ يُدْعَى بِاسْمٍ مِنْهَا فَيَغْضَبُ ؛ فَنَزَلَتْ :﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾، وَهِيَ :
المسألة الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا.
المسألة الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ﴾ :
يَعْنِي أَنَّك إذَا ذَكَرْت صَاحِبَك بِمَا يَكْرَهُ فَقَدْ آذَيْته ؛ وَإِذَايَةُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ أَبَا ذَرٍّ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَازَعَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ أَبُو ذَرٍّ : يَا ابْنَ الْيَهُودِيَّةِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا تَرَى من هَاهُنَا من أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ، مَا أَنْتَ بِأَفْضَلَ مِنْهُ » يَعْنِي إلَّا بِالتَّقْوَى، وَنَزَلَتْ :﴿ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ﴾.
المسألة الرَّابِعَةُ : وَقَعَ من ذَلِكَ مُسْتَثْنَى من غَلَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِعْمَالُ، كَالْأَعْرَجِ وَالْأَحْدَبِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ كَسْبٌ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ عَلَيْهِ، فَجَوَّزَتْهُ الْأُمَّةُ، فَاتَّفَقَ عَلَى قَوْلِهِ أَهْلُ الْمِلَّةِ. وَقَدْ وَرَدَ لَعَمْرُ اللَّهِ من ذَلِكَ فِي كُتُبِهِمْ مَا لَا أَرْضَاهُ، كَقَوْلِهِمْ فِي صَالِحٍ جَزَرَةٌ ؛ لِأَنَّهُ صَحَّفَ زَجَرَهُ فَلقِّبَ بِهَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي مُحَمَّدِ بْنُ سُلَيْمَانَ الْحَضْرَمِيِّ مُطَيَّنٌ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي طِينٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا غَلَبَ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَلَا أَرَاهُ سَائِغًا فِي الدِّينِ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنُ رَبَاحٍ الْمِصْرِيُّ يَقُولُ : لَا أَجْعَلُ أَحَدًا صَغَّرَ اسْمَ أَبِي فِي حِلٍّ. وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى اسْمِ أَبِيهِ التَّصْغِيرَ بِضَمِّ الْعَيْنِ. وَاَلَّذِي يَضْبِطُ هَذَا كُلَّهُ مَا قَدَّمْنَاهُ من الْكَرَاهَةِ لِأَجْلِ الْإِذَايَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا من الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ﴾.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : فِي حَقِيقَةِ الظَّنِّ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ حَقِيقَةَ الظَّنِّ تَجْوِيزُ أَمْرَيْنِ فِي النَّفْسِ لِأَحَدِهِمَا تَرْجِيحٌ عَلَى الْآخَرِ. وَالشَّكُّ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِوَائِهِمَا. وَالْعِلْمُ هُوَ حَذْفُ أَحَدِهِمَا وَتَعْيِينُ الْآخَرِ. وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : أَنْكَرَتْ جَمَاعَةٌ من الْمُبْتَدِعَةِ تَعَبُّدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالظَّنِّ، وَجَوَازُ الْعَمَلِ بِهِ تَحَكُّمٌ فِي الدِّينِ، وَدَعْوَى فِي الْعُقُولِ ؛ وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ أَصْلٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْبَارِي تَعَالَى لَمْ يَذُمَّ جَمِيعَهُ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الذَّمُّ كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا فِي بَعْضِهِ.
وَمُتَعَلِّقُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :«إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا ». وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ فِي الشَّرِيعَةِ قِسْمَانِ : مَحْمُودٌ، وَمَذْمُومٌ ؛ فَالْمَحْمُودُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ :﴿ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ ﴾، وَقَوْلُهُ :﴿ لَوْلَا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا ﴾. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إذَا كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لَا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسَبُهُ كَذَا، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا ». وَعِبَادَاتُ الشَّرْعِ وَأَحْكَامُهُ ظَنِّيَّةٌ فِي الْأَكْثَرِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْغَبِيِّ وَالْفَطِنِ.
المسألة الْأُولَى : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ : بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ ؛ وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ من تُرَابٍ » ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ يَأَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُمْ من ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾. وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ.
المسألة الثَّانِيَةُ : بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ من ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَهُ دُونَهُمَا كَخَلْقِهِ لِآدَمَ، أَوْ دُونَ ذَكَرٍ كَخَلْقِهِ لِعِيسَى، أَوْ دُونَ أُنْثَى كَخَلْقِهِ لِحَوَّاءَ من إحْدَى الْجِهَتَيْنِ. وَهَذَا الْجَائِزُ فِي الْقُدْرَةِ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْوُجُودُ. وَقَدْ جَاءَ أَنَّ آدَمَ خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ حَوَّاءَ من ضِلْعٍ انْتَزَعَهَا من أَضْلَاعِهِ، فَلَعَلَّهُ هَذَا الْقِسْمُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ كَيْفِيَّةَ الْخَلْقِ من مَاءِ الذَّكَرِ وَمَاءِ الْأُنْثَى بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ : خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى أَنْسَابًا وَأَصْهَارًا وَقَبَائِلَ وَشُعُوبًا، وَخَلَقَ لَهُمْ مِنْهَا التَّعَارُفَ، وَجَعَلَ لَهُمْ بِهَا التَّوَاصُلَ، لِلْحِكْمَةِ الَّتِي قَدَّرَهَا، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَا ؛ فَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ يَجُوزُ نِسْبَةً، فَإِذَا نَفَاهُ عَنْهُ [ أَحَدٌ ] اسْتَوْجَبَ الْحَدَّ يَقْذِفُهُ لَهُ، مِثْلُ أَنْ يَنْفِيَهُ عَنْ رَهْطِهِ وَجِنْسِهِ، كَقَوْلِهِ لِلْعَرَبِيِّ : يَا عَجَمِيِّ، واللعجمي : يَا عَرَبِيِّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَقَعُ بِهِ النَّفْيُ حَقِيقَةً، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ.
المسألة الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ :
قَدْ بَيَّنَّا الْكَرَمَ، وَأَوْضَحْنَا حَقِيقَتَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ من صَحِيحِ الْحَدِيثِ.
وَفِي صَحِيحِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :«الْحَسَبُ الْمَالُ، وَالْكَرَمُ التَّقْوَى ». ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :«الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ ».
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ :«إنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِي ».
وَلِذَلِكَ كَانَ أَكْرَمَ الْبَشَرِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي لَحَظَ مَالِكٌ فِي الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ.
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَالِكٍ يُزَوَّجُ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ. وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : يُرَاعَى الْحَسَبُ وَالْمَالُ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ عُقْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَنَّى سَالِمًا، وَأَنْكَحَهُ هِنْدَ بِنْتَ أَخِيهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ من الْأَنْصَارِ، وَضُبَاعَةُ بِنْتُ الزُّبَيْرِ كَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ [ الْكِنْدِيِّ ] فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الْمَوْلَى الْعَرَبِيَّةَ. وَإِنَّمَا تُرَاعَى الْكَفَاءَةُ فِي الدِّينِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا رَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ فِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَنْ يَنْكِحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ. قَالَ : ثُمَّ سَكَتَ. فَمَرَّ رَجُلٌ من فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا :[ هَذَا ] حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَلَّا يَنْكِحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَلَّا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَلَّا يُسْمَعَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : هَذَا خَيْرٌ من مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلِ هَذَا ».
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :«تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَجَمَالِهَا وَدِينِهَا وَفِي رِوَايَةٍ : وَحَسَبِهَا، فَعَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك ».
وَقَدْ خَطَبَ سَلْمَانُ إلَى أَبِي بَكْرٍ ابْنَتَهُ فَأَجَابَهُ وَخَطَبَ إلَى عُمَرَ ابْنَتَهُ فَالْتَوَى عَلَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يَنْكِحَهَا، فَلَمْ يَفْعَلْ سَلْمَانُ، «وَخَطَبَ بِلَالٌ بِنْتَ الْبُكَيْرِ فَأَبَى إخْوَتُهَا، فَقَالَ بِلَالٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَاذَا لَقِيت من بَنِي الْبُكَيْرِ ! خَطَبْت إلَيْهِمْ أُخْتَهمْ فَمَنَعُونِي وَآذُونِي. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أَجْلِ بِلَالٍ ؛ فَبَلَغَهُمْ الْخَبَرُ، فَأَتَوْا أُخْتَهُمْ، فَقَالُوا : مَاذَا لَقِينَا من سَبَبِك، غَضِبَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أَجْلِ بِلَالٍ. فَقَالَتْ أُخْتُهُمْ أَمْرِي بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ فَزَوَّجَهَا بِلَالًا »، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَبِي هِنْدٍ حِينَ حَجَمَهُ :«أَنْكِحُوا أَبَا هِنْدٍ وَأَنْكِحُوا إلَيْهِ وَهُوَ مَوْلَى بَنِي بَيَاضَةَ ».