روى ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إن الله أعطاني السبع الطول مكان التوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني مكان الزبور المثاني، وفضلني ربي بالمفصل ). أما السبع الطول فقد ذكرناها عند قوله :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مّنَ الْمَثَانِي ﴾ [ الحجر : ٨٧ ]. وأما المئون، فقال ابن قتيبة : هي ما ولي الطول، وإنما سميت بالمئين، لأن كل سورة تزيد على مائة آية أو تقاربها، والمثاني : ما وَلي المئين من السور التي دون المائة، كأن المئين مباد، وهذه مثان، وأما المُفصل، فهو ما يلي المثاني من قصار السور، وإنما سميت مفصلا لقصرها وكثرة الفصول فيها بسطر : بسم الله الرحمن الرحيم.
وقد ذكر الماوردي في أول تفسيره في المفصل ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه من أول سورة [ مُحَمَّدٌ ] إلى آخر القرآن، قاله الأكثرون.
والثاني : من سورة [ قاف ] إلى آخره، حكاه عيسى بن عمر عن كثير من الصحابة.
والثالث : من [ الضحى ] إلى آخره، قاله ابن عباس.
ﰡ
وهي مدنيّة بإجماعهم (١٣٠٣) روى ثوبان عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنّ الله أعطاني السّبع الطّول مكان التّوراة، وأعطاني المئين مكان الإنجيل، وأعطاني مكان الزّبور المثاني، وفضّلني ربّي بالمفصّل».
أمّا السّبع الطّول فقد ذكرناها «عند قوله» : وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «١». وأمّا المئون، فقال ابن قتيبة: هي ما ولي الطّول، وإنّما سمّيت بالمئين، لأنّ كلّ سورة تزيد على مائة آية أو تقاربها، والمثاني:
ما ولي المئين من السّور التي دون المائة، كأنّ المئين مباد، وهذه مثان. وأمّا المفصّل فهو ما يلي المثاني من قصار السّور، وإنما سمّيت مفصّلا لقصرها وكثرة الفصول فيها بسطر: بسم الله الرّحمن الرّحيم. وقد ذكر الماوردي في أول «تفسيره» في المفصّل ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أنه من أول سورة (محمّد) إلى آخر القرآن، قاله الأكثرون. والثاني: من سورة (قاف) إلى آخره، حكاه عيسى بن عمر عن كثير من الصحابة. والثالث: من (الضّحى) إلى آخره، قاله ابن عباس.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١ الى ٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(١٣٠٤) أحدها: أن رَكْباً من بني تميم قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن
صحيح. أخرجه البخاري ٤٣٦٧ عن إبراهيم بن موسى به. وأخرجه أبو يعلى ٦٨١٦ من طريق هشام بن-
__________
(١) الحجر: ٨٧.
(٢) قال ابن كثير في «تفسيره» ٤/ ٢٥٨: سورة ق هي أول الحزب المفصّل على الصحيح، وقيل: من الحجرات، وأما ما يقوله العامة: إنه من (عمّ)، فلا أصل له، ولم يقله أحد من العلماء المعتبرين فيما نعلم.
(١٣٠٥) والثاني: أن قوماً ذَبحوا قبل أن يصلّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم النّحر، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعيدوا الذّبح، فنزلت هذه الآية، قاله الحسن.
(١٣٠٦) والثالث: أنها نزلت في قوم كانوا يقولون: لو أنزَلَ اللهُ فِيَّ كذا وكذا! فكَرِه اللهُ ذلك، وقدَّم فيه، قاله قتادة.
(١٣٠٧) والرابع: أنها نزلت في عمرو بن أميّة الضّمْري، وكان قد قتل رجُلين من بني سليم قبل أن يستأذن رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن السائب.
وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسّنّة. وروى العوفيّ عنه قال: نهوا أن يتكلمَّوا بين يَدَيْ كلامه، وروي عن عائشة رضي الله عنها في هذه الآية قالت: لا تصوموا قبل أن يصومَ نبيُّكم. ومعنى الآية على جميع الأقوال «١» : لا تعجلوا بقول أو فعل قبل أن يقول رسول
ضعيف جدا. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٢٩٢٣ عن الحسن مرسلا، وفيه انقطاع بين معمر والحسن، ومع ذلك مراسيل الحسن واهية كما هو مقرر عند علماء هذا الفن. وأخرجه الطبري ٣١٦٦٠ و ٣١٦٦١ عن الحسن أيضا والصحيح في ذلك ما رواه البخاري وقد تقدم. فائدة: قال الزمخشري رحمه الله في «الكشاف» ٤/ ٣٥٣: وهذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، إلا أن تزول الشمس. وعند الشافعي يجوز الذبح إذا مضى من الوقت مقدار الصلاة. وقد تقدم الكلام عليه في سورة الحج.
أخرجه الطبري ٣١٦٦١ عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
عزاه المصنف لابن السائب الكلبي، وهو متروك متهم بالوضع. والقول الأول هو الراجح.
__________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٢٤٢: هذه آداب أدّب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية، أي لا تسرعوا في الأشياء بين يديه أي قبله، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور. وقال ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» ٤/ ١٤٤: إذا قلنا إنها نزلت في تقديم الطاعات على أوقاتها فهو صحيح، لأن كل عبادة مؤقتة بميقات لا يجوز تقديمها عليه، كالصلاة والصوم والحج، وذلك بين، إلا أن العلماء اختلفوا في الزكاة لما كانت عبادة مالية، وكانت مطلوبة لمعنى مفهوم، وهو سد خلّة الفقير، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم استعجل من العباس صدقة عامين، ولما جاء من جمع صدقة الفطر قبل يوم الفطر حتى تعطى لمستحقها يوم الوجوب، وهو يوم الفطر، فاقتضى ذلك كله جواز تقديمها. وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز تقديمها لعام ولاثنين. فإن جاء رأس العام والنصاب بحاله وقعت موقعها، وإن جاء رأس الحول وقد تغير النصاب تبين أنها صدقة تطوع. وقال أشهب: لا يجوز تقديمها على الحول لحظة، كالصلاة، وكأنه طرد الأصل في العبادات فرأى أنها إحدى دعائم الإسلام، فوفّاها حقّها في النظام وحسن الترتيب. ورأى سائر علمائنا أن التقديم اليسير فيها جائز، لأنه معفو عنه في الشرع، بخلاف الكثير. وما قاله أشهب أصح، فإن مفارقة اليسير الكثير في أصول الشريعة صحيح، ولكنه لمعان تختص باليسير دون الكثير، فأما في مسألتنا فاليوم فيه كالشهر والشهر كالسنة، فإما تقديم كلي كما قال أبو حنيفة والشافعي، وإما حفظ العبادة وقصرها على ميقاتها كما قال أشهب وغيره، وذلك يقوى في النظر، والله أعلم. [.....]
كلاهما واحد فأمّا «بينَ يَدَيِ اللهِ ورسولِهِ» فهو عبارة عن الأمام، لأن ما بين يَدَيِ الإِنسان أمامَه فالمعنى: لا تَقَدَّموا قُدّام الأمير.
قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ في سبب نزولها قولان:
(١٣٠٨) أحدهما: أن أبا بكر وعمر رفعا أصواتهما فيما ذكرناه آنفاً في حديث ابن الزبير، وهذا قول ابن أبي مليكة.
(١٣٠٩) والثاني: أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شمَّاس، وكان جَهْوَرِيَّ الصَّوت، فربما كان إِذا تكلَّم تأذَّى رسول الله صلّى الله عليه وسلم بصوته. قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ فيه قولان. أحدهما: أن الجهر بالصَّوت في المخاطبة، قاله الأكثرون. والثاني: لا تَدْعوه باسمه يا محمد كما يدعو بعضُكم بعضاً ولكن قولوا: يا رسول الله، ويا نبيَّ الله، وهو معنى قول سعيد بن جبير والضحاك ومقاتل. قوله تعالى: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ قال ابن قتيبة: لئلا تَحْبَطَ. وقال الأخفش: مَخافة أن تَحْبَطَ، قال أبو سليمان الدمشقي: وقد قيل معنى الإحباط هاهنا: نقص المَنْزِلة، لا إِسقاط العمل من أصله كما يسقط بالكفر. قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ.
(١٣١٠) قال ابن عباس: لمّا نزل قوله: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ تألَّى أبو بكر أن لا يكلّم رسول
غريب. قال الحافظ في «تخريجه» ٤/ ٣٥٣: لم أجده اه. قلت: ويغني عنه حديث أنس. أخرجه البخاري ٣٦١٣ و ٤٨٤٦ ومسلم ١٨٨ والنسائي في «التفسير» ٥٣٣ والواحدي في «أسبابه» ٧٥٣ والبغوي في «التفسير» ٤/ ٨٩. وله شواهد كثيرة راجع الطبري ٣١٦٦٩- ٣١٦٧٩- ٣١٧١. ولفظ البخاري في الرواية الأولى عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل يا رسول الله أنا أعلم لك علمه.
فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه، فقال: «ما شأنك» فقال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل فأخبره أنه قال كذا وكذا فقال موسى بن أنس فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب إليه فقل له: «إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة».
ذكره الواحدي في «الأسباب» ٧٥٥ بدون إسناد عن ابن عباس. وأخرجه البزار ٢٢٥٧ «كشف» وابن عدي ٢/ ٣٩٦ والحاكم ٣/ ٧٤ من حديث أبي بكر، وإسناده ضعيف لضعف حصين بن عمر الأحمسي، فإنه
والغَضُّ: النَّقْص كما بيَّنّا عند قوله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا «١». أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ قال ابن عباس: أخلصها لِلتَّقْوى من المعصية. وقال الزجاج: اختبر قلوبهم فوجدهم مُخلصين، كما تقول: قد امتحنت هذا الذهب والفضة، أي: اختبرتهما بأن أذبتهما حتى خَلَصا، فعلمت حقيقة كل واحد منهما. وقال ابن جرير: اختبرها بامتحانه إيّاها، فاصطفاها وأخلصها للتّقوى.
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٤ الى ٥]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(١٣١١) أحدها: أن بني تميم جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنادَوْا على الباب: يا محمد اخرُج إِلينا، فإنَّ مَدْحَنا زَيْن وإِن ذَمَّنا شَيْن، فخرج وهو يقول: «إنما ذلكم الله» فقالوا: نحن ناس من بني تميم جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال: «ما بالشعر بُعِثْتُ ولا بالفخَار أُمِرْتُ، ولكن هاتوا»، فقال الزبرقان بن بدر لشابً منهم: قمُ ْفاذكُر فَضْلك وفَضْل قومك، فقام فذكر ذلك، فأمر رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم ثابتَ بن قيس، فأجابه، وقام شاعرُهم، فأجابه حسان، فقال الأقرع بن حابس: والله ما أدري ما هذا الأمر؟! تكلَّم خطيبُنا فكان خطيبُهم أحسنَ قولاَ، وتكلم شاعرُنا فكان شاعرُهم أشعَر، ثم دنا فأسلم، فأعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكساهم، وارتفعت الأصوات وكثر اللَّغَط عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، هذا قول جابر بن عبد الله في آخرين.
(١٣١٢) وقال ابن اسحاق: نزلت في جُفاة بني تميم، وكان فيهم الأقرع بن حابس، وعيينة بن
وورد من حديث أبي هريرة، أخرجه الحاكم ٢/ ٤٦٢ وقال: على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقد ذهب ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ٢٤٢ إلى أن هذا الحديث يتأيد بشواهده والله أعلم.
أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٧٥٩ من حديث جابر مطوّلا وفيه معلى بن عبد الرحمن ضعيف.
وهذا الخبر أخرجه ابن سعد في «الطبقات ١/ ٢٢٤- ٢٢٥ من طريق الواقدي عن محمد بن عبد الله عن الزهري، وعن عبد الله بن يزيد عن سعيد بن عمرو مرسلا بنحوه، والواقدي متروك. وأخرجه ابن إسحاق وابن مردويه كما في «الدر» ٦/ ٩٠ من حديث ابن عباس بنحوه. وصدر الحديث ورد مسندا عند الترمذي ٣٢٦٧ والنسائي في «التفسير» ٥٣٥ والطبري ٣١٦٧٦ من طريق الحسين بن واقد عن أبي إسحاق عن البراء:
«إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ فقال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن حمدي زين، وإن ذمي شين فقال: ذاك الله تبارك وتعالى». قال الترمذي: حديث حسن غريب. وقال ابن كثير في «السيرة» بعد أن ذكر هذا الحديث ٤/ ٨٦: وهذا إسناد جيد متصل. وله شاهد من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس. أخرجه أحمد ٣/ ٤٨٨ و ٦/ ٣٩٣ و ٣٩٤ والطبري ٣١٦٧٩ والطبراني ٨٧٨. وقال الهيثمي في «المجمع» ٧/ ١٠٨: وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح، إن كان أبو سلمة سمع من الأقرع، وإلا فهو مرسل. وأخرجه الطبري ٣١٦٨١ عن قتادة مرسلا و ٣١٦٨٤ عن الحسن مرسلا.
عزاه المصنف لابن إسحاق، وهذا معضل انظر «الدرّ» ٦/ ٩٠.
__________
(١) النور: ٣٠.
(١٣١٣) والثاني: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث سريَّة إِلى بني العنبر، وأمَّر عليهم عيينة بن حصن الفزاري، فلما عَلِموا بذلك هربوا وتركوا عيالهم، فسباهم عيينة، فجاء رجالُهم يَفْدون الذَّراري، فقَدِموا وقت الظهيرة ورسولُ الله صلّى الله عليه وسلم قائل، فجعلوا ينادون: يا محمد اخْرُج إِلينا، حتى أيقظوه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(١٣١٤) والثالث: أن ناساً من العرب قال بعضهم لبعض: انطلِقوا بنا إِلى هذا الرجُل، فإن يكن نبيّاً نكن أسعد الناس به، وإِن يكن ملِكاً نعش في جناحه، فجاؤوا، فجعلوا ينادون: يا محمد، يا محمد، فنزلت هذه الآية، قاله زيد بن أرقم.
فأمّا «الحجرات» فقرأ أُبيُّ بن كعب، وعائشة، وأبو عبد الرحمن السلمي، ومجاهد وأبو العالية، وابن يعمر، وأبو جعفر، وشيبة: بفتح الجيم وأسكنها أبو رزين، وسعيد بن المسيب، وابن أبي عبلة وضمها الباقون. قال الفراء: وجه الكلام أن تُضمَّ الحاء والجيم، وبعض العرب يقول: الحُجُرات والرُّكبات، وربما خفَّفوا فقالوا: «الحُجْرات» والتخفيف في تميم، والتثقيل في أهل الحجاز. وقال ابن قتيبة: واحد الحُجُرات حُجرة، مثل ظُلْمة وظُلُمات، قال المفسرون: وإنما نادَوا من وراء الحُجرات، لأنهم لم يعلموا في أيّ الحُجَر رسولُ الله.
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ قال الزجاج: أي: لكان الصَّبر خيراً لهم، وفي وجه كونه خيراً لهم قولان: أحدهما: لكان خيراً لهم فيما قَدِموا له من فداء ذراريهم، فلو صَبَروا خلَّى سبيلهم بغير فداءٍ، قاله مقاتل. والثاني: لكان أحسنَ لآدابهم في طاعة الله ورسوله، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: لمن تاب منهم.
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٦ الى ٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
أخرجه الطبري ٣١٦٧٨ من طريق داود الطفاوي عن أبي مسلم البجلي عن زيد بن أرقم به، وإسناده ضعيف، أبو مسلم مجهول، وداود ضعفه ابن معين، ووثقه ابن حبان، ومع ذلك يشهد له حديث جابر.
الخلاصة: أكثر هذه الروايات يذكر فيها الأقرع بن حابس، والظاهر أنه قدم معه وفد فتارة يذكر الرواة الوفد، وتارة يذكرون الأقرع ويسمونه لأنه أمير الوفد من بني تميم، فالحديث أصله محفوظ، وقد جوّد ابن كثير أحد طرقه كما تقدم، وتقدم أيضا أسبابا أخرى لنزول هذه الآيات، والظاهر تعدد الأسباب، والله أعلم.
(١٣١٥) نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلى بني المصطلق ليِقَبْضِ صدقاتهم، وقد كانت بينه وبينهم عداوة في الجاهليّة، فلما سمع به القوم تلقّوه تعظيما لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم إنه رجع إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: إنّ بني المصطلق قد منعوا الصدقة وأرادوا قتلي، فصرف رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم البَعْثَ إِليهم، فنزلت هذه الآية.
وقد ذكرتُ القصد في كتاب «المُغني» وفي «الحدائق» مستوفاة، وذكرتُ معنى «فتبيَّنوا» في سورة النساء «١»، والنَّبأ: الخبر، و «أنْ» بمعنى «لئلاً»، والجهالة هاهنا: أن يجهل حال القوم، فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ من إِصابتهم بالخطأِ نادِمِينَ. ثم خوَّفهم فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أي إِن كَذَبتموه أَخبره اللهُ فافتُضِحْتُم، ثم قال: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ أي ممّا تخبرونه فيه بالباطل لَعَنِتُّمْ أي لَوَقَعْتُم في عَنََتٍ. قال ابن قتيبة: وهو الضَّرر والفساد. وقال غيره: هو الإِثم والهلاك. وذلك أن المسلمين لمّا سَمِعوا أن أولئك القوم قد كَفَروا قالوا:
(١٣١٦) ابْعَثْ إِليهم يا رسولَ الله واغْزُهم واقْتُلهم.
ثم خاطب المؤمنين فقال: وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ إِلى قوله: وَالْعِصْيانَ، ثم عاد إِلى الخبر عنهم فقال: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي: المهتدون إِلى محاسن الأُمور، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ قال الزجاج: المعنى: ففعل بكم ذلك فضلاً، أي: للفضل والنّعمة.
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٩ الى ١٠]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
وورد من حديث علقمة بن ناجية: أخرجه الطبراني ١٧/ ٦- ٨ وإسناده ضعيف، لضعف يعقوب بن كاسب، لكن توبع كما ذكر الهيثمي في «المجمع» ١١٣٥٤. وورد من حديث أم سلمة: أخرجه الطبراني في «الكبير» ٢٣/ ٤٠١ وقال الهيثمي ١١٣٥٧: فيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف. وورد عن قتادة مرسلا. أخرجه الطبري ٣١٦٨٨. وورد من مرسل يزيد بن رومان: أخرجه الطبري ٣١٦٩٢. وورد من مرسل ابن أبي ليلى. أخرجه الطبري ٣١٦٩٠ و ٣١٦٩١. فالحديث بهذه الشواهد الموصولة والمرسلة يتقوى ويرقى إلى درجة الحسن الصحيح والله أعلم. وانظر مزيد الكلام عليه في «أحكام القرآن» لابن العربي ١٩٨٦ و «تفسير القرطبي» ٥٥٦١ بتخريجنا ولله الحمد والمنة.
لم أجده بهذا اللفظ. وأخرجه الطبري ٣١٦٩٢ عن ابن إسحاق عن يزيد بن رومان بنحوه.
__________
(١) النساء: ٩٤.
(١٣١٧) أحدهما: ما روى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أنس بن مالك قال: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو أتيت عبد الله بن أُبيٍّ، فركب حماراً وانطلق معه المسلمون يمشون، فلمّا أتاه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال: إليك عني، فو الله لقد آذاني نتن حمارك، فقال رجل من الأنصار: واللهِ لحمارُ رسولِ الله أطيبُ ريحاُ منك، فغضب لعبد الله رجلٌ من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابُه، فكان بينهم ضربٌ بالجريد والأيدي والنِّعال، فبلغَنا أنه أُنزلت فيهم «وإِن طائفتان... » الآية.
(١٣١٨) وقد أخرجا جميعاً من حديث أسامة بن زيد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج يعود سعد بن عبادة، فمرَّ بمجلس فيهم عبدُ الله بن أُبيّ، وعبدُ الله بن رواحة، فخمَّر ابنُ أُبيّ وجهه بردائه، وقال: لا تغبِّروا علينا، فذكر الحديث، وأن المسلمين والمشركين واليهود استَبُّوا. وقد ذكرت الحديث بطوله في «المغني» و «الحدائق».
(١٣١٩) وقال مقاتل: وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الأنصار وهو على حمار له، فبال الحمار، فقال عبد الله بن أُبيٍّ: أف، وأمسك على أنفه، فقال عبد الله بن رواحة: واللهِ لَهُوَ أطيبُ ريحاً منك، فكان بين قوم ابن أُبيُّ وابن رواحة ضرب بالنِّعال والأيدي والسَّعَف، ونزلت هذه الآية.
(١٣٢٠) والقول الثاني: أنها نزلت في رجلين من الأنصار كانت بينهما مُماراة في حقِّ بينهما، فقال أحدهما: لآخذنَّ حقي عَنوة، وذلك لكثرة عشيرته، ودعاه الآخر ليحاكمه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يزل الأمر بينهما حتى تناول بعضهم بعضاً بالأيدي والنعال، قاله قتادة.
وقال مجاهد: المراد بالطائفتين: الأوس والخزرج اقتتلوا بالعصي بينهم. وقرأ أبي بن كعب، وابن مسعود، وأبو عمران الجوني: «اقتتلا» على فعل اثنين مذكَّرين. وقرأ أبو المتوكل الناجي، وأبو الجون، وابن أبي عبلة: «اقتتلتا» بتاء وألف بعد اللام على فعل اثنين مؤنثتين. وقال الحسن وقتادة والسدي فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما «١» بالدعاء إِلى حكم كتاب الله عزّ وجلّ والرضى بما فيه لهما وعليهما
صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٦٦ و ٥٦٦٣ و ٦٢٥٤ ومسلم ١٧٩٨ وأحمد ٥/ ٢٠٣ وابن حبان ٦٥٨١ من حديث أسامة بن زيد، وهو حديث مطول.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو واه، لكن ورد أيضا عن الزهري، أخرجه الطبري ٣١٧١٠ مع اختلاف يسير فيه ولأصله شواهد، لكن ذكر نزول الآية لا يصح.
ضعيف. أخرجه الطبري ٣١٧٠٧ و ٣١٧٠٨ عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
__________
(١) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» ٤/ ١٤٩: هذه الآية هي الأصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين وعليها عول الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة. ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدّى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة. وقوله تعالى: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أمر الله تعالى بالقتال، وهو فرض على الكفاية وإنّ الله سبحانه أمر بالصلح قبل القتال، وعين القتال عند البغي وقد قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه البغاة والمرتدين، فأما البغاة فهم الذين منعوا الزكاة بتأويل ظنا منهم أنها سقطت بموت النبي صلّى الله عليه وسلّم- وفي قتال المسلمين للفئة الباغية قال: ولا يقتل أسيرهم، ولا يتبع منهزمهم، لأن المقصود دفعهم لا قتلهم.
قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ قال الزجاج: إِذا كانوا متفقين في دينهم رجَعوا باتفاقهم إِلى أصل النسب، لأنهم لآدم وحواءَ، فإذا اختلفت أديانهم افترقوا في النسب.
قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ قرأ الأكثرون: «بين أخويكم» بياء على التثنية. وقرأ أُبيُّ بن كعب، ومعاوية، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وقتادة، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، ويعقوب: «بين إِخوتكم» بتاء مع كسر الهمزة على الجمع. وقرأ علي بن أبي طالب، وأبو رزين، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، والشعبي، وابن سيرين: «بين إخوانكم» بالنون وألف قبلها. قال قتادة:
ويعني بذلك الأوس والخزرج.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١)
قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ هذه الآية نزلت على ثلاثة أسباب فأما أولها إلى قوله تعالى: خَيْراً مِنْهُمْ فنزلت على سبب، وفيه قولان:
(١٣٢١) أحدهما: أن ثابت بن قيس بن شمَّاس جاء يوماً يريد الدّنوّ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان به صمم، فقال لرجل بين يديه: افسح، فقال له الرجل: قد أصبتَ مجلساً، فجلس مُغْضَباً، ثم قال للرجل: من أنت؟ قال: أنا فلان، فقال ثابت: أنت ابن فلانة!! فذكر أمّاً له كان يعيَّر بها في الجاهلية، فأغضى الرجل ونَكَسَ رأسَه، ونزل قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(١٣٢٢) والثاني: أن وفد تميم استهزءوا بفقراء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لِما رأَوا من رثاثة حالهم، فنزلت هذه الآية، قاله الضحاك ومقاتل.
وأما قوله تعالى: وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ فنزلت على سبب، وفيه ثلاثة أقوال:
عزاه المصنف للضحاك ومقاتل، أما الضحاك فقد روى مناكير كثيرة، وأما مقاتل، فهو ممن يضع الحديث، فهذا الخبر لا شيء.
(١٣٢٤) والثاني: أنّ امرأتين من أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سَخِرتا من أم سلمة زوجِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكانت أم سلمة قد خرجت ذات يوم وقد ربطت أحد طرفي جلبابها على حَقْوها، وأرخت الطرف الآخر خلفها، ولا تعلم، فقالت إِحداهما للأخرى: انظُري ما خَلْفَ أم سلمة كأنه لسان كلب، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
(١٣٢٥) والثالث: أن صفيَّة بنت حُيَيّ بن أخطب أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إِن النساء يعيِّرنني ويقُلن: يا يهودية بنت يهوديّين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هلاّ قُلْتِ: إِن أبي هارون، وإِن عمِّي موسى، وإن زوجي محمد»، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
وأما قوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ فنزلت على سبب، وفيه ثلاثة أقوال:
(١٣٢٦) أحدها: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَدِمَ المدينة ولهم ألقاب يُدْعَون بها، فجعل الرجل يدعو الرجل بلقَبه، فقيل له: يا رسول الله، إِنهم يكرهون هذا، فنزل قوله تعالى: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ، قاله أبو جبيرة بن الضحاك.
(١٣٢٧) والثاني: أن أبا ذر كان بينه وبين رجل منازعة، فقال له الرجل: يا ابن اليهودية، فنزلت:
«ولا تَنابزوا بالألقاب»، قاله الحسن.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وقد رويا عن ابن عباس تفسير موضوعا. وذكره الواحدي في «الأسباب» ٧٦٣ بدون إسناد، ومن غير عزو لقائل، وذلك دليل أنه من رواية الكلبي، والأئمة ينأون عن ذكره، فإن وجد في إسناد أسقطوا الإسناد.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٦٤ عن عكرمة عن ابن عباس به معلقا بدون إسناد، وأخرج الترمذي ٣٨٩٤ وابن حبان ٧٢١١ وعبد الرزاق في «المصنف» ٢٠٩٢١ وأحمد ٦/ ١٣٥- ١٣٦ عن أنس قال: «بلغ صفية أن حفصة قالت لها: ابنة يهودي، فدخل عليها النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي تبكي، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: وما يبكيك؟
قالت: قالت لي حفصة. إني بنت يهودي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي، وإنك لتحت نبي فبم تفخر عليك، ثم قال: اتق الله يا حفصة. وإسناده على شرط الشيخين، لكن ليس فيه ذكر نزول الآية كما ترى. فهذا الذي صح في شأن صفية، وذكر نزول الآية لا يصح.
جيد. أخرجه أبو داود ٤٩٦٢ والترمذي ٣٢٦٨ والنسائي في «التفسير» ٥٣٦ وابن ماجة ٣٧٤١ وأحمد ٤/ ٢٦٠ والبخاري في «الأدب المفرد» ٣٣٠ والحاكم ٢/ ٤٦٣ و ٤/ ٢٨١- ٢٨٢ والطبري ٣١٧١٧ و ٣١٧١٨ و ٣١٧١٩ و ٣١٧٢٠ من حديث أبي جبيرة بن الضحاك، ورجاله رجال مسلم، لكن اختلف في صحبة أبي جبيرة وصححه الحاكم في الموضع الأول على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وأخرجه أحمد ٤/ ٦٩ و ٥/ ٣٨٠ بإسناد جيد عن أبي جبيرة عن عمومة له، وهذا موصول قوي الإسناد. وانظر «فتح القدير» ٢٣٢٠ و «أحكام القرآن» ١٩٩٩ بتخريجنا.
عزاه المصنف للحسن، ولم أقف عليه، وهو مرسل، ومراسيل الحسن واهية. وورد بنحوه دون ذكر نزول الآية. أخرجه أحمد ٥/ ١٥٨ عن أبي ذر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى». قال الهيثمي في «المجمع» ٨/ ٨٣: رجاله ثقات إلا أن بكر بن عبد الله المزني لم يسمع من
وأمّا التفسير، فقوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ أي: لا يستهزئ غنيٌّ بفقير، ولا مستور عليه ذنْبُه بمن لم يُستَر عليه، ولا ذو حَسَب بلئيم الحَسَب، وأشباه ذلك ممّا يتنقَّصه به، عسى أن يكون عند الله خيراً منه. وقد بيَّنّا في البقرة «١» أن القوم اسم الرجال دون النساء، ولذلك قال: «ولا نساءٌ من نساء» و «تَلْمِزوا» بمعنى تَعيبوا، وقد سبق بيانه «٢». والمراد بالأنفُس هاهنا: الإِخوان. والمعنى: لا تَعيبوا إِخوانكم من المسلمين لأنهم كأنفسكم. والتنابز: التفاعل من النَّبْز، وهو مصدر، والنَّبَز الاسم.
والألقاب جمع لقب، وهو اسم يُدعى به الإنسان سوى الاسم الذي سمِّي به. قال ابن قتيبة: «ولا تَنابزوا بالألقابَ» أي لا تتداعَوْا بها. والألقاب والأنباز واحد.
(١٣٢٩) ومنه الحديث: «نَبْزُهم الرافضة» أي: لقبُهم.
وللمفسرين في المراد بهذه الألقاب أربعة أقوال «٣» : أحدها: تعيير التائب بسيِّئات قد كان عملها، رواه عطية العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنه تسميته بعد إسلامه بدينه قبل الإِسلام، كقوله لليهودي إِذا أسلم: يا يهودي، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء الخراساني، والقرظي. والثالث: أنه قول الرجل للرجل: يا كافر، يا منافق، قاله عكرمة. والرابع: أنه تسميته بالأعمال السيئة، كقوله: يا زاني يا سارق، يا فاسق، قاله ابن زيد. قال أهل العلم: والمراد بهذه الألقاب: ما يكرهه المنادَى به، أو يُعَدُّ ذمَاً له. فأمّا الألقاب التي تكسب حمداً وتكون صدقاً، فلا تُكره، كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: فاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعليّ: أبو تراب: ولخالد:
كان بيني وبين رجل كلام، وكانت أمه أعجمية فنلت منها، فذكرني إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال لي: أساببت فلانا؟
قلت: نعم، قال: أفنلت من أمه؟ قلت: نعم، قال: إنك امرؤ فيك جاهلية». وانظر «أحكام القرآن» ٢٠٠٠ بتخريجنا.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، كذبة غير واحدة فهذا خبر ليس له أصل.
وأصح هذه الأقوال هو الحديث ١٣٢٦.
باطل. أخرجه البغوي في «معالم التنزيل» ١٩٨٨ من حديث علي، وإسناده ساقط، فيه فضيل بن مرزوق ضعيف، ومن فوقه مجاهيل. وله شاهد من حديث ابن عباس، أخرجه ابن عدي ٥/ ١٥٣ وأعله بعمر بن المخرم، وقال: يروي عن ابن عيينة وغيره البواطيل.
__________
(١) البقرة: ٥٤.
(٢) التوبة: ٥٨.
(٣) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١١/ ٣٩٢: والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهي المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب، والتنابز بالألقاب: هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعمّ الله بنهيه ذلك ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه أو صفة يكرهها.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)
قوله تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ قال ابن عباس: نهى اللهُ تعالى المؤمنَ أن يظُنَّ بالمؤمن شرّاً.
وقال سعيد بن جبير: هو الرجل يسمع من أخيه كلاماً لا يريد به سوءاً، أو يدخُل مَدخلاً لا يريد به سوءاً، فيراه أخوه المسلم فيظُن به سوءاً. وقال الزجاج: هو أن يظُن بأهل الخير سوءاً. فأمّا أهل السوء والفسق، فلنا أن نظُنَّ بهم مِثْل الذي ظهر منهم. قال القاضي أبو يعلى: هذه الآية تدل على أنه لم يُنْه عن جميع الظَّنّ والظَّنُّ على أربعة أضرب. محظور، ومأمور به، ومباح، ومندوب إِليه، فأمّا المحظور، فهو سوء الظن بالله تعالى، والواجب: حُسْنُ الظن بالله، وكذلك سوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرُهم العدالةُ محظور، وأما الظن المأمور به، فهو ما لم ينصب عليه دليل يوصل إِلى العِلْم به، وقد تُعُبِّدنا بتنفيذ الحُكم فيه، والاقتصار على غالب الظن، وإجراء الحُكم عليه واجب، وذلك نحو ما تُعُبِّدنا به من قبول شهادة العُدول، وتحرِّي القِبلة، وتقويم المستهلَكات، وأروش الجنايات التي لم يَرِدْ بمقاديرها توقيف، فهذا وما كان من نظائره قد تُعُبِّدنا فيه بأحكام غالب الظنُّون. فأمّا الظن المباح، فكالشّاكِّ في الصلاة إِذا كان إماماً، أمره النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالتحرِّي والعملِ على ما يَغْلِب في ظنِّه، وإن فعله كان مباحاً، وإِن عَدَلَ عنه إِلى البناء على اليقين كان جائزاً.
(١٣٣٠) وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إِذا ظَنَنْتُم فلا تحقّقوا»، وهذا من الظن الذي يَعْرِض في قلب الإِنسان في أخيه فيما يوجب الرِّيبة، فلا ينبغي له أن يحقِّقه.
وأما الظن المندوب إِليه، فهو إِحسان الظن بالأخ المسلم يُنْدَب إِليه ويُثاب عليه.
(١٣٣١) فأمّا ما روي في الحديث: «احترِسوا من الناس بسوء الظن»، فالمراد: الإحتراس بحفظ المال، مثل أن يقول: إن تركت بابي مفتوحاً خشيت السُّرّاق.
قوله تعالى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ قال المفسرون: هو ما تكلم به مما ظنَّه من السُّوءِ بأخيه المسلم، فإن لم يتكلَّم به فلا بأس، وذهب بعضهم إِلى أنه يأثم بنفس ذلك الظن وإِن لم يَنْطِق به. قوله تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا وقرأ أبو رزين والحسن والضحاك وابن سيرين وأبو رجاء وابن يعمر: بالحاء.
قال أبو عبيدة: التجسس والتحسس واحد، وهو التَّبحُّث، ومنه الجاسوس. وروي عن يحيى بن أبي
ضعيف جدا، أخرجه تمام في «فوائده» ١١٦٧ من حديث أنس، وفيه أبان بن أبي عياش متروك، وأخرجه الطبراني في «الأوسط» ٦٠٢ من وجه آخر، وفيه معاوية الصدفي واه.
قوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي: لا يتناول بعضُكم بعضاً بظهَر الغَيْب بما يَسوؤُه.
(١٣٣٢) وقد روى أبو هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل ما الغيبة؟ قال: «ذِكْرُكَ أخاك بما يََكره. قال:
أرأيتََ إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إِن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته، وإِن لم يكن فقد بهتَّه».
ثم ضَرَبَ اللهُ للغِيبة مثلاً، فقال: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً وقرأ نافع «ميّتاً» بالتشديد. قال الزجاج: وبيانه أن ذِكرك بسوءٍ مَنْ لم يَحْضُر، بمنزلة أكل لحمه وهو ميت لا يُحِسُّ بذلك. قال القاضي أبو يعلى: وهذا تأكيد لتحريم الغيبة، لأن أكل لحم المسلم محظور، ولأن النُّفوس تَعافُه من طريق الطَّبع، فينبغي أن تكون الغِيبة بمنزلته في الكراهة.
قوله تعالى: فَكَرِهْتُمُوهُ وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري: «فكُرّهتموه» برفع الكاف وتشديد الراء. قال الفراء: أي وقد كرهتموه فلا تفعلوه، ومن قرأ «فكُرّهتموه» أي: فقد بُغِّض إِليكم، والمعنى واحد. قال الزجاج: والمعنى: كما تكرهون أكل لحمه ميتاً فكذلك تجنَّبوا ذِكْره بالسُّوء غائباً. قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في الغِيبة إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ على من تاب رَحِيمٌ به.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(١٣٣٣) أحدها: نزلت في ثابت بن قيس وقولِه في الرجل الذي لم يفسح له: أنت ابن فلانة، وقد ذكرناه عن ابن عباس في قوله: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ.
(١٣٣٤) والثاني: أنه لمّا كان يوم الفتح أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم بلالا فصعد على ظهر الكعبة فأذّن،
وأخرجه البغوي في «شرح السنة» ٣٤٥٤ عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة. وأخرجه ابن حبان ٥٧٥٩ والبيهقي ١٠/ ٢٤٧ وفي «الآداب» ١٥٤ من طريق إسماعيل بن جعفر به.
وأخرجه أبو داود ٤٨٧٤ والترمذي ١٩٣٤ وأحمد ٢/ ٣٢٠ و ٣٨٤ و ٤٥٨ والدارمي ٢/ ٢٩٧ والواحدي في «الوسيط» ٤/ ١٥٦ والأصبهاني في «الترغيب» ٢٢٢٩. وابن حبان ٥٧٥٨ من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن به. وقال الترمذي: حسن صحيح.
لم أقف له على إسناد. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٦٥ عن ابن عباس بدون إسناد، والظاهر أنه من رواية الكلبي الكذاب، وتقدم أن الذي صح في ثابت هو حديث أنس المتفق عليه، انظر تخريج الحديث ١٣٠٩.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، يضع الحديث. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٧٦٥ م عن مقاتل بدون إسناد.
(١٣٣٥) والثالث: أن عبداً أسود مرض فعاده رسولُ الله صلّى الله عليه وسلم، ثم قُبض فتولَّى غسله وتكفينه ودفنه، فأثَّر ذلك عند الصحابة، فنزلت هذه الآية، قاله يزيد بن شجرة.
فأمّا المراد بالذَّكَر والأُنثى، فآدم وحوَّاء. والمعنى: إِنكم تتساوَوْن في النسب وهذا زجر عن التفاخر بالأنساب. فأمّا الشُّعوب، فهي جمع شَعب. وهو الحيُّ العظيم، مثل مضر وربيعة، والقبائل دونها، كبَكر من ربيعة، وتميم من مضر، هذا قول الجمهور من المفسرين وأهل اللغة. وروى عطاء عن ابن عباس قال: يريد بالشعوب الموالي، وبالقبائل العرب. وقال أبو رزين: الشعوب: أهل الجبال الذين لا يَعْتَزُون لأحد، والقبائل: قبائل العرب. وقال أبو سليمان الدمشقي: وقد قيل إِن القبائل هي الأصول، والشُّعوب هي البُطون التي تتشعَّب منها، وهذا ضد القول الأول.
قوله تعالى: لِتَعارَفُوا أي: ليَعْرِفَ بعضُكم بعضاً في قُرب النسب وبُعده. قال الزجاج:
المعنى: جعلْناكم كذلك لتَعارفوا، لا لتَفاخروا. ثم أعلمهم أن أرفعهم عنده منزلةً أتقاهم، وقرأ أًبيُّ بن كعب، وابن عباس، والضحاك، وابن يعمر، وأبان عن عاصم: «لِتَعْرِفوا» بإسكان العين وكسر الراء من غير ألف. وقرأ مجاهد، وأبو المتوكل، وابن محيصن: «لِتَّعارَفوا» بتاء واحدة مشددة وبألف مفتوحة الراء مخففة. وقرأ أبو نهيك، والأعمش: «لِتتعرَّفوا» بتاءين مفتوحة الراء وبتشديدها من غيرَ ألف.
قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمي، ومجاهد، وأبو الجوزاء: «أنَّ» بفتح الهمزة. قال الفراء: من فتح «أنَّ» فكأنه قال: لتعارفوا أنَّ الكريمَ التَّقيُّ، ولو كان كذلك لكانت «لِتَعْرِفوا»، غير أنه يجوز «لِتَعارفوا» على معنى: ليعرِّف بعضُكم بعضاً أن أكرمكم عند الله أتقاكم.
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١٤ الى ١٨]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)
قوله تعالى: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا.
(١٣٣٧) وقال السدي: نزلت في أعراب مزينة وجهينة وأسلم وأشجع وغفار، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في سورة الفتح، وكانوا يقولون: آمنا بالله، ليأمنوا على أنفُسهم، فلما استُنفروا إِلى الحديبية تخلَّفوا، فنزلت فيهم هذه الآية.
(١٣٣٨) وقال مقاتل: كانت منازلهم بين مكة والمدينة، فكانوا إِذا مرَّت بهم سريَّة من سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالوا: آمنا، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم، فلمّا سار رسول الله صلّى الله عليه وسلم إِلى الحديبية استنفرهم فلم يَنْفِروا معه.
قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أي: لَمْ تصدّقوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا قال ابن قتيبة: اسْتَسلمنا من خوف السيف، وانْقَدْنا. قال الزجاج: الإِسلام: إِظهار الخُضوع والقَبول لِما أتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبذلك يُحْقَن الدَّم، فإن كان معه اعتقاد وتصديق بالقلب، فذلك الإِيمان، فأخْرَجَ اللهُ هؤلاء من الإِيمان بقوله: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي: لَمْ تُصَدِّقوا، إِنما أسلمتم تعوُّذاً من القتل، وقال مقاتل:
«ولمّا» بمعنى «ولم» يدخُل التصديقُ في قلوبكم.
قوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ قال ابن عباس: إِن تخلصوا الإيمان لا يَلِتْكُمْ قرأ أبو عمرو: «يَألِتْكُم» بألف وهمز وروي عنه بألف ساكنة مع ترك الهمزة. وقرأ الباقون: «يَلِتْكُم» بغير ألف ولا همز. فقراءة أبي عمرو من ألَتَ يألِتُ، وقراءة الباقين من لاتَ يَلِيتُ، قال الفراء: وهما لغتان، قال الزجاج: معناهما واحد. والمعنى: لا يَنْقُصكم. وقال أبو عبيدة: فيها ثلاث لغات: ألَتَ يألِتُ، تقديرها: أفَكَ يأفِكُ، وألاتَ يُلِيتُ، تقديرها: أقال يُقِيلُ، ولاتَ يَلِيتُ، قال رؤبة:
وليلةٍ ذاتِ نَدىً سَرَيْتُ | ولم يَلِتْنِي عن سُراها لَيْتُ |
عزاه المصنف للسدي، ولم أقف عليه، وهو مرسل.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الرواية، لكن هو موافق لما قبله في أكثر الخبر.
قوله تعالى: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ و «علَّم» بمعنى «أعلم» ولذلك دخلت الباء في قوله:
«بدينكم» والمعنى: أتُخبرون اللهَ بالدِّين الذي أنتم عليه؟!، أي: هو عالِمٌ بذلك لا يحتاج إِلى أخباركم وفيهم نزل قوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قالوا: أَسْلَمْنا ولم نقاتلك، والله تعالى أعلم.