هذه السورة مدنية وهي عظيمة في معانيها ومضامينها ومشاهدها وقصصها ؛ ففيها فيض من الأحكام والدروس والمواقف والأخبار نعرض لها في هذا البيان الإجمالي المقتضب.
فالسورة تتضمن السبب في كونها غير مبدوءة بالبسملة. ولها عدة أسماء هي : براءة، والتوبة، والمقشقشة، والمبعثرة، والمشردة، والمخزية، والفاضحة، والمثيرة، والحافرة، والمنكلة، والمدمدمة، وسورة العذاب. فهي تقشقش١ من النفاق ؛ أي تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين تبحث عنها وتثيرها، وتحفر عنها، وتفضحهم وتنكلهم، وتشرد بهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم٢. وعن حذيفة ( رضي الله عنه ) قال : إنكم تسمونها سورة التوبة وإنما هي سورة العذاب. والله ما تركت أحدا إلا نالت منه٣.
وفي السورة تبرؤ من الله ورسوله من العهد الذي كان بين المسلمين والمشركين على نحو ما نبينه تفضيلا في موضعه إن شاء الله.
وفي السورة ذكر للأشهر الحرام، وبيان لمعناها وحكم القتال فيها.
وفي السورة تنديد بالغ بالاستيثاق بالمشركين ؛ فإنهم ماكرون خادعون لا يرقبون في المؤمنين إلا ولا ذمة.
وفي السورة تحريض على قتال المشركين الظالمين إذا ما نكثوا العهود مع المسلمين فباءوا بالغدر والخيانة.
وفي السورة تحذير شديد من الافتتان بأولي القربى من الآباء والأبناء والإخوة وكذا الزوجات والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن.
وتندد السورة بإشراك أهل الكتاب الذين اتخذوا عزيزا والمسيح والأحبار والرهبان أربابا من دون الله.
وتتضمن السورة كذلك تحذيرا رعيبا من فظاعة الكنز للمال إذا لم تؤد زكاته ؛ فهو سحت يحمي عليه في نار جهنم لتكوى به جلود الذين يمنعون الزكاة من الكانزين.
وأما الله في السورة بقتال المشركين كافة مثلما يقاتلون المسلمين كافة. وفيها ذكر كريم ومؤثر لقصة الهجرة ؛ إذ أوى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر الصديق إلى الغار فكانت المعجزة الظاهرة والخبر المثير.
ويتناول السورة بيانا مجملا للصدقات، والذين يستحقونها وهم الأصناف الثمانية.
وتتناول أيضا الكشف عن المنافين بما يفضحهم فضها ويعريهم للسامعين والناظرين تعرية تميط اللثام عن خبثهم وفساد قلوبهم ومقاصدهم.
وفي السورة في مقابلة ذلك –إطراء للمؤمنين والمؤمنات ؛ لأن بعضهم أولاء بعض في فعل الطاعات والنعي عن المعاصي والمنكرات.
وفي السورة إخبار عن مسجد الضرر الذي يتدسس من خلاله المنافقون ليفتنوا المريب تحذيرا. ومن أبرز ما حوته السورة ذكر الثلاثة الذين خلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابهم من اجل ذلك ندم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ؛ لفرط ما غشيهم من الأسف على ما فرطوا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تاب الله عليهم.
إلى غير ذلك من المسائل والأحكام والأخبار التي نبينها تفضيلا في موضعها بمشيئة الله.
٢ دمدم الشيء، ألزقه بالأرض وطحطحه. ودمدم الله عليهم، أهلكهم. انظر مختار الصحاح ص ٢١١..
٣ الكشاف جـ ٢ ص ١٧١ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٦١ وتفسير الرازي جـ ١٥ ص ٢٢٣ وفتح القدير جـ ٢ ص ٣٣١..
قوه تعالى :﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عهدتم من المشركين ١ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ﴾.
هذه السورة العظيمة من أواخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد روي البخاري عن البراءة قال : أخر آية نزلت ﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ﴾ وآخر سورة نزلت براءة. وإنما لم يبسمل في أولها ؛ لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الإمام بل اقتدوا في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقد روي الترمذي بإسناده عن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين وقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ ووضعتموها في السبع الطوال. ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول :( ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ) وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدية وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكان قصتها شبيهة بقصتها وخشيت أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ؛ فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر ﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾ ووضعتها في السبع الطوال١.
قوله :﴿ براءة من الله ورسوله ﴾ ﴿ براءة ﴾، مرفوع خبر لمبتدأ محذوف. وتقديره : هذه براءة. وقيل : براءة مرفوع على أنه مبتدأ وخبره قوله :﴿ إلى الذين عهدتم ﴾ ٢ والبراءة تعني انقطاع العصمة. يقال : برئت من فلان أبرأ براءة ؛ أي انقطعت بيننا العصمة.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة تبوك وتخلف المنافقون وأرجفوا بالأراجيف، جعل المشركون ينقضون العهد، فنبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم العهد.
وإذا قل : كيف يجوز للنبي أن ينقض العهد ؟ فإنه يجاب عن ذلك بأنه يجوز له نقض العهد مع المشركين على ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن تظهر منهم الخيانة فيخشى معها غدرهم وضررهم فينبذ لهم العهد حتى يستوي المؤمنون والكافرون مع معرفة نقض العهد. وهو ما بيناه سابقا في النبذ على سواء عند الخوف من خيانة العدو.
الوجه الثاني : أن يكون الإمام قد شرط لهم أو لبعضهم أن يقرهم على العهد فيما ذكر من المدة إلى أمر الله تعالى بقطعه فلما أمر بقطعه قطعه لأجل الشرط.
الوجه الثالث : أن يكون مؤجلا إلى مدة معلومة، فإذا قضي الأجل انقضى العهد. وفيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوز نقض العهد٣.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٩٣..
٣ تفسير الرازي جـ ١٥ ص ٢٢٦..
والمراد من ذلك تنذير المشركين وتحذيرهم ؛ فيتفكرون خلال هذه المدة ؛ ليعلموا أنه لا حيلة لهم في مواجهة المسلمين وقتالهم ؛ فليس لهم إلا الإسلام ؛ ليكونوا مع بقية المسلمين سواء في العقيدة والدين، أو الجزية ؛ فيأمنون على أنفسهم وأموالهم وعبادتهم وإقامتهم. وإن أبوا ؛ فلا يستحقون بذلك عنه غير المواجهة والقتال.
قوله :﴿ واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ﴾ ذلك إعلان للمشركين أنهم غير فائتين ولا هاربين من إحاطة الله وقدره وإن أمهلهم الله ؛ فإنه في كل الأحوال محيط بهم، وهو مخزيهم بإيجاب قتلهم وأسرهم في الدنيا، وتعذيبهم بناره في الآخرة.
ثانيهما : أنه يوم النحر، الذي هو أفضل المناسك وأظهرها. وهو رواية عن أبي عباس، وهو قول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير –واحتجوا بما رواه أبو داود عن ابن عكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر في الحجة التي حج فيها فقال :( أي يوم هدا ؟ ) فقالوا : يوم النحر. فقال :( هذا يوم الحج الأكبر ).
وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر بالصديق ( رضي الله عنه ) فيمن يؤذن يوم النحر بمنى : لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الكبر يوم النحر. وقيل : يوم الحج الكبر، أيام منى كلها.
أما سبب التسمية بالحج الكبر ؛ فلأن العمرة تسمى الحج الأصغر. وهذا هو الحج الأكبر. وقيل : سمي بذلك ؛ لاجتماع المسلمين والمشركين فيه ؛ فقد حجوا جميعا في تلك السنة. وقيل غير ذلك٢.
قوله :﴿ أن الله برئ من المشركين ورسوله ﴾ رسوله، مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف وتقديره : ورسوله برئ. وقيل : مرفوع بالعطف على الضمير المرفوع في ﴿ برئ ﴾ ٣ على أن الفرق بين قوله :﴿ براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين ﴾ وقوله :{ أن الله برئ من المشركين ورسوله :{ من وجهين :
الوجه الأول : أن المقصود من الكلام الأول : الإخبار بثبوت البراءة. أما المقصود من الكلام الثاني : إعلام جميع الناس بما حصل وثبت.
الوجه الثاني : أن الله تعالى قد أظهر في الكلام الأول البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونفضوا العهد. أما في هذه الآية : فقد أظهر الله فيها البراءة عن المشركين من غير أن يصفهم بوصف معين، وفي ذلك تنبيه إلى أن الموجب لهذه البراءة هو كفرهم وشركهم٤.
قوله :﴿ فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله ﴾ يدعوا الله المشركين إلى التوبة من الشرك والضلال، فإن تابوا فهو خير لهم ؛ لما يفضي إليه ذلك من النجاة في الدارين. لكنهم عن تولوا واستمروا على شركهم وضلالهم وعتوهم ؛ فإنهم غير معجزين ؛ بل إن الله قادر عليهم ؛ فهم في قبضته وتحت قهره وجبروته، فلا يعز عليه إهلاكهم وتدميرهم.
قوله :﴿ وبشر الذين كفروا بعذاب أليم ﴾ لفظ البشارة ورد هنا على سبيل التهكم والاستهزاء بالمشركين الذين ظلموا أنفسهم وسفهوا عقولهم بشركهم وضلالهم. والمراد الإخبار من اله بأن لهم العذاب الشديد في الآخرة فوق ما يحيق بهم من العذاب في الدنيا بالإذلال والخزي٥.
قال محمد بن إسحاق في هذا الصدد عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين ابن علي قال : لما نزلت براءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس فقيل : يا رسول الله لو بعثت إلى أبي بكر، فقال :( لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي ) ثم دعا عليا فقال :( اذهب بهذه القصة من سورة براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو له إلى مدته ) فخرج علي ( رضي الله عنه ) على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء٦ حتى أدرك أن أبا بكر في الطريق فلما رآه أبو بكر قال : أمير أو مأمور ؟ فقال : بل مأمور. ثم مضيا، فأقام أبو بكر للناس الحج ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يا أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته. فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد وأهل المدة إلى الأجل المسمى.
وعن أبي الصهباء البكري قال : سألت عليا عن يوم الحج الأكبر. فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة يقيم للناس يوم الحج، وبعثني معه بأربعين آية من براءة، حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة، فلما قضى خطبته التفت إلي فقال : قم يا علي فأد رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقمت فقرأت عليهم أربعين أية من براءة، ثم صدرنا٧ فأتينا منى، فرميت الجمرة، ونحرت البدنة، ثم حلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمعة لم يكونوا كلهم حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة، فطفت أتتبع بها الفساطيط٨ أقرأها عليهم٩.
٢ تفسير الرازي جـ ١٥ ص ٢٣٠..
٣ البيان لابن الانباري جـ ١ ص ٣٩٤..
٤ تفسير الرازي جـ ١٥ ص ٢٣٠، ٢٣١ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١١٥..
٥ تفسير الرازي جـ ١٥ ص ٢٣١ وتفسير البيضاوي ص ٢٤٧ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١١٥..
٦ العضباء: المشوقة الأذن. وكانت ناقة النبي صلى الله عليه وسلم تلقب بالعضباء لنجابتها لا لشق أذنها. انظر المصباح المنير جـ ٢ ص ٦٤..
٧ صدنا، من الصدور، وهو الانصراف. انظر المصباح المنير جـ ١ ص ٣٥٩..
٨ الفساطيط، جمع فسطاط، وهو بيت من شعر. انظر مختار الصحاح ص ٥٠٣..
٩ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٣٤..
ثانيهما : أنه مستثنى من قوله :﴿ فسيحوا في الأرض ﴾ لأن الكلام خطاب للمسلمين فيكون المعنى : براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقالوا لهم : سيحوا إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم، ولا تجعلوا الوفي كالغادر. وهذا قول الزمخشري في الكشاف.
قوله :﴿ ثم لم ينقضوكم شيئا ﴾ أي لم يقع منهم أيما نقص في الوفاء بعدهم ﴿ ولم يظهروا عليكم أحدا ﴾ أي لم يعانوا عليكم أحدا من أعدائكم ﴿ فأتموا إليهم عاهدهم إلى مدتهم ﴾ أي أدوا عهدهم الذي عاهدتموهم إلى مدتهم وإن كانت أكثر من أربعة أشهر. فلا تعاملوا الأوفياء معاملة الناكثين الغادرين بعد المدة المذكورة.
قال ابن عباس في هذا الصدد : بقي لحي من كنانة من عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم.
قوله :﴿ إن الله يحب المتقين ﴾ الذين يوفون بعدهم ؛ فإن من شيم الإيمان وعلائم التقوى : الصدق في القول، والوفاء في العهود والمواثيق١.
واختلف العلماء في المراد بالأشهر الحرم في هذه الآية على ثلاثة أقوال :
القول الأول : إنها الأشهر الحرم المعروفة التي هي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب ؛ فهي ثلاثة سرد، وواحدا فرد. وعلى هذا المعنى وجب الإمساك عن قتال من ليس له عهد من المشركين حتى انسلاخ الأشهر الحرم وهي مدة خمسين يوما ؛ لأن النداء بذلك كان يوم النحر ؛ فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي المسودة خمسين يوما تنقضي بانقضاء شهر محرم. وقد أمرهم الله بعد مرور هذه المدة أن يتقلوا المشركين حيث يجدونهم. وهو قول جماعة، وهي رواية عن ابن عباس.
القول الثاني : إن المراد بها شهور العهد وهي الأربعة المشار إليها في قوله :﴿ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ﴾ وسميت حرما ؛ لأن الله حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين أو التعرض لهم بأذى.
القول الثالث : إنها الأشهر المذكورة في قوله :﴿ فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ﴾ وهي رواية أخرى عن ابن عباس، وقول جماعة آخرين.
قوله :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ المشركون عام في كل مشرك. لكن هذا العموم مخصوص بالسنة ؛ فخرج من المشركين في وجوب القتال كل من النساء والصبيان والرهبان والعاجزون عن القتال لهرم ونحوه. وقد مر تفصيل هذه المسألة في سورة البقرة. وهو كذلك مخصوص بأهل الكتاب ؛ فإنهم يجوز لهم أن يعقد لهم المسلمون عقد الذمة على أن يؤدوا الجزية.
قوله :﴿ حيث وجدتموهم ﴾ أي في كل موضع يجدونهم فيه. وقيل : هذا عام وقد خص بتحريم القتال في الحرم. وهو قول أبي حنيفة محتجا بقوله تعالى :﴿ ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإنه قتلوكم فاقتلوهم ﴾.
قوله :﴿ وخذوهم واحصروهم ﴾ المراد بالأخذ هنا، الأسر، فإن أسروهم ؛ قضوا فيهم ما يرونه أصلح، سواء في ذلك المن أو الفداء أو القتل. وذلك منوط بالإمام ومعه الفئة الظاهرة من أهل العلم والاجتهاد.
أما حصرهم : فالمراد به منعهم من الخروج أو التصرف في البلاد.
قوله :﴿ واقعدوا لهم كل مرصد ﴾ ﴿ كل ﴾، منصوب، على الظرف٢ والمرصد، هو موضع الرصد. ومنه الرصد ؛ أي الراقب. والترصد معناه الترقب٣ والمراد بالرصد هنا ؛ الموضع الذي يرقب فيه العدو ؛ أي اقعدوا لهم على كل طريق يمضون فيه إلى البيت أو الصحراء أو التجارة.
قوله :﴿ فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ﴾ أي تابوا عن الشرك وخلعوا عن أنفسهم هوى العبودية لغير الله من الأصنام ونحوها. فآمنوا بالله ورسوله. وثمة شرطان آخران مضافان للإيمان بالله ورسوله لتتحقق التوبة الصحيحة فيخلى المسلمون سبيلهم. أولهما : الصلاة. ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصلاة أو سائر الفرائض استحلالا أو جحدا ؛ فقد كفر. أما من تركها من غير جحد لها ولا استحلال، بل على سبيل التهاون والتثاقل أو الكسل ؛ فإنه يكون فاسقا لكنه يقتل حدا وعقوبة، في قول مالك والشافعي ؛ ويقتل كفرا، في قوله أحمد وإن لم يكن جاحدا لها. وقال أبو حنيفة : لا يقتل بل يسجن ويضرب حتى يصلي.
وثانيهما : الزكاة ؛ فغنها تؤخذ من ذوي النصاب قسرا إن أبوا، ويقاتلون عليها قتالا إن منعوها ؛ فهي اشرف أركان الإسلام وواجباته بعد الشهادة والصلاة لما فيها من منفعة للفقراء والمساكين والمحاويج.
ولهذا اعتمد الصديق ( رضي الله عنه ) في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية، وعلى غيرها من أدلة السنة. ومنها ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر ( رضي الله عنهما ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة ).
قوله :﴿ فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم ﴾ أي إن تحقق الشرط وهو توبتهم عن الشرك وأداؤهم الصلاة وإيتاؤهم الزكاة ؛ فدعوهم يتصرفون في بلادكم ويدخلون البيت الحرام ؛ فغن الله يغفر لمن تاب عن الذنوب وأناب إلى ربه بالطاعة وحسن العبادة. ذلكم وأن الله رحيم بعباده يتجاوز عن سيئاتهم وخطيئاتهم، ويسكنهم فسيح جناته، ويغشاهم بفضله ورضوانه٤.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٩٤..
٣ مختار الصحاح ص ٢٤٥..
٤ تفسير الطبري جـ ١٠ ص ٥٦ وتفسير الرازي جـ ١٥ ص ٢٢٤ وبداية المجتهد جـ ١ ص ٧٩ والقرطبي جـ ٨ ص ٧٤..
على أن ذلك فيمن يأتي المسلمين مبتغيا سماع القرآن والوقوف على منهج الاسلام وتعاليمه. أما الذي يأتي للتجارة أو مصالحه الأخرى فللمسلمين أن ينظروا في إجارته أو عدمها تبعا لما تقتضيه مصلحهم٣.
ويستوقفنا مثل هذا المعنى حواه القرآن الحكيم، إذ يوجب أن تعطي الفرصة كاملة للمشركين والضالين كيما يستمعوا إلى رسالة الإسلام استماعا مباشرا وعن كثب من أجل أن تطرق أسماعهم وأفئدتهم حقائق هذا الدين الكريم المفضل بما يحمله للبشرية من معالم رصينة في الأخوة والرحمة والمنطق السليم، وقواعد ثوابت في الحق والخير والعدل. ومقتضى ذلك : أن الكافر المرتاب الذي يتيه في جهالته المطبقة للإسلام والذي تحيط به المعوقات والفتن والشبهات المصطنعة والمفتراة على الإسلام –إذا جاء يطلب الحجة من المسلمين على حقيقة دينهم وصدق رسالتهم، قبلوه وعرضوا عليه منهج الإسلام بعقيدته السمحة المرغوبة، وشرعه المتكامل الميسور، وتصوره المحبب الرائع الذي يتفق وفطرة البشر وطبائع الناس وينسجم وطبيعة هذا الكون الرتيب المتسق. لا جرم أن ذلك برهان ساطع على تكريم الإسلام للإنسان مسلما أو غير مسلم. وتكريم الإنسان المسلم معلوم في تصور الإسلام. وفي تشريعه الكبير. وكذلك غير المسلم ؛ فإن الإسلام يحقق له من الأسباب والذرائع الحسية والذهنية ما يفضي إلى إقناعه في حرية موفورة وتودد بالغ، ويكشف اللبس والشبهات عن ذهنه وبصيرته بالحجة الواعية الكافية والمجادلة الحكيمة المستفيضة حتى يستيقن غير المسلم روعة هذا الدين وأنه الحق المبين المنزل من عند الله هداية الناس كافة.
من أجل ذلك شرع الأمان للمشركين في كل الأحوال كيما يتمكنوا من الدخول على المسلمين فيتعلموا منهم حقيقة هذا الدين عسى أن يهتدوا. على أن الأمان من حيث إعطاؤه يناط بكل واحد من آحاد المسلمين سواء كان رئيسا أو مرؤوسا، ذكرا أو أنثى، حرا أو عبدا. فأيما مسلم يجوز له أن يعطي الأمان لأحد المشركين ليلج عليه فيوفقه على مزايا هذا الدين وتعاليمه.
قال صاحب الكشاف. وهذا الحكم ثابت إلى ثوم القيامة. قال الحسن البصري : هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة.
قوله :﴿ ذالك بأنهم قوم لا يعلمون ﴾ ذلك عائد إلى الإجازة ؛ أي ذلك الأمر بإجارة المشركين كان بسبب كونهم جهلة لا يعلمون عن الإسلام شيئا، أو يعلمون عنه ظاهرا مصطنعا من المفاهيم المشوهة والأخبار الملفقة تلفيقا. أما حقيقة الإسلام بنصوعه وروعة نظامه الرحيم الشامل ؛ فلا يدرك منه المشركون شيئا٤.
٢ القاموس المحيط جـ ١ ص ٤٠٩ والمعجم الوسيط جـ ١ ص ١٤٦..
٣ تفسير الرازي جـ ١٥ ص ٢٣٥- ٢٣٧ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٧٥..
٤ الكشاف جـ ٢ ص ١٧٥ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ٥٧ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٧٦..
ثم استدرك بقوله :﴿ إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ﴾ أي لكن الذين عاهدتموهم عند المسجد الحرام ولم تظهر منهم بادرة من بوادر النكث والخيانة ﴿ فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم ﴾ أي فما استقاموا على الوفاء بالعهد فأقيموا لهم علة مثل ذلك ﴿ إن الله يحب المتقين ﴾ أي بحب الأتقياء والأوفياء الذين يوفون بعدوهم مجانبين للغدر والخيانة١.
قوله :﴿ وأكثرهم فاسقون ﴾ أكثر المشركين راضون عن الكيد لكم والنكث بعدوهم معكم والانقضاض عليكم لاستئصالكم. فديدن المشركين النكث ونقض العهود والتحلل من كل التزام ميلا منهم للغدر والباطل ورغبة في الطمع والإيذاء.
قوله :﴿ ونفصل الآيات لقوم يعلمون ﴾ أي نبين الدلائل والبينات والبراهين ليعيها أهل التفكير وولو العلم. وقد خصهم بذلك ؛ لأنهم أحرى أن يقفوا على حقيقة ما أنزل الله دون الجلة والرعاع.
ويلحق بالطاعنين الخاسرين، أولئك الذين يجاوزون في عصيانهم مجاوزة فظيعة تولجهم في الأخسرين الأذلين وهم الذين يسبون الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يسبون الذات الإلهية، أو يشتمون الدين الرباني الحق. ومن المعلوم بالضرورة أن دين الله لهم جماع الحق كله، وفيه تنضوي كل المعاني الكريمة في الخير والفضل والرحمة. فشاتم الدين الحق مغال في العتو والتمرد. وأمثال هؤلاء الخاسرين الهلكي يجب قتالهم لقوله سبحانه :﴿ فقاتلوا أئمة الكفر ﴾ والأئمة جمع إمام. والمراد به من أقدام على نكث العهد والطعن في دين الله ؛ إذ يصير بذبك رأسا من رؤوسه أو إمام من أئمته.
قوله :﴿ إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ﴾ أي لا عهود لهؤلاء المشركين الماكرين، فهم مخادعون دجاجلة لا يوفون بعهد ولا يؤتمنون على إيمان أو مواثيق ؛ فهم لا تعطفهم أساليب اللين والهوادة عن الشر والعداون. لا يعطفهم إلا أن تكسر شوكتهم وتزال سطوتهم ويتبدد طغيانهم. فلعل في ذلك ما يرجعهم عن الشرك والضلال ويحملهم على إدراك الحق والتزامه١.
في قوله :﴿ ألا تقاتلوا ﴾ دخلت الهمزة على ( لا ) النافية للاستفهام التوبيخي. والمراد التحضيض على سبيل المبالغة، على قتال هؤلاء المشركين المضلين الذين نقضوا عهدهم معكم، وطعنوا في دينكم وظاهروا عليكم عدو الله وعدوكم. وهم الذين هموا بإخراج الرسول من بين أظهرهم فأخرجوه عقب تمالئهم عليه في دار الندوة. وكذلك هم الذين بدأوكم أول مرة بالقتال ؛ إذ جمعوا لكم في بدر قاصدين استئصالكم ﴿ أتخشونهم ﴾ كرر زيادة في التأكيد والتحضيض على قتال المشركين المعتدين وهم أجدر ألا يخافون المسلمون. بل الله أحق أن يخشوه ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ عن كنتم تقرون أن الله أحق بالخشية من هؤلاء الجبناء الأنذال. فما ينبغي للمؤمنين أولي العقيدة المتينة الحكيمة والصلة بالله العزيز الحميد والاعتصام بخير ملة عرفتها الدنيا ووفقت عليها البشرية –أن يخشوا أهل الباطل والضلال من المشركين. إنما يخشى المؤمنون ربهم خشية تفوق كل خشية.
وبذلك يجعل الله الغلبة والنصر لبعاده، المؤمنين الصابرين المجتهدين ﴿ ويشف صدور قوم مؤمنين ﴾ أي يبرئ الله قلوبهم مما أصابها من موجدة وغيظ نتيجة لما نالهم من أذى المشركين وعدوانهم.
والمراد بها هنا البطانة من المشركين ؛ أي كيف تتخذون أنفسكم بطانة من هؤلاء الكافرين الماكرين الذين يتربصون بكم الدوائر ويودون لو يقض عليكم فتبيدوا ؟ ! فغنه لا يفعل ذلك إلا كل مغفل مغرور أو منافق مرتاب يروق له من الخلة مصاحبة المشركين فيبوح لهم بما لديه من أسرار المسلمين. والله سبحانه مطلع على الخفايا، عالم بنيات هؤلاء القوم وأعمالهم لا يخفى عليه من شيء وهو قوله :﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ ٢.
٢ الكشاف جـ ٢ ص ١٧٨ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١١٩ وتفسير الرازي جـ ١٦ ص ٦، ٧..
ولما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه المسلمون فغيروه بكفره بالله وقطيعة الرحم وأغلظ له علي، وقال : ألكم محاسن ؟ فقال : نعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة ( من الحجابة ) ونسقي الحاج، ونفك العاني. فانزل الله تعالى ردا على العباس ﴿ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ﴾ ١.
على أن عمارة المساجد قسمان : أولهما : لزومها وكثرة الإقبال عليها من أجل الصلاة أو العبادة والذكر. وثانيهما : العمارة من حيث البناء. فإن أريد المعنى الثاني ؛ فغنه لا يجوز للكافر إذن أن يقوم بعمارة مسجد من مساجد المسلمين. ولو أوصى بها لم تقبل وصيته. وليس لغير المسلم أن يدخل مسجدا إلا بإذن من المسلمين. وإن دخل بغير إذن منهم استحق التعزيز.
قوله :﴿ أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ﴾ أعمال هؤلاء المشركين قد أتى عليها الحبوط وهو البطلان. فلا جدوى لهم في الآخرة من أعمالهم. وليس لهم من ذاك إلا ثناء المطرين والمداحين في الدنيا. لكن أعمالهم في الآخرة ماضية بغير اعتبار كأنما هي هباء متناثر في أجواز الفضاء بغير وزن أو قيمة ؛ لأن المشركون لم يقصدوا من أعمالهم وجه الله أو طاعته ولم يكونوا في الأصل مخلصين لله بحسن العبادة وتمام التوحيد ولكنهم كانوا ضالعين في الشرك والوثنية. وفوق ما أصابهم من الحبوط ؛ فإنهم ماكثون في النار طيلة الآباد.
روي الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ).
وقال الإمام أحمد أيضا بإسناده عن معاد بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية والناحية، فإياكم والشعاب وعليكم بالجماعة، والعامة، والمسجد ) ؛ وقال عليه الصلاة والسلم :( من أسرج في مسجد سراجا ؛ لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه ).
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٣٩٦..
٢ تفسير الطبري جـ ١٠ ص ٦٩ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٩٣..
٢ تفسير الطبري جـ ١٠ ص ٦٩ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٩٣..
ولذلك حذر الله تعالى تحذيرا من موالاة المؤمنين للكافرين ؛ فإنه لا يتولى الكافرين أو يتبعهم ويناصرهم إلا من كانوا لهم نظراء وشركاء. وقد توعد الله في آية أخرى من يتولى الكافرين بقوله :﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ﴾
وفي هذه الكلمات الربانية المؤثرة تركيز بالغ على قضية الموالاة وهي المناصرة ؛ فما يجوز بحال أن تكون الموالاة من المسلمين للكافرين، وإنما يوالي المسلمون إخوتهم في الدين والعقيدة دون غيرهم من الكافرين. والأصل في ذلك أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ؛ فإنه لا يوالي الكافرين أو يناصرهم بالإسلام الدوائر والبلايا. فأنى لامرئ مسلم تستكن في قلبه أثارة من إيمان أو إخلاص أو صدق مع الله، يوالي الكافرين ويناصرهم ويميل بقلبه وحسه ومشاعره إليهم ليحبهم ويهواهم من دون المسلمين ؟ ! لا شك أن ذلكم فسق عن دين الله، أو تجاوز مفرط يولج الخائرين الخاسرين من ضعاف القلوب والهمم دار البوار.
روي الإمام أحمد بإسناده عن زهرة بن معبد عن جده قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ) فقال عمر : فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال رسول الله :( الآن يا عمر ).
وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ).
وفي التنديد بالناكلين عن الجهاد في سبيل الله، الجانحين للمنافع الدنيوية من بيع وزرع ونحوها روي الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ) ١.
وانعطف الناس فترجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اجتمعت منهم شرذمة قليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرهم أن يصدقوا الحملة، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجتلد القوم فقال :( الآن حمي الوطيس ) فكتب الله لهم النصر، وجعل الهزيمة والخزي على المشركين الظالمين.
قوله :﴿ وأنزل جنودا لم تروها ﴾ أي أنزل الملائكة ليكونوا مع المؤمنين في ساحة القتال يشتدون أزرهم ويقوون من بأسهم وعزيمتهم، ويضعفون الكافرين بالتخذيل والتجبين من حيث لا يراهم أحد. وفي هذا الصدد قال الإمام أبو جعفر ابن جرير عن أبي جميلة الأعرابي قال : سمعت عبد الرحمن مولى أم برثن قال : حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين، قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين لم يقوموا لنا حلب شاة، قال : فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم في أدبارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال : فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه، فقالوا بنا :( شاهت الوجوه، ارجعوا ) فانهزمنا وركبوا أكتافا١.
قوله :﴿ وعذاب الذين كفروا وذالك جزاء الكافرين ﴾ أي عذاب الله الكافرين في الدنيا بالقتل والإذلال والهزيمة على أيدي المسلمين. وهذا جزاء كفرهم وجحودهم ومحاربتهم لله ولرسوله وللمؤمنين.
على أن الكافر إذا أسلم وجب عليه أن يغتسل. وهو قول المالكية والحنبلية، وآخرين. وقيل : لا يجب في حقه الغسل بل يستحب. وهو قول الشافعي.
أما دخول الكافرين المسجد الحرام أو غيره من المساجد ففي حكمه أقوال :
القول الأول : الآية عامة في سائر المشركين وسائر المساجد. وبذلك لا يجوز للمشركين أن يدخلوا مسجدا من المساجد سواء كان ذلك المسجد الحرام أو غيره ؛ وهو قول عمر بن عبد العزيز، وذهب إليه الإمام مالك.
القول الثني : الآية عامة في سائر المشركين لكنها خاصة في المسجد الحرام وبذلك لا يمنعون من دخل غير المسجد الحرام ؛ وهو قول الإمام الشافعي، وهو أن الكفار جميعا يمنعون من دخول المسجد الحرام خاصة ؛ وبذلك يباح دخول اليهود والنصارى سائر المساجد من غير المسجد الحرام.
القول الثالث : لا يمنع أهل الكتاب من اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام أو غيره من المساجد. ولا يمنع من دخول المسجد الحرام سوى المشركين وأهل الأوثان. ومثل هذا الإطلاق يرده ظاهر الآية من حيث منطوقها فلا ينبغي التعويل على هذا القول.
على أن المراد بالمسجد الحرام هو جميع الحرام. وقيل : المراد نفس المسجد. ويستدل على صواب الأول بقوله تعالى :﴿ وإن خفتم علية فسوف يغنيكم الله من فضله ﴾ وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد ؛ فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة ؛ لما خافوا بسبب هذا المنع من العلية، وإنما يخافون العلية إذا منعوا من حضور الأسواق والمواسم. ويتأكد هذا القول بقوله سبحانه وتعالى :﴿ سبحان الذي أسرى بعيده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا ﴾ وإنما رفع النبي صلى الله عليه وسلم من البيت أم هانئ١.
قوله :﴿ وإن خفتم علية فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء ﴾ العلية، بمعنى الفقر. وذلك أن الناس قالوا : لتقطعن عنا الأسواق، ولتهلكن التجارة، ولتذهبن عنا الخيرات وما كنا نصيب من المرافق فانزل الله الآية. ثم حقق الله وعده للمؤمنين إذ عوضهم مما أعطاهم من الجزية بدلا مما كانوا يسكبونه من المشركين قبل منعهم من قربان المسجد الحرام. ﴿ الله عليم حكيم ﴾ الله أعلم بما يصلح عليه الناس وما يستقيم عليه شأنهم. وهو كذلك ﴿ حكيم ﴾ في أوامره ونواهيه وأحكامه. ولا يصدر ذلك كله إلا عن حكمة بالغة وتدبير رباني منزه عن الخطأ والزلل، ويحتمل إغناؤهم من الله وجها آخر، وهو إدرار المطر عليهم، وقد أسلمت العرب فتمادى حجهم ونحرهم وذلك يفضي إلى تحصيل السعة لهم والبحبوحة.
بعد استقرار الحال في جزيرة العرب ودخول المشركين في دين الله أفواجا مسلمين، أمر الله في هذه الآية بقتال أهل الكتاب. بذلك أمر الله في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستعداد لقتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى وذلك في سنة تسع. ومن أجل ذلك تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم في تبوك. وقد اجتمع له من المقاتلة نحو ثلاثين ألفان ويستدل من هذه الآية أن الجزية إنما تؤخذ من أهل الكتاب فقط أو من أشبههم المجوس ؛ فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. وبذلك لا تؤخذ الجزية من غير أهل الكتاب كالمشركين والوثنين، وهذا مذهب الشافعية والحنبلية، أما الحنفية الجزية عندهم من جميع الأعاجم سواء فيهم أهل الكتاب أو المشركين، لكنها لا تؤاخذ من العرب من غير أهل الكتاب ولا من المرتدين ؛ لأن كفر هؤلاء قد تغلظ ؛ فمشركو العرب قد نشأ النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، والقرآن نزل بلغتهم، فالمعجزة في حقهم أظهر. أما المرتد : فلأنه كفر بربه بعد أن هدى للإسلام ووقف على روائعه وكماله، فلا يقبل من الفريقين سوى الإسلام أو القتال زيادة في العقوبة.
أما الإمام مالك فقال بجواز أخذ الجزية من جميع الكفار، من أهل الكتاب والمجوس والوثنين١.
قوله :﴿ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الأخر ﴾ نفي الله بالإيمان بالله عن أهل الكتاب ؛ لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله ؛ إذ يصفون الله بما لا يليق أن يوصف به ؛ فقد جعلوا له والدا ؛ كيهود جعلت عزيزا ابن الله، والنصارى جعلوا المسيح ابن الله وقالوا بالأقانيم الثلاثة، إلى غير ذلك من المقولات المفتراة الظالمة فصارت بذلك عقائدهم مجرد تخيلات موهومة وتصورات مظنونة لا تطوي على غير التخريص الفاضح والضلال الشاطح دون استناد إلى ذرة من دليل سليم. من أجل ذلك نفي الله عنهم الإيمان به. وفوق ذلك فإنهم كفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وحسبهم ذلك ضلالة وكفرنا، مع أنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.
وكذلك فإن إيمانهم بالآخرة مريب ومصطنع ؛ فقد أنقل عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني، فكأنهم يعتقدون البعث الروحاني. ومثل هذا التصور لا يستحق مجرد التسمية بالإيمان ؛ لأن ما يتقولونه ويهرفون به ليس إلا ضربا من التصور المريض الواهم، أو الحلم المطوح في الخيالات من عالم اللاشعور. وليس ذلك من الإيمان في شيء.
قوله :﴿ ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ﴾ المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، إذ لم يتبعوا دينه ولا شريعته ففيهما ما احل الله ورسوله أو حرم. وقيل : المراد بالرسول رسولهم الذي يزعمون أنهم يتبعونه ؛ فإنهم بدلوا شريعته، واحلوا ما حرم الله عليهم وحرموا ما احل الله لهم. وكل ذلك من عند أنفسهم اتباعا لأهوائهم ؛ فهم بذلك لم يتبعوا شريعة الإسلام القائمة على الكتاب والسنة، ولم يتبعوا شريعتهم المنزلة على رسلهم ؛ فهم بذلك غير مؤمنين إيمانا صحيحا لا بشريعتنا ولا بشريعتهم الخالصة المبرأة من التزييف والتحريف، فما يزعمون لأنفسهم من إيمانا بما ليس له وزن أو اعتبار لما بيناه ؛ فوجب بذلك قتالهم.
قوله :﴿ ولا يدينون دين الحق ﴾ أي الدين الثابت الكامل، الدين الحقيق الصحيح الذي تصلح عليه البشرية طيلة الدهر، الدين الذي تجتمع فيه مزايا الصلوح للحياة في كل مكان وزمان ؛ وذلكم هو الإسلام دون غيره من الأديان والملل والشرائع. لكن أهل الكتاب إنما يدينون ما تسوله لهم أهواؤهم وغرائزهم وشهواتهم ومنافعهن الدنيوية ؛ فهم بذلك دينا سماويا حقيقا سليما من التلاعب والتبديل، وما يزعمونه أنهم أهل كتاب ليس إلا التوهيم المكشوف الذي لا يخفى على أحد، وهو ليس إلا التحذلق المصطنع الذي لا يغني من الحق شيئا. لا جرم أن اليهود والنصارى أبعد الناس كافة عن حقيقة التوراة العظيمة ذات التشريع الرباني النافع، وعن حقيقة الإنجيل الرفاف الساطع الذي ينهي أشد النهي عن الفساد والشر والعدوان وظلم الإنسان لأخليه الإنسان. وما نجده أو نسمعه أو نقرأه من أخبار مذهلة عن فظائع اقترافها اليهود والنصارى في حق البشرية والمسلمين خصوصا يبرأ منها كليم الله موسى وروح الله عيسى المسيح. وهي فظائع شنيعة تجعل من انتساب هؤلاء الظالمين للتوراة والإنجيل شيئا مستهجنا، مثيرا للسخرية والاشمئزاز. إن هذه الفظائع تطبع هؤلاء الجناة بطابع الوحوش الكواسر في الغابات، لا جرم أن دين موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام مبرآن من أفاعيل هؤلاء الطغاة الذين نكلوا بالشعوب المسلمة تنكيلا، والذين أذاقوا المسلمين وغيرهم عبر زمان طويل أعتى النوازل والويلات، وما زالوا على هذه الحال من تقتيل للمسلمين وترويعهم في كل بقاع الدنيا.
قوله :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ والجزية، من الجزاء وهي للإجزاء عن حقن دم الذمي. والجزية اسم مفرد وجمعه جزي مثل : لحية ولحي٢. أما الجزية في اصطلاح الشرعي : فهي المال الذي يؤخذ بعقد من أهل الكتاب لإقامتهم بدار الإسلام آمنين، وذلك على سبيل الإسهام في بناء الدولة التي ينعمون بالأمن والخير في ظلها٣.
ممن تقبل الجزية
اجمع المسلمون على قبول الجزية من أهل الكتاب وهم اليهود ومن دان بدينهم كالسامرة الذين يدينون بالتوراة ويعملون بشريعة موسى. وكذلك النصارى وفرقهم من اليعقوبية والنسطورية وغيرهم ممن دان بالإنجيل.
أما الصابئة : فملتهم وعقيدتهم موضع خلاف ؛ فقد قيل : إنهم جنس من النصارى. وقيل : إنهم من اليهود ؛ لأنهم يسبتون، وقيل غير ذلك.
أما الذين لهم شبهة كتاب : فهم المجوس ؛ فإنه يروي أنه كان لهم كتاب قديم فصار لهم بذلك شبهة وجب بها أن تحقن دماؤهم، وأن تؤخذ منهم الجزية لكنهم لا تنكح نساؤهم ولا تحل ذبائحهم. وقد ذهب إلى هذا أكثر العلماء٤.
المشركون من غير أهل الكتاب
والمراد بهم الكافرون من غير اليهود والنصارى والمجوس ؛ أي بعدة الأوثان الذين ليس لهم كتاب منزل كعبدة الناس والشمس والقمر والكواكب والتماثيل والأحجار وغير ذلك من أشكال الأوثان. ويحلق بهم الدهريون والماديون والملحدون الذين يجحدون النبوة والأديان والرسالات جميعا ؛ فهؤلاء من حيث وجوب الجزية في حقهم موضع خلاف. وثمة أقوال في ذلك :
القول الأول : وهو أن الجزية تؤخذ من أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من العجم، ولا تؤخذ من عبدة الأوثان من العرب ؛ لأن الرسول الله صلى الله عليه وسلم قد نشأ بين أظهرهم، وقد أنزل القرآن بلغتهم، فالمعجزة في حقهم أظهر ؛ فلا يقبل منهم غير الإسلام أو قتالهم. وهو قول الحنفية.
القول الثاني : وهو أن الجزية مال يضربه الإمام على كل كافر سواء كتابيا أو مشركا أو غيرهما ولو كان قرشيا. وهو قول المالكية٥.
القول الثالث : وهو قول الشافعية والحنبلية وأهل الظاهر ؛ فقد ذهب هؤلاء إلى أنه لا يقر عبدة الأوثان والملائكة والشمس والقمر والنجوم ونظائرهم ؛ فلا تؤخذ منهم الجزية، ولا يقبل منهم غير الإسلام أو القتال. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ وذلك عام وقد خص منه أهل الكتاب. وكذلك خص فيه المجوس بالخبر :( سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) ٦.
أركان الجزية
ثمة أركان خمسة للجزية هي :
الركن الأول : الصيغة. وهي الإيجاب والقبول، فالإيجاب من الإمام أو نائبه ؛ فهو الموجب ؛ إذ يقول لهم : أقررتكم، أو أقركم. ثم القبول من الطرف الآخر وهو المؤدي للجزية، فيقول : قبلت أو رضيت بذلك.
الركن الثاني : العاقد، وهو الإمام أو نائبه، ولا يصح عقد الجزية من غيرهما.
الركن الثالث : المعقود له، وله شروط هي :
أولا : العقل ؛ فلا تجب الجزية على المجنون ذي الجنون المطبق ؛ لعدم تكليفه.
ثانيا : البلوغ ؛ فلا تجب الجزية على الصبي لعدم تكليفه.
ثالثا : الحرية ؛ فلا تجب على العبد ؛ لأنه مملوك لصاحبه ؛ فهو غير مكلف.
رابعا : الذكورة ؛ فلا تجب الجزية على النساء ؛ لأنهن لسن من أهل القتال.
خامسا : أن يكون المعقود له كتابيا وهم النصارى واليهود. وكذلك المجوس لما فيهم من شبهة كتاب.
الركن الرابع : المكان القابل للتقرير، وهو سائر بلاد الإسلام باستثناء الحجاز٧.
على أن الجزية لا تؤخذ من كل من الزمن وهو الذي أصابته هاعة أو آفة ولا يرجي برؤه منها ولا يقدر على القتال.
ثم الأعمى ؛ لأنه ليس من أهل القتال ؛ لعدم قدرته على ذلك ؛ فهو في ذلك كالصبيان والنساء. وهو قول أكثر أهل العلم.
وكذلك الشيخ الهرم ؛ وهو الكبير الفاني ؛ فغنه غير مطالب بالجزية في قول أكثر العلماء، وهو قول الحنفية والمالكية والحنبلية، والشافعية في أحد القولين لهم. وعلى هذا لا تجب الجزية على كل من الزمن والأعمى والشيخ الكبير الفاني. وهم في ذلك كالنساء والصبيان ؛ لعجزهم عن القتال.
وكذلك الفقير غير المعتمر ؛ فإنه غير مطالب بأداء الجزية، وهو قول أكثر العلماء. ووجه ذلك : أن الفقير العاجز غير مكلف ؛ لقوله تعالى :﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ واحتجوا أيضا بما أخرجه البيهقي عن محمد بن عبد الله الثقفي قال : وضع عمر بن الخطاب –يعني الجزية- على رؤوس الرجال، على الغني ثمانية وأربعين درهما، وعلى الوسط أربعة وعشرون درهما، وعلى الفيقر اثني عشر درهما. وقالوا المراد بالفقير هنا غير المعتل.
وكذلك الرهبان من النصارى، ومصدره الرهبة والرهبانية، وتعني التعبد بما فيه الاختصاء واعتناق السلاسل وليس المسوح ونحو ذلك٨ ؛ فإن هؤلاء على العموم لا تجب في حقهم الجزية، وهو قول الحنفية والمالكية، خلافا للشافعية وأهل الظاهر٩.
قوله :﴿ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴾ ﴿ حتى ﴾، للغاية التي تمتد إليها العقوبة، وهذه ترتفع بالبدل وهي الجزية. و ﴿ عن يد ﴾، يراد بها يد المعطي ؛ وهي أن تكون مؤاتية غير ممتنعة لأن من أبي وامتنع لم يعط يده، وذلك بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك يقال : أعطى يده إذا انقاد أطاعه. وقيل : حتى يعطوها عن يد إلى يد نقدا غير نسيئة ليس مبعوثا عن يد أحد ولكن عن يد المعطي على يد الآخر. وقيل غير ذلك.
أما قوله :﴿ وهم صاغرون ﴾ يعني أذلاء خاضعون مطيعون للدولة التي يعيشون في ظلها وه دولة الإسلام.
وهذه واحدة من المسائل التي يثار من اجلها اللغط والتهويش والتشويش على الإسلام بقصد الطعن فيه وتجريحه والإساءة إليه، أو لكي ينفروا منه أهل الكتاب تنفيرا بعد أن يغرسوا في نفوسهم الحقد والكراهية لهذا الدين.
إن مسألة الجزية قد اتخذها الصليبيون والمستشرقون والاستعماريون والعملاء والأتباع الناعقون من ورائهم –سبيلا يلجون منه على الإسلام من اجل تشويهه في أنظار الناس. ولقد سيق كثير من المثقفين والدارسين خلف هذه الدعاية الخبيثة التي أثارها أسيادهم من جهابذة الاستعمار والصليبية والاستشراق ؛ أولئك الذين تتقطع قلوبهم وأعصابهم تغيظا من الإسلام، فهم دائما عاك
٢ لسان العرب جـ ١٤ ص ١٤٦ وتاج العروس جـ ١٠ ص ٧٣..
٣ أحكام القرآن لابن العربي جـ ٢ ص ٩٠٨ وبدائع الصنائع جـ ٧ ص ١٠٩..
٤ شرح فتح القدير للكمال بن الهمام جـ ٦ ص ٤٨ وأحكام القرآن للجصاص جـ ٤ ص ٢٨٢ وحاشية الشرقاوي جـ ٢ ص ٢١١..
٥ روح المعاني جـ ٥ ص ٧٨ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٤٧ والبحر المحيط جـ ٥ ص ٣٠..
٦ المغنى جـ ٨ ص ٤٩٧ والأنوار جـ ٢ ص ٥٥٨..
٧ مغني الحتاج جـ ٤ ص ٢٤٨ والأحكام السلطانية ص ١٤٥ وبلغة السالك جـ ١ ص ٣٦٨ وأحكام القرآن للجصاص جـ ٤ ص ٢٩٤..
٨ القاموس المحيط جـ ١ ص ٧٩ ومختار الصحاح ص ٢٥٩..
٩ شرح فتح القدير جـ ٦ ص ٥٢ وأحكام القرآن للجصاص جـ ٤ ص ٢٨٩ والأنوار للأردبيلي جـ ٢ ص ٥٥٨ والمحلي جـ ٧ ص ٣٤٧..
هذه واحدة من افتراءات اليهود والنصارى على الله بما يصمهم العتو الفادح المغالي ويجعلهم في عداد المشركين الكفرة لا محالة. إن ذلك تخريص من تخريصات الفريقين وهم يفترون على الله الكذب، إذ يزعمون أنه أب لمولود، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. أما عزير : فهي نبي من أنبياء بني إسرائيل بعثه الله فيهم ليجدد لهم التوراة، وليكون لهم آية بعد ما أماته الله مائة عام ثم بعثه. وذلك بعد أن عزا بختنصر بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل فقتل رجالهم وسبى نساءهم وصغارهم وأحرق توراتهم وسامهم سوء الإذلال والتنكيل. ثم خرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض فأتاه جبريل عليه السلام ولقاه التوراة فحفظها، ثم أملاها على بين إسرائيل دون أن يفقد منها حرفا. فقالوا : ما جمع الله التوراة في صدر عزير وهو غلام إلا لأنه ابنه. وهذا محض باطل وهراء ما ينبغي لذي مسكة عقل أن يجترها لسانه.
وكذلك النصارى قالوا : المسيح ابن الله ؛ وذلك لما اشتبهت عليهم ولادته من غير أب، فسدروا في الافتراء والضلالة باختلاق هذه الفرية الفظيعة التي تنفر منها أبسط مراتب التفكير السليم. والمسيح برئ من كل هذا اللغط الأحمق الفاجر ؛ إذ كان عليه السلام يزجرهم زجرا ويتبرأ من مقاتلهم المقبوحة ويبين لهم في قطع أبلج أنه عبد الله ورسوله، وأن أمه مريم العذراء البتول أفضل نساء العالمين طهرا وتقي وعفافا وقد ولدته من غير أب بمشيئة الله.
قوله :﴿ ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل ﴾ ﴿ يضاهون ﴾ بمعنى يشابهون. والمشاهأة تغني المضاهاة وهي المشابهة ؛ ضاهاه : شاكله. وضهيك يعني شبيهك١، والمعنى : أنهم يلغطون بهذا الغلط الظالم المفترى بأفواههم من غير برهان على ذلك ولا حجة، فليس قولهم هذا إلا الألفاظ المهملة المفرغة من أي مضمون معتبر أو معنى يستحق الذكر، وهم في ذلك ﴿ يضاهون قول الذين كفروا من قبل ﴾ أي يشابهون في قوله من حيث العتو وشناعة الكفر قول الذين كفروا من قبلهم وهم المشركون الذين قالوا : الملائمة بنات الله –سبحانه وتعالى عما يقولون- قوله :﴿ قاتلهم الله أنى يؤفكون ﴾ هذا دعاء عليهم، ولا ريب أن الهلاك حائق بمن قاتلهم الله. وقيل : لعنهم الله. وهو قول ابن عباس.
وفي الجملة : فإن المراد التشنيع على هؤلاء الضالين الساردين في ظلمة الإشراك بالله ﴿ أنى يؤفكون ﴾ أي كيف يصرفون عن الحف إلى الباطل بعد وضوح الدليل وسطوح الحجة.
لقد اتخذ اليهود والنصارى الأحبار والرهبان أربابا من دون الله وكذل المسيح. أي أطاعوهم في تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرمه الله. وهذا هو التفسير المأثور. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد روي الإمام أحمد والترمذي وابن جرير من طرق عن عدي بن حاتم ( رضي الله عنه ) أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام وكان قد تنصر في الجاهلية فأسرت أخته وجماعة من قومه ثم من رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عدي إلى المدينة وكان رئيسا في قومه طيئ، وأبوه حاتم الطائي المشهور بالكرم. فتحدث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة، وهو يقرأ هذه الآية ﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ فقلت أي –عدي- : غنهم لم يعبدوها. فقال صلى الله عليه وسلم :( بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وأحلوا لهم الحرام، فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا عدي ما تقول ؟ أيضرك أن يقال الله أكبر ؟ فهل تعلم شيئا اكبر من الله. ما يضرك أيضرك أن يقال لا إله إلا الله فهل تعلم إلها غير الله ؟ ) ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق. قال : فلقد رأيت وجهه استبشر ثم قال :( إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون ) وهكذا قال حذيفة ابن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسير :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ غنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا١.
قوله :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ﴾ أي أن هؤلاء جميعا أمروا في الكتب السماوية المنزلة من السماء على لسان أنبيائهم أن لا يعبدوا إلا الله وحده ؛ فهو الله ذو الجلال والكبرياء يشهد أنه ليس من إله معبود سوى الله ﴿ سبحانه عما يشركون ﴾ أي تعالى الله وتقدس وتنزه عما يختلقون من الشركاء والنظراء والأولاد.
على أنه يستفاد من هذه الآية فداحة العصيان الشنيع وفظاعة النكر الموبق في الركون إلى الساسة والعادة وأولي الأمر في التشريع للناس ؛ إذ يحلون لهم ما حرمه الله عليهم، أو يحرمون ما أحله الله لهم ولذلك في معزل عن دين الله وشرعه بل تبعا لما تجده أهواؤهم وأمزجتهم. حتى إذا أطاعهم الناس واتبعوهم فيما شرعوه لهم صاروا عبدة لهم. فما يطيع المرء أحدا من البشر في شرع من عنده مخالف لشرع الله فيما احل أو حرم إلا كان عابدا له من دون الله. وأيما امرئ من البشر شرع للناس تشريعا فيه تحليل لما حرمه الله، أو تحريم لما أحل الله ؛ فقد اصطنع لنفسه خصيصة من خصائص الإلهية التي لا تنبغي لأحد سوى الله. وما الناس الطائعون الراضون بعد ذلك إلا المشركون الذين يعبدون مع الله آلهة مشرعة أخرى من البشر٢.
ويستبين بذلك مدى الجريمة البالغة التي يتلبس بها المشرعون للناس من عند أنفسهم مما لم يأذن به الله، ومما لم ينزل الله به سلطانا. بل يصطنعون للناس تشريعا مخالفا لمنهج الله سواء في التحليل أو التحريم، فهم لذلك يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله. لا جرم أن هذه فاقرة فظيعة يسقط فيها الساسة والقادة وأولوا الأمر الذين يفتاتون على الله بما شرعوه للناس. وما شرعوه لهم مخالف لمنهج الله. وذلكم غاية العصيان والكفران.
وكذلك الرعاع من التابعين الذين يهرعون لطاعة الحاكم في كل ما أمر من غير تمحيص لما هو مخالف لشرع الله أو غير مخالف. منهم لا يعبأون عن كانت أوامر الحاكم مغايرة لشرع الله. وإنما يخفون سراعا وفي غاية الاستحقاق والرعونة ؛ ليطيعوا الحاكم طمعا في بلوغ مأرب مهين مسف، أو لمجرد النفاق والمداهنة والخفة وخواء الضمير. لا جرم أن هؤلاء واقعون في مستنقع الشرك الذي غاص فيه سائر الكافرين والمنافقين والملحدين وعباد الملوك ولسلاطين.
ولا يظنن جاهل من الجاهلين أنه بصلاته وزكاته وصيامه ناج من الانهيار في الهاوية ليكون في زمرة المشركين الذين عبدوا الرؤساء والحاكمين ؛ إذ أطاعوهم عن رضى ومودة.
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٤٩ والبحر المحيط جـ ٥ ص ٣١- ٣٣ وروح المعاني جـ ٥ ص ٨٣- ٨٥ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ١٤٨، ١٤٩..
يريد الكافرون من أهل الكتاب والوثنين والملحدين وغيرهم من أهل الكفر ﴿ أن يطفئوا نور الله ﴾ وهو القرآن الكريم ؛ فهو أصل الإسلام كله. الدين الكبير الشامل الذي يتناول القضايا والمشكلات والمسائل البشرية كافة. ذلكم الإسلام العظيم الرحب يريد الكافرون على اختلاف مللهم ونجلهم ومذاهبهم أن يطفئوه بأفواههم. وذلك بأقاويلهم الباطلة وافتراءاتهم الكاذبة التي يثيرونها في كل مكان ومجال. وذلك هو ديدن الكافرين في كل الأزمنة، وخصوصا في هذا العصر الذي تنشط فيه أفواه الظالمين من خصوم الإسلام من استعمارين وصليبين وصهيونيين ووثنين ومحلدين وعملاء. كل أولئك يريدون أن يطفئوا نور الإسلام بما يبثونه وينشرونه من الكلمات والخطابات المنطوقة، لا يبتغون من ذلك إلا تشويه الإسلام والإساءة إلى سمعته وروعته وصلوحه.
ويلحق بما يخرج من الأفواه ما تخطه أقلام الظالمين والمعوقين الذين يصدون عن منهج الله، والذين يحرضون البشرية على الشرود والنفور من الإسلام وجنبته والارتداد عنه. ومجال الأقلام في محاربة الإسلام هائل وخطير وبالغ التأثير ؛ فإن الأقلام التي تخط المقالات والمنشورات والكتب في محاربة الإسلام وصد الناس عن هذا الدين لهي فظيعة وخبيثة ومؤثرة. وكم عانى المسلمون من افتراءات الكافرين الظالمين الذين يشنعون على المسلمين في سمعتهم وقيمهم وأخلاقهم وعاداتهم تشنيعا ! وكم واجه الإسلام نفسه من أباطيل أعدائه المتربصين الذين يكيدون له طيلة الزمان كيدا ! وذلك بمختلف الأساليب في التشويه والتشكيك والتنفير للحيلولة بين البشرية وهذا الدين.
ولقد بلغ الكافرون والمتربصون غاياتهم في تشويه الإسلام بما تخطه أيديهم الأثيمة من مقالات السوء والافتراء، واصطناع الشبهات والأكاذيب الملفقة عن الإسلام. وبالرغم مما يبذله المشركون والحاقدون العتاة من هائل الطاقات المنطوقة والمخطوطة والمصورة في الكيد لهذا الدين من اجل تدميره أو استئصاله ؛ فإن هذه الجهود والطاقات لسوف تبوء بالفشل الذريع. وهو قوله سبحانه وتعالى :﴿ ويأتي الله إلا أن يتم نوره ﴾ وذلك قرار رباني كبير وخالد لا يقبل الشك أو الجدل ؛ وهو أن هذا الدين لا جرم قائم، وأنه شائع في الآفاق وفي سائر أنحاء الدنيا ؛ فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( عن الله زوى١ لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ).
وروي الإمام أحمد بإسناده عن تميم الداري ( رضي الله عنه ) قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال :( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنها. ولا يترك الله بيت مدر ولا بر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزا ويذل ذليلا ؛ عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر ).
ولئن ظهر الإسلام وشارع في العصور الفائتة تحقيقا قوله تعالى :﴿ ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ﴾ فإن عود الإسلام من جديد كيما يهيمن على الواقع البشري كله ليس بالأمر البعيد. بل إن ذلك مرهون بالأسباب التي تفضي بالضرورة لهيمنة الإسلام وتطبيق شريعته في المجتمع. وسبيل المسلمين لهذا الأمل الكبير المنتظر أن يتلاقوا جميعا على عقيدة التوحيد بعيدا عم كل ألوان الشرك والنفاق والرياء والفرقة والأثرة. وأن تترسخ في قلوبهم حقيقة التقوى وهي الخوف من الله وحده دون أحد سواه. وأن تتركز بينهم آصرة الأخوة في العقيدة والدين فتسمو هذه على كل الأواصر المحدودة الأخرى. وأن يتهيأوا لليوم الفاصل الذي يواجهون فيه أعدائهم المتربصين فيستعيدون لذلك كامل الاستعداد من غير تفريط ولا تقصير ولا تردد. فيتزودون لذلك بزاد القوة الكافية التي يرهب بها المسلمون عدو الله وعدوهم. وهذه إحدى الوسائل التي لا مناص من التلبس بها ؛ لأن أعداء الله لا تردعهم أساليب المجادلات والمحاورات المنطقية، ولا يصدهم الخلق الكريم، أو التعامل بالرفق والمودة واللين، إن أعداء الله لا يردعهم ولا يصدهم عن الشر والعدوان على المسلمين إلا قوة السلاح المرعب بكل ما تعنيه القوة من الأسباب العلمية والتقنية والمادية والعسكرية. وهو مقتضى قوله تعالى :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ وبغير ذلك لسوف يبقى الظالمون والأشرار يعتدون على الإسلام والمسلمين، فيكيلون لهم الضربات والويلات بغير رادع ولا انقطاع.
وعلى أية حال ؛ فإن الإسلام باق لا يزول ولا يفنى مهما طغى عليه العتاة والمتجبرون. ومهما تزاحمت من حوله المؤامرات والخيانات والافتراءات. إن الإسلام باق بقاء الشمس والقمر، وبقاء النجوم والكواكب التي توجب أجواز الفضاء بغير انقطاع ولا توقف حتى تقوم القيامة ؛ لأن الإسلام قدر رباني حكيم وثابت. وظاهرة كونية كبرى من ظواهر هذا الوجود المستديم إلى قيام الساعة ؛ وبذلك لا تقوى قوى البغي والظلام والعدوان والشر على استئصال الإسلام من الدنيا. وهو بالرغم من يعتريه الآن من ظواهر الضعف والاضطراب لفرط ما يحيق به من كيد وتآمر ولكثافة الضربات التي يوجهها إليه الظالمون والأشرار ؛ فإنه لن يفنى ولن يزول بل إنه راسخ ومستطير وسيعاود الظهور والاستعلاء لا محالة ؛ ليظهر على العالمين بإذن الله. وهذا مقتضى قوله سبحانه :﴿ وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾.
يريد الكافرون من أهل الكتاب والوثنين والملحدين وغيرهم من أهل الكفر ﴿ أن يطفئوا نور الله ﴾ وهو القرآن الكريم ؛ فهو أصل الإسلام كله. الدين الكبير الشامل الذي يتناول القضايا والمشكلات والمسائل البشرية كافة. ذلكم الإسلام العظيم الرحب يريد الكافرون على اختلاف مللهم ونجلهم ومذاهبهم أن يطفئوه بأفواههم. وذلك بأقاويلهم الباطلة وافتراءاتهم الكاذبة التي يثيرونها في كل مكان ومجال. وذلك هو ديدن الكافرين في كل الأزمنة، وخصوصا في هذا العصر الذي تنشط فيه أفواه الظالمين من خصوم الإسلام من استعمارين وصليبين وصهيونيين ووثنين ومحلدين وعملاء. كل أولئك يريدون أن يطفئوا نور الإسلام بما يبثونه وينشرونه من الكلمات والخطابات المنطوقة، لا يبتغون من ذلك إلا تشويه الإسلام والإساءة إلى سمعته وروعته وصلوحه.
ويلحق بما يخرج من الأفواه ما تخطه أقلام الظالمين والمعوقين الذين يصدون عن منهج الله، والذين يحرضون البشرية على الشرود والنفور من الإسلام وجنبته والارتداد عنه. ومجال الأقلام في محاربة الإسلام هائل وخطير وبالغ التأثير ؛ فإن الأقلام التي تخط المقالات والمنشورات والكتب في محاربة الإسلام وصد الناس عن هذا الدين لهي فظيعة وخبيثة ومؤثرة. وكم عانى المسلمون من افتراءات الكافرين الظالمين الذين يشنعون على المسلمين في سمعتهم وقيمهم وأخلاقهم وعاداتهم تشنيعا ! وكم واجه الإسلام نفسه من أباطيل أعدائه المتربصين الذين يكيدون له طيلة الزمان كيدا ! وذلك بمختلف الأساليب في التشويه والتشكيك والتنفير للحيلولة بين البشرية وهذا الدين.
ولقد بلغ الكافرون والمتربصون غاياتهم في تشويه الإسلام بما تخطه أيديهم الأثيمة من مقالات السوء والافتراء، واصطناع الشبهات والأكاذيب الملفقة عن الإسلام. وبالرغم مما يبذله المشركون والحاقدون العتاة من هائل الطاقات المنطوقة والمخطوطة والمصورة في الكيد لهذا الدين من اجل تدميره أو استئصاله ؛ فإن هذه الجهود والطاقات لسوف تبوء بالفشل الذريع. وهو قوله سبحانه وتعالى :﴿ ويأتي الله إلا أن يتم نوره ﴾ وذلك قرار رباني كبير وخالد لا يقبل الشك أو الجدل ؛ وهو أن هذا الدين لا جرم قائم، وأنه شائع في الآفاق وفي سائر أنحاء الدنيا ؛ فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( عن الله زوى١ لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها ).
وروي الإمام أحمد بإسناده عن تميم الداري ( رضي الله عنه ) قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال :( ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنها. ولا يترك الله بيت مدر ولا بر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزا ويذل ذليلا ؛ عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر ).
ولئن ظهر الإسلام وشارع في العصور الفائتة تحقيقا قوله تعالى :﴿ ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ﴾ فإن عود الإسلام من جديد كيما يهيمن على الواقع البشري كله ليس بالأمر البعيد. بل إن ذلك مرهون بالأسباب التي تفضي بالضرورة لهيمنة الإسلام وتطبيق شريعته في المجتمع. وسبيل المسلمين لهذا الأمل الكبير المنتظر أن يتلاقوا جميعا على عقيدة التوحيد بعيدا عم كل ألوان الشرك والنفاق والرياء والفرقة والأثرة. وأن تترسخ في قلوبهم حقيقة التقوى وهي الخوف من الله وحده دون أحد سواه. وأن تتركز بينهم آصرة الأخوة في العقيدة والدين فتسمو هذه على كل الأواصر المحدودة الأخرى. وأن يتهيأوا لليوم الفاصل الذي يواجهون فيه أعدائهم المتربصين فيستعيدون لذلك كامل الاستعداد من غير تفريط ولا تقصير ولا تردد. فيتزودون لذلك بزاد القوة الكافية التي يرهب بها المسلمون عدو الله وعدوهم. وهذه إحدى الوسائل التي لا مناص من التلبس بها ؛ لأن أعداء الله لا تردعهم أساليب المجادلات والمحاورات المنطقية، ولا يصدهم الخلق الكريم، أو التعامل بالرفق والمودة واللين، إن أعداء الله لا يردعهم ولا يصدهم عن الشر والعدوان على المسلمين إلا قوة السلاح المرعب بكل ما تعنيه القوة من الأسباب العلمية والتقنية والمادية والعسكرية. وهو مقتضى قوله تعالى :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ وبغير ذلك لسوف يبقى الظالمون والأشرار يعتدون على الإسلام والمسلمين، فيكيلون لهم الضربات والويلات بغير رادع ولا انقطاع.
وعلى أية حال ؛ فإن الإسلام باق لا يزول ولا يفنى مهما طغى عليه العتاة والمتجبرون. ومهما تزاحمت من حوله المؤامرات والخيانات والافتراءات. إن الإسلام باق بقاء الشمس والقمر، وبقاء النجوم والكواكب التي توجب أجواز الفضاء بغير انقطاع ولا توقف حتى تقوم القيامة ؛ لأن الإسلام قدر رباني حكيم وثابت. وظاهرة كونية كبرى من ظواهر هذا الوجود المستديم إلى قيام الساعة ؛ وبذلك لا تقوى قوى البغي والظلام والعدوان والشر على استئصال الإسلام من الدنيا. وهو بالرغم من يعتريه الآن من ظواهر الضعف والاضطراب لفرط ما يحيق به من كيد وتآمر ولكثافة الضربات التي يوجهها إليه الظالمون والأشرار ؛ فإنه لن يفنى ولن يزول بل إنه راسخ ومستطير وسيعاود الظهور والاستعلاء لا محالة ؛ ليظهر على العالمين بإذن الله. وهذا مقتضى قوله سبحانه :﴿ وهو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ﴾.
بعد أن ندد بتهافت الأتباع والرعاع من الناس الذين اتخذوا الأحبار والرهبان أربابا من دون الله، شرع في الكشف عن فساد الأحبار والرهبان أنفسهم ؛ فإن كثيرا منهم فاسدون مفسدون ضالعون في الخطيئة والرجس، ويضلون الناس عن صراط الله الحق ويعمدون عن جشع وطمع إلى أخذ أموال الناس بغير حق ؛ وذلك على سبيل الرشا والابتزاز١ والكذب ؛ فهم يفترون على الناس بما يصطنعونه لهم من كاذب الأحكام ليحلوا لهم الحرام، ويحرموا عليهم الحلال، ويغيروا من معالم دينهم وشريعتهم، أو يبدلونها تبديلا ؛ ترضية للرعية في مقابلة ما يؤدونه لهم من العطايا والضرائب والبراطيل٢. كل ذلك على حساب دينهم الذي بغوا عليه وجاروا على أحكامه أشد الجور فاستحال إلى أشتات من الكلام المختلط المتهافت. الكلام الذي أتى عليه التحريف والتزيف فبدله دينا غير الله.
وفي ذلك تنبه للمسلمين وتحذير شديد من أن يسقط علماؤهم مثل ذلك السقطة التي انحدر إليها الأحبار والرهبان. ذلك تحذير للمسلمين في كل زمان كيلا تغريهم مباهج الدنيا وزينتها من الأموال والمناصب فيميلوا عن الحق فيما يبينونه للناس من علوم الشريعة وأحكامها. والعلماء في نظر الإسلام ( ورثة الأنبياء ) فهم احرص الناس كافة على صلاح السريرة والنصح للدين والأمة والأوطان، والاستعلاء على الشبهات والشهوات ومجانبة الباطل والسحت والغش والافتراء. بل إن العلماء خليق بهم أن يكونوا أعزة كراما مع أنفسهم ومع الناس من حولهم ؛ فهم بذلك يسخرون بالنفاق والمنافقين، ويستهجنون التهافت حول أعتاب الساسة والرؤساء ؛ لأن العلماء أعظم قدرا وتشريفا ممن سواهم من أولى الزمام الذين يتقلدون المناصب وقيادة البلاد والعباد ؛ فلا حاجة للعلماء –على كبير قدرهم وبالغ شرفهم- للتزلف أو المصانعة أو الملق٣. وهم إذا عرفوا حقيقة أنفسهم وأقدارهم تجافوا بأنفسهم عن كل ظواهر الإسفاف والضعة والهبوط. وترفعوا عن كل الدنايا والرزايا والشبهات التي تحيط بأولي المناصب والكراسي والثراء ؛ فيضل العلماء على الدوام أبرارا أتقياء وقد صانوا دينهم وشرفهم أن ينخرم أو يتدنس. وبذلك تتحدث بذكرهم وفضلهم الألسن والقراطيس إلى يوم الدين، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
قوله :﴿ ويصدون عن سبيل الله ﴾ أي يصدون الناس عن دين الإسلام، أو عن المسلك الحقيقي الذي قرره الله في كتبهم. إنهم يصدون الناس عن ذلك إلى ما افتراه وحرفوه. وهم مع أكلهم الحرام يصدون غيرهم عن اتباع الحق ويخلطون الحق بالباطل ليلبسوا على الناس دينهم فلا يميزوا فيه بين الصواب والخطأ، ولا يعرفوا المحرف فيه من السليم. ومع ذلك كله فإنهم يظهرون لعامة الناس أنهم يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف، والله يعلم، وكذا الراسخون في العلم يعلمون أنهم مبطلون مخادعون دجاجلة ؛ فلا يدعون إلا للباطل ولا يقودون أنفسهم والذين اتبعوهم إلا إلى النار وبئس القرار٤.
قوله :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ﴾ الواو في قوله :﴿ والذين ﴾ فيها ثلاثة وجوه. الأول : أنها استئنافية، والذين، مبتدأ ضمن معنى الشرط، فدخلت الفاء في خبره.
الثاني : أن الموصول هنا من أوصاف الكثير من الأحبار والرهبان.
الثالث : أنه منصوب بفعل مقدر يفسره قوله :﴿ فبشرهم ﴾ ٥.
قوله :﴿ يكنزون ﴾ من الكنز. وهو في اللغة يعني : المال المدفون : وهو أيضا بمعنى الذهب والفضة وما يحرز به المال ٦ولا يختص الكنز بالذهب والفضة بل يعم غيرهما من الأموال مما سواهما.
حكم الكنز
ثمة خلاف في المال الذي أدى صاحبه زكاته، هل يسمى كنزل أم لا ؟ للعلماء في ذلك أقوال ثلاثة :
القول الأول : أربعة آلاف فما دونها نفقة فما كان أكثر من ذلك فهو كنز وإن أديت زكاته، وهو قول علي رضي الله عنه٧.
القول الثاني : الكنز، ما فضل عن الحاجة ؛ فهو بذلك تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وهو مذهب أبي ذر رضي الله عنه. وهو من شدائده ومما انفرد به. وعلى هذا لا يجوز الكنز، بل يجب إنفاق الذهب والفضة جميعا مما يفضل عن حاجة العيال –واحتج أبو ذر بظاهر الآية ﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ﴾ الآية٨.
القول الثالث : ما أديت منه زكاته أو من غيره فليس بكنز، ولا يحرم جمعه أو ادخاره وإن كان كثيرا. وهو قول أكثر العلماء وهو الصحيح. ٩ويستدل على ذلك من السنة بما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك ). وكذلك ما أخرجه أبو داود عن أم سلمة قالت : كنت ألبس أوضاحا١٠ من ذهب فقلت : يا رسول الله أكنز هو ؟ فقال :( ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكي فليس بكنز ).
والمراد تخويف الكافرين الذين يمتنعون من تزكية أموالهم المكنوزة ؛ لما في ذلك من العدوان على حق الفقراء والمساكين بما يفضي إلى غضب الرحمن، وإعواز المحاويج وإحساسهم بالأم والحسرة ؛ وبذلك فقد أعد الله للكانزين الأشحة المانعين الزكاة شديد العذاب، وتوعدهم بالنار تصطلي بها جلودهم وأبدانهم. وذلك من خلال الآية وهي غاية البلاغة والتأثير تفيض بهما روعة هذا التعبير. وهو من كلام اله المعجز الذي ينكص دونه كل كلام، وتدنو دونه الكلمات وبراعة الأقلام
٢ البراطيل: جمع برطيل، وهو الرشوة. انظر القاموس المحيط ص ١٢٤٨..
٣ الملق: بالتحريك أن تعطي باللسان ما ليس في القلب. انظر القاموس المحيط ص ١١٩٣..
٤ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٥٠ وروح المعاني جـ ٥ ص ٨٧..
٥ الدر المصون لابن يوسف الحلبي جـ ٦ ص ٤١..
٦ القاموس المحيط جـ ٢ ص ١٩٦ ومختار الصحاح ص ٥٨٠..
٧ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٥١ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ١٢٥..
٨ أحكام القرآن للحصاص جـ ٤ ص ٣٠٠ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٥٢..
٩ أحكام القرآن الجصاص جـ ٤ ص ٣٠٠، ٣٠١ وتفسير البيضاوي ص ٢٥٣..
١٠ الأوضاح جمع ومفرده وضح. والأوضاح حلي من الدرهم الصحاح. انظر مختار الصحاح ص ٧٢٦..
قوله :﴿ فذوقوا ما كنتم تكنزون ﴾ ما، مصدرية ح أي ذوقوا وبال كنزكم. وقيل : موصولة ؛ أي ذوقوا وبال المال الذي كنتم تكنزونه. ويقال لهم ذلك على سبيل التقريع والتهكم وزيادة في التنكيل الأليم كقوله :﴿ ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم ٣٨ ذق إنك أنت العزيز الكريم ﴾ فهذا هو الذي كنتم تكنزونه لأنفسكم فذوقوا كيه ومس لظاه. وفي الصحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله، إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقدراه خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار ) ٢.
٢ روح المعاني جـ ٥ ص ٨٩ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٥٠- ٣٥٢..
ذكر أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات والحروب، فكانت إذا توالت عليها الأشهر الأربعة الحرم ضاقت عليهم الحال وافتقروا. فرغبهم ذلك في أن ينسئوا الشهور للعرب ؛ أي أن يؤخرها ؛ فكانوا يأتون إلى من نسئ لهم الهر ويقولونه له : أنسئنا شهرا ؛ أي أخر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم فيغيرون فيه ويعيشون، ثم يلزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة ويسمون ذلك الصفر المحرم ويسمون ربيعا الأول صفرا وربيعا الآخر ربيعا الأول وهكذا في سائر الشهور، فتجيء السنة من ثلاثة عشر شهرا أولها المحرم للمحلل، ثم المحرم الذي هو في الحقيقية صفر، حتى حج أبو بكر في ذي القعدة حقيقة، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة. وفي ذلك أخرج مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض و ﴿ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ﴾ ثلاثة متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان ) وقد أضاف رجب إلى مضر ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم ؛ فبين صلى الله عليه وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة١.
قوله :﴿ في كتاب الله ﴾ أي في اللوح المحفوظ. وقيل : في القرآن. وقيل : في حكم الله.
قوله :﴿ يوم خلق السموات والأرض ﴾ أي في ابتداء إيجاد هذا العالم. والمراد أنه في ابتداء ذلك كانت الشهور عدتها ما ذكر وهي الآن على ما كانت عليه.
قوله :﴿ ذالك الدين القيم ﴾ الإشارة عائدة إلى تحريم الأشهر الأربعة، وإلى ما ينبغي لها من التفخيم والتعظيم ﴿ الذين القيم ﴾ أي القضاء المستقيم، وهو قول بن عباس، وقيل : الشرع القويم ؛ إذ هو دين إبراهيم عليه السلام.
قوله :﴿ فلا تظلموا فيهن أنفسكم ﴾ الضمير في قوله :﴿ فيهن ﴾ راجع إلى الأشهر الحرام ؛ فقد نهي المسلمين عن هتك حرمتهن وارتكاب ما حرم فيهن كنهيه عن المظالم في هذه الأشهر العظيمة خصوصا، تشريفا لها وتعظيما ؛ فقد خصها بالذكر، وإن كانت المظالم منهيا عنها في كل زمان.
على أن تحريم القتال في هذه الأشهر الأربعة منسوخ عند جمهور العلماء وأن الظلم المنهي عنه فيهن مؤول بارتكاب المعاصي. وقد بينا آنفا أن تخصيصها بالنهي عن ارتكاب المعاصي والآثام فيها، لتعظيمها، مع أن المعاصي منهي عنها مطلقا.
وعن عطاء بن أبي رباح أنه لا يحل القتال للناس في الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا دفعا لعدوان وقع عليهم. لكن الراجح القول بالنسخ. وبذلك فإن قتال الكافرين في الأشهر الحرم بات فير محظور، ويؤيد هذا : أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوال وذي القعدة سنة ثمان. ولئن وقع على المسلمين عدوان من الكافرين بات قتالهم أعظم وجوبا وأشد تأكيدا٢.
قوله :﴿ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلوكم كافة ﴾ ﴿ كافة ﴾، منصوب على المصدر في موضع الحال كقولهم : عافاه الله عافية، ورأيتهم عامة وخاصة٣ ؛ أي قاتلوا المشركين مجتمعين غير مختلفين، ومؤتلفين غير متفرقين كما يقاتلكم المشركون جميعا مجتمعين غير متفرقين. وبعبارة أخرى : قاتلوهم جميعكم كما يقاتلونكم جميعهم. وذلك تهييج للمسلمين وتحضيض لهم على قتال المشركين مجتمعين مؤتلفين، غير متفرقين. كقوله تعالى :﴿ إن الله يحب الذين يقاتلوهم في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ﴾ وذلك يذكرنا بأن المشركين الذين يكرهون الإسلام ويناصبونه العداء والكيد دوما، يواجهون المسلمين مجتمعين وقد حشدوا لقتالهم كل قواهم وطاقاتهم، واستنفروا من القدرات والأموال والعساكر كل ما لديهم. وذلك يوجب على المسلمين أن لا يتنازعوا ولا تختلف كلمتهم فتختلف قلوبهم وتلين قناتهم ويهون بأسهم وكيانهم في نظر أعدائهم ؛ بل عليهم أن يلتئموا جميعا ليكونوا على قلب رجل واحد إن كانوا حقا مؤمنين يخشون الله في أنفسهم وعقيدتهم وأوطانهم وأمتهم.
إن على المسلمين أن يحشدوا جموعهم وعساكرهم ويستعدوا للقاء العدو الظالم، وهم مجتمعون متحدون ؛ فإن أعداءهم ماكرون حاقدون، وهم كثيرون مجتمعون على محاربة الإسلام والمسلمين، وما فتئوا يتآمرون في الظلام ليكيدوا لهذا الدين أبلغ الكيد ؛ فلا مندوحة إذن عن استعداد المسلمين في سائر أقطار الأرض للقاء الكافرين المعتدين دفاعا عن أنفسهم، ودرءا للمخاطر أن تحقي بدينهم وأمتهم.
وإذا لم يعبأ المسلمون بمواجهة الظالمين وركنوا إلى الدنيا بحطامهما وزخارفها، واستسلموا للإياس والخور والسلاطين الفسقة ؛ فلسوف تزداد من حولهم المخاطر والشدائد حتى يعودوا إلى دينهم الإسلام عودا حقيقيا.
قوله :﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ ذلك إعلان من الله للمؤمنين أنهم إن اتقوه وأطاعوه شرعه والتزموا ما أمرهم به كاجتماعهم كافة على قتال المشركين ؛ فغنه سبحانه لا محالة ناصرهم ومؤيدهم وجاعل الغلبة لهم٤.
٢ روح المعاني جـ ٦ ص ٨٩- ٩٢ والبحر المحيط جـ ٥ ص ٤٠- ٤٢..
٣ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٤٠٠..
٤ تفسير الطبري جـ ١٠ ص ٩٠، ٩١..
قوله :﴿ زيادة في الكفر ﴾ يعني هذا النسيء الذي بينا معناه آنفا، زيادة في كفرهم. فقد أتوا وجوها في الكفر، منها : جحودهم الخالق، وإنكارهم البعث، وتكذيبهم النبيين والمرسلين. فجاء النسيء زيادة على هذه الوجوه ؛ أي أنهم ازدادوا بالنسيء كفرا على كفرهم ؛ فهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم فضلوا به ضلالا زائدا. وهو قوله :﴿ يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ﴾.
قوله :﴿ ليوطئوا عدة ما حرم الله ﴾ ﴿ ليوطئوا ﴾ : ليجتمعوا ويتفقوا. واطأه على الأمر : وافقه. تواطأوا عليه ؛ أي اتفقوا٢. والمعنى : أنهم يوافقون بعدة الشهور التي يحرمونها عدة الأشهر الأربعة التي حرمها الله من غير زيادة عليها ولا نقصان منها. فهم بذلك لم يحلوا شهرا إلا حرموا بدلا منه شهرا آخر ؛ ليبقى الأشهر الحرم أربعة ؛ وبذلك يحلون ما رحم الله من الأشهر الحرم التي أبدلوها بغيرها.
قوله :﴿ زين لهم سوء أعمالهم ﴾ أي زين الشيطان لأتباعه المشركين الضالين ما اقترفوه من المعاصي وأنواع الكفر، ومن جملتها ذلك.
قوله :﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ وذلك إذا اختاروا الباطل فمالت إليه نفوسهم بعد أن جنحوا عن طريق الله وأبوا إلا المضي في طريق الشيطان٣.
٢ مختار الصحاح ص ٧٢٧ والمعجم الوسيط جـ ٢ ص ١٠٤١..
٣ فتح القدير جـ ٢ ص ٣٦٠ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ١٢٥، ١٢٦ وتفسير البيضاوي ص ٢٥٤ والكشاف جـ ٢ ص ١٨٩..
قوله :﴿ ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله ﴾ ما، حرف استفهام معناه التوبيخ. والتقدير : أي شيء يمنعكم عن كذا ؛ وذلك على سبيل العتاب والتوبيخ لمن تخلف من المسلمين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام.
وقوله :﴿ انفروا ﴾ من النفر، بسكون الفاء، وهو في الأصل يعني الخروج من مكان إلى مكان آخر لأمر واجب. واسم القوم الذين يخرجون لذلك، النفير٣ ؛ أي ما لكم إذا قيل لكم اخرجوا مجاهدين في سبيل الله لجهاد أعدائه ﴿ اثاقلتم إلى الأرض ﴾ أي تثاقلتم إلى نعيم الحياة ولزوم الأرض وما فيها من متاع وزينة، أو ملتم إلى الإقامة بأرضكم ومساكنكم حيث الاستقرار والدعة، وزهدتم في الخروج للقاء المشركين الظالمين.
قوله :﴿ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ﴾ أي أرضيتم بنعيم الدنيا بدلا من نعيم الآخرة ؟ ! أرضيتم بهذه العاجلة التي تمر في عجل عابر وتغفلون عن الآخرة حيث النعيم المستديم ؟ ! فنعيم الدنيا حطام زائل، ونعيم الآخرة ماكث سرمد. فكيف يستعاض عن الماكث الباقي بالحطام الدائر ؟ إنه لا يفعل ذلك إلا ضال مأفون.
قوله :﴿ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل ﴾ أي فما الذي تستمتعون به في دنياكم هذه مما فيها من اللذات والنعيم في جنب الآخرة ﴿ إلا قليل ﴾ أي متاع صغير بالغ الهوان.
٢ أسباب النزول للنيسابوري ص ١٦٥..
٣ المعجم الويسط جـ ٢ ص ٩٣٩ وتفسير الرازي جـ ١٦ ص ٦١..
قوله :﴿ والله على كل شيء قدير ﴾ الله قادر على تعذيب المفرطين الذين نكلوا عن فريضة الجهاد، وقادر على استبدال آخرين غيرهم، بل إن الله قادر أن يفعل ما يشاء١.
والمعنى : إن لم تنصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركتم بذل العون له والتأييد ؛ فإن الله جل وعلا يتكفل بذلك ؛ فقد نصره الله في مواطن الشدة والخطر، وهو سبحانه ينصره في كل المواطن إن شاء مثلما نصره وثبته في أشد الأحوال من الخوف البالغ والخطر المحدق ﴿ إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين ﴾ يعني أحد اثنين. وكان صاحبه في الهجرة المباركة المشهودة صديقه المخلص الودود أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه ) فقد خرجا كلاهما بدينهما إلى المدينة، ثم لجئا في الطريق إلى غار ثور ثلاثة أيام، حتى إذا جاء المشركون في اغترار بالغ وسفاهة عاتية حمقاء، أحاطوا بالغار ليجدوا من فيه، أو يفضوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيوقعوا به ما ائتمروا به وهو القتل. والرسول صلى الله عليه وسلم مع ذلك مطمئن ثابت ؛ بل هو أقوى في شموخه وثباته من الرواسي الشم، فما تزعزع فيه مثقال ذرة من مشاعره وأعصابه، ولا اضطراب من بدنه أو كيانه مثقال قطمير، ولا ازدادت في صدره خفقات قلبه الكبير ولو بقدر خفقة واحدة أو نصيفها، وحسبه هذا الحدث الهائل وحده شاهدا على صدق نبوته وحقيقة رسالته للعالمين كافة.
قوله :﴿ إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ﴾ أي بالنصر والتأييد والكلاءة وإنما كان حزن أبي بكر ؛ إشفاقا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخشية أن يناله من أذى المشركين شيء، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك معصوما بالصون والحفظ المحتومين ؛ فقد نزل عليه في المدينة قول الله تعالى :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾.
وروي الإمام أحمد عن أنس أن أبا بكر حدثه قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار : لو أن أحدهما نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه. فقال ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ ).
والله جل وعلا خالق كل شيء وبارئ المؤمنين والمجرمين قادر أن يرد كيد المجرمين في نحورهم، وأن ينشر الأمن والسكينة في قلب نبيه المعظم صلى الله عليه وسلم، فيشد من عزيمته البالغة التي لا تأتي عليها الأهوال والمحن، ولا يفلها مكر الشياطين من البشر الجاحد المتربص. وهذا مقتضى قوله سبحانه :﴿ فأنزل الله السكينة ﴾ أي أنزل تأييده ونصره وتثبيته على الرسول صلى الله عليه وسلم ﴿ وأيده بجنوده لم تروها ﴾ أي أيده بنزول الملائكة الأطهار مؤيدين له ومعززين.
قوله :﴿ وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا ﴾ كلمة الله مرفوعة على الابتداء. و ﴿ هي العليا ﴾، خبر المبتدأ٢.
أما ﴿ كلمة الذين كفروا ﴾ فهي جامعة لمعاني الشرك والظلم والباطل والضلال ؛ فقد جعلت هذه ﴿ السفلى ﴾ وذلك بالتبديد والمحق والقهر ؛ فكل مقهور ومغلوب لهم أسفل من الغالب، والغالب لهو الأعلى.
أما ﴿ كلمة الله ﴾ فهي الحق بكل ما تشتمل عليه هذه الكلمة من معاني الخير والبركة والعدل والفضل. لا جرم أن يأتي في قمة ذلك كله شهادة أن لا إله إلا الله ؛ فهي الشهادة العظمى التي تأتي في الذروة السامقة من مراتب الحق والخير في هذا الوجود كله. وقد جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري ( رضي الله عنه ) قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال :( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهي في سبيل الله ).
إن كلمة الله بالشهادة العظمى ومنهج الله الحكيم القويم وما حواه ذلك من معاني راسخة في الخير والجلال والفضيلة ؛ لهم الحق الأبلج الثابت الذي يصلح عليه الناس وتستقيم على أساسه الدنيا. لكن كلمة الكافرين تضم الشر والشقاء والباطل، وذلك كله في الأسفلين والأذلين حيث يصير إليه الكافرون بما استفرخ في أذهانهم وصدورهم من عقائد الضلال والكفر.
على أنه يستفاد من حدث الهجرة جواز الفرار بالدين خوفا من العدو، وكذلك الاستخفاء منهم مخافة كيدهم وإيذائهم، ومخافة أن يذهب الدين نفسه بذهاب دعاته وحملته. وما ينبغي الاحتجاج بما يقوله بعض الجاهلين، وهو أن من خاف مع الله سواه كان ذلك نقصا في توكله وتقواه ولم يؤمن بالقدر، ومثل هذا القول مجانب للصواب، ومخالف لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ فقد دلت سنته العملية على فراره بدينه في حدث الهجرة ليكون ذلك مثالا يحتذى لدى المسلمين طيلة الزمان كلما حزب أحدهما أو بعضهم من الكافرين والخائنين كيد أو مكر فيفر بدينه. لا جرم أن ذلك أسلم للنفس أن يستحوذ عليها الكافرين بالفتنة أو القتل، فضلا عما في ذلك من مراعاة حقيقة لفطرة الإنسان التي تهتف بالخوف من الموت. وهذه حقيقة أساسية من حقائق كثيرة جبل عليها الإنسان. وخلاف ذلك من القول المغاير ليس إلا التكليف أو الجهل بطبيعة الإنسان وحقيقة فطرته التي جيىء به عليها ﴿ لا تبديل لخلق الله ﴾.
أما رسولنا الهادي صلى الله عليه وسلم فما كان يخشى الكافرين على نفسه بقدر خشيته على الدين أن يفنى بهلاكه، ويكون في هجرته مناص للمكروبين من دعاة الحق والدين أن يفروا بأنفسهم إذا أحاطت بهم أسباب المنون بفعل الظالمين والخائنين.
قوله : والله عزيز حكيم } إنه لا يعز على الله أن يزلزل الطغاة والمستبدين والظالمين، وأن يقهرهم ويذيقهم الإذلال ومرارة التعس والشقاء، وهو أيضا قادر على نصر عباده المؤمنين المخبتين الصابرين، وهو يقضى في ذلك كله حسب مشيئته وتقديره وتقديره. وهو سبحانه حكيم في تدبيره وتصريفه لأمور العباد٣.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٤٠٠..
٣ تفسير الطبري جـ ١٠ ص ٩٥، ٩٦ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٥٨ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ١٤٣- ١٤٩ وتفسير النفيس جـ ٢ ص ١٢٦..
إن على المسلمين –بناء على هذه الآية ونظائرها من الآيات في هذا الصدد- أن يلتئموا جميعا ليكونوا يدا واحدة على من سواهم من المعتدين المتربصين الذين يتحرشون بالمسلمين ليطغوا عليهم أو يبيدوهم إبادة. وليس أدل على التحريض البالغ لصد المعتدين من هذا القول الرباني الهاتف المؤثر ﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾ فقد أمر الله المسلمين بالنفر في أحوال والثقل ليجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. وتأويل الخفة والثقال هنا موضع خلاف ؛ فقد قيل : المراد بالخفة هنا الشباب. أما الثقل فيراد به الشيخوخة ؛ أي انفروا شيبا وشبانا، أو شيوخا وشبانا، أو كهولا وشبانا. وقيل : أغنياء وفقراء. وقيل : نشاطا وغير نشاط. وقيل : ركبانا ومشاة. وقيل : مشاغيل وغير مشاغيل.
قوله :﴿ ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾ يعني هذا الذي أمرتكم به من النفر في سبيل الله خفافا وثقالا للقاء العدو مجاهدين بأموالكم وأنفسكم لهم أنفع لكم من الركون للاسترخاء والدعة والنكول عن الجهاد ﴿ عن كنتم تعلمون ﴾ إن كنتم تعون وتدركون أهمية الجهاد في سبيل الله وفداحة الخطر الداهم الذي سيحيق بكم إذا نكلتم وتقاعستم عن الجهاد٢.
٢ تفسير الطبري جـ ١٠ ص ٩٨ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ١٥٠..
كانت جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد استأذنوه في التخلف عنه حين خرج إلى تبوك فأذن لهم. وفي ذلك يقول سبحانه كاشفا عما يختلج في قلوب هؤلاء المعتذرين من خبايا النفاق والأثرة والإخلاد إلى الأرض حيث الدعة والاسترخاء ﴿ لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ﴾ العرض، بالتحريك، هو ما يعرض من منافع الدنيا. والمراد بالعرض القريب : الغنيمة القريبة. والسفر القاصد : معناه الموضع القريب السهل. فالمعنى : لو كان ما تدعو المتخلفين عنك إليه، والمستأذنين منك في ترك الخروج إليه –لو كان غنيمة حاضرة قريبة وموضعا قريبا سهلا لا تبعوك ونفروا معك إليهما ؛ لكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد، وكلفتهم سفرا شاقا عليهم ؛ لأنك قد استنهضتهم في وقت الحر الشديد وفي زمن القيظ١، وعن الحاجة إلى الدعة والاستكنان، وحيث التلذذ بالهجوع والرقود. ولهذا قال :﴿ ولاكن بعدت عليهم الشقة ﴾ أي السفر إلى أرض بعيدة. والمراد بذلك غزوة تبوك.
قوله :﴿ وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم ﴾ سيحلف هؤلاء المستأذنون في ترك الخروج إلى لقاء المشركين اعتذارا منهم إليك بالباطل لتقبل منهم عذرهم فتأذن لهم في التخلف عنك، سيحلفون بالله كاذبين ﴿ لو استطعنا لخرجنا معكم ﴾ أي لو أطقنا الخروج معكم، بان كان لنا ما يحتاجه المسافر الغازي من سعة المال والمراكب وصحة البدن ؛ لخرجنا معكم للقاء العدو. ولقد قالوا ذلك وهم يعلمون أنهم كاذبون. وما تذعروا بما تذعروا بع إلا لضعف إيمانهم وعزائمهم وجنوحهم للإخلاد إلى القعود والتنعم بالراحة والرقود مع الخوالف.
قوله :﴿ يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون ﴾ أي يوقعون أنفسهم في الهلاك والإفضاء إلى سخط الله وعقابه الأليم من اجل نفاقهم، وبما حلفوه من الأيمان الكاذبة. والله جل وعلا عليهم بأنهم كاذبون فيما حلفوا عليه بالله ؛ فقد كانوا مطيقين أن يخرجوا معكم بوجود السبيل إلى ذلك من الأموال وصحة الأبدان وما يحتاجه المسافر في سفره ؛ لكنهم يريدون أن يتخلفوا إيثارا للدعة والراحة والإخلاء للعيش حيث اللذائذ والمنافع. لقد قالوا ما قالوه وهم يعلمون أنهم كاذبون، وما تذرعوا به إلا لضعف إيمانهم وجنوحهم للإخلاد إلى القعود إلى العقود والتنعم بالراحة والرقود مع الخوالف٢.
٢ تفسير الطبري جـ ١٠ ص ٩٩ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ١٥٣، ١٥٤..
وثمة تأويل آخر لقوله :﴿ عفا الله عنك ﴾ وهو أن هذا افتتاح كلام كما تقول : أصلحك الله وأعزك ورحمتك. لقد كان كذا وكذا١.
أما المؤمنون الصادقون المخلصون : فغنهم لا يستأذنون للقعود ولا للخروج ؛ بل إنهم يبتدرون القيام بالواجب والمسارعة في الطاعة دون حاجة إلى استئذان. قوله :﴿ والله عليم بالمتقين ﴾ الله أعلم بمن يخافه فيبادر بطاعته واجتنبا عصيانه، ويسارع بغير تردد إلى الجهاد بماله ونفسه في سبيل الله.
قوله :﴿ فهم في ريبهم يترددون ﴾ أي هؤلاء المستأذنون لعدم الخروج مرتابون حائرون ؛ فهم سادرون في الحيرة والتردد والاضطراب١.
قوله :﴿ ولاكن كره الله انبعاثهم ﴾ أي كره الله أن يخرجوا معكم. ومن اجل ذلك ثبطهم ؛ أي خذلهم دون الخروج تخذيلا فاستخفوا القعود في منازلهم واستثقلوا السفر والخروج مع إخوانهم المجاهدين.
قوله :﴿ وقيل اقعدوا مع القاعدين ﴾ يعني اقعدوا مع المتخلفين من المرضى والضعفاء والعجزة الذين لا يجدون ما ينفقونه للخروج. وكذلك اقعدوا مع الخوالف وهم النساء والصبيان. وقد ثبطهم الله عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لعلمه سبحانه أنهم أهل نفاق وخيانة وأنهم مخادعون لله ولرسوله وللمؤمنين، وأنهم لو خرجوا معهم لأقعدوا فيهم الوقيعة والفساد.
قوله :﴿ ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ﴾ أوضعوا، من الإيضاع وهو الإسراع ؛ أوضع بين القوم بمعنى أفسد بينهم. وأوضع الراكب الدابة إذا حملها على السير السريع١. و ﴿ خلالكم ﴾، أي فيما بينكم. والمعنى : أن هؤلاء المنافقين لو خرجوا فيكم لأسرعوا السير بينكم بالنميمة والفتنة والتثبيط ﴿ يبغونكم الفتنة ﴾ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من واو أوضعوا٢ ؛ أي يطلبون لكم ما تفتنون به عن خروجكم وذلك بتثبيطهم لكم.
قوله :﴿ وفيكم سماعون لهم ﴾ أي فيكم عيون للمنافقين يحدثونهم عن أخباركم، وقيل : فيكم من يسمع كلام هؤلاء المنافقين فيطيع لهم ويستجيب لحديثهم ويغتر بكلامهم وتثبيطهم.
قوله :﴿ والله عليم بالظالمين ﴾ الله عليم بالمقاصد والأسرار المستكنة في الضمائر والصدود ؛ فهو عليم بمن يستأذن لعذر صحيح معقول. ومن يستأذن عن شك وتردد ونفاق. وهو كذلك عليم بالخائنين الذين يسمعون الحديث من المؤمنين ليخبروا به المنافقين. فأولئك جميعا من الظالمين.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٤٠١..
والمعنى : أن المنافقين المتخلفين عن الخروج للجهاد إن كانوا يتذرعون بالاحتراز عن الوقوع في فتنة النساء ؛ فقد وقعوا في عين الفتنة ؛ لقد وقعوا فيما هو أشد من فتنة النساء وأعظم وهو الكفر بالله ورسوله والتمرد على دينه بعصيانه ومخالفة أمره.
قوله :﴿ وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾ النار الحامية المستعرة يوم القيامة مطبقة على الكافرين الجاحدين ؛ فهي تحدق إليهم بهم إحداقا لا منجاة لهم منه ولا مهرب.
قوله :﴿ هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ أي الله هو ناصرنا، وليتوكل عليه المؤمنون. والتوكل معناه تفويض الأمر إلى الله وعقد الرجاء عليه لا على أحد غيره من العظماء وأولى السطوة والسلطان. فما يتوكل المؤمن إلا على ربه فيدعوه ويتضرع إليه ويلح عليه في الدعاء والرجاء في كل الأحوال. سواء في الأمن أو الخوف. في اليسر أو العسر. في الابتهاج أو الاغتمام ؛ فهو سبحانه مزيل الضر والبلوى، كاشف الهم والحزن، جابر الزلات والعثرات ؛ غافر الذنوب والخطايا١.
قوله :﴿ ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ﴾ ونحن من جهتنا ننتظر بكم أن يصيبكم الله من عنده بعقوبة ماحقة تأتي عليكم فتهلككم إهلاكا ﴿ أو بأيدينا ﴾ وذلك بقتلكم وأسركم وإذلالكم.
قوله :﴿ فتربصوا إنا معكم متربصون ﴾ ذلك تهديد ووعيد ؛ أي انتظروا فوزنا بإحدى الخلتين الشريفتين وهما كلتاهما كسب عظيم ومنجاة كبرى نحظى بهما. لكننا نحن ننتظر بكم أن تسقطوا في عذاب الله الموجع، أو بأيدينا نحن المسلمين ؛ لنقتلكم فنكسر شوكتكم ونذلكم.
وكذلك فإن المنافقين لا يصلون إلا متثاقلين فلا يؤدون صلاتهم إلا كسالى. قال ابن عباس في ذلك : عن كان ( المنافق ) في جماعة صلى وإن انفرد لم يصل. وهو الذي لا يرجو على الصلاة ثوابا ولا يخشى في تركها عقابا.
وهذا مقتضى قوله تعالى :﴿ ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ﴾.
قوله :﴿ ولا ينفقون إلا وهم كارهون ﴾ أي لا يبتغي المنافقون من إنفاق أموالهم أيما ثواب من الله. وهم لا يعبأون بالإيمان أو الطاعة لله ؛ فهم بذلك يعدون الإنفاق مغرما ووضعية١، ومن أجل ذلك فإن المنافين أموالهم عن اضطرار لا عن رغبة أو طواعية واختبار٢. وعلى هذا فإن قبول الطاعة بالإنفاق مرهون بصدق النية وبراءة القصد من النفاق أو الرياء. وجمة ذلك أن يبتغي باذل المال مرضاة لله ولأن يكون إنفاقه عن إخبات لله وإخلاص.
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٦٢ والكشاف جـ ٢ ص ٢٩٥، ٢٩٦ وتفسير الرازي جـ ١٦ ص ٨٩..
قوله :﴿ وتزهق أنفسهم وهم كافرون ﴾ أي يموتون على كفرهم وجحدوهم. وذلك إنباء من الله بأنهم يموتون كافرين.
قوله :﴿ ولكنهم قوم يفرقون ﴾ ﴿ يفرقون ﴾، من الفرق، بالتحريك، ومعناه الخوف١ ؛ أي أنهم قوم يخافونكم ؛ فهم يخشون أن يظهروا لكم على حقيقة كفرهم وجحدوهم فتعاقبوهم بالقتل وإقامة الحدود فيهم ؛ فهم بذلك يزعمون بألسنتهم أنهم على يدنكم ليأمنوا على أنفسهم فلا يقتلوا.
إنهم هم الميبون الخاطئون بنفاقهم وخيانتهم وفساد ضمائرهم. وهم فوق ذلك يخدشون الجناب المعصوم. الجناب الذي ترفرف على العالمين نسائم فضله الأكرم، وتشع على الخافقين سواطع نوره المشرق. يعيه المنافقون التافهون الجبناء بأكذوبة مفضوحة تندلق من حناجرهم القذرة وهي تزدرد مثل هذا التقول المكذوب على أقدس كريم أظلته السماء أو أقلته الأرض.
وقوله :﴿ يلمزك في الصدقات ﴾ من اللمز، وهو العيب. وأصله الإشارة بالعين، ونحوها. ورجل لمزة ؛ أي عياب٢.
قوله :﴿ فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ﴾ ﴿ يسخطون ﴾ من السخط، وهو الغضب. تقول : أسخطه فسخط ؛ أي أغضبته فغضب٣، والمعنى : أن هؤلاء المنافقين الذين يعيبونك في قسم أموال الزكاة، ويطعنون عليك فيها لم يكن مرادهم الرغبة في العدل أو في الدين ؛ بل كان مبتغاهم الاستكثار من النصيب ؛ فإن أنت أعطيتهم منها ما يرضيهم رضوا، وإن أنت لم تعطهم منها سخطوا عليك وعابوك٤.
٢ مختار الصحاح ص ٦٠٤..
٣ المصباح المنير جـ ٢ ص ٢٨٨..
٤ تفسير القرطبي جـ ٨ ص ١٦٦ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ١٠٨..
﴿ الصدقات ﴾ جمع صدقة. وهي إذا أطلقت في القرآن دلت على أنها الزكاة المفروضة. على أن الزكاة المفروضة قد جعلها الله لأصناف ثمانية من الناس على الخصوص دون غيرهم، وقد بينهم الآية. ويأتي في طليعة هذه الأصناف من الناس المستحقين للزكاة : الفقراء والمساكين. وثمة خلاف بين العلماء في الفرق بين الفقير والمسكين. وذلك على عدة أقوال نقتضب منها أربعة.
القول الأول : الفقير هو المحتاج المتعفف، أما المسكين فهو الفقير السائل، فالفقير لا يسأل الناس، والمسلكين يسألهم.
القول الثاني : الفقير، هو الذي ليس له شيء. وأما المسكين فهو الذي له شيء، وبذلك فإن المسكين أسوأ حالا من الفقير، ويحتج لذلك بما رسول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعوذ من الفقر. وروي عنه أنه قال :( اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا ). ولو كان المسلكين أسوأ حالا والفقير لتناقض الخبران. والفقير في اللغة أو المفقور هو الكسير الفقار. أو المكسور فقار الظهر. وهو يدل على شدة الحاجة وسوء الحال. هذا قول الشافعية١.
القول الثالث : المسكين هو الذي لا شيء له، والفقير هو الذي له أدنى بلغة، أو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه. وهو قول الكرخي. وحكاه أبو العباس ثعلب، ويحتج لذلك بما روي البخاري عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان ؛ ولكن المسكين الذي ليس له غنى ويستحق أو لا يسأل الناس إلحافا ). وأخرج البخاري كذلك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسلكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس ) وذلك يدل على أن المسكين لهم أسوأ حالا من الفقير٢.
القول الرابع : الفقير هو المحتاج الذي به زمانة، والمسكين هو المحتاج الصحيح. وهو قول قتادة٣.
الصنف الثالث :﴿ العاملين عليها ﴾ وهم السعاة أو الجباة الذين يبعثهم الإمام لجمع الزكاة من المالكين ؛ فهم بذلك وكلاء عن الإمام في هذه الوجيبة، وهؤلاء السعاة يستحقون حظا من الزكاة جزاء عملهم.
أما ما يأخذونه من الزكاة، فقيل : يأخذون الثمن. وذلك بقسمة الله الصدقات على أصناف ثمانية. وهو قول الشافعي. وقيل : يعطون قدر عملهم من الأجرة. وهو قول الحنفية والمالكية. وقال به ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز. وقيل : يعطون من بيت المال، ومن غير مال الزكاة، وهو ضعيف ؛ لأن سهمهم في الزكاة مذكورا نصا في الآية ﴿ والعاملين عليها ﴾.
الصنف الرابع :﴿ المؤلفة قلوبهم ﴾ وهم قوم يتألفهم المسلمون على الإسلام فيعطون نصيبا من الزكاة. وهم ثلاثة أنواع :
النوع الأول : كفار يعطون لدفع معرتهم وكف أذيتهم عن المسلمين والاستعانة بهم على غيرهم من المشركين، والمعرة هي الإثم وهو يعر قومه ؛ أي يدخل عليهم مكروها، وعرة بضم العين، وعارورة ؛ أي قذر٤.
النوع الثاني : كفار يعطون لاستمالة قلوبهم وقلوب غيرهم من الكفار من اجل الدخول في الإسلام، ولئلا يمنعوا من أسلم من قومهم من الثبات على الإسلام، وعلى هذا فالمؤلفة قلوبهم من الكفار صنفان : من يرجي إسلامه، ومن يخشى شره. فهؤلاء كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من اجل استمالتهم او دفع شرهم٥.
النوع الثالث : مسلمون حديثو عهد بالكفر، يتألفهم الإمام من سهم الزكاة أو المصالح، على الخلاف في ذلك. وذلك لترسيخ العقيدة الإسلامية في قلوبهم ودفع الفتنة عنهم، المحتملة من الشرك والمشركين.
وما ينبغي لمرتاب أو جاهل أن يعجب أو يتساءل عن وجه الإعطاء لها النصيب من الزكاة من أجل أن تتألف قلوب الكافرين والحاقدين والمترددين ؛ فإنه المسألة معقولة وجلية لمن تدبر أو تفكر. وأساس الأمر في هذه المسألة أن الإسلام يراعي أصناف البشر من حيث اختلاف طبائعهم وأهوائهم وفطرهم فما خلق الله الناس على نسق واحد متحد من الطبع والفطرة. وإنما الناس في ذلك مختلفون متفاوتون. فمن الناس من تستميله الكلمة الرقيقة الرحيمة والأسلوب الكريم الحاني ليسلس لمحدثه القياد والطاعة فيسير معه في لين وود، ومنهم من يؤثر فيه البرهان الساطع والحجة الدامغة حتى إذا دخله اليقين وغشيته القناعة ؛ جنح للصواب، واستجاب لنداء الحق المبين، وسار مع السائرين في ظل الله وفي ضوء منهجه الحكيم الشافي. ومن الناس من لا تستميله حجة ولا برهان، ولا يؤثر فيه علم ولا بيان، ولا يعطف عقله أو قلبه أساليب العاطفة الغامرة أو التحنان الندي ؛ بل تؤثر فيه أسباب القوة والسنان، وتردعه عن ظلمه وترديه في الفاحشة والضلال ؛ شدة البأس وقوة الشكيمة والترهيب. ومن الناس من لا يعطفه أو يؤثر فيه شيء مما ذكر ؛ فلا يجدي معه النقاش والبرهان، ولا يستميله الخلق وقوة البيان. ولا يستميله أو يستعطفه الترهيب واشتداد الشكيمة. وإنما يستميله المال وحده. فإذا هو أوتي نصيبا من المال رق ولان، وجنح لحب من يحسن إليه بالعطية. ومن أجل ذلك شرع الإسلام نصيب المؤلفة قلوبهم من الزكاة مراعاة لطبائع البشر التي لا يحبط بحقيقتها ولا يعلمها كامل العلم إلا بارئها ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ﴾.
انقطاع سهم المؤلفة قلوبهم.
هل انقطع سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ثمة قولان للعلماء في ذلك :
القول الأول : وهو سقوط سهم المؤلفة قلوبهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وهو قول الحنيفة والشافعية في أحد القولين لهم. وقال به عمر والحسن والشعبي وآخرون ؛ فقد ذهب هؤلاء إلى انقطاع هذا الصنف من مستحقي الزكاة بعز الإسلام وظهوره. وعللوا انتهاء هذا الحكم بانتهاء علته ؛ وذلك كانتهاء جواز الصوم بانتهاء وقته وهو النهار. وأجيب عن ذلك : بأن الحكم في البقاء لا يحتاج إلى علته كما في الرمل والاضطباع٦ في الطواف، فإن انتهاءها لا يستلزم انتهاءه.
القول الثاني : إثبات سهم المؤلفة قلوبهم وعدم انقطاعه، وهو قول الحنبلية والشافعية في المعتمد من مذهبهم، واحتجوا بظاهر الآية ؛ فقد سمى الله المؤلفة قلوبهم في الأصناف الثمانية الذين سمى لهم الصدقة. وكذلك السنة ؛ فقد أخرج البيهقي بإسناده عن زياد بن الحارث الصدائي ( رضي الله عنه ) صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإسلام، ثم أتاه آخر فقال : أعطني من الصدقة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله عز وجل لم يرض فيها بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى يحكم هو فيها ؛ فجزأها ثمانية أجواء، فغن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك –أو أعطيناك- حقك ) وقد ثبن عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار مشهورة أنه أعطى المؤلفة قلوبهم ولم يزل كذلك حتى مات. ولا يجوز نرك كتاب الله وسنة رسوله إلا بنسخ ؛ ولا نسخ.
قال الزهري في هذا المعنى : لا أعلم شيئا نسخ حكم المؤلفة. وقال ابن العربي أيضا : الذي عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا، وإن احتيج إليهم أعطوا سهمهم كما كان يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم٧.
والراجح عندي أن إعطاءهم منوط بالإمام ؛ فإن وجد في إعطائهم مصلحة للإسلام أعاطهم، وإلا توقف إعطاؤهم ؛ فإنما يعول في ذلك على مصلحة الإسلام من حيث ترغيب الناس فيه واستمالتهم إليه ودرء شرهم وكيديهم عنه.
الصنف الخامس :﴿ وفي الرقاب ﴾ والمراد بهؤلاء موضع خلاف نوجزه في قولين :
الصنف الأول : المراد بهم المكاتبون ؛ وهو أن يصرف إليهم هذا السهم من الزكاة ؛ فلا يجزي العتق من الزكاة ؛ وهو قول أكثر العلماء ؛ وهو أن إعطاء المكاتبين من الزكاة هو المراد من الآية، أما عنق الرقبة ؛ فإنه لا يسمى صدقة ؛ لأن إيتاء الزكاة تمليك الأخذ، وليس العتق تمليكا لمال. ويستدل على ذلك أيضا من السنة بما أخرجه البيهقي عن يزيد بن أبي حبيب أن أبا مؤمل أول مكاتب في الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( أعينوا أبا مؤمل ) فأعين ما أعطى كتابه،
وفضلت فضلة فاستفتى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يجعلها في سبيل الله.
القول الثاني :﴿ وفي الرقاب ﴾ معناه فك الرقاب ؛ وبذلك يجوز للإمام أن يشتري رقابا من مال الصدقة ويعتقها عن المسلمين ويكون ولاؤهم لجماعة المسلمين، وإن اشتراهم صاحب الزكاة وأعتقهم جاز، وهو قول المالكية، وقد روي عن ابن عباس والحسن، وهي رواية عن أحمد، وقال به إسحاق وأبو عبيد وأبوة ثور. واحتجوا بقوله :﴿ وفي الرقاب ﴾ فإن كان للرقاب سهم من الصدقات كان له أن يشتري الفرس فيحمل عليه في سبيل الله. فإذا كان له أن يشتري فرسا من الزكاة ؛ فإنه يجوز له أن يشتري رقبة، ولا فرق بين ذلك٨.
الصنف السادس :﴿ والغارمين ﴾ وهو جمع ومفرده الغارم. وهو المدين، وقد يكون الغريم الدائن. والغرامة ما لزم أداؤه. وكذا المغرم والغرم، وعلى العموم فإن الغارمين هم الذين أثقلهم الدين وليس عندهم ما يوفون به دينهم، فإن هؤلاء يعطون من الزكاة بغير خلاف إلا إذا كان استدان في سفاهة ؛ فإنه لا يعطي من الزكاة إلا أن يتوب إلى ربه٩. وثمة مسائل في هذا الصدد :
المسألة الأولى : إذا كان لرجل على معسر دين فأراد أن يجعله عن زكاته فقال له : جعلته عن زكاتي ؛ ففي جواز ذلك قولان :
القول الأول : عمد الجواز، وهو قول الحنبلية والشافعية، وكذا المالكية في أحد القولين لهم. ووجه ذلك : أن الزكاة في ذمة المزكي ولا يبرأ إلا بإقباضها. واحتسابها بدلا عن الدين لا يكون إقباضا ؛ فلا يحتسب الدين من الزكاة قبل قبضه. ومعلوم أن الزكاة إيتاء، أما هذا فهو إسقاط، وهما مختلفان.
القول الثاني : الجواز، وعلى هذا لو تصدق على مدينه الفقير جاز ؛ لأن المدين قبض عينا، والعين تجوز عن العين والدين جميعا، وهو قول الحنفية وكذا الشافعية والمالكية في قول لهم، وقد ذهب إليه الحسن البصري وعطاء١٠.
المسألة الثانية : لو مات وعليه دين وليس له تركة، هل يقضي دينه من سهم الغارمين ؟ ثمة قولان في هذا :
أحدهما : الجواز، وهو قول المالكية، والشافعية في أحد قوليهم. وعلى هذا لو مات فإنه يوفى دينه من الزكاة إن استدان في غير فساد كشرب خمر أو قمار ونحو ذلك.
ثانيهما : عدم الجواز، وهو قول الحنفية، والشافعية في قولهم الثاني، وهو مذهب أحمد. ووجه هذا القول : أن قضاء دين الغير لا يقتضي التمليك منه. ودليل ذلك أن ما أخرجه الدراقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أنا أولى بكل مؤمن من نفشه ؛ من ترك كالا فلورثته، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي ؛ أنا أقضي دينه، وأفك عانيه ) ١١.
المسألة الثالثة : وهي نقل الزكاة من بلد على بلد آخر. فثمة خلاف بين العلماء في ذلك ؛ فقد ذهبت الحنفية إلى أن الزكاة تقسم في كل بلد في فقرائه ولا يخرجها إلى غيره من البلدان. وإن أخرجها وأعطاها الفقراء جاز مع الكراهة. وروي عن أبي ح
٢ أحكام القرآن للجصاص جـ ٤ ص ٣٢٣ وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٢ ص ٩٤٩ والقاموس المحيط جـ ٢ ص ١١٥..
٣ أحكام القرآن للجصاص جـ ٤ ص ٣٢٢، ٣٢٣ وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٢ ص ٩٤٩..
٤ مختار الصحاح ص ٤٢٢، ٤٢٣..
٥ أحكام القرآن للجصاص جـ ٤ ص ٣٢٤ والمجموع جـ ٦ ص ١٩٨ وشرح فتح القدير جـ ٢ ص ٢٥٩..
٦ الاضطباع: ما يؤمر به الطائف بالبيت أن يدخل الرداء تحت إبطه الأيمن، ويرد طرفه على يساره، وبيدي منكبه الأيمن، ويغطي الأيسر. سمي بذلك الإبداء أحد الضبعين. انظر مختار الصحاح ص ٣٧٦..
٧ شرح فتح القدير ومعه شرح العناية جـ ٢ ص ٢٦٠ والمغنى جـ ٢ ص ٦٦٦ وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٢ ص ٩٥٤ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ١٨١..
٨ تفسير القرطبي جـ ٨ ص ١٨٢ وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٢ ص ٩٥٥..
٩ تفسير القرطبي جـ ٨ ص ١٨٤ وأحكام القرآن للجصاص جـ ٤ ص ٣٢٧..
١٠ البيان شرح الهداية جـ ٣ ص ٢٠٨ وبلغة السالك على شرح الدردير جـ ١ ص ٢٣٦ والمجموع جـ ٦ ص ٢١٠..
١١ البناية جـ ٣ ص ٢٠٨ والمجموع جـ ٦ ص ٢٢١ وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٢ ص ٩٥٦ وبلغة السالك على شرح الدردير جـ ١ ص ٢٣٣..
وهذا صنف آخر من المنافقين الذين كانوا يبسطون ألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء والأذية والتشويه ؛ إذ يأفكون بالباطل والزور إفكا ظالما كاذبا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ أذن ﴾ أي مستمع قابل، أو يقبل كل ما قيل له، أو هو أذن سامعه يسمع من كل أحد ما يقول فيقبله ويصدقه. لا جرم أن ما يفتريه المنافقون من إيذاء خبيث لهو الباطل. فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يوهمون ويخصون، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير مستمع في العالمين لخير الكلام وليس دونه من شر الكلام وسوءه. وهو قوله سبحانه ﴿ قل إذن خير لكم ﴾ ﴿ أذن خير ﴾، خبر لمبتدأ مقدر، وتقديره : هو أذن خير ؛ أي هو مستمع شر وفساد٢ ؛ أي هو أذن خير لا أذن شر ؛ إذ يسمع الخير ولا يسمع الشر، ويعرف الصادق من الكاذب.
قوله :﴿ يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ﴾ أي يصدق بالله وحده لا شريك له، إلها خالقا معبودا، ويصدق المؤمنين لا الكافرين ولا المنافقين. وهذا رد لمقالة المنافقين والكافرين بأن محمدا صلى الله عليه وسلم مستمع خبر، مصدق بالله وما أوحي إليه من عنده سبحانه، ومصدق المؤمنين وليس المنافقين والكافرين.
قوله :﴿ ورحمة للذين آمنوا منكم ﴾ أي جعل الله رسوله رحمة لمن اتبعه من الناس واهتدى بهديه ؛ بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة للعالمين كافة، يهيديهم إلى سوء السبيل ويقودهم إلى النجاة والسلامة في الدارين، دار الفناء ودار البقاء.
قوله :﴿ والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ﴾ هذا وعيد من الله للمنافقين الخبثاء الذين يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ يصفونه بأنه ﴿ أذن ﴾ أن لهم جهنم حيث العذاب الأليم٣.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٤٠١..
٣ تفسير الطبري جـ ١٠ ص ١١٦ـ ١١٧ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٦٦..
وقيل : خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك وكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين، فنقل حذيفة ما قالوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم، فحلفوا ما قالوا شيئا من ذلك ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية إكذابا لهم١.
والمعنى : أن هؤلاء المنافقين يحلفون لكم أيها المؤمنون بالله لترضوا عنهم ولتصدقوهم فيما أنكروه وكذبوه مما نسب إليهم من إيذاء وطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد حلفوا الأيمان الفاجرة أنهم ما قالوا شيئا مما نسب إليهم، وأنهم على دينكم وهم معكم على من خالفكم. وهم في الحقيقة إنما يبتغون بذلك إرضاءكم أنتم غير عابئين بكونهم كاذبين فاسقين.
قوله :﴿ والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين ﴾ لفظ الجلالة مبتدأ. وخبره ﴿ أحق ﴾. والتقدير : والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه٢ ؛ أي أن الله أحق أن يبتغوا رضوانه بالتوبة إليه والإنابة مما اقترفوه من الكذب والباطل على رسول الله إن كانوا صادقين مصدقين بالله ورسوله وما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحق.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٤٠١..
والمعنى : ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يحلفون بالله كذبا لإرضاء المؤمنين أنه من يحارب الله ورسوله فيكون على سبيل مخالف لسبيلهما، ودين غير دينهما، سيؤول إلى نار جهنم خالدا فيها. ﴿ ذالك الخزي العظيم ﴾ ذلك هو الهوان البالغ في الفظاعة والتنكيل. الهوان الذي يهون دونه كل هوان. وفي ذلك من الوعيد للمنافقين، والتنديد بهم ما يزجرهم أعظم زجرا لو كانوا يعقلون٢.
٢ تفسير الرازي جـ ١٦ ص ١٢٢ وتفسير الطبري جـ ١٠ ص ١٨٨..
ذكر أن بعض المنافقين قالوا : والله وددت لو أني قدمت فجلدت مائة ولا ينزل فينا شيء يفضحنا. فنزلت الآية.
والمعنى : أن المنافقين يتحرزون من نول سورة على المؤمنين تخبرهم بمخازي المنافقين ومفاسدهم وما يستسرونه فيما بينهم منس سوء الكلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين. ومن أجل ذلك سميت هذه السورة الفاضحة ؛ لأنها تفضح المنافقين ؛ إذ تكشف ما يبطونه في قلوبهم، وسميت الحافرة ؛ إذ حفرت عما في قلوب المنافقين. وغير ذلك من الأسماء التي بيناها في أول السورة.
ذلك هو شأن المنافقين مع أنفسهم ؛ فهم يعلمون أنهم على الباطل وأن المسلمين على الحق. وهم موقنون تمام اليقين أن ملة الإسلام لهي الصواب وعين الحق ؛ لكنهم منتكسون خاسئون أمام سطوة الغريزة الجامحة، فركنوا للضلالة والهوى، وأبوا إلا العتو والاستكبار ؛ خنوعا للشهوات ؛ لكي تتحصل لهم المنافع المالية والاجتماعية والشخصية وغير ذلك من وجوه المنافع المسفة.
قوله :﴿ قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون ﴾ وهذا أمر وعيد وتهديد ؛ أي استهزئوا فالله سيفضحكم بإظهاره عليكم ما كنتم تحذرون أن تظهروه١.
والمنافقون واهمون سفهاء إن كانوا يظنون أن مقاصدهم وأسرارهم ستظل حبيسة مستكنة في صدورهم طيلة الزمان كيلا تظهر للناس. والحقيقة خلاف ذلك، وهي أن المنافقين مهما برعوا في التحيل والخداع والاستتار وإخفاء المثالب ؛ فإنهم لا محالة مفضوحون ؛ لتظهر للناس أستارهم ونوايا السوء فيهم.
وعن قتادة قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوته إلى تبوك وبين يديه ناس من المنافقين قالوا : أيرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات. فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم :( احبسوا علي هؤلاء الركب ) فأتاهم. فقال :( قلتم كذا. قلتم كذا ) قالوا : يا نبي الله إنما كنا نخوض وتلعب. فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم ما تسمعون٢.
والخوض، أصله الدخول في مائع كالماء والطين. ثم كثر استعماله حتى أطلق على كل دخول فيه تلويث وأذى ؛ أي كنا نخوض في الباطل.
قوله :﴿ قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ﴾ استفهام يستنكر فعل المنافقين ؛ إذ كانوا يتهكمون ويستهزئون بالله وكتابه ورسوله.
وعلى هذا فإنه لا يسخر من آيات الله أو بعض آياته أو من نبيه صلى الله عليه وسلم إلا كان كفور أثيم ؛ فإن ذلك خوض في دين الله بالباطل، يستوي في ذلك ما لو كان الخوض على سبيل الجد أو الهزل ؛ فإن ذلكم كله كفر بغير خلاف.
٢ تفسير الطبري جـ ١٠ ص ١١٩..
وقوله :﴿ قد كفرتم بهد إيمانكم ﴾ أي إيمانكم الذي أظهرتموه للمسلمين ؛ فقد ظهر لكم كفركم بعد أن كنتم في ظنهم مسلمين.
ويستفاد من ذلك أن الاستهزاء بالدين كفر بالله ؛ لأن الاستهزاء ضرب من الاستخفاف وهو خلاف ما يستوجبه الله على العباد من تعظيمه. والجمع بين الاستخفاف والتعظيم محال. ويستفاد أيضا أن الكفر يقع بالأفعال والأقوال من غير اشتراط لنوايا القلوب، وهذا يدل على بطلان قول من يقول إن الكفر لا يدخل إلا في أفعال القلوب١.
قوله :﴿ إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين ﴾ يتبين من هذه الآية أن ثمة طائفتين، إحداهما، المعفو عنها، والثانية المعذبة. وقد ذكر المسفرون أن الطائفتين كانوا ثلاثة. استهزأ اثنان وضحك واحد، فالطائفة الأولى الضاحك، والطائفة الثانية الهازئان. ولما كان ذنب الضاحك أخف ؛ فقد عفا الله عنه، وذنب الهازئين أعظم فما عفا الله عنهما.
قوله :﴿ بأنهم كانوا مجرمين ﴾ أي نعذب الطائفة المستهزئة بما اكتسبوه من الجرم وهو الكفر بالله وطعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم٢.
٢ تفسير الطبري جـ ١٠ ص ١٢٠ وتفسير الرازي جـ ١٦ ص ١٢٨..
ثم بين الله تفصيل حال المنافقين والمنافقات بما يكشف عن فضائحهم وقبائحهم وأفعالهم المنكرة. ومن جملة ذلك : أنهم يأمرون الناس بالمنكر، ويدخل فيه كل معصية أو قبيح. وفي طليعة ذلك الكفر بالله ورسوله وكتابه. وهم أيضا ينهون عن فعل المعروف، ويدخل فيه كل حسن. وأعظم ما في ذلك الإيمان بالله ورسوله وكتابه.
وهم أيضا يقبضون أيديهم ؛ أي يمسكونها عن فعل الخيرات كإيتاء الزكوات والصدقات، وأداء النفقات، وبذل الخير للمحاويج والمكروبين.
قوله :﴿ نسوا الله فنساهم ﴾ النسيان هنا بمعنى الترك ؛ أي تركوا ما أمرهم به الله فتركهم الله يسدرون في الشك والحيرة وقد حرمهم من توفيقه ورحمته.
قوله :﴿ إن المنافقين هم الفاسقون ﴾ ذلك تأكيد من الله على المنافقين خارجون عن الإيمان بالله وبرسوله وبكتابه ؛ بل إن المنافقين لأشد عتوا من الكافرين. ومن اجل ذلك كانوا في الدرك الأسفل من النار.
قوله :﴿ هي حسبهم ﴾ نار جهنم تكفيهم عقابا وجزاء على كفرهم بالله وخروجهم عن الإيمان بالله وطاعته.
قوله :﴿ ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم ﴾ أي أبعدهم الله من رحمته وأعد لعم العذاب الدائم الذي لا يحول ولا يزول١.
قوله :﴿ فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم ﴾ الخلاق، معناه النصيب٢. يبين الله لهؤلاء المنافقين أن الذين من قبلهم من الأمم السابقة تمتعوا بنصيبهم وحظهم من ملاذ الدنيا. وكذلك أنتم تمتعتم بنصيبكم كما تمتع الذين من قبلكم بنصيبهم. فأنتم في هذا الاستمتاع مشابهون للذين من قبلكم. والمراد من هذا التمثيل : التنديد بهؤلاء المنافقين من أجل مشابهتهم الذين من قبلهم من الكفار في الاستمتاع بما رزقهم الله ؛ أي أن المنافقين سلكوا سبيل الكافرين من الأمم السابقة في الاستمتاع بلذائذ الحياة الدنيا والإدبار عن أوامر الله ونسيان الآخرة.
قوله :﴿ وخضتم كالذي خاضوا ﴾ أي خضتم أيها المنافقون في الباطل والكذب على الله كخوض الكافرين من الذين سبقوكم. قال ابن عباس في هذه الآية : ما أشبه الليلة بالبارحة ﴿ كالذين من قبلكم ﴾ هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم. وعن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( والذي نفسي بيده لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشير وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ أهل الكتاب ؟ قال ؟ ( فمن ؟ ).
قوله :﴿ أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ﴾ هؤلاء المنافقون قد حبطت أعمالهم التي كانت على صورة الطاعة ؛ فقد ذهبت باطلا، إذ لا جزاء لهم عليها إلا النار. أما بطلانها في الدنيا : فلأنها تفضي إلى النقيض مما كانوا يرجونه بعد أن أتت عليها أحوال شتى من الموت والفقر والتحول من القوة إلى الضعف ونحو ذلك. وأما بطلانها في الآخرة : فليصرورتها إلى الزوال والفناء ؛ فهي بذلك تمر بغير قيمة أو اعتبار. ﴿ وأولئك هم الخاسرون ﴾ السادرون في الهلاك والخسران٣.
٢ المصباح المنير جـ ١ ص ١٩٢..
٣ فتح القدير جـ ٢ ص ٣٧٩، ٣٨٠ وتفسير الرازي جـ ١٦ ص ١٣٢ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٦٨..
على أن المشبه بهم من السابقين هنا في الآية ست أمم وهم : قوم نوح وقد أهلكهم الله بالطوفان والتغريق، ثم قوم عاد وقد أهلكهم الله بالريح العقيم، الريح الصرصر العاتية، ثم قوم ثمود وقد أخذتهم الصيحة، ثم قوم إبراهيم وقد بعض الله عليهم البعوض فنخرهم نخرا حتى فنوا، ثم أصحاب مدين وهم قوم شعيب، وقد أهلكهم الله بعذاب يوم الظلة، ثم أصحاب المؤتفكات وهي قرى قوم لوط، وقد سميت بالمؤتفكات، من الائتفاك وهو الانقلاب ؛ فقد انقلب بهم الأرض حتى صار عاليها سافلها.
هذه الأمم جميعا ﴿ أتتهم رسلهم بالبينات ﴾ أي جاءهم المرسلون بالنور والهدى ليؤمنوا بالله ويستقيموا على دينه وشرعه فأبوا وعصوا ؛ فجزاهم الله بما فعلوه شر الجزاء ؛ إذ بعث عليهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا، وسيأتيهم يوم القيامة من سوء العذاب ما هو أشد وأخزى.
قوله :﴿ فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾ أي لم يكن الله ليظلم أحدا في العالمين ولا ليظلم هذه الأمم بما حل بهم من البلاء وسوء العقاب ؛ ولكنهم هم استحقوا من الله أن يحيق بهم العذاب بسبب إجرامهم وما تلبسوا به من الجحود والمعاصي١.
وفي الصحيح كذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله :( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى لع سائر الجسد بالحمى والسمر ).
قوله :﴿ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله ﴾ وهذه صفة ظاهرة ومميزة للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فهم يدعون الناس إلى الخير، ويأمرونهم بكل وجوه المعروف، ويأتي في طليعة ذلك حضهم ودعوتهم للإيمان بالله وحده دون غيره من الشركاء والأنداد، وما يقتضيه ذلك من جوه العبادات وأعمال الإحسان والبر.
وهم كذلك ينهون الناس جميعا عن المنكر بكل صوره وأشكاله، ويأتي في طليعة ذلك : الإشراك بالله، والخضوع والاستسلام الامتثال لأوامره الشبر التي تخالف منهج الله، ثم ينهون بعد ذلك عن كل وجوه المحظور والمنكر على اختلاف أنواعه وضروبه من المعاصي والآثام.
من الصفات الظاهرة المميزة لهذه الأمة : أداؤهم الصلوات المفروضة أداء صحيحا تاما من غير تثاقل أو إغفال او تفريط ؛ وذلك لما في الصلاة من بالغ الحكمة والمعنى وعظيم الرباط والصلة برب العباد ؛ وهي صلة روحية وثيقة تديم الخطاب المخلص المباشر والمناجاة العقلية والقلبية والوجدانية العليا بين العبد المخلوق، والإله الخالق.
ومن صفاتهم الظاهرة المميزة : أنهم يبذلون زكاة أموالهم طيبة بها نفوسهم إلى إخوانهم المؤمنين من المحاويج والعالة. وهم كذلك إنما يطيعون الله وحده فيما أمر ويزدجرون عما زجر، ولا يذعنون للمعاصي والسيئات من أوامر البشر. يضاف إلى طاعتهم لله طاعتهم لرسوله المبلغ الهادي إلى سواء السبيل.
قوله :﴿ أولئك سيرحمهم الله ﴾ هؤلاء المتصفون بهذه الصفات العظيمة المميزة ستنالهم من الله رحمة غامرة رضية، فيمضون في الحياة آمنين كرماء في ظل منهج الله الحكيم الذي شرعه لعباده. ويوم القيامة يصيرون إلى السعادة الدائمة التي لا يأتي عليها فناء ولا نهاية.
قوله :﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾ الله قوي غالب على كل شيء، لا يعز علي في الخلق ما يريد. وهو سبحانه حكيم في تدبيره وما يفعل ؛ فإنه يضع الأشياء في مواضعها دون خلل في ذلك ولا نقصان١.
وقوله :﴿ ورضوان من الله أكبر ﴾ وهو غاية ما يزين الجنة من كمال البهجة والفضل والحبور ؛ بل إنه أقصى ما يخطر للأذهان والقلوب من كمال السعادة والاستشراق والرضى. إن رضوان الله على المؤمنين في الجنة يفوق كل ما حوته الجنات من صنوف اللذات والدرجات وألوان النعيم. وهذا ما ينبه إليه الوصف بقوله :﴿ أكبر ﴾.
قوله :﴿ ذالك هو الفرز العظيم ﴾ الإشارة عائدة إلى ما تقدم مما وعد الله به عباده المؤمنين من جنات الخلود حيث الإقامة الدائمة والقرار المكين السعيد. ثم رضوان الله الذي يفوق كل ما دونه من ألوان النعيم. لا جرم أن هذا لهو الفوز العظيم. الفوز الذي يهون دونه كل فوز مما يتخيله الناس أو يحسونه.
أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجاهد الكفار والمنافقين. أما الكفار : فيجاهدهم بالسلاح والقتال. وأما المنافقون الذين يظهرون الإسلام ويخفون في نفوسهم الكفر : فإنه يجاهدهم باللسان وحجة البيان وأن لا يرفق بهم، وهو قول ابن عباس.
قوله :﴿ وأغلظ عليهم ﴾ أي اشدد عليهم بالقتال والإثخان والإرعاب. قوله :﴿ ومأواهم جهنم وبئس المصير ﴾ أي بئس المكان الذي يصير إليه هؤلاء المجرمون من الكافرين والمنافقين ؛ فإنهم صائرون إلى نار جهنم ؛ فهي مقامهم الدائم ولبثهم الذي لا يزول.
وقيل : نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت أقبل هو وابن امرأته مصعب من قباء. فقال الجلاس : إن كان ما جاء به محمد حقا فنحن أشر من الحمير التي نحن عليها. فقال له ابن امرأته : والله يا عدو الله لأخبرن رسول الله بما قلت ؛ فإني أن لا أفعل أخاف أن يصيبني قارعة وأؤاخذ بخطيئتك فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الجلاس فقال :( يا حلاس أقلت كذا وكذا ؟ ) فحلف ما قال. فأنزل الله الآية١.
قوله :﴿ وهموا بما لم ينالوا ﴾ أي هموا أن يدفعوا ليلة العقبة وكانوا قوما قد أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم معه يلتمسون غرته حتى اخذ في عقبة، فتقدم بعضهم وتأخر بعضهم وذلك كان ليلا، قالوا : إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي، وكان قائده في تلك الليلة عمار بن ياسر وسائقه حذيفة، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل. فالتقت فإذا هو بقوم ملثمين. فقال : إليكم يا أعداء الله، فأمسكوا. ومضى النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل منزله الذي أرده. فأنزل الله قوله ﴿ وهموا بما م ينالوا ﴾ يعني المنافقين هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك، وكانوا اثني عشر رجلا. قال حذيفة : سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عدهم كلهم٢.
قوله :﴿ وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ﴾ نقموا، بمعنى أنكروا وعابوا٣. والمراد بذلك المنافقون الذين يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم ودينه ويفترون عليها الكذب والباطل، وكانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش، فلما قدم عليهم صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم وصاروا في سعة وبحبوحة. فيكون المعنى : أنهم ما أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا إلا أن أغناهم ورسوله من فضله. فما للرسول صلى الله عليه وسلم عندهم من ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته ويمن مقامه فيهم. وذلك كما قال عليه الصلاة والسلام للأنصاري :( ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي ؟ ) والمثل المناسب في هذا الصدد قول القائل :( اتق شر من أحسنت إليه ).
قوله :﴿ فإن يتوبوا يك خيرا لهم ﴾ أي هؤلاء المنافقون الذين قالوا كلمة الكفر ؛ فإنهم إن تابوا من قيلهم الذي قالوه فرجعوا عنه إلى الإيمان والتصديق والطاعة، تكن توبتهم وإدبارهم عن الباطل والنفاق خيرا لهم من حالهم في النفاق والغش وخيانة الإسلام والمسلمين. أما إن تمردوا وأدبروا عن التوبة وأبوا الجحود والاستكبار والنفاق ﴿ يعذبهم الله عذابا أليما ﴾ أي يأخذهم الله في هذه الدنيا بالقتل والإذلال، ويأخذهم في الآخرة بالعذاب الموجع البئيس وهو عذاب النار التي أعدها الله للأشقياء من الناس وأشرارهم. ولئن أخذهم الله بعذابه الأليم فلن ينصرهم من الله أيما نصير، وليس من مجير يجيرهم أو ينقذهم مما يحل بهم من الخزي والتنكيل. وهو قوله سبحانه :﴿ وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ﴾ ٤.
٢ أسباب النزول للنيسابوري ص ١٧٠ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٧٢..
٣ المعجم الوسيط جـ ٢ ص٩٤٩..
٤ تفسير الطبري جـ ١٠ ص ١٢٨- ١٣٠ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٢٠٤- ٢٠٨..
وقوله :﴿ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ﴾ أي ومن هؤلاء المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه لئن رزقه الله من رزقه الله بعمل أهل الصلاح من الإحسان وصلة الأرحام والبر والإنفاق في سبيل الله.
ويستذل من ذلك أن الكذب في الحديث له أمارة من أمارات النفاق المتلبس بالقلب، فما يكذب المرء ويكثر كذبه أو يزداد من غير وازع ولا ندامة إلا من ران على قلبه النفاق ليكون في زمرة المنافقين الخاسرين أعاذنا الله منهم. وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ).
قال الرازي في هذا الصدد : ظاهرة الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق، فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه. فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به. ومذهب الحسن البصري : أنه يوجب النفاق لا محالة١.
ذلك إخبار عن فضائح المنافقين وعن صفة من صفاتهم الذميمة وهي للمز. والمنافقون صنف لئيم خسيس عياب من الناس لا ينجو أحد من عيبهم ولمزهم في كل الأحوال. فإن أحسن الناس وكثر إحسانهم عابهم المنافقون وطعنوا في حقيقية مقاصدهم واتهموهم بالرياء. وإن أحسنوا قليلا شنعوا عليهم وتقالوا إحسانهم، وسخروا مما بذلوه على أنه حقير ويسير ليست له قيمة. هؤلاء هم المنافقون الأنذال أولو الضمائر الخاوية، والألسن التي لا تبرع إلا في الحسد واللمز والثرثرة وعتك الأستار في أسلوب خسيس وخبيث ومبتذل.
وفي هذا الصدد روي البخاري بإسناده عن ابن مسعود ( رضي الله عنه ) قال : لنا نزلت آية الصدقة كما نحامل على ظهورنا، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير، فقالوا : مرائي، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا، فنزلت ﴿ الذين يلمزون المطوعين ﴾ الآية٢ و ﴿ المطوعين ﴾ أي المتطوعين. من التطوع، وهو التبرع والبذل تقربا لله وابتغاء مرضاته. قوله :﴿ والذين لا يجدون إلا جهدهم ﴾ أي أن المنافقين يلمزون المتطوعين من المؤمنين الذين يقدمون ما في وسعهم مما يجدونه فاضلا عن حاجتهم وليس عندهم غيره وهو جهد المؤمن المقل. والجهد، بالضم معناه القدرة والطاقة ﴿ فيسخرون منهم ﴾ معطوف على يلمزون. والمعنى : أن هؤلاء المنافقين يستهزئون بالمتطوعين المؤمنين الذين يتصدقون بالقليل ؛ لأنه غاية ما يقدرون عليه ويتمكنون منه ؛ إنهم يستهزئون بهم وبما يقدمونه من الصدقات لقتلها وبساطتها. قوله :﴿ سخر الله منهم ولهم عذاب أليم ﴾ أي جازاهم الله بما يستحقونه من المجازاة والعقاب في مقابلة استسخارهم بالمؤمنين ؛ فقد أخزاهم الله بفضح نواياهم وما تكنه صدورهم من خبيث المقاصد، فضلا عما أعده لهم من أليم العذاب في جهنم٣.
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٧٥ وأسباب النزول للنيسابوري ص ١٧٢..
٣ الكشاف جـ ٢ ص ٢٤٠ وفتح القدير جـ ٢ ص ٢٨٥..
وذهب بعض أهل العلم إلى التقييد بهذا العدد وهو السبعون يدل على قبول الاستغفار في الزيادة على هذا العدد وهو مفهوم المخالفة. فما زاد على السبعين من الاستغفار لم يشمله التيئيس من الاستغفار، وحتجوا بما روي أنه لما ثقل عبد الله بن أبي انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبي قد احتضر١ فأجب أن تشهده وتصل عليه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :( ما اسمك ) قال : الحباب بن عبد الله. قال :( بل أنت عبد الله بن عبد الله ؛ إن الحباب اسم شيطان ) فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عرق٢ وصلى عليه. فقيل له : أتصلي عليه ؟ قال ( إن الله قال :﴿ إن تستغفر لهم سبعين مرة ﴾ ولأستغفرن لهم سبعين وسبعين ).
والراجح من القولين عدم المغفرة للمنافقين مهما استغفر لهم المستغفرون. ويدل على ذلك قوله :﴿ ذالك بأنهم كفروا بالله ورسوله ﴾ ﴿ ذلك ﴾، إشارة إلى اليأس من المغفرة لهم. والباء للسببية ؛ أي لن يغفر الله لهم بسبب كفرهم بالله ورسوله ﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ فتبين بذلك أن العلة التي لأجلها لا ينفع المنافقين استغفار الرسول لهم وإن بلغ استغفارهم سبعين مرة، هي كفرهم وفسقهم٣.
٢ العرق: بفتحتين، معناه السفيفة المنسوخة من الخوص قبل أن يجعل منه الزنبيل، او الزنبيل، نفسه. انظر القاموس المحيط جـ ٣ ص ٢٧١..
٣ فتح القدير جـ ٢ ص ٣٨٧ وتفسير البيضاوي ص ٢٦٢ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٢٧٦ وتفسير الرازي جـ ١٦ ص ١٥١..
يفرح المنافقون أشد الفرح كلما نالوا حظا من حظوظ الدنيا، كالمال والراحة والدعة والاستمتاع بكل ألوان المتاع والمكاسب في الحياة الدنيا وسفاسفها. وأشد ما يواجه المنافقين في حياتهم تكليفهم ما يشق عليهم ؛ كالتكليف باحتمال المصاعب والمخاطر مثل الجهاد، إنهم أشد الناس هروبا وتخلقا عن فريضة الجهاد ؛ ولذلك قد فرح المنافقون بخلفهم عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جهاد الكافرين في تبوك. والمراد بالمخلفين : هم المتروكون الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فأذن لهم وخلفهم في المدينة، أو هم الذين خلفهم الشيطان، او تخاذلهم ونفاقهم وإخلادهم إلى الأرض ؛ لقد فرحوا ﴿ بمقعدهم ﴾ أي بقعودهم ﴿ خلاف رسول الله ﴾ ﴿ خلاف ﴾ منصوب، على أنه مفعول له. وقيل : على المصدر١. وخلاف، بمعنى خلف. أو بمعنى مخالفين ؛ أي أنهم قعدوا عن الجهاد لمخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو مخالفين أمره بالخروج.
قوله :﴿ وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾ لقد كره هؤلاء المنافقون المخلفون ان يخرجوا للقاء أعداء الله فيجاهدوهم بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، جانحين إلى الدعة والاسترخاء والتخاذل، ومؤثرين الحياة الدنيا على الآخرة، وشحا بالمال الذي تهون بصدده العقيدة والملة والقيم في نظرهم.
لما استنفر النبي صلى الله عليه وسلم الناس للسفر إلى تبوك من أجل الجهاد، وكان ذلك في حين من اشتداد الحر إبان الصيف الحرور، وقد حان أوان القطاف وجني الثمار ؛ تثاقل المنافقون وانثنوا عن الخروج انثناء فاضحا كشف اللثام عن نواياهم الخبيثة وعن مبلغ إخلادهم المسرف إلى حطام الدنيا، ثم تواصوا فيما بينهم قائلين بعضهم لبعض :﴿ لا تنفروا في الحر ﴾ ثم قال لهم الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قل نار جهنم أشد حرا ﴾ فإن نار جهنم بلظاها المخوف المفظع، واستعار لهيبها المتأجج المضطرم ؛ لهي أحرى أن تحذروها وأن تحسبوا لها كل حساب واستعداد. قوله :﴿ لو كانوا يفقهون ﴾ لو كان المنافقون يتدبرون هذه الحقيقة المذهلة عن شدة العذاب وفظاعة اللهب يوم القيامة لما تخلفوا عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والسفر معه للقاء العدو.
وقيل : الآية أمر بمعنى الخبر ؛ أي أنهم سيضحكون قليلا وسيبكون كثيرا ﴿ جزاء بما كانوا يكسبون ﴾ أي جزاء من الله على تخلفهم عن رسول الله وانثنائهم عن الخروج للقاء الكافرين١.
والمعنى : إن ردك الله يا محمد من غزوتك هذه إلى المدينة حيث المنافقون فاستأذنوك للخروج معك في غزوة أخرى ﴿ فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ﴾ أمر الله نبيه الكريم أن يقول لهم ذلك عقابا هم وتعزيزا، وقد علل ذلك في الآية بقوله :﴿ إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين ﴾ أي الرجال الذين تخلفوا عن الجهاد. والمعنى : اقعدوا مع الذين قعدوا من المنافقين مخالفين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد صرتم منهم وأنتم الآن على ملتهم وطريقتهم.
قوله :﴿ ولا تقم على قبره ﴾ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له بالتثبيت ؛ فقد روي أبو داود بإسناده عن عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال :( استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت ؛ فإنه الآن يسأل ).
قوله :﴿ إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ﴾ وهذا تعليل لترك الصلاة على المنافقين أو القيام على قبورهم. وهو أنهم كانوا يخفون في صدورهم الكفر بالله ورسوله ولم يتوبوا عن ذلك، بل ظلوا على حالهم من الكفر والجحود حتى ماتوا ﴿ وهم فاسقون ﴾ أي ماتوا وهم خارجون من ملة الإسلام مفارقون أمر الله ورسوله١.
ما ينبغي لأهل الإسلام، أهل الكرامة والشهامة والاستعلاء أن يستحوذ عليهم الإعجاب بما أوتي الكافرون والمنافقون من زخارف الدنيا وزينتها. فما أوتيه هؤلاء من خير وولد منصب، ليس إلا فتنة لهم، فيعذبهم الله بها في الدنيا من فرط ما يغشاهم من الهموم ودوام التفكير والاغتمام من أجلهم. فضلا عما يبتلي الله به في أموالهم وأولاهم من الرزايا والنائبات. وبعد ذلك كله تزهق أنفسهم ؛ أي يموتون، فيفارقون المال والولد وزينة الحياة الدنيا كلها. وإذ ذاك تهب على أرواحهم لواعج كثاف من الحسرة الغامرة، والالتياع الممض أسفا على فراق ما تركوه وراء ظهورهم.
إذا أنزل الله على رسوله سورة من القرآن فيها دعوة المنافقين إلى الإيمان بالله وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، وتآمرهم بالجهاد مع رسول الله بادر ﴿ وأولوا الطول منهم ﴾ أي أهل الغنى والسعة والمال –بالاستئذان في التخلف عن السفر للقاء العدو فيمكثوا في أهليهم قاعدين : سالمين ﴿ وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين ﴾ أي دعنا يا محمد نقعد في منازلنا مع الضعفاء والعجزة من الناس. وذلك هو شأن المترفين البطرين من الأغنياء والموسرين في كل زمان. أولئك الذين وهنت عزائمهم واسترخت نفوسهم إزاء المال المركوم بقناطير المقنطرة، فانفلت قلوبهم عن الإيثار والشجاعة والغيرة على الدين والوطن والعباد ؛ فهم لإيغالهم المسرف في حب المال، والاجتهاد اللحوح المضني في تحصيله وجمعه ؛ لا تميل نفوسهم إلا إلى الدنيا وما فيها من زهرة الحياة ومتاعها ؛ فهم بذلك أشد ممن سواهم نكولا عن الجهاد أو التفكير في لقاء العدو حرصا على أرواحهم أن تزهق، وعلى أموالهم أن يصيبها البخس. وبذلك آثروا أن يكونوا مع القاعدين وهم الضعفاء من الناس كالمرضى والعميان والأطفال والمسنين.
قوله :﴿ وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ﴾ أي ختم الله على قلوب هؤلاء المنافقين من أجل نكولهم عن الجهاد وإيثارهم الدعة والاسترخاء مع العجزة والنساء ؛ فهم بذلك لا يفهمون ما فيه صلاحهم وما يضرهم ؛ بل إنهم فاسدون سفهاء.
ثانيهما : أن يكون المعذر، بالتشديد، غير محق ؛ لأنه ليس له عذر، أو هو الذي يعتذر بغي عذر. وعلى هذا فالمعذرون مبطلون ؛ لأنهم اصطنعوا أعذرا لا أصل لها ؛ فيكون المعنى : أن هؤلاء الأعراب١ جاءوا بأعذارهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم محقين أو مبطلين –على الوجهين السابقين- لكي يأذن لهم الرسول صلى الله عليه وسلم في القعود والتخلف عن القتال ﴿ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ﴾ وهذه طائفة أخرى قعدوا عن الجهاد من غير أن يعتذروا، وهم منافقون من الأعراب قد كذبوا على الله ورسوله واعتذروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالباطل.
قوله :﴿ سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ﴾ وهذا وعيد من الله للمنافقين الجاحدين الذين تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اصطنعوه من كاذب الأعذار. أو الذين قعدوا عن الجهاد دون اعتذار. لقد توعدهم الله جميعا بأليم العذاب في هذه الدنيا، بافتضاحهم وإيقاعهم في الخزي والذل. وكذلك في النار وبئس المصير والقرار٢.
٢ تفسير الطبري جـ ١٠ ص ١٤٤ وفتح القدير جـ ٢ ص ٣٩١..
قوله :﴿ إذ نصحوا لله ورسوله ﴾ ﴿ نصحوا ﴾ من النصيحة، وهي قول فيه دعا إلى صلاح ونهي عن فساد. ومنه الناصح، وهو الخالص من كل شيء. نصح الشيء نصحا ونصوحا ونصاحة ؛ أي خلص. ونصح قلبه ؛ أي خلا من الغش١. والمعنى المراد هنا : هو قبول الأعذار من هؤلاء المعذورين، ورفع الإثم عنهم لتخلفهم عن الجهاد على أن يلتزموا النصيحة لله ورسوله في مقابلة قعودهم، فإذا لبثوا في المدينة قاعدين أذاعوا في الناس الأخبار السارة، ونشروا في أوساطهم الأمن والطمأنينة، وبذلوا لهم من العون المعنوي ما يحول بينهم وبين الأراجيف وأخبار السوء.
قال الرازي في تأويل قوله :﴿ إذا نصحوا لله ورسوله ﴾ : معناه : أنهم أقاموا في البلد احترزوا عن إلقاء الأراجيف، وعن إثارة الفتن، وسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الذين سافروا، إما بان يقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم، وإما بأن يسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم ؛ فغن جملة هذه الأمور جارية مجرى الإعانة على الجهاد٢.
قوله :﴿ ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ﴾ أي من نصح لله ورسوله بعد أن تخلف عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعذر من الأعذار، ليس عليه سبب يوجب عقابه. أو ليس على المعذورين الناصحين من سبب يدعو إلى عقابهم ومؤاخذتهم ؛ بل إن الله يستر على المحسنين ذنوبهم ويشملهم برحمتهم فلا يعذبهم.
٢ تفسير الرازي جـ ١٦ ص ١٦٤..
هذه نماذج من المؤمنين الأبرار الذين تتعلق قلوبهم وأهواؤهم بعقيدة الإسلام. فلا تعبأ بالشهوات والمنافع الدنيوية إلا بقدر ما يكفل لها العيش المبسط المعقول. العيش الوسط المجانب لكل من النقيضين وهما الترف والشظف.
أولئك نفر من المؤمنين الأتقياء الذين رغبوا في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكنهم قد منعهم من ذلك مانع الفقر وقلة المؤونة والعجز عن الأهبة للحرب، فأدبروا راجعين وأعينهم تفيض دمعا ؛ إذ يبكون حزنا أنهم لم يجدوا ما يمكنهم من الذهاب لقاء العدو. لا ريب أن ذكر هذا النفر بمثل هذه الكلمات الكريمة المؤثرة يبين أن خصلة الإخلاص لهي القمة السامقة في درجات الخصال العظام التي تجعل المسلم في عداد الصالحين المتقين. فما يعود هؤلاء الأبرار وهم باكون إلا لإخلاصهم لله وأوامره، وغيرتهم على هذا الدين المستهدف من قبل المتربصين في كل مكان وزمان. وقد جاء في الصحيحين في ذلك من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا سرتم سيرا إلا وهم معكم ) قالوا : وهم بالمدينة ؟ قال :( نعم حبسهم العذر ).
وروي الإمام أحمد عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لقد خلفتم بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا، ولا سلكتم طريقا إلا شركوكم في الأجر حبسهم المرض ) ٢.
٢ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٨٢ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٢٢٨- ٢٣٠..
يعتذر المنافقون الذين تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فينتحلون للمؤمنين لدى رجوعهم إلى المدينة مختلف المعاذير والأباطيل المكشوفة. والله جل وعلا يأمر المؤمنين أن لا يعذروهم ولا يقبلوا لهم معذرة ﴿ قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم ﴾ أي لن نصدقكم فيما تقولون وتنتحلون من المعاذير البطالة ﴿ قد نبأنا الله من أخباركم ﴾ لقد أعلمنا الله من أمركم وأخباركم ما يبين لنا أنكم كاذبون مبطلون ؛ فأنتم المنافقون الخادعون، البارعون في الغش والتخريص.
قوله :﴿ وسيرى الله عملكم ورسوله ﴾ أي يسري الله ورسوله فيما بعد أنكم باقون على هذه الحالة التي تزعمونها من الصدق وإظهار المحبة للمؤمنين، أو أنكم مقيمون على خداعكم ونفاقكم.
قوله :﴿ ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ بعد دنياكم هذه وما كسبتموه فيها من الكذب والنفاق والقعود مع الخوالف دون المؤمنين المجاهدين –لسوف ترجعون إلى بارئكم الذي يعلم الغيب والشهادة، المطلع على الأسرار والخفايا وبواطن الأمور. الله الذي يستوي عنده السر والعلن، أو الظاهر والمستور ؛ فإنه يوم القيامة يخبركم بما كنتم تقارفون من الأعمال فيجازيكم بها الجزاء الذي تستحقون.
قوله :﴿ إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ﴾ الرجس معناه النجس والخبث ؛ أي أن قلوبهم وأعمالهم واعتقاداتهم خبيثة نجسة ؛ فهم بذلك مأواهم ومنزلهم ﴿ جهنم جزاء بما كانوا يكسبون ﴾ فمصيرهم إلى النار ؛ فهي مسكنهم وقرارهم الدائم الذي يأوون إليه في الآخرة جزاء لهم في مقابل ما عملوه من المعاصي، أو اكتسبوه من الغش والكذب وخيانة القلوب.
وقيل : إنما سمي العرب بهذا الاسم ؛ لأن أولاد إسماعيل نشأوا بعربة وهي من تهامة، فنسوا إلى بلدهم، وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم ؛ لأنهم إنما تولدوا من أولاد إسماعيل. وقيل : سموا بالعرب ؛ لأن ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم. واللسان العربي مختص بأنواع من الفصاحة والجزالة لا توجد في سائر الألسنة٢.
والمعنى المقصود هنا : أن الأعراب أشد جحودا وعصيانا لله وأعظم نفاقا من أهل الحضر في القرى والأمصار، وقد وصفهم الله بذلك ؛ لشدة جفائهم، وقسوة قلوبهم، ولقلة ما يستمعون إلى أهل العلم ؛ فهم أبعد الناس عن معرفة السنن وسماع التنزيل ؛ فهم بذلك أقل علما ودراية بحقوق الله ﴿ وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ﴾ و ﴿ حدود ما انزل الله ﴾، أي شرعه وأحكام دينه. والأعراب اخلق وأحق من غيرهم أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله من الأحكام والفرائض. قوله :﴿ والله عليم حكيم ﴾ عليم بحقائق الخلق وبما تكنه الصدور من نوايا. وهو كذلك حكيم في تقديره وتعريفه لشؤون الخلق والعباد٣.
٢ تفسير الرازي جـ ١٦ ص ١٦٩..
٣ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٨٣ وروح المعاني جـ ٦ ص ٤، ٥..
هذه هي حقيقية المنافقين من الأعراب الجفاة، إذ ينفقون أموالهم وهم يعدون أنها جزية أو خسرا يؤدونه قسرا، فلا ينفقونها إلا رياء وتقية.
قوله :﴿ ويتربص بكم الدوائر ﴾ أي ينتظرون بالمؤمنين البلايا والمصائب التي يرجون أن تحل بهم وبدارهم. ليتخلصوا بذلك من ظل الإسلام ومن أداء الزكاة، ثم يركنون بعد ذلك للشرك والباطل.
قوله :﴿ عليهم دائرة السوء ﴾ ذلك دعاء عليهم بما تربصوا بالمسلمين لتحيق بهم هم البلايا والمصائب.
قوله :﴿ والله سميع عليم ﴾ سميع بما قالوه من كلمات السوء عند الإنفاق أو التربص. وهو سبحانه عليم بما تنثني عليه صدورهم من خبيث النوايا.
قوله :﴿ ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته ﴾ ﴿ ألا ﴾، حرف تنبيه. والضمير في ﴿ إنها ﴾ عائد إلى النفقة في الراجح. وهذه هنا شهادة من الله للمتصدقين بصحة ما اعتقدوه من أن ما أنفقوه قربات عند الله وصلوات. إنها شهادة لهم من جلال الله بصحة ما اعتقدوه وتصديق لما رجوه.
قوله :﴿ سيدخلهم الله في رحمته ﴾ وذلك وعد حق من الله بإدخالهم في رحمته، ومن أدخله الله في رحمته كان من الآمنين الناجين من كل ما يصيب المخلوقات من مكروه، فضلا عما ينعم به المرحومون من الله بالخيرات والبركات والخلد في الجنات حيث البهجة والحبور وانشراح الصدور. جعلنا الله من عباده المرحومين.
قوله :﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ الله غفار الذنوب والخطايا، ومتجاوز عن السيئات والمعاصي. وهو سبحانه وتعالى يرحم عباده المؤمنين والتائبين والمستغفرين الذين يرجون منه الرحمة والفضل والغفران١.
قوله :﴿ رضي الله عنهم ورضوا عنه ﴾ يتجلى رضوان الله على المرء في قبول ما قدمه من الصالحات والطاعات. ولئن تقبل الله العمل من عباده فذلكم الفوز العظيم، والنجاة البالغة الكبرى. وهم إذ يسعدون بقبول أعمالهم وطاعاتهم لا جرم أن ذلك في حقهم خير الأماني ؛ بل إنه أقصى ما يأملونه أو يرتجون أن يبلغوه.
قوله :﴿ وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ﴾ لقد أعد الله لهؤلاء السابقين المكرمين دار سلام فيها خير مقام حيث الخيرات والبركات والرحمات من الله، مما لا تتصوره الأخيلة والأذهان ولا تبلغ مداه إدراكات البشر لفرط ما حوته الجنات من عطاء غير ممون، ونعيم ثابت مستديم. إن ذلكم لمثله يعمل العاملون، أولو الألباب والبصائر من عباد الله الراشدين. عن ذلكم لهو ﴿ الفوز العظيم ﴾.
قوله :﴿ لا تعلمهم نحن نعلمهم ﴾ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلم المنافقين على التعيين وذلك لبراعتهم ورسوخهم في النفاق. ولعراقتهم في اصطناع التقية بما يكسوهم غشاء ممهدا أملس من الظاهر الصبوح الخادع. إنه عليه الصلاة والسلام لا يعلم المنافقين ؛ لأن النفاق مستكن في قلوبهم وهب من الخفي المستور الذي لا يقف عليه إلا علام الغيوب الذي لا تخفى عليه خافية. ولذلك قال :﴿ نحن نعلمهم ﴾ الله جل وعلا يعلم المنافقين علما كاملا ؛ فهو سبحانه خلق الإنسان والكائنات، وخلق القلوب وما فيها من الأسرار والنوايا فلا تخفى عليه ما تستسره قلوب المنافقين.
قوله :﴿ سنعذبهم مرتين ﴾ ﴿ مرتين ﴾، منصوب من وجهتين : إما على المصدر، وإما على الظرف الزمان٢. والمراد بتعذيبهم مرتين موضع خلاف ؛ فقد قيل : المراد التكثير وليس التثنية ؛ فيكون المعنى : سنعذبهم مرة بعد مرة. وقيل : المراد التثنية ؛ فيكون المراد بالمرة الثانية عذاب القبر، أما المرة الأولى فالمراد بها فضيحتهم ووصمهم بالنفاق، فقد أخرج الطبري في الأوسط وغيره عن ابن عباس ( رضي الله عنه ) قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جمعة خطيبا فقال :( قم يا فلان فاخرج فإنك منافق، اخرج يا فلان فإنك منافق، فأخرجهم بأسمائهم، ففضحهم ولم يك عمر بن الخطاب شهد تلك الجمعة لحاجة كانت له، فلقيهم وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم استحياء أنه لم يشهد الجمعة، وظن أن الناس قد انصرفوا واختبأوا هم منه، وظنوا أنه قد علم بأمرهم، فدخل المسجد فإذا لم ينصرفوا. فقال له رجل : أبشر يا عمر فقد فضح الله تعالى المنافقين اليوم ؛ فهذا هو العذاب الأول، والعذاب الثاني هو عذاب القبر.
قوله : ثم يردون إلى عذاب عظيم } وذلك يوم القيامة ؛ إذ يصير المنافقون الذين آمنت ألسنتهم، ولم يفض الإيمان إلى قلوبهم ؛ بل أفضى إليها الغش والكيد وسوء النية –يصيرون إلى النار٣.
٢ الدر المصون جـ ٦ ص ١١٤..
٣ روح المعاني جـ ٦ ص ١٠، ١١..
وهذه طائفة من المسلمين، من ضعاف العزائم والهمم في أمر دينهم. إذ لم يكونوا منافقين تماما كالذين تخلفوا عن الجهاد تكذيبا ؛ لشرع الله وشكا في الدين ورغبة عن رسول الله. ليس هؤلاء كأولئك ؛ بل إن هؤلاء تخلفوا كسلا ورغبة في الدعة والاسترخاء والراحة مع إيمانهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حق. وأن ما جاءهم به لهو من عند الله وأنه حق. وهؤلاء قد أقروا بذنوبهم التي اكتسبوها وكان لهم في مقابلتها أعمال أخرى حسنة فاختلطت حسناتهم وسيئاتهم. وأمثال هؤلاء مردهم إلى رحمة الله وعفوه.
وقيل : المراد بهم أناس معينون تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الغش والنفاق ؛ بل على سبيل الضعف وتعثر الهمة فقط ؛ فقد تخلف هؤلاء عن الذهاب إلى تبوك، ثم غشيتهم بعد ذلك غاشية من التوبة الصادقة والندم الأسيف حتى أوثقوا أنفسهم بسواري المسجد وكان ممر النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم. فلما رآهم قال :( من هؤلاء الموثقون أنفسهم ؟ ) قالوا : هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله وقد أقسموا أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت تطلقهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( وأنا أقسم بالله تعالى لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم ). فأنزل الله تعالى الآية. فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهم فأطلقهم وعذرهم٢ وفي رواية أخرى أنهم كانوا ثلاثة. وأخرى أنهم ثمانية. وهذه الآية وإن كانت في أناس معينين لكنها تعم بفحواها كل المذنبين المقصرين الذين قعدوا عن أداء الواجب كسلا وتهاونا واسترخاء، وخلطوا أعمالا حسنة بأخرى سيئة.
قوله :﴿ عسى الله أن يتوب عليهم ﴾ عسى من الله واجب كما قال ابن عباس. والصحيح أنها لفظة { للإطماع والإشفاق ؛ فيظل المذنب على وجل من الله وهو يغمره الخوف والرجاء والأمل في عفو الله وغفرانه.
قوله :﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ وهذه تفيد تحقيق التوبة والمغفرة من الله، فهو سبحانه قابل التوب، عظيم المغفرة، بالغ الرحمة بالعباد، يتجاوز عن سيئات المذنبين التائبين٣.
٢ رواه البيهقي عن ابن عباس..
٣ روح المعاني ج، ٦ ص ٤ والبحر المحيط جـ ٥ ص ٩٨، ٩٩..
اختلف العلماء في هذه الصدقة التي أمر الله بها في الآية. فقد قيل : المراد بها صدقة الفرض ( الزكاة ) وهو قول ابن عباس وجماعة. وقيل : إنها مخصوصة بهؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم، الذين خلطوا عملا صالحا وآخر شيئا وهم أبو لبابة وأصحابه حين أطقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : يا رسول الله هذه أمولنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا. فقال لهم :( ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا ) فأنزل الله ﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾ الآية. والصحيح أن هذا النص عام فهو يفيد بعمومه وجوب الصدقة في أموال المسلمين. ولا ينبغي لأحد أن يحتج بان هذا النص إنما كان خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلم فهو وحده المخاطب به. وقد ورد عليهم الصدقة وسائر الصحابة هذا التأويل الفاسد فقاتلوهم حتى أدوا الزكاة إلى الخليفة مثلما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي ذلك قال الصديق ( رضي الله عنه ) : والله لو منعوني عناقا١ –وفي رواية : عقالا- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقتلنهم على منعه.
على أن الأمر بأخذ الصدقة في هذه الآية نطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ ولا المأخوذ منه. ولا هو مقيد ببيان مقدار المأخوذ منه ؛ فإن بيان ذلك كله في السنة المطهرة وإجماع العلماء. وذلكم هو بيان وجيز ومقتضب لمسائل الزكاة.
وأول الكلام في ذلك أن الزكاة إنما تجب على كل مسلم حر مالك للنصاب ملكا تاما. واختلفوا في وجوبها على الصغير والمجنون ؛ فقد ذهب أكثر أهل العلم إلى وجوبها عليهما، وهو قول علي ابن عمر وجابر وعائشة من الصحابة. وقالت به المالكية والشافعية والحنبلية، وقال به الثوري وإسحق وأبو ثور وغيرهم. وذهب آخرون إلى عدم وجوبها عليهم، وهو قول النخعي والحسن وسعيد بن جبير من التابعين.
وسبب اختلافهم في إيجاب الزكاة على الصغار والمجانين أو عدن إيجابها : هو اختلافهم في مفهوم الزكاة الشرعية، هل هي عبادة كالصلاة والصيام، أم هي حق واجب للفقراء على الأغنياء. فمن قال : إنها عبادة ؛ اشترط فيها العقل والبلوغ. ومن قال إنها حق واجب للفقراء والمساكين في أموال الأغنياء ؛ لم يشترط العقل والبلوغ.
وثمة شرط آخر لوجوب الزكاة وهو حولان الحول فيما بلغ النصاب من الأموال باستثناء ما تنبته الأرض ؛ فإنه تؤدي زكاته عند حصاده إذا بلغ النصاب، على الخلاف في ذلك. وذلك للخبر الذي أخرجه الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول ).
أما ما تجب فيه الزكاة من الأموال فهي خمسة أصناف وهي : النقدان ( الذهب والفضة ) ثم الزروع والثمار مما تنبته الأرض، ثم السوائم من الأنعام، ثم عروض التجارة، ثم المعدن والركاز.
أما الذهب : فتجب فيه الزكاة إذا بلغ نصابا وهو عشرون مثقالا، ففيه نصف دينار، وكذلك الفضة فيها الزكاة إذا بلغت نصابا وهو مائتا درهم، ففيه خمسة دراهم.
وتختلفوا في الحلي من الذهب إذا أريد للزينة واللباس فقط، فليس فيه زكاة في قول المالكية والشافعية، وهو قو الليث وآخرين ؛ وذلك لما رواه جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ليس في الحلي زكاة ) ؛ ولأنه معد لاستعمال مباح فلم تجب فيه الزكاة كالعوامل من الإبل والبقر٢ وذلك بخلاف الحنفية ؛ إذ قالوا بوجوب الزكاة في الحلي. واحتجوا بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأت أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسك من ذهب، فقال :( أتؤدين زكاة هذا ؟ ) قالت : لا. قال :( أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوراين من نار ؟ ). فخلعتهما وألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وقالت : هما لله ولرسوله.
أما ما تخرجه الأرض من الزروع والتمر : ففيه الزكاة، ويشترط لوجوبها فيه : أن يكون مما يقتات به وقابلا للادخار. وهو قول المالكية والشافعية ؛ إذ اشترط الاقتيات والادخار. وكذلك يشترط النصاب لوجوب الزكاة في الزروع والثمرات، ونصابها خمسة أوسق. وذلك لما رواه أبو سعيد الخدري ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة ). أما الحنفية فقالوا : ليس فيما تخرجه الأرض نصاب. بل تجب الزكاة في كل ما أخرجته ارض ما قل منه أو أكثر، باستثناء الحطب والحشيش. واحتجوا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام :( فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر ) وعلى هذا فإنه في قول الحنفية تجب الزكاة في كل ما أنبتته الأرض من غير تفريق بين مقتات وغيره، وسواء كان الخارج قليلا أو كثيرا، استنادا إلى عموم الحديث.
أما المقدار الذي يجب أداؤه زكاة للزروع : فإنها يتحدد تبعا لكيفية السقاية، فإن سقي الزروع بماء المطر أو من ينابيع الأرض ؛ ففيه العشر. وإن سقي بالنضح من الآبار ونحوهما مما يكلف مؤونة وجهدا ؛ ففيه نصف العشر.
أما سوائم الأنعام : فهي الإبل والبقر والغنم. أما الإبل : فنصابها خمس، وفيها شاة. فإذا بلغت خمسا وعشرين ؛ ففيها ابنة مخاض إلى خمسون وثلاثين. فإذا بلغت ستا وثلاثين ؛ ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين. فإذا بلغت سنا وأربيعن ؛ ففيها حقة إلى ستين. فإذا كانت واحدا وستين ؛ ففيهما جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا بلغت ستا وسبعين ؛ ففيها ابنتا لبون إلى تسعين. فإذا بلغت واحدا وتسعين ؛ ففيها حقتان إلى عشرين ومائة. وأصل ذلك كتاب الصدقة الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به بعده أبو بكر وعمر.
أما البقر : فنصابها ثلاثون، وفيها تبيع، فإذا بلغت أربعين ؛ ففيها مسنة، فإذا بلغت ستين ؛ ففيها تبيعان، إلى سبعين ؛ ففيها مسنة وتبيع. فإذا بلغت ثمانين ؛ ففيها مسنتان. فإذا بلغت تسعين ؛ ففيها ثلاثة أتبعة. فإذا بلغت مائة ؛ ففيها تبيعان ومسنة وهكذا.
أما الغنم : فنصابها أربعون شاة. فإذا بلغت أربعين ؛ ففيها شاة/ حتى تبلغ مائة وعشرين، فإن زادت على المائة والعشرين ؛ ففيها شاتان إلى مائتان. فإن زادت على المائتين ؛ ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة. فإن زادت على الثلاثمائة ؛ ففي كل مائة شاة شاة. وهذا هو قول الجمهور.
أنا عروض التجارة : فنصابها هو النصاب في الأعيان٣ وعي الذهب والفضة وذلك عند الذين قالوا بوجوب الزكاة في العروض. ويشترط في أموال التجارة لتجب فيها الزكاة ما يشترط في الذهب والفضة من بلوغ النصاب وحولان الحول.
أما المعدن والركاز : فالمعدن في اللغة موضع الإقامة واللزوم. يقال : عدن بالمكان إذا لزمه فلم يبرح. ومنه : جنات عدن ؛ أي جنات إقامة. وهو موضع استخراج الجوهر من ذهب ونحوه٤.
أما زكاة المعدن : ففيها خلاف من حيث التفضيل. فإذا استخرج مسلم حر من معدن في أرض موات أو في رض يملكها، نصابا من الذهب أو الفضة ؛ فقد وجب عليه الزكاة. ودليل ذلك : أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع بلال من الحارث المزني المعادن القبلية، وأخذ منه الزكاة. أما إن وجده في أرض مملوكة لغيره ؛ فهو لصاحب الأرض، ويجب دفعه إليه فإذا أخذه مالكه وجب عليه زكاته. وإن وجد دون النصاب لم تلزمه الزكاة ؛ لأن المعدن من أموال الزكاة ؛ فلا تجب في غير النصاب ؛ ولأنه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض فاعتبر فيه النصاب كالعشر. وهو قول الشافعية والمالكية وآخرين.
أما الحول في زكاة المعدن، فغير معتبر عند المالكية، وكذا الشافعية في أظهر القولين لهم ؛ لأن الحول يراد لتكامل النماء. وبوجود المعدن يحصل النماء فلم يعتبر فيه الحول كالشعر. وذهب آخرون إلى اعتبار الحور ؛ لأنه زكاة في مال تكرر فيه الزكاة فاعتبر فيها الحول كسائر الزكوات.
أما الركاز : فهو دفين أهل الجاهلية. كأنه ركز في الأرض ركزا. ركز الرمح : أي غرزه في الأرض٥.
ويجب في الركاز الخمس. وذلك لما روي أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( وفي الركاز الخمس ) ؛ ولأنه يصل إليه من غير تعب ولا مؤنة فاحتمل الخمس، ولا يجب ذلك إلا على من تجب عليه الزكاة ؛ لأنه مال زكوي. ولا تجب إلا فيما وجده في موات أو مملوك لا يعرف مالكه ؛ لأن الموت لا مالك له، وما لا يعرف مالكه بمنزلة ما لا مالك له. أما إذا وجده في أرض يعرفها مالكها، فإن كان ذلك لحربي ؛ فهو غنيمة. وإن كان لمسلم أو لمعاهد ؛ فهو لمالك الأرض٦.
أما التفصيل بأكثر من ذلك في مسألة الزكاة ؛ فهو في مظانة من كتب الفقه.
قوله :﴿ تطهرهم وتزكيهم بها ﴾ جملتان فعليتان في موضع نصب على الحال٧ ؛ أي خذها مطهرا لهم ومزكيا بها لهم ؛ فهي تطهرهم من دنس الذنوب، وتسمو بهم على خسائس أحوال المنافقين ومنازلهم، إلى درجات الأتقياء والمقربين.
قوله :﴿ وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم ﴾ أي ادع لهم بالمغفرة واستغفر لهم من الذنوب والآثام فدعاؤك واستغفارك رحمة لهم ووقار، وفيه ما يطمئنهم بان ذنوبهم مغفورة وأنهم معفو عنهم. وذلك لما في اليقين بأن الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم لهو أكره ما تنبس به شفاه الداعين من المؤمنين والذاكرين والأبرار طرا. فدعاؤه صلى الله عليه وسلم مفعم بالبركة وكامل الصدق } فهو خليق بالقبول. قوله :﴿ والله سميع عليم ﴾ اله سميع الدعاء فيستجيب للمؤمنين المخلصين. لا جرم أن الدعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم أخلق بالقبول والاستجابة، والله سبحانه عليم بما في النوايا والقلوب.
٢ المهذب للشيرازي جـ ١ ص ١٥٨ وبداية المجتهد جـ ١ ص ٢١٢..
٣ الهين/ معناه ادنيار. والعين هو المال الناض. الناض هو المتحول عينا بعد أن كان متاعا. انظر مختار الصحاح ص ٤٦٦، ٦٦٥..
٤ المعجم الوسيط جـ ٢ ص ٥٨٨ والمصباح المنير جـ ٢ ص ٤٥..
٥ مختار الصحاح ص ٢٥٤ والنظم المستعذب في شرح غريب المهذب لمحمد بن بطال الركبي جـ ١ ص ١٦٢..
٦ المهذب جـ ١ ص ١٥٣- ١٦٢ وبداية المجتهد جـ ١ ص ٢٠٧-٢٢٨..
٧ البيان لابن الأنباري جـ ١ ص ٤٠٥..
قوله :﴿ وأن الله هو التواب الرحيم ﴾ الله جلت قدرته عظيم التؤب، ورجمته وسعت كل شيء ؛ فهو يقبل التوبة عن التائبين، ويسع برحمته سائر عباده لنادمين الراجعين إلى جنابه الكريم١.
وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركن في قبورهم، فإن كان خيرا استبشروا به، وإنا كان غير ذلك قالوا : اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك ).
وروي الإمام أحمد أيضا عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :( إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيرا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا ).
قوله :﴿ وستردون إلى علم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعلمون ﴾ ﴿ الغيب الشهادة ﴾، يعني الخفي المستور، والظاهر المنظور. قال ابن عباس : الغيب : ما يسرونه. والشهادة : ما يظهرونه ؛ أي سوف تصيرون يوم القيامة إلى الله الذي يستوي عنده الباطن والظاهر ؛ فهو الذي يعلم سركم وجهركم، وهو الذي لا يخفي عليه خوافيكم وبواطن أموركم، فيخبركم بكل ما جرحتموه من الأفعال، وحينئذ يمحص الله ما كان من ذلك رياء، وما كان منه طاعة وإخلاصا لوجهه الكريم فيجازيكم على ذلك كله ما تستحقونه من الجزاء١.
قوله :﴿ إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ﴾ هؤلاء الثلاثة مرجون لأمر الله ؛ أي مرجئون لأمره ؛ من أرجأته أي أخرته ؛ فهم بذلك نحن عفو الله ورحمته، فإن شاء وفقهم للتوبة فتابوا ليغفر الله لهم، وإن شاء لم يجعل لهم من لدنه توفيقا فلم يتوبوا. وفي كل الأحوال من تزاحم الذنوب والتوبة أو تزاحم الخطايا والاستغفار ؛ فإن رحمة الله تغلب غضبه وعذابه. والله سبحانه عليم بما يصير إليه العباد من حسن التوبة، أو المقام على الذنب. وهو جل وعلا حكيم في تدبيره للعالمين من غير خلل في ذلك ولا زلل. فقال سبحانه :﴿ والله عليم حكيم ﴾ ٢.
٢ تفسير الطبري جـ ١١ ص ١٧ وتفسير القرطبي جـ ٨ ص ٢٥٢..
سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب، وكان قد تنصر في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه وصارت للإسلام مكانة عالية وذكر عظيم وقد أظهرهم الله يوم بدر، اغتاظ أبو عامر وبارز رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة، ثم خرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب وقدموا عام أحد فكان ما حصل للمسلمين من ابتلاء قد امتحنهم الله به. وكان هذا الفاسق اللعين، أبو عامر الراهب، قد حفر حفائر فيما بين الصفين فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه، وكسرت رباعيته اليمنى السفلى، وشح رأسه صلوات الله وسلامه عليه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه من القرآن فأبي أن يسلم وتمرد، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيدا طريدا، فنالته هذه الدعوة ؛ وذلك أنه لما فرغ الناس من أحد ورأى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ذهب إلى هرقل ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم فوعده ومناه وأقام عنده. وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب بعدهم ويمينهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده هما هو فيه. وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وإثباته. وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فقال :( إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله ) فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم، تزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم مسجد قباء الذي أسس من أول يوم على التقوى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة١.
قوله :﴿ ضرارا ﴾ في إعرابه ثلاثة أوجه. الأول : أنه مفعول لأجله. أي مضارة لإخوانهم.
الثاني : أنه مفعول به ثان لقوله :﴿ اتخذوا ﴾.
الثالث : أنه مصدر في موضع الحال من فاعل ﴿ اتخذوا ﴾ أي تخذوا مضارين لإخوانهم. وقيل : منصوب على المصدرية ؛ أي يضرون بذلك غيرهم ضرارا٢ والضرر معناه طلب الضرر والعمل على إيقاعه وحصوله.
قوله :﴿ وكفرا ﴾ أي يكفروا فيه ؛ فقد اتخذوا هذا المسجد ذريعة لهم ليغطوا بع كفرهم ونفاقهم، وليتمكنوا من خلاله من الإضرار بالمسلمين، وليفسدوا عليهم حالهم وشأنهم، فيكون ذلك طريقا للقضاء على دين الله. لا جرم أن قصدهم هذا يصممهم بالكفر.
قوله :﴿ وتفريقا بين المؤمنين ﴾ وهم أهل قباء ؛ فقد أراد أبو عامر الراهب ومعه زمرة النفاق والباطل أن يحل بالمؤمنين الشقاق والاختلاف، وأن يأتي عليهم الفرقة فينفلتوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمنافقين في ذلك إنما يؤزهم الحسد والحقد وخسة الطبع الآسن، وأولئك هم المناقون في كل زمان ؛ يتربصون بالإسلام والمسلمين دوائر الشر والسوء، ويبتغون لهم الإفساد والتدمير والهلكة.
قوله :﴿ وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل ﴾ فقد أعد المنافقون هذا المسجد كيما يكون لهم موضعا يتربصون فيه بالمسلمين وينطلقون منه للإفساد والتخريب، وليثيروا بين المسلمين الفرقة والشك والاختلاف، وليكون لهم ذريعة للاجتماع والتلاقي بين المنافقين والحاقدين الذين حاربوا الله ورسوله ﴿ من قبل ﴾ أي من قبل أن يتخذ هذا المسجد.
قوله :﴿ وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون ﴾ ليحلفن، جواب قسم مقدر ؛ أي : والله ليحلفن. وقوله :﴿ إن أردنا ﴾ جواب لقوله :﴿ وليحلفن ﴾.
وقوله :﴿ إن ﴾ أداة نفي. ولذلك وقع بعدها ﴿ إلا ﴾ و ﴿ الحسنى ﴾، صفة لموصوف محذوف ؛ أي الخصلة الحسنى، أو إلا لإرادة الحسنى، وهي الصلاة٣.
هؤلاء المنافقون يحلفون، كاذبين أنهم ما قصدوا من بناء هذا المسجد إلا الحسنى وهي الصلاة والتوسعة على أنفسهم وعلى الضعفاء والعجزة من الناس الذين يعجزون عن المسير إلى مسجد قباء لضعفهم وشدة المشقة عليهم في ذلك.
هكذا يحلف المنافقون، وهم يعلمون أنهم كاذبون ؛ يحلفون أن قصدهم الخير والتوسعة لكن الله جل وجلاله، هو علام الغيوب، كاشف الأسرار والخبايا، الخبير بما في القلوب من الخفايا ﴿ يشهد إنهم لكاذبون ﴾ وكفى بهذه الشهادة الكبرى من رب العالمين الشهادة التي تتضاءل دونها كل الشهادات ؛ شهادة ربانية مجلجلة تهتف بأن هؤلاء المنافقين كاذبون، فهم في الحقيقة إنما يبتغون من بناء مسجدهم هذا إشاعة الظنون والاختلاف والفوضى بين المسلمين ليميتوا عليهم دينهم وليبددوه تبديدا. وهذا هو دأب المنافقين وديدنهم في كل زمان ؛ سواء في زمت التوبة المباركة والأزمنة المتعاقبة بعدها ؛ فالنفاق هو النفاق ؛ والمنافقون على حالهم وطبيعتهم من فساد الضمائر وخبث القلوب والمقاصد، واشتداد الحسد والكراهية للإسلام والمسلمين.
والمنافقون وأعوانهم يلتئمون في كل زمان ليدبروا للمسلمين شر المكايد بكل الأساليب حتى وإن بلغ بهم سوء الكيد والتخطيط أن يصطنعوا للمسلمين مسجدا يستترون. فيخفون مكرهم ونفاقهم، وليسلكوا من خلاله سبيل التربص بالمسلمين والطعن في دينهم.
٢ الدر المصون جـ ٦ ص ١٢٠..
٣ الدر المصون جـ ٦ ص ١٢١..
والخبر، الجملة بعده ﴿ أحق أن تقوم فيه ﴾ و ﴿ أحق ﴾ ليس للتفضيل بل بمعنى حقيق ؛ فإنه لا مفاصلة بين المسجدين، وهما مسجد النفاق ومسجد التقوى١، وهذا أحق أن يصلي فيه الرسول والمسلمين لتأسيسه من أول يوم على الطاعة والإخلاص والتقوى.
قوله :﴿ فيه رجال يحبون أن تطهروا ﴾ نزلت هذه الآية في أهل قباء ؛ فقد كانوا حرصاء على التطهر وما يقتضيه ذلك من حصول النظافة ؛ إذ كانوا يستنجون بالماء. لا جرم أن الإسلام يدعو إلى النظافة ليكون المسلمون نظفاء في أبدانهم وكل أجسادهم، فضلا عن نظافة قلوبهم وسلامة مقاصدهم وما يكنونه للناس من خير ورحمة، وما يبتغونه للبشرية في كل زمان ومكان من بر وأمن وهداية. أما الثناء على أهل قباء من أجل حرصهم على النظافة والتطهير ؛ ففيه روي الطبراني عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية ﴿ فيه رجال يحبون أن يتطهروا ﴾ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هويم بن ساعدة فقال :( ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم ) فقال : يا رسول الله ما خرج من رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه، أو قال : مقعدته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( وهو هذا ) وفي رواية لعويم بن ساعدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له :( م هذا الذي أثنى الله عليكم ) قالوا يا رسول الله إنا نغسل الأدبار بالماء.
قوله :﴿ والله يحب المطهرين ﴾ المطهرون يحظون بمحبة الله لهم. ومن مقتضيات محبة الله للذين يحبهم أن يرضى عنهم ويعظم ثوابهم٢.
٢ تفسير ابن كثير جـ٢ ص ٣٨٨، ٣٨٩ وروح المعاني جـ ٦ ص ١٧- ٢٣ والبحر المحيط جـ ٥ ص ١٠١- ١٠٣..
الهمز للاستفهام الإنكاري. والفاء للعطف. وأسس ؛ أي وضع الأساس، وهو أصل البناء وقاعدته التي يقوم عليها. أو هو أصل كل شيء١. والبنيان، مصدر كالغفران، فالله عز وعلا يبين في هذه الآية التفريق بين المسجدين وانتفاء المساواة بينهما. وعلى هذا لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من الله ﴿ ورضوان ﴾ أي طاعته سبحانه، ومن بنى مسجدا ضرارا يريد به أن يفرق بين المسلمين فيثير فيهم الفتنة والفرقة والفوضى. إن هذين لا يستويان، فأولهما سبيله الهداية والحق، وكلاهما يفضي إلى الجنة. وأما الآخر : فسبيله الضلال والباطل، وكلاهما يفضي إلى جهنم والعياذ بالله، فأي الفريقين خير ؟ هل هو المؤمن التقي الطائع لربه، أم هذا المنافق المتربص الخبيث ؟ هذا الذي أسس بنيانه وهو مسجد الضرار ﴿ على شفا جرف هار ﴾. أما قوله :﴿ خير ﴾ فلا يفيد الشركة بين لاالمسجدين ولا بين مؤسس هذا وذاك في خير إلا على معتقد باني مسجد الضرار. فيحسب ذلك المعتقد صح التفضيل٢.
قوله :﴿ على شفا جرف هار ﴾ الشفا، الطرف. والجرف بضمتين، معناه البئر، أو الهوة وما يجرفه السيل من الأدوية لجرف الماء له٣. وهار، أي متصدع مشرف على السقوط. وأصله هاير وهارر٤.
فالحق او التقوى والإخلاص قد أسس على قاعدة قوية محكمة بالغة الثبات والتماسك. وفي مقابلة ذلك، الباطل والنفاق فقد أسس على أوهى القواعد وأضعفها وأقلها ثابتا وتماسكا لأن الباطل مثله مثل الجرف الواهن المتداعي الآيل للسقوط والانهيار. وهو على أية حال صائر لا محالة إلى الانهيار بصاحبه المنافق في نار جهنم. وهذا هو مصير أهل الباطل والنفاق الذين يسعون في الأرض فسادا، والذين يتربصون بالإسلام والمسلمين الدوائر، يبتغون لهم الشرور والمصائب ويمكرون بهم مع الماكرين. لا جرم أن مردهم إلى سوء العذاب ؛ إذ ينهار بهم بنيانهم المضطرب ليلج بهم في جهنم بنارها المستعرة وعذابها المفظع البئيس.
﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ وهم المشركون الذين يفخرون بالحرم، ويستكبرون فيه لأنهم أهله وعماره ؛ فهم بشركهم وضلالهم لا ينفعهم قيامهم على سقاية الحاج ولا عمارتهم للمسجد الحرام، إنهم تجديهم أفعال الخير ماداموا سادين في غيهم وإشراكهم بالله.
٢ الدر المصون جـ ٦ ص ١٢٥ والبحر المحيط جـ ٥ ص ١٠٤..
٣ القاموس المحيط ص ١٠٢٩ والدر المصون جـ ٦ ص ١٢٥..
٤ الدر المصون جـ ٦ ص ١٢٦..
قوله :﴿ ألا تقطع قلوبهم ﴾ أي لا يزال ما صنعوه من النفاق وابتغاء الشر بالمسلمين مبعث ريبة لهم في كل الأوقات والأحوال، فلا تبرحهم ما داموا أحياء ﴿ إلا أن تقطع قلوبهم ﴾ وذلك أن يموتوا ؛ إذ تتفرق أبدانهم وجسومهم، وقيل : إلا أن يغالوا في الندامة فتتفتت قلوبهم كناية أو مجاز عن شدة الأسف والحسرة.
قوله :﴿ والله عليم حكيم ﴾ عليم بما صنعه هؤلاء المنافقون المفسدون وما قصدوه من المكر والأذية للمسلمين. وهو سبحانه حكيم، فيما أعده لهم من الجزاء في هذه الدنيا حيث الشك والقلق واضطراب النفس والخوف. وكذلك في الآخرة حيث النار١.
روي في سبب نزول هذه الآية عن عبد الله بن رواحة ( رضي الله عنه ) أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة : اشتراط لربك ولنفسك ما شئت. فقال :( أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم ) قالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك ؟ فقال ( الجنة ) قالوا : ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت ﴿ إن الله اشترى من المؤمنين ﴾ الآية١ لتحمل للمسلمين على مر الزمن وتوالي العصور والأدهار هذا الإخبار الرباني المجلجل. إخبار كريم ومؤثر وفياض فيه ترغيب للمسلمين وتحضيض على الجهاد في سبيل الله بالأنفس والأموال. وذلك لدفع الأشرار والمعتدين المتربصين، وليدرأوا عن أنفسهم المفاسد والأضرار والفتن.
ولقد جاء التحضيض هذه المرة على صورة عقد كريم متين. العاقد فيه رب العالمين جل وجلاله، والثمن فيه هي الجنة. وعي عطاء من الله كريم وعظيم ودائم، وفيه من الخير والنعمة والبهجة ما لا تقوى على تصوره طبائع البشر. والمعقود عليه في هذا العقد هو القتل أو القتال ؛ فالقتال يصيب المجاهد ليحظى بالجنة. والقتال بمجرد مفض إلى نفس العاقبة من الحسنى.
وهذا المعنى الكبير يتجلى في أحسن ما تكون عليه العبارة، وأورع ما يأتي عليه الكلم من رصانة الألفاظ، وتمام الإيجاز وكمال الإعجاز، وبالغ التأثير.
وذلك كله في كلمات قليلة معدودة توحي بعظم الشأن للمجاهدين بأموالهم ولأنفسهم في سيبل الله، لا يبغون بذلك غير مرضاته سبحانه، ولا يزجي بهم إلى أرض المعركة سوى الحب لله والغيرة على الإسلام والمسلمين.
ويستوي في نيل هذا الثمن الكريم الهائل ﴿ الجنة ﴾ كل من قاتل وقتل. فكلاهما محظوظ بالفوز بالجنة ليرتع في نعيمها وما حلفت به من عطايا عظام وخيرات حسان.
قوله :﴿ وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ﴾ ﴿ وعدا ﴾، منصوب على المصدر المؤكد لمضون الجملة. ﴿ حقا ﴾ لتقديمه عليه٢. وهذا الوعد الق من الله مثبت ومذكور في الكتب السماوية الثلاثة وهي التوراة والإنجيل والقرآن. و ﴿ في ﴾ تأكيد للمؤمنين المجاهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن مآلهم إلى خير عاقبة وأكرم مصير وهو رضوان الله والفوز بالجنة.
قوله :﴿ ومن أوفى بعهده من الله ﴾ استفهام على سبيل التقرير ؛ أي ليس من أحد أوفى بعهده من الله جل جلاله. وقد أظهر الوعد هنا في صورة العهد ؛ لأن هذا آكد وأوثق من الوعد ؛ إذ الوعد في حق المخاليق جائز إخلافه عند الحاجة. لكن العهد لا يجوز إلا الوفاء به ؛ إذ هو آكد من الوعد.
قوله :﴿ فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به ﴾ ليس السنين هنا للطلب بل بمعنى افعل. وذلك كفعل الأمر : استوقد ؛ أي أوقد. فيكون المعنى : اغتبطوا وابتهجوا وأظهروا السرور بما حظيتم به من فوزكم العظيم في بيعكم مع الله الذي أفضى بكم إلى الجنة. لا جرم أنه ﴿ الفوز العظيم ﴾ الذي يتضاءل دونه أيما فوز٣.
وقفة وتنبيه
قبل أن نبرح الكلام عن تحضيض الإسلام على الجهاد، نريد أن نستبق الظالمين والمبغضين والمتعصبين من أولى العقائد والملل والتصورات الضالة. أولئك الذين يستمرئون الطعن في الإسلام، والذين تعتصر قلوبهم وأعصابهم تغيظا وكراهية للإسلام وأهله. وأولئك هم الحاقدون المتربصون الجهلة الذيسن لا يعرفون عن الإسلام إلا بعض اللمامات من بسيط الكفار. ومع ذلك فغنهم يتزاحمون في الكيد للإسلام بتوجيه سهام الطعون له من أجل تشويه والإساءة إلى سمعته المباركة وقدره العظيم ؛ فقد احتجوا بمثل هذه الآية ونظائرها من آيات الجهاد على أن الإسلام قد بني على الحرب والقتال والدم والعنف ! !
إن ذلكم لغط فاجر كذوب تردده أقلام المفكرين المضلين من استعماريين والصليبيين ووثنيين وملحدين وصهيونيين وماسونيين وأتباعهم من العملاء والتابعين الناعقين.
إن الذي يتحذلق به هؤلاء الخصوم عن تشريع الجهاد في الإسلام، لهو افتراء غاشم، وتخريص جهول يتقوله الشياطين وأهل الباطل على الإسلام.
ولقد بينا في فقرات سابقة أن الإسلام ما بني على العنف والقسوة، ولا قام على الحرب والقتال ؛ بل إن الإسلام أساسه المودة والرحمة تفيض بهما قلوب المسلمين على الدنيا وعلى سائر شعوب الأرض بعيدا عن كل ظواهر التعنيف والترهيب.
الإسلام إنما بني على الحق والترشيد واحترام الإنسان والحدب عليه ؛ فهو إذا شاع في الدنيا وعمت كلمته وعقيدته ونظامه الآفاق والعالمين، إنما كان ذلك بفضل أساليبه الفكرية والوجدانية البالغة في التأثير ؛ فقد شق الإسلام طريقه إلى أذهان الناس وقلوبهم، فشاع وذاع بالحجة والبرهان، ودعوة البشرية إليه بالتي هي أحسن، وأصدق دليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ ومن أدل الدلائل على هذه الحقيقة، هذا الإقبال الطوعي السريع من الشعوب المختلفة التي بادرت للدخول في دين الإسلام. وكان ذلك طواعية ورغبة وود، إذ لم يحملهم على ذلك قسر أو إكراه أو وعيد.
والشعوب على اختلافها إذا ما أتيح لها أن تتعرف على الإسلام وما حواه من ظواهر الخير والتعارف والمودة والرحمة والخلق الكريم، سوف لا تردد في الإقبال عليه واعتناقه والتزام عقيدته وشرائعه في مودة وتشوف. ولو حيل بين الإسلام وسائر المعوقات والفتن التي يضعها الشياطين في الطريق ؛ لعم الإسلام سائر أنحاء الدنيا، ولأصبح جل البشرية إخوانا في دين الله ؛ دين الاسلام !
إن الإسلام لم يوجب الجهاد إلا ليكون آخر وسيلة من وسائله بعد أن يستنفد كل أسباب المنطق والاحتجاج بالبراهين والأدلة الظاهرة ؛ فلا مناص بعد ذلك كله من تشريع الجهاد دفعا لصولة الطغاة من المعتدين الظالمين، وكسرا لشوكة أهل الباطل الذين يكرهون الإسلام والمسلمين، فما فتئوا يكيدون لهم كل المكائد والمؤامرات.
لا يجد الإسلام مندوحة عن دعوة المسلمين وتحريضهم على قتال أهل الباطل والعدوان من شرار البشر الذين لو سلطوا على رقاب المسلمين لا يرعون فيهم إلا ولا ذمة. والذين إذا جاسوا خلال ديار المسلمين أبادوهم إبادة واصطلموهم شر اصطلام، وأذاقوهم الويل والثبور وعظائم الأمور، ما بين تقتيل وتشريد وتدمير وتدنيس للكرامات والقيم وهتك للأعراض والأستار. ومن اجل ذلك شرع الإسلام الجهاد.
٢ الدر المصون جـ ٦ ص ١٢٨..
٣ البحر المحيط جـ ٥ ص ١٠٥، ١٠٦ وروح المعاني جـ ٦ ص ٢٦- ٢٩..
وقيل : إن الخبر قوله :﴿ الأمرون ﴾ وقيل : الخبر محذوف. والتقدير : التائبون الموصوفون بهذه الصفات من أهل الجنة. وهذا عند من يرى أن هذه الآية منقطعة مما قبلها ؛ فهي ليست شرطا في المجاهدة. وأما ما زعم أنها شرط في المجاهدة فيكون إعراب التائبين خير مبتدأ محذوف ؛ أي هم التائبون ؛ فتكون هذه الأوصاف عند هؤلاء من صفات المؤمنين في قوله تعالى :﴿ اشترى من المؤمنين ﴾ ١، وقد ذهب إلى هذا المعنى بعض المفسرين وفيهم ابن عباس ؛ إذ قال : الشهيد من كان فيه هذه الخصال التسع وتلا هذه الآية. وبذلك فإن هذه أوصاف المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم ؛ فهم بذلك المجاهدون على النحو الأتم والمطلوب. لكن لا يخفى ما في هذا التأويل من حرج ؛ فإنه بناء عليه لا يفوز بالجنة من المجاهدين إلا القلة ممن اتصف بهذه الأوصاف. ولسوف يخرج إذن من هذه الحظوة المباركة كثير من المجاهدين الذين استشهدوا في سبيل الله ولم يتصفوا بهذه الصفات.
وعلى هذا فالراجح من إعراب ﴿ التائبون ﴾ أنها مبتدأ، والخبر محذوف تقديره : من أهل الجنة وإن لم يجاهدوا. وذلك قوله تعالى :﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾ فإن كلا، يفيد العموم. والحسنى بمعنى الجنة. وعلى هذا يكون معنى الآية منفصلا من معنى الآية التي سبقتها. ويؤيد ذلك ما صح من حديث مسلم أن ( من قتل في سبيل الله وهو صابر محتسب مقبل غير مدبر ؛ كفرت خطاياه إلا الدين ) وذلك ظاهر في أن المجاهد لا يشترط كونه متصفا بجميع الصفات التي في الآية. بل هي تبشير لمطلق المجاهدين. وهو المفهوم من ظواهر الأخبار التي تدل على أن الفضل الوارد في حق المجاهدين مختص بمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.
أما ﴿ التائبون ﴾، فالمراد بهم الذين تابوا عن الشرك والنفاق. أو عن الشرك وسائر المعاصي والذنوب وهو الأصوب ؛ لأن كلمة التائبين من ألفاظ العموم فهي تتناوب كل تائب.
وأما ﴿ العابدون ﴾ فقيل : هم الذين يعبدون الله بالصلاة وهو قول ابن عباس، وفي رواية عنه أخرى أنهم المطيعون بالعبادة. وقيل : هم الذين يعبدون الله في السراء والضراء.
وأما ﴿ الحامدون ﴾ من الحمد، وهو الثناء، أو الوصف بالجميل : فالحامدون الذين يحمدون الله على كل حال، وقيل : هم الذين يشكرون الله على أنعمه. على أن الحمد أولى من الشكر ؛ فقد روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أول ما يدعي إلى الجنة الحامدون الذين يحمدون على السراء والضراء ). وعن السيدة عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمر يسره قال :( الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ) وإذا أتاه الأمر يكرهه قال :( الحمد لله على كل حال ).
وأما ﴿ السائحون ﴾ فهم الصائمون، وهو قول كثير من جلة الصحابة والتابعين، وقد روي عن عائشة قولها : سياحة هذه الأمة الصيام. وذلك من باب الاستعارة لأن الصوم يعوق عن الشهوات كما تمنع السياحة منها في الغالب. وقيل : المراد بهم المسافرون لطلب العلم. وقيل : هم الذين يجولون بأفكارهم وعقولهم في ملكوت الله وفي خلقه.
أما ﴿ الراكعون الساجدون ﴾ فالمراد بهم المصلون. فالركوع والسجود على معناهما الحقيقي، وهما أعظم الأركان في الصلاة.
وأما ﴿ الأمرون بالمعروف ﴾ فهم الذين يدعون الناس إلى الإيمان وعمل الطاعات، وهم ﴿ الناهون عن المنكر ﴾ ينهون الناس عن الشرك بالله على اختلاف صوره وضروبه، ويدعونه إلى مجانبة عصيان الله ومخالفة أوامره.
قوله :﴿ والحافظون لحدود الله ﴾ أي المطيعون لله فيرعون ما بينه الله من أحكام وشرائع فيلتزمون ما ينبغي فعله وما يجب تركه. وقيل : المراد بحفظ الحدود وإقامة الحدود من العقوبات وإيقاع القصاص على المستحقين لذلك.
قوله :﴿ وبشر المؤمنين ﴾ وهم الموصوفون بتلك الصفات العظيمة يبشرهم ربهم بأنهم مستحقون درجة الإيمان الكامل حيث السعادة التامة والفوز كل الفوز٢.
قوله تعالى :﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ١١٣ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم ﴾ أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والنسائي والبيهقي وآخرون عن ابن المسيب عن أبيه قال : لما خضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جعل وعبد الله بن أبي أمية فقال :( أي عم، قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله عز وجل ) فقال أبو جعل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فقال : أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( لأستغفرن لك ما لم أنه عنك ) فنزلت ﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾ قال : ونزلت فيه ﴿ إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ﴾ ٣. ويستفاد من ذلك : أمه ما ينبغي للمسلم أن يستغفر لكافر من الكافرين أو يدعو له بالتوبة والغفران، سواء كان من الأصدقاء أو الأقرباء أو الأباعد، ما دام قد مات على الشرك. وذلك تقرير رباني ثابت لا رجاء فيه بالمغفرة للمشركين الذين ماتوا وهم كافرون. أولئك لن يغفر الله لهم وإن استغفرت لهم كل خلائق الأرض والسماء. وفي ذلك قوله سبحانه ﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن شاء ﴾.
٢ روح المعاني جـ ٦ ص ٣٠- ٣٢ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٩٢..
٣ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٩٣..
قوله :﴿ من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ﴾ أي من بعد بعد ما ظهر جليا واضحا للنبي والمؤمنين أن هؤلاء المشركين قد ماتوا على الكفر وأن مصيرهم المحتوم إلى الجحيم. ويستدل من ذلك أيضا جواز الاستغفار وطلب التوبة والهداية والتوفيق للكافرين الأحياء.
قوله :﴿ إن إبراهيم لأواه حليم ﴾ الأواه : الكثير التأوه ؛ وهو من يقول : أواه. أو يقول : أوه. بمعنى أتوجع١، وقيل : الأواه معناه المتضرع. وقيل : المؤمن. وقيل : المؤمن التواب. وقيل : كناية عن بالغ الرأفة ورقة القلب. والأولى أن المراد به المتضرع الكثير الدعاء ؛ فقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال :( الأواه الدعاء ) وعن عبد الله بن شداد قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس قال رجل : يا رسول الله ما الأواه ؟ قال :( المتضرع ).
أما الحليم، فهو شديد الصبر على الأذى، عظيم الصفح عن الجناة٢.
٢ الدر المصون جـ ٦ ص ١٣٠ وروح المعاني جـ ٦ ص ٣٣- ٣٥ وتفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٩٥..
جاء في سبب نزول الآية أن قوما كانوا على الأمر الأول من استقبال بيت المقدس قبل التحول إلى الكعبة. وعلى شرب الخمر قبل تحريهما، فسأل قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نسخ ذلك فنزلت الآية.
وقيل : أسلم قوم من الأعراب فعملوا بما شاهدوا الرسول يفعله من الصلاة إلى بيت المقدس وصيام الأيام البيض، ثم قدموا عليه فوجوده يصلي إلى الكعبة ويصوم رمضان. فقالوا : يا رسول اله دنا بعدك بالضلال ؛ إنك على أمر، وإنا على غيره. فنزت الآية.
وقيل : خاف بعض المؤمنين من الاستغفار للمشركين دون إذن من الله، فنزلت الآية مؤنسة. وقال الزمخشري : يعني ما أمر الله باتقائه واجتنابه كالاستغفار للمشركين وغيره مما نهي عنه، ويبين أنه محظور ولا يؤاخذ به عباده الذين هداهم للإسلام ولا يمسهم ضلالا ولا يخذلهم إلا إذا أقدموا عليه بعد بيان حظره عليهم وعلمه بأنه واجب الاتقاء والاجتناب. وأما قبل العلم والبيان : فلا سبيل عليهم ؛ كما لا يؤاخذون بشرب الخمر، ولا ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم.
فالآية تفيد أنه ليس من لطف الله أن يذم المؤمنين أو يؤاخذهم باستغفارهم للمشركين قبل أن يبين لهم أن ذلك غير جائز. ولكن الله جل وعلا إنما يذم من استغفر للمشركين بعد التبيين.
قوله :﴿ حتى يبين لهم ما يتقون ﴾ أي يبين لهم بالوحي ما يجب اتقاؤه من المناهي والمحظورات.
قوله :﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾ الله عليم بجميع الأشياء، ومن جملة ذلك حاجة المؤمنين إلى البيان ؛ فيبين الله لهم. وهو كذلك عليم بصلاح قلوب المؤمنين المستغفرين للمشركين قبل نزول النهي عن ذلك.
قوله ﴿ يحي ويميت وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾ الله جل جلاله من أعظم تصرفاته الإحياء والإماتة ؛ فهو سبحانه موجد الأحياء بعد موات ثم هو سبحانه مميتهم لدى انتهاء آجالهم. وقيل : هذا إشارة إلى أنه يجب على المؤمنين أن لا يجزعوا من عدوهم وإن كان كثيرا، وأن لا يهابوا أحدا. فما الموت المخوف ولا الحياة المقدورة إلا بيد الله ؛ فليس للمؤمنين أن يرجوا لأنفسهم الولاية أو النصر من المخاليق. وإنما يرجون ذلك من الله وحده فهو خير ولي وأعظم نصير١.
قيل في هذه الآية إنها نزلت في غزوة تبوك ؛ وذلك أنهم خرجوا إليها في شدة من الأمر، وذلك في سنة مجدية، وحر شديد، وعسر من الزاد والماء. قال قتادة : خرجوا إلى الشام عام تبوك في لهبان الحر على ما يعلم الله من الجهد، حتى لقد ذكر لنا إن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما، وكان النفر يتداولون التمرة بينهم يمصها هذا، ثم يشرب عليها، ثم يمصها هذا ثم يشرب عليها.
وذكر عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بت الخطاب في شأن العسرة، فقال عمر ابن الخطاب : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى إذا كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه. فقال أبو بكر الصديق : يا رسول الله إن الله عز وجل قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا. فقال :( تحب ذلك ؟ ) قال : نعم، فرفع يديه فلم يرجعها حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت، فملئوا ما معهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر١.
قوله :﴿ لقد تاب الله النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة ﴾ التوبة من الله على رسوله من أجل الذنب. وهو بالنسبة إلى رسول الله من باب خلاف الأولى. وفسره ابن عباس بالإذن للمنافقين في التخلف. أما الذنب بالنسبة إلى الصحابة : فيمكن أن يكون حقيقيا ؛ إذ لا عصمة لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وقيل : كان ذنبهم من باب خلاف الأولى كالميل إلى القعود عن عزوة تبوك إذ وقعت في فترة شديدة وعسيرة. وهي قوله :﴿ في الساعة العسرة ﴾ والعسرة خلاف المسيرة. ويوم عسير ؛ أي شديد، وتعسر الأمر واستعسر ؛ أي اشتد والتوى. وأعسر : افتقر. وجيش العسرة معناه جيش تبوك ؛ لأنهم ندبوا إليها في حمارة القيظ فعسر عليهم٢.
قوله :﴿ من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ﴾ كاد من أفعال القرب وفيه ضمير الشأن. وضمير الشأن اسم كاد. وقلوب فاعل يزيغ. والجملة في محل نصب خبر كاد٣، والآية تبين مدى الشدة البالغة التي حاقت بالمسلمين في تبوك حتى كاد يميل بعضهم إلى التخلف عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو يميل عن الثبات على الإيمان فحمله ذلك على مجرد الهم والوسوسة والارتياب في رسوله الله صلى الله عليه وسلم وفي دينه لفرط ما أصابهم من الشدة والكرب. وقيل : كان الميل من ضعافهم ومن حديثي العهد بالإسلام.
قوله :﴿ ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم ﴾ ذلك تكرير للتأكيد على التوبة على المؤمنين لما ذكر أن فريقا منهم كادت تزيغ قلوبهم ؛ إذ ساورهم الشك وساء ظنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهموا بانصراف عنه. لكن الله جلت قدرته قد تجاوز لهم عن كل ذلك ؛ إذ تاب عليهم، وسبب التوبة هي الرأفة من الله بهم ورحمته التي وسعت كل شيء٤.
٢ القاموس المحيط ص ٥٦٤..
٣ الدر المصون جـ ٦ ص ١٣٣..
٤ تفسير ابن كثير جـ ٢ ص ٣٩٦ وروح المعاني جـ ٦ ص ٣٩- ٤١ وتفسير البحر المحيط جـ ٥ ص ١٠٩ والدر المصون جـ ٦ ص ١٣٣..
الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك هم : كعب بن مالك ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية ؛ فقد خلفوا عن ركب المجاهدين بقتادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قصد تبوك لقتال الروم. ولم يكن تخلف هؤلاء الثلاثة عن عجز او افتقار أو مرض ؛ بل كانوا أقوياء أصحاء، ولم يثنهم عن المضي للجهاد في تبوك إلا ما أصابهم من نوبة الضعف وفتور العزيمة وفتور العزيمة في هذه المناسبة العظيمة التي اشتد فيها سعير الحر اللاهب. واستعر فيها هجير المفاوز والفيافي من أيام الصيف الحرور، واستقبل فيها الناس عدوا كبيرا مدججا بالعدة والسلاح مما لم يشهدوا له من قبل نظيرا، وقد غزا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الغزوة حين طابت الثمار وحان جنيها وقطافها ؛ كل ذلك قد حمل فريقا من الناس على التثاقل، فانثنوا عن الذهاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان في المتخلفين منافقون لا يترددون في الهروب والتخلص من فريضة الجهاد بكل أسلوب من أساليب الكذب والمراوغة والنفاق. ومن جملة الذين تخلفوا، هؤلاء الثلاثة الذين لم يساور قلوبهم شك في دين الله ولا في صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقعدهم عن ذلك إلا ما طرأ لهم في هذه الفترة العصيبة العسيرة من نوبة الضعف العارض.
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك طفق المتخلفون يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى. أما الثلاثة –وكانوا من المؤمنين الصالحين- فقد وجدوا في أنفسهم أشد موجدة وأصابهم من فرط الكآبة الممضة ما بات يقض مضاجعهم قضا ويؤز قلوبهم وأعصابهم وأزا طيلة خمسين يوما. وفي ذلك يقول كعب بن مالك : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنا فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهم يبكيان، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم ؛ فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين وأطوف بالأسواق فلا يكلمني أحد. حتى إذا طال علي ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائك أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام. قال : ففاضت عيناي وتوليت حتى تسورت الجدار فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا أنا بنبطي الشام قد دفع إلي كتابا من ملك غسان وفيه : أما بعد فقد بلغنا أن صاحبك قد جفاك وإن الله لم يجعلك في دار هوان. ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك. فقلت حين قرأته : وهذا أيضا من الابتلاء. قال : فتيممت به التنور فسجرته به فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كرمنا. قال : ثم صليت الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا. فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت، سمعت صارخا على بجل سلع يقول بأعلى صوته : أبشر يا كعب بن مالك. قال : فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء الفرج من الله عز وجل بالتوبة علينا، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور :( أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ) قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر. وأنزل الله تعالى الآية. ومنها قوله :﴿ وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ﴾ ﴿ وعلى الثلاثة ﴾، معطوف على ﴿ النبي ﴾ أي وتاب على الثلاثة ﴿ الذين خلفوا ﴾ أي تخلفوا عن غزوة تبوك ﴿ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ﴾ أي باتت الأرض برحبها وسعتها ضيقة في نظرهم وتصورهم فسدت عليهم المسالك والطرق فلا يعتدون سبيلا، ولا يدرون ما يصنعون. وذلك لإعراض الناس عنهم وهجرهم لهم خمسين ليلة بأيامها ﴿ وضاقت علليهم أنفسهم ﴾ وذلك كناية عن تراكم الهم والحزن على قلوبهم فلا تحتمل غير الكآبة والاغتمام. فكان ضيقهم بذلك على نحوين، وهما ضيق المحل وضيق النفس والحال.
قوله :﴿ وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ﴾ أي علموا وأيقنوا أنه ليس لهم من سبيل ولا ملجأ يأوون إليه من سخط الله إلا أن يثوبوا إليه وحده، فيبرءوا له بالتوبة والاستغفار وهو سبحانه خير ملاذ للمكروبين والمغلوبين والتائبين.
إن الله جلت قدرته خير من تجأر إليه قلوب الداعين والمستغفرين والتائبين الخزانى عسى أن يتوب عليهم ويفيض على قلوبهم بخواطر الرضى والبهجة والانشراح.
قوله :﴿ ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم ﴾ أي قبل توبتهم من تخلفهم عن الغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ ليتوبوا ﴾ أي ليرجعوا إلى حالهم الأول من مخالطة المؤمنين فتطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم مع الساكنين والمطمئنين، أو ليتوبوا مم يفرط منهم في المستقبل من خطايا وذنوب. فإن الله تعالى قابل التوب عن عباده المؤمنين ولو عادوا إلى الذنب في اليوم مائة مرة. فذلك هو شأن الله في عظيم توبته ولطفه بالعباد وفي مبلغ رحمته بهم. رحمته الواسعة المديدة التي لا تعرف الحدود.
وبذلك يأمر الله في الآية عباده المؤمنين أن يكونوا كهؤلاء الثلاثة في صدقهم وثباتهم وخلوص نياتهم، وقيل : أن يكونوا كالذين صدقوا في دين الله قولا وعملا١.
والله سبحانه يعاتب هؤلاء لتخلفهم عن شرف الجهاد في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله :﴿ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ﴾ أي ما ينبغي وما يستقيم لهؤلاء التخلف عن الخروج للجهاد بعد أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورغبهم في ذلك ﴿ ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ﴾ أي ما كان ينبغي لهم وما يستقيم أن يؤثروا أنفسهم دون رسول الله فيدعوه وحده أو يخذلوه وضنوا بأنفسهم على النزول في الأخطار ومواجهة الملمات ؛ بل عليهم أن يبذلوا كل ما يستطيعون وأن يوردوا أنفسهم كل المكاره فيركبوا الأهوال والشدائد، ويكابدوا الصعاب والمشاق في همة ونشاك واغتباط وهم في صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتقدمهم على خوض الأهوال ومخاطر القتال.
قوله :﴿ ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ﴾ الإشارة عائدة إلى ما تبين من وجوب الخروج للقاء المشركين وبذل النفس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم التخلف عنه وعن المؤمنين المجاهدين معه ﴿ بأنهم لا يصيبهم ظمأ ﴾ أي بسبب أنهم لا يصيبهم شيء من عطش ﴿ ولا نصب ﴾ أي تعب ﴿ ولا مخمصة ﴾ أي مجاعة ﴿ في سبيل الله ﴾ أي في لقاء أعداء الله من المشركين والظالمين.
قوله :﴿ ولا يطئون موطأ يغيظ الكفار ﴾ ﴿ يطئون ﴾ من الوطء وهو الدروس بالأقدام ونحوها كحوافر الخيل وأخفاف الإبل. والموطئ، اسم مكان. وهو هنا مطلق ليعم كل موضع أو مكان يغيظ وطؤه الكفار.
قوله :﴿ ولا ينالوا من عدو نيلا ﴾ النيل، مصدر. فعله، نال ينول نيلا ؛ أي ولا يأخذون من عدو شيئا. وقد أطلق النيل ليعم كل وجوه الأخذ مما يغيظهم ويسوءهم كالقتل والأسر والإثخان وسومهم الهزيمة.
قوله :﴿ إلا كتاب لهم به عمل صالح ﴾ الجملة في محل نصب على الحال من ﴿ ظمأ ﴾ ١ أي كتب لهم بالمذكور وهو جميع ما تقدم ﴿ عمل صالح ﴾ أي ثواب ذلك. والإشارة عائدة إلى إصابة الظمأ والنصب والمخمصة والوطء والنيل من العدو.
قوله :﴿ إن الله لا يضيع أجر المحسنين ﴾ وهذه حقيقة راسخة ومركوزة بأن أجر المحسنين محفوظ لهم فلا يفوت ولا ينسى.
قوله :﴿ ولا يقطعون واديا ﴾ أي ولا يتجاوز في سيرهم من أجل الجهاد واديا، وهو المنفرج من الجبال والآكام التي يسيل فيها الماء، وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض. ﴿ إلا كتب لهم ﴾ أي أثبت لهم في صحائف أعمالهم. وهو يعم ما سبق ذكره من الظمأ والنصب والمخمصة والوطء لإغاظة الكفار، والنيل منهم أيما نيل. وكذا النفقة، والسير وقطع المسافات للقاء العدو، فإن ذلك كله مكتوب لأصحابه المجاهدين في سبيل الله ﴿ ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون ﴾ أي ليثبتهم الله أحسن جزاء على أعمالهم. وذلك يقتضي أن يكون لأعمالهم جزاء حسنا وآخر أحسن، وقد اختار الله لهم ما هم أحسن١.
ذكر أن هذه الآية بيان من الله لمراده من النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ؛ فقد ذهبت طائفة من السلف إلى أنه كان يجب النفير على كل مسلم إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا مقتضى قوله :﴿ انفروا خفافا وثقالا ﴾ فنسخ ذلك بهذه الآية ﴿ وما كان المؤمنون لينفروا كافة ﴾.
وقيل : المراد انه ما كان المؤمنون لينفروا ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده ﴿ فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ﴾ يعني عصبة أو سرايا. فإذا رجعت السرايا وقد انزل الله بعدهم قرآنا تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : إن الله قد أنزل على نبيكم قرآنا وقد تعلمناه، فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم من بعدهم ويبعث سرايا أخرى وهو معنى قوله :﴿ ليتفقهوا في الدين ﴾ أي ليتعلموا ما انزل الله على نبيهم، وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم ؛ فالآية هذه في البعوث والسرايا إذا لم يخرج الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه. فإذا لم يخرج وجب أن لا ينفر الناس كافة فيبقى النبي وحده. وإنما ينبغي أن تنفر طائفة وتبقى طائفة لتتفقه هذه الطائفة في الدين وتنذر النافرون إذا رجعوا إليهم١.
على أن المستفاد من عموم هذه الآية أن لا ينفر المسلمون جميعا للقاء العدو ولا لطلب العلم ؛ فكلا الغرضين هام وعظيم ومفروض، فلقاء العدو في نفير زاحف مستعد غاية الاستعداد لتدمير الظلم والظالمين، وصد الأشرار والمتربصين ودفع أذاهم عن المسلمين –لا محالة واجب. وإلا بات المسلمون عرضة للتدمير والاصطلام من عدوهم المتربص الماكر. ومن جهة الأخرى : فإن الخروج للتعلم والتزود بزاد العلم واجب كذلك إلى غير ذلك من جوه الأعمال والمشاغل والمصالح التي يحتاجا المسلمون. كالاضطلاع بوجائب الزراعة والصحة والتعمير. وبذلك يقتسم المسلمون أعمالهم وواجباتهم ليناط بكل واحد منهم من العمل ما يناسبه فيؤديه أتم أداء.
قوله :﴿ فلولا نفر ﴾ لولا تحضيضه، والمراد به الأمر.
قوله :﴿ لعلهم يحذرون ﴾ لكي يحذروا الله تعالى فيخشوا عقابه، ويعلموا لمرضاته، ويجتنبوا نواهيه ومخالفة أمره٢.
٢ البحر المحيط جـ ٥ ص ١١٦ والدر المصون جـ ٦ ص ١٣٩..
ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب، فلما فزغ منهم وفتح الله عليه مكة والمدينة والطائف واليمن وخيبر وغير ذلك من الأقاليم في جزيرة العرب ودخل الناس في دين الله أفوجا، شرع في قتال أهل الكتاب فتجهز لغزو الروم الذي هم أقرب الناس إلى جزيرة العرب، وكان ذلك في السنة التاسعة للهجرة. وفي السنة العاشرة عاجلته المنية صلوات الله وسلامه عليه، فقام بالأمر بعده خليفته الصديق ( رضي الله عنه ) فأركز قواعد الدين وثبته تثبيتا بعد أن كاد ينجفل١ بمخازي المرتدين والمنافقين. وبعد أن رحل إلى الرفيق الأعلى وتولى من بعده الفاروق العظيم أبو حفص عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) قاتل المشركين الذين يلون المسلمون أولا بأول، الأقرب فالأقرب. وكذا صنع خلفه من بعده عثمان ( رضي الله عنه ) فقد كان شأنهم جميعا في قتال المشركين أن يقاتلوا الأقرب قبل الأبعد عملا بقوله تعالى :﴿ قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ﴾.
قوله :﴿ وليجدوا فيكم غلظة ﴾ أي شدة. وهذه كلمة جامعة يراد منها جملة معان : الجراءة، والعنف، والإثخان في القتل والصبر عليه ؛ لما في ذلك من تخويف للظالمين المعتدين وإثارة الذعر في قلوبهم كيما يتضعضعوا ويولوا الأدبار.
قوله :﴿ وعلموا ان الله مع المتقين ﴾ يراد بالمتقين الذين يخشون الله فيبادرون بالطاعة له والإخبات، ولم يقصدوا من جهادهم وقتالهم مالا ولا شهرة ولا غنيمة، ولم يبتغوا من ذلك فخرا أو ظهورا وإنما يبتغون بذلك وجه الله ومرضاته، وإعلاء شأن الإسلام.
قوله :﴿ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا ﴾ هذه الآية من أكبر الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص. وهذا مذهب أكثر السلف والخلفاء من العلماء.
قوله :﴿ وهم يستبشرون ﴾ يستشعرون بقولهم حلاوة البشرى والاغتباط بما ينزل من السماء من قرآن.
وقيل : الاختبار يراد به كشف أسرارهم، وفضح نواياهم، وإظهار نفاقهم، وهو الأولى بالاعتبار ؛ فيكون المعنى : أفلا يزدجر هؤلاء المنافقون الذين يفضح الله نواياهم وسرائرهم مرة أو مرتين في كل عام ليعلموا أن ذلك من الله فيتوبوا إليه وتستقيم نواياهم وأعمالهم.
قوله :﴿ هل يراكم من أحد ﴾ ﴿ هل يراكم ﴾، في محل نصب بقول مضمر ؛ أي يقولون : هل يراكم. وجملة القول في محل نصب على الحال. و ﴿ من أحد ﴾، فاعل٢. إذا تغامز المنافقون بأعينهم استنكارا وسخرية من كلام الله فهموا بالخروج كيلا يستمعوا القرآن فيغتاظوا وتشمئز قلوبهم تساءلوا فيما بينهم : هل من أحد يراكم ؟ وذلك ليتمكنوا من الانصراف.
قوله :﴿ ثم انصرفوا ﴾ بعد أن وقف المنافقون على عدم رؤية أحد إياهم انصرفوا متلصصين خزايا يسترقون الخطوات استراق الخائنين، لقد انصرفوا من مجلسهم الذي كانوا فيه لدى نزول القرآن بسبب تغيظهم من سماعه ؛ فهم لا يتحملون سماعه لشدة ما تكنه نفوسهم من كراهية وخشية من افتضاحهم وانكشاف وهم يتغامزون ويضحكون.
قوله :﴿ صرف الله قلوبهم ﴾ وهذا دعاء على المنافقين بصرف قلوبهم عما في قلوب المؤمنين. وذلك وعيد لهم بلحوق العذاب بهم. وقيل : الصيغة للخبر بحسب الظاهر ؛ فقد بين الله صرف قلوبهم عن الإيمان جزاء لهم على نفاقهم وسوء مقاصدهم.
قوله : بأنهم قوم لا يفقهون } الباء للسببية ؛ أي بسبب حماقتهم وسوء فهمهم وغفلتهم وعدم تدبرهم لكلام الله ؛ صرفهم الله، أو أنهم انصرفوا عن مجلسهم، لأنهم حمقى لا يتدبرون القرآن٣.
٢ الدر المصون جـ ٦ ص ١٤١..
٣ روح المعاني جـ ٦ ص ٥٠- ٥٢ والبحر المحيط جـ ٥ ص ١١٨- ١٢٠..
يخاطب الله في الآية العرب ممتنا عليهم بإرساله إليهم رسوله العظيم محمدا صلى الله عليه وسلم ؛ فهو من أنفسهم ؛ أي من جنسهم ومن نسبهم. وهو عربي مثلهم بل هو من خيرهم نسبا وأشرفهم محتدا١. وفي ذلك أخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتى كنت من القرن الذي كنت فيه ). وأخرج مسلم عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( عن الله تعالى اصطفى من واد إبراهيم إسماعيل، واصطفى من لود إسماعيل بني كنانة، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ).
قوله :﴿ عزيز عليه ما عنتم ﴾ ﴿ عزيز ﴾، صفة لرسول ﴿ ما ﴾ مصدرية، أو بمعنى الذي، وعلى كلا التقديرين فهي فاعل بعزيز. والتقدير : يعز عليه عنتكم، أو الذي عنتموه ؛ أي : عنتهم يسيئه٢. وعلى هذا فمعنى الآية : أنه صعب عليه وشاق عنتكم، أو ما يلحقكم من عنت وهو المكروه والعذاب والضيق الذي تجدون منه العناء والشقاء في حياتكم.
قوله :﴿ حريص عليكم ﴾ أي حريص على إيمانكم وهداكم وصلاح حالكم في الدنيا والآخرة.
قوله :﴿ بالمؤمنين رؤوف رحيم ﴾ أي ان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الرحمة والشفقة عليكم، وهو عظيم الرأفة بكم، يحرص على إيصال الخير والتوفيق والإحسان إليكم، لتكونوا كرماء سعداء في دينكم ودنياكم.
٢ الدر المصون جـ ٦ ص ١٤١..