ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)وقد قرئت (لَا تَقَدَّمُوا) بفتح التاء والدال، والمعنى إذا أمِرْتم بأمْرٍ فلا
تفعلوه قبلَ الوقتِ الذي أمِرْتم أن تفعلوهُ فِيهِ.
وجاء في التفسير أن رجلاً ذبح يوم الأضْحَى قَبْلَ صَلاةِ الأضْحَى فتقدم
قبل الوقت فاعلم اللَّهُ أن ذلك غير جائز.
ففي هذا دليل أنَّهُ لَا يَجُوزُ أن يؤدى فَرْضٌ قبل وقْتِهِ وَلَا تطوعٌ قَبْلَ وَقْتِهِ مِمَّا جَاءَت به السُّنَّةُ، وفي هذا دليل أن تقديم الزكاةِ قبل وقتها لا ينبغي أن يجوز، فأما ما يروى أن النبي - ﷺ - استسلَفَ من العباس شيْئاً من الزكاة، فلا أعلم أن أحداً ممن أجاز تقديم الزكاة احتج إلا بهذا الحديث، وهذا إن صح فهو على ضربين:
أحدهما أن يكون مخصوصاً
والآخر أن يكونَ الحاجة اشتدت فوقع اضطرار إلى استسلاف الزكاة.
والإجماع أن إعطاءها في وقتها هو الحق، وهو الفَضلُ إنْ شَاء اللَّه.
ومن قرأ: (لَا تَقَدَّمُوا) فمعناه كمعنى (لَا تُقَدِّمُوا) (١).
* * *
وقوله عزْ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢)
قوله: ﴿لاَ تُقَدِّمُواْ﴾: العامَّةُ على ضمِّ التاءِ وفتح القافِ وتشديدِ الدالِ مكسورةً، وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّه متعدٍّ، وحُذِفَ مفعولُه: إمَّا اقتصاراً كقولهم: هو يعطي ويمنع، ﴿وَكُلُواْ واشربوا﴾ [البقرة: ١٨٧]، وإمَّا اختصاراً للدلالةِ عليه أي: لا تُقَدِّموا ما لا يَصْلُحُ. والثاني: أنه لازمٌ نحو: وَجَّه وتَوَجَّه، ويَعْضُدُه قراءةُ ابنِ عباس والضَّحَّاك «لا تَقَدَّمُوا» بالفتح في الثلاثة، والأصلُ: لا تَتَقَدَّمُوْا فحذَف إحدى التاءَيْن. وبعضُ المكِّيين «لا تَّقَدَّمُوْا» كذلك، / إلاَّ أنَّه بتشديد التاء كتاءات البزي. والمتوصَّلُ إليه بحرفِ الجرِّ في هاتَيْن القراءتَيْن أيضاً محذوفٌ أي: لا تَتَقَدَّموا إلى أمرٍ من الأمور. وقُرِىء «لا تُقْدِموا» بضمِّ التاءِ وكسرِ الدالِ مِنْ أَقْدَمَ أي: لا تُقْدِموا على شيءٍ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
وأن يخاطبوه بالسكينة والوقار، وأن يفضلوه في المخاطبة، وذلك مما كانوا
يفعلونه في تعظيم ساداتهم وكبرائهم.
ومَعنى (كَجَهْرِ بَعْضِكُم لِبَعْضٍ) أي لا تنزلوه منزلةَ بعضكم من بعض.
فتقولوا: يا محمدِ خاطبوه بالنبوة، والسكينة والإِعظام.
وقوله: (أنْ تَحْبَط أعْمَالُكُمْ).
معناه لا تفعلوا ذلك فتحبط أعمالكم.
والمعنى لئلا تحبط أعمالكم
فالمعنى معنى اللام في أن. وهذه اللام لام الصيرورة وهي كاللام في قوله:
(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) والمعنى فالتقطه آل فرعَوْنَ
ليصير أمرهم إلى ذلك، لَا أنَّهمْ قصدوا أن يصير إلى ذلك. ولكنه في المقدار
فيما سبق من علم الله أن سبب الصير التقاطهم إياه، وكذلك لا ترْفَعُوا
أصواتكم فيكون ذلك سبباً لأن تحبط أعمالكم.
(وَأنْتُمْ لَا تَشْعُرونَ).
هذا إعلامٌ أن أمرَ النَبِى - ﷺ - ينبغي أن يُجَلَّ وُيعَظَّمَ غايَة الِإجْلَالِ.
وأنه قد يُفعل الشيءُ مما لا يَشْعَرُ به من أمر النبي - ﷺ - فيكون ذلك مُهلكاً لِفَاعِلِه أو لِقَائِله.
ولذلك قال بعض الفقهاء: من قال إدْ زِرَّ رسول اللَّه - ﷺ - وسخ يريد به - النقصَ منه وجب قتْلُه.
هذا مذهبُ مالِكٍ وأصْحَابه.
* * *
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)
(امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)
أخلَصَ قلُوبَهمْ.
وَ " هُمْ " يخرج على تفسير حقيقة اللغة، والمعنى
وهذه الفضة. تأويله قد اختبرْتُهُمَا بأن أذَبْتُهَمَا حتى خلصت الذهَب والْفضة
فَعَلِمْتُ حَقِيقَةَ كل واحد منهما.
* * *
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٤)
يقرأ بضم الحاء والجيم، والحُجَرَاتَ بِفَتْح الجيم، ويجوز في اللغة
الحُجْرات. بتسكين الجيم - ولا أعلم أحَداً قَرأ بالتَسْكِينِ وَقَدْ فَسًرْنَا هذا
الجمع فيما تقدم من الكتاب.
وواحد الحجرات حُجْرَةٌ. ويجوز أن تكون الحُجراتُ جمع حُجَرٍ
وحُجرات، والأجود أن تكون الحُجُرَات جمع حُجرة، وأن الفتح جاز بدلاً من الصفةِ لثقل الضمَتَيْن.
وهؤلاء قوم جاءوا إلى النبي - ﷺ - من بني تميم فَنَادَوْه من وراء الحجرات.
ولهم في التفسير حديث فيه طول، وجملته أنهم جاءوا يفاخرون
النبي وأنَّهمْ لم يلقَوْه بما يجب له عليه السلام.
* * *
قال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
أي - من تاب بعد هذا الفِعْل فاللَّه غفور رحيم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (٦)
ويقرأ فتثَبَّتُوا أَنْ تُصِيبُوا.
(قَوْماً بجَهَالةٍ).
جاء في التفسير أنها نزلت بسبب الوليد بن عقبة.
وكان رسول الله - ﷺ - بَعَثَهُ ساعِياً يجْبي صدقات بني المصطلق، وكان بينه وبينهم أحْنَة أي عداوة،
وبين هذا الرجل، فامْنعوه صَدَقَاتِكًمْ، فاتصل به ذلك فرجع إلى النبي - ﷺ - فأخبره أنهم مَنَعوه الصدقة وأنهم ارْتدُّوا، وأعَدُّوا السِّلَاحَ للحَرْبِ، فوجه رسول اللَّه - ﷺ - بخالد بن الوليد ومعه جيش، وتقدم إِليْه أن ينزل بعقوتهم ليلاً، فإن
رأى ما يدل على إقامتهم على الإسلام من الأذان والصلاة والتَّهجد أمسك عن محاربتهم، وطالبهم بصَدَقَاتِهِمْ فلما صار خَالِدٌ إليهم ليلاً سَمِعَ النداء
بِالصلَاة، ورآهم يُصَلُّونَ ويتهجَّدونَ، وقالوا له: قد استبطأنا رسالة رسول
اللَّه - ﷺ - في الصدَقَاتِ، وسلموها إليه، فأنزل اللَّه - عزَّ وجلَّ - (إِنْ جَاءَكًمْ فَاسِق بِنَبَأٍ) أي بخَبرٍ (فَتَبَينوا أنْ تصِيبًوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ)
أي كراهة أن تصِيبوا قوماً بِجَهَالَةٍ
وهذا دليل أنه لا يجوز أن يقبل خبر من فاسق [إلا أن] (١) يتَبَيَّن وأَنَ الثقة يجوز قبول خبرِه.
والثقةً من لم تجرب عليه شهادَةً زورٍ وَلَا يُعْرَف بفِسْقٍ وَلَا جُلِدَ في حَدٍّ، وهو مع ذلك صحيح التمييز.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧)
أي لو أطاع مثل هذا المخبر الذي أخبره بما لا أصل له لوقعتم في
عَنَتٍ، والعَنَتُ الفساد والهَلاَكُ.
(وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ)..
هذا يعنى به المؤمنون المخلصون.
(وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ).
ويحتمل (فِي قُلُوبِكُمْ) وجهين:
أحدهما أنه دلهم عليه بالحجج القاطعة البينة، والآيات التي أتى بها النبي - ﷺ - المعجزةِ.
والثاني أنه زَيَّنَهُ في قلوبهم بتوفيقه إياهم.
وذلك أيضاً تبْيينه ما عليهم في الكفر وتوفيقه إياهم إن اجْتَنَبوه.
وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ).
أي هؤلاء الذين وفقهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بتحبيب الِإيمان إليهم وتكريه
الكفر أولئك هم الراشدون.
* * *
(فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
منصوب مفعول له - المعنى فعل الله ذلك بكم فضلاً من اللَّه ونعمةً أي
للفضل والنعْمةِ، ولو كان في غير القرآن لجاز (فَضْلٌ من اللَّه ونعمةٌ).
المعنى ذلك فضل من الله ونعمة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)
والباغية التي تعدل عن الحق وما عليه أئمة المسْلِمين وَجَمَاعَتُهُمْ.
(حَتَى تَفِيءَ إِلى أمْرِ اللَّهِ).
حتى ترجع إلى أمر اللَّه.
(فَإِنْ فَاءَت): فإن رَجَدَتْ.
(فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا).
أي وأعْدِلُوا.
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)
وهذه - قيل - نزلتْ بسبب جَمْعَيْن من الأنْصَارِ كان بينهم قِتَال ولم يكن
ذلك بسيوف ولا أسْلحة، جاء في التفسير أنه كان بينهم قِتال بالأيدي والنَعَال وَتَرَامٍ بِالحِجَارةِ.
(١٠)
ويقرأ بين إخْوَانكم، وبين إخْوَاتِكُمْ وبين إخْوَتكم.
فأعلم اللَّه - عزَ وجل - أن الذينَ يجمعهم وأنهم إِخوَة إذا كانوا متفقين في دينهم فرجعوا في الاتفاق في الدين إلى أصل النسَبِ، لأنهم لآدَم وحَواء، ولو اختلفت أدْيَانُهم لافترقوا في النسَبِ، وإن كان في الأصل أنهم لأب وأم.
ألَا ترى أنه لا يرث الولدُ المؤمن الأب الكافِرَ ولا الحمِيمُ المؤمِنُ نسيبه الكافِر.
* * *
وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١)
عسى أن يكون المسخور منه خيراً من الساخرين، وكذلك عسى أن
يكون النساء المسخور منهن خيراً من النساء الساخرات، فنهى اللَّه
- عزَّ وجلَّ - أن يسخر المؤمنون من المؤمنين، والمؤمنات من المؤمنات.
(وَلَا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ).
واللمز والهمز العيب والعض من الِإنسان. فأعلمَ اللَّهُ أن عيب بعضهم
بعضاً لازم لهم، يلزَمُ العائِبَ عيبُ المعيب.
(وَلَا تَنَابَزُوا بِالْألْقَابِ) والنبز واللقب في معنىً وَاحِدٍ، لا يقول المسلم
لمن كان يَهودياً أو نصرانياً فأسلم لقباً يعيره فيه بأنه كان نصرانياً أو يهودياً.
(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ)، أي بئس الاسم أن يقول له: يا
يهودي ويا نصراني وقد آمن، ويحتمل أن يكون في كل لقبٍ يكرهه الِإنسان، لأنه إنما يجب أن يخاطب المؤمن أخاه بأحب الأسماء إليه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)
أمر اللَّه عزَّ وجل باجتناب كثير مِنَ الظن، وهو أن تظن بأهل الخير سوءاً
وقوله: (ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضاً)، والغيبة أن يُذْكَرَ الإنسان من خلفه
بسوء وإن كان فيه السوء
وأما ذكره بما ليس فيه فذلِكَ البهْتُ والبُهْتَانُ - كذلك
جاء عن النبي - ﷺ -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ -: (أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا).
ويجوز (مَيِّتاً) وتأويله أن ذكرك بِسوءٍ من لم يَحْضر لك بمنزلة أكل لحمه
وهو مَيِّت لَا يُحِسُّ هُوَ بذلك، وكذلك تقول للمغتاب فلان يأكل لحوم الناس.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَكَرِهْتُمُوهُ).
ويُقرأ " فَكُرِّهْتُمُوهُ " - فتأويله كما تكرهون أكل لحمه مَيتاً كذلك تجنبوا
ذكره بالسوء غائباً.
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
خلقناكم من آدم وحواء، وكلكم بنو أبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَة إِلَيْهما
تَرْجِعُونَ.
(وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).
والشعب أعظم من القبيلة.
أي لم يجعلكم شعوباً وقبائل لتفاخروا وإنما جعلناكم كذلك لتتعارَفُوا، ثم أعلمهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن أرفعهم عِنْدَهُ مَنْزِلَةً
أتْقَاهُمْ فقال:
(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
ولو قرئتِ " أَنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ "
جاز ذلك على معنى وجَعَلْناكم
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)
وهذا موضع يحتاج الناس إلى تفهمه، وأين ينفصل المؤمن من
المسلم. وأين يستويان.
والِإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به النبي - ﷺ -، وبذلك يحقن الدَّمُ.
فإن كان مع ذلك الِإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الِإيمان الذي مَنْ
هُوَ صفته فهو مؤمن مُسْلِم، وهو المؤمن باللَّه ورسوله غَيْرَ مرتابٍ ولا شَاكٍّ.
وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه، وأن الجهاد بنفسه وماله واجب عليه لا يدخلُه في ذلكَ رَيبٌ، فهو المؤمِنَ وهو المُسْلِمُ حقاً، كما قال
عز وجلَّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥).
أي إذا قالوا إنا مؤمنون فهم الصادقون، فأما من أظهر قبول الشريعة
واستسلم لدفع المكروه فهو في الظاهر مسلم، وباطنه غير مُصَدق، فذلك
الذي يقول أسلمتُ لأن الِإيمانَ لا بد من أن يكون صاحبه صديقاً، لأنَّ قولك
آمَنْتُ بكذا وكذا معناه صدقت به، فأخرج اللَّه هؤلاء من الِإيمان فقال: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ).
أي لم تصدقوا إنما أسلمتم تعوذاً من القتل، فالمؤمن مُبْطِنٌ من
التصديق مثل ما يظهر، والمسلم التام الِإسلام وهو مظهر الطاعة مع ذلك
مؤمن بها، والمسلم الذي أظهر الِإسلام تعوذاً غير مؤَمن في الحقيقة، إلا أن
حكمه في الظاهر حكم المسلمين.
قوله: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ﴾: الشُّعوب: جمع شَعْب وهو أعلى طبقاتِ الأنسابِ، وذلك أن طبقاتِ النَّسَبِ التي عليها العربُ ستٌّ: الشَّعْبُ والقبيلة والعِمارة والبَطْنُ والفَخِذُ والفَصيلةُ، وكلُّ واحدٍ يَدْخُل فيما قبله، فالفصيلةُ تَدْخُلُ في الفَخِذ، والفَخِذُ في البطن. وزاد بعضُ الناسِ بعد الفَخِذ العشيرة، فجعلها سبعاً وسُمِّيَ الشَّعبُ شعباً لتشَعُّبِ القبائلِ منه، والقبائل سُمِّيَتْ بذلك لتقابُلها، شُبِّهَتْ بقبائلِ الرأسِ وهي قطعٌ متقابلةٌ. وقيل: الشُّعوب في العجم، والقبائل في العرب، والأسباطُ في بني إسرائيل. وقيل: الشعبُ النَسبُ الأبعدُ، والقبيلةُ الأقربُ. وأنشد:
٤٠٨٦ قبائلُ مِنْ شُعوبٍ ليس فيهِمْ... كريمٌ قد يُعَدُّ ولا نَجيبُ
والنسَبُ إلى الشَّعْب «شَعوبيَّة» بفتح الشين، وهم جيلٌ يَبْغَضون العربَ.
قوله: ﴿لتعارفوا﴾ العامَّةُ على تخفيفِ التاء، والأصلُ: لتتعارفوا فحذفَ إحدى التاءَيْن. والبزيُّ بتشديدِها. وقد تقدَّم ذلك في البقرة. واللام متعلقةٌ بجَعَلْناكم. وقرأ الأعمش بتاءَيْن وهو الأصلُ الذي أدغمه البزيُّ وحَذَفَ منه الجمهورُ. وابن عباس: «لِتَعْرِفُوا» مضارعَ عَرَفَ. والعامَّةُ على كسرِ «إنَّ أكْرَمَكم». وابن عباس على فتحها: فإنْ جَعَلْتَ اللامَ لامَ الأمرِ وفيه بُعْدٌ اتَّضَحَ أَن يكونَ قولُه: «أنَّ أَكْرَمَكم» بالفتح مفعولَ العِرْفان، أَمَرَهم أَنْ يَعْرِفوا ذلك، وإنْ جَعَلْتَها للعلة لم يظهرْ أَنْ يكونَ مفعولاً؛ لأنه لم يَجْعَلْهم شعوباً وقبائلَ ليعرِفوا ذلك، فينبغي أن يُجْعَلَ المفعولُ محذوفاً واللامُ للعلة أي: لِتَعْرِفوا الحقَّ؛ لأنَّ أكرمَكم.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
قيل إن هذه نزلت في المنافقين. فاعلموا أنكم إنْ كنتم صادقين فإنكم
قد أسلمتم فلله المنُّ عَلَيْكمْ لِإخراجه إياكم من الضلالة إلى الهدى.
وقد قيل: إنها نزلت في غير المنافقين، في قوم من المسلمين قالوا آمنا
وهاجرنا وفعلنا وصنعنا فمنوا على رسول الله بذلك.
والأشبه - واللَّه أعلم - أن يكون في قوم من المنافقين.
وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا).
(لَا يَألِتْكُم)
ويُقرأ (لَا يَلْتِكمْ)، فمن قرأ (يَألِتْكُم) فدليله
(وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)
ومعناه وما نقصناهم، وكذلك (لا يَألِتْكُم) لاينقصكم.
ومن قرأ (لَا يَلِتْكمْ) فهو من لات يليت، يقال: لَاتَه يَلِيتُهُ. وَألَاتَهُ يُليتُه إذا نقصه أيضاً، والمعنى فيهما واحد. أعني (يَألِتْكُم) و (يَلِتْكمْ).
والقراءة (لَاَ يَلِتْكمْ) أكثر، والأخرى أعني (يَألِتْكُم) جيدة بالغة، ودليلها في القرآن على ما وصفنا.