تفسير سورة الجن

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الجن من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

واشتمل القسم الثاني من السورة على توجيهات للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأمره بتبليغ دعوته إلى الناس وإخلاص العمل لله وكونه لا يشرك بربه أحدا، وإعلامه بأنه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وأنه لا ينجيه أحد من الله إن عصاه، وأنه لا يدري بوقت العذاب: قُلْ: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً.. [الآيات: ٢٠- ٢٥].
وختمت السورة ببيان استئثار الله واختصاصه بمعرفة علم الغيب، وإحاطته بجميع ما لدى الخلائق وإحصاء أعدادهم: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً.. [٢٦- ٢٨].
إيمان الجن بالقرآن وبالله تعالى
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (٤)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (٧)
الإعراب:
أَنَّهُ اسْتَمَعَ في موضع رفع، نائب فاعل ل أُوحِيَ وعطف عليها جميع ما ذكر بعدها وهو اثنا عشر موضعا من لفظ «أنّ» فهو عطف على الموحى به، ويصح الكسر في الجميع عطفا على المقول.
كَذِباً منصوب على المصدر لأنه نوع من القول، أو صفة لمحذوف أي قولا مكذوبا فيه.
157
أَنْ لَنْ تَقُولَ أَنْ مخففة من الثقيلة، أي أنه. وكذا أَنْ لَنْ يَبْعَثَ مخففة من الثقيلة. أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً سدّ مسدّ مفعولي ظَنُّوا.
البلاغة:
قُرْآناً عَجَباً وصف بالمصدر للمبالغة، أي عجيبا في إيجازه وإعجازه.
فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً بينهما طباق السلب لأن الإيمان ضدّ الشرك ونفي له.
الْإِنْسُ والْجِنُّ بينهما طباق.
أَحَداً، وَلَداً، رَصَداً، رَشَداً، قِدَداً، صَعَداً، عَدَداً إلخ توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، وهو ما يسمى في علم البديع بالسجع المرصع.
المفردات اللغوية:
قُلْ أيها النبي للناس. أُوحِيَ إِلَيَّ أخبرني الله تعالى بالوحي. أَنَّهُ الهاء ضمير الشأن. اسْتَمَعَ لقراءتي القرآن. نَفَرٌ النفر: ما بين الثلاثة إلى العشرة. الْجِنِّ أجسام عاقلة خفية مخلوقة من النار، والمقصود بهم هنا جن نصيبين، وذلك في صلاة الصبح ببطن نخل:
موضع بين مكة والطائف، وهم المذكورون في قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ الآية [الأحقاف ٤٦/ ٢٩]. فَقالُوا لقومهم لما رجعوا إليهم. قُرْآناً كتابا.
عَجَباً بديعا في حسن نظمه ودقة معناه، يتعجب منه من فصاحته وغزارة معانيه، مباين لكلام الناس. وعَجَباً: مصدر وصف به القرآن للمبالغة.
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ الإيمان والحق والصواب. فَآمَنَّا بِهِ بالقرآن. وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً لما نطق به من الأدلة القاطعة الدالة على التوحيد. وَأَنَّهُ الهاء ضمير الشأن. تَعالى جَدُّ رَبِّنا تنزه جلاله وعظمته عما نسب إليه من الصاحبة والولد، والمعنى: وصف بالتعالي عن الصاحبة والولد لعظمته. والجدّ: العظمة. وقرئ: جدّا بالتمييز، وجدّ بالكسر، أي صدق ربوبيته، كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقدوه من الشرك واتخاذ الصاحبة والولد.
صاحِبَةً زوجة. ويحتمل أن يكون المراد من الجدّ: الملك والسلطان أو الغنى، جاء في الحديث: «لا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» قال أبو عبيدة: لا ينفع ذا الغنى منك غناه. سَفِيهُنا السفيه: الجاهل ومن عنده خفة وطيش تنشأ عن حمق وجهل. شَطَطاً غلوّا في الكذب وتجاوزا حدّ العدل والحق بنسبة الصاحبة والولد إليه. كَذِباً بوصفه بذلك، حتى تبينا كذبهم فيما قالوا. يَعُوذُونَ يستعيذون أو يطلبون النجاة والعون. بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ كان الرجل
158
إذا أمسى بأرض قفر قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه. فَزادُوهُمْ زادوا الجنّ باستعاذتهم بهم. رَهَقاً طغيانا وكبرا وعتوا، وأصل الرهق: الإثم وارتكاب المعاصي. وَأَنَّهُمْ أي الإنس. ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أيها الجن. أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً بعد موته.
سبب النزول:
نزول الآية (١) :
قُلْ: أُوحِيَ... : أخرج البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجن ولا رآهم، ولكنه انطلق في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعوا إلى قومهم، فقالوا: ما هذا إلا لشيء قد حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا هذا الذي حدث، فانطلقوا فانصرف النفر الذين توجهوا نحو تهامة، إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بنخلة، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء.
فهنالك رجعوا إلى قومهم، فقالوا: يا قومنا، إنا سمعنا قرآنا عجبا، فأنزل الله على نبيّه: قُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ وإنما أوحي إليه قول الجن.
نزول الآية (٦) :
وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ..: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ابن حيان في العظمة عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل، جاء ذئب، فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي، فقال: عامر الوادي، جارك، فنادى مناد، لا نراه يا سرحان، فأتى الحمل
159
يشتد حتى دخل في الغنم، وأنزل الله على رسوله بمكة: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ الآية.
وأخرج ابن سعد عن أبي رجاء العطاردي من بني تميم قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد رعيت على أهلي، وكفيت مهنتهم، فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم خرجنا هرابا، فأتينا على فلاة من الأرض، وكنا إذا أمسينا بمثلها قال شيخنا:
إنا نعوذ بعزيز هذا الوادي من الجن الليلة، فقلنا ذاك، فقيل لنا: إنما سبيل هذا الرجل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، من أقرّ بها، أمن على دمه وماله، فرجعنا فدخلنا في الإسلام، قال أبو رجاء: إني لأرى هذه الآية نزلت فيّ وفي أصحابي: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ، فَزادُوهُمْ رَهَقاً.
التفسير والبيان:
حكى الله عن الجن ستة أشياء وهي:
١- قُلْ: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، فَقالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً أي قل يا محمد مخبرا أمتك وقومك بأن الجن استمعوا القرآن، فآمنوا به وصدّقوه وانقادوا له، فقد أوحى الله إلي على لسان جبريل عليه السلام أنه استمع عدد من الجن إلى قراءتي للقرآن، وهي سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فقالوا لقومهم لما رجعوا إليهم: سمعنا كلاما مقروءا مثيرا للعجب في فصاحته وبلاغته، ومواعظه وبركاته. والإيحاء: إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء، كالإلهام وإنزال الملك، ويكون ذلك في سرعة.
والجنّ عالم مستتر عنا، لا نعرف عنه إلا ما أخبر به الوحي، فهم مخلوقون من النار: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الحجر ١٥/ ٢٧]، ولم
160
يرسل الله إليهم رسلا منهم، بل الرسل جميعا من البشر، وهم كالبشر منهم المؤمن المثاب، ومنهم الكافر المعاقب.
ونظير الآية قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ.. الآية [الأحقاف ٤٦/ ٢٩].
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ، فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أي إن هذا القرآن يرشد إلى الحق والصواب ومعرفة الله تعالى، فصدقنا به أنه من عند الله، ولن نشرك مع الله إلها آخر من خلقه، ولا نتخذ إلها آخر، وهذا إعلان منهم للإيمان أمام قومهم حين رجعوا إليهم، كما جاء في تتمة آية الأحقاف السابقة: قالُوا: أَنْصِتُوا، فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ.
وفي الآية دلالة أن أعظم ما في دعوة محمد صلّى الله عليه وسلّم: توحيد الله تعالى، وخلع الشرك وأهله. وقد آمنت الجن أن القرآن كلام الله، بسماعه مرة واحدة، ولم ينتفع كفار قريش، لا سيما رؤساؤهم، بسماعه مرات، مع كون الرسول صلّى الله عليه وسلّم منهم يتلوه عليهم بلسانهم.
٢- وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً وأنه ارتفع عظمة ربّنا وجلاله، أو فعله وأمره وقدرته، وأنه تعاظم عن اتّخاذ الصاحبة والولد، كما يقول الكفار الذين ينسبون إلى الله الصاحبة والولد. والمعنى أنهم كما نفوا عن أنفسهم الإشراك بالله، نزهوا الرّب جلّ جلاله حين أسلموا وآمنوا بالقرآن عن اتّخاذ الصاحبة والولد. وبذلك أثبتوا وحدانية الله وامتناع وجود شريك له ثم أثبتوا له القوة والعظمة، ونزهوه عن الحاجة والضعف باتخاذ الصاحبة والولد، شأن العباد الذين يتعاونون على أمور الحياة بالزوجة للسّكن والألفة، وبالولد للمؤازرة والتكاثر والأنس.
٣- وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً أي وإن مشركي الجن
161
وجهالهم كانوا قبل إسلامهم يقولون قولا متجاوزا الحدّ، بعيدا عن الصواب، غاليا في الكفر، فهم يكذبون على الله بدعوى الصاحبة والولد وغير ذلك.
والشطط: مجاوزة الحد في الظلم والكفر وغيره من الباطل والزور.
٤- وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي وأنا حسبنا أن الإنس والجن كانوا لا يكذبون على الله، حينما قالوا بأن له شريكا وصاحبة وولدا، فصدقناهم في ذلك، فلما سمعنا القرآن علمنا بطلان قولهم وبطلان ما كنا نظنه بهم من الصدق، وعرفنا أنهم كانوا كاذبين.
وهذا- كما ذكر الرازي- إقرار منهم بأنهم إنما وقعوا في تلك الجهالات بسبب التقليد، وأنهم إنما تخلصوا منها بالاستدلال والاحتجاج.
٥- وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً أي كنا نرى أن لهم فضلا علينا، فكان بعض الإنس يستعيذ في القفار ببعض الجن، فزادوا رجال الجن طغيانا وسفها وغيّا وضلالا وإثما. وذلك أنه كان العرب إذا نزل الرجل بواد قال: أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح. وقد أدى هذا إلى اجتراء الجن على الإنس وظلمهم.
ونظير الآية: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً، يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ، وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ، وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا.. [الأنعام ٦/ ١٢٨].
٦- وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً أي وأن الإنس ظنوا كما ظننتم أيها الجن أنه لا بعث ولا جزاء، أو أنه لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولا يدعو إلى التوحيد والإيمان بالله ورسله واليوم الآخر.
162
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات الكريمات إلى ما يأتي:
١- الإخبار عن قصص الجن له فوائد كثيرة أهمها بيان أنهم مكلفون بالتكاليف الشرعية كالإنس، وأن المؤمن منهم يدعو الكافر إلى الإيمان، وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مبعوث إلى العالمين: الإنس والجن وإلى الملائكة تشريفا، وأن يكون إيمانهم بالقرآن باعثا كفار قريش وغيرهم إلى الإيمان به، وأنهم يسمعون كلامنا ويفهمون لغاتنا.
لكن ظاهر القرآن يدل على أن النّبي صلّى الله عليه وسلّم ما رآهم لقوله تعالى:
اسْتَمَعَ. وفي صحيح البخاري ومسلم والترمذي عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الجنّ وما رآهم، انطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ.. إلخ ما ذكر في سبب النزول المتقدم. ففي هذا الحديث دليل على أنه صلّى الله عليه وسلّم لم ير الجن، ولكنهم حضروه، وسمعوا قراءته. وفيه دليل على أن الجنّ كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر، بسبب الشياطين لما رموا بالشهب، وكان المرميون بالشهب من الجنّ أيضا،
لقوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث: «وأرسلت عليهم الشّهب».
ومذهب ابن مسعود أنه أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم، ويدعوهم إلى الإسلام، وأن النّبي صلّى الله عليه وسلّم رأى الجن قال القرطبي: وهو أثبت روى عامر الشعبي قال: سألت علقمة: هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجنّ؟ فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود، فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجنّ؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشّعاب، فقلت استطير «١» أو اغتيل، قال: فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، فلما أصبح إذا هو يجيء
(١) استطير فلان: ذعر.
163
من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله! فقدناك وطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم،
فقال: «أتاني داعي الجن، فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن»
فانطلق بنا، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد وكانوا من جنّ الجزيرة
فقال: «لكم كلّ عظم ذكر اسم الله عليه، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكلّ بعرة علف لدوابكم» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فلا تستنجوا بهما، فإنها طعام إخوانكم الجن».
قال ابن العربي: وابن مسعود أعرف من ابن عباس لأنه شاهده، وابن عباس سمعه، وليس الخبر كالمعاينة «١».
وأصل الجن كما قال الحسن البصري: أن الجن ولد إبليس، والإنس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب. فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا، فهو ولي الله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان.
٢- حكى الله عن الجن أشياء:
أولا- أنهم لما سمعوا القرآن العجيب في فصاحة كلامه وبليغ مواعظه الهادي إلى مراشد الأمور، قالوا: اهتدينا به وصدّقنا أنه من عند الله، ولن نشرك بربّنا أحدا، أي ولن نعود إلى ما كنّا عليه من الإشراك به.
ثانيا- أنهم كما نفوا عن أنفسهم الشرك، نزّهوا ربهم عن الصاحبة والولد، لذا قالوا: عظم الله سبحانه عن أن يكون له صاحبة أو ولد.
ثالثا- استنكروا ما كان يقول إبليس والجن قبل إسلامهم من الكذب والغلو في الكفر ومجاوزة الحدّ في الظلم.
(١) أحكام القرآن: ٤/ ١٨٥٢
164
رابعا- حسبوا أن لن يكذب الإنس والجن على الله، فلذلك صدقناهم فيما سلف في أن لله صاحبة وولدا، فلما سمعنا القرآن تبيّنا به الحقّ.
خامسا- كان الرجل في الجاهلية إذا سافر فأمسى في قفر من الأرض قال:
أعوذ بسيد هذا الوادي، أو بعزيز هذا المكان من شرّ سفهاء قومه، فيبيت في جوار منهم حتى يصبح، فزاد الإنس الجنّ طغيانا وعتوا بهذا التعوذ، حتى قالت الجن: سدنا الإنس والجن. وقيل: ازداد الإنس بهذا فرقا وخوفا من الجن، وقيل: زاد الجنّ الإنس رهقا أي خطيئة وإثما.
ويقال بدلا من هذه الاستعاذة: ما
جاء في حديث أخرجه أبو نصر السجزي في الإبانة عن ابن عباس، وقال: غريب جدا: أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا أصاب أحد منكم وحشة أو نزل بأرض مجنّة «١»، فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها برّ ولا فاجر من شرّ ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، ومن فتن النهار، ومن طوارق الليل إلا طارقا يطرق بخير.
سادسا- ظن الإنس كما ظن الجن أن لن يبعث الله الخلق، أو ظنت الجن كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولا إلى خلقه يقيم به الحجة، وكل هذا توكيد للحجة على قريش، فإذا آمن هؤلاء الجن بمحمد، فأنتم أحق بذلك. وعلى هذا يكون الكلام كلام الجن، وهو الظاهر.
ويحتمل أن يكون الكلام من قول الله تعالى للإنس، والمعنى: وأن الجن ظنوا كما ظننتم يا كفار قريش.
وعلى كلا التقديرين: دلت الآية على أن الجن كما كان فيهم مشرك ويهودي ونصراني، فيهم من ينكر البعث.
(١) أرض مجنة: أي ذات مجنة.
165
حكاية أشياء أخرى عن الجن
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ٨ الى ١٧]
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢)
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧)
الإعراب:
فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً فَوَجَدْناها: فعل وفاعل ومفعول، وإما أن تجعل «وجد» متعدية إلى مفعولين، بمعنى علمناها، وإلها: المفعول الأول، وجملة مُلِئَتْ المفعول الثاني، وإما أن تجعل متعدية إلى مفعول واحد، بمعنى أصبناها، وتجعل مُلِئَتْ في موضع الحال، بتقدير «قد»، وحَرَساً: تمييز منصوب.
أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ أَنْ: مخففة من الثقيلة: أنه.
وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً هَرَباً منصوب على المصدر في موضع الحال، تقديره: ولن نعجزه هاربين.
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ بالعطف على هاء آمَنَّا بِهِ على تقدير حذف حرف الجر، لكثرة حذفه مع «أنّ» علما بأن العطف على الضمير المجرور لا يجوز. وبكسر إنا بالعطف على قوله:
166
فَقالُوا وما بعده في تقدير الابتداء والاستئناف، قال ابن بحر: كل ما في هذه السورة من «إن» المكسورة المثقلة، فهي حكاية لقول الجن الذين استمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من «أن» المفتوحة، فهي وحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا أَنْ: مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف، أي وأنهم.
يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً عَذاباً منصوب بتقدير حذف حرف الجر، تقديره: يسلكه في عذاب، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به، فنصبه. وصَعَداً: مصدر وصف به العذاب.
البلاغة:
نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ بينهما جناس الاشتقاق.
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً تأدب مع الله بنسبة الخير إلى الله، دون الشر، وبين لفظ «الشر» و «الرشد» طباق في المعنى.
كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً استعارة، استعار الطرق للمذاهب المختلفة.
الْمُسْلِمُونَ والْقاسِطُونَ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
لَمَسْنَا السَّماءَ طلبنا بلوغها واستماع أخبارها. حَرَساً حرّاسا من الملائكة، وهو اسم.
جمع كالخدم، مفرده حارس. شَدِيداً قويا. وَشُهُباً نجوما محرقة، جمع شهاب: وهو الشعلة من نار ساطعة. نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أي نحاول الاستماع والترصد. رَصَداً أي أرصد وهيئ له ليرمي به. أَشَرٌّ أُرِيدَ بعد استراق السمع. بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بحراسة السماء.
رَشَداً خيرا وصلاحا.
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ المؤمنون الأبرار بعد استماع القرآن. وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي ومنا قوم دون ذلك، أي غير صالحين، فحذف الموصوف. كُنَّا طَرائِقَ ذوي طرائق، أي مذاهب.
قِدَداً متفرقة مختلفة، مسلمين وكافرين، جمع قدة، من قدّ: إذا قطع. ظَنَنَّا علمنا.
أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ، فِي الْأَرْضِ، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً لا نفوته ولا نفلت منه كائنين في الأرض، أينما كنا فيها، أو هاربين منها في السماء، إن طلبنا. الْهُدى القرآن. فَلا يَخافُ أي فهو لا يخاف. بَخْساً نقصا من حسناته. وَلا رَهَقاً ظلما بالزيادة في سيئاته.
الْقاسِطُونَ الجائرون عن طريق الحق وهو الإيمان والطاعة. تَحَرَّوْا رَشَداً قصدوا وتوخوا طريق الحق والهداية ليبلغهم إلى دار الثواب. طَباً
وقودا للنار. عَلَى الطَّرِيقَةِ
167
هي طريق الإسلام. ماءً غَدَقاً كثيرا. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنختبرهم فيه كيف يشكرونه.
ذِكْرِ رَبِّهِ تذكيره وهو الوحي أو القرآن، أو مواعظه. يَسْلُكْهُ ندخله. عَذاباً صَعَداً شاقا يعلو المعذّب ويغلبه.
سبب النزول: نزول الآية (١٦) :
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا: أخرج الخرائطي عن مقاتل في قوله: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً قال: نزلت في كفار قريش حين منعوا المطر سبع سنين.
التفسير والبيان:
يتابع الحق عزّ وجلّ حكاية أشياء أخرى وهي سبعة أنواع بالإضافة إلى الأنواع الستة المتقدمة، فيصير المجموع ثلاثة عشر نوعا، والأنواع السبعة هي:
٧- وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ، فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً أي لما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنزل عليه القرآن، طلبنا خبر السماء كما جرت به عادتنا فوجدناها- ملئت حرّاسا أقوياء من الملائكة يحرسونها عن استراق السمع، ووجدنا أيضا نيرانا من الكواكب تحرق وتمنع من أراد استراق السمع كما كنا نفعل، كما قال تعالى: وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك ٦٧/ ٥]. فالشهب:
انقضاض الكواكب المحرقة للجن عن استراق السمع.
أخرج أحمد والترمذي والنسائي عن ابن عباس قال: كان للشياطين مقاعد في السماء يسمعون فيها الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زاد فيكون باطلا، فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم: ما هذا إلا من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده، فوجدوا
168
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائما يصلي بين جبلين بمكة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا هو الحدث الذي حدث في الأرض.
والخلاصة: أن الشياطين منعت بعد بعثة النّبي صلّى الله عليه وسلّم من استراق السمع لئلا يسترقوا شيئا من القرآن، فيلقوه على ألسنة الكهنة، فيلتبس الأمر ويختلط، ولا يدرى من الصادق.
٨- وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أي أننا كنا نقعد في السماء مقاعد لاستراق السمع، وسماع أخبار السماء من الملائكة لإلقائها إلى الكهنة، فحرسها الله سبحانه عند بعثة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشهب المحرقة، فمن يروم أن يسترق السمع اليوم، يجد له شهابا مرصدا له، لا يتخطاه ولا يتعداه، بل يمحقه ويهلكه.
٩- وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً أي وأننا لا نعلم بسبب هذه الحراسة للسماء، أشرّ أو عذاب أراده الله أن ينزله على أهل الأرض، أم أراد بهم ربهم خيرا وصلاحا، بإرسال نبي مصلح. وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل والخير أضافوه إلى الله عزّ وجلّ.
وقد ورد في الصحيح: «والشر ليس إليك».
١٠- وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً أي أخبر تعالى عن الجن أنهم قالوا مخبرين عن أنفسهم، لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم: كنا قبل استماع القرآن: منّا المؤمنون الأبرار الموصوفون بالصلاح، ومنّا قوم دون ذلك، أي غير صالحين أو كافرين، كنا جماعات متفرقة، وأصنافا مختلفة، وأهواء متباينة. والمراد أنهم كانوا أقساما، فمنهم المؤمن ومنهم الفاسق ومنهم الكافر، كما هي حال الإنس. قال سعيد بن المسيب: كانوا مسلمين ويهودا ونصارى ومجوسا.
169
١١- وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ، وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً أي وأننا علمنا أن قدرة الله حاكمة علينا، وأنا لا نفلت من قدرة الله ولا نفوته إن طلبنا وأراد بنا أمرا، سواء كنا كائنين في الأرض أو هاربين منه إلى السماء، فإنه علينا قادر لا يعجزه أحد منا.
١٢- وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ، فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ، فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً أي وأننا لما سمعنا القرآن، صدقنا أنه من عند الله، ولم نكذب به، كما كذبت به كفرة الإنس، فمن يصدق بربه وبما أنزله على رسله، فلا يخاف نقصانا من حسناته، ولا عدوانا وظلما وطغيانا بالزيادة في سيئاته.
١٣- وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً أي وأن بعضنا مؤمنون مطيعون لربّهم يعملون الصالحات، وبعضنا جائرون ظالمون حادوا عن طريق الحق والخير ومنهج الإيمان الواجب، فمن آمن بالله وأسلم وجهه لله بطاعة شريعته، فأولئك قصدوا وتوخوا الطريق الموصل للسعادة، وطلبوا لأنفسهم النجاة من العذاب، وهذا ثواب المؤمنين.
ويلاحظ أن القاسط: الجائر عن الحق الناكب عنه لأنه عادل عن الحق، بخلاف المقسط وهو العادل لأنه عادل إلى الحق، والقاسطون: الكافرون الجائرون عن طريق الحق، من قسط أي جار، والمقسط: القائم بالعدل، من أقسط، أي عدل.
ثم ذم الجن الكافرين بقولهم:
أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
أي وأما الجائرون الحائدون عن منهج الإسلام فكانوا وقودا للنار توقد أو تسعر بهم، كما توقد بكفرة الإنس.
وبعد بيان النوع الأول من الموحى به إلى رسوله، ذكر تعالى النوع الثاني الموحى به إليه، فقال:
170
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ أي وأوحي إلي أنه لو استقام الجن والإنس على طريقة الإسلام لأسقيناهم ماء كثيرا، ولآتيناهم خيرا كثيرا واسعا، لنختبرهم أي لنعاملهم معاملة المختبر، فنعلم كيف شكرهم على تلك النعم، فإن أطاعوا ربّهم أثبناهم، وإن عصوه عاقبناهم في الآخرة، وسلبناهم النعمة، أو أمهلناهم ثم أهلكناهم، كما أبانت الآية التالية:
وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً أي ومن يعرض عن القرآن أو عن الموعظة، فلا يأتمر بالأوامر ولا ينتهي عن النواهي، يدخله عذابا شاقا صعبا لا راحة فيه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- تغير الحال بعد البعثة النبوية عن الجن، فإنهم كعادتهم طلبوا بلوغ السماء واستماع كلام أهلها، فوجدوها ملئت حفظة، أي ملائكة، ورموا بالشهب: وهي الكواكب المحرقة لهم، منعا من استراق السمع.
قال الرازي: والأقرب إلى الصواب أن هذه الشهب كانت موجودة قبل المبعث، إلا أنها زيدت بعد المبعث، وجعلت أكمل وأقوى، وهذا هو الذي يدل عليه لفظ القرآن لأنه قال: فَوَجَدْناها مُلِئَتْ وهذا يدل على أن الحادث هو الملء والكثرة، وكذلك قوله: نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ أي كنا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها «١».
٢- لم يفهم الجن القصد من تشديد الحراسة على أخبار السماء، فهل أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذابا، أو يرسل إليهم رسولا؟ وهل المقصود من المنع من الاستراق هو إرادة الشر بأهل الأرض، أم الصلاح والخير؟!
(١) تفسير الرازي: ٣٠/ ١٥٨
171
٣- أخبر الجن عن حقيقتهم قبل البعثة النبوية، فقال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم: إنا كنا قبل استماع القرآن من الصالحون ومنا الكافرون، فكنا فرقا شتى، وأديانا مختلفة، وأهواء متباينة. والمعنى: لم يكن كل الجن كفارا، بل كانوا مختلفين: منهم كفار، ومنهم مؤمنون صلحاء، ومنهم مؤمنون غير صلحاء. قال سعيد بن المسيب: كنا مسلمين ويهودا ونصارى ومجوسا.
٤- علم الجن وأيقنوا أنهم لن يعجزوا الله ولن يفوتوه أو يفلتوا منه، سواء أكانوا في الأرض أينما وجدوا فيها، أم صاروا هاربين منها إلى السماء.
٥- بادر الجن عند سماع القرآن إلى الإيمان بالله تعالى، والتصديق بمحمد صلّى الله عليه وسلّم على رسالته. وهذا دليل على أنه صلّى الله عليه وسلّم كان مبعوثا إلى الإنس والجن.
قال الحسن البصري: بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى الإنس والجنّ، ولم يبعث الله تعالى قطّ رسولا من الجنّ، ولا من أهل البادية، ولا من النساء، وذلك قوله تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف ١٢/ ١٠٩].
وفي الصحيح: «بعثت إلى الأحمر والأسود» «١»
أي الإنس والجن.
وجزاء الإيمان: أنه لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزاد في سيئاته.
٦- كذلك كان الجن بعد استماع القرآن مختلفين، فمنهم من أسلم، ومنهم من كفر، فمن أسلم، فقد طلبوا لأنفسهم النجاة، وقصدوا طريق الحق وتوخّوه، ومن جار عن طريق الحق والإيمان، فإنهم في علم الله تعالى وقود جهنم.
(١) تفسير القرطبي: ١٩/ ١٦
172
أنواع أخرى من الموحى به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان أصول رسالته
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ١٨ الى ٢٤]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢)
إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤)
الإعراب:
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ أَنَّ: إما في موضع رفع عطفا على قوله تعالى: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ أو في موضع جرّ، بتقدير حذف حرف الجر، وإعماله بعد الحذف، أي فلا تدعوا مع الله أحدا لأن المساجد لله، أو في موضع نصب، بتقدير حذف حرف الجر، فلما حذف اتصل الفعل به، فنصبه.
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَّ: إما بالفتح عطفا على «أن» المفتوحة ب أُوحِيَ أو بالكسر عطفا على «إن» المكسورة بعد «قالوا» والضمير للشأن.
إِلَّا بَلاغاً إما منصوب على المصدر، ويكون الاستثناء متصلا، وتقديره: إني لن يجيرني من الله أحد، ولن أجد من دونه ملتحدا، إن لم أبلغ رسالات ربي بلاغا. وإما منصوب لأنه استثناء منقطع. أي لن يجيرني أحد، لكن إن بلغت، رحمني بذلك. خالِدِينَ حال من ضمير مِنَ في قوله اللَّهِ رعاية للمعنى.
فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً مِنَ: إما استفهامية في موضع رفع مبتدأ، وأَضْعَفُ: خبره، وناصِراً: تمييز منصوب، وإما بمعنى الذي، في موضع نصب على أنها مفعول فَسَيَعْلَمُونَ وأَضْعَفُ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: من هو أضعف.
173
البلاغة:
ضَرًّا ورَشَداً بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ مواضع الصلاة مختصة بالله. فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً فلا تعبدوا فيها غيره، بأن تشركوا كما يفعل اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم. لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ هو محمد صلّى الله عليه وسلّم باتفاق الجميع. يَدْعُوهُ يعبده ببطن نخلة. كادُوا كاد الجن المستمعون لقراءته. لِبَداً جماعات، جمع لبدة: والمراد أنهم صاروا متزاحمين حرصا على سماع القرآن.
يقال: تلبد القوم: إذا تجمعوا، ومنه قولهم: لبدة الأسد للشعر المتراكم حول عنقه.
قُلْ: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً أعبد ربي إلها واحدا من غير إشراك، فلا داعي للإنكار أو التعجب. ضَرًّا وَلا رَشَداً غيا وضررا، ولا نفعا وخيرا. لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ لن ينفعني ويدفع عني من عذابه شيء إن عصيته. مِنْ دُونِهِ من غيره. مُلْتَحَداً ملتجأ أو ملجأ ألتجئ إليه. إِلَّا بَلاغاً تبليغا لرسالاته، وهو استثناء من مفعول أَمْلِكُ أي لا أملك لكم إلا البلاغ إليكم أي التبليغ والرسالات، وما بين المستثنى منه والاستثناء اعتراض مؤكد لنفي الاستطاعة، أو مستثنى من قوله مُلْتَحَداً أي إن لم أبلغ بلاغا لا أجد ملجأ مِنَ اللَّهِ أي عن الله. وَرِسالاتِهِ معطوف على بَلاغاً.
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في توحيد الله، فلم يؤمن لأن الكلام فيه. فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي يدخلونها مقدار خلودهم فيها، وجمع كلمة خالِدِينَ رعاية لمعنى الجمع في مَنْ يَعْصِ. وقوله اللَّهِ مراعاة للفظ حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ أي ما يوعدون به من العقاب في الدنيا كوقعة بدر أو في الآخرة بعذاب النار وحَتَّى ابتدائية فيها معنى الغاية لشيء مقدر قبلها، أي لا يزالون على كفرهم إلى أن يروا، أو أنها متعلقة بقوله: يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أي يتظاهرون عليه بالعداوة ويستضعفون أنصاره. فَسَيَعْلَمُونَ عند حلول العذاب بهم يوم بدر أو يوم القيامة مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً من أضعف أعوانا وأقل أعدادا، هو أم هم.
سبب النزول:
نزول الآية (١٨) :
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قالت
174
الجن: يا رسول الله، ائذن لنا، فنشهد معك الصلوات في مسجدك، فأنزل الله: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ، فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً. وروي ذلك أيضا عن الأعمش.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: قالت الجن للنبي صلّى الله عليه وسلّم: كيف لنا أن نأتي المسجد، ونحن ناؤون عنك أي بعيدون عنك أو كيف نشهد الصلاة، ونحن ناؤون عنك، فنزلت: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ الآية.
نزول الآية (٢٠) :
قُلْ: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي: سبب نزولها كما ذكر الشوكاني: أن كفار قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا فنحن نجيرك.
نزول الآية (٢٢) :
قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي..: أخرج ابن جرير عن حضرمي أنه ذكر أن جنيا من الجن من أشرافهم ذا تبع قال: إنما يريد محمد أن يجيره الله، وأنا أجيره، فأنزل الله: قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ الآية.
التفسير والبيان:
أخبر الله تعالى عن النوع الثالث في هذه السورة من جملة الموحى به، فقال:
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ، فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً أي وأوحي إلي أن المساجد مختصة بالله، فلا تعبدوا فيها غير الله أحدا، ولا تشركوا به فيها شيئا.
قال قتادة: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم. أشركوا بالله، فأمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يوحدوه وحده. وقوله لِلَّهِ إضافة تشريف
175
وتكريم فإن نسبت المساجد لغير الله، فتنسب إليه تعريفا، فيقال: مسجد فلان.
وهذا دليل على أن الله تعالى أمر عباده أن يوحدوه في أماكن عبادته، ولا يدعى معه أحد، ولا يشرك به.
وقال الحسن البصري: أراد بالمساجد البقاع كلها،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الشيخان والنسائي عن جابر: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا
كأنه تعالى قال: الأرض كلها مخلوقة لله تعالى، فلا تسجدوا عليها لغير خالقها. وقال أيضا: من السنة إذا دخل الرجل المسجد أن يقول: لا إله إلا الله لأن قوله:
فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً في ضمنه أمر بذكر الله وبدعائه.
ثم ذكر الله تعالى النوع الرابع من جملة الموحى فقال:
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً أي وأنه لما قام النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم يدعو الله ويعبده، كاد الجن يكونون عليه جماعات متراكمين من الازدحام عليه، لسماع القرآن منه، وتعجبا مما رأوا من عبادته لأنهم رأوا ما لم يروا مثله، وسمعوا ما لم يسمعوا مثله، فالضمير في كادُوا للجن، وقيل:
الضمير للمشركين.
وقال جماعة «١»
: لما قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا إله إلا الله، ويدعو الناس إلى ربهم، كادت الإنس من العرب الكفار والجن يتزاحمون عليه متراكمين جماعات ليطفئوا نور الله، ويبطلوا هذا الأمر، فأبى الله إلا أن ينصره ويتم نوره ويظهره على من ناوأه، فالضمير في كادُوا للإنس والجن. وهذا اختيار ابن جرير وقول قتادة. والأظهر كما ذكر ابن كثير، لقوله تعالى بعده:
(١) هم ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وابن زيد والحسن البصري وقتادة.
176
قُلْ: إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً أي قل يا محمد لهؤلاء الذين تجمعوا عليك لإبطال دينك: إنما أدعو ربي، وأعبده وحده لا شريك له، وأستجير به، وأتوكل عليه، ولا أشرك في العبادة معه أحدا.
ثم فوض أمر هدايتهم إلى الله، فقال تعالى:
قُلْ: إِنِّي، لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي لا أقدر أن أدفع عنكم ضررا، ولا أجلب لكم نفعا في الدنيا أو الدين، إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي، ليس لي من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم، بل المرجع في ذلك كله إلى الله عزّ وجلّ. وفي هذا بيان وجوب التوكل على الله تعالى، والمضي في التبليغ دون مبالاة لتظاهرهم عليه، وتهديده لهم إن لم يؤمنوا به.
وأكد الله تعالى ذلك المعنى وهو عجز نبيه عن هدايتهم بإعلان عجزه عن شؤونه وقضاياه، فقال:
قُلْ: إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ، وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ أي قل يا محمد لهؤلاء القوم: لا يدفع عني أحد عذاب الله إن أنزله بي، ولا نصير ولا ملجأ لي من غير الله أحد، ولا يجيرني من الله ويخلصني إلا إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها علي، فأبلّغ عن الله، وأعمل برسالاته، أمرا ونهيا، فإن فعلت ذلك نجوت، وإلا هلكت، وهذا كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [٥/ ٦٧].
ويصح كون الاستثناء: إِلَّا بَلاغاً.. من قوله تعالى: قُلْ: إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً أي لا أملك لكم إلا البلاغ إليكم.
ثم ذكر جزاء العاصين الذين لا يمتثلون موجب التبليغ عن الله،
177
فقال تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي أنا أبلّغكم رسالة الله، فمن يعص بعد ذلك، فله جزاء خطير، وهو نار جهنم، ماكثين فيها أبدا على الدوام، لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها. وقوله:
أَبَداً دليل على أن العصيان هنا هو الشرك.
ثم هدد الله تعالى المشركين الذين كانوا أقصر نظرا من الجن في عدم الإيمان، بالهزيمة والمذلة، فقال: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً أي ما يزالون على كفرهم، حتى إذا رأى هؤلاء المشركون من الجن والإنس ما يوعدون يوم القيامة، فسيعلمون يومئذ من أضعف ناصرا، أي جندا ينتصر به، وأقل عددا، أهم، أم المؤمنون الموحدون لله تعالى؟ أي بل المشركون لا ناصر لهم إطلاقا، وهم أقل عددا من جنود الله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- إن المساجد أو مواضع الصلاة وذكر الله، ويدخل فيها الكنائس والبيع ومساجد المسلمين يجب أن تتميز بإخلاص العبادة فيها لله، وبالتوحيد، لذا وبخ الله المشركين بقوله: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام، والتوبيخ يشمل كل من أشرك مع الله غيره.
قال مجاهد: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله، فأمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين أن يخلصوا لله سبحانه الدعوة، إذا دخلوا المساجد كلها.
وروى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى، وقال: «وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً اللهم أنا عبدك وزائرك،
178
وعلى كل مزور حق، وأنت خير مزور، فأسألك برحمتك أن تفك رقبتي من النار». فإذا خرج من المسجد قدّم رجله اليسرى وقال: «اللهم صبّ علي الخير صبّا، ولا تنزع عني صالح ما أعطيتني أبدا، ولا تجعل معيشتي كدّا، واجعل لي في الأرض جدّا»
أي غنى.
٢- لما قام النبي صلّى الله عليه وسلّم داعيا إلى الله تعالى، وعابدا ناسكا، كاد الجن يركب بعضهم بعضا ازدحاما، حرصا على سماع القرآن. وكاد المشركون من العرب يركبون بعضهم بعضا تظاهرا على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى عداوته، واجتمعوا وتظاهروا على إطفاء النور الذي جاء به.
٣- قصر النبي صلّى الله عليه وسلّم أصول دعوته على ثلاثة أمور:
الأول- عبادة الله وحده دون إشراك أحد معه.
الثاني- تفويض أمر الهداية إلى الله تعالى، وإعلان كونه عاجزا عن دفع ضرر عن قومه، أو جلب خير لهم، فلا يملك الكفر والإيمان، ومرد ذلك كله إلى الله تعالى.
الثالث- كونه لا مجير له من عذاب الله إن استحقه، ولا ملجأ يلجأ إليه ولا نصير له إن عصى ربه.
٤- إن طريق الأمان والنجاة للنبي صلّى الله عليه وسلّم هو تبليغ وحي الله، وما أرسل به إلى الناس.
٥- إن جزاء العاصين لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم في التوحيد والعبادة هو نار جهنم خالدين فيها أبدا على الدوام. والعصيان: هو الشرك، لقوله تعالى:
أَبَداً.
179
٦- إذا شاهد المشركون ما أوعدهم الله من عذاب الدنيا، وهو في الماضي القتل ببدر، أو عذاب الآخرة وهو نار جهنم، فسيعلمون حينئذ من أهل الجند الأضعف نصرة وأقل عددا، أهم أم المؤمنون؟
علم تعيين الساعة مختص بالله عالم الغيب
[سورة الجن (٧٢) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)
الإعراب:
أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ قَرِيبٌ مبتدأ، وما فاعل قَرِيبٌ بمعنى الذي، وقد سدت مسد خبر المبتدأ، كقولهم: أقائم أخوك، وأ ذاهب الزيدان، وعائد ما محذوف، تقديره: أقريب ما توعدونه، ولكن حذف الهاء. ويجوز أن تكون ما مصدرية، فلا عائد لها.
إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ مَنِ: إما في موضع رفع بالابتداء، وخبره فَإِنَّهُ يَسْلُكُ وإما في موضع نصب على الاستثناء المنقطع.
أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا أَنْ: مخففة من الثقيلة، أي أنه.
وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً عَدَداً: منصوب على التمييز، وليس بمصدر لأنه لو كان مصدرا، لكان مدغما: (عدّا). وأجاز القرطبي نصبه على المصدر، أي أحصى وعدّ كل شيء عددا، أو نصبه على الحال، أي أحصى كل شيء في حال العدد.
المفردات اللغوية:
إِنْ أَدْرِي أي ما أدري. ما تُوعَدُونَ من العذاب. أَمَداً غاية وأجلا لا يعلمه
180
إلا هو، والأمد: الزمن البعيد. عالِمُ الْغَيْبِ ما غاب عن العباد. فَلا يُظْهِرُ لا يطلع.
عَلى غَيْبِهِ أَحَداً على الغيب المخصوص به علمه. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ أي إن الرسول يطلعه الله على بعض الغيب معجزة له. يَسْلُكُ يجعل ويقيم. مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ من بين يدي المرتضى الرسول. رَصَداً حراسا وحفظة من الملائكة يحفظونه حتى يبلغه مع بقية الوحي. وأما كرامات الأولياء في المغيبات فتكون تلقيا من الملائكة.
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا أي ليظهر معلوم الله كما هو الواقع من غير زيادة ولا نقص، أو ليعلم محمد النبي الموحى إليه أن قد أبلغ جبريل والملائكة معه الوحي بلا تحريف وتغيير، وأَبْلَغُوا على المعنى الأول: هم الرسول، وعلى الثاني هم الملائكة وروعي بجمع الضمير معنى من «١». رِسالاتِ رَبِّهِمْ أبلغوا رسالات الله كما هي من غير تغيير. وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أحاط علما بما عند الرسل، وهو عطف على مقدر، أي فعلم ذلك. وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً أي أحصى عدد كل شيء.
سبب النزول:
قال مقاتل: إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ، فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قال النضر بن الحارث:
متى يكون هذا اليوم الذي توعدنا به؟ فأنزل الله تعالى: قُلْ: إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ إلى آخر الآيات.
التفسير والبيان:
قُلْ: إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً أي قل أيها الرسول: لست أعلم قرب العذاب الذي يعدكم الله به، فما أدري أقريب وقت الساعة أم بعيد، وهل جعل الله له غاية ومدة؟ فلا يعرف متى يوم القيامة إلا الله وحده. ومضمون الآية أمر من الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول للناس: إنه لا علم له بوقت الساعة، أي تفويض علم تعيين الساعة إلى الله لأنه عالم الغيب.
(١) أي إن قوله تعالى: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ مع قوله: أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا كقوله: فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ من الحمل على اللفظ تارة، وعلى المعنى أخرى.
181
ويؤكده ما
جاء في حديث مسلم عن عمر حينما سأل جبريل عليه السلام النبي صلّى الله عليه وسلّم قائلا: فأخبرني عن الساعة؟ قال: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل».
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً أي إن الله وحده هو العالم بالمغيبات، فلا يطلع على الغيب (وهو ما غاب عن العباد) أحدا منهم، إلا من ارتضى من الرسل، فإنه يطلعهم على بعض المغيبات، ليكون معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم. وهذا يشمل الرسول الملكي والبشري، كقوله تعالى:
وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ [البقرة ٢/ ٢٥٥]. ومن أمثلة إخبار الرسل عن المغيبات قول عيسى عليه السلام: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران ٣/ ٤٩].
ثم إن الله تعالى يجعل بين يدي الرسول ومن خلفه حرسا وحفظة من الملائكة، يحرسونه من تعرّض الشياطين لما أظهره الله عليه من الغيب، لضبط الوحي، ويمنعون الشياطين من استراق الغيب، لإلقائه إلى الكهنة. وفي الكلام إضمار وتقدير: إلا من ارتضى من رسول، فإنه يطلعه على غيبه بطريق الوحي، ثم يجعل بين يديه ومن خلفه حرسا من الملائكة أي الرصد. والرصد:
الحفظة يحفظون كل رسول من تعرض الجنّ والشياطين.
والآية دليل على إبطال الكهانة والتنجيم والسحر لأن أصحابها يدّعون علم الغيب من غير دليل، وهي دليل أيضا على أن الإنسان المرتضى للنبوة قد يطلعه الله تعالى على بعض غيوبه، أما علم الكهنة والمنجمين فهو ظن وتخمين، فلا يدخل في علم الغيب. وأما علم الأولياء وظهور الكرامات على أيديهم فهو إلهامي متلقى من الملائكة، لا يرقى إلى درجة علوم الأنبياء.
وتأول الرازي الآية بأنه لا أدري وقت وقوع القيامة، والله عالم الغيب،
182
فلا يطلع أحدا على وقت وقوع القيامة، فهو من الغيب الذي لا يظهره الله لأحد، ثم قال الرازي: لا بد من القطع بأنه ليس مراد الله من هذه الآية ألا يطلع أحدا على شيء من المغيبات إلا الرسل، للأدلة الآتية:
أحدها- أنه ثبت بالأخبار القريبة من التواتر أن شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم قبل زمان ظهوره، وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم، حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من الغيب.
والثاني- أن جميع أرباب الملل والأديان مطبقون على صحة علم التعبير، وأن المعبّر قد يخبر عن وقوع الوقائع الآتية في المستقبل، ويكون صادقا فيه.
والثالث- أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملك شاه من بغداد إلى خراسان، وسألها عن الأحوال الآتية في المستقبل، فذكرت أشياء، ثم وقعت على وفق كلامها.
والرابع- أنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وليس هذا مختصا بالأولياء، بل قد يوجد في السحرة أيضا من يكون صادقا في أخباره، وإن كان يكذب في أكثر الأخبار، وقد تطابق الأحكام النجومية الواقع وتوافق الأمور.
وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا، فالقول بأن القرآن يدل على خلافه، مما يجر إلى الطعن في القرآن الكريم، وذلك باطل، فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرنا «١».
وفي رأيي أن علم الغيب الشامل مقصور على الله عز وجل، حتى إن الملائكة كما في سورة البقرة في بدء الخلق، والجن كما في سورة سبأ، والإنس كما في أواخر
(١) تفسير الرازي: ٣٠/ ١٦٩ [.....]
183
سورة لقمان جردوا من علم الغيب واعترفوا بعدم علمهم بالغيب، وأما هذه الوقائع التي أوردها الرازي فقد تقع بالإلهام سواء للصالح أو غير الصالح.
ثم ذكر الله تعالى علة حفظه الرسل، فقال:
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ أي إنه تعالى يحفظ رسله بالملائكة، ليعلم الله علم ظهور وانكشاف في الواقع القائم أن هؤلاء الرسل قد بلغوا الرسالات الإلهية كما هي دون زيادة ولا نقصان. ويصح أن يكون المعنى: ليعلم نبي الله أن جبريل ومن معه من الملائكة قد بلّغت عن الله الوحي تماما من غير تغيير ولا تبديل، وأن الملائكة حفظوا الوحي حتى أوصلوه تاما إلى الرسل من البشر.
ويكون المراد بالمعنى الأول أن الله يحفظ رسله بملائكته، ليتمكنوا من أداء رسالاته ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم، ويكون ذلك كقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [البقرة ٢/ ١٤٣] وكقوله تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ [العنكبوت ٢٩/ ١١] إلى أمثال ذلك من العلم، بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة، فيكون القصد بما جاء في القرآن من تعليل لعلم الله، إنما هو علم ظهور لا علم بداء، فإنه تعالى عالم بالأشياء أزلا، وإنما يظهر علمه لعباده «١». لذا أكد تعالى هذا المعنى بقوله:
وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ، وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً أي إنه تعالى أحاط علما بما عند الرصد من الملائكة، أو بما عند الرسل المبلغين لرسالاته، وبما لديهم من الأحوال، فهو عالم بكل شيء كان أو سيكون، وعالم بكل الأحكام والشرائع، ثم عمم العلم بقوله: وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً أي ضبط كل شيء معدودا محصورا، دون مشاركة أحد من الملائكة وسائط العلم.
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٤٣٣
184
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- لا يعلم الغيب أحد سوى الله تعالى، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأطلعهم الله على ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم ممن ارتضاه من رسول. أما المنجم ونحوه ممن يضرب بالحصى، وينظر في الكتب، ويزجر بالطير، فهو كافر بالله، مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه.
لكن قد يصادف الواقع إخبار هؤلاء المنجمين ونحوهم عن بعض الوقائع في المستقبل، اعتمادا على بعض الدلالات والقرائن والحسابات، ولكن هذا لا يصلح قاعدة عامة، ولا مبدأ مطردا لا يخطئ فإن العلم بالغيب المختص بالله هو العلم الشامل الصادق في كل الأحيان. كما أن الله تعالى يظهر أحيانا بعض الكرامات بالإلهام على يد بعض أوليائه المخلصين، فيخبرون عن وقوع بعض الوقائع في المستقبل. وهذا ثابت بالأمثلة الكثيرة قديما وحديثا، وأيده العلم الحديث، ولكن لا يصح اعتبار ذلك صنعة أو حرفة أو حكما في الأمور لأن مرجع ذلك كله إلى الله تعالى ومشيئته ومراده، لا إلى خبرة ثابتة أو إلى تصرف الإنسان حسبما يريد.
٢- يحفظ الله رسله ووحيه من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة، قال الضحاك: ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبهوا بصورة الملك، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا: هذا شيطان فاحذره. وإن جاءه الملك قالوا: هذا رسول ربّك.
٣- لقد أخبر الله تعالى نبيه محمدا بحفظه الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا
185
على مثل حالته من التبليغ بالحق والصدق، أو ليعلم أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه.
وقال الزجاج: أي ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته كقوله تعالى:
وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [التوبة ٩/ ١٦] أي ليعلم الله ذلك علم مشاهدة، كما علمه غيبا.
٤- أحاط علم الله سبحانه بما عند الرسل وما عند الملائكة، وأحاط بعدد كل شيء وعرفه وعلمه، فلم يخف عليه منه شيء، فهو سبحانه المحصي المحيط العالم الحافظ لكل شيء.
186

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المزمل
مكيّة، وهي عشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة المزمّل أي المتلفف بثيابه لأنها تتحدث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في بدء الوحي، ولأنها بدئت بأمر الله سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يترك التزمل: وهو التغطي في الليل، وينهض إلى تبليغ رسالة ربه عز وجل.
مناسبتها لما قبلها:
يظهر تعلق السورة بما قبلها من وجهين:
١- ختمت سورة الجن ببيان تبليغ الرسل رسالات ربهم، وافتتحت هذه السورة بأمر خاتمهم بالتبليغ والإنذار، وهجر الراحة في الليالي.
٢- أخبر الله تعالى في السورة المتقدمة عن ردود فعل دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم بين قومه والجن في قوله: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ وقوله: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ ثم أمره الله تعالى في مطلع هذه السورة بالدعوة في قوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا.
ما اشتملت عليه السورة:
تتناول السورة الإرشادات الإلهية الموجهة للنبي صلّى الله عليه وسلّم في مسيرته أثناء تبليغ دعوته، وتهديد المشركين المعرضين عن قبول تلك الدعوة.
187
Icon