تفسير سورة الغاشية

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الغاشية من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

فلما سمعه قال نعم وأذنبة وأطلقه من أسره، وقال الآخر:
لعمرك والمنايا طارقات... ولكل بني أب منها ذنوب
وقيد قوله بابن الأب لاستثناء عيسى عليه السلام، لأنه لم يمت، على أنه عليه السلام قد يكون له نصيب من المنايا بعد نزوله كما صح في الأخبار، راجع الآية ٥٨ من سورة الزخرف المارة، وهو من الأصل الدلو الذي يستسقى به الماء في البئر ويقتسم به الماء، قال الراجز:
إنا إذا نازلنا غريب... له ذنوب ولنا ذنوب
وإذ أبيتم قلنا القليب. قال تعالى «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» ٦٠ به على لسان رسلهم، وهذا وعيد لهم بالويل والثبور من هول وفظاعة ما يلاقونه في الآخرة من العذاب على ما فعلوه بالدنيا من العصيان والكفر، وختمت هذه السورة بما ذكر أولها في قوله (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) فقال (فَوَيْلٌ) إلخ، أي مما يوعدون إذا لم يتوبوا ويرجعوا عمّا هم عليه، إذ يكون مصيرهم الهلاك الذي ما فوقه هلاك. هذا والله أعلم، واستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة الغاشية عدد ١٨- ٦٨- ٨٨
نزلت بمكة بعد الذاريات، وهي ست وعشرون آية، واثنتان وتسعون كلمة، وثلاثمائة وواحد وثمانون حرفا، ويوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به وهي سورة الإنسان، ولا يوجد سورة مختومة بما ختمت به.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «هَلْ أَتاكَ» يا سيد الرسل «حَدِيثُ الْغاشِيَةِ» ١ التي تغشى الناس بأهوالها وتغطيهم بفظائع أحوالها، وفي التقدير بالاستفهام إعلام الناس بأن حضرة الرسول لا يعلم شيئا عنها عند نزول هذه السورة، وأن ما يعلمه بطريق الوحي الإلهي، وإيذان بأنه يتلى عليه ما لم يسمعه من أحد، وإشارة إلى زيادة الاعتناء بما يتنزل عليه لما له من الشأن العظيم
156
«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ» أي يوم تقوم القيامة المعبر عنها بالغاشية، ان وجوه أصحابها «خاشِعَةٌ» ٢ ذليلة خاضعة، وهذا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، وهذه الوجوه التي تشاهد على غاية من الهوان فرءوس أهلها «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ» ٣ دائبة على العمل في نار جهنم تعبة من مشقة الأعمال وشدة العذاب التي تلاقيه ذلك اليوم جزاء عملها في الدنيا وتوغلها في الترف والرّفاه، فكما كانت تعمل في الدنيا لغير الله فإنها تعمل في الآخرة لقاءه في نار جهنم عملا تكل منه الجبال، فطورا تجر بالسلاسل والأغلال وتارة تخوض بالنار كما تخوض الإبل في الوحل، ومرة ترقى صعودا بأعالي جهنم وتهبط منه، وبذلك كله فإنها «تَصْلى ناراً حامِيَةً» ٤ لأنها في سوائها وإذا عطشت فإنها «تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ»
٥ متناهية في الحرارة، قال تعالى (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) الآية ١٦ من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم في ج ٣، وإذا سألت عن طعامهم فيها أيها الإنسان فإنهم «لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ» فيها «إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ» ٦ هو يابس الشبرق شوك ترعاه الإبل مادام رطبا، فإذا يبس تحاشته لأنه سم قاتل، قال أبو ذؤيب:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى وصار ضريعا بان عنه النمائص
وقال ابن غرازة الهذلي يذم سوء مرعى إبله:
وحبسن في هزم الضريع فكلها حدباء دامية اليدين حرود
أي أن طعامهم فيها يشبه هذا النبات الخبيث، وشرابهم ما علمت، وليس سواء، فبينهما كما بين نارنا ونار جهنم. قال المشركون لما سمعوا هذه الآية إن إبلنا لتسمن على الضريع استهزاء وسخرية، لأن الإبل لا تأكله أبدا ولا يسمى ضريعا إلا بعد يبسه لأنه مادام أخضر يسمى شبرقا، فكذبهم الله بقوله «لا يُسْمِنُ» الضريع الدابة أبدا «وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ» ٧ البتة لأنه لا يؤكل حتى يشبع، ولا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى (إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) الآية ٢٧ من الحاقة الآتية، لأن للنار دركات لكل دركة نوع من العذاب ويكون على قدر الذنب العقاب، فمنهم طعامهم الزقوم، ومنهم ذو الغصة، ومنهم الضريع، ومنهم الغسلين، كما سيأتي أجارنا الله من ذلك كله، وهذا ما وصف الله به أهل النار، وهاك
157
وصف أهل الجنة جعلنا الله من أهلها، قال تعالى «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ» ٨ أهلها، وهذا أيضا من إطلاق الجزء وإرادة الكل، منعمة برضاء الله وجنته «لِسَعْيِها» الذي فعلته بالدنيا «راضِيَةٌ» ٩ به لما رأت حسن جزائه فى الآخرة لأنه «فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ» ١٠ لا يدرك الطرف مداها
«لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً» ١١ في لهو وباطل بل كل ألسنتها التسبيح والتهليل والتحميد والتسليم «فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ» ١٢ إلى حيث أراد طلبها بمجرد إشارة منه دون تكلف ما لا تحتاج لجر أنابيب ووضع رافعات وصبابات، وهذا للشرب والنظارة و «فِيها» للجلوس والنوم «سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ» ١٣ أنشأها الله لعباده، وناهيك بشيء ينشئه الله، فصف من حسنها وماهيتها وعلوها وزخرفها ما شئت فلن تدرك حقيقتها ولن تقدر أن تحيط علما بها لأنها من مصنوعات الله، وسبب ارتفاعها ليشرف من عليها على ما خوّله ربه من الملك الواسع والنعيم الشاسع «وَأَكْوابٌ» طوس مستديرة وأكواز بلا عرى من فضة وذهب كما يشعر بعظمها التنوين «مَوْضُوعَةٌ» ١٤ بعضها جنب بعض على حواف الأعين الجارية مملوءة مهينة للشرب بقدر ما يشرب الشارب «وَنَمارِقُ» وسائد، قال زهير:
كهولا وشبانا حسابا وجوههم... على سرر مصفوفة ونمارق
يؤيد هذا التفسير قوله تعالى «مَصْفُوفَةٌ» ١٥ بعضها لبعض للاتكاء عليها، وهذا أحسن من تأويلها بمطارح، لأن الصف عادة أكثر استعمالا في الوسائد، وما جاء في قولهن:
نحن بنات طارق... نمشي على النمارق
لم يرد بها الوسائد لأنها لا يمشى عليها بل يراد منها ما بينه الله بقوله «وَزَرابِيُّ» وهي ما نسميها الآن سجّادا وأحسن أنواعه شغل العجم، أما هذا فهو من إبداع المبدع، وهو فوق ما نتصوره، فاسع أن تكون أهلا بأن تمشي وتجلس عليه «مَبْثُوثَةٌ» ١٦ مبسوطة متفرقة في الغرف والباحات والأبهاء والساحات ومحال النزه وغيرها بحيث أينما أردتها وجدتها بالغرف والجنان والصحارى.
158
مطلب في الإبل وما ينبغي أن يعتبر به، والتحاشي عن نقل ما يكذبه العامة:
وبعد أن وصف الله النار والجنة وأهلهما التفت إلى عباده حدثا لهم على الاعتبار في بعض مخلوقاته التي هي بين أيديهم ومسخرة لهم، فقال جل قوله «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» ٧ والإبل جمع لا واحد له من لفظه ومفردها جمل وبعير وناقة وقعود، ويجمع الجمل على جمال، والبعير على أباعر وأبعر وبعران، والقعود على قعدان، والناقة على نياق ونوق، وإنما خص الإبل لأنها من أنفس أموال العرب إذ ذاك وحتى الآن عند أهل البادية، وأعزّها عليهم، ولها مكانة عندهم حتى انهم يتفاخرون فيها، ولم يروا قبل أعظم منها للركوب والحمل والأكل، ولهم فيها منافع كثيرة، وذلك أنهم أنكروا ما وصفه الله من الجنة والنار وأهلهما فذكرهم الله بهذا النوع من مخلوقاته العجيبة الصنع المذللة لهم، مع أنها أقوى منهم ليعلموا أن الذي خلقها قادر على خلق ما وصف في الجنة والنار ليسترشدوا بذلك.
هذا وان الفيل مما يعرفونه أيضا وهو أقوى من الإبل، إلا أنه لا منافع فيه مثل ما في الإبل ولم يطلعوا عليه كلهم، ولأنه لا يؤكل، ولا لبن له ولا صوف، وليس بلين الجانب كالإبل تقودها الأولاد وتعقلها المرأة، وتقنى للزينة والتجارة والركوب والدر، وتحمل الأثقال وفيها خواص لا توجد بغيرها، كاحتمالها العطش والمشاق في السفر، وتحمّل وهي باركة، وترعى من النبات ما لا يرعاه غيرها، والفيل خلو من هذه الصفات، وقد اخترع القبان منها بالنظر لسرتها وطول عنقها، ولها ميزة في خلقها وتركيب أعضائها وتأثرها بالصوت الحسن حتى انها قد تودي بحياتها من شدة طيّها المسافة البعيدة عند سماعها الحداء، ولها من الشفقة على أولادها ما لم يوجد عند غيرها، كما أن عندها من الحقد ما يقابل ذلك على من يعتدي عليها عند هيجانها اى الذكور منها، وقد ذكرنا ما يتعلق في بحثها في الآيتين ١٣٨/ ١٤٣ من سورة الأنعام المارة فراجعهما. وإنما ذكّرهم الله تعالى ببعض نعمه عليهم، لأن المراد منه التذكر في دلائل توحيده وبراهين قدرته وإمارات صنعه مما يرون ويعلمون، أما مخلوقاته الأخرى الموجودة في ذلك الزمن والتي وجدت الآن وما ستوجد بعد فهي وإن كانت أعظم في الاستدلال إلا أن ضرب المثل بما هو موجود
159
أكثر تأثيرا مما لم يوجد، فإذا قلت لهم توحيد سفينة عظيمة تمشي بالبخار على البحار وسيارات تقطع مسافة اليوم في ساعة، وطيارات تطوي الشهرين بيوم، وهاتف وراد ينقلان الصوت من المغرب إلى المشرق بلحظات لم يصدقوا، فلهذا اقتصر الله تعالى على ما هو معلوم عندهم كلهم. ومن هذا قوله صلّى الله عليه وسلم كلموا الناس بما يفهمون أتحبون أن يكذب الله ورسوله. أي إذا ذكرتم لهم أشياء كهذه يخشى أن يكذبوه، ولو قلتم إن الله أخبر بها رسوله يوشك أن يكذبوا وإذا كذبوكم فقد كذبوا الذين نقلتم عنهم فيؤدي إلى الكفر الذي جاء الأنبياء لإزالته. ومن هذا الحديث المروي عن الدجال بأنه يبلغ خبر خروجه المشرق والمغرب بيوم واحد، فقد أنكره كثير من العلماء لاستحالة وصول الخبر المذكور بيوم واحد إذ لم يكن عندهم لا سلكي أو راد أو هاتف، أما الآن فلا تجد من ينكره من هذه الحيثية، وكذلك حديث: تطبخ المرقة في مكة وتؤكل في المدينة وهي حارة، وحديث تقارب البلدان وغيرها من المغيبات التي أخبر عنها الرسول المكرم ووقع الشك في صحتها، ومن هذا قوله تعالى (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) الآية ١٨٨ من البقرة في ج ٣، عند سؤالهم عن الأهلّة، فلو قال لهم ما يذكره الفلكيون والطبيعيون في هذا لم يصدقوه. قال تعالى «وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ» ١٨ بلا عمد أو بعمد غير مرثية على كلا التفسيرين في الآية الثانية من سورة الرعد في ج ٣، والآية ٩ من سورة لقمان المارة، إذ لا يدرك أطرافها أحد ولم يقف على كنهها أحد ولم يطلع على بنائها أحد كما لا ينالها أحد «وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ» ١٩ على الأرض بصورة ثابتة راسخة لا تزول ولا تزال إلا بقدرة الملك المتعال، إذ جعلها رواسي للأرض لئلا تميد بأهلها، راجع الآية ٩ من سورة لقمان المارة، «وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ» ٢٠ بسطت ومهدت ليستقر عليها كل شيء، فانظروا أيها الناس إلى هذه الأشياء، واعلموا أن من يقدر عليها يقدر على خلق ما وصف في الجنة والنار وما أعده لأهلها، وأنكم لا تقدرون على خلق ذبابة ولا تخليص ما تسلبه منكم فضلا عن خلق الإبل والسماء والجبال والأرض وما فيها من البدائع والعجائب، ألا له الخلق والأمر، راجع الآية ٧٢ من الحج ج ٣.
160
ولما لم ينجع بهم هذا ولم يعتبروا ويتعظوا التفت إلى رسوله صلّى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله «فَذَكِّرْ» قومك يا سيد الرسل واحرص على إيمانهم ودم على ما أنت عليه «إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ» ٢١ فقط فلا يمنعك عدم قبولهم لنصحك وإصغائهم لرشدك من إدامة التذكير، لأنك يا حبيبي «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» ٢٢ لتجبرهم على الإيمان ولا بمسلط لتكرههم عليه، وإنما عليك البلاغ فقط وقد قمت به، وما قيل إن هذه الآية منسوخة بآية السيف لا وجه له، لأن غاية ما فيها التهديد والتخويف تمهيدا للذارة والبشرة وترغيبا للتصديق بما جاءهم به، وإن الله تعالى ما أنزل آية السيف وأمر رسوله بالقتال حتى غربل الناس وأوضح لرسوله المؤمن من الكافر وأظهر له من يؤمن طائعا مختارا راغبا، ومن يؤمن كرها وخوفا.
هذا، وإن الاستثناء في قوله تعالى (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى) عنك وأعرض إعراضا كليا «وَكَفَرَ» ٢٣ وأصر على كفره، متصل في ضمير عليهم ومحله الجر تبعا له، أي فإنك متسلط على هذا الصنف من الكفرة المدبرين عن الإيمان إدبارا كليا مثل الوليد وأبو جهل وأضرابهما، ولهذا أمر الله الرسول بالجهاد وأباح له قتل أمثال هؤلاء وسبيهم وإجلاءهم وأسرهم، وقد عاتبه على أخذ الفداء من أمثالهم، راجع الآية ٦٧ من سورة الأنفال ج ٣، وقد جعل جزاءهم الدنيوي هذا، أما العقاب الأخروي «فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ» ٢٤ في دركات جهنم ولا أكبر من عذابها، فيكون في هذه لآية إيعاد لهم في المدارين، وإشارة بأنه سيسلط عليهم وتظهر كلمته، وهذا لا ينافي حصر الولاية بذاته تعالى، لأنه الولي لا غيره وليّ، وان ذلك يكون بإذنه وأمره وإرادته، وعليه فيكون المعنى لست يا سيد الرسل على هؤلاء الكفرة الممتنعين من التصديق بك والإيمان بربك بمجبر ولا مكره إلا على من تولى وكفر بأن دام على كفر، فإنك مسلط عليه. وما قاله الزمخشري وغيره تبعا له أو من بنات فكره وأولاد ذهنه من أن الاستثناء هنا منقطع وإن المعنى لست بمسئول عنهم لكن من تولّى وكفر منهم فإن الله تعالى له الولاية عليه، فهو بعيد عن المعنى المراد والله أعلم، حتى ان عصام الدين قال فيه إشكال لأن المستثنى المنقطع هو المذكور بعد إلا غير مخرج من متعدد قبله لعدم دخوله فيه
Icon