تفسير سورة التوبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة التّوبة «١»
(مدنية). ولها أسماء أخر: سورة براءة لتبرئها من المنافقين، والمقشقشة، أي: المبرئة من النفاق، والبحوث لبحثها عن أحوال المنافقين، والمبعثرة والمنقرة والمثيرة، والحافرة لأنها بعثرت ونقرت وأثارت وحفرت عن أحوال المنافقين، والمخزية والفاضحة، والمنكلة، والمشردة، والمدمدمة، وسورة العذاب لأنها أخزت المنافقين، وفضحتهم، ونكلتهم، وشردتهم، ودمدمت عليهم، وذكرت ما أعد الله لهم من العذاب.
وآياتها: مائة وثلاثون، وقيل: وتسع وعشرون. ومناسبتها: قوله: إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ «٢»، فذكر فى هذه السورة نقض ذلك الميثاق.
واتفقت المصاحف والقراء على ترك البسملة فى أولها، فقال عثمان رضى الله عنه: أشبهت معانيها معانى الأنفال، أي: لأن فى الأنفال ذكر العهود وفى براءة نبذها. وكانتا تدعى القرينتين فى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلذلك قرنت بينهما ووضعتهما فى السبع الطوال «٣»، وكان الصحابة قد اختلفوا: هل هما سورة واحدة أو سورتان؟ فتركت البسملة بينهما لذلك. وقال عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه: البسملة أمان، وبراءة نزلت بالسيف، فلذلك لم تبدأ بالأمان.
وقال البيضاوي: لما اختلف الصحابة فى أنهما سورة واحدة، وهى سابعة السبع الطوال، أو سورتان، تركت بينهما فرجة، ولم تكتب بسم الله. هـ.
ثم ابتدأ بنقض عهود المشركين، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١ الى ٢]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)
قلت: (براءة) : خبر عن مضمر، أي: هذه براءة، و (مِنَ) : ابتدائية، متعلقة بمحذوف، أي: واصلة من الله، و (إلى الذين) : متعلقة به أيضا، أو مبتدأ لتخصيصها بالصفة، و (إلى الذين) : خبر.
(١) بداية المجلد الثاني فى النسخة الأصلية.
(٢) من الآية ٧٢ من سورة الأنفال.
(٣) أخرجه أحمد فى المسند (١/ ٥٧) وأبو داود فى (الصلاة، باب من جهر ببسم الله الرحمن الرحيم) والترمذي فى (التفسير، سورة التوبة) والحاكم فى (٢/ ٢٢١) وصححه ووافقه الذهبي.
355
يقول الحق جلّ جلاله: هذه بَراءَةٌ أي: تبرئة مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ واصلة إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فقد تبرأ الله ورسوله من كل عهد كان بين المشركين والمسلمين، لأنهم نكثوا أولاً، إلا أناساً منهم لم ينكثوا، وهم بنو ضمرة وبنو كنانة، وسيأتي استثناؤهم. قال البيضاوي: وإنما علقت البراءة بالله وبرسوله، والمعاهدة بالمسلمين للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم، وإن كانت صادرة بإذن الله واتفاق الرسول فإنهما برئا منها. هـ.
وقال ابن جزي: وإنما أسند العهد إلى المسلمين لأن فعل الرسول صلّى الله عليه وسلّم لازم للمسلمين، وكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم قد عقد العهد مع المشركين إلى آجال محدودة، فمنهم من وفّى، فأمر الله أن يتم عهده إلى مدته، ومنهم من نقض أو قارب النقض، فجعل له أجل أربعة أشهر، وبعدها لا يكون له عهد. هـ. وإلى ذلك أشار بقوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ آمنين لا يتعرض لكم أحد، وبعدها لا عهد بيني وبينكم.
وذكر الطبري: أنهم أسلموا كلهم في هذه المدة ولم يسح أحد. هـ.
وهذه الأربعة الأشهر: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، لأنها نزلت في شوال، وقيل: هي عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، وعشر من الآخر، لأن التبليغ كان يوم النحر لما رُوي (أنها لمّا نزلت أرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم عليا رضى الله عنه راكبِاً العَضْبَاءَ ليَقْرأَهَا عَلى أهل المَوْسِم، وكان قد بعث أبا بكر رضى الله عنه أميراً على الموسم، فقيل: لو بَعَثْتَ بها إِلى أَبَي بكرٍ؟ فقال: «لا يؤدي عني إلا رجل مِنِّي» فَلَمَّا دَنَا عَليٌّ رضى الله عنه سَمِعَ أَبُو بَكرٍ الرُّغاءَ، فوقف، وَقَال: هذا رُغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فوقف، فلمَّا لَحِقَهُ قال: أَمير أو مَأمُورٌ؟ قال: مَأمُورٌ، فلما كان قبل الترْويَة خَطَبَ أبو بكر رضى الله عنه، وحَدَّثَهُمْ عَنْ مَنَاسِكَهِم، وقَامَ علي- كرم الله وجهه- يومَ النَّحر، عند جَمْرَةِ العَقَبَةِ، فقال: يا أَيُّها الناس، إني رَسُولُ رَسولِ الله صلى الله عليه وسلّم إليكم، فقالوا: بماذا؟ فَقَرأَ عليهمْ ثلاثين أوْ أرْبعين آيةً من أول السورة، ثم قال: أمرْتُ بأربَعٍ: أَلا يَقْرب البَيْتَ بعد هذا مُشركٌ، ولا يَطُوف بالبيت عُريَانٌ، ولا يَدخُلُ الجَنَّةَ إلا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٍ، وأن يتمّ إلى كُلّ ذِي عَهْدٍ عَهْدُهُ.) «١».
ولعل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ولا يؤدي عني إلا رجل مني» خاص بنقض العهود لأنه قد بعث كثيراً من الصحابة ليؤدوا عنه، وكانت عادة العرب ألاّ يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل منها. قاله البيضاوي مختصراً.
ثم قال تعالى لأهل الشرك: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي: لا تفوتونه، وإن أمهلكم، وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ في القتل والأسر في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة.
(١) أخرجه البخاري فى (الصلاة- باب ما يستر من العورة) ومسلم فى (الحج- باب لا يحج البيت مشرك) كلاهما من حديث أبى هريرة، وليس فيه ذكر قوله صلّى الله عليه وسلّم: (لا يُؤَدِّي عَنَّي إلا رجل منى)، وقد جاءت فى رواية عند أحمد فى المسند (١/ ٣) والترمذي فى (تفسير سورة التوبة).
356
الإشارة: قد وقع التبرؤ من أهل الشرك مطلقاً، أما الشرك الجلي فقد تبرأ منه الإسلام والإيمان، وأما الشرك الخفي فقد تبرأ منه مقام الإحسان، ولا يدخل أحدٌ مقام الإحسان حتى لا يعتمد على شيء، ولا يستند إلى شيء، إلا على من بيده ملكوت كل شيء، فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب، ويرفض النظر إلى العشائر والأصحاب، حتى لا يبقى في نظره إلا الكريم الوهاب، فمن أصرّ على شركه الجلي أو الخفي فإن الله يمهل ولا يهمل، فلا بد أن يلحقه وباله: إما خزي في الدنيا، أو عذاب في الآخرة، كلٌّ على ما يليق به.
وقال القشيري: إنْ قَطَعَ عنهم الوصلة فقد ضَرَبَ لهم مدةً على وجه المُهْلَةِ، فأَمَّنهُم في الحَالِ ليتأهبوا لتَحمُّل مقاساةِ البراءةِ فيما يستقبلونه في المآلِ. والإشارةُ فيه: أنهم إنْ أقلعوا في هذه المهلة عن الغَيِّ والضلال، وجدوا في المآل ما فقدوا من الوصال، وإنْ أبَوْا إلا التمادي في تَرْكِ الخدمة والحرمة، انقطع ما بينه وبينهم من الوصلة. هـ. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بإظهار تلك البراءة للناس، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣ الى ٤]
وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
قلت: (وأذان) : مبتدأ، أو خبر، على ما تقدم في براءة، وهو فَعال بمعنى إفعال كالعطاء بمعنى الإعطاء، أي:
وإعلام من الله ورسوله واصل إلى الناس، ورفع «رسوله» إما عطف على ضمير برىء، أو على محلّ «إِنّ» واسمها، أو مبتدأ حُذف خبره، أي: ورسوله كذلك.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ واصل إلى الناس، يكون يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وهو يوم النحر لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله، ولأن الإعلام كان فيه. ولما روى أنه- عليه الصلاة والسلام- وقف يوم النحر، عند الجمرات، في حجة الوداع، فقال: «هذا يوم الحج الأكبر» «١»، وقيل: يوم عرفة لقوله- عليه الصلاة والسلام-: «الحج عرفة» «٢». ووصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر.
(١) أخرجه البخاري فى (الحج- باب الخطبة أيام منى) عن نافع عن ابن عمر.
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٤/ ٣٠٩) وأبو داود فى (المناسك، باب من لم يدرك عرفة) والترمذي فى (الحج، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج)، كذلك أخرج الحديث النسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن يعمر. [.....]
وذلك الإعلام بأنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ- عليه الصلاة والسلام- كذلك. قال البيضاوي: ولا تكرار فإن قوله: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ: إخبار بثبوت البراءة، وهذا إخبار بوجوب الإعلام بذلك، ولذلك علقه بالناس ولم يخص بالمعاهدين. هـ. فَإِنْ تُبْتُمْ يا معشر الكفار ورجعتم عن الشرك، فَهُوَ أي: الرجوع خَيْرٌ لَكُمْ، وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي: أعرضتم عن التوبة وأصررتم على الكفر فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ لا تفوتونه طلباً، ولا تعجزونه هرباً في الدنيا، وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ في الآخرة.
ولما أمر بنقض عهود الناكثين استثنى من لم ينقض فقال: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ أي: لكن الذين عاهدتم مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وهم بنو ضمره وبنو كنانة، ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً من شروط العهد، ولم ينكثوا، ولم يقتلوا منكم، ولم يضروكم قط، وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً أي: لم يعاونوا عليكم أحداً من أعدائكم، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى تمام مُدَّتِهِمْ، وكانت بقيت لهم من عهدهم تسعة أشهر. ولا تجروهم مجرى الناكثين إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ، وهو تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى. قاله البيضاوي.
الإشارة: من أعظم شؤم الشرك: إن الله ورسوله تبرآ من أهله مرتين: خاصة وعامة، فيجب على العبد التخلص منه خفياً أو جلياً، ويستعين على ذلك بصحبة أهل التوحيد الخاص، حتى يُخلصوه من أنواع الشرك كلها، فإن صدر منه شيء من ذلك فليبادر بالتوبة، فإن تولى وأصر على شركه، كان ذلك سبب هوانه وخزيه، وبالله التوفيق.
ثم أمر بجهاد المشركين، بعد الأربعة الأشهر التي أمهلهم فيها، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ٥]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
يقول الحق جلّ جلاله: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ أي: انقضى الأشهر الْحُرُمُ وهي الأربعة التي امهلهم فيها، فمن قال: إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فهي الحرم المعروفة، زاد فيها شوال، ونقص رجب، وسميت حرماً تغليباً للأكثر، ومن قال: إنها ذو الحجة إلى ربيع الثاني، فسميت حرماً لحرمتها ومنع القتال فيها حينئذٍ. وغلط من قال: إنها الأشهر الحرم المعلومة لإخلاله بنظم الكلام ومخالفته للإجماع لأنه يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم. انظر البيضاوي.
فإذا انقضت الأربعة التي أمهلتهم فيها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الناكثين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من حل أو حرم، وَخُذُوهُمْ أسارى، ويقال للأسير: أخيذ، وَاحْصُرُوهُمْ واحبسوهم، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ كل ممر وطريق لئلا ينبسطوا في البلاد، فَإِنْ تابُوا عن الشرك وآمنوا، وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ تصديقاً لتوبتهم وإيمانهم فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ أي: فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك.
وفيه دليل على أنَّ تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله، بل يقاتل كما فعل الصديق رضى الله عنه بأهل الردة.
والآية: في معنى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أُقَاتِل النَّاس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويُقيموا الصَّلاة، ويُؤتوا الزَّكَاةَ... »
الحديث «١».
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، هو تعليل لعدم التعرض لمن تاب، أي: فخلوهم لأن الله قد غفر لهم، ورحمهم بسبب توبتهم.
الإشارة: فإذا انقضت ايام الغفلة والبطالة التي احترقت النفس فيها، فاقتلوا النفوس والقواطع والعلائق حيث وجدتموهم، وخذوا أعداءكم من النفس والشيطان والهوى، واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد يتعرضون فيه لكم، فإن أذعنوا، وانقادوا، وألقوا السلاح، فخلوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم.
ولما أمر بقتال المشركين وأخذهم أينما ثقفوا، استثنى من أتى يطلب الأمان، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦)
قلت: «أحد» : فاعل بفعل يفسره: «استجارك».
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ أتاك أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ المأمورين بالتعرض لهم، حيثما وجدوا، اسْتَجارَكَ يطلب جوارك، ويستأمنك، فَأَجِرْهُ أي: فأمنهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ويتدبره، ويطلع على حقيقة الأمر، لعله يُسلم، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ أي: موضع أمنه إن لم يسلم، ولا تترك أحداً يتعرض له حتى يبلغ محل أمنه ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ أي: ذلك الأمر الذي أمرتك به بسبب أنهم قوم لا علم لهم بحقيقة الإيمان، ولا ما تدعوهم إليه، فلا بد من إيجارهم، لعلهم يسمعون ويتدبرون فيكون ذلك سبب إيمانهم.
(١) أخرجه البخاري فى (الاعتصام- باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلّم) ومسلم فى (الإيمان- باب الأمر بقتال النَّاس حتَّى يَقُولوا لا إله إلا الله). من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
الإشارة: وإن استجارك- أيها العارف- أحد من عوام المسلمين ممن لم يدخل معكم بلاد الحقائق، وأراد أن يسمع شيئاً من علوم القوم، فأجره حتى يسمع شيئاً من علومهم وأسرارهم، فلعل ذلك يكون سبباً في دخوله في طريق القوم. ولا ينبغي للفقراء أن يطردوا من يأتيهم من العوام، بل يتلطفوا معهم، ويسمعوهم ما يليق بحالهم لأنَّ العوام لا علم لهم بما للخواص، فإن اطلعوا على ما خصهم الله به من العلوم دخلوا معهم، إن سبق لهم شيء من الخصوصية.
وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضى الله عنه: لا ينبغي لأهل الخصوصية أن يدخلوا بلد العموم إلا في جوار أحد منهم، وإلا أنكرته البلد لأن البلد أم تغير على غير أبنائها، ولا ينبغي أيضاً للعموم أن يدخلوا بلد الخصوص إلا في جوار رجل منهم، وإلا أنكرته البلد. هـ. بالمعنى.
ثم استبعد الحق أن يكون للمشركين عهد مع المسلمين، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧ الى ١١]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١)
قلت: (إلا الذين) : محله النصب على الاستثناء، أو جر على البدل من «المشركين»، أو رفع على الانقطاع، أي:
لكن الذين عاهدتم فما استقاموا لكم، و (الإل) : القرابة والحِلف، وحذف الفعل في قوله: (كيف وإن يظهروا عليكم) للعلم به بما تقدم، أي: كيف يكون لهم عهد والحال إِنهم إِن يَظْهَرُوا عليكم.. الخ يقول الحق جلّ جلاله، في استبعاد العهد من المشركين والوفاء به: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ؟ مع شدة حقدهم وعداوتهم للرسول وللمسلمين، مع ما تقدم لهم من النقض والخيانة فيه، إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قيل: هم المستثنون قبلُ. وقال ابن اسحاق: هي قبائل بني بكر، كانوا
360
دخلوا وقت الحديبية، في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبين قريش، فلم يكن نقض إلا قريش وبنو الديل من بني بكر، فأُمر المسلمون بإتمام العهد لمن لم يكن نقض. وقال ابن عباس: هم قريش، وقال مجاهد: خزاعة، وفى هذين القولين نظر لأن قريشاً وخزاعة كانوا أسلموا وقت الأذان لأنهم أسلموا في الفتح، والأذان بعده بسنة.
قال تعالى في شأن من استثنى: فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ على العهد ولم يغدروا، فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ على الوفاء، أي: تربصوا بهم وانتظروا أمرهم، فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين إذا عاهدوا وفوا، وإذا قالوا صدقوا.
ثم كرر استبعاد وفائهم فقال: كَيْفَ يصح منهم الوفاء بعهدكم وَهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ويظفروا بكم في وقعة لا يَرْقُبُوا أي: لا يراعوا فِيكُمْ إِلًّا قرابة أو حلفاً، وقيل: ربوبية، أي: لا يراعون فيكم عظمة الربوبية ولا يخافون عقابه، وَلا ذِمَّةً أي: عهداً، أو حقاً يعاب على إغفاله، يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ بأن يعدوكم بالإيمان، والطاعة، والوفاء بالعهد، في الحال، مع استبطان الكفر والغدْر، وَتَأْبى أي: تمنع قُلُوبُهُمْ ما تفوه به أفواههم، وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ متمردون، لا عقيدة تزجرهم، ولا مروءة تردعهم، وتخصيص الأكثر لما في بعض الكفرة من التمادي على العهد، والتعفف عما يجر إلى احدوثة السوء.
قاله البيضاوي.
اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ أي: استبدلوا بها ثَمَناً قَلِيلًا أي: عرضاً يسيراً، وهو اتباع الأهواء والشهوات، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ دينه المُوصل إليه، أو بيته بصد الحجاج عنه. إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: قبح عملهم هذا، أو ساء ما كانوا يعملون من كونهم لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً فيكون تفسيراً لعملهم السوء، لا تكريراً. وقيل: الأول في الناقضين العهد، وهذا خاص بالذين اشتروا، وهم اليهود، أو الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطمعهم.
وقوله تعالى: فِي مُؤْمِنٍ: فيه إشارة إلى أن عداوتهم إنما هي لأجل الإيمان فقط، وقوله أولاً: فِيكُمْ، كان يحتمل أن يظن ظان أن ذلك للإحن التي وقعت بينهم، فزال هذا الاحتمال بقوله: فِي مُؤْمِنٍ. قاله ابن عطية.
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ في الشرارة والقبح. فَإِنْ تابُوا عن الكفر، وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
، حث على تأمل ما فصل من أحكام المعاهدين وخصال التائبين. قاله البيضاوي.
الإشارة: لا ينبغي للخواص أن يثقوا بمحبة العوام، ولا يغتروا بما يسمعون من عهودهم، فإن محبتهم على الحروف، مهما رأوا خلاف ما أملوا من حروفهم، وأطماعهم، نكثوا وأدبروا، فللعارف غِنّى بالله عنهم. وفي ذلك
361
يقول سيدنا علي- كرّم الله وجهه-:
مَا الفَخْرُ إِلاَّ لأَهْلِ العِلْمِ، إِنَّهُمُ عَلَى الهُدَى لمن اسْتَهْدَى أدلاَّءُ
وَقَدْرُ كل امرئ مَا كَانَ يُحسنهُ والجَاهِلُون لأهلِ العِلْمِ أعداءُ
ثم ذكر حكم مَن نقض العهد، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢ الى ١٥]
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ أي: نقضوها مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ أي: من بعد ما أعطوكم من العهود على الوفاء بها، وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام، فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي: فقاتلوهم لأنهم أئمة الكفر، فوضع أئمة الكفر موضع الضمير للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر، فهم أحِقاء بالقتل، وقيل: المراد رؤساء المشركين، والتخصيص: إما لأن قتلهم أهم، وهم أحق به، أو للمنع من مراقبتهم، إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ على الحقيقة، وإلاًَّ لم يقدروا أن ينكثوها، واستشهد به الحنفية على أن يمين الكافر لا تلزم، وهو ضعيف لأن المراد نفي الوثوق عليها، لا أنها ليست بأيمان. قاله البيضاوي. قلت: وما قالته الحَنَفِيِّةُ هو مذهب المالكية، إذا حنث في حال الكفر، ثم أسلم، فلا يلزمه شيء. وقرأ ابن عامر بكسر الهمزة، أي: لا أيمان لهم صحيحاً يعصم دماءهم.
لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي: ليكن غرضكم في مقاتلتهم أن ينتهوا عما هم عليه، كما هي طريقة أهل الإخلاص، لا إيصال الإذاية لهم، أو مقابلة عداوة.
ثم حضَّ على قتالهم فقال: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ التي حلفوها للرسول صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين على ألا يعاونوا عليهم، فعاونوا بني بكر على خزاعة، وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ حين تشاوروا في أمره بدار الندوة
362
على ما مرّ، وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بالمعاداة والمقاتلة لأنه- عليه الصلاة والسلام- بدأهم بالدعوة، وإلزام الحجة بالكتاب والتحدي به، فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة والمقاتلة، فما يمنعكم أن تعارضوهم وتصادموهم، أَتَخْشَوْنَهُمْ أي: أتهابون قتالهم حتى تتركوا أمري، فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن قضية الإيمان ألا يُخاف إلا منه.
ثم وعدهم بالنصر فقال: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ يُهنهم بالقتل والأسر، وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ، فيمكنكم من رقابهم، ويملككم أموالهم ونساءهم، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، يعني: بني خزاعة شفوا صدورهم من بني بكر لأنهم كانوا أغاروا عليهم وقتلوا فيهم. وقيل: بطوناً من اليمن قدموا مكة وأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديداً، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: أبشروا، فإن الفرج قريب. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ بما لقوا منهم حين أغاروا عليهم، وقد أوفى الله بما وعدهم بفتح مكة وهوازن.
والآية من المعجزات. قاله البيضاوي. وهذا يقتضي أن هذا التخصيص كان قبل الفتح، فيلتئم مع ما بعده، ويبعد اتسامه مع ما قبله من البراءة، ونبذ العهد والإعلام بذلك لكونه بعد الفتح، والله أعلم. قاله المحشي. ويمكن الجواب بأن يكون صدر السورة نزل بعد الفتح، وبعضها من قوله: (وإن أحد من المشركين..) إلخ نزل قبل الفتح، فإن الآيات كانت تنزل متفرقة فيقول صلّى الله عليه وسلّم: «اجعلوا هذه الآية في محل كذا». والله تعالى أعلم.
ثم أخبر تعالى بأن بعض المشركين يتوب من كفره بقوله: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ هدايته، فيهديه للإيمان، ثم يتوب عليه، وقد كان ذلك في كثير منهم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما كان ويكون، حَكِيمٌ لا يفعل ولا يحكم إلا على وفق حكمته.
الإشارة: من رجع عن طريق القوم، ونقض عهد الأشياخ، ثم طعن في طريقهم، لا يرجى فلاحه، لا في الدنيا ولا في الآخرة، أعني في طريق الخصوص لأنه جمع بين نقض العهد والطعن على الأولياء، وقد قال تعالى: «من آذى لي وليا فقد آذنني بالحرب». ومن رجع عنها لضعف ووهن، مع بقاء الاعتقاد والتسليم، فربما تقع الشفاعة منهم فيلحق بهم، بخلاف الأول، فقد تقدم عن القشيري، في سورة آل عمران، أنهم يريدون الشفاعة فيه، فيخلق الله صورة على مثله، فإذا رأوها تركوا الشفاعة فيه، فيبقى مع عوام أهل اليمين. فانظره «١». وبالله التوفيق.
(١) راجع إشارة الآية ٩٠ من سورة آل عمران.
363
ثم عاتبهم على تأخر بعضهم عن الجهاد، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٦]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)
قلت: «أم» : منقطعة، بمعنى الهمزة للإنكار والتوبيخ على الحسبان، والخطاب للمؤمنين أو المنافقين، والوليجة: البطانة والصحبة.
يقول الحق جلّ جلاله: أَمْ حَسِبْتُمْ أي: أظننتم أَنْ تُتْرَكُوا من غير اختبار، وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ أي: ولم يتبين الخلَّص منكم، وهم الذين جاهدوا، من غيرهم، والمراد: علمَ ظهور، أي:
أظننتم أن تتركوا ولم يظهر منكم المجاهد من غيره. قال البيضاوي: نفى العلم، وأراد نفي المعلوم للمبالغة، فإنه كالبرهان عليه من حيث إن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه. هـ. بل يختبركم حتى يظهر الذين جاهدوا منكم.
وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً بطانة، أي: جاهدوا، وأفردوا محبتهم لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يتخذوا من دونهم بطانة، أي: أصحاب سرٍ يوالونهم ويبثون إليهم أسرارهم، بل اكتفوا بمحبة الله ومودة رسول الله والمؤمنين، دون موالاة من عاداهم، والتعبير ب (لما) : يقتضي أن ظهورَ ذلك متوقع، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ: تهديد لمن يفعل ذلك.
الإشارة: إفراد المحبة لله ولأولياء الله من أعظم القربات إلى الله، وأقرب الأمور الموصلة إلى حضرة الله، والالتفات إلى أهل الغفلة بالصحبة والمودة، من أعظم الآفات والأسباب المبعدة عن اللهِ، والعياذ بالله. وفي الحديث: «المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيله». و «المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ»، و «مَنْ أحب قوما حشر معهم.» إلى غير ذلك من الآثار في هذا المعنى.
ثم نهى عن دخول المشركين المساجد، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٧ الى ١٨]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
364
يقول الحق جلّ جلاله: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أي: ما صح لهم أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ أي: شيئاً من المساجد، فضلاً عن المسجد الحرام، وقيل: هو المراد، وإنما جمع لأنه قبلة المساجد وإمامها، فأمره كأمرها، ويدلّ عليه قراءة مَن قرأ بالتوحيد، أي: ليس لهم ذلك، وإن كانوا قد عمروه تغلباً وظلماً، حال كونهم شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ بإظهار الشرك وتكذيب الرسول، أي: ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متباينين:
عمارة بيت الله، وعبادة غير الله، أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ في الدنيا والآخرة لما قارنها من الشرك والافتخار بها، وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ لأجل كفرهم.
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ، أي: إنما تستقيم عمارتها بهؤلاء الجامعين للكمالات العلمية والعملية، ومن عمارتها: تزيينها بالفرش، وتنويرها بالسرج، وإدامة العبادة والذكر ودروس العلم فيها، وصيانتها مما لم تبن له كحديث الدنيا.
وعن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: قال الله تعالى: «إِنَّ بُيُوتِي في أَرْضِي المَسَاجدُ، وإنَّ زُوَّاري فيهَا عُمَّارُهَا، فَطُوبى لعَبْدٍ تَطَهَّرَ في بَيْتِهِ، ثُمَّ زَارَني في بَيْتِي، فَحَقٌ عَلَى المَزُوِر أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَه». ووقف عبد الله بن مسعود على جماعة في المسجد يتذاكرون العلم فقال: بأبي وأمي العلماء، بروح الله ائتلفتم، وكتاب الله تلوتم، ومسجد الله عمرتم، ورحمة الله انتظرتم، أحبكم الله وأحب من أحبكم. هـ.
وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم لما علم أن الإيمان بالله قرينُه وتمامه الإيمانُ به، ولدلالة قوله: وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ عليه. قاله البيضاوي.
وَلَمْ يَخْشَ في أموره كلها إِلَّا اللَّهَ، فهذا الذي يصلح لعمارة بيت الله، فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، وعبَّر بعسى، قطعاً لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم، وتوبيخاً لهم على القطع بأنهم مهتدون فإن كان اهتداء هؤلاء، مع كمالهم، دائرا بين عسى ولعل، فما ظنك بأضدادهم؟، ومنعاً للمؤمنين أن يغتروا بأحوالهم فيتكلوا عليها. وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَتَعَاهَدُ المسجِد فاشهدوا لَهُ بالإيمان»، ثم تلا الآية «١».
الإشارة: مساجد الحضرة محرمة على أهل الشرك الخفي والجلي، لا يدخل الحضرة إلا قلب مُفرد، فيه توحيد مجرد، لا يعمر مساجد الحضرة ألا قلب مطمئن بالله، غائب عما سواه، قد رفض الركون إلى الأسباب، وأفرد
(١) أخرجه الترمذي فى (التفسير- سورة التوبة) وابن ماجه فى (المساجد- باب لزوم المساجد وانتظار الصلاة) والدارمي فى (الصلاة- باب المحافظة على الصلوات) من حديث أبي سعيد الخدري.
365
الوجهة لمسبب الأسباب، قطع الشواغل والعلائق حتى أشرقت أنوار الحقائق. إنما يعمر مساجد حضرة القدوس من آمن بالله واليوم الآخر، وأقام صلاة القلوب، وآتى زكاة النفوس، ولم يراقب أحداً من المخلوقين، فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين إلى حضرة رب العالمين.
ولما افتخر قوم من قريش بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، بيّن الله تعالى أن الجهاد أفضل من ذلك، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
قلت: السقاية والعمارة: مصدران، فلا يشبهان بالجثة، فلا بد من حذف، أي: أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن، أو أجعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن.
يقول الحق جلّ جلاله: أَجَعَلْتُمْ أهل سِقايَةَ الْحاجِّ، وَأهل عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ من أهل الشرك المحبطة أعمالُهم، كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ من أهل الإيمان، وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة الله، المثبتة أعمالهم، بل لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ أبداً لأن أهل الشرك الذين حبطت أعمالهم في أسفل سافلين، إن لم يتوبوا، وأهل الإيمان والجهاد في أعلى عليين.
ونزلت الآية في علي- كرم الله وجهه- والعباس وطلحة بن شيبة، افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت، وعندي مفاتحه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية، وقال على رضى الله عنه: لقد أسلمت وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فبيَّن الله تعالى أن الإيمان والجهاد أفضل، ووبخ من افتخر بغير ذلك فقال: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: الكفرة الذين ظلموا أنفسهم بالشرك ومعاداة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وداموا على ذلك، وقيل: المراد بالظالمين: الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين.
ثم أكّد ذلك بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً، وأعلى رتبة، وأكثر كرامة، عِنْدَ اللَّهِ، ممن لم يستجمع هذه الصفات، أو من أهل السقاية والعمارة عندكم،
وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ بكل خير، الظافرون بنيل الحسنى والزلفى عند الله، دون من عداهم ممن لم يفعل ذلك.
ثم زاد في كرامتهم فقال: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ أي: تقريب وعطف منه وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها أي: في الجنان نَعِيمٌ مُقِيمٌ دائم، لانفاد له ولا انقطاع. وتنكير المبشر به إشعار بأنه وراء التعيين والتعريف، حال كونهم خالِدِينَ فِيها أَبَداً، أكد الخلود بالتأبيد لأنه قد يطلق على طُول المكث، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يُستحقر دونه مشاق الأعمال المستوجبة له، أو نعيم الدنيا إذ لا قدر له في جانب نعم الآخرة.
الإشارة: لا يستوي من قعد في وطنه مع عوائده وأسبابه، راكناً إلى عشائره وأحبابه، واقفاً مع هواه، غافلاً عن السير إلى مولاه، مع من هاجر وطنَه وأحبابَه، وخرق عوائده وأسبابه، وجاهد نفسه وهواه، سائراً إلى حضرة مولاه، لا يستوون أبداً عند الله لأن هؤلاء مقربون عند لله، والآخرون في محل البعد عن الله، ولو كثر علمهم وعملهم عند الله، شتان بين من همته القصور والحور، وبين من همته الحضور ورفع الستور، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان، وجنات المعارف لهم فيها نعيم لأرواحهم، وهو الشهود والعيان، لا يحجب عنهم طرفة عين، إن الله عنده أجر عظيم، لا يخطر على قلب بشر. لا حرمنا الله من ذلك.
ثم نهى عن موالاة أهل الغفلة وإن قربوا نسبا، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ الذين بقوا على كفرهم أَوْلِياءَ توالونهم بالمحبة والطاعة، إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ واختاروه على الإيمان. نزلت في شأن المهاجرين فإنهم لما أُمروا بالهجرة قالوا: إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا، وذهبت تجارتنا، وبقينا ضائعين. وقيل: نزلت فيمن ارتد ولحق بمكة، فنهى الله عن موالاتهم. وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بوضعهم الموالاة في غير موضعها.
367
قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ أي: أصحابكم، أو أقرباؤكم، وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها اكتسبتموها، وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها أي: فوات وقت إنفاقها، وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها لحسنها وسعتها، فإن كان ذلك أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: من الإيمان بالله وصحبة رسوله، وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ، فآثرتم ذلك، وتخلفتم عن الإيمان والهجرة، فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أي: بعقوبة عاجلة أو آجلة، أو بنصر وفتح على المؤمنين، كفتح مكة وغيرها، والمراد بالمحبة: الاختيارية دون الطبيعة فإنها لا تدخل تحت التكليف، والتحفظ عنها لأن حب الأوطان والعشائر طبيعي، والحب المكلف به اختياري، بحيث يجاهد نفسه في إبدال الطبيعي بالاختياري.
ثم هدد من وقف مع حب الأوطان بقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ لا يرشدهم ولا يوفقهم. وفي الآية تهديد عظيم، وقلَّ من تحفظ عنه. قاله البيضاوي.
الإشارة: الهجرة من أوطان الغفلة واجبة، ومفارقة الأصحاب والعشائر الذين لا يوافقون العبد على النهوض إلى الله فريضة، فيجب على المريد أن يهاجر من البلد التي لا يجد فيها قلبه، ولا يجد فيها من يتعاون به على ربه، كائنة ما كانت، وما رأينا ولياً قط أنتج في بلده، إلا القليل، فلما هاجر صلّى الله عليه وسلّم من وطنه إلى المدينة. وحينئذ نصر الدين، بقيت سنة في الأولياء، لا تجد ولياً يعمر سوقُه إلا في غير بلده، ويجب عليه أيضاً أن يعتزل مَن يشغله عن الله من الآباء والأبناء والأزواج والعشائر، وكذلك الأموال والتجارات التي تشغل قلبه عن الله، بعد أن يقيم في أولاده حقوق الشريعة، فاللبيب هو الذي يجمع بين الحقيقة والشريعة، فلا يضيع من يعول، ولا يترك حق من يتعلق به من الزوجة أو غيرها، ويذكر الله مع ذلك، فيخالطهم بحسه، ويفارقهم بقلبه، فإن لم يستطع وأراد دواء قلبه فليخير الزوجة، ويُوكل من ينوب عنه في القيام بحقوق العيال، حتى يقوى قلبه ويتمكن مع ربه، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ «١».
ولإبراهيم بن أدهم رضى الله عنه:
هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرّاً في رِضاكَا وأَيْتَمْتُ البَنينَ لِكَيْ أَرَاكَا
فَلَوْ قَطَّعْتَني إِرْباً فَإرْباً لِمَا حنَّ الفُؤَادُ إِلَى سِوَاكَا
وبالله التوفيق
(١) الآيتان: ٢- ٣ من سورة الطلاق.
368
ثم ذكّرهم بالنعم، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
قلت: (ويوم حنين) : عطف على (مواطن)، أو منصوب بفعل مضمر، وهذا أحسن لأن قوله: (إذ أعجبتكم كثرتكم) خاص بيوم حنين. انظر: ابن جزي.
يقول الحق جلّ جلاله، في تذكيرهم بالنعم: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ أي: في مواقف الحرب ومداحضها في مواضع كثيرة، وَنصركم أيضاً يَوْمَ حُنَيْنٍ، وهي غزوة كانت بعد فتح مكة، متصلة بها، في موضع يقال له: حنين، سمي باسم رجل كان يسكنه، وهو وادٍ بين مكة والطائف، حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمون، وكانوا اثني عشر ألفاً: عشرة آلاف من الذين حضروا فتح مكة، وألفان انضموا إليهم من الطلقاء، قاتلوا هوازن وثقيف ومن انضم إليهم من قبائل العرب. وكانوا ثلاثين ألفاً، فلما التقوا مع بعض المشركين قال بعض المسلمين: لن نُغلَبَ اليوم من قلة، إعجاباً بكثرتهم، واقتتلوا قتالاً شديداً، فأدرك المسلمين إعجابهم، واعتمادهم على كثرتهم، فانهزموا حتى وصل جُلهم إلى مكة، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مركزه، ليس معه إلا عمه العباس، آخذاً بلجامه، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وناهيك شهادة على تناهي شجاعته صلّى الله عليه وسلّم، فقال للعباس- وكان صيِّتاً-: صِحْ بالناس، فنادى: يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقاً واحداً، يقولون: لبيك لبيك، ونزلت الملائكة، فالتقوا مع المشركين، فقال- عليه الصلاة والسلام-: هذا حين حَمِي الوَطيس «١»، ثم أخذ كفاً من تراب فرماهم، وقال: شاهت الوجوه، ثم قال: انهزموا وربّ الكعبة، فانهزموا «٢».
(١) الوطيس: حفرة تحتقر تحت الأرض، فتوقد فيها النار ويصغّر رأسها، ويخرق فيها خرق للدخان. ثم يوضع فيها اللحم، ويسد، ثم يؤتى من الغد واللحم غاب لم يحترق، ولحمها شواء، وهى مجاز فى شدة الحرب.
(٢) أخرجه بنحوه مسلم فى (الجهاد- باب غزوة حنين) من حديث سيدنا العباس رضى الله عنه.
369
فأشار تعالى إلى مقالتهم معاتباً لهم عليها بقوله: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً أي: فلم تُغن تلك الكثرة عنكم شيئاً من الإغناء، أو من أمر العدو. وهذه المقالة صدرت من غير النبي صلى الله عليه وسلّم كما تقدم لأنه معصوم من الإعجاب، وإن ثبت أنه قال ذلك فليس على وجه الإعجاب، بل على وجه الإخبار، وعلى ذلك جرى الحكم في المذهب: من حرمة الفرار عند بلوغ اثني عشر ألفاً، وكان المسلمون يومئذ اثني عشر ألفاً بالطلقاء وهم مسلمة الفتح: وكانوا ألفين، وسُموا بالطلقاء لمنّ النبي صلى الله عليه وسلّم عليهم، يقال لمن أطلق من أسر: طليق، وجمعه على طلقاء نادر لأنه يشترط في فعيل، الذي يجمع على فعلاء، أن يكون بمعنى فاعل، كظريف وشريف، لا بمعنى مفعول، كدفين ودفنى، وسخين وسخنى، ومنه. طليق.
ثم قال تعالى: وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ برحبها، أي: ضاقت على كثرة اتساعها، فلم تجدوا فيها مكاناً تطمئن إليه نفوسكم من الدهش، ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ هاربين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي: طمأنينته عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ بعد انهزامهم، فرجعوا وقاتلوا، أو على من بقي مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولم يفروا. وإعادة الجار للتنبيه على اختلاف حالهما.
وَأَنْزَلَ جُنُوداً من الملائكة لَمْ تَرَوْها بأعينكم، وكانوا خمسة آلاف، أو ثمانية، أو ستة عشر، على اختلاف الأقوال. وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر والسبيٍ، وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ أي: ما فعل بهم هو جزاء كفرهم في الدنيا، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ منهم، بالتوفيق للإسلام، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يتجاوز عنهم ويتفضل عليهم بالتوفيق والهداية.
رُوي أن أناساً منهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأسْلَمُوا، وقالوا: يا رسولَ الله، أنْتَ خيرُ الناس وأبرهم، وقد سُبي أهلُونا وأولادُنا، وأُخِذَتْ أموالُنَا- وقد سُبي يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى، فقال:
«اختاروا، إما سَبْيكُمْ، وإما أمْوالَكُم». فقالوا: ما كنّا نعدل بالأحساب شيئاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنّ هؤلاء جاءونا تائبين، وأنا خيّرتهم بين الذّرارى والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئأً، فمنْ كان بيَدِهِ سبي فطابتْ نفسُهُ أنْ يرُدَّهُ فشأنُهُ، ومن لا، فليعطنا، وليكن قرضا علينا حتَّى نُصيب شيئاً فنُعطِيِه مثله»، فقالوا: رضينا وسَلَّمنا، فقال: «إنِّي لا أدري، لَعَلَّ فِيكُمْ مَنْ لا يَرضَى، فارجعوا حتى يرفع إلىّ عرفاؤكم أمرَكم» فرفعوا إليه أمْرَهمْ، وقالوا: قد رضُوا، فردَّ السبي إليهم، وقسم الأموال في المؤلفة قلوبهم «١»، ترغيباً في تسكين قلوبهم للإسلام. والغزوة مطولة في كتب السيرة، والله تعالى أعلم.
(١) القصة أخرجها البخاري فى (المغازي باب قول الله تعالى: ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم) عن عروة عن المسور ومروان.
370
الإشارة: لقد نصركم الله، يا معشر المريدين، على جهاد نفوسكم وتيسير أموركم، في مواطن كثيرة، إذا رجعتم إلى ربكم، واعتزلتم من حولكم وقوتكم في جميع أموركم، فمن علامة النجاح في النهاية الرجوع إلى الله في البداية، ما تعذر مطلب أنت طالبه بربك، ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك. فمن رجع إلى نفسه، أو استند إلى عقله وحدسه، لم تغن عنه شيئاً، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، ورجع من حيث جاء، فإن انتبه، ورجع إلى ربه، أنزل سكينة عليه، وأيده باليقين، ورجا أن يدرك أمله من رب العالمين.
قال الورتجبي: قوله تعالى: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله)، سكينته- عليه الصلاة والسلام- زيادة أنوار كشف مشاهدة الله، له، حين خاف من مكر الأزل، فأراه الله اصطفائيته الأزلية، وأمنة من مكره، لا أنه ينظر من الحق إلى نفسه طرفة عين، لكن إذا غاب في بحر القدم لم ير للحدث اثراً، ورأى الحدثان متلاشية في فيض العظمة، ففزع منه به، فآواه الله منه إليه، حتى سكن به عنه. هـ.
ثم أمر بمنع المشركين من دخول البيت الحرام، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ أي: عين الخبث، مبالغة في خبثهم، إما لخبث باطنهم بالكفر، أو لأنهم لا يتطهرون من النجاسات، ولا يتوقون منها، فهم ملابسون لها غالباً.
وعن ابن عباس رضى الله عنه: أن أعيانهم نجسة كالكلاب. قاله البيضاوي. فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ، وهو نص على منع المشركين- وهم عبدة الأوثان- من المسجد الحرام، وهو مجمع عليه، وقاس مالك على المشركين جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، وقاس على المسجد الحرام سائر المساجد، ومنع جميع الكفار من جميع المساجد.
وجعلها الشافعي عامة في الكفار، خاصةً بالمسجد الحرام، فمنع جميع الكفار من دخول المسجد الحرام خاصة، وأباح دخول غيره، وقصرها أبو حنيفة على موضع النهي، فمنع المشركين خاصة من دخول المسجد الحرام وأباح لهم دخول سائر المساجد، وأباح دخول أهل الكتاب في المسجد الحرام وغيره. قاله ابن جزي.
قوله تعالى: بَعْدَ عامِهِمْ هذا يعني: سنة تسع من الهجرة، حين حج أبو بكر بالناس، وقرأ علىّ رضى الله عنه عليهم سورة براءة.
وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي: فقرأ بسبب منع المشركين من الحرم، وكانوا يجلبون لها الطعام، فخاف الناس قلة القوت منها، إذا انقطع المشركون عنهم، فوعدهم الله بالغنى بقوله: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من عطائه وتفضله بوجه آخر، وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدراراً، وأسلمت العرب كلها، وتمادى جلب الطعام إلى مكّة، ثم فتح عليهم البلاد، وجلبت لهم الغنائم، وتوجه الناس إليهم من أقطار الأرض، وما زال كذلك إلى الآن.
وقيده بالمشيئة لتنقطع الآمال إلى الله، ولينبه على أنه متفضل في ذلك، وإن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض، وفي عام دون عام، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوالكم، حَكِيمٌ فيما يعطي ويمنع.
الإشارة: بيوت الحضرة- وهي القلوب المقدسة- لا ينبغي أن يدخلها شيء من شرك الأسباب، أو الوقوف مع رفق الأصحاب، أو الركون إلى معلوم حتى يفرد التعلق بالحي القيوم، ولا ينبغي أيضاَ أن يدخلها شيء من نجاسة حس الدنيا وأكدارها وأغيارها، فيجب على أربابها الفرار من مواطن الكدر، والعزلة عن أربابها لئلا يدخل فيها شيء من نجاستها، فتموت بعد حياتها، وكان عيسى- عليه الصلاة والسلام- يقول لأصحابه: (لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم، قالوا: من الموتى يا روح الله؟ قال: المحبون للدنيا الراغبون فيها). فإن خفتم عيلة بالفرار منهم واعتزال نجاستهم، فسوف يغنيكم الله من فضْلِ غَيْبه إن شاء، في الوقت الذي يشاء، إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. والله تعالى أعلم.
قال القشيري: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ أي: لأنهم فقدوا طهارة الأسرار، فبقوا في مزابل الظنون والأوهام، فَمُنِعُوا قُربانَ المساجد التي هي مساجدُ القرب، وأما المؤمنون فطهَّرهم عن التدنُّس بشهود الأغيار، فطالعوا الحقَّ فردا فيما ينشيه من الأمر ويُمضيه من الحُكم. هـ.
ثم أمر بجهاد أهل الكتاب، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٩]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)
يقول الحق جلّ جلاله للمؤمنين: قاتِلُوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ على ما يجب له، لإشراكهم عُزير وعيسى، ولتجسيمهم، وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لأنهم ينكرون المعاد الجسماني،
372
فإيمانهم في الجانبين كلا إيمان، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ محمّد صلّى الله عليه وسلّم لأنهم يحلون الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير، وغير ذلك مما حرمته الشريعة المحمدية، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي: لا يدخلون في الإسلام، الذي هو الدين الحق، الناسخ لسائر الأديان ومبطلها.
ثم بيَّن الذين أّمر اللَّهُ بقتالهم بقوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وهم اليهود والنصارى. وحين نزلت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم لغزوة تبوك لقتال النصارى، ووصل إلى أوائل بلد العدو، فصالح أهل أدرج وأيلة، وغيرهما، على الجزية وانصرف، وذلك امتثال للآية.
قال تعالى: فقاتلوهم حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ أي: ما تقرر عليهم أن يعطوه، وقدْرها عند مالك: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الورق، يؤخذ ذلك من كل رأس، واتفق العلماء على قبول الجزية من اليهود والنصارى، ويلحق بهم المجوس لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» «١» لأن لهم شبهة كتاب، فألحقوا بهم. واختلفوا في قبولها من عَبدة الأوثان قال مالك: تؤخذ من كل كافر إلا المرتد، ولا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين.
وقوله تعالى: عَنْ يَدٍ أي: يباشر إعطاءها بيده، لا يبعثها مع أحد، أو لا يمطل بها، كقولك: يداً بيد، أو عن استسلام وانقياد، كقولك: ألقى فلان بيده. وَهُمْ صاغِرُونَ أذلاء محقورون. وعن ابن عباس رضى الله عنه: تؤخذ الجزية من الذمي، وتوجأ عنقه، أي: تصفع.
الإشارة: يؤمر المريد بقتل نفسه وحظوظه وهواه، وأعظمها: حب الدنيا والرئاسة والجاه، ولا يزال يخالف هواها، ويعكس مراداتها، ويحملها ما يثقل عليها، حتى تنقاد إليه بالكلية، بحيث لا يثقل عليه شيء، ويستوي عندها العز والذل، والفقر والغنى، والمدح والذم، والمنع والعطاء، والفقد والوجد، فإن استوت عندها هذه الأحوال فقد أسلمت وأعطت ما يجب عليها، فيجب حفظها ورعايتها، وتصديقها فيما يرد عليها. وبالله التوفيق.
ثم ذكر الباعث على جهاد أهل الكتاب، وهو فساد اعتقادهم، فقال:
(١) أخرجه مالك فى الموطأ (الزكاة، باب جزية أهل الكتاب والمجوس) والشافعي فى مسنده (الجزية) والبيهقي فى السنن الكبرى (٩/ ١٨٩)، والبغوي فى شرح السنة (١١/ ١٦٩) عن عبد الرحمن بن عوف.
373

[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]

وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
قلت: (عزيز) :(مبتدأ)، و (ابن الله) : خبر، فمن نونه جعله مصروفاً لأنه عنده عربي، ومن حذف تنوينه:
إما لمنعه من الصرف للعلمية والعجمة عنده، وإما لالتقاء الساكنين تشبيهاً للنون بحروف اللين، وهو ضعيف، والأول أحسن.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، قال ابن عباس: هذه المقالة قالها أربعة منهم، وهم: سَلامُ بن مُشْكم، ونُعْمَانُ أو لُقْمَانُ بْنُ أَوفَى، وشَاسُ بنُ قَيس، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ «١». وقيل: لم يقلها إلا فنحاص، ونسب ذلك لجميعهم لسكوتهم عنه. قال البيضاوي: إنما قال ذلك بعضهم من متقدميهم، أو ممن كانوا بالمدينة، وإنما قالوا ذلك لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة، وهو- أي عزير- لما أحياه الله بعد مائة عام، أملى عليهم التوراة حفظاً، فتعجبوا من ذلك، وقالوا: ما هذا إلا أنه ابن الله، والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قُرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب. هـ.
وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، هو أيضاً قول بعضهم، وإنما قالوه استحالة أن يكون الولد بلا أب، أو لما كان يفعل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وتقدم الرد عليهم، وسبب إدخال هذه الشبهة عليهم، في سورة المائدة. «٢»
قال تعالى: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ من غير دليل ولا برهان، بل قالوا به من عندهم يُضاهِؤُنَ أي: يشابهون في هذه المقالة قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ، يعني: قدماءهم، على معنى أن الكفر قديم فيهم.
قال ابن جزي: فإن كان الضمير لليهود والنصارى، أي: المتقدمين، فالإشارة بقوله: (الذين كفروا من قبلُ) للمشركين من العرب، إذ قالوا: الملائكة بنات الله، وهم أول كافر، أو للصابئين، أو لأمم تقدمت، وإن كان الضمير للمعاصرين للنبى صلّى الله عليه وسلّم من اليهود والنصارى، فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون. هـ.
(١) انظر تفسير البغوي (٤/ ٣٦).
(٢) عند تفسير قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ... الآية ٧٢.
374
قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي: أهلكهم ودمرهم لأن من قاتله الله هلك، فيكون دعاء، أو تعجباً من شناعة قولهم، أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي: كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل.
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ أي: علماءَهم وَرُهْبانَهُمْ عُبَّادَهم أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن أطاعوهم في تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، وفي السجود لهم، وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ بأن جعلوه ابن الله، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً وهو الله الواحد الحق، وأما طاعة الرسول- عليه الصلاة والسلام- وسائر من أمر بطاعته، فهو في الحقيقة طاعة لله، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير للتوحيد، سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيهاً له عن أن يكون معه شريك.
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا أي: يُخمدوا نُورَ اللَّهِ القرآن أو الإسلام بجملته، بِأَفْواهِهِمْ كقولهم فيه:
سحر، وشعر، وغير ذلك، وفيه إشارة إلى ضعف حيلتهم فيما أرادوا، وَيَأْبَى اللَّهُ لا يرضى إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بإعلاء التوحيد، وإظهار الإسلام، وإعزاز القرآن وأهله، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ذلك، فإن الله لا محالة يُتم نوره، ويظهر دينه.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى الله عليه وسلّم بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، الضمير في «يُظهره» : للدين الحق، أو للرسول صلّى الله عليه وسلّم، واللام في «الدين» : للجنس، أي: على سائر الأديان فينسخها، أو على أهلها فيخذلهم، وقد أنجز وعده، وأظهر دينه ورسوله على الأديان كلها، حتى عم المشارق والمغارب، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ذلك الإظهار، فيظهره الله رغما عن أنفهم. وقيل: يتحقق ذلك عند نزول عيسى عليه السلام، حتى لا يبقى دين إلا دين الإسلام، والله تعالى أعلم.
الإشارة: من انطمس نور بصيرته نسب لله ما لا يليق بكمالاته، ومن لم تنهضه سوابق العناية وقف مع الوسائط، ولم ينفذ إلى شهود الموسوط، وقد عيَّر الله قوماً وقفوا مع الوسائط فقال: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وقال، في شأن الواسطة العظمى غيرةً على القلوب أن تقف مع غيره: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ «١»، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ «٢»، ودخل بعض العارفين على إنسان وهو يبكي، فقال: وما يبكيك؟ فقال له: مات أستاذي، فقال له ذلك العارف: ولم جعلت أستاذك من يموت؟.
فالوسائط كالأنبياء والأولياء، إنما هم مُوَصِّلونَ إلى الله، دالون عليه، فمن وقف معهم ولم ينفذ إلى الله فقد اتخذه رباً عند الخواص.
(١) من الآية ١٢٨ من سورة آل عمران.
(٢) من الآية ١٢ من سورة هود.
375
وقال الورتجبي على هذه الآية: عيَّر الحق تعالى من بقي في رؤية المقتدَى به دون رؤية الحق، وإن كان وسيلة منه، فإن في إفراد القدم من الحدوث، النظر إلى الوسائط، وهو شرك، وتصديق ذلك تمام الآية وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً. غَيرهُ الوحدانية ما أبقت في البَيْن غيراً من الشواهد والآيات وجميع الخلق. قال الله تعالى:
قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ «١». ولما رأى صلّى الله عليه وسلّم غيره القدم على شأن استهلاك الغير زجر من مدحه وتجاوز في المدح فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح».
ثم قال الورتجبي: قال بعضهم في هذه الآية: سكنوا إلى أمثالهم، فطلبوا الحق من غير مظانه، وطُرق الحق واضحة لمن كحل بنور التوفيق، وبصر سبل التحقيق، ومن أعمي عن ذلك كان مردوداً عن طريق الحق إلى طرق الضالين من الخلق، وقد وقع أنهم معيرون وموبخون بقلة عرفانهم أهل الحقائق، وركونهم إلى أهل التقليد، وسقطوا عن منازل أهل التوحيد في التفريد، وهكذا شأن من اقتدى بالزّواقين من أهل السالوس المتزينين بزي المشايخ والعارفين المتحققين، وتخلفَ خلفَ الجامعين للدنيا، الذين يقولون: نحن أبناء المشايخ ونحن رؤساء الطريقة، يُضْحك اللهُ الدهرَ من جهلهم حيث علموا أن الولاية بالنسب، حاشا أن من لم يُذق طعمِ وِصال الله، وقلبُه معلق بغير الله، هو مَنْ أولياء الله.
قال الجنيد: إذا أراد الله بالمريد خيراً هداه إلى صحبة الصوفية، ووقاه من صحبة القراء. ولو اشتغلوا بشأنهم وجمع دنياهم، ولم يتعرضوا لأولياء الله، ولم يقصدوا إسقاط جاههم، لكفيهم شقاوتهم، لا سيما ويطعنون على الصديقين العارفين. قال الله في شأنهم: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ، كيف تطفأ بتراب حسبانهم أنوارُ شموس الصفات، التي تبرز من جباه وجوههم، ولئالىء خدودهم، وأصلها ثابت في أفلاك الوحدانية وسموات القيومية، ويزيد نورهم على نور لأنه تعالى بلا نهاية ولا منتهى لصفاته.
قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ) : إن الله سبحانه سن سنة أزلية: ألا يجد أحدٌ سبيله إلا من يقُيض له أستاذاً عارفاً بالله، وبسِّر دينه وربوبيته، فيدله إلى منهاج عبوديته، ومعارج روحه وقلبه، إلى مشاهدة ربوبيته، ويكون هو واسطة بينه وبين الله، وإن كان الفضل بيد الله، يُؤتيه من يشاء بغير علة ولا سبب، جعله واسطة للتأديب لا للتقريب، وصيره شفيعاً للجنايات، لا شريكاً في الهدايات، هداه نور القرآن، وبيّنه حقيقة البيان، مع إظهار البرهان. قيل: جعل الله الوسائط طريقاً لعباده إليه، وبعثهم أعلاماً على الطرق ونوراً يهتدى بهم، وعرفهم سبل الحق وحقيقة الدين، قال الله تعالى: (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ). انتهى كلامه.
(١) من الآية ٩١ من سورة الأنعام.
376
ثم ذكر مساوئ الأحبار والرهبان، تنفيرا من طاعتهم، وذما لمن اتخذهم أربابا، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)
قلت: (يحمى عليها) : الجار والمجرور: نائب الفاعل، وأصله: يوم تحمى النار الشديدة الحمى عليها، فجعل الإحماء للنار مبالغةً، ثم حذفت النار، وأسند الفعل إلى الجار والمجرور تنبيهاً على المقصود، فانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التذكير.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ يأخذونها بالرشا في الأحكام، وسَمى أخذ المال أكلاً لأنه الغرض الأعظم منه، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: يعوقون الناس عن الدخول في دينه، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أي: يدخرونها وَلا يُنْفِقُونَها أي: الأموال المفهومة من الذهب والفضة، أو الكنوز، أو الفضة، واكتفى بذكرها عن الذهب إذ الحُكم واحد، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ وهو الكي بها، وهذا الحكم يحتمل أن يرجع لكثير من الأحبار والرهبان، فيكون مبالغة في وصفهم، بالحرص على المال وجمعه، وأن يراد به المسلمون الذين يجمعون الأموال، ويقتنونها ولا يؤدون حقها، ويكون اقترانه بأكلة الرشا من أهل الكتب للتغليظ. ويدل عليه: أنه لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: «إِنَّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيِّبَ بها ما بقي من أموالكم.» «١»
وقوله- عليه الصلاة والسلام-: «ما أدى زَكَاته فَلَيْسَ بِكَنْز» «٢». وقال أبو ذر وجماعة من الزهاد: كل ما فضل عن حاجة الإنسان فهو كنز، وحمل الآية عليه.
(١) أخرجه أبو داود فى (الزكاة، باب فى حقوق المال) والحاكم فى المستدرك (١/ ٤٠٩) من حديث ابن عباس، والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي. [.....]
(٢) أخرجه البيهقي فى الكبرى (كتاب الزكاة ٤/ ٨٣) وابن عدى فى الكامل فى (ترجمة سويد بن عبد العزيز ٣/ ١٣٦٢) من حديث ابن عمر مرفوعا وأخرجه موقوفا البخاري (٢/ ٢٧١).
377
ثم ذكر وعيدهم فقال: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها أي: على الأموال المكنوزة فِي نارِ جَهَنَّمَ أي: يوم توقد النار ذات الحمى الشديد عليها، حتى تكون صفيحة واحدة، فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ، خصهم بالعذَاب، لأنهم كانوا يعرضون عن السائل، ويُولون ظهره، فيعرضون عنه بجباههم وجنوبهم. أو لأنها أشرف الأعضاء، لاشتمالها على الدِّماغ والقلب والكبد. أو لأنها أصول الجهات الأربع، التي هي مقادم الإنسان مؤخره وجنبتاه.
يقال لهم: هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي: لمنفعتها، وكان عينَ مضرتها وسببَ تعذيبها، فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي: وبال كنزكم، أو ما كنتم تكنزونه. وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا مِنْ صَاحِب ذهبٍ ولا فضْةٍ لا يُؤدِّي منها حقّها إلاّ إذا كان يومُ القيامة صُفحت له صفائح من نَار، فأحمى عليها فى نار جهنم، فيُكوى بها جبينُه وجنبه وظهرُه، كلما بردت أُعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، فيرى سبيله: إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار». رواه مسلم بطوله «١».
قال ابن عطية: رُوي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم قالوا: قد ذم الله تعالى كسب الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير حتى نَكْسبه؟ فقال عمر: أنا أَسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فسأله، فقال: «لِسان ذاكر، وقلب شَاكر، وزَوْجَة تُعينُ المرء على دينهِ» «٢». ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال، لما نزلت الآية: «تَبّاً للذَّهَبِ والفِضَّةِ» «٣». فحينئذٍ أشفق أصحابه، وقالوا ما تقدم. هـ. ولابن حجر:
من خير ما يتخذ الإنسانُ في دنياه كيما يستقيمَ دينُه.
قلبٌ شكور، ولسانٌ ذاكر، وزوجةٌ صالحة تُعينُه.
وهو نظم لهذا الحديث، وقد تكلم عليه فى الجامع وشرحِه. قاله المحشي.
الإشارة: هذه الآية تغبُر في وجوه علماء السوء، الذين يتساهلون في أكل الدنيا بالعلم، كقبض الرشا، وقبض ما فوق أجرته في الأحكام، فترى بعض قضاة الجور يقبضون المثاقيل على إنزال يده على الحكم، مع أنه واجب عليه، حيث تعين عليه بنصب الإمام له، وتجر ذيلها على أغنياء الدنيا، الذين يجمعون الأموال ويكنزونها، فترى
(١) أخرجه مسلم فى (الزكاة، باب إثم مانع الزكاة) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٥/ ٢٧٨- ٢٨٢) والترمذي فى (التفسير- سورة التوبة) وابن ماجه فى (الكفاح باب أفضل النساء) عن ثوبان.
(٣) أخرج هذه الرواية الإمام أحمد فى المسند (٥/ ٣٦٦) عن عبد الله بن أبي الهذيل.
378
أحدهم ينفق في نزهته وشهوة نفسه الأموال العريضة، وإذا أتاه فقير يسأله درهماً أو درهمين، تَمَعَّر «١» وجهه، وتغير لونه، فبشرهم بعذاب أليم. وبالله التوفيق.
ولمّا ذكر وعيد من لم يزك كنزه، ذكر الحول التي تجب به الزكاة، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٦]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦)
قلت: (عند الله) : معمول لعدة لأنها مصدر، و (في كتاب الله) : صفة لاثني عشر، و (يوم) : متعلق بالثبوت المقدر في الخبر، أي: ثابتة في كتاب الله يوم خلق الأكوان والزمان، وقوله: (منها) : أي: الأشهر، ثم قال: (فيهن).
وضابط الضمير إن عاد على الجماعة المؤنثة، حقيقة أو مجازاً، إن كانت أكثر من عشرة، قلتَ: منها وفيها، وإن كانت أقل من عشرة، قلت: منهن وفيهن، قال تعالى: يَأْكُلُهُنَّ «٢» وقال هنا: (فيهن). انظر الإتقان. و (كافة) :
حال من الفاعل أو المفعول.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ في كل سنة عِنْدَ اللَّهِ في علم تقديره، اثْنا عَشَرَ شَهْراً: أولها المحرم، وآخرها ذو الحجة. وأول من جعل أولها المحرم: عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
وهذه العدة ثابتة فِي كِتابِ اللَّهِ اللوح المحفوظ، أو في حكمه، أو القرآن، يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، أي: هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة، مِنْها أي: الأشهر أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ واحد فرد، وهو رجب، وثلاثة سَرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: تحريم الأشهر الحرم هو الدين القويم، دين إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلام- وتمسكت به العرب حتى غيَّره بعضهم بالنسيء، فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بهتك حرمتها والقتال فيها، ثم نسخ بقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً أي: في الأزمنة كلها كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً لأنهم، إن قاتلتموهم فيها قاتلوكم فهذا نسخ لتحريم القتال في الأشهر الحرم.
(١) أي يتغير، وأصله: قلة النضارة وعدم إشراق اللون، من قولهم:
مكان أمعر، وهو الجدب الذي لا خصب فيه انظر النهاية فى غريب الحديث (معر)، واللسان (معر).
(٢) من الآية ٤٦ من سورة يوسف.
وقال عطاء: لا يحل للناس أن يغزوا في الأشهر الحرم، ولا في الحرم، إلا أن يبدأوا بالقتال، ويرده غزوه صلّى الله عليه وسلّم حُنيناً والطائف في شوال وذي القعدة. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالنصر والمعونة، وفيه بشارة وضمان لهم بالنصر بسبب تقواهم.
الإشارة: أهل الفهم عن الله: الأزمنةُ كلها عندهم حُرُم، والأمكنة كلها عندهم حَرامٌ، فهم يحترمون أوقاتهم، ويغتنمون ساعاتهم لئلا تضيع. قال الحسن البصري: أدركت أقواماً كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهيمكم، يقول: كما لا يخرج أحدكم ديناراً ولا درهماً إلا فيما يعود عليه نفعه، كذلك لا يحبون أن يخرجوا ساعة من أعمارهم إلا فيما يعود عليهم نفعة وقال الجنيد رضى الله عنه: الوقت إذا فات لا يُستدرك، وليس شيء أعز من الوقت. هـ.
وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من عمل صالح، يتوصل به إلى مُلْك كبير لا يفنى، ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك لأنه في غاية الشرف والنفاسة، ولأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح لأنفاسهم ولحظاتهم، وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم، ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير، ولم يقنعوا من أنفسهم لمولاهم إلا بالجد والتشمير، وإلى هذا الإشارة بقوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) بتضييعها في غير ما يُقرب إلى الله. ثم أمر بجهاد القواطع، التي تترك العبد في مقام الشرك الخفي، وبَشَّرهُم بكونه معهم بالنصر والتأييد، والمعونة والتسديد.
ثم عاب على المشركين ما أحدثوا من النسيء، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ٣٧]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
قلت: (النسيء) : التأخير، يقال بالهمزة وبقلبها ياء.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّمَا النَّسِيءُ، وهو تأخير حرمة الشهر الحرام إلى شهر آخر، وذلك أن العرب كانوا أصحاب حروب وإغارات، وكانت محرمة عليهم في الأشهر الحرم، فيشق عليهم تركها، فيجعلونها في شهر حرام، ويحرمون شهراً آخر بدلاً منه، وربما أحلوا المحرم وحرموا صفر، حتى يُكملوا في العام أربعة أشهر محرمة، وإنما ذلك زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ لأنه تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، وهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم، يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا عن الحق، ضلالا زائدا على ضلالاً زائداً على ضلالهم، أو يضلهم الله بذلك، يُحِلُّونَهُ عاماً أي:
يحلون الشهر الحرام عاما، ويحعلون مكانه آخر، وَيُحَرِّمُونَهُ عاما، فيتركونه على حرمته، فكانوا تارة ينسئون وتارة يتركون.
قيل: أول من أحدث ذلك: جُنادَهُ بن عوف الكناني كان يقوم على جمل في الموسم فينادي: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم ينادي من قابل: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه، فتتبعه العرب.
ثم حرّموا شهراً آخر مكان المحرم لِيُواطِؤُا ليوافقوا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ، وهي الأربعة الحرم، فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ عليهم من القتال في الأشهر الحرم، زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ أي: خذلهم وأضلهم، والمُزين حقيقة: الله، أو الشيطان حكمةً وأدباً. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إلى طريق الرشد، ما داموا على غيهم، حتى يسلكوا سبيل نبيه صلى الله عليه وسلّم.
الإشارة: إنما تأخير التوبة واليقظة وترك السير إلى مقام التصفية والترقية، زيادة في البعد والقسوة، يضل به الذين هجروا طريق التربية والتصفية، عن مقام أهل الإحسان والمعرفة، فتارةً يُحلون المقام مع النفس الأمارة، ويقولون: قد انقطعت التربية، وعُدِمَ الطبيبُ الذي يداويها ويخرجها عن وصفها، وتارة يُحرمون المقام معها والاشتغال بحظوظها وهواها، ويقولون: البركة لا تنقطع، والمدد لا ينعدم، ليوافقوا بين الأمر بمجاهدتها في قوله:
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا، وبين من قال: قد انقطعت التربية، زُيِّنَ لهم سوء أعمالهم، والله لا يهدي القوم الكافرين إلى السير والوصول إلى ربهم.
ثم عاتبهم على التأخر عن الجهاد فى غزوة تبوك، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
قلت: (اثاقلتم) : أصله: تثاقلتم، أدغمت التاء في الثاء، وجلبت الهمزة للساكن، وقرىء على الأصل، وضمن معنى الإخلاد، فَعُدِّيَ بإلى.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، اثَّاقَلْتُمْ أي: تباطأتم وأخلدتم إِلَى الْأَرْضِ كسلاً وفشلاً، وكان ذلك في غزوة تبوك، أُمروا بها بعد رجوعهم من الطائف، في وقت عسر، وحَر، وبُعد الشقة، وكثرة العدو، فشق عليهم ذلك،
أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا وكدرها، مِنَ الْآخِرَةِ، بدل الآخرة ونعيمها، فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: التمتع بها في جانب الآخرة، إِلَّا قَلِيلٌ مستحقر، لسرعة فنائه ومزجه بالكدر.
إِلَّا تَنْفِرُوا مع رسوله إلى ما استنفرتم إليه، يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً في الدنيا والآخرة في الدنيا:
بالإهلاك بأمر فظيع، كقحط وظهور عدو، وغير ذلك من المهلكات، وفي الآخرة: بعذاب النار. وَيَسْتَبْدِلْ مكانكم قَوْماً غَيْرَكُمْ في الدنيا، يكونون مطيعين لله ورسوله، كأهل اليمن وأمثالهم، وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً إذ لا يقدح تثاقلكم في نصر دينه شيئاً، فإنه الغني عن كل شيء، في كل وقت. وقيل: الضمير للرسول صلّى الله عليه وسلّم فإن الله وعده بالعصمة والنصرة، ووعده حق، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لا يعجزه شيء، فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا مدد، كما فعل معه في الغار والهجرة، على ما ياتي.
الإشارة: ما لكم إذا قيل لكم: انفروا إلى من يُعرفكم بالله، ويعلمكم كيف تجاهدون نفوسكم في طلب مرضاة الله، اثاقلتم وأخلدتم إلى أرض الحظوظ والشهوات، أرضيتم بالحياة الدنيا الدنية، بدل الحياة الأبدية، في الحضرة القدسية؟ أرضيتم بحياة الأشباح بدل حياة الأرواح؟ فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا الفانية في جانب الحياة الأبدية في الحضرة العلية، إلا نزر قليل حقير ذليل، إلا تنفروا لجهاد نفوسكم، يُعذِّبكم عذاباً أليماً، بغم الحجاب، وشدة التعب والنصب، وتوارد الخواطر والهموم، وترادُف الأكدار والغموم، ويستبدل قوماً غيركم يكونون عارفين بالله، مَرْضيين عند الله، راضين عن الله، واللهُ على كل شيءٍ قدير.
ثم ذكر نصرته لرسوله بلا سبب، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ٤٠]
إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)
قلت: «إن» : شرط، وجوابه محذوف، دلّ عليه قوله: فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ أي: إن لم تنصروه فسينصره الله، الذي نصره حين أخرجه الذين كفروا، حال كونه ثاني اثنين، فدل بنصره في الماضي على نصره في المستقبل، وإسناد الإخراج إلى الكفرة لأن همهم بإخراجه أو قتله كان سبباً لإذن الله له في الخروج، و (إذ هُما) : بدل من (أخرجه) بدل البعض، و (إذ يقول) : بدل ثان، و (كلمة الله) : مبتدأ، و (العليا) : خبر. وقرأ يعقوب: بالنصب عطفاً على كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا، والأول: أحسن للإشعار بأن كلمة الله عالية في نفسها، فاقت غيرها أم لا.
382
يقول الحق جلّ جلاله: إِلَّا تَنْصُرُوهُ تنصروا محمداً، وتثاقلتم عن الجهاد معه، فسينصره الله، كما نصره حين أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا من مكة، حال كونه ثانِيَ اثْنَيْنِ أي: لم يكن معه إلا رجل واحد، وهو الصدِّيق، إِذْ هُما فِي الْغارِ نقب في أعلى غار ثور، وثور جبل عن يمين مكة، على مسيرة ساعة. إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ: أبي بكر رضى الله عنه: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا بالعصمة والنصرة.
رُوي أن المشركين طلعوا فوق الغار يطلبون رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حين فقدوه من مكة، فأشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما ظَنُّكَ باثنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهِما» «١» فأعماهم الله عن الغار، فجعلوا يترددون حوله فلم يروه. وقيل: لما دخل الغار بعث الله حمامتين، فباضتا في أسفله، والعنكبوت نسجت عليه.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أي: أًمْنَه الذي تسكن إليه القلوب، عَلَيْهِ أي: على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، أو على صاحبه، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها، يعني الملائكة، أنزلهم ليحرسوه في الغار، أو يوم بدر وأحد وغيرهما، فتكون على هذا: الجملة معطوفة على: (فقد نصره الله). وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهي الشرك، أو دعوى الكفر، السُّفْلى. وَكَلِمَةُ اللَّهِ التي هي التوحيد، أو دعوة الإسلام، هِيَ الْعُلْيا حيث خلص رسوله صلّى الله عليه وسلّم من بين الكفار، ونقله إلى المدينة، ولم يزل ينصره حتى ظهر التوحيد وبطل الكفر، وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره، حَكِيمٌ في أمره وتدبيره.
الإشارة: ما قيل في حق الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقال في حق ورثته، الداعين إلى الله بعده من العارفين بالله، فيقال لمن تخلف عن صُحبَة ولي عصره وشيخ تربية زمانه: إلا تنصروه فقد نصره الله وأعزه، وأغناه عن غيره، فمن صحبه فإنما ينفع نفسه، فقد نصره الله حين أنكره أهله وأبناء جنسه، كما هي سُنَّة الله في أوليائه، لأن الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور، فمن دخل مع الخصوص قطعاً أنكرته العموم، فنخرجه ثاني اثنين هو وقلبه، فيأوي إلى كهف الأنس بالله، والوحشة مما سواه، فيقول لقلبه: لا تحزن إن الله معنا، فينزل الله عليه سكينة الطمأنينة والتأييد، وينصره باجناد أنوار التوحيد والتفريد، فيجعل كلمة أهل الإنكار السفلى، وكلمة الداعين إلى الله هي العليا، والله عزيز حكيم.
(١) أخرجه البخاري فى (فضائل أصحاب النبي، باب مناقب المهاجرين) ومسلم فى: (فضائل الصحابة، باب فضائل أبى بكر رضى الله عنه).
383
ثم نهضهم إلى الجهاد، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢)
قلت: (يُهلكون) : حال من فاعل (يحلفون)، أو بدل منه. قال في القاموس: (الشقة) - بالضم والكسر: البُعد والناحية يقصدها المسافر، والسفر البعيد والمشقة. هـ.
يقول الحق جلّ جلاله: انْفِرُوا للجهاد مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، حال كونكم خِفافاً نشاطاً، وَثِقالًا كسالى لمشقته، أو (خفافا) لمن قَلَّ عياله، (وثقالاً) لمن كثر عياله، أو خفافاً لمن كان فقيراً، وثقالاً لمن كان غنياً، أو خفافاً ركباناً، وثقالاً مشاة، أو خفافاً بلا سلاح، وثقالاً بالسلاح، أو خفافاً شباباً، وثقالاً شيوخاً، أو خفافاً أصحاء، وثقالاً مرضى. ولذللك قال ابنُ أمِّ مكتوم لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: أَعَليَّ الغزو يا رسول الله؟ قال: «نعم»، حتى نزل: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ «١». وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: بما أمكن إمّا بهما أو بأحدهما، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تركه، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما في ذلك من الأجر العظيم والخير الجسيم، أي: لو علمتم ذلك ما قعدتم خلف سرية.
ثم عاتب من أراد التخلف، فقال: لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً من الدنيا، وَسَفَراً قاصِداً متوسطاً أو قريباً، لَاتَّبَعُوكَ أي: لو كان ما دعوا إليه أمراً دنيوياً، كغنيمة كبيرة، أو سفراً متوسطاً، لا تبعوك ولوافقوك على الخروج، وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي: المسافة التي تقطع بمشقة، وذلك أن الغزوة- أي: تبوك- كانت إلى أرض بعيدة، وكانت في شدة الحر، وطيب الثمار، فشقت عليهم. وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي: المتخلفون إذا رجعت من تبوك، معتذرين، يقولون: لَوِ اسْتَطَعْنا الخروج لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، لكن لم تكن لنا استطاعة من جهة العُدة والبدن وهذا إخبار بالغيب قبل وقوعه. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بوقوعها في العذاب، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في ذلك لأنهم كانوا مستطيعين الخروج، وإنما قعدوا كسلاً وجُبْناً، والله تعالى أعلم.
(١) الآية ٦١ من سورة النور.
الإشارة: انفروا إلى جهاد أنفسكم وقطع علائقكم وعوائقكم، لكي تستأهلوا لدخول حضرة ربكم، وسافروا إلى من يعينكم ويقوي مدد أجناد أنواركم، وهم المشايخ العارفون، فسيروا إليهم خفافاً وثقالاً، نشّاطا وكُسَّالاً، والغالب أن النفس يشق عليها ما يكون سبباً في قتلها، فلا ينفر إليها خفافاً أول مرة إلا النادر.
ثم أمر ببذل الأموال والمُهج في طريق الوصول إلى حضرة الله، وعاتب من تخلف عن ذلك وطلب الراحة والبقاء في وطن نفسه. قال القشيري: أمرهم بالقيام بحقه، والبدار إلى أداء أمره على جميع أحوالهم، خِفافاً أي: في حال حضور قلوبكم، فلا يمسُّكم نَصَبُ المجاهدات، وَثِقالًا أي: إذا رُدِدتُم إليكم في مقاساة نصب المكابدات. فإن البيعةَ أُخِذَتْ عليكم في المنشط والمكره. هـ. ومثله عند الورتجبي عن أبي عثمان قال: خفافاً وثقالاً في وقت النشاط والكراهية، فإن البيعة على هذا وقعت، كما روى عن جرير بن عبد الله أنه قال: بايعنا رسول الله على المنشط والمكره. هـ.
ثم عاتب رسوله صلّى الله عليه وسلّم لشدة قربه، وعظيم منزلته، وتلطّف له على إذنه للمنافقين فى التخلف، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٣ الى ٤٥]
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)
يقول الحق جلّ جلاله، لنبيه- عليه الصلاة والسلام- ملاطفاً له في الكلام: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، لِمَ بادرت إلى الإذن إلى المنافقين في التخلف، واستكفيت بالإذن العام في قولنا: فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ «١»، فإن الخواص من المقربين لا يكتفون بالإذن العام، بل يتوقفون إلى الإذن الخاص. ولذلك عُوتِبَ يونس عليه السلام. والمعنى: لأي شيء أذنت لهم في القعود حين استأذنوك واعتذروا لك بأكاذيب؟ وهلا توقفت حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في الاعتذار، وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ فيه.
قال ابن عطية: قوله: الَّذِينَ صَدَقُوا يريد: في استئذانك، وأَنك لو لم تأذن لهم لخرجوا معك، وقوله:
وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ يريد: أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدِّك، وهم كَذَبة، قد عزموا على
(١) من الآية ٦٢ من سورة النور.
385
العصيان، أذِنتَ أو لم تأذن. هـ. قال ابن جزي: كانوا قد قالوا: استأذنوه في القعود، فإن إذن لنا قعدنا، وإن لم يأذن قعدنا، وإنما كان يظهر الصادق من الكاذب لو لم يأذن لهم، فحيئنذ كان يقعد العاصي والمنافق، ويسافر المطيع الصادق. هـ.
لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي: ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، بل الخُلَّص منهم يُبادرون إليه، ولا يوقفُونه على الإذن فيه، فضلاً عن أن يستأذنوا في التخلف عنه، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ فيثيبهم ويقربهم، وهي شهادة لهم بالتقوى وَعِدَةً لهم بثوابه.
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ في التخلف الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وخصص ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر إشعاراً بأن الباعث على الجهاد والوازع عنه: الإيمان وعدم الإيمان بهما، وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أي: شكَّت في الإيمان والبعث، فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ: يتحيرون. ونزلت الآية في عبد الله بن أبي والجَدُّ بن قيْس، وأمثالهما من المنافقين.
الإشارة: لا ينبغي للعارفين بالله الداعين إلى الله، إن يأذنوا لمن استأذنهم في التخلف عن الجهاد الأكبر، ويرخصون له في البقاء مع النفس والهوى، وجمع حطام الدنيا، شفقةُ ورحمةً لأن الشفقة في هذا المعنى لا تليق بأهل التربية، فقد قالوا: الشفقة والرطوبة لا تليق بشيوخ التربية، بل لا يليق بهم إلا الأمر بما تموت به النفوس، وتحيا به الأرواح، وإن كان فيه حتفُهم. وقد قالوا أيضاً: إذا كان الشيخ يحرش على المريد «١»، ويقدمه للمهالك في نفسه أو ماله أو جاهه، فهو دليل على أنه يحبه وينصحه، وإذا كان يرخص له فى أمور نفسه، ويأمره بالمقام معها، فهو غير ناصح له.
وأما الإذن في التجريد وعدمه: فإن رآه أهلاً له لنفوذ عزمه، فيجب عليه أن يأمره به، وإن رآه لا يليق به لعوارض قامت به، منعه منه، حتى ينظر ما يفعل الله به، وسأل رجلٌ القطبَ ابنَ مشيش، فقال له: يا سيدي استأذنك في مجاهدة نفسي؟ فقال له: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.
(١) أي: يدفعه.
386
ثم ذكر سبب تخلفهم، وهو عدم الإرادة، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)
قلت: (ما زادوكم إلا خبالاً) قال بعضهم: هو استثناء منقطع، أي: مازادوكم شيئاً، لكن خبالاً يُحدِثُونه في عسكركم بخروجهم. قال ذلك لئلا يلزم أن الخبال واقع في عسكر المسلمين، لكن خروجهم يزيد فيه. وفيه نظر لأن الاستثناء المفرغ لا يكون منقطعاً، ويمكن هنا أن يكون متصلاً لأن غزوة تبوك خرج فيها كثير من المنافقين، قحصل الخبال، فلو خرج هؤلاء المستأذنون في التخلف، القاعدون، لزاد الخبالُ بهم.
وقوله: (ولأوضعوا) أي: أسرعوا، والإيضاع: الإسراع، و (خلالكم) : ظرف، أي: لأسرعوا بينكم بالمشي بالنميمة، وجملة: (يبغونكم) : حال من فاعل «أوضعوا».
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْ أَرادُوا أراد المنافقون الْخُرُوجَ إلى الغزو معكم، وكانت لهم نية في ذلك لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً أي: لاستعدوا له أهبتَهُ قبل أوانه. فما فعلوا، وَلكِنْ تثبطوا لأنه تعالى كره انْبِعاثَهُمْ، أي: نهوضهم للخروج، فَثَبَّطَهُمْ أي: حبسهم وكسر عزمهم، كسلاً وجبناً، وَقِيلَ لهم:
اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ من النساء والصبيان وذوي الأعذار، وهو ذم لهم وتوبيخ. والقائل في الحقيقة هو الله تعالى، وهو عبارة عن قضائه عليهم بالقعود، وبناه للمجهول تعليماً للأدب. قال البيضاوي: هو تمثيل لإلقاء الله كراهة الخروج في قلوبهم، أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود، أو حكاية قول بعضهم لبعض، أو إذن الرسول لهم. هـ.
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مازادكم خروجهم شيئاً إِلَّا خَبالًا فساداً وشراً. والاستثناء من أعم الأحوال، فلا يلزم أن يكون الخبال موجوداً، وزاد بخروجهم، أو إذا وقع خبال بحضور بعضهم معكم مازادكم هؤلاء القاعدون بخروجهم إلا خبالاً زائداً على ما وقع. وَلَأَوْضَعُوا أي: لأسرعوا خِلالَكُمْ أي: فيما بينكم، فيسرعون في المشي بالنميمة والتخليط والهزيمة والتخذيل، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي: حال كونهم طالبين لكم الفتنة، بإيقاع
الخلل بينكم، حتى تختلف قلوبكم ورأيُكم، فيذهب ريح نصركم، وَفِيكُمْ قوم سَمَّاعُونَ لَهُمْ فيقبلون قولهم، إما بحسن الظن بهم، أو لنفاق بهم، فيقع الخلل بسبب قبول قولهم، أو فيكم سماعون لأخباركم فينقلونه إلى غيركم، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فيعلم ضمائرهم، وما ينشأ عنهم، وسيجازيهم على فعلهم.
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ أي: تشتيت أمرك وتفْريق أصحابك مِنْ قَبْلُ أي: من قبل هذا الوقت، كرجوعهم عنك يوم أُحد، ليوقعوا الفشل في الناس، وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أي: دبروها من كل وجه، فدبروا الحيل، ودوروا الآراء في إبطال امرك، فأبطل الله سعيهم، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ أي: علا دينه، وَهُمْ كارِهُونَ أي: على رغم أنفهم، والآيتان تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين على تخلفهم، وبيان ما ثبطهم الله لأجله وكره انبعاثهم له، وهتك أستارهم، وكشف أسرارهم، وإزاحة اعتذارهم. انظر البيضاوي.
الإشارة: الناس على ثلاثة أقسام: قسم أقامهم الحق تعالى لخدمة أنفسهم وحظوظهم عدلاً. وقسم أقامهم الحق تعالى لخدمة معبودهم فضلاً. وقسم اختصهم بالتوجه إلى محبوبهم رحمة وفضلاً.
فالأوّلون: أثقلهم بكثرة الشواغل والعلائق، ولو أرادوا الخروج منها لأعدوا له عدة بالتخفيف والزهد، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم، وقيل: اقعدوا مع القاعدين، أقامهم لإصلاح عالم الحكمة، وأما أهل الخدمة: فرآهم لم يصلحوا لصريح معرفته، فشغلهم بخدمته، ولو أرادوا الخروج من سجن الخدمة إلى فضاء المعرفة لأعدوا له عدة بصحبة أهل المعرفة الكاملة. وأما أهل التوجه إلى محبته وصريح معرفته فلم يشغلهم بشيء، ولم يتركهم مع شيء، بل اختصهم بمحبته، وقام لهم بوجود قسمته، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ «١». وكل قسم لو دخل مع من فوقه على ما هو عليه، لأفسده، وما زاده إلا خبالاً وشراً. والله تعالى أعلم.
ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلّم الناس إلى غزوة تبوك، قال له الجدّ بن قيس- من كبار المنافقين-: ائذن لي في القعود، ولا تفتنى برؤية بنات بنى الأصفر، فإنى لا أصبر على النساء، فأنزل الله فى شأنه «٢» :
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠)
(١) الآية ٧٤ من سورة آل عمران.
(٢) أخرجه مطولا ابن جرير فى التفسير (١٠/ ١٠٤) وذكره الواحدي فى الأسباب (٢٥٢)، من طريق على بن أبى طلحة، عن ابن عباس رضى الله عنه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي في القعود، وَلا تَفْتِنِّي ولا توقعني في الفتنة، أي: في العصيان والمخالفة، بأن تأذن لي، وفيه إشعار بأنه لا محالة متخلف، أََذِنَ أو لم يأذن، أو في الفتنة بسبب ضياع المال والعيال إذ لا كافل لهم بعدي، أو في الفتنة بنساء الروم، كما قال الجَدُّ بنُ قَيْس: قد علمت الأنصار أني مُولع بالنساء، فلا تفتني ببنات بني الأصفر، ولكني أُعينك بمال، واتركني.
قال تعالى: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي: إن الفتنة هى التي سقطوا فيها، وهي فتنة الكفر والنفاق، لا ما احترزوا عنه، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ، أي: دائرة بهم يوم القيامة، أو الآن لأن إحاطة أسبابها بهم كوجودها، ومن أعظم أسبابها: بغضك وانتظارهم الدوائر بك.
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ كنصر أو غنيمة فى بعض غزواتك، تَسُؤْهُمْ لفرط حسدهم وبغضهم، وَإِنْ تُصِبْكَ في بعضها مُصِيبَةٌ ككسر أو شدةٍ كيوم أحد، يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ أي: يتبجحوا بتخلفهم أو انصرافهم، واستحمدوا رأيهم في ذلك، وَيَتَوَلَّوْا عن متحدِّثِهم ومجْمعهم، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وَهُمْ فَرِحُونَ مسرورون بما صنعوا من التخلف عن الجهاد.
الإشارة: ومن ضعفاء اليقين من يستأذن المشايخ في البقاء مع الأسباب وفتنة الأموال، ويقول: لا تفتني بالأمر بالتجريد، فإني لا أقدر عليه، ويرضى بالسقوط في فتنة الأسباب والشواغل، فإن ضم إلى ذلك الإنكار على أهل التجريد، بحيث إذا رأى منهم نكبة أو كسرة من أجل التجريد، والخروج عن عوائد الناس وما هم عليه، فرح، وإذا رأى منهم نصراً وعزاً انقبض، ففيه خصلة من النفاق، والعياذ بالله.
ثم رد عليهم، بقوله:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣)
389
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم يا محمد: لَنْ يُصِيبَنا من حسنة أو مصيبة، إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا في اللوح المحفوظ، لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم، هُوَ مَوْلانا متولي أمرنا وناصرنا، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي: وإليه فليفوض المؤمنون أمورهم رضاَ بتدبيره لأن مقتضى الإيمان ألا يتوكل إلا على الله إذ لا فاعل سواه، قُلْ لهم: هَلْ تَرَبَّصُونَ أي: تنتظرون بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ أي: إلا إحدى العاقبتين اللتين كل منهما حسنى: إما النصر وإما الشهادة، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أيضاً إحدى العاقبتين السُوأتين: إما أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ بقارعة من السماء، أَوْ بِأَيْدِينا أي: أو بعذاب بأيدينا، وهو القتل على الكفر، فَتَرَبَّصُوا ما هو عاقبتنا، إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ما هو عاقبتكم.
الإشارة: ثلاثة أمور توجب للعبد الراحة من التعب، والسكون إلى رب الأرباب، وتذهب عنه حرارة التدبير والاختيار، وظلمة الأكدار والأغيار: أحدها: تحقيق العلم بسبقية القضاء والقدر، حتى يتحقق بأن ما أخطأه لم يكن ليُصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه. قال تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ «١»، وليتأمل قول الشاعر:
ما لا يقدر لا يكون بحيلة أبدا، وما هو كائن سيكون
سيكون ما هو كائن في وقته وأخو الجهالة متعب محزون
وقد ورد عن سيدنا علي- كرّم الله وجهه- أنه قال: سبع آيات: من قرأها أو حملها معه لو انطبقت السماء على الأرض لجعل الله له فرجا ومخرجا من أمره، فذكر هذه الآية: قُلْ لَنْ يُصِيبَنا، وآية في سورة يونس:
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ... الآية «٢»، وآيتان في سورة هود: وَما مِنْ دَابَّةٍ.. ، الآية «٣»، إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ... الآية «٤»، وقوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «٥»، مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «٦» ووَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ... في الزمر إلى قوله: عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ «٧»، ونظمها بعضهم فقال:
(١) من الآية ١٧ من سورة الأنعام.
(٢) الآية ١٠٧ من سورة يونس. [.....]
(٣) الآية ٦ من سوة هود.
(٤) الآية ٥٦ من سورة هود.
(٥) الآية ٦٠ من سورة العنكبوت.
(٦) الآية ٢ من سورة فاطر
(٧) الآية ٣٨ من سورة الزمر.
390
عليك بقل، وإن، وما، إني، في هود وكأين، مَا يفتحْ، ولئن مكملا
وإنما أشار رضى الله عنه إلى معنى الآيات لا إلى لفظها لأنها كلها تدل على النظر لسابق القدر، والتوكل على الواحد القهار.
الأمر الثاني: تحقق العبد برأفته- تعالى- ورحمته، وأنه لا يفعل به إلا ما هو في غاية الكمال في حقه، إن كان جمالاً فيقتضي منه الشكر، وإن كان جلالاً فيقتضي منه الصبر، وفيه غاية التقريب والتطهير وطي المسافة بينك وبين الحبيب. وفي الحكم: «خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجودَ فاقتك، وتُرَدُ فيه إلى وجود ذلتك، إن أردت بسط المواهب عليك فصحح الفقر والفاقة لديك، الفاقة أعياد المريدين». إلى غير ذلك من كلامه في هذا المعنى.
الأمر الثالث: تحققه بخالص التوحيد فإذا علم أن الفاعل هو الله ولا فاعل سواه رضي بفعل حبيبه، كيفما كان، كما قال ابن الفارض رضى الله عنه:
أحباي أَنتُم، أَحْسَنَ الدَّهرُ أم أَسا فَكُونُوا كما شِئتُمُ أنا ذلك الخل
وكما قال صاحب العينية:
تلدّ لِيَ الآلامُ إذْ كُنْتَ مُسقِمي وَإن تَخْتَبِرني فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ
تَحَكَّم بِمَا تَهْواهُ فِيّّ فإنَّني فَقيرٌ لسُلطان المَحَبَّةِ طَائِعُ
فهذه الأمور الثلاثة، إذا تفكر فيها العبد دام حبوره وسروره، وسهلت عليه شئونه وأموره.
وقوله تعالى: (قل هل تربصون بنا... ) الآية، مثله يقول أهل النسبة لأهل الإنكار: هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنين، إما حسن الخدام بالموت على غاية الإسلام، يموت المرء على ما عاش عليه، وإما الظفر بمعرفة الملك العلام على غاية الكمال والتمام، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده بسبب إذايتكم، أو بدعوة من عندنا إذا أَذِنَ لنا. وبالله التوفيق.
ثم «١» ذكر سبب إبطال عملهم وصدقاتهم، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٤]
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤)
(١) تفسير قوله تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً.. الآية ٥٣، لا يوجد فى النسخ الخطية التي بين أيدينا.
قلت: (أن تُقبل) : بدل من ضمير (منعهم)، أو على حذف الجار، و (إلا أنهم كفروا) : فاعل، أي: وما منع قبول نفقاتهم، أو من قبول نفقاتهم، إلا كفرهم بالله وبرسوله، ويحتمل أن يكون الفاعل ضميراً يعود على الله تعالى و (إنهم) مفعول من أجله.
يقول الحق جلّ جلاله: وَما مَنَعَهُمْ وما منع المنافقين من قبول نفقاتهم وأعمالهم إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ إلا كُفرهم بالله وبرسوله، أو: ما منعهم الله من قبول نفقاتهم إلا لأجل كفرهم بالله وبرسوله، وكونهم لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى متثاقلين، وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ أي: لا يُعطون المال إلا في حال كراهيتهم للإعطاء لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون بتركها عقاباً، فهم يعطون ذلك رياء ونفاقاً.
الإشارة: لا يتقبل الله إلا عمل المخلصين، إما إخلاص العوام لقصد الثواب وخوف العقاب، أو إخلاص الخواص لإظهار العبودية وإجلال الربوبية، وعلامة الإخلاص: وجود النشاط والخفة حال المباشرة للعمل، أو قبلها، والغيبة عنه بعد الوقوع، والله تعالى أعلم.
ثم نهى عن الاغترار بحال المنافقين، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ٥٥]
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥)
يقول الحق جلّ جلاله: فَلا تُعْجِبْكَ، أيها الناظر إلى المنافقين، كثرةُ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ فإن ذلك استدراج ووبال لهم إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بسبب ما يكابدون في جمعها وحفظها من المتاعب، وما يرون فيها من الأمراض والمصائب، أو ما ألزموا به من أداء زكاتها، مع كونهم لا يرجون خَلَفها وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ فلا يستوفون التمتع بها في الدنيا لقصر مدتها، ولا يجدون ثواب ما أعطوا منها لعدم إيمانهم. وأصل الزهوق: الخروج بصعوبة، لصعوبة خروج أرواحهم، والعياذ بالله.
الإشارة: ينبغي لمريد الآخرة ألا يستحسن شيئاً من الدنيا، التي هي مدْرجة الاغترار، بل ينبغي له أن ينظر إليها وإلى أهلها بعين الغض والاحتقار، حتى ترتفع همته إلى دار القرار، وينبغي لمريد الحق- تعالى- ألا يحقر
شيئاً من مصنوعاته، ولا يصغر شيئاً من تجلياته، إذ ما في الوجود إلاّ تجليات العلي الكبير، إما من مظاهر اسمه الحكيم، أو اسمه القدير، فيعطي الحكمة حقها والقدرة حقها، ويتلون مع كل واحدة بلونها، وبالله التوفيق.
ثم ذكر وصف نفاق المنافقين، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧)
قلت: الفَرَقُ: الخوف، و (مُدَّخلاً) : أصله: متدخلاً، مفتعل من الدخول، قلبت التاء دالاً وأدغمت.
يقول الحق جلّ جلاله: وَيَحْلِفُونَ لكم بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي: من جملة المسلمين، وَما هُمْ مِنْكُمْ لكفر قلوبهم، وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ: يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين، فيظهرون الإسلام تقية وخوفاً لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أي: حصناً يلتجئون إليه، أَوْ مَغاراتٍ غيراناً، أَوْ مُدَّخَلًا ثقباً أو جحراً يَنجَحِرُون فيه. وقرأ يعقوب: «مُدخِلاً» بضم الميم وسكون الدال، أي: دخولاً، أو مكاناً يدخلون فيه، لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي: يُسرعون إسراعاً لا يردهم شيء كالفرس الجموح.
الإشارة: قد يتطفل على القوم من ليس منهم، فيظهر الوفاق ويبطن النفاق، كحال أهل النفاق، فينبغي أن يستر ويُحلُم عليه، كما فعل عليه الصلاة والسلام- بالمنافقين، تلطف معهم في حياتهم، والله يتولى سرائرهم، وبالله التوفيق.
ثم شرع يتكلم فى مساوئ المنافقين، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩)
قلت: (لو) : شرطية، و (أنهم) : قال سيبويه: مبتدأ، والخبر محذوف: ولو رضاهم ثابت أو موجود.. الخ. وقال غيره: فاعل بفعل محذوف ولو ثبت رضاهم، وجواب (لو) : محذوف، أي: ولو أنهم رضوا لكان خيراً لهم.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنْهُمْ ومن المنافقين مَنْ يَلْمِزُكَ أي: يعيبك، ويعترض عليك فِي قسم الصَّدَقاتِ، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وفرحوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها شيئاً إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ. والآية نزلت في ابن أُبيّ رأس المنافقين، قال: ألا تَرونَ إلى صاحِبِكُم إِنَّما يقْسِمُ صَدقَاتكُمْ في رُعَاةِ الغَنَم، ويَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْدل. وقيل: في ذي الخُوَيْصِرةِ رأس الخَوَارِجِ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقسم غنائم حنين، فاستعطف قلوب أهل مكة، فآثرهم بالعطاء، فقال: اعْدِلَ يا رَسُول الله، فقال: «ويلَكَ، إنْ لَمْ أَعْدِلْ فمنْ يَعْدِل؟» «١».
قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي: بما أعطاهم الرسول من الغنيمة، وذَكَرَ الله للتعظيم وللتنبيه على أن ما فعله الرسول- عليه الصلاة والسلام- كان بأمر الله ووحيه، فكأنه فعله هو. وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ أي: كفانا فضلُه، سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ صدقة أو غنيمة أخرى، فيؤتينا أكثر مما أتانا، إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ في أن يُغنينا من فضله وجوده. فلو فعلوا هذا لكان خيراً لهم من اعتراضهم عليك، الموجب لهم المقت والعذاب.
الإشارة: لا يكون المؤمن كاملاً حتى يستوي عنده المنع والعطا، والفقد والوجد، والفقر والغنى، والعز والذل.
وأمَّا إن كان في حالة العطاء والوجد يفرح، وفي حالة المنع والفقد يسخط، فلا فرق بينه وبين أهل النفاق، إلا من حيث التوسم بالإيمان، ولو أنه رضي بما قسم الله له، واكتفى بعلمه، ورغب الله في زيادته من فضله، لكان خيراً له وأسلم. والله تعالى أعلم وأحكم.
ثم بيّن مصرف الصدقات الواجبة قطعا لأطماع من لا يستحقها، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٠]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّمَا تدفع الصَّدَقاتُ الواجبة- أي: الزكاة- لهؤلاء الثمانية، وهذا يُرَجَّحُ أن لَمْزهم كان في قسم الزكاة لا في الغنائم، واختصاص دفع الزكاة بهؤلاء الثمانية مجمع عليه، واختلف:
هل يجب تعميمهم؟ فقال مالك: ذلك إلى الإمام، إن شاء عمم وإن شاء خصص، وإن لم يلها الإمام فصاحب المال
(١) أخرجه البخاري فى (المناقب، باب علامات النبوة) ومسلم فى (الزكاة، باب ذكر الخوارج وصفاتهم) من حديث أبي سعيد الخدري- رضى الله عنه-.
394
مخير، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وأفتى به بعض الشافعية، وقال الشافعي: يجب أن تقسم على هذه الأصناف بالسواء، إن وجدت.
أولها: الفقير: وهو من لا شيء له، وثانيها: المسكين: وهو من له شيء لا يكفيه. فالفقير أحوج، وهو مشتق من فقار الظهر، كأنه أصيب فقاره، والمسكين من السكون، كأن العجز أسكنه. ويدل على هذا قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ «١»، فسماهم مساكين مع ملكهم السفينة، وأنه صلّى الله عليه وسلّم سأل المسكنة وقيل بالعكس، لقوله تعالى: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ «٢». وقيل: هما سواء. وَالْعامِلِينَ عَلَيْها أي: الساعين في تحصيلها وجمعها، ويدخل فيهم الحاشر والكاتب والمفرق، ولا بأس أن يعلف خيلهم منها، ويضافون منها بلا سَرف. وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قال مالك: هم كفار ظهر ميلهم للإسلام، فيعطون ترغيباً في الإسلام. وقيل: قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة، فيعطون ليتمكن الإسلام في قلبهم، وحكمُهم باق، وقيل: أشراف يُترقب بإعطائهم إسلام نظائرهم.
وَفِي الرِّقابِ أي: في فك الرقاب، يشترون ويعتقون. وَالْغارِمِينَ، أي: مَنْ عليهم دَيْن، فيعطى ليقضي دينه، ويشرط أن يكون استدانة في غير فساد ولا سرف، وليس له ما يبيع في قضائه. وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني: الجهاد، فيعطى منها المجاهدون وإن كانوا أغنياء، ويشتري منها آلة الحرب، ولا يبنى منها سور ولا مركب. وَابْنِ السَّبِيلِ وهو الغريب المحتاج لما يوصله لبلده، ولم يجد مسلفاً، إن كان مليَّاَ ببلده، وإلا أعطي مطلقاً.
فرض الله ذلك فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي: حقاً محدوداً عند الله. قال ابن جزي: ونصبه على المصدر- يعني: لفعل محذوف كما تقدم- فإن قيل: لِمَ ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين؟ فالجواب: أنه خص مصرف الزكاة في تلك الأصناف ليقطع طمع المنافقين فيها، فاتصلت هذه الآية في المعنى بقوله: (ومنهم من يلمزك في الصدقات..). هـ. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يضع الأشياء في مواضعها.
الإشارة: إنما النفحات والمواهب للفقراء والمساكين، الذين افتقروا من السِّوى، وسكنوا في حضرة شهود المولى. وفي الحكم: «ورود الفاقات أعياد المريدين، ربما وجدت من المزيد في الفاقة ما لا تجده في الصوم والصلاة، الفاقات بسُطُ المواهب. إن أردت بسط المواهب عليك فصحح الفقر والفاقة لديك. إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ».
(١) من الآية ٧٩ من سورة الكهف.
(٢) الآية ١٦ من سورة البلد.
395
وقال الهروي: الفقر صفة مهجورة، وهو ألدّ ما يناله العارف، لكونها تدخله على الله، وتجلسه بين يدي الله، وهو أعلم المقامات حكماً لقطع العوائق، والتجرد من العلائق، واشتغال القلب بالله. قيل: الفقير الصادق لا يملِك ولا يُملَك. وقال الشبلي: الفقير لا يستغني بشيء دون الله. وقال الشيخ ابن سبعين رضى الله عنه: الفقير هو الذي لا يحصره الكون. هـ. يعني: لخروج فكرته عن دائرة الأكوان. وقال القشيري: الفقير الصادق عندهم: مَنْ لا سماء تُظِله، ولا أرضَ تُقِلُّه، ولا سهم يتناوله، ولا معلومَ يشغِله، فهو عبد الله بالله. هـ.
وقال السهروردي في عوارفه: الفقر أساس التصوف، وبه قوامه، ويلزم من وجود التصوف وجود الفقر لأن التصوف اسم جامع لمعاني الفقر والزهد، مع زيادة أحوال لا بد منها للصوفي، وإن كان فقيراً زاهداً.
وقال بعضهم: نهاية الفقر بداية التصوف لأن التصوف اسم جامع لكل خلق سني، والخروج من كل خلق دنى، لكنهم اتفقوا ألاًّ دخول على الله إلا من باب الفقر، ومن لم يتحقق بالفقر لم يتحقق بشيء مما أشار إليه القوم.
وقال أبو إسحاق الهروي أيضاً: من أراد ان يبلغ الشرفَ كل الشرف فليخترْ سبعاً على سبع، فإن الصالحين اختاروها حتى بَلَغُوا سنام الخير. اختاروا الفقر على الغنى، والجوع على الشبع والدُّون على المرتفع، والذلَّ على العز، والتواضع على الكبر، والحزن على الفرح، والموت على الحياة. هـ. وقال بعضهم:
إن الفقير الصادق ليحترز من الغنى حذراً أن يدخله فيفسد عليه فقره، كما يحترز الغنى من الفقر حذراً أن يفسد عليه غناه.
قال بعض الصالحين: كان لي مال، فرأيت فقيراً في الحرم جالساً منذ أيام، ولا يأكل ولا يشرب وعليه أطمار رثة، فقلت: أعينه بهذا المال فألقيته في حجره، وقلت: استعن بهذا على دنياك، فنفض بها في الحصباء، وقال لي:
اشتريتُ هذه الجلسة مع ربي بما ملكت، وأنت تفسدها عليَّ؟ ثم انصرف وتركنى ألقطها. فو الله ما رأيت أعز منه لَمَّا بَدَّدَها، ولا أذل مني لما كنت ألقطها. هـ.
وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيىء اصبح حزيناً، وإذا لم يصبح عنده شيىء أصبح فرحاً مسروراً، فقيل له:
إنما الناس بعكس هذا، فقال: إني إذا لم يصبح عندي شيء فلى برسول الله صلى الله عليه وسلّم أُسوة، وإذا أصبح لي شيء لم يكن لي برسول الله صلى الله عليه وسلّم أسوة حسنة. هـ. وجمهور الصوفية: يفضلون الفقير الصابر على الغني الشاكر، ويُفضلون الفقر في الجملة على الغنى لأنه- عليه الصلاة والسلام- اختاره، وما كان ليختار المفضول. وشذ منهم يحيى بن معاذ الواعظ وأحمد بن عطاء.
396
قال القشيري: كان ابن عطاء يُفضل الغنى على الفقر، فدعا عليه الجنيد فأصيب عقله ثلاثين سنة، فلما رجع إليه عقله قال: إنما أصابني ما أصابني بدعاء الجنيد. وتكلم يحيى بن معاذ، ففضل الغنى على الفقر، فأعطاه بعض الأغنياء ثلاثين ألف درهم، فدعا بعض المشايخ عليه، فقال: لا بارك الله له فيها، فخرج عليه اللص فنهبه إياها.
هـ. وحكي عن أبي يزيد البسطامي: أنه قال: أًسري بروحي، فرأيت كأني واقف بين يدي الله، فسمعت قائلاً يقول: يا أبا يزيد، إن أردت القرب منا فأتنا بما ليس عندنا، فقلت: يا مولاى وأي شيىء ليس عندك، ولك خزائن السماوات والأرض؟ فسمعت: يا أبا يزيد، ليس عندي ذل ولا فقر، فمن أتاني بهما بلّغته. هـ.
وقال في الإحياء: الفقر المستعاذ منه: فقر المضطر، والمسئول هو: الاعتراف بالمسكنة والذلة والافتقار إلى الله عزَّ وجَلَّ. هـ. قلت: والأحسن أن المستعاذ منه هو: فقر القلوب من اليقين، فيسكنها الجزع والهلع، والفقر المسئول هو: التخفيف من الشواغل والعلائق، والله تعالى أعلم.
وقد تكلم القشيري هنا على أخذ الزكاة وتركها، فقال: من أهل المعرفة من رأى أنَّ أَخذَ الزكاة المفروضة أَولى، قالوا: لأن الله- سبحانه- جعل ذلك مِلكاً للفقير، فهو أحل له من المتطوع به. ومنهم من قال: الزكاة المفروضة لأقوام مستحقة، ورأوا الإيثار على الإخوان أولى، فلم يزاحموا أرباب السهمان، وتحرجوا من أخذ الزكاة، ومنهم من قال: إن ذلك وسخ الأموال، وهو لأصحاب الضرورات. وقالوا: نحن آثرنا الفَقْرَ اختياراً.. فلم يأخذوا الزكاة المفروضة. هـ.
وقوله تعالى: (والعاملين عليها) : هم: المستعدون للمواهب بالتفرغ والتجريد، (والمؤلفة قلوبهم) على حضرة محبوبهم، والجادُّون في فك الرقاب من الجهل والغفلة وهم أهل التذكير، الداعون إلى الله، (والغارمين) أي:
الدافعون أموالهم ومهجهم في رضى محبوبهم، فافتقروا فاستحقوا حظهم من المواهب والأسرار، و (في سبيل الله) أي: والمجاهدون أنفسهم في مرضاة الله، (وابن السبيل) : السائحين في طلب معرفة الله. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر نوعا آخر من مساوئ المنافقين، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ٦١]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١)
397
قلت: (قل أُذُنُ خير) : من قرأ بالإضافة ف (لكم) : متعلق بالاستقرار، أي: هو أذن خير كائن لكم. ومن قرأ بالتنوين ف (خير) : خبر عن «أُذن» خبر ثانٍ، ومن قرأ: «ورحمة» بالرفع فعطف على (أذن خير)، ومَن قرأ بالجر، فعطف على «خير»، المجرور.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ فيه: هُوَ أُذُنٌ يسمع كل ما يقال له ويصدقه حقاً كان أو باطلاً، فإذا حلفنا له أنا لم نقل شيئاً صدقنا. والقائل لهذه المقالة: قيل: هو نَبْتَل بْن الحَارِثِ، وكان من مردة المنافقين. وقيل: عتاب بن قشير، في جماعة، قالوا: محمد أذن سامِِعِه، نقول ما شئنا، ثم نأتيه فيصدقنا فيما نقول. قال البيضاوي: سمي بالجارحة للمبالغة كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة السماع، كما سمي الجاسوس عيناً. هـ.
قال تعالى في الرد عليهم: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي: هو لكم سماع خير وحق، فيسمع الخير والحق ويبلغه لكم، أو قل: هو أذنٌ خيرٌ لكم من كونه غير أذن لأن كونه أذناً يقبل معاذيركم ولو كان غير أذن لكذبكم وفضحكم. وفي (الوجيز) أي: مستمع خير وصلاح، لا مستمع شر وفساد.
قال البيضاوي: وهو تصديق لهم بأنه أذن، لكن لا على الوجه الذي ذموا به- يعني من تنقصه بقلة الحزم والانخداع- بل من حيث إنه يسمع الخير ويقبله. ثم فسر ذلك بقوله: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يصدق بالله وبما له من الكمالات، وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ويصدقهم لما يعلم من خلوصهم، واللام مزيدة للتفرقة بين إيمان التصديق وإيمان الإذعان والأمان، وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أي: هو رحمة لمن أظهر الإيمان منكم، بحيث يقبله ولا يكشف سره. وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم جهلاً بكم، بل رفقاً بكم وترحماً عليكم. قاله البيضاوي.
وفي ابن عطية: وخص الرحمة بالذين آمنوا إذ هم الذين نجوا بالرسول وفازوا. وفي الوجيز: وهو رحمة لهم، لأنه كان سبب إيمانهم. هـ. فظاهره أن الإيمان الصادر منهم كان حقيقياً، وهو حُسنُ خلافٍ ظاهر. قال البيضاوي: أي: هو رحمة لمن وفقه الله للإيمان منكم.
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ بأي نوع من الإيذاء، لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ موجع بسبب إيذايته.
398
الإشارة: تعظيم الرسول عليه السّلام ومدحه وذكر محاسنه، من أجل القربات وأعظم الطاعات لأن تعظيمه ناشىء عن محبته، ومحبته عقد من عقود الإيمان، لا يتم الإيمان إلا بها، والإخلال بهذا الجانب من أعظم المعاصي عند الله، ولذلك قبح كفر المنافقين واليهود، الذين كانوا يؤذون جانب النبوة، وما عابه به المنافقون في هذه الآية هو عين الكمال عند أهل الكمال.
قال القشيري: عابوه بما هو أماره كرمه، ودلالة فضله، فقالوا: إنه لحُسن خُلُقه، يسمع ما يقال له، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «المُؤمنُ غِرٌّ كَرِيمٌ، والمُنافِقُ خِبٌّ لَئِيمٌ» «١». قالوا: من الفاضل؟ قالوا: الفَطِنُ المُتَغَافِلُ، وأنشدوا:
وإذا الكريمُ أَتَيْتَه بخدِيعَةٍ فرأيته فيما ترومُ يُسارعُ
فاعلمْ بأنَّك لم تخادِعْ جاهلاً إنَّ الكريمَ- بفضله- يتخادع «٢». هـ.
وكل ولي يتخلق بهذا الخلق السني الذي هو التغافل والانخداع في الله، وكان عبد الله بن عمر يقول: (من خدعنا في الله انخدعنا له). ورأى سيدنا عيسى عليه السلام رجلاً يسرق، فقال له: سرقت يا فلان؟ فقال: والله ما سرقت، فقال عليه السلام: (آمنتُ بالله وكذبتُ عيني). فمن أخلاق الصوفي أن يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، كيفا كانوا، ورحمة للذين آمنوا، فمن آذى من هذا وصفه فله عذاب أليم. وبالله التوفيق.
ومن مساوئ المنافقين أيضا: أنهم يرضون الناس بسخط الله، كما أبان ذلك الحق تعالى بقوله:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣)
قلت: إنما وحّد الضمير في (يُرضوه) إما لأن رضى أحدهما رضى الآخر، فكأنهما شيء واحد، أو لأن الكلام إنما هو فى إيذاء الرسول- عليه الصلاة والسلام- وإرضائه، فذكر الله تعظيماً لجانب الرسول، أو لأن التقدير: والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك فهما جملتان. والضمير في (أنه من يُحادِدِ) : ضمير الشأن، و (فأن) : إما تأكيد
(١) أخرجه أبو داود فى (الأدب، باب فى حسن العشرة) والترمذي فى (البر والصلة، باب ما جاء فى البخيل) عن أبى هريرة، بلفظ: «الفاجر» بدل المنافق.
(٢) البيتان منسوبان إلى عبد المجيد بن إسماعيل الرومي، راجع النجوم الزاهرة ٥/ ٢٧٢.
لأن الأُولى، وجملة (فله) : جواب، أو تكون بدلاً منها، أو في موضع خبر عن مبتدأ محذوف، أي: فحقٌ، أو واجب له نار جهنم.
يقول الحق جلّ جلاله: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي: المنافقون، لَكُمْ أيها المؤمنون، حين يعتذرون في التخلف عن الجهاد وغيره، لِيُرْضُوكُمْ أي: لترضوا عنهم وتقبلوا عذرهم، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ بالطاعة والوفاق، واتباع ما جاء به، إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ صادقين في إيمانهم. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ أي: الأمر والشأن، مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعاديهما، ويخالف أمرهما فَأَنَّ لَهُ، فواجبٌ أنّ له نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها، ذلِكَ الْخِزْيُ أي: الهول الْعَظِيمُ، والهلاك الدائم، والعياذ بالله.
الإشارة: من أرضى الناسَ بسخط الله أسخطهم عليه وسخط عليه، ومن اسخط الناس في رضي الله أرضاهم عليه، ورضي عنه، فمن أقر منكراً حياء أو خوفاً من الناس، فقد أسخط مولاه، ومن انكر منكراً، ولم يراقب أحداً، فقد أرضى مولاه، ومن راقب الناس لم يراقب الله، ومن راقب الله لم يراقب الناس، (والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يرضوه إن كانوا مؤمنين). وتأمل قول الشاعر:
مَنْ رَاقَبَ الناس مات غما وفاز باللذاتِ الجسُور
وبالله التوفيق.
ومن أخلاقهم أيضا: الخوف من الفضيحة، والاستهزاء بالدين، كما أبان ذلك بقوله:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)
قلت: الضمائر في «عليهم»، و «تنبئهم» و «قلوبهم»، تعود على المنافقين خلافاً للزمخشري في الأولين، فقال:
يعود على المؤمنين، وتبعه البيضاوي.
يقول الحق جلّ جلاله: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ أي: في شأنهم، سُورَةٌ من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلّم، تُنَبِّئُهُمْ أي: تخبرهم، أي: المنافقين، بِما فِي قُلُوبِهِمْ من الشك والنفاق، وتهتك أستارهم،
وكانوا يستهزؤون بأمر الوحي والدين، فقال تعالى لنبيه- عليه الصلاة والسلام: قُلِ لهم: اسْتَهْزِؤُا تهديداً لهم، إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ من إنزال السورة فيكم، أو ما تحذرون من إظهار مساوئكم وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عن استهزائهم، لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فيما بيننا. رُوي أن ركباً من المنافقين مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، في غزوة تبوك، فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل، يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه، هيهات هيهات!! فأخبر الله نبيه، فدعاهم فقال: «قلتم: كذا وكذا؟» فقالوا: لا، والله، ما كنا في شيء من أمرك، ولا من أمر أصحابك، ولكنا كنا في شيء مما يخوض فيه الركب، ليقصر بعضنا على بعض السفر «١».
قال تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ، توبيخاً لهم على استهزائهم بما لا يصح الاستهزاء به، لا تَعْتَذِرُوا أي: لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي: قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول والطعن عليه، بعد إظهار إيمانكم الكاذب. إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ بتوبتهم وإخلاصهم، حيث سبق لهم ذلك كانَ منهم رجل اسمه مَخشِيّ، تاب ومات شهيداً. أو لكفهم عن الإيذاء، نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا في علم الله مُجْرِمِينَ مُصرين على النفاق، أو مستمرين على الإيذاء والاستهزاء. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الاستهزاء بالأولياء والطعن عليهم من أسباب المقت والبعد من الله، والإصرار على ذلك شؤمه سوء الخاتمة، وترى بعض الطاعنين عليهم يحذر منهم أن يكاشفوا بأسرارهم، وقد يُطلع الله أولياءه على ذلك، وقد لا يطلعهم، وبعد أن يطلعهم على ذلك لا يواجهوهُم بكشف أسرارهم لتخلقهم بالرحمة الإلهية. والله تعالى أعلم.
ومن مساوئ المنافقين أيضا: أمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف، كما قال تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٧ الى ٦٩]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩)
(١) أخرجه ابن جرير فى تفسيره (١٠/ ١٧٣) عن قتادة.
401
قلت: قال في الأساس: ومن المجاز: نَسيتُ الشيء: تركتُه، (نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ). قال في المشارق: ونسي بمعنى ترك، معناه مشهور في اللغة، ومنه: (نسوا الله فنسيهم) أي: تركوا أمره فتركهم. وقوله: (كالذين من قبلكم) : خبر، أي: أنتم كالذين، أو مفعول بمحذوف، أي: فعلتم مثل فعل من قبلكم.
يقول الحق جلّ جلاله: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي: متشابهة في الكفر والبعد عن الإيمان، لا فرق بين ذكورهم وإناثهم في النفاق والكفر، وهو نفي لأن يكونوا مؤمنين. وقيل: إنه تكذيب لهم في حلفهم بالله: إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وتقرير لقوله: وَما هُمْ مِنْكُمْ، وما بعده كالدليل عليه، فإنه يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين. وهو قوله: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ كالكفر والمعاصي، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ كالإيمان والطاعة، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن الإعطاء والمبار، وهو كناية عن البخل والشح. نَسُوا اللَّهَ أي: غفلوا، أي: أغفلوا ذكره، وتركوا طاعته، فَنَسِيَهُمْ فتركهم من لطفه ورحمته وفضله، إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في التمرد والفسوق عن دائرة الخير.
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ أي: المجاهرين بالكفر، نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي: مقدرين الخلود. قال ابن جزي: الأصل في الشر أن يقال: أوعد، وإنما يقال فيه: «وعد» إذا صرح بالشر. هـ. هِيَ حَسْبُهُمْ أي: جزاؤهم عقاباً وعذاباً، وفيه دليل على عِظم عذابها، وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم من رحمته، وأهانهم، وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ لا ينقطع، وهو العذاب الذي وعدوه، أو ما يقاسونه من تعب النفاق، والخوف من المؤمنين.
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: أنتم كالذين من قبلكم، أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم، كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، وهو بيان لتشبيههم بهم، وتمثيل حالهم بحالهم، فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ أي:
نصيبهم من ملاذ الدنيا وحظوظها، فأمّلوا بعيداً وبنوا مشيداً، فرحلوا عنه وتركوه، فلا ما كانوا أملوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم رجعوا، فَاسْتَمْتَعْتُمْ أنتم بِخَلاقِكُمْ أي: بنصيبكم مما خلق الله لكم وقدره لكم في الأزل، كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ، ثم تركوا ذلك ورحلوا عنه، كذلك ترحلون أنتم عنه وتتركونه.
قال البيضاوي: ذمَّ الأولين باستمتاعهم بحظوظهم المُخدَّجة من الشهوات الفانية، والتِهَائِهم بها عن النظر في العاقبة، والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيرة تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء آثارهم. هـ.
402
وَخُضْتُمْ في الباطل كَالَّذِي خاضُوا أي: أو كخوضهم، أو كالخوض الذي خاضوه، وقيل: كالذين خاضوا فيه، فأوقع الذم على الجمع. أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ أي: لم يستحقوا عليها ثواباً في الدارين، وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الكاملون في الخسران، خسروا الدنيا والآخرة.
الإشارة: ينبغي لأهل الإيمان الكامل أن يتباعدوا عن أوصاف المنافقين فيأمرون بالمعروف وينْهون عن المنكر، ويمدّون أيديهم بالعطاء والإيثار، ويذكرون الله على سبيل الاستهتار، حتى يذكرهم برحمته. ويتشبهون بمن قبلهم من الصالحين الأبرار، فقد استمتعوا بلذيذ المناجاة، وحلاوة المشاهدات، وبلطائف العلوم والمكاشفات، أولئك الذين ثبتت لهم الكرامة من الله في الدنيا والآخرة، وأولئك هم الفائزون.
ثم هدد المنافقين بإهلاك من قبلهم، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٠]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
يقول الحق جلّ جلاله، في شأن المنافقين: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ: خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كيف دمرهم الله وأهلكهم، حيث خالفوا رسلهم، قَوْمِ نُوحٍ أغرقهم بالطوفان، وَقوم عادٍ أهلكهم بالريح، وَثَمُودَ أهلكهم بالصيحة، وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ أهلك نمرود ببعوض، وأهلك أصحابه به، أرسل عليهم سحابة من البعوض فخرطتهم، ودخلت بعوضة في دماغه فأكلت دماغه، حتى هلك، وَأَصْحابِ مَدْيَنَ، وهم قوم شعيب، أُهلكوا بالنار يوم الظلة، وَالْمُؤْتَفِكاتِ مدائن قوم لوط، ائتفكت بهم، أي: انقلبت، فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارات من سجيل. أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ أي: كل واحدة منهن أتاها رسول بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحة، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي: لم يكن من عادته ما يشابه ظلم الناس، كالعقاب بلا جرم.
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب.
الإشارة: ينبغي للمؤمن المشفق على نفسه أن يتحرى مواطن الهلكة، فيجتنبها بقدر الإمكان فينظر ما فعل الله بأهل المخالفة والمعاصي، فيهرب منها بقدر إمكانه، وينظر ما فعل بأهل طاعته وطاعة رسوله من النصر والعز في الدارين، فيبادر إليها فوق ما يطيق، ويعظم الرسل، ومن كان على قدمهم ممن حمل الأمانة بعدهم، ويشد يده على صحبتهم وخدمتهم فهذا يسعد سعادة الدارين. وبالله التوفيق.
ثم ذكر أضداد المنافقين، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ أي: أصدقاء بَعْضٍ، وهذا في مقابلة قوله: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وخص المؤمنين بالوصف بالولاية، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ضد ما فعله المنافقون، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ضد قوله: وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر الأمور، ضد قوله: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ، أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ لا محالة لأن السين مؤكدة للوقوع، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على كل شىء، لا يمتنع عليه ما يريده، حَكِيمٌ يضع الأشياء مواضعها.
ثم ذكر ما أعد لهم فقال: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً أي: تستطيبها النفس، أو يطيب فيها العيش. وفي الحديث: «إنها قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر» «١». وفي حديث آخر: «إنَّ فِي الجنَةِ غُرفاً يُرى ظَاهِرُهَا مِنْ باطنها، وباطِنَها مِنْ ظَاهِرهَا، أَعَدَّها اللَّهُ لِمَنْ أَطعَمَ الطَّعَام، وأَلانَ الكَلامَ، وبذَل السَّلام، وتَابَعَ الصِّيام، وصلَّى باللَّيلِ والناس نِيامٌ» «٢».
وذلك فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، أي: إقامةٍ وخلود. وعنه- عليه الصلاة والسلام-: «جنات عدن: دار الله، التي لم ترها عين، ولا تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون، والصديقون، والشهداء. يقول الله تعالى:
طوبى لمن دخلك.»
«٣» قاله البيضاوي. ثم قال: ومرجع العطف فيها- أي: في قوله: وَمَساكِنَ طَيِّبَةً- يحتمل
(١) أخرجه بسياق أخر مطولا، البزار كما فى كشف الأستار (٣/ ٥١)، وعزاه فى الفتح السماوي (٢/ ٦٨٦) لابن أبى حاتم وابن مردويه كلهم عن الحسن عن عمران بن حصين وأبى هريرة.
(٢) أخرجه الامام أحمد فى المسند (٥/ ٣٤٣) والطبراني فى الكبير (٣/ ٣٤٢) وعبد الرزاق فى المصنف (١١/ ٤١٨) والبغوي فى التفسير (٦/ ٣٠٦) عن أبى مالك الأشعري. [.....]
(٣) أخرجه البزار، (كشف الأستار ٤/ ١٩٢) وابن جرير فى التفسير (١٠/ ١٨٠)، من حديث أبى الدرداء.
404
أن يكون لتعدد الموعود لكل واحد له، أي: فكل مؤمن ومؤمنة له جنات ومساكن أو للجميع على سبيل التوزيع، أي: فالجنات والمساكن معدة للجميع، ثم يقسمونها على حسب سعيهم في الدنيا، أو إلى تغاير وصفه- أي: الموعود- فكأنه وصفه أولاً بأنه جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها لتميل إليه طبائعهم أول ما يقرع أسماعهم. ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش، معرى عن شوائب الكدرات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا، وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وتلذ الأعين. ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار رب العالمين، لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيير.
ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ لأنه المَبدأ لكل سعادة وكرامة، والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء. وعنه صلّى الله عليه وسلّم: «أن الله تعالى يقول لأَهْلِ الجَنَّةِ: هَلْ رَضيتُم؟ فيقولون: ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعط أحداً مَنْ خَلقِكَ، فيَقُول: أَنَا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: وأيُّ شَيء أَفْضَلُ مِنْ ذلك؟ قال: أُحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أَبَدا» «١». ذلِكَ أي: الرضوان، أو جميع ما تقدم، هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها. هـ.
الإشارة: قد أعدّ الله لأهل الإيمان الحقيقي الذين بذلوا مهجهم وأموالهم في مرضاته، جنات المعارف، تجري من تحت أفكارهم أنهار العلوم والحِكَم، ومساكن طيبة، هى: عكوف أرواحهم في الحضرة، متلذذين بحلاوة الفكرة والنظرة، في محل المشاهدة والمكالمة، والمساررة والمناجاة، ورضوان من الله، الذي هو نعيم الأرواح، أكبر من كل شيىء لأن نعيم الأرواح أجل وأعظم من نعيم الأشباح، حتى أن المقربين ليضحكون على أهل اليمين، حين يرونهم يلعبون مع الولدان والحور، كما ذكر الغزالي. وأما المقربون فيشاركونهم في ذلك، ويزيدون عليهم بلذة الشهود.
قال القشيري، عند قوله تعالى: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ «٢» : إنه لا تَنَافِيَ بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم وبين شهود مولاهم، كما أنهم اليومَ مستلذون بمعرفته بأي حالةٍ هم فيها، ولا يَقْدَحُ اشتغالهم بحُظُوظِهِم في معارفهم. انتهى لفظه، وهو حسن. والله تعالى أعلم.
(١) أخرجه البخاري فى (الرقاق، باب صفة الجنة والنار) وفى مواضع أخرى، ومسلم فى (الجنة، باب: إحلال الرضوان على أهل الجنة) من حديث أبي سعيد الخدري- رضى الله عنه-.
(٢) الآية ٥٥ من سورة «يسن».
405
ثم أمر نبيه بالإغلاظ على المنافقين، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف، وَالْمُنافِقِينَ باللسان بإلزام الحجة وبإقامة الحدود ما لم يظهر عليهم ما يدل على كفرهم، فإن ظهر عليهم ذلك فحكمهم كحكم الزنديق، فيقتل على المشهور. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ بالقول والفعل، إن استوجبوا ذلك، ولا تراقبهم، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي: المرجع، مصيرهم.
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا، رُوي: أنه صلّى الله عليه وسلّم أقام في غزوة تبوك شهرين، ينزل عليه القرآن، ويعيب المتخلفين، فقال الجُلاس بن سُويد: لئن كان ما يقول محمد في إخواننا حقاً لنحن شرٌّ من الحمير، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلّم فاستحضره، فحلف بالله ما قال، فنزلت، فتاب الجُلاس وحسُنَت توبته «١».
قال تعالى: وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ، يعني: ما تقدم من قول الجُلاس، أو قول ابن أُبيّ: سَمِّن كَلبَك يأكُلك، أو: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ... الآية. وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وأظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام، ولم يقل:
بعد إيمانهم لأنهم يقولون بألسنتهم: آمنا، ولم يدخل في قلوبهم، وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا من قتل النبي صلى الله عليه وسلّم وهو:
أن خمسة عشر منهم توافقوا، عند مَرْجِعِه من تبوك، أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي، إذا وصل إلى العَقَبة بالليل، فأخذ عمَّار بن ياسر بخطام راحلته يقودها، وحُذيفة خلفها يسوقها، فبينما هم كذلك إذ سمع حُذَيفة تقعقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح، فقال: إليكم إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا «٢». أو: هموا بإخراجه من المدينة، أو إخراج المؤمنين، أو هموا بأن يُتَوجُوا عبد الله بن أُبي، وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلم ينالوا شيئا من ذلك.
(١) أخرجه البيهقي فى الدلائل (باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلّم من تبوك) عن عروة بن الزبير.
(٢) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند ٥/ ٤٥٣ عن أبى الطفيل. والبيهقي فى الدلائل (باب رجوع النبي صلى الله عليه وسلّم من تبوك) عن عروة.
وَما نَقَمُوا أي: وما عابوا وكرهوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ الذي حقهم أن يشكروا عليه، وذلك أن اكثر أهل المدينة كانوا محاويج، في ضَنَكٍ من العيش، فلما قدمهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم استغنوا بالغنائم، وقتل للجُلاَس مولى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بديته اثنى عشر ألفاً، فأُعطيت له، فاستغنى.
فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ، وهذا حمل الجلاس على التوبة، والضمير يعود على الرجوع المفهوم من التوبة، وَإِنْ يَتَوَلَّوْا عنك بالإصرار على النفاق، يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ بالقتل والنار، وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ينجيهم من العذاب.
الإشارة: كفار الخصوصية على قسمين: قسم أظهروا الإنكار على أهلها، وقسم أبطنوه وأظهروا الوفاق، ففيهم شبه بأهل النفاق، فينبغي الإعراض عن الجميع، والاشتغال بالله عنهم، وهو جهادهم والإغلاظ عليهم، فعداوة العدو حقًا هو اشتغالك بمحبة الحبيب حقا. وقد تَصْدر عنهم في جانب أهل الخصوصية مقالات ثم ينكرونها، وقد يَهمُّوا بما لم ينالوا من إذايتهم وقتلهم، لو قدروا. والله يتولى الصالحين.
ونزل فى ثعلبة بن حاطب، قوله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٥ الى ٧٨]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ وقال: لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، وهو ثعلبة بن حاطب، أتى النبي صلى الله عليه وسلّم وقال: ادع الله أن يرزقني مالاً. فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: «يا ثعلبة، قليلٌ تُؤدي شُكرَهُ خيرٌ من كثير لا تُطيقه». فراجعه، وقال: والذي بعثك بالحق، لئن رزقني الله مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له، فاتخذ غنماً، فَنَمت كما تنمو الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل وادياً، وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلّم، فقيل: كثر ماله حتى لا يسعه وادٍ، فقال: «يا ويح ثعلبة». فبعث له مُصدقين لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم، ومروا بثعلبة فسألاه الصدقة، وأقرآه الكتابَ الذي فيه الفرائض، فقال: ما هذه صدقة، ما هذه إلا أخت الجزية، فارجعا حتى أرى رأيي، فنزلت فيه الآية، فجاء ثعلبة بالصدقة، فقال: إن الله منعني أن أقبل منك، فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال له صلى الله عليه وسلّم: «هذا منك فقد أمرتُك فلم
407
تطعنى»، فقبض الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فجاء بها إلى أبي بكر، فلم يقبلها، ثم جاء بها إلى عمر في خلافته، فلم يقبلها منه، وهلك في زمن عثمان، بعد أن لم يقبلها منه «١».
وهذا معنى قوله: فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ أي: منعوا حق الله منه، وَتَوَلَّوْا عن طاعة الله، وَهُمْ مُعْرِضُونَ أي: وهم قوم عادتهم الإعراض عنها، فَأَعْقَبَهُمْ أي: فأردفهم نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ عقوبة على العصيان بما هو أشد منه، أو فجعل الله عاقبة فعلهم ذلك نفاقاً متمكناً في قلوبهم وسوء اعتقاد. قال البيضاوي: ويجوز أن يكون الضمير للبخل، والمعنى: فأورثهم البخلُ نفاقاً متمكناً في قلوبهم إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ، أي: يلقون الله بالموت، والمراد: يلقون جزاءه أو عقابه. وذلك بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ أي: بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدق والصلاح، وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي: وبكونهم كاذبين فيه فإن خلف الوعد متضمن للكذب، مستقبح من الوجهين.
أَلَمْ يَعْلَمُوا أي: المنافقون، أو من عاهد الله، أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ أي: ما أسروا في أنفسهم من النفاق، وَنَجْواهُمْ ما يتناجون فيه، فيما بينهم، من المطاعن وتسمية الزكاة جزية، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فلا يخفى عليه شيء من ذلك، والله تعالى أعلم.
الإشارة: في الحِكَم العطائية: «من تمام النعمة عليك: أن يرزقك ما يكفيك، ويمنعك ما يطغيك». وقال أبو سعيد الخدري رضى الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «خير الرِّزقِ ما يَكفي، وخَيرُ الذِّكرِ الخَفيُّ» «٢» وقال صلى الله عليه وسلم: «ما طَلَعت شمسٌ إلا وَبِجَنْبيها ملكان يُناديَان، يُسمعان الخَلائِقَ: أيُّها النَّاس، هلمُّوا إلى ربَّكم، ما قَلَّ وكَفى خَيرٌ مما كَثرَ وألهى» «٣». وقال بعض العارفين: كل من لا يعرف قدر ما زوي عنه من الدنيا، ابتلى بأحد وجهين: إما بحرص مع فقر يتقطع به حسرات، أو رغبة في غنى تنسيه شكر ما أنعم به عليه.
(١) أخرجه الطبراني فى الكبير (٨/ ٢٦٠) والبيهقي فى الدلائل (باب قصة ثعلبة بن حاطب ٥/ ٩٠) وابن جرير فى التفسير (١٠/ ١٨٩). كذلك البغوي وغيره، كلهم عن أبى أمامة الباهلي، وذكر الحافظ ابن الحجر فى الكافي الشاف: أن إسناد هذه القصة ضعيف جدا. راجع: الكافي الشاف (٢/ ٢٩٢) والإصابة (١/ ٤٠١) والحاوي للسيوطى (٢/ ١٨٣).
وثعلبة بن حاطب- المذكور فى القصة شهد بدرا. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «لا يدخل النارَ أحد شهد بدرا والحديبية». وحكى صلّى الله عليه وسلّم عن رب العزة أنه قال لأهل بدر: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فمن هذا شأنه، كيف يؤول به الأمر إلى ما آل إليه ما نزلت فيه الآيات؟ وقد أستشهد ثعلبة يوم أحد، وفى القصة المذكورة أنه هلك فى عهد عثمان. وهذا دليل على أن القصة غير صحيحة أصلا، راجع فى هذا: الشهاب الثاقب فى الذب عن الصحابي ثعلبة بن حاطب..
(٢) أخرجه أحمد ١/ ١٧٢، عن سعد بن مالك. وأخرجه ابن حبان- بتقديم وتأخير- عن سعد بن أبي وقاص (الإحسان ٢/ ٨٩ ح ٨٠٦).
(٣) أخرجه أحمد فى المسند (٥/ ١٩٧) وابن حبان (٢٤٧٦ موارد) والحاكم (٢/ ٤٤٥)، وصححه ووافقه الذهبي كلهم عن أبى الدرداء. وقال الهيثمي (٣/ ١٢٢) : رجاله رجال الصحيح.
408
وقد ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لَيْسَ الغِنى بكَثرةِ العَرَض، إنما الغِنى غِنى النَّفس». وغنى النفس عن الدنيا:
شرف الأولياء المختارين، وعز أهل التقوى المؤمنين المحسنين. ولقد صدق قول الشاعر:
غِنَى النَّفسِ ما يُغنِيكَ عنْ سَد خُلَّةٍ فإن زِدتَ شَيئاً عَادَ ذَلك الغِنى فَقْرا.
وقد قيل: من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أعمى الله عيني قلبه. وقالت الجارية المجنونة لعبد الواحد بن زيد: يا عبد الواحد، اعلم أن العبد إذا كان في كفاية، ثم مال إلى الدنيا، سلبه الله حلاوة الزهد، فيظل حيراناً والِهاً، فإن كان له عند الله تعالى نصيب، عاتبه وحيا في سره، فقال: عبدي أردتُ أن أرفع قدرك عند ملائكتي وحملة عرشي، وإجعلك دليلاً لأوليائي وأهل طاعتي في أرضي، فملت إلى عرض من أعراض الدنيا وتركتني فورثتك بذلك الوحشة بعد الأنس، والذل بعد العز، والفقر بعد الغنى، عبدي ارجع إلى ما كنت عليه، أرجعْ بك إلى ما كنت تعرفه. هـ. وقد تقدمت الحكاية. وفي بعض الكتب: إن أهون ما أصنع بالعالِمِ، إذا مال إلى الدنيا أن أسلبه حلاوة مناجاتي. هـ.
ثم ذم المنافقين بعيب آخر، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠)
قلت: (الذين) : مبتدأ حُذف خبره، أي: منهم الذين، أو خبر عن مبتدأ، أو منصوب على الذم، أو بدل من ضمير سرهم. وأصل المطوعين: المتطوعين، فأدغمت التاء في الطاء، و (جهدهم) : مصدر جهد في الأمر: بالغ فيه.
يقول الحق جلّ جلاله: ومنهم الَّذِينَ يَلْمِزُونَ أي: يعيبون الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ، روى أنه صلّى الله عليه وسلّم حث على الصدقة، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأرْبَعَةِ آلافِ دِرْهم، وقال: كان لي ثمانية آلافٍ، فأقرضت ربي أربعة، وأمسكت لعيالي أربعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «بارك الله لك فيما أَعطَيت وفيما أمْسَكْتَُ».
فبارك الله له حتى صالحته إحدى زوجتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم. وتصدق عاصم بن عدي بثمانية أوسق تمراً، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع تمر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يَنْثُرَه على تمر الصدقات،
409
فلمزَهم المنافقون، وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياءً، ولقد كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل، فنزلت الآية «١».
ونزلت في أبي عقيل: وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ إلا طاقتهم، فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ يستهزءون بهم. قال تعالى: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ جازاهم على سخريتهم، كقوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «٢»، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ على كفرهم.
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، يريد به التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة، كما نص عليه بقوله:
إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، رُوي إنَّ عبد الله بن عبد الله بن أبي- وكان من خيار المسلمين- سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، في مرض أبيه، أن يستغفر له، ففعل، فنزلت: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «٣»، وذلك لأنه- عليه الصلاة والسلام- فَهِمَ من السبعين العدد المخصوص، وقال:
ولو علمت أني إن زدت على السبعين غُفِر له، لزدت «٤»، فبيَّنَ له أن المراد به التكثير، دون التحديد، وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة في التكثر لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنه العدد بأسره قاله البيضاوي.
ذلِكَ أي: عدم قبول استغفارك بسبب أنهم كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: ليس لبُخل منا، ولا تقصير في حقك، بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عنها. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ المتمردين في كفرهم، وهو كالدليل على الحكم السابق، فإن مغفرة الكافر بالإقلاع عن الكفر، والإرشاد إلى الحق، والمنهمك في كفره، المطبوع عليه، لا ينقلع ولا يهتدي، والتنبيه على عذر الرسول في استغفاره، وهو عدم يأسه من إيمانهم، ما لم يعلم أنهم مطبُوعون على الضلالة، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم لقوله: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ... الآية «٥». قاله البيضاوي.
الإشارة: من نصب الميزان على المؤمنين فيما يصدر منهم، أو على الصالحين أو الأولياء فيما يظهر عليهم، حتى يسخر منهم، سخر الله منه، وأبعده من رحمته، فلا تنفع فيه شفاعة الشافعين ولا استغفار المستغفرين. وفى
(١) ذكره الواحدي فى أسباب النزول (٢٦٠) عن قتادة.
(٢) من الآية ١٥ من سورة البقرة.
(٣) من الآية ٦ من سورة المنافقون.
(٤) أخرجه بسياق آخر، البخاري فى (تفسير سورة التوبة). ومسلم فى (فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر) عن ابن عمر.
(٥) الآية ١١٣ من سورة التوبة.
410
بعض الأخبار: «من تتبع عورة أخيه المؤمن تتبَّع الله عورته حتى يفضحه، ولو في جوف بيته». ومن اشتغل بإذاية الأولياء، ولم يتب، مات على سوء الخاتمة، وذلك جزاء من حارب الله- والعياذ بالله-.
ثم ذكر تخلف المنافقين عن الجهاد، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨١ الى ٨٣]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣)
قلت: (خلافَ رسول الله) : منصوب على الظرفية، أي: بعده، يقال: أقام خلاف الحي، أي: بعدهم، وقيل:
مصدر خالف، فيكون مفعولاً لأجله، أو حال.
يقول الحق جلّ جلاله: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ أي: الذين خلفهم الله عن الغزو، وأقعدهم عنه، ولذلك عبَّر بالمخلفين دون المتخلفين، فرحوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ أي: بعده في غزوة تبوك، وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إيثاراً للراحة والدّعَةِ على طاعة الله ورسوله. وفيه تعريض بالمؤمنين الذين آثروا عليها تحصيل رضاه ببذل الأموال والمهج، وأما المنافقون فآثروا الراحة وقعدوا، وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، قاله بعضهم لبعض، أو قالوه للمؤمنين تثبيطاً لهم. قال ابن جزي: قائل هذه المقالة رجل من بني سليم، ممن صعب عليه السفر إلى تبوك في الحر. هـ. قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا، وقد آثرتموها بهذه المخالفة، لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ أن مآلهم إليها، أو كيف هى؟... ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة.
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، وهو إخبار عما يئول إليه حالهم في الدنيا والآخرة، أي: سيضحكون قليلاً، ويبكون كثيراً لما يرون من سوء العاقبة، وأتى به على صيغة الأمر للدلالة على أنه حَتمٌ واجب وقوعه. قال ابن جزي: أمرٌ بمعنى الخبر، فضحكهم القليل في الدنيا مدة بقائهم فيها،
وبكاؤهم الكثير في الآخرة، أي: سيضحكون قليلاً في الدنيا، ويبكون كثيراً في الآخرة، وقيل: هو بمعنى الأمر، أي: يجب أن يكونوا يضحكون قليلاً ويبكون كثيراً في الدنيا، لِمَا وقعوا فيه. هـ.
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ أي: فإن ردك الله من الغزو إلى المدينة، وفيها طائفة من المتخلفين- يعني منافقيهم- وكانوا اثني عشر رجلاً ممن تخلف من المنافقين، وإنما لم يقل: إليهم لأن منهم من تاب من النفاق، وندم على التخلف، فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ معك إلى غزوة أخرى بعد تبوك، فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا عقوبة لهم، وفيها خزي وتوبيخ لهم، إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، يعني:
عن تبوك، وهو تعليل لعدم خروجهم معه في المستقبل، فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أي: المتخلفين، أي: لعدم تأهلهم للجهاد كالنساء والصبيان.
الإشارة: من قلَّ إيقانه، وضعف نور إيمانه، فرح ببقائه، مع متابعة هواه وتيسير أمور دنياه، وكره ارتكاب مشاق المجاهدة، واقتحام حَر المخالفة والمكابدة، وثبط من رآه يروم تلك الوجهة، ويريد أن يتأهب لدخول ميدان تلك الحضرة فسيندم قريباً، حين يفوز الشجعان بحضرة الوصال، ويتأهلون لمشاهدة الكبير المتعال، ولا ينفع الندم وقد زلّت القدم، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ «١». وبالله التوفيق.
ثم نهى نبيه عن الصلاة على المنافقين، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥)
قلت: (أبداً) : ظرف لمات، أي: مات في مدة لا حياة بعدها فإن حياة الكافر للتعذيب، وهي كلا حياة.
يقول الحق جلّ جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلّم: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ من المنافقين إذا مات على كفره، بحيث (مات أبداً) أي: موتة لا حياة بعدها. نزلت في عبد الله بن أبي رأس المنافقين، فإنه لما مرض، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فسأله أن يستغفر له ويكفنه في ثوبه الذي يلي جسده، ويصلي عليه، فلما مات أرسل قميصه ليُكفن فيه، وذهب ليصلي عليه، فنزلت. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما تقدم للصلاة عليه جذبه جبريل بثوبه، وتلى عليه الآية
(١) الآيات ١١- ١٣ من سورة الواقعة. [.....]
412
فانصرف، ولم يصلِّ عليه. وقيل: صلى عليه ثم نزلت. وفي البخاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما تقدم للصلاة عليه جَذَبَهُ عمر، فقال: كيف تصلي عليه وقد نهاك ربك عن الصلاة على المنافقين؟ فقال: «إِنَّما خَيَّرَنِي... »
الحديث «١».
قال البيضاوي: وإنما لم ينه عن التكفين في قميصه، ونهى عن الصلاة عليه لأن الضنة بالقميص كانت مُخِلة بالكرم، ولأنه كان مكافأة لإلباس العباس قميصه حين أُسر ببدر «٢»، والمراد من الصلاة: الدعاء للميت والاستغفار له، وهو ممنوع في حق الكافر، ولذلك رتب النهي على قوله: (مات أبداً) يعني: الموت على الكفر، فإن إحياء الكافرين للتعذيب، دون التمتع، فكأنه لم يحيى. هـ.
واستدل ابن عبد الحكم، بهذه الآية، على وجوب الصلاة على المؤمنين، وقرر اللخميُّ وجه الدليل منها بطريق النهي عن الشيء امر بضده لأن ضد النهي عن الصلاة أمر بها. وأبطله المازري قائلا: وإنا هو من دليل الخطاب، ومفهوم المخالفة، وبيان عدم صحة كونها من باب النهي عن الشيء، أَنَّ شرط ذلك اتحاد متعلق الأمر والنهي، كقولك لزيد: لا تسكن، ومعناه تحرك، ومتعلقهما هنا مختلف، فمتعلق النهي: المنافقون، ومتعلق الأمر:
المؤمنون. وكذا رد كونها دالة مفهوم المخالفة. انظر الحاشية الفاسية.
ثم قال تعالى: وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أي: ولا تقف على قبره للدفن، أو الزيارة، ثم علل النهي فقال: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا، والحال أنهم فاسِقُونَ خارجون عن دائرة الإسلام.
ثم نهى عن الاغترار بمالهم فقال: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ، وقد تقدم، وإنما كرره للتأكيد، وهو حقيق به، فإن الأبصار طامحة إلى الأموال والأولاد، والنفوس مجبولة على حبهما، فكرر النهى عن الاغترار بهما، ويجوز أن تكون هذه فى فريق آخر غير الأول. والله تعالى أعلم.
(١) أخرجه البخاري فى (الجنائز، باب ما يكره من الصلاة على المنافقين) ومسلم فى (فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر) وتمام الحديث: «إنما خيرنى الله فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.. الآية، وسأزيد على سبعين» فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأنزل الله عزَّ وجّل: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ.
(٢) أخرج البخاري فى (الجهاد، باب الكسوة للأسارى) عن جابر بن عبد الله رضى الله عنهما- قال: (لمّا كَانَ يَوْمُ بدر أتى بالعباس، ولم يكن عليه ثوب، فنظر النبي صلى الله عليه وسلّم له. قميصا، فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه، فكساه النبي صلى الله عليه وسلّم إياه، فلذلك نزع النبي صلى الله عليه وسلّم قميصه الذي ألبسه).
413
الإشارة: إذا حصل للعبد القرب من الحبيب قربت منه الأشياء كلها، ورغبت في خُلّته الملائكةُ والجنُّ والإنسُ والروحانيون، فإذا مات صلت على جسده أجناد الأرض، وعلى روحه أجناد السماء، وفرحت بقدومه الملائكة والروحانيون، وربما شفعه الله في أهل عصره أجمعين، وإذا حصل للعبد البعد من ربه بعدت عنه الأشياء كلها، ورفضت جسده وروحه الجن والإنس والملائكة، فلا يصل عليه أحد، ولا يقف على قبره بشر، فالحذر الحذر من كل ما يبعد من حضرة الحبيب من المخالفات والإصرار على الزلات، فإنه بريد الكفر، الذي هو البعد الكبير- والعياذ بالله-. والبدارَ البدارَ إلى ما يقرب من الحبيب، من أنواع الطاعات، والمسارعة إلى الخيرات، وسائر الأخلاق الحسنة والشيم المستحسنة. وبالله التوفيق.
ثم أشار إلى تخلفهم عن الجهاد مع قدرتهم عليه، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، أو بعضها، في شأن الجهاد قائله: أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وحده، وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ صلّى الله عليه وسلّم، اسْتَأْذَنَكَ فى التخلف أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ أي: أولوا الغنى والسعة، وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ الذين قعدوا لعذر، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ مع النساء، جمع خالفة، وقد يقال: الخالفة للذي لا خير فيه. وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ بالكفر والنفاق، فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ما في الجهاد وموافقة الرسول من السعادة، وما في التخلف عنه من الشقاوة.
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أي: إن تخلف هؤلاء ولم يجاهدوا، فقد جاهد من هو خير منهم، وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ منافع الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والجنة والكرامة في الآخرة. وقيل: الحُور، لقوله: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ «١»، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالمطالب
(١) الآية ٧٠ من سورة الرحمن.
البهية والمراغب السنية. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ بيان لبعض الخيرات الأخروية.
الإشارة: إذا ظهر الدعاة إلى الله يُشوقون الناس إلى حضرة الله ترى من صُرِفَ عنه عِنَانُ العناية، ولم يضرب له مع السابقين بسهم الهداية، يميل إلى التقاعد إلى وطن الراحة، والميل إلى ما ألفه من سيىء العادة، يستأذن أن يتخلف مع النساء والصبيان، ويتنكب طريق الأقوياء من الشجعان، فإن تخلف هذا مع عوام الضعفاء فقد تقدم لهذا الأمر من يقوم به من الأقوياء، اختارهم الله لحضرته، وقواهم على مكافحة مشاهدته ومحبته، جاهدوا نفوسهم في معرفة محبوبهم، وبذلوا أموالهم ومهجهم في الوصول إلى مطلوبهم، (وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون).
ثم ذكر اعتذار الأعراب، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٠]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠)
قلت: (المُعَذَرُون) : أصله: المعتذرون، نقلت حركة التاء إلى العين، وأدغمت التاء في الذال. وقرأ يعقوب:
«المُعذِرونَ» : اسم مفعول، من أعذر، إذا بالغ في العذر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ يعتذرون في التخلُّف عن الغزو لِيُؤْذَنَ لَهُمْ في القعود، قيل: هم أسد وغطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال. قيل: كاذبين، وقيل: صادقين. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل، قالوا: إن غزونا معك غارت طيّىء على أهالينا ومواشينا، وقيل:
نزلت في قوم من غِفار. وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ من غير هؤلاء، وهم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا في تخلفهم، فكذبوا في دعواهم الإيمان بالله ورسوله، يقال: كذبت فلاناً- بالتخفيف، أي: أخبرته بالكذب. ثم ذكر وعيدهم فقال: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار.
الإشارة: المتخلفون عن طريق الخصوص على ثلاثة أقسام:
قسم: أقروا بها، وعرفوا صحتها، ثم شحوا بأنفسهم وبخلوا بأموالهم، فاعتذروا في التخلف عنها بأعذار باطلة، فهؤلاء لا حجة لهم عند الله، وقوم أقبح منهم، لم يلتفتوا إلى من جاء بها ولم يرفعوا بذلك رأساً. قال تعالى في مثلهم: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
وقسم: أقروا بها، وطلبوا الدخول فيها، لكن غلبتهم الأقدار، وأظهروا غاية الاعتذار، وتحقق عذرهم عند الواحد القهار، وإليهم الإشارة بقوله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩١ الى ٩٣]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣)
قلت: جواب «إذا» يحتمل أن يكون (تولوا)، وجملة (قُلتَ) : حال من الكاف في (أتوك)، أي: أتوك قائلاً:
لا أجد.. الخ، ويحتمل أن يكون الجوابُ: «قلتَ»، و (تولوا) استئناف لبيان حالهم حينئذٍ، و (من الدمع) : للبيان، وهي، مع المجرور، في محل نصب على التمييز، فهو أبلغ من تفيض دمعُها لأنه يدل على أن العين صارت دمعاً فياضاً، و (حزناً) : علة، أو حال، أو مصدر لفعل دل عليه ما قبله، و (ألا يجدوا) : متعلق به، أي: حزناً على ألاّ يجدوا ما ينفقون، و (إنما السبيل) راجع لقوله: (ما على المحسنين من سبيل).
يقول الحق جلّ جلاله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ كالهرْمى، وَلا عَلَى الْمَرْضى كالزّمْنَى ومن أضناه المرض، وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ في الغزو حَرَجٌ أي: لا حَرج على هؤلاء في التخلُّف عن الغزو، إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بالإيمان والطاعة في السر والعلانية. قيل: نزلت في بني مُقرن، وهم ستة إخوة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلّم، وقيل: في عبد الله بن مُغفل.
ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي: ليس عليهم جناح، ولا إلى معاتبتهم سبيل، وإنما وضع المحسنين موضع المضمر للدلالة على أنهم منخرطون في سلك المحسنين، غير معاتبين في ذلك، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بالمسيء فكيف بالمحسنين؟ وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ معك إلى الغزو، وهم البكاءون سبعة من الأنصار: مَعقِل بن يَسَار، وصَخْر بن خنساء، وعبد الله بن كعب، وسالم بن عُمَيْر، وثعلبة بن غنمة «١»،
(١) فى الأصل: خثمة.
416
وعبد الله بن مُغفَّل «١»، وعُلْية بن زيد. أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا: نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المَرْقُوعة، والنِّعال المخصوفة، نغزوا معك، فقال: لا أجد، فتولَّوا وهم يبكون «٢». وقيل: هم بنو مُقَرِّن، وقيل: أبو موسى وأصحابه، وعليه اقتصر البخاري.
قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ وليس عندي ما أحملكم عليه، تَوَلَّوْا عنك وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أي: يفيض دمعها حَزَناً على أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ في غزوهم.
زاد البخاري: فلما رجع أبو موسى وأصحابه، أتى- عليه الصلاة والسلام- بِنَهَب إبل «٣»، فدعاهم وحملهم عليها، فقالوا: يا رسول الله، إِنَّكَ حَلَفتَ أَلا تِحْمِلنَا، فخفنا أن نكون أغفلناك يمينك، فقال: «ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإنِّي والله، ما أحْلِفُ على يَمِينٍ فَأرَى خَيْراً مِنْها إلا كَفّرْتُ عن يَمِيني وأَتَيتُ الذي هُوَ خَيْر» «٤». أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ أي: الحرج والمعاتبة عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ في القعود، وَهُمْ أَغْنِياءُ واجدون للأهبة، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ كالنساء والصبيان، وهو استئناف لبيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر، وهو رضاهم بالدناءة، والانتظام في جملة النساء والصبيان إيثارا للدعة والكسل، وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ بالكفر والغفلة حتى غفلوا عن وخامة العاقبة، فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ما يؤول إليه حالهم من الندم والأسف.
الإشارة: كل مَن لم ينهض إلى صحبة الخصوص الذين جعلهم الله أدوية القلوب، توجه العتاب إليه يوم القيامة، إذ لا يخلو من لم يصحبهم من عَيب أو نقص أو خاطر سوء، حتى ربما يلقى الله بقلب سقيم.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه: من لم يتغلغل في علمنا هذا، مات مُصرًا على الكبائر وهو لا يشعر. وقال الغزالي: دواء القلوب واجب عيناً على كل مسلم، فكل من قصر في ذلك عُوقب يوم القيامة، إلا من حبسه عذر صحيح: من مرض مزمن، أو كبر سن، أو فقر مدْلق. قال تعالى: (ليس على الضعفآء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله)، فإن أحبوا أولياء الله، وصدقوهم وعظموهم، ودلّوا الناس على صحبتهم، فهؤلاء محسنون، (ما على المحسنين من سبيل والله غفور) لضعفهم، (رحيم) بهم.
(١) فى الأصول: معقل.
(٢) أخرجه الطبري فى التفسير (١٠/ ١٤٦) وذكره الواحدي فى الأسباب (٢٦٢) عن محمد بن كعب القرظي.
(٣) نهب أي: غنيمة.
(٤) أخرجه البخاري فى (المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن).
417
وقال الورتجبي: (إذا نصحوا لله ورسوله) أي: إذا عرّفوا عباد الله طريق الله، والأسوة بسنة رسول الله. هـ. وقد قال الحواريون: يا روح الله، ما النصيحة لله؟ قال: تقديم حق الله على حق الناس. هـ. ولا حرج أيضاً على من لم يجد ما ينفق على الأشياخ من الأموال، فإن من أعطى نفسه كفته عَن إعطاء المال. قال تعالى: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) إلى الحضرة (قلت لا أجد ما أحملكم عليه) فإن بذل الأموال مع المهج أنهض من أحدهما، (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون) ليتحببوا به في قلوب المشايخ. قال بعض المشايخ:
أردنا أن نجعل من يسوق مع من لا يسوق على حد سواء، فلم يعتدلوا. هـ.
وقوله تعالى: (حزناً ألا يجدوا ما ينفقون)، ليس حزنهم على فوات الدنيا، وإنما حزنهم على تخلفهم عن رسول الله، وعن صحبة أهل الكمال. وقال القشيري: شقَّ عليهم أن يكون على قلب الرسول- عليه الصلاة والسلام- منهم، أو بسببهم، شُغْلٌ، فَتَمنَّوا أن لو أزيحت علتهم، لا ميلاً إلى الدنيا ولكن لئلا يعود إلى قلب الرسول من فعلهم كراهةٌ، ولقد قيل:
مَنْ عَفَّ خَفَّ على الصديق لِقاؤه واخو الحوائج وجهه مَمْلولُ. هـ»
ولما رجع- عليه الصلاة والسلام- من غزوة تبوك، جاء المنافقون يعتذرون بالأعذار الكاذبة، ففضحهم الله بقوله:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦)
(١) فى القشيري: (ممجج مملول) قلت: والبيت ورد غير منسوب فى عيون الأخبار (٣/ ١٩١) وورد: (أنشد ثعلب) فى أدب الدنيا والدين (٣٣٨).
418
قلت: مفعول (نبأ) الثاني: محذوف، أي: نبأنا جملة من أخباركم، و (جزاء) : مصدر لمحذوف، أي: يجازون جزاء، أو علة، أي: للجزاء بما كسبوا.
يقول الحق جلّ جلاله: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ يعني: المنافقين، إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ من تبوك، قُلْ لهم: لا تَعْتَذِرُوا بالمعاذير الكاذبة لأنه لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أي: لن نصدقكم فيها لأنه قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ أعلمنا بالوحي، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلّم، ببعض أخباركم، وهو ما فى ضمائركم من الشر والفساد.
وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ: هل تتوبون من الكفر، أم تثبتون عليه؟ وكأنه استتابة وإمهال للتوبة، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وهو الله، والأصل: ثم تردون إليه فوضع هذا الوصف موضع الضمير للدلالة على أنه مطلع على سرهم وعَلانيتهم، لا يعزب عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم، فَيُنَبِّئُكُمْ أي: يُخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالتوبيخ والعقاب عليه.
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ من غزوكم لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ أي: عن عتابهم، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ لا توبخوهم إِنَّهُمْ رِجْسٌ لخبث قلوبهم لا ينفع فيهم التأنيب، فإن المقصود من العتاب: التطهير بالحمل على الإنابة، وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير، فهو علة للإعراض وترك المعاتبة، وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ أي: منقلبهم إليها، والمعنى: أن النار كفتهم عتاباً، فلا تتكلفوا عتابهم، وذلك جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والنفاق.
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ بحلفهم، فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم من الستر والإرفاق، وإشراكهم في الغنائم، فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ بذلك فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ
أي: فإن رضاكم لا يستلزم رضى الله، ورضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كانوا في سخط الله وبصدد عقابه، أو إن أمكنهم أن يُلبسوا عليكم لا يمكنهم أن يلبسوا على الله فإنه يهتك سترهم وينزل الهوان بهم. والمقصود من الآية: النهي عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم، بعد الأمر بالإعراض عنهم وعدم الالتفات نحوهم. قاله البيضاوي.
الإشارة: قد يظهر لهذه الطائفة منافقون، إذا ظهر على أهل الله عز أو نصر جاءوا يعتذرون عن تخلفهم عنه، ويحلفون أنهم على محبتهم فلا ينبغي الاغترار بشأنهم، ولا مواجهتهم بالعتاب بل الواجب الإعراض عنهم والغيبة في الله عنهم، فسيرى الله عملهم ورسوله، ثم يردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبؤهم بما كانوا يعملون.
419
ثم ذكر منافقى البادية، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
يقول الحق جلّ جلاله: الْأَعْرابُ، وهم سكان البادية، قال ابن عزيز: يقال: رجل أعرابي، إذا كان بدوياً. وإن لم يكن من العرب، ورجل عربي، إذا كان منسوباً إلى العرب، وإن لم يكن بدوياَ. أهل البوادي من المنافقين هم أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل الحاضرة، وذلك لتوحشهم وقساوتهم، وعدم مخالطتهم لأهل العلم، وقلة استماعهم للكتاب، وَأَجْدَرُ أي: أحق أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ من الشرائع وفرائضها وسننها، لبُعدهم عن مجالس العلم، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يعلم كل واحد من أهل الوبَر والمدَر، حكيم فيما يدبر من إسكان البادية، أو الحاضرة، ويختار لكل واحد بحكمته البالغة ما يليق به، وسيأتي بقية الكلام على سكنى الحاضرة أو البادية في الإشارة، إن شاء الله.
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ أي: يعدُ ما يُنْفِقُ من الزكاة وغيرها في سبيل الله، مَغْرَماً أي: غرامة وخسراناً إذ لا يحتسبه عند الله، ولا يرجو عليه ثواباً، وإنما ينفقه لرياء أو تقية، فيثقل عليه ثقل المغرم الذي ليس بحق، وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ أي: دوائر الزمان ونُوبه، أو ينتظر بكم مصائب الزمان، لينقلب الأمر عليكم فيتخلص من الإنفاق الذي كلف به.
قال تعالى: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، وهو دعاء عليهم بنحو ما يتربصونه- أي: عليهم يدور من الدهر ما يسوءهم- أو جعل الله دائرة السوء نازلة بهم. قال ابن عطية: كل ما كان بلفظ دعاء من جهة الله- عز وجل- فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء لأن الله تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهي في قَبضته، ومن هذا قوله: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «١»، وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ «٢»، وهي كلها أحكام تامة تضمنها خبره تعالى. هـ. أو إخبار عن
(١) الآية الأولى من سورة الهمزة.
(٢) الآية الأولى من سورة المطففين.
420
وقوع ما يتربصونه عليهم. قال البيضاوي: الدوائر في الأصل: مصدر أضيف إليه السوء للمبالغة، كقولك: رَجلُ صدق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «السُّوء» هنا، وفي الفتح «١» بضم السين. هـ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لما يقولونه عند الإنفاق، عَلِيمٌ بما يضمرونه من الرياء وغيره.
ثم ذكر ضدهم، فقال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ أي: يعد ما ينفقه من الزكاة وغيرها قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ تُقربهم إليه زلفى لإخلاصهم فيها. وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أي:
ويتخذ ما ينفق سبَبَ صلوات الرسول لأنه- عليه الصلاة والسلام- كان يدعو للمتصدقين، ويقول: اللهم صل على فلان، ويستغفر لهم. ولذلك سُن للمصدّق عليه أن يدعو للمتصدق عند أخذ صدقته، لكن ليس له أن يصلي عليه، كما كان يفعل صلّى الله عليه وسلّم لأن ذلك منصبه، فله أن يتفضل به على غيره.
أَلا إِنَّها أي: نفقاتهم، قُرْبَةٌ لَهُمْ تقربهم إلى حضرة ربهم، وهذا شهادة من الله لصحة معتقدهم وكمال إخلاصهم، سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ، وعدٌ من الله لهم بإحاطة الرحمة بهم، أو سيدخلهم في جنته التي هي محل رحمته وكرامته، والسين لتحقق وقوعه. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر ما فرط من الخلل، ويتفضل برحمته على ما نقص عن درجات الكمال. قيل: إن الآية الأولى نزلت في أسد وغطفان وبني تميم فهم الذين يتخذون ما ينفقون مغرماً. والثانية نزلت في عبد الله ذي البجادين وقومه فهم الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد ورد الترغيب في سكنى المدن لأنها محل العلم وسماع الوعظ، وفيها من يستعان بهم على الدين، وورد الترغيب أيضاً في سكنى الجبال والفرار بالدين من الفتن، وخصوصاً في آخر الزمان. ولهذا اختار كثير من الصحابة والتابعين سكنى البوادي كأبي ذر، وسلمة بن الأكوع، وغيرهما- رضى الله عنهم-.
والتحرير في المسألة: أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والمقاصد، فمن كان مراده تحقيق الشريعة، وتحرير مسائل العلم الظاهر، والقيام بوظائف الدين، ولم يجد في البادية من يعينه على ذلك فسكنى المدن أفضل له، ومن كان مراده تصفية قلبه وتحقيق علم الطريقة، وتهيئة القلب لإشراق أنوار الحقيقة، فالاعتزال في البوادي، وقرون الجبال، أوفق له، إن وجد من يستعين بهم على ذلك لأن شواغل المدن وعوائدها كثيرة، وقد كثرت فيها الحظوظ والأهوية فلا تجد فيها إلا من هو مفتون بدنيا أو مبتلى بهوى، بخلاف أهل البادية، هذه العوائد فيهم قليلة، وجُلّ أهلها على الفطرة.
وأيضاً: هم مفتقرون إلى من يسوسهم بالعلم أكثر من غيرهم، فمن تصدى لتعليمهم وتذكيرهم لا يعلم قدره إلا الله. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضى الله عنه: [أرحم الناس بالناس: من يرحم من لا يرحم نفسه]. أي: من يرحم
(١) فى قوله تعالى: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ.. الآية ٦ من سورة الفتح.
421
الجاهل الذي لا يرحم نفسه بأن يعلمه ما ينفع به نفسه ويرحمها. وقال الغزالي في الإحياء: يجب على العلماء أن يبعثوا من يعلم الناس في البوادي فإن أخلوا بذلك الأمر عاقبهم الله، فمن تعرض لتعليمهم قام بهذا الواجب. والله تعالى أعلم. وأما ما يذكر حديثاً: «أمتي في المدن، وقليل في البادية»، فلم يصح، بل قال- عليه الصلاة والسلام- للرجل الذي أراد أن ينتقل إلى المدينة: «اعبد الله حيثما كنت، فإن الله لن يترك من أعمالك شيئاً». وكذلك قوله:
إذا أراد الله بعبد خيراً نقله من البادية إلى الحاضرة لم أقف عليه حديثاً. وبالله التوفيق.
ثم ذكر فضل السابقين إلى الإسلام، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٠]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)
قلت: (السابقون) : مبتدأ، (والذين اتبعوهم) : عطف عليه، وجملة (رضى الله عنهم) : خبر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ إلى الإسلام مِنَ الْمُهاجِرِينَ وهم الذين صلوا إلى القبلتين، أو الذين شهدوا بدراً، أو الذين أسلموا قبل الهجرة، وَمن الْأَنْصارِ وهم أهل بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعة، أو أهل العقبة الثانية، وكانوا سبعين، أو الذين أسلموا حين قدم عليهم مُصعب بن عُمير.
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ اللاحقين بالسابقين من الفريقين، أو من الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم، وَرَضُوا عَنْهُ بما نالوا من نِعَمه الدينية والدنيوية، وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ وقرأ ابن كثير: «من تحتها»، كما هي في مصحف أهل مكة. خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي: الفلاح الدائم الكبير.
الإشارة: لكل زمان سابقون، قد شمروا عن ساق الجد والاجتهاد، ورفضوا كل ما يقطعهم عن محبوبهم من العشائر والأولاد، قد خرقوا عوائد أنفسهم، فأبدلوا العز بالذل، والجاة بالخمول، والغنى بالفقر، والرفعة بالتواضع، والرغبة بالزهد، وشغل الظاهر بالتفرغ ليتفرغ بذلك الباطن. وسافروا في طلب محبوبهم، وصحبوا المشايخ، وخدموا الإخوان، حتى ارتفعت عنهم الحجب والأستار، وتمتعوا بمشاهدة الكريم الغفار فتهيئوا لتذكير العباد، وحيت بهم الأقطار والبلاد. وفي مثلهم يقول الشاعر:
تَحيا بِكم كُل أَرضٍ تَنْزِلُون بها كَأَنَّكُم في بِقاع الأرض أَمطَار
وتَشتَهِي العينُ فيكم مَنْظَراً حسناً كأَنَّكُم في عُيون الناس أَقْمَارُ.
(فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أعين جزاء بما كانوا يعملون).
ثم ذكر بقية من المنافقين، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠١]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١)
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ، يا أهل المدينة، مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ ساكنون حولكم، وهم: جُهينة، ومُزينة، وأسلم، وغفار، وأشجع، كانوا نازلين حول المدينة، أما أسلم وغفار فتابوا، ودعا لهم- عليه الصلاة والسلام- فقال: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها» وأما الباقي فأسلم بعضهم.
قال تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قوم مَرَدُوا أي: استمروا عَلَى النِّفاقِ، واجترءوا عليه، وتمرنوا وتمهروا فيه، لا تَعْلَمُهُمْ أي: لا تعرفهم يا محمد بأعيانهم، وهو بيان لمهارتهم وتنوقهم في تحري مواقع التهم إلى حد قد خفي عليك حالهم، مع كمال فطنتك وحِذقِ فراستك، نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ، ونَطّلِع على أسرارهم، إن قدروا أن يُلبسوا عليك فلا يقدرون أن يلبسوا علينا، سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ بالفضيحة والقتل، أو بأحدهما وعذاب القبر، أو بأخذ الزكاة ونهك الأبدان في الحرب، أو بإقامة الحدود وعذاب القبر، أو بتسليط الحُمى عليهم مرتين في السنة، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ بعد الموت، وهو عذاب النار.
الإشارة: قد جعل الله- سبحانه- بحكمته وقدرته، في كُلَّ عصر وأوان بحرين: بحراً من النور وبحراً من الظلمة، من عصر النبي صلى الله عليه وسلّم إلى قيام الساعة، فلا بد في كل عصر من نور وظلمة، وإيمان وكفران، ونفاق وإخلاص، وصفاء وخوض، فأهل النور نورهم في الزيادة إلى قرب قيام الساعة، وأهل الظلمة كذلك، إذ لا تعرف الأشياء إلا بأضدادها، ولا يظهر شرف النور إلا بوجود الظلمة، ولا شرف الصفاء إلا بوجود الخوض، ولا فضل العلم إلا بوجود الجهل، وهكذا جعل الله من كل زوجين اثنين، ليقع الفرار إلى الواحد الحق، فمن رام انفراد احدهما في الوجود فهو جاهل بحكمة الملك الودود. والله تعالى أعلم.
ولما ذكر من كمل صفاؤه من السابقين، ومن كمل خوضه من المنافقين، ذكر من جمع بين الصفاء والخوض، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٢]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقوم آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ وهو التخلف عن الجهاد، ولم يعتذروا عن تخلفهم بالأعذار الكاذبة، وهم طائفة من المتخلفين لما بلغهم ما نزل في المتخلفين أوثقوا أنفسَهم على سواري المسجد، وقالوا: لا نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل المسجد، فصلى فيه ركعتين، على عادته، فرآهم وسأل عنهم، فذُكر له سببهم، فنزلت الآية فأطلقهم «١».
خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً بعمل سيىء وَآخَرَ سَيِّئاً بعمل صالح، خلطوا العمل الصالح الذي هو إظهار الندم والاعتراف بالذنب، بآخر سيىء وهو التخلف وموافقة أهل النفاق، أو خلطوا عملاً صالحاً، وهو ما سبق لهم من الجهاد مع الرسول، وغيره من الأعمال، بآخر سيىء، وهو تخلفهم عن تبوك. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي: يقبل توبتهم المدلول عليها بقوله: اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ، والرجاء في حقه تعالى واجب. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يتجاوز عن التائب ويتفضل عليهم.
قال بعضهم: ما في القرآن آية أرجى لهذة الأمة من هذه الآية. وقال القشيري: قوله: وَآخَرَ سَيِّئاً بعد قوله: عَمَلًا صالِحاً، دليل على أن الزَّلَّةَ لا تحبط ثوابَ الطاعة إذ لو أحبطته لم يكن العملُ صالحاً، وهو كذلك.
انتهى. قُلْتُ: وما ذكره من عدم الإحباط هو مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، ولا يعارضه حديث مسلم: «أًنَّ رَجُلاً قال: واللَّهِ لا يَغفِرُ الله لفُلانِ، وإنَّ اللَّهَ قالَ: مَن الذي يَتَأَلّى «٢» عَلَيَّ أَلاَّ أَغفِرَ لفُلانِ، وإنّي غَفَرتُ لَه وأحبطَتُ عَمَلك» «٣» أو كما قال لأن هذا الرجل كان من بني إسرائيل، ولعل شرعهم مخالف لشرعنا لأن هذه الأمة المحمدية قد وضع الله عنها أثقال بني إسرائيل، فهي ملة سمحة، ولعل هذا الرجل أيضاً كان قانطاً من رحمة الله ومكذباً بها، فهو كافر. انظر الحاشية الفاسية.
الإشارة: الناس ثلاثة: سابقون ومخلطون ومنهمكون. فالسابقون فائزون، والمخلطون راجون، والمنهمكون هالكون، إلا من تاب وعمل صالحاً، فالسابقون هم الذين غلب إحسانهم على إساءتهم، وصفاؤهم على كدرهم، إن هفوا رجعوا قريباً، فقد تمر عليهم السنين الطويلة ولا يكتب عليهم ملك الشمال شيئاً وذلك ليقظتهم، لا لعصمتهم،
(١) أخرجه البيهقي فى الدلائل (باب حديث أبى لبابة وأصحابه ٥/ ٥٧٢) وابن جرير فى التفسير (١١/ ١٠) عن ابن عباس- رضى الله عنه.
(٢) يتألى: يحلف. والألية: اليمين.. انظر النهاية (ألى ١/ ٦٢). [.....]
(٣) أخرجه مسلم فى (البر والصلة، باب النهى عن تقنيط الإنسان من رحمة الله) من حديث جندب- رضى الله عنه.
والمخلطون هم الذين يكثر سقوطهم ورجوعهم، عسى الله أن يتوب عليهم. والمنهمكون هم المصرون على الفواحش، فإن سبقت لهم عناية رجعوا، وإن لم تسبق لهم عناية فهم مُعرِّضون لنقمة الله وحلمه. والله تعالى أعلم.
ولما تاب الله على المتخلفين، وأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الوثاق، قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي خلفتنا، خذها فتصدّق بها وطهّرنا، فقال عليه الصلاة السلام: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا». فأنزل الله فى ذلك:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤)
يقول الحق جلّ جلاله، لنبيه- عليه الصلاة السلام: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ التي عرضوها عليك، صَدَقَةً، وهو الثلث، فأخذ عليه الصلاة السلام من أموالهم الثلث، وترك لهم الثلثين، أو: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً، وهي الزكاة المفروضة، والضمير لجميع المسلمين. من صفة تلك الصدقة: تُطَهِّرُهُمْ أنت يا محمد بها من الذنوب، أو حب المال المؤدي بهم إلى البخل، الذي هو أقبح الذنوب. وقرىء بالجزم جواب الأمر.
وَتُزَكِّيهِمْ أي: تنمي بها حسناتهم، أو ترفعهم بِها إلى درجات المخلصين، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي:
ترحم عليهم، وادع لهم بالرحمة، فكان عليه الصلاة السلام يقول لمن أتاه بصدقته: «اللهم صل على آل فُلان».
فأتى أبو أوفى بصدقته فقال: «اللهم صلِّ على آل أَبي أَوفَى» «١».
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ تسكن إليها نفوسهم، وتطمئن بها قلوبهم، لتحققهم بقبول دعائه عليه الصلاة السلام. قال القشيري: انتعاشهم بهمَّتِكَ معهم أتم من استقلالهم بأموالهم. هـ. وجمع الصلوات لتعدد الموعد لهم، وقرأ الأخَوانِ وحفص بالتوحيد. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي: سميع باعترافهم عليم بندامتهم.
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ إذا صحت، والضمير إما للتوب عليهم، والمراد أن يُمكن في قلوبهم قبول توبتهم والاعتداد بصدقتهم، أو لغيرهم، والمراد به التحضيض على التوبه، وَأنه هو الذي يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ يقبلها قبول من يأخذ شيئاً ليؤدي بدله، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ أي: من شأنه قبول توبة التائبين، والمتفضل عليهم بجوده وإحسانه.
(١) أخرجه البخاري فى (الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة) ومسلم فى (الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقته) من حديث عبد الله بن أبي أوفى.
الإشارة: أخذ المشايخ من أموال الفقراء سبب في غناهم، واتساع حالهم حساً ومعنى، وقد قالوا: إذا أراد اللهُ أن يغني فقيراً سلط عليه ولياً يأخذ ماله، أو أمره شيخه بإعطاء ماله، فإن ذلك عنوان على غناه. وقد ذكر ذلك شيخ أشياخنا سيدي علي الجمل العراني في كتابه. وقد رأيت في مناقب شرفاء وزان: أن الشيخ مولاي التهامي أرسل إلى أخيه مولاي الطيب، وكان من خواص تلامذته، أن يدفع إليه جميع ماله ليصنع به كسوة للمرابطين، فأرسل له جميع ما يملك، حتى كسوة الدار وأثاث البيت، فكان ذلك سبباً في فيضان ماله، فلا تجد مدينة ولا قبيلة إلا وفيها مِلكٌ من أملاك مولاي الطيب، حتى إلى بلاد الجزائر وما والاها، وذلك بسبب تجارة شيخه له.
والله تعالى أعلم.
ثم هدد أهل التخليط، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٥]
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَقُلِ اعْمَلُوا ما شئتم من خير أو شر، فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ فإنه لا يخفى عليه خيراً كان أو شرًّا، وَسيرى ذلك أيضاً رَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فيظهر لهم ما يبدو منكم، فإن الطول يفضح صاحبه. وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بالموت، فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيخبركم بما عملتم بالمجازاة عليه.
الإشارة: كل من ظهر بدعوى أو تعرض لمقام من المقامات يقال له: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، فإن كان إمره مبنياً على أساس الإخلاص والتقوى ثبت وانتهض، وشعشع نوره، وإن كان مبنياً على غير أساس، افتضح وكََسَف نوره، وسيرد الجميع إلى عالم الغيب والشهادة، فيجازي كلاً بعمله.
ثم نزل فى شأن الثلاثة الذين خلّفوا قوله تعالى:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٦]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)
قلت: الإرجاء هو التأخر، يقال: أرجاه- بالهمز وتركه-: أَخره.
يقول الحق جلّ جلاله: وَآخَرُونَ من المتخلفين، تخلفوا من غير عُذر، ولم يعتذروا بشيء، مُرْجَوْنَ أي: مؤخرون لِأَمْرِ اللَّهِ في شأنهم إِمَّا أن يُعَذِّبُهُمْ على تخلفهم عن الجهاد مع
رسوله، وَإِمَّا أن يَتُوبُ عَلَيْهِمْ حيث تابوا وندموا، والترديد باعتبار العباد، وفيه دليل على أنَّ كلا الأمرين بإرادته تعالى، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم، حَكِيمٌ فيما فعل بهم.
والمراد بهؤلاء الثلاثة: كَعْب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم الناس ألا يُسلموا عليهم ولا يكلموهم، فلما رأوا ذلك أخلصوا نياتهم، وفوضوا أمرهم إلى الله، فرحمهم «١»، وسيأتي تمام قصتهم وتوبة الله عليهم بعد، إن شاء الله.
الإشارة: وآخرون مؤخرون عن صحبة المشايخ العارفين، حتى ماتوا مفروقين، إما أن يعذبهم على ما أصروا من المساويء والذنوب، وإما أن يتوب عليهم بفضله وكرمه، إنه عليمٌ لا يخفى عليه ما أسروا، حكيم فيما قضى عليهم من أمر الحجاب بعدله وقضائه.
ثم ذكر أهل مسجد الضرار، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
قلت: قرأ نافع وابن عامر: بغير واو «٢» مبتدأ حُذف خبره، أي: معذبون، أو في: (لا تقم فيه أبداً)، أو في قوله:
(لا يزال)، أو صفة لقوله: (وآخرون)، على من يقول: إن «المُرْجَوْن» غير الثلاثة المخلفين، بل في المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنيانهم مسجد الضرار. ومن قرأ بالواو فعطف على قوله: (آخرون)، أو مبتدأ حذف
(١) أخرج قصتهم البخاري فى (المغازي، باب حديث كعب بن مالك) ومسلم فى (التوبة، باب حديث توبة كعب بن مالك) من حديث عبد الله بن كعب عن أبيه.
(٢) فى قوله تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا....
427
خبره، أي: وممن وصفنا: الذين، أو منصوب على الذم، و (ضراراً) وما بعده: علة، وأصل (هارٍ) : هائر، فأخرت الهمزة، ثم قلبت ياء، ثم حذفت لالتقاء الساكنين.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمنهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً أي: لأجل المضارة بالمؤمنين وللكفر الذي أسروه، وهو تعظيم أبي عامر الكافر، وَتَفْرِيقاً بَيْنَ جماعة الْمُؤْمِنِينَ الذين كانوا يُصلون في مسجد قباء.
رُوي أن بَني عَمْرو بن عوف لَمَّا بَنَوا مسجد قُباء سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يأتيهمْ فيصلي فيه، فأتاهُمْ فصلَّى فيه، فَحَسدتهم إخوانُهم بَنو غُنم بن عوفٍ، فبنوا مسجداً على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب، إذا قدم من الشام، فلما أتموه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالوا: إنا قد بنينا مسجداً لذي الحاجة والعلة والليلة المطيرة، فصل لنا فيه حتى نتخذهُ مصلى، وكان ذلك قبل خروجه لتبوك، فقال لهم: «إني عَلى جَنَاح سَفَرٍ، وإذا قَدِمنا، إِن شاء الله، صلَّينا فيه». فلما قدم أتوه، فأخذ ثوبه ليقوم معهم، فنزلت الآية، فدعا مالك بن الدُّخشم، ومَعن بن عدي، وعامر بن السَّكن، فقال: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه ففعلوا، واتخذوا مكانه كناسة «١».
ثم أشار إلى قصدهم الفاسد، فقال: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: واتخذوه انتظاراً ليؤمهم فيه من حارب الله ورسوله، يعني: أبا عامر الراهب، فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم أحد: لا أجد قوماً يقاتلونك إلاَّ قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فانهزم مع هوازن، ثم هرب إلى الشام ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فمات بِقنَّسرَينَ «٢» طريداً وحيداً. وكان أهل المدينة يسمونه قبل الهجرة: الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلّم الفاسق.
وقوله: مِنْ قَبْلُ: متعلق بحارب، أي: حارب من قبل هذا الوقت، أو باتخذوا، أي: اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف لأنه قبيل غزوة تبوك. وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أي: ما أردنا ببنيانه إلا الخصلة الحسنى، وهي الصلاة والذكر والتوسعة على المسلمين. وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم.
ثم نهاه عن الصلاة فيه فقال: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً للصلاة إسعافاً لهم، لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من أيام وجوده، أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أي: أولى بأن تصلى فيه، وهو مسجد قباء، أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلّم في أيام مُقامه بقباء، حين هاجر من مكة، من الاثنين إلى الجمعة، وهذا أوفق للقصة. وقيل: مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلّم لقول أبي سعيد: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عنه؟ فقال: «مسْجدُكم هذا مسجد المدينة» «٣».
(١) انظر تفسير البغوي ٤/ ٩٣- ٩٤ وأسباب النزول للواحدى (٢٦٤).
(٢) قنسرين: مدينة قريبة من حلب من جهة حمص.
(٣) أخرجه مسلم فى (الحج، باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلّم بالمدينة).
428
فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، كانوا يستنجون بالماء، ويجمعون بين الماء والحجر، أو يتطهرون من المعاصي والخصال المذمومة، طلباً لمرضات الله تعالى، أو مِن الجنابة، فلا ينامون عليها، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ يرضى عنهم، ويُدنيهم من جنابه إدْناء المحب لحبيبه.
وقيل: لما نَزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومعه المُهاجرون، حتى وقف على باب مسجد قُباء، فإذا الأنصار جُلوس، فقال: «أَمؤمِنونَ أَنتُم؟ فَسَكَتُوا، فأعادَها، فقال عمر: إنهم مؤمنون وأنا معهم، فقال عليه الصلاة والسلام:
أَتَرضَونَ بالقَضاء؟ فقالوا: نعم، قال: أَتَصبِرون على البلاء؟ قالوا: نعم، قال: أَتشْكرونَ في الرَّخاء؟ قالوا: نعم، فقال عليه الصلاة والسلام: مؤمِنُونَ وَرَبِّ الكَعبَةِ. فَجَلَسَ، ثم قال: يا مَعشَرَ الأنْصَار، إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أَثنى عَلَيكم، فما الذي تَصنَعُون عند الوضوء وعِندَ الغائط؟ فقالوا: يا رسول الله، نُتبع الغائط الأحجارَ الثلاثةَ، ثم نُتبعُ الأحجار المَاء. فقال: رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا»
«١».
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ بأن قصد به وجه الله، وابتغاء مرضاته، فَحسُنت النية في أوله، خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى قصد الرياء والمنافسة، فكأنه بنى على شَفا أي: طرف جُرُفٍ: حفرة هارٍ أي: واهٍ ضعيف، أشرف على السقوط، أو ساقط، فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ أي:
طاح في جهنم، وهذا ترشيح للمجاز، فإنه لما شبهه بالجرف وصفه بالانهيار، الذي هو من شأن الجرف، وقيل: إن ذلك حقيقة، وإنه سقط في جهنم، وإنه لم يزل يظهر الدخان في موضعه إلى قيام الساعة.
والاستفهام للتقرير، والذي أُسس على التقوى والرضوان: هو مسجد قباء، أو المدينة، على ما تقدم، والذي أسس على شفا جرف هار هو مسجد الضرار، وتأسيس البناء على التقوى هو تحسين النية فيه، وقصد وجه الله، وإظهار شرعه، والتأسيس على شفا جرف هار هو فساد النية وقصد الرياء، والتفريق بين المؤمنين، وذلك على وجه الاستعارة والتشبيه البالغ. قاله ابن جزي. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى ما فيه صلاح ونجاه.
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ أي: مبنيهم، مصدر بمعنى المفعول، الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً أي: شكاً ونفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ، والمعنى: أن بناءهم هذا لا يزال سبب شكهم وتزايد نفاقهم، فإنه حملهم على ذلك، ثم لما هدمه الرسول صلّى الله عليه وسلّم رسخ ذلك في قلوبهم وازداد، بحيث لا يزول رسمه من قلوبهم، إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ أي: تتقطع قُلُوبِهِمْ
(١) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف: لم أجده هكذا، وكأنه ملفق من حديثين، فإن صدر الحديث أخرجه الطبراني فى الأوسط من حديث ابن عباس إلى قوله (ورب الكعبة)، وروى بقيته ابن مردويه. انظر الفتح السماوي (٢/ ٧٠٤).
429
بالموت، بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك، أو لا يزال بنيانهم ريبة، أي: شكاً في الإسلام بسبب بنيانه، لاعتقادهم صواب فعلهم، أو غيظاً بسبب هدمه، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بنياتهم، حَكِيمٌ فيما أمر من هدم بنيانهم.
الإشارة: من أراد أن يؤسس بنيان أعماله وأحواله على التقوى والرضوان، فليؤسسه على الإخلاص والنية الحسنة، ومتابعة السنة المحمدية، فإنها لا تنهدم أبداً، ومن أراد أن يؤسسها على شفا جرف هارٍ فليؤسسها على الرياء والسمعة، وقصد الكرامات وطلب الأعواض، فإنها تنهدم سريعاً ولا تدوم، فما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل. وبالله التوفيق.
ثم ذكر كرامة أهل الإخلاص، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١١]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١)
قلت: جملة (يقاتلون) : حال من (المؤمنين) بياناً للشراء، أو استئنافاً لبيان ما لأجله الشراء، وقيل:
«يقاتلون» : بمعنى الأمر، و (وعداً) : مصدر لما دل عليه الشراء، فإنه في معنى الوعد، أي: وعدهم وعداً حقاً لا خلف فيه.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ أي: عوضهم في بذل مُهجهم وأموالهم في سبيله الجنة ونعيمها، ومن جملته: النظر إلى وجهه الكريم. قال بعضهم: فانظر..
ما أكرمه سبحانه، فإن أنفسنا هو خلقها، وأموالنا هو رزقها، ثم وهبها لنا، ثم اشتراها منا بهذا الثمن الغالي، فإنها لصفقة رابحة. هـ.
ثم بيَّن وجه الشراء فقال: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمة الله، فَيَقْتُلُونَ الكفارَ، وَيُقْتَلُونَ شهداء في سبيل الله. وقرأ الأخَوَانِ بتقديم المبني للمفعول لأن الواو لا ترتب، وأن فعل البعض قد يسند إلى الكل، أي: فيموت بعضهم ويجاهد الباقي. وعد ذلك لهم وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا لا خلف فيه، مذكوراً ذلك الوعد فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ أي: إن الله بيَّن في الكتابين أن الله اشترى من أمة محمد أنفسهم وأموالهم بالجنة،
430
كما بيَّنه في القرآن، أو كل أمة أمرت بالجهاد ووعدهم هذا الوعد. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟ هو مبالغة في الإنجاز، أي: لا أحد أوفى منه بالعهد، فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ أي: فافرحوا به غاية الفرح، فإنه أوجب لكم أعظم المطالب، كما قال: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. قال بعضهم: ناهيك من بيع، البائع فيه رب العلا، والثمن جنة المأوى، والواسطة محمد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
الإشارة: قد اشترى الحق جل جلاله منا أنفسنا وأموالنا بالجنة، فمن باع نفسه لله بأن خالف هواها وخرق عوائدها، وسعى في طلب مولاها، عوضه جنة المعارف، معجلة، وزاده جنة الزخاف، مؤجلة. ومن باع ماله بأن أنفقه في مرضاة الله، وبخل بنفسه، عوضه جنة الزخارف، مؤجلة.
قال في الإحياء- في باب الذكر وفضيلته-: وأنه يوجب الأنس والحب، فإذا حصل الأنس بذكر الله انقطع عن غير الله، وما سوى الله هو الذي يفارقه عند الموت، فلا يبقى معه في القبر أهل، ولا مال، ولا ولد، ولا ولاية، ولا يبقى معه إلا ذكر الله، فإن كان في أنس به تمتع به، وتلذذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه، إذ ضرورات الحاجات في الحياة تصد عن ذكر الله، ولا يبقى بعد الموت عائق، فكأنه خلّى بينه وبين محبوبه، فعظمت غبطته، وتخلص من السجن الذي كان ممنوعاً فيه، عما به أنسُه.
ثم قال: ولأجل شرف ذكر الله عظمت رتبة الشهادة لأن المطلوب هو الخاتمة، ومعنى الخاتمة: وداع الدنيا كلها، والقدوم على الله، والقلب مستغرق بالله، منقطع العلائق عن غيره، والحاضرُ صَفّ القتال قد تجرد قلبه لله، وقطع طمعه من حياته، حباً لله وطمعاً في مرضاته، وحالة الشهيد توافق معنى قولك: (لا إله إلا الله)، فإنه لا مقصود له سوى الله. هـ. فما يجده أهل التملق من لذيذ الحلاوة في مناجاتهم، وأهل الشهود في حال غيبتهم في محبوبهم، ليس هو من نعيم الدنيا، بل من نعيم الجنة، قدَّمه الله لأوليائه، وهو معنى جنة المعارف المعجلة عوضاً لمن باع نفسه لله.
قال بعض العارفين: النفوس ثلاثة: نفس معيبة، لا يقع عليها بيع ولا شراء، وهي نفس الكافر، ونفس تحررت لا يصح بيعها، وهي نفس الأنبياء والمرسلين، لأنها خُلقت مطهرة من البقايا، ونفس يصح بيعها وشراؤها، وهي نفس المؤمن، فإذا باعها لله، واشتراها الحق تعالى منه، وقع عليها التحرير، وذلك حين تتحرر من رقّ الأكوان، وتتخلص من بقايا الأثر.
وقال بعض أهل التحقيق: اشترى الله تعالى أعز الأشياء بأجل الأشياء، وإنما اشترى الأنفس دون القلوب لأن القلب حر لا يقع عليه البيع لأنه لله فلا يباع ولا يشتري، أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «القلبُ بيت الرب».
431
أي: لأنه محل مناجاته، ومعدن معرفته، وخزانة سره، فليس للشيطان عليه من سبيل. قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «١». وأما النفس فإنها مملوكة تباع وتشترى. هـ.
ثم بيّن أوصاف البائعين، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٢]
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
قلت: (التائبون) : خبر، أي: هم التائبون، أو مبتدأ حُذف خبره، أي: التائبون في الجنة وإن لم يجاهدوا، لقوله تعالى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى «٢»، أو خبره ما بعده، أي: التائبون عن الكفر، على الحقيقة، هم الجامعون لهذه الخصال.
يقول الحق جلّ جلاله، في وصف البائعين أنفسهم وأموالهم: هم التَّائِبُونَ عن الكفر والمعاصي والهفوات والغفلات، الْعابِدُونَ لله، مخلصين له الدين، الْحامِدُونَ الله في السراء والضراء وعلى كل حال، السَّائِحُونَ أي: الصائمون، لقوله عليه الصلاة والسلام: «سِيَاحَةُ أُمتي الصوم» «٣»، شبه بها من حيث إنه يعوق عن الشهوات، أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على خفايا الملكوت والجبروت. أو السائحون للجهاد، أو لطلب لعلم، أو لزيارة المشايخ والإخوان.
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ في الصلاة، الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي: بكل ما هو معروف محمود، كالإيمان والطاعة، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي: كل ما هو منكر في الشرع، كالكفر والمعاصي، وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي: لكل ما حده الشارع وعينه من الحقائق والشرائع. قال البيضاوي: وعطف قوله: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ دون ما قبله للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة، كأنه قال: الجامعون بين الوصفين، وعطف أيضاً قوله: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل، وهذا مجملها، وقيل:
(١) من الآية ٦٥ من سورة الإسراء.
(٢) من الآية ٩٥ من سورة النساء.
(٣) أخرجه ابن جرير فى التفسير (١١/ ٣٥) موقوفا على السيدة عائشة، بلفظ «سياحة هذه الأمة الصيام، وأخرجه مرفوعا، عن عبيد بن عمير، بلفظ: (سئل النبي صلى الله عليه وسلّم عن السائحين فقال: «هم الصائمون» ).
432
للإيذان بأن التعداد قد تم بالسابع، من حيث إن السبعة هو العدد التام، والثامن ابتداء لعدد آخر معطوف عليه، ولذلك سمى واو الثمانية. هـ. بالمعنى.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الموصوفين بهذه الفضائل، ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك، وحذف المبشر به للتعظيم، كأنه قيل: وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام. قاله البيضاوي.
الإشارة: قد جمعت هذه الآية معارج الترقي من البداية إلى النهاية، فأول المقامات: التوبة، فإذا تابت النفس ورجعت عن هواها قصدت السير إلى حضرة مولاها، فاشتغلت بالعبادة الظاهرة، التي هي عمل الشريعة، فإذا ظهر عليها أمارات التوفيق، ولاحت لها أنوار التحقيق، حمدت الله وشكرته تقييداً لتلك النعمة، ثم تسيح فكرتها في ميادين الغيوب من الملكوت إلى الجبروت، ثم ترد إلى مراسم الشريعة، إذ منتهى الكمال: التزام الشرائع، فتركع وتسجد البشرية، أدباً في عالم الأشباح، ويركع القلب ويسجد في مسجد الحضرة في عالم الأرواح، فحينئذٍ تصلح للوعظ والتذكير، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر الظاهريْن لأهل التشريع، والباطنيْن لأهل التحقيق، فالأول يسمى وعظاً وتذكيراً، والثاني يسمى تربية وترقية، ولا يقبل ذلك إلا ممن وقف مع الحدود، ووفى بالعهود، فيبشر حينئذٍ بالسعادة العظمى والمقام الأسنى.
قال القشيري: قوله تعالى: السَّائِحُونَ أي: الصائمون، ولكن عن شهود غير الله، المُمْتنعون عن خدمة غير الله، المكتفون من الله بالله. ويقال: السائحون الذين يسيحون في الأرض على جهة الأعتبار طلباً للاستبصار، ويسيحون بقلوبهم في مشارق الأرض ومغاربها بالتفكر في جوانبها ومناكبها، والاستدلال بتغيّرها على منشئها، والتحقق بحِكَم خالقها بما يَرَوْنَ من الآيات التي فيها، ويسيحون بأسرارهم في الملكوت، فيجدون رَوْحَ الوصال، ويعيشون بنسيم الأنْسِ بالتحقيق بشهود الحق. انتهى.
وانظر الورتجبي فقد جعل وصف الإيمان يحمل على التوبة، ثم التوبة الصادقة تستدعي العبادات والمجاهدات المؤدية للعبودية، فإذا تمت له نعمة العبودية اقتضت حمد الله تعالى، فيحمده تعالى معترفاً بعجزه عن القيام بحمده كما في حديث: «أنتَ كَمَا أثنَيتَ عَلى نَفسِك» «١»، ثم الحمد والذكر يقتضي حبس النفس عن مألوفاتها حين عاين حِمَى هلال جماله في سماء الإيقان. ألا ترى كيف قال عليه الصلاة والسلام: «صوموا لرؤيته»،
(١) أخرجه مسلم فى (الصلاة، باب: ما يقال فى الركوع والسجود) من حديث السيدة عائشة- رضى الله عنها.
433
ولا يكون فطره إلا على حلاوة مشاهدته لقوله: «وأفطِرُوا لرُؤْيَتِهِ»، فالسائحون طيارون بقلوبهم في أقطار الغيب، وذلك يقتضي الخضوع بنعت الفناء عند مشاهدة العظمة، فيركع شوقاً لجماله، وخضوعاً لجلاله، وعند ركوعه وخضوعه تحيط به أنوار الصفات، فيسجد لكل الجهات (فَأَيْنَمَا تُولوا فَثَمّ وجه الله) «١». وهذا السجود يقتضي الغربة، والغربة تقتضي المشاهدة، والمشاهدةُ تصير شاهدها متصفاً بصفاتها، فمن وقع في نور أسماء الله وصفاته صار متصفاً بوصف الربوبية، متمكناً في العبودية، فيحكم بحكم الله، ويعدل بعدل الله، فيصفهم الله بهذه النعوت، قال: (الآمرون بالمعروف) الداعون الخلق إلى الحق، والناهون لهم عن متابعة الشهواتِ، والحافظون لحدود الله، القائمون في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم، فلا يتجاوزون عن حد العبودية، وإن ذاقوا طعم حلاوة الربوبية لأنهم في محل التمكين على أسوة مراتب النبي صلى الله عليه وسلّم، مع كماله، قال: «أنا العبد لا إله إلا الله». انتهى.
ثم نهى نبيه عن الاستغفار للمشركين، وينخرط فيهم من تخلف عن تبوك من المنافقين، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٣ الى ١١٤]
مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)
يقول الحق جلّ جلاله: ما كانَ ينبغي لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الذين ماتوا على الشرك، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى أي: من قرابتهم، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لموتهم على الشرك. رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي طالب، لما حضرته الوفاة: «قُل: لا إله إلا الله، كلمة أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عند اللَّهِ». فأبى، فقال: «واللَّهِ لأستَغفِرَنَّ لَكَ مَا لَم أُنهَ عنك»، فكان يستغفر له حتى نزلت الآية «٢».
وقيل: أن النبي صلى الله عليه وسلّم استأذن ربه أن يستغفر لأمه، فنزلت، وقيل: إن المسلمين أرادوا أن يستغفروا لآبائهم، فنزلت، وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم إذ لم يتحقق أنهم أصحاب الجحيم، فإنه طلب توفيقهم للإيمان.
ثم رفع إيهام النقض باستغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه الكافر، فقال: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، وقيل: إنه صلّى الله عليه وسلّم قال في شأن عمه: «لأستغفرن لك، كما استغفر إبراهيم لأبيه»، فنزلت:
(١) من الآية ١١٥ من سورة البقرة.
(٢) أخرجه البخاري فى (مناقب الأنصار، باب: قصة أبى طالب) ومسلم فى (الإيمان، باب: الدليل على صحة إسلام من حضره الموت). [.....]
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ. والموعدة التي وعدها إياه قوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ «١». أي: لأطلبن المغفرة لك بالتوفيق للإيمان، فإنه يجب ما قبله.
والمعنى: لا حجة لكم في استغفار إبراهيم لأبيه، فإن ذلك لم يكن إلا لوعد تقدم بقوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ..
الخ. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ بأن مات على الكفر، أو أوحى إليه بأنه لن يؤمن، تَبَرَّأَ مِنْهُ بأن قطع استغفاره له، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي: لكثير التأوه، وهو كناية عن فرط ترحمه، أو كثير الدعاء، أو مؤمن، أو فقيه، أو كثير الذكر لله، أو كثير التأوه من خوف الله، حَلِيمٌ صبور على الأذى، والجملة: لبيان ما حمله على الاستغفار.
الإشارة: الشفاعة لا تكون فيمن تحقق غضب الله عليه، فإن ذلك من سوء الأدب، كالدعاء بالمحال، وأما من لم يتحقق غضبه عليه فالشفاعة فيه مرغب فيها. قال عليه الصلاة والسلام: «اشفَعُوا تُؤجَروا» «٢»، والاستغفار شفاعة. وقد ورد في الخبر: «مَن استغفر للمؤمنين والمؤمنات خمساً وعِشرين مرة كتب من الأبدال».
والشفقة مطلوبة، ما لم يظهر مراد الله من خلقه، فإن برز من عنصر القدرة شيء من القهريات، فالتسليم لمراده تعالى أحسن، فالله ارحم بعباده منك أيها الشفيق، وسيأتي عند قوله تعالى: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ «٣»، وبالله التوفيق.
ثم عذر نبيه فى استغفاره لعمه قبل النهى، أو من استغفر من المسلمين لأسلافهم المشركين، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٥ الى ١١٦]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً أي: يسميهم ضلالاً، ويؤاخذهم مؤاخذتهم، بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ للإسلام، حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ أي: حتى يُبين لهم خطر ما يجب اتقاؤه، فإن خالفوا بعد
(١) من الآية ٤ من سورة الممتحنة.
(٢) أخرجه البخاري فى (الأدب، باب: تعاون المؤمنين) ومسلم فى (البر والصلة، باب: استحباب الشفاعة) من حديث أبى موسى الأشعري، وبقية الحديث: (ويقضى الله على لسان نبيه ما شاء).
(٣) الآية ٧٦ من سورة هود.
البيان، أضلهم وآخذهم إن لم يتوبوا. قال البيضاوي: وكأنه بيان عذر الرسول في قوله لعمه: «لأستغفرن لك»، ولمن استغفر لأسلافه المشركين قبل المنع. وقيل: إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر، ولم يعلموا بالنسخ والمنع. وفي الجملة: دليل على أن الغافل غير مكلف. هـ. وقال ابن جزي: نزلت في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين من غير إذن، فخافوا على أنفسهم من ذلك، فنزلت الآية تأنيساً لهم، أي: ما كان الله ليؤاخذكم بذلك قبل أن يُبَيَّن لكم المنع من ذلك. هـ. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
فيعلم أمرهم قبل النهي وبعده.
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يتصرف فيهما وفي ساكنهما كيف يشاء، يُحْيِي من يريد إبرازه لعالم الشهادة، وَيُمِيتُ من يريد رده لعالم الغيب، أو يحيي قلوباً بالإيمان والمعرفة، ويميت قلوباً بالكفر والغفلة. وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.
قال البيضاوي: لمَّا منعهم من الاستغفار للمشركين، ولو كانوا أولي قربى، وتضمن ذلك وجوب التبري منهم رأساً، بيَّن لهم أن الله تعالى مالك كل موجود، ومتولي أمره والغالب عليه، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه، ليتوجهوا إليه ويتبرؤوا مما عداه، حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه. هـ.
الإشارة: وما كان الله ليضل قوماً عن السير إلى حضرته، أو الترقي في العلوم والمعارف بعد الوصول، حتى يبين لهم ما يتقون من سوء الأدب على لسان الشارع أو المشايخ، فإذا تبين لهم ذلك ثم ارتكبوه وأصروا عليه، أضلهم، وأتلفهم عن الوصول إلى حضرة قدسه، فإنَّ كل طاعة وحسن أدب يقرب من الحضرة، وكل معصية وسوء أدب يُبعد عن الحضرة، وقد قالوا: من أساء الأدب على البساط، طُرد إلى الباب، ومن أساء الأدب في الباب، طرد إلى سياسة الدواب. وبالله التوفيق.
ثم ذكر توبته على الثلاثة المرجون، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٧ الى ١١٨]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨)
436
قلت: في «كاد» ضمير الشأن، أو يرتفع بها قلوبُ.
يقول الحق جلّ جلاله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ أي: برأه وطهره من الذنوب، كقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «١»، وَتاب على الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ مما عسى أن يكون ارتكبوه إذ لا يخلو العبد من ذنب أو عيب. وقيل: هو حض على التوبة، وإظهار لفضلها، بأنها مقام الأنبياء والصالحين.
وقيل: تاب عليهم من نقص المقامات التي ترقوا عنها، إلى ما هو أكمل منها، فما مِنْ أَحَدٍ إلاّ ولَهُ مقام يستنقص بالنسبة إلى ما فوقه.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه: ذكر توبة من لم يذنب لئلا يستوحش من أذنب، لأنه ذكر النبي صلى الله عليه وسلّم، والمهاجرين والأنصار، ولم يذنبوا، ثم قال: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، فذكر من لم يذنب ليؤنس من قد أذنب، فلو قال أولاً: لقد تاب على الثلاثة لتفطرت أكبادهم. هـ.
ثم وصفهم بقوله: الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ، يعني: حين محاولة غزوة تبوك. والساعة هنا بمعنى الحين والوقت، والعسرة: الشدة والضيق، أي: الذين خرجوا معه وقت العسرة والضيق، فقد كانوا في عسرة الظهر، يعتقب العشرة على بعير واحد، وفي عسرة الزاد حتى قيل: إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة واحدة. مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عن الثبات على الإيمان، أو عن اتباع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لما رأوا من الشدة والضيق وشدة الحر، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ كرره للتأكيد، وللتنبيه على أنه تاب عليهم لأجل ما كابدوا من العسر، إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث قَبَلهم، وتاب عليهم، وتاب على الثلاثة، وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر ولا نفاق، ولا قصد للمخالفة، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم عتب عليهم، وأمر الناس ألا يكلموهم، وأن يعتزلوا نساءهم، فبقوا على ذلك خمسين ليلة، ثم أنزل الله توبتهم. وقد وقع حديثهم في البخاري ومسلم «٢» وكتب السير.
ومعنى قوله: الَّذِينَ خُلِّفُوا أي: تخلفوا عن الغزو. وقال كعب بن مالك: خلفوا عن قبول العذر، وليس بالتخلف عن الغزو، ويقوي ذلك كونه جعل: حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ غاية للتخلف، أي: خلفوا عن قبول العذر، وأخروا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي: برحبها وسعتها، وذلك لإعراض الناس
(١) من الآية ٢ من سورة الفتح.
(٢) انظر البخاري فى (تفسير سورة التوبة، باب: قوله تعالى: (وعلى الثلاثة ألين خلفوا..)، ومسلم فى (التوبة، حديث توبة كعب ابن مالك وصاحبيه).
437
عنهم بالكلية، وهو مثل لشدة الحيرة. وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ من فرط الوحشة والغم، وَظَنُّوا أي:
علموا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ اي: من سخطه إِلَّا إِلَيْهِ أي: إلا إلى استغفاره والرجوع إليه، ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ بالتوفيق بالتوبة، لِيَتُوبُوا بإظهارها والدوام عليها، وليعدوا من التوابين، إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ لمن تاب، ولو عادوا في اليوم سبعين مرة، الرَّحِيمُ متفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى.
الإشارة: قال الورتجبي: التوبة توبتان: توبة العبد، وتوبة الله، توبة العبد: الرجوع من الزلات إلى الطاعات، وتوبة الله: رجوعه إلى العبد بنعت الوصال، وفتح باب المآب، وكشف النقاب عن الاحتجاب، وطلب العتاب. انظر لطف الله بنبيه وأصحابه، كيف تاب لأجلهم مكان توبتهم، رجع إليه قبل رجوعهم إليه، ليسهل عليهم طريق الرجوع إليه، فرجوعه إلى نبيه بكشف المشاهدة، ورجوعه إليهم بكشف القربة، فتوبته للنبى صلّى الله عليه وسلّم من غيبته عن المشاهدة باشتغاله بأداء الرسالة، وتوبة القوم من غيبتهم عن ملاحظة الحضرة، فلما ذاقوا طعم الجنايات، واحتجبوا عن المشاهدات أدركهم فيض الوصال، وانكشف لهم أنوار الجمال، وهكذا سنة الله في الأنبياء والأولياء، إذا ذابوا في مقام الامتحان، وبقوا في الحجاب عن مشاهدة الرحمن، تمطر عليهم وبل سحاب الكرم، ويلمع لأبصار أسرارهم نور شرف القدم فيؤنسهم بعد إياسهم، ويوصلهم بعد قنوطهم. قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا «١»، وقال تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ... الآية «٢». ثم قال عن بعضهم: توبة الأنبياء في مشاهدة الخلق في وقت الإبلاغ إذ الأنبياء لا يغيبون عن الحضرة، بل لا يحضرون في مواضع الغيبة لأنهم في عين الجمع أبداً. هـ.
إذا مَرِضنا أَتَينَاكُم نَعُودكُمُ وتذنبون فنأتيكم ونعتذُر.
قال المحشي: وحاصلة: توبة الله المذكورة وَهبيةٌ، وهي في كل أحد على حسب ما يليق بمقامه، وإنما يليق بمقام الرسل ترقيته عن مقام إلى أعلى، أو من شعور بخلق لأجل الإبلاغ، إلى الغيبة عن ذلك، وكذلك أبداً كأهل الجنة. هـ.
ثم حضَّ على الصدق، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ١١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ بالمحافظة على ما أمركم به، والانكفاف عما نهاكم عنه، وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم وعهودهم.
(١) الآية ٢٨ من سورة الشورى.
(٢) الآية ١١٠ من سورة يُوسُف.
قال ابن جزي: ويحتمل أن يريد به صدق اللسان إذ كان هؤلاء قد صدقوا ولم يعتذروا بالكذب، فنفعهم الله بذلك، ويحتمل أن يريد أعم من صدق اللسان وهو الصدق في الأقوال والأعمال والمقاصد والعزائم، والمراد بالصادقين: المهاجرين، لقوله في الحشر: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ... : إلى قوله وأُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ «١». وقد احتج بها أبو بكر الصديق على الأنصار يوم السقيفة، فقال: (نحن الصادقون، وقد أمركم الله أن تكونوا معنا) أي: تابعين لنا. هـ زاد السهيلي: ولمَّا استحق الصادقون أن تكون الخلافة فيهم، استحق الصِّدِّيقُ أن تكون الخلافة له، مادام حياً إذ كان صديقاً. هـ.
الإشارة: الصدق سيف حازم، ما وضع على شيء إلا قطعه. ويكون في الأقوال، وهو صيانتها من الكذب، ولو ادى إلى التلف. وفي الأفعال، وهو صيانتها من الرياء وطلب العوض. وفي الأحوال، وهو تصفيتها من قصد فاسد، كطلب الشهرة، أو إدراك مقام من المقامات، أو ظهور كرامات، أو غير ذلك من المقاصد الدنية. قال القشيري: الصادقون هم السابقون الأولون، كأبي بكر وعمر وغيرهما، والصدق: استواء السِّرِّ والعلانية، وهو عزيز، وكما يكون في الأقوال يكون في الأحوال، وهو أتمّ. هـ.
ثم عاتب الحق تعالى أهل المدينة ومن جاورها على التخلف عن الغزو، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٠ الى ١٢١]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
قلت: (ولا يرغبوا) : منصوب بالعطف، أو مجزوم بالنهي، والوادي: أصله: فاعل، من وَدِيَ، إذا سأل، وهو منقوص، وهو في اللغة: كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل.
(١) الآية ٨ من سورة الحشر.
439
يقول الحق جلّ جلاله: ما كانَ يصح لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، ولا لمن حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ، أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ في غزوة ولا سرية ولا غيرهما، وهو نهي بصيغة النفي للمبالغة. وَلا ينبغي لهم أن يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ بأن يصونوها من اقتحام المشقات والمتاعب التي تحملها نبي الله صلى الله عليه وسلّم، حيث قعدوا عنه، ولم يكابدوا معه ما كابده من الأهوال.
رُوي أن أبا خَيْثمة دخل بستانه، بعد خروجه- عليه الصلاة والسلام- لتبوك، وكانت له امرأة حسناء، فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظِلّ ظَلِيلٌ، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في الضِّحّ «١» والريح، ما هذا بخير، فقام، فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومر كالريح، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يقطع السراب، فقال: كن أبا خيثمة، فكأنهُ «٢»، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلّم، واستغفر له «٣».
ثم علل النهي بقوله: ذلِكَ إشارة إلى النهي عن التخلف المفهوم من الكلام، بِأَنَّهُمْ أي:
بسبب أنهم لا يُصِيبُهُمْ في سفرهم ظَمَأٌ من حر العطش، أو عطش، وَلا نَصَبٌ تعب، وَلا مَخْمَصَةٌ مجاعة، فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلا يَطَؤُنَ يدوسون بأرجلهم أو بدوابهم مَوْطِئاً مكاناً يَغِيظُ الْكُفَّارَ أي: يغيظهم ذلك الوطء، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا كالقتل، والأسر، والنصب، وكل ما ينكبهم، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ، أي: إلا استوجبوا به ثواباً جزيلاً. وذلك مما يوجب النهوض إلى الغزو معه صلّى الله عليه وسلّم فإن اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم. وهو تعليل لقوله: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ.. الخ.
وفيه تنبيه على أن الجهاد إحسان، إما في حق الكفار فلأنه سعى في تكميلهم بأقصى ما يمكن، كضرب المُداوي للمجنون، وإما في حق المؤمنين فلأنه صيانة لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم على الإسلام. قاله البيضاوي.
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً في امر الجهاد، ولو علاقة سيف، وَلا كَبِيرَةً مثل ما أنفق عثمان رضى الله عنه في جيش العسرة، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً في سيرهم، وهو كل منفرج ينفذ فيه السيل، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ذلك، ولم يضعْ منه شيء، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ بذلك أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ، أي: جزاء أحسن أعمالهم، أو أحسن جزاء أعمالهم. قاله البيضاوي.
(١) الضّح- بالكسر: ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض... راجع النهاية ٨٧.
(٢) أي: فكان هو.
(٣) أخرجه بنحوه البيهقي فى الدلائل (باب لحوق أبى ذر وأبى خيثمة برسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد خروجه). وانظر الفتح السماوي (٢/ ٧٠٧- ٧٠٨).
440
الإشارة: لا ينبغي للفقراء أن يتخلفوا عن أشياخهم إذا سافروا لحج أو غزو أو تذكير أو زيارة، ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه، فيقعدون في الراحة والدعة وشيخهم في التعب والنصب لأن ما يصيبهم من مشاق السفر زيادة في ترقيهم ومعرفتهم، وتقوية لمعانيهم، إلى غير ذلك من فوائد السفر، فهو في حق السائرين أمر مؤكد، فكلما سار البدن في عالم الشهادة سار القلب في عالم الغيب، كما هو مجرب. والله تعالى أعلم.
ولما ذمّ الله تعالى من تخلف عن تبوك، ووسمه بالنفاق، لم يقدر أحد بعد ذلك على التخلف، فخفف عنهم بقوله:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٢]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ يستقيم لهم ان ينفروا كَافَّةً جميعاً لنحو غزو، أو طلب علم، كما لا يستقيم لهم أن يقعدوا جميعاً، فإنه بخل، ووهن للإسلام. قال ابن عباس: هذه الآية في البعوث إلى الغزو والسرايا، أي: لا ينبغي خروج جميع المؤمنين في السرايا، وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم بنفسه، ولذلك عاتبهم في الآية المتقدمة على التخلف عنه. فالآية الأولى في الخروج معه صلّى الله عليه وسلّم، وهذه في السرايا التي كان يبعثها، وقيل: هى ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع، فهي دليل على أن الجهاد فرض كفاية.
فَلَوْلا: فهلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ جماعة كبيرة، كقبيلة أو بلدة، طائِفَةٌ قليلة منها لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، اما إذا خرجوا للغزو فإنه لا يخلو الجيش من عالم أو عارف يتفقهون، مع أن مشاق السفر تشحذ الأذهان، وترقق البشرية، فتستفيد الروح حينئذٍ علوماً لدنية، وأسراراً ربانية، من غير تعلم، وهذا هو العلم الذي يصلح للإنذار.
قال في الإحياء: التفقه: الفقه عن الله بإدراك جلاله وعظمته، وهو العلم الذي يورث الخوف والخشية والهيبة والخشوع، ويحمل على التقوى وملازمتها، وهذا مقتضى الآية. فإن معرفة صفاته تعالى المخوفة والمرجوة هو الذي يحصل به الانذار، لا الفقه المصطلح عليه. هـ. وأما إذا وقع الخروج لطلب العلم فالتفقه ظاهر.
ثم قال تعالى: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ، أي: وليجعلوا غاية سعيهم ومُعظم غرضهم من التفقه إرشاد القوم وإنذارهم. وتخصيصه بالذكر لأنه أهم، وفيه دليل على أنَّ التفقه والتذكير من فروض الكفاية، وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم، لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد. قاله البيضاوي.
وقوله: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ، أي: لعلهم يخافون مما حذروا منه.
441
قال البيضاوي: وقد قيل: للآية معنى آخر، وهو أنه لما نزل في المتخلفين ما نزل تسابق المؤمنون إلى النفير، وانقطعوا عن التفقه، فأمروا ان ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد، ويبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأن الجدال بالحجة هو الأصل، والمقصود من البعثة، فيكون الضمير في لِيَتَفَقَّهُوا، ولِيُنْذِرُوا: للفرق البواقي بعد الطوائف النافرة للغزو، وفي رَجَعُوا: للطوائف النافرة، أي: ولينذروا البواقي من قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصَّلوا أيام غيبتهم من العلوم. هـ. وتقدير الآية على هذا: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فرقة طائفة، وجلس طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم الخارجين للغزو إذا رجعوا إليهم من غزوهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قال القشيري: لو اشتغل الكُلُّ بالتَّفَقُّه في الدين لَتَعطَّلَ عليهم المعاش، ولمنعهم الكافر عن درك المطلوب، فجعل ذلك فرضا على الكفاية. ويقال: المسلمون على مراتب: فعوامَّهم كالرعية للمَلِك وكَتَبَةُ الحديث كخزنة المَلِك. وأهل القرآن كحُفَّاظ الدفاتر ونفائس الأموال. والفقهاء بمنزلة الوكلاء إذ الفقيه يوقع الحكم عن الله.
وعلماءُ الأصول كالقُوَّاد وامراء الجيوش. والأولياءُ كأركان الباب. وأربابُ القلوب وأصحابُ الصفاء كخواص المَلِكِ وجُلَسائه. فشغل قوماً بحفظ أركان الشرع، وآخرين بإمضاء الأحكام، وآخرين بالردّ على المخالفين، وآخرين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل قوماً مُفْرَدين لحضور القلب وهم أصحاب الشهود، ليس لهم شُغْلٌ، يراعون مع الله أنفاسَهم، وهم أصحاب الفراغ، لا يستفزُّهم طلَبٌ، ولا يهزُّهم أمر، فهم بالله لله، بمحو ما سوَّى الله، وامَّا الذين يتفقهون في الدين فهم الداعون إلى الله، وإنما يفهم الخلق عن الله بمَنْ كان يَفْهَمُ عن الله. هـ.
قوله: وأما الذين يتفقهون.. الخ، الداعون إلى الله على الحقيقة هم العارفون بالله، وهم أصحاب الشهود، الذين وصفهم قبل، وأما الفقهاء في الدِّين فإنما يدعون إلى أحكام الله، وتعلم دينه دون معرفة ذاته وصفاته فدعواهم ضعيفة التأثير، فلا ينهض على أيديهم ما ينهض على أيدي العارفين.
وقال الورتجبي، في قوله تعالى: (ليتفقهوا في الدين) : قال المرتعش: السياحة والأسفار على ضربين: سياحة لتعلّم احكام الدين وأساس الشريعة، وسياحة لآداب العبودية ورياضة الأنفس، فمن رجع عن سياحة الأحكام قام بلسانه يدعو الخلق إلى ربه، ومن رجع من سياحة الأدب والرياضة قام في الخلق يهديهم لأخلاقه وشمائله.
وسياحة هي سياحة الحق، وهي رؤية أهل الحق والتأدب بآدابهم، فهذا بركته تعم البلاد والعباد. هـ.
442
ثم أمر بجهاد الأقرب فالأقرب، فقال:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، أي: جاهدوا الأقرب فالأقرب بالتدريج، كما أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بإنذار عشيرته الأقربين، فإن الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح. وقيل: هم يهود حوالي المدينة، كقريظة والنضير وخيبر، وقيل: الروم بالشام وهو قريب من المدينة، وكانت أرض العرب قد عمها الإسلام، وكانت العراق حينئذٍ بعيدة. وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً شدة وصبراً على قتالهم، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالإعانة والنصر والحراسة.
الإشارة: ينبغي لأهل الوعظ والتذكير أن يبدأوا بالأقرب فالأقرب على التدريج، قال الرفاعي رضى الله عنه: إذا أراد الله أن يرقي عبداً إلى مقامات الرجال كلفه بأمر نفسه أولاً، فإذا أدب نفسه واستقامت معه، كلفه بأهله فإن أحسن إليهم وساسهم، كلفه بأهل بلده، فإن أحسن إليهم وساسهم، كلفه جهةً من البلاد، فإن هو نصحهم، وساسهم، وأصلح سريرته مع الله، كلفه رتبة ما بين السماء والأرض، فإن لله خلقاً لا يعلمهم إلا اللهُ، ثم لا يزال يرتفع من سماء إلى سماء حتى يرتفع ويصل إلى محل القطب الغوث، وهناك يطلعه الله على بعض غيبه. انتهى.
والغلظة التي تكون في المذكر، إذا رأى منكراً، أو ذُكرَ له وأراد النهي عنه. وأما في الترغيب والإرشاد فينبغي أن يُغلب جانب اللطافة واللين. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حال المنافقين عند نزول الوحى، لأن السورة جلها فى فضيحتهم، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٧]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
443
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن، فَمِنْهُمْ فمن المنافقين مَنْ يَقُولُ إنكاراً واستهزاءً: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة إِيماناً، كما يزعم أصحاب محمد: ان القرآن يزيدهم إيماناً، فلا زيادة فيه، ولا دليل أنه من عند الله. قال تعالى في الرد عليهم: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً لتنوير قلوبهم، وصفاء سرائرهم، فتزيدهم إيماناً وعلماً لما فيها من الإنذار والإخبار، ولانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بنزولها لأنها سبب لزيادة إيمانهم، وارتفاع درجاتهم، بخلاف قلوب المنافقين فلظلمانيتها وخوضها لم تزدهم إلا خوضاً، كما قال تعالى:
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كفر وشك، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ أي: كفراً بها، مضموماً إلى الكفر بغيرها، الذي كان حاصلاً فيهم، وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ أي: وتحكم ذلك في قلوبهم حتى ماتوا عليه.
أَوَلا يَرَوْنَ أي: المنافقون، أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ أي: يُبتلون ويُختبرون بأصناف البليات، كالأمراض والجوع، أو بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فيعاينون ما يظهر عليه من الآيات، أو يفضحون بكشف سرائرهم. يفعل ذلك بهم فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ لا يَتُوبُونَ: لا ينتهون من نفاقهم وكفرهم، وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ يعتبرون.
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ، يريدون الهرب، يقولون: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ إذا قمتم، فإن لم يرهم أحد قاموا وانصرفوا. قال البيضاوي: تغامزوا بالعيوب، إنكاراً لها وسخرية، أو غيظاً لما فيها من عيوبهم. هـ. قال ابن عطية: المعنى: إذا ما أُنزلت سورة فيها فضيحتهم، نظر بعضهم إلى بعض على جهة التقرير، يُفْهم من تلك النظرة: التقرير: هل معكم من ينقل عنكم؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أمركم؟ وقوله:
ثُمَّ انْصَرَفُوا أي: عن طريق الاهتداء، وذلك أنهم حينما بيَّن لهم كشف أسرارهم، يقع لهم- لا محالة- تعجب وتوقف ونظر، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة لهم، فهم، إذ يصممون على الكفر، ويرتكبون فيه، كأنهم انصرفوا عن تلك الحال، التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء. هـ.
والتحقيق: أن معنى انْصَرَفُوا: قاموا عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم مخالفة الفضيحة. صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الإيمان دعاء عليهم، أو إخبار، فيستوجبون ذلك بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لا يفهمون عن الله ولا عن رسوله- عليه الصلاة والسلام-، أو لا يفقهون سوء فهمهم أو عدم تدبرهم.
الإشارة: زيادة الإيمان عند سماع القرآن يكون على حسب التصفية والتطهير من الأغيار، فبقدر ما يصفو القلب من الأغيار يكشف له عن أسرار القرآن. قال بعضهم: كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة، فجاهدت نفسي
444
وطهرتها، فصرت كأني أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلّم، يتلوه على أصحابه، ثم رفعت إلى مقام فوقه، فكنت أتلوه كأني أسمعه من جبريل يلقيه على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثمَّ منَّ عليّ اللهُ بمنزلة أخرى، فأنا الآن أسمعه من المتكلِّم به، فعندها وجدت له نعيماً لا أصبر عليه. هـ. بلفظه.
مثل هذا يزيده القرآن إيقاناً، ويستبشر قلبه عند سماعه، وأما من كان مريض القلب بحب الدنيا، مَغْمُوراً بالشكوى والأوهام والخواطر، فلا يزيده القرآن إلا بُعداً حيث لم يتدبر فيه، ولم يعمل بمقتضاه، وإذا حضر مثلُ هذا الغافل مجلسَ وعظ أو تذكير أو ذكر لم يطق الجلوس، بل نظر: هل يراه من أحد؟ ثم انصرف، صرف الله قلبه عن حضرة قدسه لعدم فهمه عن ربه. والله تعالى أعلم.
ثم ختم السورة بذكر محاسن نبيه- عليه الصلاة والسلام- لما ظهر عليه فى هذه السورة من الرحمة والرأفة بالمؤمنين، ومن العفو والصفح عن المعتذرين، فقال:
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
قلت: «عزيز» : صفة «لرسول»، و «ما عنتم» : فاعله، و «ما» : مصدرية، أي: عزيز عليه عَنَتُكُم، أو عزيز: خبر مقدم، و «ما عنتم» مبتدأ، والعنت: المشقة والتعب.
يقول الحق جلّ جلاله، مخاطباً العرب، أو قريش، أو جميع بني آدم: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ محمد صلى الله عليه وسلّم، أي: من قبيلتكم، بحيث تعرفون حسبه وصدقه وأمانته، وتفهمون خطابه، أو من جنسكم من البشر. وقرأ ابن نشيط: بفتح الفاء، أي من اشرافكم. قال صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةًَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، واصْطَفَى قُرَيْشاً مَنْ كِنَانَةَ، واصْطَفَى بَنِي هَاشِم مِنْ قُريْشٍ، واصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِم، فأنا مُصْطَََفى من مُصْطَفَيْن».
عَزِيزٌ عَلَيْهِ، أي: شديد شاق عليه ما عَنِتُّمْ أي: عنتكم ومشقتكم ولقاؤكم المكروه في دينكم ودنياكم. حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي: على إيمانكم وسعادتكم وصلاح شأنكم، بِالْمُؤْمِنِينَ منكم ومن غيركم رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي: شفيق بهم، قدَّم الأبلغ منهما لأن الرأفة شدة الرحمة للفاصلة. وسمى رسوله هنا باسمين من أسمائه تعالى.
445
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان بك، بعد هذه الحالة المشهورة، التي منَّ الله عليهم بها، فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ أي:
كافيني أمركم، فإن قلت ذلك فإنه يكفيك شأنهم ويعينك عليهم، أو فإن أعرضوا فاستعن بالله وتوكل عليه، فإنه كافيك، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا يُتوكل إلا عليه، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فلا أرجو ولا أخاف إلا منه، وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أي: المُلك العظيم، أو الجسم الأعظم المحيط، الذي تنزل منه الأحكام والمقادير.
وعن أُبي: آخر ما نزل هاتان الآيتان. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما نَزَل القرآنُ عليَّ إلا آية آيةً، وحرفاً حرفاً، ما خَلاَ سورة براءة، و (قل هو الله أحد) فإنهما أُنْزِلَتَا عليَّ ومَعَهُمَا سْبعون ألف صفٍ من الملائكة» «١» قاله البيضاوي.
وهاتان الآيتان أيضاً مما وجدَتَا عند خزيمة بن ثابت، بعد جمع المصحف، فألحقتا في المصحف، بعد تذكر الصحابة لهما وإجماعهم عليهما. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغى لورثته- عليه الصلاة والسلام- الداعين إلى الله، إن يتخلقوا بأخلاقه صلّى الله عليه وسلّم، فيشق عليهم ما ينزل بالمؤمنين من المشاق والمكاره، وييسرون ولا يعسرون عليهم، ويحرصون على الخير للناس كافة، ويبذلون جهدهم في إيصاله إليهم، ويرحمونهم ويشفقون عليهم، فإن ادبروا عنهم استغنوا بالله وتوكلوا عليه، وفوضوا أمرهم إليه، من غير أسف ولا حزن.
وقال الورتجبي: قوله تعالى: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، اشتد عليه مخالفتنا مع الحق، ومتابعتنا هوانا واحتجابنا عن الحق. قال بعضهم: شق عليه ركوبكم مراكب الخلاف. قال سهل: شديد عليه غفلتكم عن الله ولو طرفة عين.
ثم قال في قوله تعالى: (فإن تولوا فقل حسبي الله... ) الآية: سَلى قلبه بإعراضهم عن متابعته، مع كونه حريصاً على هدايتهم، أي: ففي الله كفاية عن كل غير وسِوى.
قال القشيري: أمَره أن يَدْعُو الخَلْقَ إلى التوحيد، ثم قال له: فإِنْ أَعرضوا عن الإجابة فكُنْ بنا، بنعت التجريد. ويقال: قال له: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ، ثم أمره أن يقول: حسبي الله. قوله تعالى: حَسْبُكَ:
عين الجمع، وقوله: حَسْبِيَ اللَّهُ فَرْق، بل هو الجمع، أي: قُلْ، ولكن بنا تقول، فنحن المتولون عنك وأنت مُستَهْلَكٌ في عين التوحيد فأنت بنا، ومَحْوٌ عن غيرنا. هـ وبالله التوفيق. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(١) عزاه فى الفتح السماوي، للثعلبى، من حديث السيدة عائشة، وقال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف: (إسناده واه)، وقال الولي العراقي: هو منكر جدا. وقال التفتازانيّ فى حاشيته على الكشاف: هذا يخالف ما ثبت فى أحاديث صحيحة وردت فى أسباب نزول كثير من الآيات، فإنها نزلت منفردة. وذلك يدل على أن السورة لم تنزل جملة، ولو لم لم تكن إلا آية: «وعلى الثلاثة الذين خُلفوا..» لكفى. هـ. راجع الفتح السماوي (٢/ ٧١١)
446
Icon