تفسير سورة الحجرات

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط، لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني المصطلق - بعد الوقعة – مصدقا. وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلما سمع به القوم تلقوه، تعظيما لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فحدثه الشيطان : أنهم يريدون قتله، فهابهم، ورجع من الطريق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : إن بني المصطلق منعوا صدقاتهم، وأرادوا قتلي، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك، فخرجنا نتلقاه ونكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من حق الله، فبدا لنا، فخشينا أنه إنما رده من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا. وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. فاتهمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث خالد بن الوليد خفية في عسكر، وأمره أن يخفي عليهم قدومه، وقال له :«انظر، فإن رأيت منهم ما يدل على إيمانهم فخذ منهم زكاة أموالهم. وإن لم تر ذلك فاستعمل فيهم ما تستعمل في الكفار » ففعل ذلك خالد، ووافاهم، فسمع منهم أذان صلاتي المغرب والعشاء، فأخذ منهم صدقاتهم، ولم ير منهم إلا الطاعة والخير. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر. فنزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ﴾.
و«النبأ » هو الخبر الغائب عن المخبر، إذا كان له شأن. ( والتبين ) طلب بيان حقيقته، والإحاطة بها علما.
وهاهنا فائدة لطيفة : وهي أنه سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق وتكذيبه وشهادته جملة. وإنما أمر بالتبين. فإن قامت قرائن وأدلة من خارج تدل على صدقه عمل بدليل الصدق، ولو أخبر به من أخبر.
فهكذا ينبغي الاعتماد في رواية الفاسق وشهادته. وكثير من الفاسقين يصدقون في أخبارهم ورواياتهم وشهاداتهم، بل كثير منهم يتحرى الصدق غاية التحري، وفسقه من جهات أخرى. فمثل هذا لا يرد خبره ولا شهادته، ولو ردت شهادة مثل هذا وروايته لتعطلت أكثر الحقوق، وبطل كثير من الأخبار الصحيحة، ولاسيما مَنْ فسقه من جهة الكذب : فإن كثر منه وتكرر، بحيث يغلب كذبه على صدقه، فهذا لا يقبل خبره ولا شهادته.
وإن ندر منه مرة ومرتين ففي رد شهادته وخبره بذلك قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد رحمهم الله.
هذا من أحسن القياس التمثيلي. فإنه شبه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه.
ولما كان المرتاب يمزق عرض أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت.
ولما كان المغتاب عاجزا عن دفعه عن نفسه بكونه غائبا عن ذمه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه.
ولما كان مقتضى الأخوة : التراحم والتواصل والتناصر، فعلق عليها المغتاب ضد مقتضاها من الذم والعيب والطعن : كان ذلك نظير تقطيع لحم أخيه، والأخوة تقتضي حفظه وصيانته والذب عنه.
ولما كان المغتاب متمتعا بعرض أخيه متفكها بغيبته وذمه متحليا بذلك شبه بآكل لحم أخيه بعد تقطيعه.
ولما كان المغتاب محبا لذلك معجبا به : شبه بمن يحب أكل لحم أخيه ميتا ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله، كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه.
فتأمل هذا التشبيه والتمثيل، وحسن موقعه، ومطابقة المعقول فيه المحسوس.
وتأمل إخباره عنهم بكراهة أكل لحم الأخ ميتا، ووصفهم بذلك في آخر الآية، والإنكار عليهم في أولها : أن يحب أحدهم ذلك، فكما أن هذا مكروه في طباعهم، فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره ؟
فاحتج عليهم بما كرهوه على ما أحبوه. وشبه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم، وهم أشد شيء نفرة عنه.
فلهذا يوجب العقل والفطرة والحكمة : أن يكونوا أشد شيء نفرة عما هو نظيره ومشبهه. وبالله التوفيق.
قالوا : والحس شاهد : أن الأجزاء التي في المولود من أمه أضعاف أضعاف الأجزاء التي فيه من أبيه. فثبت أن تكوينه من مني الأم ودم الطمث، ومني الأب عاقد له كالأنفحة.
ونازعهم الجمهور، وقالوا : إنه يتكون من مني الرجل والأنثى، ثم لهم قولان :
أحدهما : أن يكون من منى الذكر أعضاؤه، وأجزاؤه، ومن مني الأنثى صورته.
والثاني : أن الأعضاء والأجزاء والصورة تكونت من مجموع الماءين، وأنهما امتزجا واختلطا وصارا ماء واحدا. وهذا هو الصواب، لأننا نجد الصورة والتشكيل تارة إلى الأب، وتارة إلى الأم. والله أعلم.
وقد دل على هذا قوله تعالى :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ﴾ والأصل : هو الذكر. فمنه البذر، ومنه السقي. والأنثى وعاء ومستودع لولده. تربيه في بطنها، كما تربيه في حجرها، ولهذا كان الولد للأب حكما ونسبا. وأما تبعيته للأم في الحرية والرق فلأنه إنما تكون وصار ولدا في بطنها، وغذته بلبانها مع الجزء الذي فيه منها، وكان الأب أحق بنسبه وتعصيبه لأنه أصله ومادته ونسخته. وكان أشرفهما دينا أولى به، تغليبا لدين الله وشرعه.
Icon