ﰡ
قال مجاهد، وقتادة، والسدّي :﴿ حَرَجٌ ﴾ أي شك. أي لا يكن في صدرك شك في كون هذا القرآن حقاً، وعلى هذا القول فالآية، كقوله تعالى :﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [ البقرة : ١٤٧ ] وقوله :﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ ﴾ [ آل عمران : ٦٠ ]، وقوله :﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [ يونس : ٩٤ ].
والممتري : هو الشاك ؛ لأنه مفتعل من المرية وهي الشك، وعلى هذا القول فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
والمراد نهى غيره عن الشك في القرآن، كقول الراجز :
* إياك أعني واسمعي يا جارة *
وكقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾ [ الإنسان : ٢٤ ]، وقوله :﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾ [ الزمر : ٦٥ ]، وقوله :﴿ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُم ﴾ [ البقرة : ١٢٠ ] الآية.
ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئاً من ذلك، ولكن الله يخاطبه ليوجه الخطاب إلى غيره في ضمن خطابه صلى الله عليه وسلم.
وجمهور العلماء : على أن المراد بالحرج في الآية الضيق ؛ أي لا يكن في صدرك ضيق عن تبليغ ما أمرت به لشدة تكذيبهم لك، لأن تحمل عدواة الكفار، والتعرض لبطشهم مما يضيق به الصدر، وكذلك تكذيبهم له صلى الله عليه وسلم مع وضوح صدقه بالمعجزات الباهرات مما يضيق به الصدر. وقد قال صلى الله عليه وسلم :«إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة »، أخرجه مسلم. والثلغ : الشدخ وقيل ضرب الرطب باليابس حتى ينشدخ، وهذا البطش مما يضيق به الصدر.
ويدل لهذا الوجه الأخير في الآية قوله تعالى :﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ﴾ [ هود : ١٢ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ﴾ [ الحجر : ٩٧ ]، وقوله :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ﴾ [ الكهف : ٦ ] وقوله :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٣ ].
ويؤيد الوجه الأخير في الآية أن الحرج في لغة العرب : الضيق. وذلك معروف في كلامهم، ومنه قوله تعالى :﴿ لَّيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ ﴾[ النور : ٦١ ]، وقوله :﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [ الحج : ٧٨ ]، وقوله :﴿ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ﴾ [ الأنعام : ١٢٥ ] أي شديد الضيق إلى غير ذلك من الآيات، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة، أو جميل :
فخرجت خوف يمينها فتبسمت | فعلمت أن يمينها لم تحرج |
عوجي علينا ربة الهودج | إنك إلا تفعلي تحأأأأرجي |
الإدخال في الحرج. بمعنى الضيق كما ذكرنا.
قوله تعالى :﴿ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾.
لم يبين هنا المفعول به لقوله لتنذر، ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله :﴿ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ [ مريم : ٧٨ ]، وقوله :﴿ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ ﴾ [ يس : ٦ ]، إلى غير ذلك من الآيات. كما أنه بين المفعول الثاني للإنذار في آيات أخر، كقوله ﴿ لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ ﴾ [ الكهف : ٢ ] الآية، وقوله :﴿ فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى ﴾ [ الليل : ١٤ ]، وقوله :﴿ إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً ﴾ [ النبأ : ٤٠ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد جمع تعالى في هذه الآية الكريمة بين الإنذار والذكرى في قوله :﴿ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾، فالإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين، ويدل لذلك قوله تعالى :﴿ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾ [ مريم : ٩٧ ]، وقوله :﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الذاريات : ٥٥ ]، وقوله :﴿ فَذَكِّرْ بِالْقُرْءَانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ [ ق : ٤٥ ].
ولا ينافي ما ذكرنا من أن الإنذار للكفار، والذكرى للمؤمنين. أنه قصر الإنذار على المؤمنين دون غيرهم في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخشِي الرَّحْمانَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ﴾ [ يس : ١١ ]. لأنه لما كان الانتفاع بالإنذار مقصوراً عليهم، صار الإنذار كأنه مقصور عليهم، لأن ما نفع فيه فهو كالعدم.
ومن أساليب اللغة العربية : التعبير عن قليل النفع بأنه لا شيء.
وحاصل تحرير المقام في هذا المبحث : أن الإنذار يطلق في القرآن إطلاقين.
أحدهما : عام لجميع الناس كقوله :﴿ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ ﴾ [ المدثر : ١ – ٢ ]، وقوله :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ].
وهذا الإنذار العام : هو الذي قصر على المؤمنين قصراً إضافياً في قوله :﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ ﴾ الآية. لأنهم هم المنتفعون به دون غيرهم.
والثاني : إنذار خاص بالكفار لأنهم هم الواقعون فيما أنذروا به من النكال والعذاب، وهو الذي يذكر في القرآن مبيناً أنه خاص بالكفار دون المؤمنين كقوله :﴿ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً ﴾، وقوله هنا :﴿ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ اه.
والإنذار في اللغة العربية : الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذاراً.
خوف الله تعالى في هذه الآية الكريمة الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم، بأنه أهلك كثيراً من القرى بسبب تكذيبهم الرسل، فمنهم من أهلكها بياتاً أي ليلاً، ومنهم من أهلكها وهم قائلون، أي في حال قيلولتهم، والقيلولة : الاستراحة وسط النهار. يعني : فاحذروا تكذيب رسولي صلى الله عليه وسلم لئلا أنزل بكم مثل ما أنزلت بهم، وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله :﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٠ ]، وقوله :﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِي خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾ [ الحج : ٤٥ ]، وقوله :﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ﴾ [ القصص : ٥٨ ]، وقوله :﴿ *أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾ [ محمد : ١٠ ]، ثم بين أنه يريد تهديدهم بذلك بقوله :﴿ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ [ محمد : ١٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد هدد تعالى أهل القرى بأن يأتيهم عذابه ليلاً في حالة النوم، أو ضحى في حالة اللعب، في قوله تعالى :﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [ الأعراف : ٩٧ – ٩٨ ]. وهدد أمثالهم من الذين مكروا السيئات بقوله تعالى :﴿ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرض أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ النحل : ٤٥ -٤٧ ].
وبين تعالى في هذه الآية الكريمة أن تلك القرى الكثيرة التي أهلكها في حال البيات، أو في حال القيلولة، لم يكن لهم من الدعوى إلا اعترافهم بأنهم كانوا ظالمين.
وأوضح هذا المعنى في قوله :﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءَاخَرِين َفَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُواْ ياوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ ﴾ [ الأنبياء : ١١ – ١٥ ].
قال ابن جرير رحمه الله في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم » حدثنا بذلك ابن حميد. حدثنا جرير عن أبي سنان عن عبد الملك بن ميسرة الزراد قال : قال عبد الله بن مسعود : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم » قال : قلت لعبد الله كيف يكون ذلك ؟ قال : فقرأ هذه الآية ﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَآ إِلاَ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾.
لم يبين هنا الشيء المسؤول عنه المرسلون، ولا الشيء المسؤول عنه الذين أرسل إليهم.
وبين في مواضع أخر أنه يسأل المرسلين عما أجابتهم به أممهم، ويسأل الأمم عما أجابوا به رسلهم.
قال في الأول :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ ﴾ [ المائدة : ١٠٩ ].
وقال في الثاني :﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ القصص : ٦٥ ].
وبين في موضع آخر أنه يسأل جميع الخلق عما كانوا يعلمون، وهو قوله تعالى :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الحجر : ٩٢ -٩٣ ].
وهنا إشكال معروف : وهو أنه تعالى قال هنا :﴿ فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْألَنَّ الْمُرْسَلِينَ ﴾، وقال أيضاً :﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، وقال :﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ ﴾ [ الصافات : ٢٤ ]، وهذا صريح في إثبات سؤال الجميع يوم القيامة، مع أنه قال :﴿ وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [ القصص : ٧٨ ]، وقال :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْألُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ [ الرحمان : ٣٩ ].
وقد بينا وجه الجمع بين الآيات المذكورة في كتابنا [ دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ] وسنزيده إيضاحاً هنا إن شاء الله تعالى.
اعلم أولاً : أن السؤال المنفي في الآيات المذكورة. أخص من السؤال المثبت فيها ؛ لأن السؤال المنفي فيها مقيد بكونه سؤالاً عن ذنوب خاصة. فإنه قال :﴿ وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ فخصه بكونه عن الذنوب، وقال :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْألُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ فخصه بذلك أيضاً. فيتضح من ذلك أن سؤال الرسل والمؤودة مثلاً ليس عن ذنب فعلوه فلا مانع من وقوعه. لأن المنفي خصوص السؤال عن ذنب، ويزيد ذلك إيضاحاً قوله تعالى :﴿ لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ ﴾ [ الأحزاب : ٨ ] الآية، وقوله بعد سؤاله لعيسى المذكور في قوله :﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَءَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ [ المائدة : ١١٦ ] الآية. ﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ﴾ [ المائدة : ١١٩ ] الآية، والسؤال عن الذنوب المنفي في الآيات : المراد به سؤال الاستخبار والاستعلام. لأنه جل وعلا محيط علمه بكل شيء، ولا ينافي نفي هذا النوع من السؤال ثبوت نوع آخر منه هو سؤال التوبيخ والتقريع. لأنه نوع من أنواع العذاب، ويدل لهذا أن سؤال الله للكفار في القرآن كله توبيخ وتقريع كقوله :﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ ﴾ [ الصافات : ٢٤ -٢٥ ]. وقوله :﴿ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ ﴾ [ الطور : ١٥ ]. إلى غير ذلك من الآيات وباقي أوجه الجمع مبين في كتابنا المذكور والعلم عند الله تعالى.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه يقص على عباده يوم القيامة ما كانوا يعملونه في الدنيا، وأخبرهم بأنه جل وعلا لم يكن غائباً عما فعلوه أيام فعلهم له في دار الدنيا، بل هو الرقيب الشهيد على جميع الخلق، المحيط علمه بكل ما فعلوه من صغير وكبير، وجليل وحقير، وبين هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله :﴿ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [ المجادلة : ١٢ ]، وقوله :﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ﴾ [ الحديد : ٤ ] وقوله :﴿ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [ يونس : ٦١ ].
تنبيه
في هذه الآية الكريمة الرد الصريح على المعتزلة النافين صفات المعاني، القائلين : إنه تعالى عالم بذاته، لا بصفة قامت بذاته، هي العلم، وهكذا في قولهم : قادر مريد، حي سميع، بصير متكلم، فإنه هنا أثبت لنفسه صفة العلم بقوله :﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ﴾ ونظيره قوله تعالى :﴿ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ﴾ [ النساء : ١٦٦ ] الآية. وهي أدلة قرآنية صريحة في بطلان مذهبهم الذي لا يشك عاقل في بطلانه وتناقضه.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن وزنه للأعمال يوم القيامة حق أي لا جور فيه، ولا ظلم، فلا يزاد في سيئات مسيء، ولا ينقص من حسنات محسن.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله :﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ]، وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ﴾ [ النساء : ٤٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ﴾ [ ٨ – ٩ ].
بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن من ثقلت موازينهم أفلحوا، ومن خفت موازينهم خسروا بسبب ظلمهم، ولم يفصل الفلاح والخسران هنا.
وقد جاء في بعض المواضع ما يدل على أن المراد بالفلاح هنا كونه في عيشة راضية في الجنة، وأن المراد بالخسران هنا كونه في الهاوية من النار، وذلك في قوله :﴿ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هيه نَارٌ حَامِيَةٌ ﴾ [ القارعة : ٦ – ١١ ].
وبين أيضاً خسران من خفت موازينه بقوله :﴿ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٠٣ – ١٠٤ ] إلى غير ذلك من الآيات.
لم يبين هنا كيفية هذه المعايش التي جعل لنا في الأرض، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله :﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أنا صببنا الماء صبا ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ ولأنعامكم ﴾ [ عبس : ٢٤ – ٣٢ ].
وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأرض الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ﴾ [ السجدة : ٢٧ ]، وقوله :﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيات لأولي النُّهَى ﴾ [ طه : ٥٣ – ٥٤ ].
وذكر كثيراً من ذلك في سورة النحل كقوله :﴿ والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [ النحل : ٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قال بعض العلماء، معناه : ما منعك أن تسجد، و «لا » صلة، ويشهد لهذا قوله تعالى : في سورة «ص » ﴿ قَالَ يا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي ﴾ [ ص : ٧٥ ] الآية. وقد أوضحنا زيادة لفظة «لا » وشواهد ذلك من القرآن، ومن كلام العرب في سورة البلد. في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب » والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾.
ذكر في هذه الآية الكريمة : أن إبليس لعنه الله خلق من نار، وعلى القول بأن إبليس هو الجان الذي هو أبو الجن. فقد زاد في مواضع أخر أوصافاً للنار التي خلقه منها. من ذلك أنها نار السموم. كما في قوله :﴿ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ﴾ [ الحجر : ٢٧ ]، ومن ذلك أنها خصوص المارج. كما في قوله :﴿ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ﴾ [ الرحمان : ١٥ ]، والمارج أخص من مطلق النار لأنه اللهب الذي لا دخان فيه.
وسميت نار السموم : لأنها تنفذ في مسام البدن لشدة حرها. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً «خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم » ورواه عنها أيضاً الإمام أحمد.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه عامل إبليس اللعين بنقيض قصده حيث كان قصده التعاظم والتكبر، فأخرجه الله صاغراً حقيراً ذليلا، متصفاً بنقيض ما كان يحاوله من العلو والعظمة، وذلك في قوله :﴿ فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾، والصغار : أشد الذل والهوان، وقوله :﴿ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ﴾ [ الأعراف : ١٨ ]، ونحو ذلك من الآيات، ويفهم من الآية أن المتكبر لا ينال ما أراد من العظمة والرفعة، وإنما يحصل له نقيض ذلك ؛ وصرح تعالى بهذا المعنى في قوله :﴿ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ﴾ [ غافر : ٥٦ ].
وبين في مواضع أخر كثيراً من العواقب السيئة التي تنشأ عن الكبر أعاذنا الله والمسلمين منه فمن ذلك أنه سبب لصرف صاحبه عن فهم آيات الله، والاهتداء بها كما في قوله تعالى :﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ ءَايَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [ الأعراف : ١٤٦ ] الآية. ومن ذلك أَنَه من أسباب الثواء في النار كما في قوله تعالى :﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [ الرمز : ٦٠ ]، وقوله :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَه إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [ الصافات : ٣٥ ]، ومن ذلك أن صاحبه لا يحبه الله تعالى كما في قوله :﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾ [ النحل : ٢٣ ]، ومن ذلك أن موسى استعاذ من المتصف به ولا يستعاذ إلا مما هو شر. كما في قوله :﴿ وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ﴾ [ غافر : ٢٧ ] إلى غير ذلك من نتائجه السيئة، وعواقبه الوخيمة، ويفهم من مفهوم المخالفة في الآية : أن المتواضع لله جل وعلا يرفعه الله.
وقد أشار تعالى إلى مكانة المتواضعين له عنده في مواضع أخر كقوله :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ]، وقوله :﴿ تِلْكَ الدَّارُ الآخرة نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [ القصص : ٨٣ ] وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إنه أوحي إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد »، وقد قال الشاعر :
تواضع تكن كالبدر تبصر وجهه | على صفحات الماء وهو رفيع |
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه | إلى صفحات الجو وهو وضيع |
ولو لم يعل إلا ذو محل | تعالى الجيش وانحط القتام |
لم يبين هنا في سورة الأعراف الغاية التي أنظره إليها، وقد ذكرها في «الحجر » و «ص » مبيناً أن غاية ذلك الإنظار هو يوم الوقت المعلوم.
لقوله : في سورة «الحجر » و «ص » ﴿ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴾ فقد طلب الشيطان الإنظار إلى يوم البعث، وقد أعطاه الله الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم.
وأكثر العلماء يقولون : المراد به وقت النفخة الأولى، والعلم عند الله تعالى.
لم يبين هنا في سورة الأعراف الغاية التي أنظره إليها، وقد ذكرها في «الحجر » و «ص » مبيناً أن غاية ذلك الإنظار هو يوم الوقت المعلوم.
لقوله : في سورة «الحجر » و «ص » ﴿ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ ﴾ فقد طلب الشيطان الإنظار إلى يوم البعث، وقد أعطاه الله الإنظار إلى يوم الوقت المعلوم.
وأكثر العلماء يقولون : المراد به وقت النفخة الأولى، والعلم عند الله تعالى.
هذا الذي ذكر إبليس أنه سيوقع بين آدم فيه قاله ظناً منه أنهم سيطيعونه فيما يدعوهم إليه حتى يهلكهم، وقد بين تعالى في سورة «سبأ » أن ظنه هذا صدق فيهم بقوله ﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ ﴾ [ سبأ : ٢٠ ] الآية. كما تقدمت الإشارة إليه.
بين في هذه الآية الكريمة أنه قال لإبليس : أخرج منها في حال كونك مذءوماً مدحوراً. والمذءوم : المعيب أو الممقوت، والمدحور : المبعد عن الرحمة، المطرود، وأنه أوعده بملء جهنم منه، وممن تبعه. وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ ص : ٨٤ – ٨٥ ] وقوله :﴿ قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ﴾ [ الإسراء : ٦٣ -٦٤ ]، وقوله :﴿ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴾ [ الشعراء : ٩٤ -٩٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
حذر تعالى في هذه الآية الكريمة بني آدم أن يفتنهم الشيطان كما فتن أبويهم، وصرح في موضع آخر. أنه حذر آدم من مكر إبليس قبل أن يقع فيما وقع فيه، ولم ينجه ذلك التحذير من عدوه وهو قوله تعالى :﴿ فَقُلْنَا يا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ [ طه : ١١٧ ].
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن الكفار إذا فعلوا فاحشة. استدلوا على أنها حق وصواب، بأنهم وجدوا آباءهم يفعلونها، وأنهم ما فعلوها، إلا لأنها صواب ورشد.
وبين في موضع آخر : أن هذا واقع من جميع الأمم، وهو قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٢٣ ].
ورد الله عليهم هذا التقليد الأعمى في آيات كثيرة، كقوله :﴿ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧٠ ]، وقوله :﴿ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [ المائدة : ١٠٤ ]، وقوله :﴿ قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ ﴾ [ الزخرف : ٢٤ ]، وقوله :﴿ إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ فَهُمْ عَلَى ءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ﴾ [ الصافات : ٦٩ -٧٠ ]. إلى غير ذلك من الآيات.
في هذه الآية الكريمة للعلماء وجهان من التفسير :
الأول : أن معنى ﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ أي كما سبق لكم في علم الله من سعادة أو شقاوة، فإنكم تصيرون إليه. فمن سبق له العلم بأنه سعيد صار إلى السعادة، ومن سبق له العلم بأنه شقي صار إلى الشقاوة، ويدل لهذا الوجه قوله بعده :﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾. وهو ظاهر كما ترى، ومن الآيات الدالة عليه أيضاً قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾ [ التغابن : ٢ ]، وقوله :﴿ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [ هود : ١١٩ ]، أي ولذلك الاختلاف إلى شقي، وسعيد خلقهم.
الوجه الثاني : أن معنى قوله :﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾، أي كما خلقكم أولاً، ولم تكونوا شيئاً، فإنه يعيدكم مرة أخرى. ويبعثكم من قبوركم أحياء بعد أن متم وصرتم عظاماً رميماً، والآيات الدالة على هذا الوجه كثيرة جداً، كقوله :﴿ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ]، وقوله :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ [ الروم : ٢٧ ] الآية، وقوله :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ يس : ٧٩ ] الآية، وقوله :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ [ الحج : ٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أنه قد يكون في الآية وجهان، وكل واحد منهما حق، ويشهد له القرآن، فنذكر الجميع، لأنه كله حق، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾.
وبين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الكفار اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ومن تلك الموالاة طاعتهم لهم فيما يخالف ما شرعه الله تعالى، ومع ذلك يظنون أنفسهم على هدى.
وبين في موضع آخر : أن من كان كذلك فهو أخسر الناس عملاً، والعياذ بالله تعالى، وهو قوله جل وعلا :﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [ الكهف : ١٠٣ – ١٠٤ ].
في هذه الآية الكريمة للعلماء وجهان من التفسير :
الأول : أن معنى ﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾ أي كما سبق لكم في علم الله من سعادة أو شقاوة، فإنكم تصيرون إليه. فمن سبق له العلم بأنه سعيد صار إلى السعادة، ومن سبق له العلم بأنه شقي صار إلى الشقاوة، ويدل لهذا الوجه قوله بعده :﴿ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ﴾. وهو ظاهر كما ترى، ومن الآيات الدالة عليه أيضاً قوله تعالى :﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾ [ التغابن : ٢ ]، وقوله :﴿ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾ [ هود : ١١٩ ]، أي ولذلك الاختلاف إلى شقي، وسعيد خلقهم.
الوجه الثاني : أن معنى قوله :﴿ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ﴾، أي كما خلقكم أولاً، ولم تكونوا شيئاً، فإنه يعيدكم مرة أخرى. ويبعثكم من قبوركم أحياء بعد أن متم وصرتم عظاماً رميماً، والآيات الدالة على هذا الوجه كثيرة جداً، كقوله :﴿ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٤ ]، وقوله :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ [ الروم : ٢٧ ] الآية، وقوله :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ يس : ٧٩ ] الآية، وقوله :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ [ الحج : ٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أنه قد يكون في الآية وجهان، وكل واحد منهما حق، ويشهد له القرآن، فنذكر الجميع، لأنه كله حق، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ﴾.
وبين تعالى في هذه الآية الكريمة، أن الكفار اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله، ومن تلك الموالاة طاعتهم لهم فيما يخالف ما شرعه الله تعالى، ومع ذلك يظنون أنفسهم على هدى.
وبين في موضع آخر : أن من كان كذلك فهو أخسر الناس عملاً، والعياذ بالله تعالى، وهو قوله جل وعلا :﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [ الكهف : ١٠٣ – ١٠٤ ].
تنبيه
هذه النصوص القرآنية تدل على أن الكافر لا ينفعه ظنه أنه على هدى، لأن الأدلة التي جاءت بها الرسل لم تترك في الحق لبساً ولا شبهة، ولكن الكافر لشدة تعصبه للكفر لا يكاد يفكر في الأدلة التي هي كالشمس في رابعة النهار لجاجاً في الباطل، وعناداً، فلذلك كان غير معذور. والعلم عند الله تعالى.
أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة نبيه صلى الله عليه وسلم :«أن يسأل سؤال إنكار من حرم زينة الله التي أخرج لعباده، كاللباس في الطواف، والطيبات من الرزق كالأنعام، والحرث التي حرمها الكفار، وكاللحم والودك الذي حرمه بعض العرب في الجاهلية في الحج.
وصرح في مواضع أخر : أن من قال ذلك على الله فهو مقتر عليه جل وعلا، كقوله :﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ ﴾ [ النحل : ٥٩ ]، وقوله :﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٠ ]، وقوله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾ [ يونس : ٥٩ ] وطلبهم في موضع آخر طلب إعجاز أن يأتوا بالشهداء الذين يشهدون لهم أن الله حرم هذا، ونهى نبيه صلى الله عليه وسلم إن شهد لهم شهود زور أن يشهد معهم، وهو قوله تعالى :﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٥٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
لم يبين هنا السبب الذي مكنهم من إضلالهم، ولكنه بين في موضع آخر : أن السبب الذي مكنهم من ذلك هو كونهم سادتهم وكبراءهم، ومعلوم أن الأتباع يطيعون السادة الكبراء فيما يأمرونهم به، وهو قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ ﴾ [ الأحزاب : ٦٧ -٦٨ ] الآية. وبسط ذلك في سورة «سبأ » بقوله :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الليل وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً ﴾ [ سبأ : ٣١-٣٣ ].
قوله تعالى :﴿ فآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ﴾.
وبين تعالى في هذه الآية الكريمة، وأمثالها من الآيات : أن الأتباع يسألون الله يوم القيامة أن يضاعف العذاب للمتبوعين، وبين في مواضع أخر : أن مضاعفة العذاب للمتبوعين لا تنفع الأتباع، ولا تخفف عنهم من العذاب، كقوله :﴿ وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ﴾ [ الزخرف : ٣٩ ]، وقوله هنا :﴿ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾، وقوله :﴿ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ﴾ [ غافر : ٣٨ ] إلى غير ذلك من الآيات.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه جل وعلا، ينزع ما في صدور أهل الجنة من الحقد، والحسد الذي كان في الدنيا، وأنهم تجري من تحتهم الأنهار في الجنة، وذكر في موضع آخر أن نزع الغل من صدورهم يقع في حال كونهم إخواناً على سرر متقابلين آمنين من النصب، والخروج من الجنة. وهو قوله تعالى في «الحجر » :﴿ وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٧ – ٤٨ ].
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن بين أهل الجنة، وأهل النار حجاباً يوم القيامة، ولم يبين هذا الحجاب هنا، ولكنه بينه في سورة الحديد بقوله :﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [ الحديد : ١٣ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ﴾.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أصحاب الأعراف، يعرفون كلا من أهل الجنة، وأهل النار بسيماهم، ولم يبين هنا سيما أهل الجنة، ولا أهل النار، ولكنه أشار لذلك في مواضع أخر، كقوله :﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ] الآية.
فبياض الوجوه وحسنها ؛ سيما أهل الجنة، وسوادها وقبحها، وزرقة العيون، سيما أهل النار، كما قال أيضاً في سيما أهل الجنة :﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ﴾ [ المطففين : ٢٤ ]، وقال :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ﴾ [ القيامة : ٢٢ ] الآية، وقال في سيما أهل النار :﴿ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ الليل مُظْلِماً ﴾ [ يونس : ٢٧ ] الآية. وقال ﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ﴾ [ عبس : ٤٠ ] الآية، وقال :﴿ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً ﴾ [ طه : ١٠٢ ].
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن أصحاب الأعراف قالوا لرجال من أهل النار : يعرفونهم بسيماهم لم ينفعكم ما كنتم تجمعونه في الدنيا من المال، ولا كثرة جماعتكم وأنصاركم، ولا استكباركم في الدنيا.
وبين في مواضع أخر وجه ذلك : وهو أن الإنسان يوم القيامة، يحشر فرداً، لا مال معه، ولا ناصر، ولا خادم، ولا خول. وأن استكباره في الدنيا يجزىء به عذاب الهون في الآخرة، كقوله. ﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ﴾ [ الأنعام : ٩٤ ]، وقوله :﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ﴾ [ مريم : ٨٠ ]، وقوله :﴿ وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ﴾، وقوله :﴿ فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [ الأحقاف : ٢٠ ] الآية.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أن الكفار، إذا عاينوا الحقيقة يوم القيامة يقرون بأن الرسل جاءت بالحق، ويتمنون أحد أمرين : أن يشفع لهم شفعاء فينقذوهم، أو يردوا إلى الدنيا ليصدقوا الرسل، ويعملوا بما يرضي الله، ولم يبين هنا هل يشفع لهم أحد ؟ وهل يردون ؟ وماذا يفعلون لو ردوا ؟ وهل اعترافهم ذلك بصدق الرسل ينفعهم ؟ ولكنه تعالى بين ذلك كله في مواضع أخر، فبين : أنهم لا يشفع لهم أحد بقوله :﴿ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٠٠ ]، وقوله :﴿ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ [ المدثر : ٤٨ ]، وقوله :﴿ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ﴾ [ الأنبياء : ٢٨ ] مع قوله :﴿ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ [ الزمر : ٧ ]، وقوله :﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [ التوبة : ٩٦ ]، وبين أنهم لا يردون في مواضع متعددة، كقوله :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لأمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ [ السجدة : ١٢ -١٣ ] رضي الله عنه.
فقوله :﴿ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لأمْلأَنَّ جَهَنَّمَ ﴾ الآية.
دليل على أن النار وجبت لهم، فلا يردون، ولا يعذرون، وقوله ﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾ [ فاطر : ٣٧ ].
فصرح بأنه قطع عذرهم في الدنيا ؛ بالإمهال مدة يتذكرون فيها ؛ وإنذار الرسل، وهو دليل على عدم ردهم إلى الدنيا مرة أخرى، وأشار إلى ذلك بقوله :﴿ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ ﴾ [ إبراهيم : ٤٤ ] جواباً لقولهم :﴿ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ﴾ [ إبراهيم : ٤٤ ]، وقوله :﴿ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِي اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ ﴾ [ غافر : ١٢ ]، بعد قوله تعالى عنهم :﴿ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ﴾ [ غافر : ١١ ]، وقوله :﴿ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفي ﴾ [ الشورى : ٤٥ ] الآية، بعد قوله :﴿ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ﴾ [ الشورى : ٤٤ ]، وقوله هنا :﴿ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ ﴾ الآية بعد قوله :﴿ يَحْزَنُونَ ﴾ الآية.
فكل ذلك يدل على عدم الرد إلى الدنيا، وعلى وجوب العذاب، وأنه لا محيص لهم عنه.
وبين في موضع آخر أنهم لو ردوا لعادوا إلى الكفر والطغيان ؛ وهو قوله :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ] الآية، وفي هذه الآية الكريمة دليل واضح على أنه تعالى يعلم المعدوم الممكن الذي سبق في علمه أنه لا يوجد كيف يكون لو وجد، فهو تعالى يعلم أنهم لا يردون إلى الدنيا مرة أخرى ويعلم هذا الرد الذي لا يكون لو وقع كيف يكون كما صرح به في قوله :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ]، ويعلم أن المتخلفين من المنافقين عن غزوة تبوك لا يحضرونها لأنه هو الذي ثبطهم عنها لحكمة كما بينه بقوله :﴿ وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ﴾ [ التوبة : ٤٦ ] الآية. وهو يعلم هذا الخروج الذي لا يكون لو وقع كيف يكون كما صرح به في قوله :﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأوْضَعُواْ خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ﴾ [ التوبة : ٤٧ ] الآية، ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٧٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وبين في مواضع أخر أن اعترافهم هذا بقولهم :﴿ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ] لا ينفعهم كقوله تعالى :﴿ فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لأصحاب السَّعِيرِ ﴾ [ الملك : ١١ ]، وقوله :﴿ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى ﴾ [ الزمر : ٧١ ]، ونحو ذلك من الآيات.
لم يفصل هنا ذلك، ولكنه فصله في سورة «فصلت » بقوله :﴿ قُلْ أَءِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِي مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وللأرض ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِين فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا ﴾ [ فصلت : ٩ -١٢ ].
قوله تعالى :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِى الليل النَّهَارَ ﴾ الآية.
هذه الآية الكريمة وأمثالها من آيات الصفات كقوله ﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ [ الفتح : ١٠ ] ونحو ذلك ؛ أشكلت على كثير من الناس إشكالاً ضل بسببه خلق لا يحصى كثرة، فصار قوم إلى التعطيل وقوم إلى التشبيه سبحانه وتعالى علواً كبيراً عن ذلك كله والله جل وعلا أوضح هذا غاية الإيضاح، ولم يترك فيه أي لبس ولا إشكال، وحاصل تحرير ذلك أنه جل وعلا بين أن الحق في آيات الصفات متركب من أمرين :
أحدهما : تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة الحوادث في صفاتهم سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
والثاني : الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله ﴿ ءَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ ﴾ [ البقرة : ١٤٠ ]، ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه :﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى ﴾ [ النجم : ٣ – ٤ ] فمن نفى عن الله وصفاً أثبته لنفسه في كتابه العزيز، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم زاعماً أن ذلك الوصف يلزمه ما لا يليق بالله جل وعلا، فقد جعل نفسه أعلم من الله ورسوله بما يليق بالله جل وعلا. ﴿ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [ النور : ١٦ ].
ومن اعتقد أن وصف الله يشابه صفات الخلق، فهو مشبه ملحد ضال، ومن أثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم مع تنزيهه جل وعلا عن مشابهة الخلق، فهو مؤمن جامع بين الإيمان بصفات الكمال والجلال، والتنزيه عن مشابهة الخلق، سالم من ورطة التشبيه والتعطيل، والآية التي أوضح الله بها هذا. هي قوله تعالى :﴿ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [ الشورى : ١١ ] فنفى عن نفسه جل وعلا مماثلة الحوادث بقوله :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ ﴾ وأثبت لنفسه صفات الكمال والجلال بقوله :﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ فصرح في هذه الآية الكريمة بنفي المماثلة مع الاتصاف بصفات الكمال والجلال.
والظاهر أن السر في تعبيره بقوله :﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ دون أن يقول مثلاً : وهو العلي العظيم أو نحو ذلك من الصفات الجامعة ؛ أن السمع والبصر يتصف بهما جميع الحيوانات. فبين أن الله متصف بهما، ولكن وصفه بهما على أساس نفي المماثلة بين وصفه تعالى، وبين صفات خلقه. ولذا جاء بقوله :﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ بعد قوله :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ ﴾ ففي هذه الآية الكريمة إيضاح للحق في آيات الصفات لا لبس معه ولا شبهة البتة، وسنوضح إن شاء الله هذه المسألة إيضاحاً تاماً بحسب طاقتنا، وبالله جل وعلا التوفيق.
اعلم أولاً : أن المتكلمين قسموا صفاته جل وعلا إلى ستة أقسام :
صفة نفسية، وصفة سلبية، وصفة معنى، وصفة معنوية، وصفة فعلية، وصفة جامعة، والصفة الإضافية تتداخل مع الفعلية. لأن كل صفة فعلية من مادة متعدية إلى المفعول كالخلق والإحياء والإماتة، فهي صفة إضافية، وليست كل صفة إضافية فعلية فبينهما عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في نحو الخلق والإحياء والإماتة، وتتفرد الفعلية في نحو الاستواء، وتتفرد الإضافية في نحو كونه تعالى كان موجوداً قبل كل شيء، وأنه فوق كل شيء، لأن القبلية والفوقية من الصفات الإضافية، وليستا من صفات الأفعال، ولا يخفى على عالم بالقوانين الكلامية والمنطقية أن إطلاق النفسية على شيء من صفاته جل وعلا أنه لا يجوز، وأن فيه من الجراءة على الله جل وعلا ما الله عالم به، وإن كان قصدهم بالنفسية في حق الله الوجود فقط وهو صحيح، لأن الإطلاق الموهم للمحذور في حقه تعالى لا يجوز، وإن كان المقصود به صحيحاً ؛ لأن الصفة النفسية في الاصطلاح لا تكون إلا جنساً أو فصلاً، فالجنس كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان، والفصل كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، ولا يخفى أن الجنس في الاصطلاح قدر مشترك بين أفراد مختلفة الحقائق كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس والحمار، وأن الفصل صفة نفسية لبعض أفراد الجنس ينفصل بها عن غيره من الأفراد المشاركة له في الجنس كالنطق بالنسبة إلى الإنسان، فإنه صفته النفسية التي تفصله عن الفرس مثلاً : المشارك له في الجوهرية والجسمية والنمائية والحساسية، ووصف الله جل وعلا بشيء يراد به اصطلاحاً ما بينا لك ؛ من أعظم الجراءة على الله تعالى كما ترى. لأنه جل وعلا واحد في ذاته وصفاته وأفعاله، فليس بينه وبين غيره اشتراك في شيء من ذاته، ولا من صفاته، حتى يطلق عليه ما يطلق على الجنس والفصل سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً لأن الجنس قدر مشترك بين حقائق مختلفة.
والفصل : هو الذي يفصل بعض تلك الحقائق المشتركة في الجنس عن بعض سبحان رب السماوات والأرض وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وسنبين لك أن جميع الصفات على تقسيمهم لها جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها، وهم في بعض ذلك يقرون بأن الخالق موصوف بها، وأنها جاء في القرآن أيضاً وصف المخلوق بها، ولكن وصف الخالق مناف لوصف المخلوق، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق، ويلزمهم ضرورة فيما أنكروا مثل ما أقروا به لأن الكل من باب واحد، لأن جميع صفات الله جل وعلا من باب واحد، لأن المتصف بها لا يشبهه شيء من الحوادث.
فمن ذلك : الصفات السبع ؛ المعروفة عندهم بصفات المعاني وهي : القدرة، والإدارة، والعلم، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام.
فقد قال تعالى في وصف نفسه بالقدرة : وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : ٢٨٤ ].
وقال في وصف الحادث بها :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ ﴾ [ المائدة : ٣٤ ] فأثبت لنفسه قدرة حقيقية لائقة بجلاله وكماله، وأثبت لبعض الحوادث قدرة مناسبة لحالهم من الضعف والافتقار والحدوث الفناء، وبين قدرته، وقدرة مخلوقه من المنافاة ما بين ذاته وذات مخلوقه.
وقال في وصف نفسه بالإرادة :﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾[ هود : ١٠٧ ]، ﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ يس : ٨٢ ]، ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ]، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف المخلوق بها :﴿ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا ﴾ [ الأنفال : ٦٧ ] الآية ﴿ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً ﴾ [ الأحزاب : ١٣ ]، ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ ﴾ [ الصف : ٨ ]، ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا إرادة حقيقية لائقة بكماله وجلاله، وللمخلوق إرادة أيضاً مناسبة لحاله، وبين إرادة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالعلم :﴿ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ]، ﴿ لّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ﴾ [ النساء : ١٦٦ ] الآية ﴿ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ ﴾ [ الأعراف : ٧ ].
وقال في وصف الحادث به :﴿ قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ ﴾ [ الذاريات : ٢٨ ]، وقال :﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ﴾ [ يوسف : ٦٨ ] ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا علم حقيقي لائق بكماله وجلاله، وللمخلوق علم مناسب لحاله، وبين علم الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالحياة :﴿ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] ﴿ هُوَ الْحَيلاَ إِلََه إِلاَّ هُوَ ﴾ [ غافر : ٦٥ ] الآية. ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَي الَّذِي لاَ يَمُوتُ ﴾ [ الفرقان : ٨٥ ]، ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف المخلوق بها :﴿ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ﴾ [ مريم : ١٥ ]، ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَي ﴾ [ الأنبياء : ٣٠ ]، ﴿ يُخْرِجُ الْحَي مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ ﴾ [ يونس : ٣١ ].
فله جل وعلا حياة حقيقية تليق بجلاله وكماله، وللمخلوق أيضاً حياة مناسبة لحاله ؛ وبين حياة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالسمع والبصر :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [ الشورى : ١٤ ]، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [ الحج : ٦١ ] ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف الحادث بهما :﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ [ الإنسان : ٢ ]، ﴿ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ﴾ [ مريم : ٣٨ ] الآية ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان يليقان بكماله وجلاله، وللمخلوق سمع وبصر مناسبان لحاله. وبين سمع الخالق وبصره، وسمع المخلوق وبصره من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وقال في وصف نفسه بالكلام ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ﴾ [ النساء : ١٦٤ ]، ﴿ إِنْي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ﴾ [ الأعراف : ١٤٤ ]، ﴿ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ﴾ [ التوبة : ٦ ] ونحو ذلك من الآيات.
وقال في وصف المخلوق به :﴿ فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ ﴾ [ يوسف : ٥٤ ] ؛ ﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ ﴾ [ يس : ٦٥ ] الآية ﴿ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً ﴾ [ مريم : ٢٩ ]، ونحو ذلك من الآيات.
فله جل وعلا كلام حقيقي يليق بكماله وجلاله ؛ وللمخلوق كلام أيضاً مناسب لحاله. وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق.
وهذه الصفات السبع المذكورة يثبتها كثير ممن يقول بنفي غيرها من صفات المعاني.
والمعتزلة ينفونها ويثبتون أحكامها فيقولون : هو تعالى حي قادر، مريد عليم، سميع بصير، متكلم بذاته لا بقدرة قائمة بذاته، ولا إرادة قائمة بذاته هكذا فراراً منهم من تعدد القديم.
ومذهبهم الباطل لا يخفى بطلانه وتناقضه على أدنى عاق
ذكر في هذه الآية الكريمة : أن رحمته جل وعلا قريب من عباده المحسنين، وأوضح في موضع آخر صفات عبيده الذين سيكتبها لهم في قوله :﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة ﴾ [ الأعراف : ١٥٦ ] الآية.
ووجه تذكير وصف الرحمة مع أنها مؤنثة في قوله :﴿ قَرِيبٌ ﴾ ولم يقل قريبة، فيه للعلماء أقوال تزيد على العشرة. نذكر منها إن شاء الله بعضاً، ونترك ما يظهر لنا ضعفه أو بعده عن الظاهر.
منها : أن الرحمة مصدر بمعنى الرحم، فالتذكير باعتبار المعنى.
ومنها أن من أساليب اللغة العربية أن القرابة إذا كانت قرابة نسب تعين التأنيث فيها في الأنثى فتقول : هذا المرأة قريبتي أي في النسب ولا تقول : قريب مني ؛ وإن كانت قرابة مسافة جاز التذكير والتأنيث. فتقول : داره قريب وقريبة مني، ويدل لهذا الوجه قوله تعالى :﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ﴾ [ الشورى : ١٧ ]، وقوله تعالى :﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً ﴾ [ الأحزاب : ٦٣ ] وقول امرىء القيس :
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم *** قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
ومنها : أن وجه ذلك إضافة الرحمة إلى الله جل وعلا.
ومنها : أن قوله ﴿ قَرِيبٌ ﴾ صفة موصوف محذوف أي شيء قريب من المحسنين.
ومنها : أنها شبهت بفعيل بمعنى مفعول الذي يستوي فيه الذكر والأنثى.
ومنها : أن الأسماء التي على فعيل ربما شبهت بالمصدر الآتي على فعيل، فأفردت لذلك. قال بعضهم : ولذلك أفرد الصديق في قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ [ النور : ٦١ ]، وقول الشاعر :
وهن صديق لمن لم يشب ***... اه
والظهير في قوله :﴿ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ﴾ [ التحريم : ٤ ] إلى غير ذلك من الأوجه.
قراءة عاصم ﴿ بَشَرًا ﴾ بضم الباء الموحدة، وإسكان الشين : جمع بشير، لأنها تنتشر أمام المطر مبشرة به، وهذا المعنى يوضحه قوله تعالى :﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ ﴾ [ الروم : ٤٦ ] الآية، وقوله :﴿ بَيْنَ يَدَي رَحْمَتِهِ ﴾، يعني برحمته المطر كما جاء مبيناً في غير هذا الموضع كقوله :﴿ وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ﴾ [ الشورى : ٢٨ ] الآية، وقوله :﴿ فَانظُرْ إِلَى ءَاثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يحي الأرض بَعْدَ موتها ﴾ [ الروم : ٥٠ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ ﴾ الآية.
بين في هذه الآية الكريمة أنه يحمل السحاب على الريح، ثم يسوقه إلى حيث يشاء من بقاع الأرض، وأوضح هذا المعنى بآيات كثيرة كقوله :﴿ وَاللَّهُ الذي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ ﴾ [ فاطر : ٩ ] الآية. وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الأرض الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ﴾ [ السجدة : ٢٧ ] إلى غير ذلك من الآيات.
أنكر تعالى في هذه السورة الكريمة على قوم نوح، وقوم هود عجبهم من إرسال رجل ؛ وبين في مواضع أخر أن جميع الأمم عجبوا من ذلك. قال في عجب قوم نبينا صلى الله عليه وسلم من ذلك :﴿ أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ﴾ [ يونس : ٢ ]، وقال :﴿ بَلْ عَجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ﴾ [ ق : ٢ ] الآية، وقال عن الأمم السابقة :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ ﴾ [ التغابن : ٦ ]، وقال :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ ﴾ ﴿ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ ﴾ [ القمر : ٢٣ ] الآية، وقال :﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٣٤ ]، وصرح بأن هذا العجب من إرسال بشر مانع للناس من الإيمان بقوله :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٤ ].
ورد الله عليهم ذلك في آيات كثيرة كقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً ﴾ [ الأنبياء : ٧ ] الآية، وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ﴾ [ الفرقان : ٢٠ ] الآية، وقوله :﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ﴾ [ الأنعام : ٩ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
لم يبين هنا كيفية إغراقهم، ولكنه بينها في مواضع أخر كقوله :﴿ فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ ﴾ [ القمر : ١١ ] الآية، وقوله :﴿ فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ١٤ ].
لم يبين هنا شيئاً من هذا الجدال الواقع بين هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وبين عاد. ولكنه أشار إليه في مواضع أخر كقوله :﴿ قَالُواْ يا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بريء مِّمَّا تُشْرِكُون مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ هود : ٥٣ – ٥٦ ].
لم يبين هنا كيفية قطعه دابر عاد، ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله :﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٦ ] الآية، وقوله :﴿ وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ﴾ [ الذاريات : ٤١ ] الآية، ونحو ذلك من الآيات.
ظاهر هذه الآية الكريمة أن عقرها باشرته جماعة، ولكنه تعالى بين في سورة القمر : أن المراد أنهم نادوا واحداً منهم. فباشر عقرها، وذلك في قوله تعالى :﴿ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ﴾ [ القمر : ٢٩ ].
﴿ وَقَالُواْ يَا صَالحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ ﴾ الآية
لم يبين هنا هذا الذي يعدهم به، ولكنه بين في مواضع أخر أنه العذاب كقوله :﴿ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ﴾ [ هود : ٦٤ ]، وقوله هنا ﴿ بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ ﴾ [ الأعراف : ٧٣ ]، وقوله :﴿ تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾ [ هود : ٦٥ ]، ونحو ذلك من الآيات.
لم يبين هنا سبب رجفة الأرض بهم، ولكنه بين في موضع آخر أن سبب ذلك صيحة الملك بهم، وهو قوله :﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾ [ هود : ٦٧ ] الآية. والظاهر أن الملك لما صاح بهم رجفت بهم الأرض من شدة الصيحة، وفارقت أرواحهم أبدانهم، والله جل وعلا أعلم.
وبين تعالى هذه الرسالة التي أبلغها نبيه صالح إلى قومه في آيات كثيرة كقوله :﴿ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ الأعراف : ٧٣ ].
بين تعالى أن المراد بهذه الفاحشة اللواط بقوله بعده :﴿ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَآءِ ﴾[ ٨١ ] الآية، وبين ذلك أيضاً بقوله :﴿ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٦٥ ]، وقوله :﴿ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ ﴾ [ العنكبوت : ٢٩ ].
ظاهر هذه الآية الكريمة أنه لم ينج مع لوط إلا خصوص أهله، وقد بين تعالى ذلك في «الذاريات » بقوله :﴿ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ الذاريات : ٣٥ - ٣٦ ] وقوله هنا :﴿ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ أوضحه في مواضع أخر، فبين أنها خائنة، وأنها من أهل النار، وأنها واقعة فيما أصاب قومها من الهلاك، قال فيها : هي وامرأة نوح ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَاخِلِينَ ﴾ [ التحريم : ١٠ ]، وقال فيها وحدها : أعني امرأة لوط ﴿ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ ﴾ [ هود : ٨١ ] الآية، وقوله هنا في قوم لوط :﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ﴾.
لم يبين هنا هذا المطر ما هو، ولكنه بين في مواضع أخر أنه مطر حجارة أهلكهم الله بها كقوله :﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ﴾ [ الحجر : ٧٤ ] وأشار إلى أن السجيل الطين بقوله في «الذاريات » :﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٣٣ ]، وبين أن هذا المطر مطر سوء لا رحمة بقوله :﴿ وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ ﴾ [ الفرقان : ٤٠ ]، وقوله تعالى في «الشعراء » :﴿ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٧٣ ].
الضمير في قوله :﴿ وَتَبْغُونَهَا ﴾ راجع إلى السبيل وهو نص قرآني على أن السبيل مؤنثة، ولكنه جاء في موضع آخر ما يدل على تذكير السبيل أيضاً. وهو قوله تعالى : في هذه السورة الكريمة ﴿ وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ﴾ [ الأعراف : ١٤٦ ].
بين تعالى حكمه الذي حكم به بينهم بقوله :﴿ وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ ﴾ [ هود : ٩٤ ] : وقوله ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [ الأعراف : ٧٨ ]، وقوله :﴿ الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ٩٢ ]، وقوله :﴿ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ﴾ [ الشعراء : ١٨٩ ] الآية. فإن قيل : الهلاك الذي أصاب قوم شعيب ذكر تعالى في الأعراف أنه رجفة، وذكر في هود أنه صيحة، وذكر في الشعراء أنه عذاب يوم الظلة.
فالجواب : ما قاله ابن كثير رحمه الله في تفسيره قال : وقد اجتمع عليهم ذلك كله أصابه عذاب يوم الظلة وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم. ثم جاءتهم صيحة من السماء، ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم. فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس، وخمدت الأجسام اه. منه.
بين جل وعلا الرسالات التي أبلغها رسوله شعيب إلى قومه في آيات كثيرة كقوله :﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلٍَه غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ﴾ [ هود : ٨٤ ] الآية ونحوها من الآيات، وبين نصحه لهم في آيات كثيرة كقوله :﴿ وَيا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ﴾ [ هود : ٨٩ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ فَكَيْفَ ءَاسَي عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ﴾ أنكر نبي الله شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الأسى أي الحزن على الكفار إذا أهلكهم الله بعد إبلاغهم، وإقامة الحجة عليهم مع تماديهم في الكفر والطغيان لجاجاً وعناداً، وإنكاره لذلك يدل على أنه لا ينبغي، وقد صرح تعالى بذلك فنهى نبينا صلى الله عليه وسلم عنه في قوله :﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [ المائدة : ٦٨ ] ومعنى لا تأس : لا تحزن، وقوله :﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ [ الحجر : ٨٨ ] الآية.
ذكر أنباءهم مفصلة في مواضع كثيرة. كالآيات التي ذكر فيها خبر نوح وهود، وصالح ولوط، وشعيب وغيرهم، مع أممهم صلوات الله وسلامه عليهم.
قوله تعالى :﴿ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ ﴾ الآية. في هذه الآية الكريمة للعلماء أوجه من التفسير : بعضها يشهد له القرآن.
منها : أن المعنى فما كانوا ليؤمنوا بما سبق في علم الله يوم أخذ الميثاق أنهم يكذبون به، ولم يؤمنوا به، لاستحالة التغير فيما سبق به العلم الأزلي، ويروى هذا عن أبي بن كعب وأنس، واختاره ابن جرير، ويدل لهذا الوجه لآيات كثيرة كقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يونس : ٩٦ ] الآية، وقوله :﴿ وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ يونس : ١٠١ ] ونحو ذلك من الآيات.
ومنها : أن المعنى الآية أنهم أخذ عليهم الميثاق، فآمنوا كرهاً، فما كانوا ليؤمنوا بعد ذلك طوعاً. ويروى هذا عن السدي وهو راجع في المعنى إلى الأول.
ومنها : أن معنى الآية أنهم لو ردوا إلى الدنيا مرة لكفروا أيضاً، فما كان ليؤمنوا في الرد إلى الدنيا بما كذبوا به من قبل أي في المرة الأولى.
ويروى هذا عن مجاهد. ويدل لمعنى هذا القول قوله تعالى :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ] الآية. لكنه بعيد من ظاهر الآية.
ومنها : أن معنى الآية. فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم، وهذا القول حكاه ابن عطية، واستحسنه ابن كثير، وهو من أقرب الأقوال لظاهر الآية الكريمة. ووجهه ظاهر، لأن شؤم المبادرة إلى تكذيب الرسل سبب للطبع على القلوب والإبعاد عن الهدى، والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة. كقوله تعالى :﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ [ النساء : ١٥٥ ]، وقوله :﴿ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ ﴾ [ الصف : ٥ ]، وقوله :﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [ البقرة : ١٠ ]، وقوله :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [ المنافقون : ٣ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية قد تكون فيها أوجه من التفسير كلها يشهد له قرآن، وكلها حق. فنذكر جميعها والعلم عند الله تعالى.
بين تعالى هنا أن فرعون وملأه ظلموا بالآيات التي جاءهم بها موسى، وصرح في النمل بأنهم فعلوا ذلك جاحدين لها، مع أنهم مستيقنون أنها حق لأجل ظلمهم وعلوهم ؛ وذلك في قوله :﴿ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾ [ النمل : ١٣ – ١٤ ].
ذكر تعالى هنا أن موسى نزع يده فإذا هي بيضاء، ولم يبين أن ذلك البياض خال من البرص، ولكنه بين ذلك في سورة «النمل » و «القصص » في قوله فيهما :﴿ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ﴾ [ النمل : ١٢ ] أي من غير برص.
بين هنا أن موسى لما جاء بآية العصا واليد قال الملأ من قوم فرعون إنه ساحر، ولم يبين ماذا قال فرعون : ولكنه بين في «الشعراء » أن فرعون قال مثل ما قال الملأ من قومه، وذلك في قوله تعالى :﴿ قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [ الشعراء : ٣٤ ].
لم يبين هنا هذا السحر العظيم ما هو ؟ ولم يبين هل أوجس موسى في نفسه الخوف منه ؟ ولكنه بين كل ذلك في «طه » بقوله :﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاٌّعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ [ طه : ٦٦ -٦٩ ] ولم يبين هنا أنهم تواعدوا مع موسى موعداً لوقت مغالبته مع السحرة، وأوضح ذلك في سورة «طه » في قوله عنهم :﴿ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾ [ طه : ٥٨ – ٥٩ ] الآية.
لم يبين هنا الشيء الذي توعدهم بأنهم يصلبهم فيه، ولكنه بينه في موضع آخر. كقوله في «طه » ﴿ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ [ طه : ٧١ ].
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة : أن فرعون وقومه إن أصابتهم سيئة أي قحط وجدب ونحو ذلك، تطيروا بموسى وقومه فقالوا : ما جاءنا هذا الجدب والقحط إلا من شؤمكم، وذكر مثل هذا عن بعض الكفار مع نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ ﴾ [ النساء : ٧٨ ] الآية. وذكر نحوه أيضاً عن قوم صالح مع صالح في قوله :﴿ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ ﴾ [ النمل : ٤٧ ] الآية. وذكر نحو ذلك أيضاً عن القرية التي جاءها المرسلون في قوله :﴿ قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ ﴾ [ يس : ١٨ ] الآية. وبين تعالى أن شؤمهم من قبل كفرهم، ومعاصيهم. لا من قبل الرسل قال في «الأعراف » :﴿ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ ﴾ [ ١٣١ ] وقال في سورة «النمل » في قوم صالح :﴿ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ ﴾ [ النمل : ٤٧ ] وقال في «يس » :﴿ قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ ﴾ [ يس : ١٩ ] الآية.
لم يبين هنا من هؤلاء القوم، ولكنه صرح في سورة «الشعراء » : بأن المراد بهم بنو إسرائيل لقوله في القصة بعينها ﴿ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِى إسرائيل ﴾ [ الشعراء : ٥٩ ] الآية، وأشار إلى ذلك هنا بقوله بعده :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرائيلَ ﴾ [ الأعراف : ١٣٧ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسرائيلَ ﴾ الآية.
لم يبين هنا هذه الكلمة الحسنى التي تمت عليهم، ولكنه بينها في القصص بقوله :﴿ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِين َوَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ ﴾ [ القصص : ٥ – ٦ ].
استدل المعتزلة النافون لرؤية الله بالأبصار يوم القيامة بهذه الآية على مذهبهم الباطل، وقد جاءت آيات تدل على أن نفي الرؤية المذكور، إنما هو في الدنيا، وأما في الآخرة فإن المؤمنين يرونه جل وعلا بأبصارهم. كما صرح به تعالى في قوله :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [ القيامة : ٢٢ – ٢٣ ]، وقوله في الكفار :﴿ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ﴾ [ المطففين : ١٥ ] فإنه يفهم من مفهوم مخالفته أن المؤمنين ليسوا محجوبين عنه جل وعلا.
وقد ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى :﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [ يونس : ٢٦ ] الحسنى : الجنة، والزيادة : النظر إلى وجه الله الكريم، وذلك هو أحد القولين في قوله تعالى :﴿ وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾ [ ق : ٣٥ ]، وقد تواترت الأحاديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم : أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، وتحقيق المقام في المسألة : أن رؤية الله جل وعلا بالأبصار : جائزة عقلاً في الدنيا والآخرة، ومن أعظم الأدلة على جوازها عقلا في دار الدنيا : قول موسى ﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ﴾ لأن موسى لا يخفى عليه الجائز والمستحيل في حق الله تعالى، وأما شرعاً فهي جائزة وواقعة في الآخرة كما دلت عليه الآيات المذكورة، وتواترت به الأحاديث الصحاح، وأما في الدنيا فممنوعة شرعاً كما تدل عليه آية «الأعراف » هذه، وحديث «إنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا » كما أوضحناه في كتابنا [ دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ].
بين في هذه الآية الكريمة سخافة عقول عبدة العجل، ووبخهم على أنهم يعبدون ما لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلاً، وأوضح هذا في «طه » بقوله :﴿ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ﴾ [ طه : ٨٩ ] الآية، وقد قدمنا في سورة «البقرة » أن جميع آيات اتخاذهم العجل إلهاً حذف فيها المفعول الثاني في جميع القرآن كما في قوله هنا :﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً ﴾ الآية. أي اتخذوه إلاها، وقد قدمنا أن النكتة في حذفه دائماً التنبيه : على أنه لا ينبغي التلفظ بأن عجلاً مصطنعاً من جماد إله، وقد أشار تعالى إلى هذا المفعول المحذوف دائماً في «طه » بقوله :﴿ فَقَالُواْ هَذَآ إِلَهُكُمْ وَإِلَُه مُوسَى ﴾ [ طه : ٨٨ ].
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن عبدة العجل اعترفوا بذنبهم، وندموا على ما فعلوا، وصرح في سورة «البقرة » بتوبتهم ورضاهم بالقتل وتوبة الله جل وعلا عليهم بقوله :﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [ البقرة : ٥٤ ].
أوضح الله ما ذكره هنا بقوله في «طه » ﴿ قَالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ﴾ [ طه : ٨٦ -٨٧ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي ﴾.
أشار تعالى في هذه الآية الكريمة إلى ما اعتذر به نبي الله هارون لأخيه موسى عما وجهه إليه من اللوم، وأوضحه في «طه » بقوله :﴿ قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ [ طه : ٩٤ ]، وصرح الله تعالى ببراءته بقوله :﴿ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَانُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُواْ أَمْرِي قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ﴾ [ طه : ٩٠ -٩١ ].
هذه الآية الكريمة فيها التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم رسول إلى جميع الناس، وصرح بذلك في آيات كثيرة كقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ ﴾ [ سبأ : ٢٨ ]، وقوله :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ١ ] وقوله :﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ﴾ [ هود : ١٧ ]، وقيد في موضع آخر : عموم رسالته ببلوغ هذا القرآن، وهو قوله تعالى :﴿ وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنذركم بِهِ وَمَن بَلَغَ ﴾ [ الأنعام : ١٩ ]، وصرح بشمول رسالته لأهل الكتاب مع العرب بقوله :﴿ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالاٍّمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [ آل عمران : ٢٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِي الأُمِّي الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ ﴾ الآية.
لم يبين هنا كثرة كلماته ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله :﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ﴾ [ الكهف : ١٠٩ ]، وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ﴾ [ لقمان : ٢٧ ].
هذا الميثاق المذكور يبينه قوله تعالى :﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٨٧ ].
أحدهما : أن معنى أخذه ذرية بني آدم من ظهورهم : هو إيجاد قرن منهم بعد قرن، وإنشاء قوم بعد آخرين كما قال تعالى :﴿ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ ءَاخَرِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٣٣ ]، وقال :﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الأرض ﴾ [ فاطر : ٣٩ ] وقال :﴿ وَيَجْعَلُكُمْ خلَفَآءَ ﴾ [ النمل : ٦٢ ]، ونحو ذلك من الآيات : وعلى هذا القول فمعنى قوله :﴿ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ﴾ أن إشهادهم على أنفسهم إنما هو بما نصب لهم من الأدلة القاطعة بأنه ربهم المستحق منهم لأن يعبدوه، وحده، وعليه فمعنى قالوا بلى، أي قالوا ذلك : بلسان حالهم لظهور الأدلة عليه ونظيره من إطلاق الشهادة على شهادة لسان الحال قوله تعالى :﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ﴾ [ التوبة : ١٧ ] أي بلسان حالهم على القول بذلك، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ﴾ [ العاديات : ٦ – ٧ ] أي بلسان حاله أيضاً على القول بأن ذلك هو المراد في الآية أيضاً.
واحتج من ذهب إلى هذا القول بأن الله جل وعلا جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك به جل وعلا في قوله :﴿ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ﴾، قالوا : فلو كان الإشهاد المذكور الإشهاد عليهم يوم الميثاق، وهم في صورة الذر لما كان حجة عليهم، لأنه لا يذكره منهم أحد عند وجوده في الدنيا، وما لا علم للإنسان به لا يكون حجة عليه. فإن قيل إخبار الرسل بالميثاق المذكور كاف في ثبوته قلنا :
قال ابن كثير في تفسيره :«الجواب عن ذلك أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم، فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من التوحيد، ولهذا قال :﴿ أَن تَقُولُواْ ﴾ الآية اه منه بلفظه.
فإذا علمت هذا الوجه الذي ذكرنا في تفسير الآية، وما استدل عليه قائله به من القرآن. فاعلم أن الوجه الآخر في معنى الآية : أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذر، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال :﴿ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى ﴾ ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكرة بذلك الميثاق الذي نسيه الكل ولم يولد أحد منهم وهو ذاكر له وإخبار الرسل به يحصل به اليقين بوجوده.
قال مقيده عفا الله عنه هذا الوجه الأخير يدل له الكتاب والسنة.
أما وجه دلالة القرآن عليه، فهو أن مقتضى القول الأول أن ما أقام الله لهم من البراهين القطعية كخلق السماوات والأرض، وما فيهما من غرائب صنع الله ؛ الدالة على أنه الرب المعبود وحده، وما ركز فيهم من الفطرة التي فطرهم عليها تقوم عليهم به الحجة، ولو لم يأتيهم نذير والآيات القرآنية مصرحة بكثرة، بأن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يقيم عليه الحجة بإنذار الرسل، وهو دليل على عدم الاكتفاء بما نصب من الأدلة، وما ركز من الفطرة، فمن ذلك قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ] فإنه قال فيها : حتى نبعث رسولاً، ولم يقل حتى نخلق عقولاً، وننصب أدلة، ونركز فطرة.
ومن ذلك قوله تعالى :﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [ النساء : ١٦٥ ] الآية، فصرح بأن الذي تقوم به الحجة على الناس، وينقطع به عذرهم : هو إنذار الرسل لا نصب الأدلة والخلق على الفطرة.
وهذه الحجة التي بعث الرسل لقطعها بينها في «طه » بقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ﴾ [ طه : ١٣٤ ]، وأشار لها في «القصص » بقوله :﴿ وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ ءايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ القصص : ٣٧ ]، ومن ذلك أنه تعالى صرح بأن جميع أهل النار قطع عذرهم في الدنيا بإنذار الرسل، ولم يكتف في ذلك بنصب الأدلة كقوله تعالى :﴿ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ﴾ [ الملك : ٨ -٩ ]، وقوله تعالى :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [ الزمر : ٧١ ]، ومعلوم أن لفظة كلما في قوله :﴿ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ ﴾ صيغة عموم، وأن لفظة الذين في قوله :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ صيغة عموم أيضاً، لأن الموصول يعم كلما تشمله صلته.
وأما السنة : فإنه قد دلت أحاديث كثيرة على أن الله أخرج ذرية آدم في صورة الذر فأخذ عليهم الميثاق كما ذكر هنا، وبعضها صحيح قال القرطبي في تفسير هذه الآية : قال أبو عمر يعني ابن عبد البر لكن معنى هذا الحديث قد صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود، وعلي بن أبي طالب، وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين وغيرهم اه. محل الحاجة منه بلفظه، وهذا الخلاف الذي ذكرنا هل يكتفي في الإلزام بالتوحيد بنصب الأدلة، أو لا بد من بعث الرسل لينذروا ؟ هو مبنى الخلاف المشهور عند أهل الأصول في أهل الفترة. هل يدخلون النار بكفرهم ؟ وحكى القرافي عليه الإجماع وجزم به النووي في [ شرح مسلم ]، أو يعذرون بالفترة وهو ظاهر الآيات التي ذكرناها، وإلى هذا الخلاف أشار في [ مراقي السعود ] بقوله :
ذو فترة بالفرع لا يراع | وفي الأصول بينهم نزاع |
ضرب الله تعالى المثل لهذا الخسيس الذي آتاه آياته فانسلخ منها بالكلب، ولم تكن حقارة الكلب مانعة من ضربه تعالى المثل به، وكذلك ضرب المثل بالذباب في قوله :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ [ الحج : ٧٣ ]، وكذلك ضرب المثل ببيت العنكبوت في قوله :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٤١ ]، وكذلك ضرب المثل بالحمار في قوله :﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [ الجمعة : ٥ ]، وهذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يستحي من بيان العلوم النفيسة عن طريق ضرب الأمثال بالأشياء الحقيرة، وقد صرح بهذا المدلول في قوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾ [ البقرة : ٢٦ ].
هدد تعالى في هذه الآية الذين يلحدون في أسمائه بتهديدين :
الأول : صيغة الأمر في قوله :﴿ وَذَرُواْ ﴾ فإنها للتهديد.
والثاني : في قوله :﴿ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، وهدد الذين يلحدون في آياته في سورة حم «السجدة » بأنهم لا يخفون عليه في قوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ ﴾ [ فصلت : ٤٠ ]، ثم اتبع ذلك بقوله :﴿ أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ ﴾ [ فصلت : ٤٠ ] الآية. وأصل الإلحاد في اللغة : الميل. ومنه اللحد في القبر، ومعنى إلحادهم في أسمائه هو ما كاشتقاقهم اسم اللات من اسم الله، واسم العزى من اسم العزيز. واسم مناة من المنان، ونحو ذلك والعرب تقول لحد وألحد بمعنى واحد، وعليهما القراءتان يلحدون بفتح الياء والحاء من الأول، وبضمها وكسر الحاء من الثاني.
هذه الآية الكريمة تدل على أن وقت قيام الساعة لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وقد جاءت آيات أخر تدل على ذلك أيضاً كقوله تعالى :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ ﴾ [ النازعات : ٤٢- ٤٤ ]، وقوله :﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ ﴾ [ الأنعام : ٥٩ ]، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنها الخمس المذكورة في قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] الآية.
وهذه الآية تدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، وقد أمره تعالى أن يقول إنه لا يعلم الغيب في قوله في «الأنعام » :﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ﴾ [ الأنعام : ٥٠ ] الآية، وقال :﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ﴾ [ الجن : ٢٦ – ٢٧ ] الآية، وقال :﴿ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاواتِ والأرض الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ [ النمل : ٦٥ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
والمراد بالخير في هذه الآية الكريمة قيل : المال، ويدل على ذلك كثرة ورود الخير بمعنى المال في القرآن كقوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [ العاديات : ٨ ]، وقوله :﴿ إِن تَرَكَ خَيْرًا ﴾ [ البقرة : ١٨٠ ]، وقوله :﴿ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ ﴾ [ البقرة : ٢١٥ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
وقيل : المراد بالخير فيها العمل الصالح كما قاله مجاهد وغيره، والصحيح الأول لأنه صلى الله عليه وسلم مستكثر جداً من الخير الذي هو العمل الصالح، لأن عمله صلى الله عليه وسلم كان ديمة، وفي رواية كان إذا عمل عملاً أثبته.
ذكر في هذه الآية الكريمة أنه خلق حواء من آدم ليسكن إليها، أي : ليألفها ويطمئن بها، وبين في موضع آخر أنه جعل أزواج ذريته كذلك، وهو قوله :﴿ وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴾ [ الروم : ٢١ ].
في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء، والقرآن يشهد لأحدهما.
الأول : أن حواء كانت لا يعيش لها ولد، فحملت. فجاءها الشيطان، فقال لها سمي هذا الولد عبد الحارث فإنه يعيش، والحارث من أسماء الشيطان، فسمته عبد الحارث فقال تعالى :﴿ فَلَمَّآ ءَاتَاهُمَا صَالِحاً ﴾ أي ولداً إنساناً ذكراً جعلا له شركاء بتسميته عبد الحارث، وقد جاء بنحو هذا حديث مرفوع وهو معلول كما أوضحه ابن كثير في تفسيره.
الوجه الثاني : أن معنى الآية أنه لما آتى آدم وحواء صالحاً كفر به بعد ذلك كثير من ذريتهما، وأسند فعل الذرية إلى آدم وحواء، لأنهما أصل لذريتهما كما قال :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ﴾ الأعراف : ١١ ] أي بتصويرنا لأبيكم آدم لأنه أصلهم بدليل قوله بعده :﴿ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ ﴾ [ الأعراف : ١١ ]، ويدل لهذا الوجه الأخير أنه تعالى قال بعده :﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٩٠ -١٩١ ]، وهذا نص قرآني صريح في أن المراد المشركون من بني آدم، لا آدم وحواء، واختار هذا الوجه غير واحد لدلالة القرآن عليه، وممن ذهب إليه الحسن البصري، واختاره ابن كثير والعلم عند الله تعالى.
بين في هذه الآية الكريمة ما ينبغي أن يعامل به الجهلة من شياطين الإنس والجن. فبين أن شيطان الإنس يعامل باللين، وأخذ العفو، والإعراض عن جهله وإساءته. وأن شيطان الجن لا منجى منه إلا بالاستعاذة بالله منه. قال في الأول :﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾.
أحدهما : في سورة ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ قال فيه في شيطان الإنس :﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٩٦ ] وقال في الآخر :﴿ وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ ﴾ [ المؤمنون : ٩٧ -٩٨ ].
والثاني : في حم «السجدة » قال فيه في شيطان الإنس :﴿ وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ ﴾ [ فصلت : ٣٥ ] وزاد هنا أن ذلك لا يعطاه كل الناس، بل لا يعطيه الله إلا لذي الحظ الكبير والبخت العظيم عنده فقال :﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظِّ عَظِيمٍ ﴾ [ فصلت : ٣٥ ] ثم قال في شيطان الجن :﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [ فصلت : ٣٦ ].
ذكر في هذه الآية الكريمة أن إخوان الإنس من الشياطين يمدون الإنس في الغي، ثم لا يقصرون، وبين ذلك أيضاً في مواضع أخر كقوله :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ﴾ [ مريم : ٨٣ ]، وقوله :﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنْسِ ﴾ [ الأنعام : ١٢٨ ]، وبين في موضع آخر أن بعض الإنس إخوان للشياطين وهو قوله :﴿ إِنَّ الْمُبَذرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾ [ الإسراء : ٢٧ ] الآية.