تفسير سورة الحجرات

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تُقدّموا بين يدي الله ورسوله... ﴾ ( ١ ) الآية [ الحجرات : ١ ].
﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ ذُكر في السورة خمس مرات، والمخاطبون فيها المؤمنون، والمخاطَب به أمر، أو نهي، وذُكر فيها ﴿ يا أيها الناس ﴾ مرّة، والمخاطبون فيها يعمّ المؤمنين والكافرين، كما أن المخاطب به وهو قوله :﴿ إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ﴾ [ الحجرات : ١٣ ] يعمُّهما، فناسب فيها ذكر الناس، وقوله :﴿ لا تقدّموا ﴾ من قدّم بمعنى تقدّم، لأن المراد به نهيُهم عن أن يتقدّموا على النبي صلى الله عليه وسلم، بقولٍ، أو فعلٍ، لا عن أن يُقدِّموا غيرهم.
١ - إنما حُذف المفعول، ليذهب ذهن السامع إلى كل ما يمكن تقديمُه، من قول، أو رأي، أو حكم، أو عمل، أي لا تتقدموا عليه بشيء أصلا، فله الرأي وله الأمر صلى الله عليه وسلم..
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول... ﴾ [ الحجرات : ٢ ].
فائدة ذكر ﴿ ولا تجهروا له بالقول ﴾ بعد قوله :﴿ لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ﴾ النهي عن الجهر في مخاطبته، وإنْ لم يتضمّن رفع أصواتهم على صوته.
وقيل : المراد النهي عن مخاطبته صلى الله عليه وسلم باسمه.
قوله تعالى :﴿ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ﴾ [ الحجرات : ٢ ] أي مخافة حبوطها.
فإن قلتَ : كيف قال ذلك، مع أن الأعمال إنما تحبط بالكفر، ورفع الصوت على صوت النبي ليس بكفر ؟
قلتُ : المراد به الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه ربما يؤدي إلى الكفر( ١ ).
وقيل : حبوط العمل هنا مجاز عن نقصان المنزلة، وانحطاط الرتبة.
١ - رفع الصوت في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم مخالف للأدب، وربّما جرّ إلى الكفر، إن استخفّ الإنسان بقدره ومقامه صلى الله عليه وسلم، وقد رُوي أن "ثابت بن قيس" كان رفيع الصوت، فلما نزلت الآية قال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا من أهل النار، وجلس في بيته حزينا، فافتقده صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبره، فطلبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: بل أنت من أهل الجنة، أترضى أن تعيش حميداً، وتُقتل شهيدا، وتدخل الجنة ؟ فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله، والله لا أرفع صوتي أبدا، على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم..
قوله تعالى :﴿ ولكن الله حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان ﴾ [ الحجرات : ٧ ].
إن قلتَ : ما فائدة الجمع بين الفِسق والعصيان ؟   !
قلتُ : الفسوق : الكذب، كما نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما، والعصيان : بقيّة المعاصي، وإنما أفرد الكذب بالذكر، لأنه سبب نزول هذه الآية.
وقيل : الفسوق : الكبيرة، والعصيان : الصغيرة( ١ ).
١ - الفسوق: الخروج عن طاعة الله بالجرائم الكبيرة، والعصيان معصية أمر الله وأمر رسوله بصغائر الذنوب. قال ابن كثير: والمراد بالفسوق: الذنوب الكبار، وبالعصيان جميع المعاصي. اﻫ المختصر ٣/٢٣٤..
قوله تعالى :﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا... ﴾ [ الحجرات : ١٤ ].
المنفيّ هنا : الإيمان بالقلب، والمُثبت : الانقياد ظاهرا، فهما في اللغة متغايران بهذا الاعتبار، كما أنهما في الشرع مختلفان مفهوما، متّحدان صدقا، إذِ الإيمان هو التصديق بالقلب، بشرط التلفظ بالشهادتين، والإسلام بالعكس( ١ ).
١ - أخرجه البخاري ومسلم..
قوله تعالى :﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا... ﴾ الآية [ الحجرات : ١٥ ].
إن قلتَ : العمل ليس من الإيمان، فكيف ذكر أنه منه في هذه الآية ؟
قلتُ : المراد منها الإيمان الكامل، أي إنما المؤمنون إيمانا كاملا، كما في قوله تعالى :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾ [ فاطر : ٢٨ ]. وقوله صلى الله عليه وسلم :( المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده ) ( ١ ).
١ - الإيمان: هو التصديق القلبيّ، بكل ما يجب على المؤمن اعتقاده، من الإيمان بالله، والملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والإيمان بالقضاء والقدر، وسائر ما أخبر الله عنه من الأمور المغيّبة، وأما الإسلام فهو الانقياد والطاعة لله عز وجل، بالشهادة له بالوحدانية، وأداء الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، فبينهما اختلاف من وجه، واتفاق من وجه آخر..
Icon