تفسير سورة التوبة

التفسير المنير
تفسير سورة سورة التوبة من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ
وذلك يوم النحر بمنى سنة تسع.
روى الإمام أحمد والترمذي في التفسير عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعثه ببراءة مع أبي بكر، فلما بلغ ذا الحليفة قال: «لا يبلّغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي» فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وروى البخاري أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعث عليا سنة تسع، فأذن يوم النحر بمنى بصدر سورة براءة، وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
وروى أحمد والترمذي والنسائي عن زيد بن يثيغ رجل من همدان قال: سألنا عليا بأي شيء بعثت؟ يعني يوم بعثه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مع أبي بكر في الحجة، قال: «بعثت بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج المشركون بعد عامهم هذا».
نقض عهود المشركين وإعلان الحرب عليهم والبراءة منهم
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١ الى ٤]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)
97
الإعراب:
بَراءَةٌ خبر مبتدأ محذوف، أي هذه براءة، ويكون مِنَ اللَّهِ في موضع رفع لأنه وصف براءة وتقديره: براءة كائنة من الله. ويجوز أن تكون بَراءَةٌ مبتدأ وخبره: إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ. ومِنَ اللَّهِ وصف لبراءة، ومِنَ لابتداء الغاية متعلق بمحذوف.
وَأَذانٌ معطوف على بَراءَةٌ، ورفعه مثل الوجهين المذكورين في بَراءَةٌ من أنه خبر مبتدأ محذوف، أو أنه مبتدأ، ويكون خبره إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ. ومِنَ اللَّهِ وصف لأذان. ويَوْمَ الْحَجِّ: العامل فيه الصفة. ولا يجوز أن يكون أَذانٌ لأنه وصف، والمصدر إذا وصف لم يعمل عمل الفعل.
أَنَّ اللَّهَ في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر أي بأن وَرَسُولِهِ بالرفع والنصب، فالرفع من وجهين: أحدهما- أنه مبتدأ وخبره محذوف، أي ورسوله بريء، وحذف لدلالة الأول عليه. والثاني- أنه معطوف على الضمير المرفوع في بَرِيءٌ وجاز العطف على الضمير المرفوع وإن لم يؤكد، لوجود الفصل بالجار والمجرور لأنه يقوم مقامه. أو معطوف على محل: إن واسمها في قراءة من كسرها إجراء للأذان مجرى القول. وأما بالنصب فهو عطف على اسم أَذانٌ أو لأن الواو بمعنى مع.
ولا تكرار لمعنى بَراءَةٌ لأن قوله بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ إخبار بثبوت البراءة وبَرِيءٌ إخبار بوجوب الاعلام بذلك، ولذلك علقه بالناس، ولم يخص بالمعاهدين.
البلاغة:
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تنوين بَراءَةٌ للتفخيم، وتقييدها بأنها مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لزيادة التهويل. وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا أسلوب تهكمي لأن البشارة بالعذاب، وهي تكون عادة بما هو مفرح.
المفردات اللغوية:
بَراءَةٌ أي تبرؤ من الله ورسوله، يقال: برئ من العهد أو المرض: خلص منه، وبرئ من الذنب: تركه وتباعد عنه، وبرئ من الدين: أسقط عنه. عاهَدْتُمْ المعاهدة: عقد العهد بين فريقين على شروط يلتزمونها. وكانت توثق بالأيمان بوضع كل فريق يمينه في يمين الآخر، فسميت أيمانا في قوله تعالى: إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي لا عهود لهم. والمراد من المعاهدين هنا:
ذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، أو من له عهد دون أربعة أشهر، فيكمل له أربعة أشهر، وكذا من
98
كان له عهد فوقها ونقض العهد. أما من له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان، لقوله تعالى:
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ الآية،
وللحديث: «ومن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عهد، فعهده إلى مدته»
قال ابن كثير: وهذا أحسن الأقوال وأقواها.
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ سيروا آمنين أيها المشركون في الأرض مدة أربعة أشهر، والمراد حرية الانتقال مع الأمان هذه المدة دون قتال فيها، وأولها شوال، بدليل قول الزهري: إن براءة نزلت في شوال. ولا أمان لكم بعدها. والسياحة والسيح: الانتقال في الأرض بحرية غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي لا تفوتونه من عذابه بالهرب والتحصن وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ مذلّهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار، والخزي: الذل والفضيحة بما هو عار.
وَأَذانٌ إعلام يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ هو يوم العيد الأكبر وهو يوم النحر الذي تنتهي فيه فرائض الحج، ويجتمع فيه الحجيج لإتمام مناسكهم، وإنما قيل: الأكبر من أجل قول الناس عن العمرة: الحج الأصغر أَنَّ اللَّهَ أي بأن الله بريء من عهود المشركين وَرَسُولِهِ بريء أيضا فَإِنْ تُبْتُمْ من الكفر وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن الإيمان وَبَشِّرِ أخبر بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم وهو القتل والأسر في الدنيا، والنار في الآخرة. ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً من شروط العهد والميثاق، فلم يقتلوا أحدا ولم يضروه. وَلَمْ يُظاهِرُوا يعاونوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من الكفار فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ أي إلى انقضاء مدتهم التي عاهدتم عليها إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ بإتمام العهود.
المناسبة:
كان هناك عهد عام بين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومشركي مكة وغيرهم على ألا يصدّ عن البيت الحرام أحد من الطرفين، ولا يزعج أحد في الأشهر الحرم، وكانت هناك أيضا عهود بينه عليه الصلاة والسّلام وبين كثير من قبائل العرب إلى آجال معينة، فنقض كثير من المشركين عهودهم مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، مما اقتضى نزول البراءة من عهودهم.
التفسير والبيان:
نزلت آيات بَراءَةٌ الأولى في أهل مكة في السنة التاسعة، بعد أن عاهدهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في صلح الحديبية سنة ست هجرية، فنقضوا العهد، إلا بني ضمرة وبني كنانة، فأمر المسلمون بالتبرؤ من عهود المشركين وإمهالهم أربعة
99
أشهر، فإذا انتهت هذه المدة قاتلوهم.
والمراد بالعهود: العهود المطلقة غير المؤقتة بزمن، ومن كان له عهد دون أربعة أشهر فتكمل له هذه المدة، وأما من عهده مؤقت بمدة فوق ذلك فأجله إلى مدته، مهما كان لقوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ [براءة ٩/ ٤].
هذا أصح الأقوال الذي اختاره الطبري وابن كثير وغيرهما. قال الكلبي: إنما كانت الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عهد دون أربعة أشهر ومن كان عهده أكثر من أربعة أشهر، فهو الذي أمر الله أن يتم له عهده بقوله:
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ.
وقد أمّر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم- كما أوضحت- أبا بكر في السّنة التّاسعة أميرا على الحجّ، فلما سافر نزلت سورة براءة متضمّنة نقض عهد المشركين، فأرسل عليّا ليبلّغ ذلك النّاس يوم الحجّ الأكبر قائلا: «لا يؤدّي عني إلا رجل من أهل بيتي». فلما اجتمع الناس بمنى يوم النّحر، قرأ عليهم علي آيات من أول سورة براءة، ثم قال- فيما رواه التّرمذي والنسائي وأحمد-: بعثت بأربع:
ألا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا.
ومعنى الآية: بَراءَةٌ أي تبرؤ وتخلص، وهي براءة صادرة من الله ورسوله، واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين. وإنما نسبت البراءة لله ولرسوله لأنها تشريع جديد من الله، وأمر لرسوله بتنفيذه، وتنويه بمقامه ومكانته.
ونسبت المعاهدة بقوله: عاهَدْتُمْ للمؤمنين لأنهم هم الذين ينفذون أحكام المعاهدات، مع أن الرّسول صلّى الله عليه وآله وسلم هو الذي عقد العهد بوصفه قائد الأمّة. قال الجصّاص: البراءة: هي قطع الموالاة، وارتفاع العصمة، وزوال الأمان.
100
براءة إلى أهل العهد المشركين، وهم أهل مكة وخزاعة ومدلج ومن كان له عهد أو غيرهم من العرب، أي إن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين، وأنه منبوذ إليهم لأنهم ما عدا ناسا منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة نكثوا العهد، فنبذ العهد إلى الناكثين، وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاؤوا، لا يتعرض لهم.
وقوله: فَسِيحُوا عدول من الخبر إلى الخطاب، أي قل لهم: سيحوا، أي سيروا في الأرض آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين. وتبيّن بالآية أن هذه البراءة وهذا النّبذ إليهم، إنما هي بعد أربعة أشهر، وأن عهد المعاهدين باق إلى آخر هذه المدّة «١».
وحددت لهم هذه المدّة ليفكروا في أمرهم، فيختاروا إما الإسلام وإما القتال، ولتكون لديهم فرصة للاستعداد للقتال، إذا أصرّوا على شركهم وعداوتهم. وهذا منتهى التّسامح والإنذار، حتى لا يتهم المسلمون بأخذهم فجأة على غرّة.
والأربعة الأشهر في رأي السيوطي هي: شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرّم لأنه روي عن الزّهري: أن براءة نزلت في شوال.
وقال آخرون كالزّمخشري والرّازي والقرطبي وابن كثير: هي الأشهر الحرم في قوله: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ وذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل والقتال فيها، وهي عشرون من ذي الحجة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر، وهذا هو القول الأصحّ في تقديري
لأن الإمام علي رضي الله عنه قرأ أوائل سورة براءة على الناس يوم النّحر في منى.
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٧٧
101
وليس المراد بالأشهر الأربعة هي الأشهر الحرم المعروفة، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم ورجب كما ارتأى ابن جرير نقلا عن ابن عباس لأن ذلك مخلّ بالنّظم القرآني، مخالف للإجماع لأن حرمة هذه الأشهر قد نسخت، ومثل هذا القول يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم. وإنما المراد أشهر التّسيير الأربعة المذكورة آنفا.
والحكمة في إعطاء براءة لعليّ رضي الله عنه لتبليغها: أن براءة تضمّنت نقض العهد الذي كان عقده النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وكانت سيرة العرب ألا يحلّ العقد إلا الذي عقده، أو رجل من أهل بيته، فأراد النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يقطع ألسنة العرب بالحجة، ويرسل ابن عمه الهاشمي من بيته ينقض العهد، حتى لا يبقى لهم متكلّم.
وتضمّنت الآية جواز قطع العهد بيننا وبين المشركين، وذلك في حالتين:
حالة انقضاء مدّة المعاهدة، فنؤذنهم أي نخبرهم بالحرب، وحالة نقض العهد منهم، أو خوف الغدر منهم، فننبذ إليهم عهدهم.
ثم قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ... أي واعلموا علم اليقين أنكم لن تفلتوا من عذاب الله بالهرب والتّحصن إن بقيتم على شرككم وعداوتكم، وإن أمهلكم، وهو مخزيكم أي مذلّكم في الدّنيا بالقتل، والآخرة بالعذاب في النّار، كما قال تعالى في مشركي مكة وأمثالهم: كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [الزّمر ٣٩/ ٢٥- ٢٦].
وبعد أن أعلن الله براءته من المشركين، أمر بإعلان هذه البراءة للناس قاطبة، فقال: وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ... أي وإعلام من الله ورسوله بالبراءة من عهود المشركين إلى الناس جميعا، يوم الحجّ الأكبر وهو يوم النّحر الذي تنتهي
102
فيه فرائض الحجّ، وأفضل أيام المناسك، ويجتمع فيه الحجاج في منى لإتمام مناسكهم.
فليس بين البراءتين تكرار لأن البراءة الأولى مختصة بالمعاهدين والنّاكثين العهد منهم، وأما الأذان بالبراءة فعام لجميع الناس، من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث من المعاهدين، ومن لم ينكث.
وسمّي الأكبر لأنه حجّ فيه أبو بكر، ونبذت فيه العهود. ويوم الحجّ الأكبر في رأي ابن عباس في رواية عنه، وابن مسعود وابن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة، وهو مذهب مالك: هو يوم النّحر لأن يوم النّحر فيه الحجّ كله لأن الوقوف بعرفة في ليلته، والرّمي والنّحر والحلق والطّواف في صبيحته.
وهو في رأي عمر وعثمان، وابن عباس في رواية أخرى، وطاوس ومجاهد، ومذهب أبي حنيفة والشافعي: يوم عرفة
لحديث مخرمة أنّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «يوم الحج الأكبر: يوم عرفة».
وروي عن عطاء ومجاهد: الحجّ الأكبر الذي فيه الوقوف بعرفة، والأصغر: العمرة. أي أنّ العمرة تسمّى الحجّ الأصغر.
وكان علي هو المخبر بنقض العهد، مع بقاء إمارة الحج لأبي بكر، كما تقدّم، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «بعثني أبو بكر في تلك الحجّة في مؤذنين بعثهم يوم النّحر يؤذّنون بمنى: ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان» ثم أردف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعلي بن أبي طالب، وأمره أن يؤذّن ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.
ثم أكّد الله تعالى الاعلام أو التّبليغ الفوري فقال: فَإِنْ تُبْتُمْ... أي قولوا لهم: فإن تبتم عن الشرك فهو خير لكم، أي أنفع لكم في الدّنيا والآخرة.
103
وإن توليتم عن الإيمان، وأعرضتم عن الإسلام، فاعلموا أنكم غير معجزي الله، أي فائتي عذابه، فلن تفلتوا منه، فإنه محيط بكم، ومنزل عقابه عليكم، ولا طاقة لكم بحربه في الدّنيا، ووعده لرسله وللمؤمنين بالنّصر عليكم.
وبشّر أيها الرّسول من أنكر رسالتك، ولم يؤمن بالله وملائكته بعذاب مؤلم شديد الألم في الآخرة. وهذا أسلوب تهكّمي واستهزاء إذ استخدم البشارة بالسّوء محل الإنذار.
ثم استثنى الله تعالى من مدّة التّأجيل بأربعة أشهر لأصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة: من له عهد مؤقت، فأجله إلى انتهاء مدة عهده التي عوهد عليها، فقال: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ... أي إن الإخبار بنقض العهد يسري على جميع المشركين إلا المعاهدين الذين عاهدتموهم، ثم لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد، ولم يظاهروا- يعاونوا- عليكم عدوا، كبني ضمرة وبني كنانة فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ وإن كانت أكثر من أربعة أشهر، بشرط ألا ينقض المعاهد عهده، ولم يظاهر على المسلمين أحدا، أي يمالئ عليهم من سواهم، فهذا الذي يوفى له بذمّته وعهده، وأكّد تعالى وجوب الوفاء بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي الموفين بعهدهم.
قال ابن عباس: بقي لحي من كنانة من عهدهم تسعة أشهر، فأتمّ إليهم عهدهم.
وهذا دليل قاطع على حرمة المعاهدات في الإسلام، وأن الوفاء بالعهد من فرائض الإسلام ما دامت مدّة المعاهدة قائمة، وأن العهد المؤقّت لا ينقض إلا بانتهاء وقته، وأن مراعاة شروط المعاهد من مظاهر التّقوى ومشتملاتها.
104
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يلي:
١- نقض معاهدات المشركين المطلقة غير المؤقّتة بزمن لأنهم نكثوا العهد وأخلّوا بشروط التّعاهد.
٢- من كان له عهد دون أربعة أشهر، تكمل له مدّة أربعة أشهر.
٣- مدة الأمان وحريّة الانتقال والتّأمل في المصير، إما باعتناق الإسلام أو بالدّخول في القتال: هي أربعة أشهر، تبدأ بعد عيد الأضحى أو يوم النحر، وتنتهي في عاشر شهر ربيع الآخر سنة عشر. وهي دليل واضح على حرص الإسلام على تسوية العلاقات الخارجية مع الأعداء على أساس من السّلم والأمن والتّفاهم.
٤- من كان له عهد مؤقّت، فيبقى على عهده إلى انتهاء مدّته، مهما كان، ما لم ينقض العهد، أو يخلّ بشرط من شروطه.
٥- الإسلام يقدّس العهود ويوجب الوفاء بها ويجعل احترامها نابعا من الإيمان، وملازما لتقوى الله تعالى.
٦- لن يعجز الله أحد من الكفار ولن يفوت من العقاب في الدّنيا، وللكافرين عذاب أليم في الآخرة، كيلا يظن أحد أنّ عذاب الدّنيا لما فات وزال، فقد تخلّص من العذاب، بل العذاب الشّديد معدّ له يوم القيامة.
٧- إن افتتاح السورة بالبراءة وبدون بسملة يدخل في النّفس الرّهبة الشّديدة والخوف الأشدّ.
٨- لا يأس في شرعة القرآن، فقد فتح الله باب التوبة والأمل أمام الكفار، وهددهم بالعذاب إن تولوا عن الإسلام.
105
فرضية قتال مشركي العرب في أي مكان وجدوا
[سورة التوبة (٩) : آية ٥]
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
الإعراب:
كُلَّ مَرْصَدٍ إما منصوب بتقدير حذف حرف الجرّ، أي على كل مرصد وهو المنصوب بنزع الخافض، وإما منصوب على الظرف.
البلاغة:
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فيه استعارة، شبّه انقضاء الشّهر بالانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده.
المفردات اللغوية:
فَإِذَا انْسَلَخَ خرج وانقضى، شبّه مضي الزّمان بانسلاخ الجلد المحيط بالشّاة، لانتهاء تعلقه به. الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ جمع حرام، وهي آخر مدّة التّأجيل، وهي الأشهر التي أبيح للناكثين أن يسيحوا في الأرض، ويحرّم فيها قتالهم، وهي يوم النّحر إلى العاشر من ربيع الآخر، كما تقدّم.
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في حلّ أو حرم. وَخُذُوهُمْ أي أسروهم، والأخيذ: الأسير.
وَاحْصُرُوهُمْ امنعوهم من الخروج والتّنقل في البلاد، واحبسوهم وحاصروهم في القلاع والحصون حتى يضطروا إلى القتل أو الإسلام. وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أي اقعدوا لهم على كل مرصد، أي ممرّ وطريق يجتازونه في أسفارهم.
فَإِنْ تابُوا من الكفر. فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ اتركوهم ولا تتعرّضوا لهم. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن استغفره وتاب، يستر ذنوبه، ويرحم شأنه.
106
المناسبة:
هذه الآية مفرعة على ما قبلها، فبعد أن أعلن تعالى البراءة من عهود المشركين، وأعطاهم مهلة أمان، أربعة أشهر، ذكر ما يجب على المؤمنين فعله:
وهو قتالهم في أي مكان في الحلّ أو الحرم.
التفسير والبيان:
هذه هي آية السّيف، إذ جاء الأمر فيها بالقتال، ومعناها: إذا انقضت الأشهر الأربعة الحرم التي حرم فيها القتل والقتال بين المسلمين والمشركين، من يوم النّحر إلى العاشر من ربيع الآخر، على الرّاجح لدى المفسّرين، وأجلناهم فيها، فافعلوا معهم ما يحقق المصلحة الحربية التي ترونها من اتّخاذ أحد التدابير الآتية:
أن تقتلوهم في أي مكان وجدوا فيه، من حلّ أو حرم.
أو تأخذوهم أسرى إن شئتم، والأسر إنما يكون للقتل أو الفداء أو المنّ على ما يراه الإمام.
أو تحاصروهم في مواقعهم من القلاع والحصون، وتمنعوهم من الخروج حتى يسلموا، ويرضخوا لما تملونه عليهم من الشروط، إلا أن تأذنوا لهم، فيدخلوا إليكم بأمان.
أو تقعدوا لهم في كل مرصد، أي تراقبوهم في كل موضع أو طريق أو ممرّ يجتازونه في أسفارهم، حتى تضطروهم إلى الإسلام أو القتل، وحتى تملؤوا قلوبهم خوفا ورهبة منكم. والمرصد: الموضع الذي يرقب فيه العدو، وهو موضع الغرّة والمباغتة.
107
فإن تابوا عن الكفر أو الشرك الذي حملهم على قتالكم وعداوتكم، ودخلوا في الإسلام بأن أعلنوا الشّهادتين، وأقاموا حدوده، والتزموا أركانه، من إقامة الصلاة، وإيتاء الزّكاة، فخلّوا سبيلهم، واتركوهم وشأنهم، واعلموا أن الله غفور لمن استغفره، رحيم بمن تاب إليه.
وقد نبّه على إقامة الصّلاة التي هي حقّ الله عزّ وجلّ بعد أداء الشّهادتين لأنها أشرف أركان الإسلام بعد الشّهادتين، وبعدها أداء الزّكاة التي هي أشرف الأفعال المتعلّقة بالمخلوقين، وتؤدّي إلى تحقيق التّكافل الاجتماعي في الإسلام، وتساهم في حلّ مشكلة الفقر، ونفع الفقراء، ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزّكاة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآية على ما يأتي:
١- وجوب قتال المشركين العرب حتى يسلموا إذ لا يقبل منهم باعتبارهم حملة رسالة الدّعوة الإسلامية إلى العالم إلا الإسلام أو القتل.
٢- إنّ إقامة الصّلاة أو إيتاء الزّكاة دليل على الإسلام، وأنهما يعصمان الدّم والمال، ويوجبان لمن يؤدّيهما حقوق المسلمين من حفظ دمه وماله إلا بحق الإسلام، كارتكاب ما يوجب القتل من قتل النفس البريئة، وزنى الزّاني المحصن، والرّدّة إلى الكفر بعد الإيمان،
قال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود وغيره: «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس».
وروى الشّيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال- وهو حديث متواتر-: «أمرت أن أقاتل الناس- أي مشركي العرب
108
بالإجماع- حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا رسول الله، ويقيموا الصّلاة، ويؤتوا الزّكاة، فإذا فعلوا ذلك، عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلّا بحقّ الإسلام، وحسابهم على الله».
واشتراط الأمور الثلاثة للتّحقق من إسلام المشركين لأن النّطق بالشّهادتين يدلّ على ترك عبادة غير الله، وطاعة الرّسول فيما يبلّغه عن ربّه، وإقامة الصّلاة خمس مرات في اليوم والليلة، أمارة على الانخراط في سلك الرّابطة الدّينية الاجتماعية بين المسلمين، وأداء الزّكاة دليل على احترام النّظام المالي الاجتماعي في الإسلام.
٣- احتجّ الشّافعي بهذه الآية على أنّ تارك الصّلاة يقتل لأنه تعالى أباح دماء الكفار بجميع الحالات، ثم حرّمها عند مجموع هذه الثلاثة: وهي التوبة عن الكفر، وإقامة الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، فإذا لم يوجد هذا المجموع، وجب أن يبقى إباحة الدّم على الأصل.
ورأى الجصّاص الحنفي أن المراد من قوله تعالى: وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ قبول لزومهما والتزام فرضهما دون فعلهما «١».
٤- نقل عن أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه أنه كان يقول في مانعي الزّكاة:
«لا أفرّق بين ما جمع الله» وقال أيضا: «لأقاتلنّ من فرّق بين الصّلاة والزّكاة فإن الزّكاة حقّ المال». وقال ابن عباس: رحم الله أبا بكر ما كان أفقهه.
ولا خلاف بين المسلمين أن من ترك الصّلاة وسائر الفرائض مستحلّا كفر، ومن ترك السّنن متهاونا فسق، ومن ترك النّوافل لم يحرج إلا أن يجحد فضلها
(١) أحكام القرآن: ٣/ ٨١- ٨٢
109
فيكفر لأنه يصير رادّا على الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ما جاء به وأخبر عنه «١».
واختلف العلماء فيمن ترك الصّلاة كسلا من غير جحد لها ولا استحلال فقال مالك والشّافعي: من آمن بالله، وصدّق المرسلين، وأبى أن يصلّي قتل.
وقال أبو حنيفة: يسجن ويضرب، ولا يقتل لأنه إذا زال حكم القتل بزوال سمة الشّرك، فالحصر والحبس باق لترك الصّلاة ومنع الزّكاة، فمن ترك الصّلاة ومنع الزّكاة حبسه الإمام، فاستفيد الحبس من الآية.
٥- هذه الآية دالّة على أنّ من قال: قد تبت، أنه لا يجتزأ بقوله حتى ينضاف إلى ذلك أفعاله المحقّقة للتّوبة لأن الله عزّ وجلّ شرط هنا مع التّوبة إقامة الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، ليحقّق بهما التّوبة. وقال في آية الرّبا: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ [البقرة ٢/ ٢٧٩]، وقال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا [البقرة ٢/ ١٦٠].
٦- قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ عام في كل مشرك وفي كل من كفر بالله، كما ذكر ابن العربي، لكن السّنّة خصّت منه المرأة والصّبي والرّاهب، وخصّ من القتل المثلة للنّهي عنها في السّنّة، وعن قتل الصّبر بالنّبل ونحوه،
وقال النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو داود وابن ماجه عن ابن مسعود: «أعفّ الناس قتلة: أهل الإيمان»
وقال فيما رواه الجماعة عن شدّاد بن أوس: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة».
والمراد بالآية: اقتلوا المشركين الذين يحاربونكم «٢». فيقتل مشركو العرب أو يسلموا. وخصّت الآية أيضا بأهل الكتاب بإقرارهم على الجزية فيخيرون بين الإسلام أو الجزية أو القتل، كما سيأتي في آية: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة ٩/ ٢٩]
(١) تفسير القرطبي: ٨/ ٧٤.
(٢) أحكام القرآن لابن العربي: ٢/ ٨٨٩
110
وفي حديث بريدة الذي رواه مسلم: «إذا لقيتم المشركين فادعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا فادعوهم إلى أداء الجزية، فإن فعلوا فخذوا منهم وكفوا عنهم»
وهذا الحديث وإن كان عامّا في سائر المشركين إلا أنه استثني منه مشركو العرب بالآية.
وصار قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ خاصّا في مشركي العرب دون غيرهم «١».
٧- دلّ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ على أنه يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.
مشروعيّة الأمان
[سورة التوبة (٩) : آية ٦]
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦)
الإعراب:
وَإِنْ أَحَدٌ: ارتفع أَحَدٌ بفعل الشرط المقدر الذي دلّ عليه الظاهر وفسّره، تقديره: وإن استجارك أحد، ولا يرتفع بالابتداء لأن إِنْ من حروف الشرط، لا تدخل إلا على الفعل، فوجب تقديره، فارتفع الاسم بعده لأنه فاعله.
المفردات اللغوية:
اسْتَجارَكَ طلب جوارك، أي حمايتك وأمانك واستأمنك من القتل. فَأَجِرْهُ أمّنه. كَلامَ اللَّهِ أي القرآن. مَأْمَنَهُ مكان أمنه، وهو مسكنه الذي يأمن فيه، أو دار قومه، إن لم يؤمن، لينظر في أمره. ذلِكَ المذكور. بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ الإسلام أو دين
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٨١ [.....]
111
الله وحقيقته، فلا بدّ لهم من إعطاء الأمان، لسماع القرآن، وفهم الحقّ، ليعلموا، ولا يبقى لهم معذرة.
المناسبة:
بعد أن أوجب الله تعالى قتال المشركين بعد مهلة الأمان التي هي أربعة أشهر حرم، لنقضهم العهود، أبان تعالى أن المطالبة بالإسلام أو القتل لا يعني عدم تمكين المشركين من سماع أدلّة الإيمان، فلو طلب أحد من المشركين الدّليل والحجّة، أو جاء طالبا استماع القرآن، فإنه يجب إمهاله، ويحرم قتله، ويجب إيصاله إلى مأمنه، ليكون على بيّنة وعلم من أمره.
التّفسير والبيان:
بالرّغم من نزول آية السّيف الشّديدة الوطأة على مشركي العرب، ونظرا لأن الإسلام يحرص على نشر دعوته بالوسائل السلمية، وبالإقناع والحجة والبرهان، وأنه ليس الهدف من تشريع الجهاد سفك الدّماء، وإنما المهم الوصول إلى الإيمان وترك الجحود، وقبول الدّين والإقرار بالتّوحيد، بالرّغم من كلّ ذلك وتقديرا لأسباب مشروعية القتال، وتأكيد الحرص على السّلام، أرشد الله المؤمنين إلى وجوب قبول الأمان ومنحه لمن استأمن المسلم من المشركين.
والمعنى: وإن جاءك أحد من المشركين الذين نقضوا العهد بعد انقضاء مهلة السياحة في الأرض بحرية مطلقة وهي الأشهر الأربعة، يطلب الأمان ليسمع كلام الله ويتدبّره، ويفهم حقيقة الدّين والأمر، فيجب تأمينه وحمايته حتى يصل إلى غايته، ويحرم قتله والتّعدّي عليه.
ومتى أراد العودة لبلاده يجب منحه الأمان حتى يصل إلى وطنه الذي يأمن فيه أو داره وبلاده ومأمنه، ثم قاتله بعدئذ إن شئت من غير غدر ولا خيانة.
112
وهذا الحكم ثابت في كلّ وقت، قال الحسن رضي الله عنه: هي محكمة إلى يوم القيامة.
وعن سعيد بن جبير: جاء رجل من المشركين إلى علي رضي الله عنه فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله، أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال: لا لأن الله تعالى يقول: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ.
وروي عن السّدّي والضّحّاك رضي الله عنهما: هي منسوخة بقوله تعالى:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ. وردّ القرطبي: والصّحيح أن الآية محكمة، بدليل ما قاله الإمام علي رضي الله عنه فيما رواه عنه ابن جبير من الكلام السابق.
ثم قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ يعني أن ذلك التّسامح المفهوم من الأمر بإجارة المستجير في قوله تعالى: فَأَجِرْهُ وإبلاغه مأمنه، بسبب أن هؤلاء المشركين قوم جهلة، لا يعلمون حقيقة الإسلام وما يدعو إليه، ومن جهل شيئا عاداه، فلا بدّ من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق.
وبناء عليه كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يعطي الأمان لمن جاءه مسترشدا أو حاملا رسالة، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرّسل من قريش، منهم عروة بن مسعود، ومكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو وغيرهم، واحدا بعد واحد، يتردّدون في القضيّة بينه وبين المشركين، فرأوا من إعظام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ما بهرهم، وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر، فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك. وكان ذلك من أكبر أسباب هداية أكثرهم.
ولما قدم رسولا مسيلمة الكذّاب على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال لهما: أتشهدان أن مسيلمة رسول الله؟ قالا: نعم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود عن نعيم بن مسعود: «والله لولا أنّ الرّسل لا تقتل، لضربت أعناقكما».
والآية تفيد عموم حكم الأمان لأهداف دينيّة أو سياسيّة أو تجاريّة، قال
113
ابن كثير: والغرض أنّ من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أمانا، أعطي أمانا، ما دام متردّدا في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه «١».
ونص الحنفيّة والشافعيّة وغيرهم على أن الحربي إذا دخل دار الإسلام مستجيرا لغرض شرعي كسماع كلام الله، أو دخل بأمان للتّجارة، وجب تأمينه وحماية نفسه وماله، إلى أن يبلغ داره التي يأمن فيها، فإن دخل الحربي دار الإسلام بلا أمان، كان مغنوما مع ماله. وقال ابن العربي: الآية إنما هي فيمن يريد سماع القرآن والنّظر في الإسلام، فأما الإجارة لغير ذلك فإنما هي لمصلحة المسلمين ومنفعتهم «٢».
ولا يقتصر الأمر على مجرد كون المستجير طالبا لسماع القرآن، كما صرّحت الآية، وإنما يلحق به كونه طالبا لسماع الأدلّة على كون الإسلام حقّا، وكونه طالبا الجواب عن الشّبهات التي عنده لأن كلّ هؤلاء يطلبون العلم ويسترشدون عن الحقّ.
والمراد بالسّماع: أن يسمع ما تقوم به الحجّة، ويتبيّن به بطلان الشّرك وحقيقة التّوحيد والبعث وصدق الرّسول في تبليغه عن الله، وكلّ ما يدلّ على أنّ الإسلام حقّ، سواء أكان سورة براءة أو جميع القرآن، أو غير ذلك من الأدلّة العقليّة والبراهين العلميّة.
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٣٧
(٢) أحكام القرآن: ٢/ ٧٩١
114
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآية ما يأتي:
١- مشروعيّة الأمان، أي جواز تأمين الحربي إذا طلبه من المسلمين، ليسمع ما يدلّ على صحّة الإسلام، وفي هذا سماحة وتكريم في معاملة الكفار، ودليل على إيثار السّلم.
٢- يجب علينا تعليم كلّ من التمس منّا تعلّم شيء من أحكام الدّين.
٣- يجب على الإمام حماية الحربي المستجير، وصون دمه وماله ونفسه من الأذى، ومنع التّعرّض له بأي شيء من ألوان الإيذاء.
٤- يجب على الإمام تبليغه مأمنه، أي وطنه وبلاده بعد قضاء حاجته، فلا يجوز تمكينه من الإقامة في دار الإسلام إلا بمقدار قضاء حاجته، عملا بالآية:
فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ»
، قال العلماء: لا يجوز أن يمكّن من الإقامة في دار الإسلام سنة، ويجوز أن يمكّن من إقامة أربعة أشهر «٢».
ونصّ الحنفيّة على أنه يجب على الإمام أن يأمره بالخروج متى انتهت حاجته، وأن يعلمه بأنه إن أقام بعد الأمر بالخروج سنة في دار الإسلام، صار ذميّا مواطنا، وتفرض عليه الجزية «٣».
٥- دلّ قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ على أن التّقليد في الدّين غير مقبول، وأنه لا بدّ من تكوين الاعتقاد والإيمان بالنّظر والاستدلال، بدليل إمهال الكفار وتأمينه وتبليغه مأمنه لسماع أدلّة الإيمان، فلا بدّ من الحجّة والبرهان.
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٨٤
(٢) تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٣٧
(٣) الجصاص، المرجع السابق.
115
٦- قوله تعالى: حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ دليل على أن كلام الله عزّ وجلّ مسموع عند قراءة القارئ لكلامه. ويدلّ عليه إجماع المسلمين على أنّ القارئ إذا قرأ فاتحة الكتاب أو سورة قالوا: سمعنا كلام الله. لكن ذلك كما قال ابن العربي بواسطة اللغات، وبدلالة الحروف والأصوات، أما القدوس فلا مثل له ولا لكلامه.
واستدلّ المعتزلة بهذه الآية على أنّ كلام الله الذي يسمعه كلّ الناس ليس إلا هذه الحروف والأصوات، وهذه ليست قديمة، فدلّ هذا على أنّ كلام الله محدث مخلوق غير قديم.
وأجابهم الرّازي بأن الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم، وإنما نسمع حروفا وأصواتا فعلها الإنسان. وهذا لا شكّ حادث، وأما الكلام الأصلي الصادر عن الله فهو قديم قدم الله تعالى.
وهل كلّ أمان من المسلم للحربي نافذ؟ لا شكّ أن أمان السّلطان جائز لأنه قائم للنّظر في مصالح الأمة وأحوالها، نائب عن الجميع في جلب المنافع والمضارّ. وأما أمان غير الخليفة فمختلف في بعض حالاته، فقال الجمهور: يجوز أمان الحرّ والعبد، والكبير والصّبي، والرّجل والمرأة
لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد والنسائي وأبو داود عن علي: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم».
وقال أبو حنيفة: لا أمان للعبد والمرأة والصّبي لأنه لا يسهم لهم في الغنيمة.
116
أسباب البراءة من عهود المشركين وقتالهم
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧ الى ١٠]
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠)
الإعراب:
كَيْفَ يَكُونُ كيف: محلها النصب على التشبيه بالظرف أو الحال. ويكون إما تامة أو ناقصة، وعهد: اسمها، وخبرها إما كَيْفَ أو لِلْمُشْرِكِينَ أو عِنْدَ اللَّهِ.
إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ هم المستثنون من قبل، ومحله النصب على الاستثناء، أو الجر على البدل أو الرفع على أن الاستثناء منقطع، أي ولكن الذين عاهدتم فاستقيموا لهم.
فَمَا اسْتَقامُوا ما: شرطية أو مصدرية.
وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ جملة الشرط حال، أي حالهم أنهم لا يراعوا حلفا.
المفردات اللغوية:
كَيْفَ يَكُونُ أي لا يكون، وهو استفهام في معنى الاستنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد وهم أعداء حاقدون. لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ وهم كافرون بالله ورسوله غادرون. إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يوم الحديبية وهم قريش المستثنون من قبل.
فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ أقاموا على العهد ولم ينقضوه. فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ على الوفاء بالعهد.
117
كَيْفَ يكون لهم عهد، تكرار لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، وحذف الفعل لكونه معلوما. وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يظفروا بكم ويغلبوكم. لا يَرْقُبُوا لا يراعوا، ومنه: فلان لا يرقب الله في أموره، أي لا ينظر إلى عقابه. إِلًّا الإل: الحلف، وقيل: القرابة، واشتقاق الإلّ بمعنى الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا، رفعوا به أصواتهم وشهروه، من الإل: وهو الجؤار.
وسميت به القرابة لأن القرابة عقدت بين الرجلين ما لا يعقده الميثاق. وَلا ذِمَّةً الذمة والذمام:
العهد، الذي يلزم من ضيّعه الذمّ. فاسِقُونَ المراد به هنا ناقضون للعهد والميثاق، متجاوزون ما يوجبه الصدق والوفاء. والعهد: ما يتفق طرفان من الناس على التزامه بينهما لمصلحتهما المشتركة، فإن أكداه بما يقتضي زيادة العناية بحفظه والوفاء به سمي ميثاقا، وإن أكداه باليمين خاصة سمي يمينا.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى براءة الله ورسوله من عهود المشركين، وإعلان الحرب عليهم بعد أربعة أشهر إلا من يستجير أو يستأمن لسماع كلام الله أو للرسالة أو للتجارة، أبان سبب البراءة من المشركين وإمهاله إياهم أربعة أشهر، ثم مناجزتهم بكل أنواع القتال، وهو نقضهم العهود ومعاملتهم بالمثل.
التفسير والبيان:
كيف يكون للمشركين الناكثين للعهد عهد محترم عند الله وعند رسوله؟
وهذا استفهام بمعنى الإنكار والاستبعاد لأن يكون لهم عهد، وهم في الواقع أعداء الداء حاقدون مضمرون الغدر، مشركون بالله، كافرون به وبرسوله، يعني محال أن يثبت لهم عهد، فلا تطمعوا في ذلك. وهذا بيان حكمة البراءة وسببها.
ثم استدرك واستثنى الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، وهم بنو بكر وبنو ضمرة الذين لم ينقضوا عهودهم المعقودة معهم يوم الحديبية، أي ليس العهد إلا لهؤلاء الذين لم ينقضوا ولم ينكثوا، وهم المستثنون من قبل في قوله: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً.
118
والمراد بالمسجد الحرام: جميع الحرم كما هي عادة القرآن، إلا ما استثني، فالعندية فيه على حذف مضاف أي قرب المسجد الحرام.
فهؤلاء حكمهم أنهم ما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، أي فما أقاموا على الوفاء بعهدكم، فأقيموا لهم على مثل ذلك. فأما من لا عهد له فقاتلوه حيث وجدتموه إلا أن يتوب. وهو كقوله: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ غير أن الكلام هنا مطلق، والآية النظير مقيدة. وأعيد ذكرهم هنا لبيان أنه يجب أن تكون الاستقامة على العهد مرعية من الطرفين المتعاقدين إلى نهاية المدة، وأما غيرهم فينبذ عهدهم.
ثم أكد الله تعالى ضرورة الوفاء لهم بالعهد بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي يرضى عن الذين يوفون بالعهد، ويتقون الغدر ونقض العهد. وهذا تعليل لوجوب الامتثال، وتبيين بأن مراعاة العهد من باب التقوى، وإن كان المعاهد مشركا.
ثم كرر الله تعالى قوله: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا لاستبعاد ثبات المشركين على العهد، أي كيف يكون لغير الذين يوفون بعهدهم عهد مشروع محترم واجب الوفاء عند الله وعند رسوله؟ والحال أنهم إن يظفروا بكم، لم يراعوا حلفا ولا قرابة ولا عهدا. وهذا تحريض للمؤمنين على معاداتهم والتبري منهم، وتبيان أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد، لشركهم بالله تعالى وكفرهم برسوله، ولأنهم إن تغلبوا على المسلمين لم يبقوا ولم يذروا، ولا يراعوا فيهم إلّا ولا ذمة أي حلفا وعهدا.
ومن خبثهم وضغينتهم أنهم قوم مخادعون يظهرون الكلام الحسن بأفواههم، وقلوبهم مملوءة حقدا وحسدا وكراهية: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح ٤٨/ ١١] وأكثرهم فاسقون أي متمردون لا عقيدة تزعهم ولا مروءة تردعهم،
119
خارجون من أصول الدين والمروءة والأخلاق، متجاوزون حدود الصدق والوفاء، متحللون من قيود العهد والميثاق. وقال: أَكْثَرُهُمْ لأن نقض العهد كان من الأكثرين، وهناك أقلية حافظت على الوفاء بالعهد، استثناهم تعالى وأمر بالوفاء بعهدهم.
ثم ذكر تعالى سببين آخرين للبراءة والقتال وهما:
١- إنهم اشتروا أي اعتاضوا واستبدلوا بآيات الله الدالة على الحق والخير والتوحيد ثمنا قليلا حقيرا من متاع الدنيا، وهو اتباع الأهواء والشهوات، والالتهاء بأمور الدنيا الخسيسة، فصدوا عن سبيله، أي عدلوا بسبب هذا الشراء الخسيس أنفسهم عن الإسلام وأخلاقه، وصرفوا أيضا غيرهم عنه، فمنعوا الناس من اتباع الدين الحق، إنهم ساء ما كانوا يعملون، أي بئس العمل عملهم، وقبح ما ارتضوه لأنفسهم من الكفر والضلالة والصدّ عن دين الله، بدلا من الإيمان والهدى، واتباع شرع الله. روي أن أبا سفيان لما أراد إقناع قريش وحلفائها بنقض عهد الحديبية، صنع لهم طعاما استمالهم به، فأجابوه إلى ما طلب.
٢- وهم من أجل كفرهم لا يراعون في شأن مؤمن قدروا على الفتك به حلفا ولا قرابة ولا عهدا على الإطلاق، وأولئك هم المعتدون، أي المجاوزون الغاية في الظلم والشر، فهم لا يفهمون بغير لغة السيف، والخضوع للقوة لا للعهد والذمة، وقد أثبت التاريخ أنهم كذلك في الواقع. وقد أجمل القرآن صفاتهم بأنهم أولا هم الفاسقون، وثانيا بأنهم المعتدون، فكيف يحترمون العهود؟
وقوله هنا: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ليس تكرارا لأن الأول لجميع المشركين، والثاني لليهود خاصة، بدليل قوله: اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني اليهود، فلو أريد بالثاني المشركون كان تكرارا للتأكيد والتفسير.
120
فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت الآيات أسباب البراءة من المشركين وحكمة الأمر بقتالهم بعد مهلة الأربعة الأشهر: وهي أنهم نقضوا العهد، ولا يرعون في المؤمنين إلّا ولا ذمة أي حلفا وقرابة وعهدا وأمانا، ومخادعون يقولون بألسنتهم ما يرضي في الظاهر وقلوبهم تغلي حقدا وحسدا وكراهية، وأكثرهم فاسقون في دينهم وعند أقوامهم، مما يوجب المبالغة في الذم، أي ناقضون العهد، وأنهم استبدلوا بالقرآن متاع الدنيا، ومنعوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله: سبيل التوحيد والحق والخير، وأنهم معتدون، أي مجاوزون الحلال إلى الحرام بنقض العهد.
واستفيد من الآيات بالنسبة للمؤمنين: أن العهد المحترم عند الله وعند الرسول هو عهد غير الناكثين، وأن من استقام على عهده نعامله بمقتضاه، ففي الحالين معاملة بالمثل، وأن مراعاة العهد وتنفيذ شروطه من تقوى الله التي يرضاها لعباده.
مصير المشركين إما التوبة وإما القتال
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١ الى ١٢]
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
الإعراب:
فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم، خبر لمبتدأ محذوف.
أَئِمَّةَ مفعول به، جمع إمام، وأصله «أأممة» على أفعلة، فألقيت حركة الميم الأولى على الهمزة الساكنة قبلها، وأدغمت الميم الأولى في الثانية، وأبدل من الهمزة المكسورة ياء مكسورة.
121
لا أَيْمانَ لا نافية للجنس، وأَيْمانَ: اسمها، وهي جمع يمين، أي لا عهود لهم. وتقرأ بالكسر، أي لا إيمان، وهو مصدر بمعنى التصديق تأكيدا لقوله تعالى: أَئِمَّةَ الْكُفْرِ وإما مصدر أمنته إيمانا من الأمن، لئلا يكون تكرارا لقوله: أَئِمَّةَ الْكُفْرِ.
البلاغة:
فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ وضع أئمة الكفر موضع الضمير، للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرياسة والتقدم في الكفر، أحقّاء بالقتل. وقيل: المراد بالأئمة: رؤساء المشركين، فالتخصيص لأن قتلهم أهم وهم أحق به.
المفردات اللغوية:
وَنُفَصِّلُ نبين. يَعْلَمُونَ يتدبرون. نَكَثُوا نقضوا العهد، وأصل النكث:
نقض الحبل. أَيْمانَهُمْ مواثيقهم. وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ عابوه. أَئِمَّةَ الْكُفْرِ رؤساء الكفر، فيه وضع الظاهر موضع الضمير. لا أَيْمانَ لا عهود. لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ عن الكفر.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى حال المشركين من أنهم لا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة، وينقضون العهد، ويضمرون النفاق، ويتعدون ما حدّ لهم، بيّن حالهم بعد ثبوت عداوتهم للإسلام، فهم بين أمرين: التوبة أو القتال.
التفسير والبيان:
هذا مصير الكفار المشركين بعد إعلان عداوتهم للإسلام، فهم بين أمرين:
أحدهما- التوبة الصادقة عن الكفر ونقض العهد والصدّ عن سبيل الله: أي إن تابوا عن شركهم بالله، وآمنوا بالله ربا واحدا لا شريك له، وأقاموا الصلاة، أي أدّوها بشروطها وأركانها باعتبارها عماد الدين، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم الدالة على التكافل بين المسلمين وصدق الاعتقاد، إن فعلوا ذلك فهم إخوانكم في
122
الدين، لهم مالكم، وعليهم ما عليكم. ووصفهم بالإخوة دليل على أن أخوة الدين أعلى وأخلد وأقوى من أخوة النسب. واستحقوا هذا الوصف بالأمور الثلاثة المتقدمة المتلازمة مع بعضها: وهي التوبة عن الكفر ونقض العهد، والإنابة إلى الله والإيمان به، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة.
وَنُفَصِّلُ الْآياتِ، أي نبين الأدلة والبراهين على وجودنا الحق، لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ما نبين لهم، فيفهمون ويتفقهون. وهذا اعتراض قصد به الحث على تأمل ما فصّل من أحكام المعاهدين، وعلى المحافظة عليها.
والثاني- القتال بعد نقضهم العهود: أي إن نقض هؤلاء المشركون ما أبرم معهم من عهود، وطعنوا في دينكم، أي عابوا القرآن والنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، واستهزءوا بالمؤمنين، كما كان يفعل شعراؤهم وزعماء الكفر فيهم، فهم أئمة الكفر وقادته ورؤساؤه، فقاتلوهم قتالا عنيفا، إنهم لا عهود لهم ولا ذمة لأنهم لما لم يفوا بها صارت كأن لم تكن، وذلك لتكون المقاتلة سببا في انتهائهم ورجوعهم عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال. وهذا من غاية كرم الله وفضله على الإنسان.
فقوله: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي عن كفرهم وباطلهم وإيذائهم المسلمين.
قال قتادة: أئمة الكفر كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف وآخرين.
وليس المراد بالآية هنا هؤلاء لأنها لما نزلت، كان هؤلاء قد قتلوا في بدر.
وخصّ الأئمة والسادة منهم بالذكر لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على الأعمال الباطلة.
وفيه دليل على أن الذمي إذا طعن في الإسلام، فقد نكث عهده، وعلى أن القتال ليس بقصد المنافع الدنيوية أو الغنائم، أو إظهار الاستعلاء، وحب السيطرة، وإرادة الانتقام، وإنما هو من أجل التمكين من قبول دعوة الإسلام وما الحرب إلا ضرورة يقتصر فيها على قدر الضرورة.
123
قال ابن كثير: والصحيح أن الآية عامة، وإن كان سبب نزولها مشركي قريش، فهي عامة لهم ولغيرهم «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
حضت الآية على التوبة الصادقة عن الشرك والتزام أحكام الإسلام، وعلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلا تفرقة بين هذه الأمور الثلاثة.
روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته، لا يشرك به، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، فارقها، والله عنه راض».
فإن أعرض المشركون عن قبول دعوة الإسلام وطعنوا في الدين، استحقوا القتل والقتال، وأصبحت عهودهم لا قيمة لها وكأنها لم تكن. وربما كان القتال سبيلا لقبول الإسلام، والتخلص من الوثنية والشرك.
واستدل أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ على أن يمين الكافر ليست يمينا، قال البيضاوي: وهو استدلال ضعيف لأن المراد نفي الوثوق عليها، لا أنها ليست بأيمان لقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ.
وعند الشافعي رحمه الله: يمينهم يمين، ومعنى هذه الآية عنده: أنهم لما لم يفوا بها، صارت أيمانهم كأنها ليست بأيمان. والدليل على أن أيمانهم أيمان: أنه تعالى وصفها بالنكث في قوله: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ولو لم يكن منعقدا، لما صحّ وصفها بالنكث.
واستدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدّين إذ هو كافر. والطعن: أن ينسب إليه ما لا يليق به، أو يعترض بالاستخفاف على
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٣٩
124
ما هو من الدين لما ثبت من الدليل القطعي على صحة أصوله واستقامة فروعه «١». وقال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على أن من سبّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عليه القتل. وممن قال ذلك: مالك والليث وأحمد وإسحاق، وهو مذهب الشافعي. وقد حكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يقتل من سبّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أهل الذمّة، وإنما يقتل بالحرابة والقتال.
وينتقض عهد الذمي إذا طعن في الدين في المشهور من مذهب مالك، وهو مذهب الشافعي لقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ فأمر بقتلهم وقتالهم.
وقال أبو حنيفة: إنه يستتاب ويعزر، وإن مجرد الطعن لا ينقض به العهد إلا مع وجود النّكث «٢» لأن الله عز وجل إنما أمر بقتلهم بشرطين: أحدهما- نقضهم العهد، والثاني- طعنهم في الدين. ورد الجمهور بأن ذكر الأمرين لا يقتضي توقف قتاله على وجودهما، فإن النكث يبيح لهم ذلك بانفراده عقلا وشرعا.
وإذا حاربنا الذمي نقض عهده، وكان ماله وولده فيئا معه.
وأكثر العلماء على أن من سبّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من أهل الذمة، أو عرّض، أو استخف بقدره، أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به، فإنه يقتل فإنا لم نعطه الذمة أو العهد على هذا.
ورأى أبو حنيفة والثوري أنه لا يقتل، ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدّب ويعزّر. والحجة عليهما قوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا الآية.
وقتل كعب بن الأشرف لإيذائه النبي وكان معاهدا.
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٢/ ٨٩٣
(٢) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٨٥
125
وإذا سبّه ثم أسلم تقيّة من القتل، يسقط إسلامه قتله في مشهور مذهب مالك لأن الإسلام يجبّ ما قبله، بخلاف المسلم إذا سبّه ثم تاب، قال الله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [الأنفال ٨/ ٣٨].
قال القرطبي في قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ: وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم دفع ضررهم، لينتهوا عن مقاتلتنا ويدخلوا في ديننا.
التحريض على قتال المشركين الناكثين أيمانهم وعهودهم
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٣ الى ١٥]
أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥)
الإعراب:
فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ: فيه ثلاثة أوجه:
الأول- أن يكون فَاللَّهُ مبتدأ، وأَنْ تَخْشَوْهُ: بدل منه، وأَحَقُّ خبر المبتدأ.
الثاني- أن يكون فَاللَّهُ مبتدأ، وأَحَقُّ: خبره، وأَنْ تَخْشَوْهُ: في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، تقديره: فالله أحق من غيره بأن تخشوه، أي بالخشية.
الثالث- أن يكون فَاللَّهُ مبتدأ، وأَنْ تَخْشَوْهُ: مبتدأ ثان، وأَحَقُّ: خبر المبتدأ الثاني، والمبتدأ الثاني وخبره: خبر المبتدأ الأول.
126
البلاغة:
أَلا تحريض على القتال لأن الهمزة دخلت على النفي للإنكار، فأفادت المبالغة في الفعل. أَتَخْشَوْنَهُمْ استفهام للإنكار والتوبيخ.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ذكر لفظ الجلالة مكان الضمير لغرس الهيبة والرهبة في القلب.
المفردات اللغوية:
أَلا للحض. نَكَثُوا نقضوا. أَيْمانَهُمْ عهودهم. وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ من مكة، لما تشاوروا في شأنه بدار الندوة. وَهُمْ بَدَؤُكُمْ بالقتال. أَوَّلَ مَرَّةٍ حيث قاتلوا مع بني بكر خزاعة حلفاءكم، فما يمنعكم أن تقاتلوهم. أَتَخْشَوْنَهُمْ أتخافونهم. أَنْ تَخْشَوْهُ في ترك قتالهم.
يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ يقتلهم. وَيُخْزِهِمْ يذلهم بالأسر والقهر. وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ يعني خزاعة. غَيْظَ قُلُوبِهِمْ كربها، أي ويذهب الغيظ عنهم.
سبب النزول: نزول الآية (١٤) :
قاتِلُوهُمْ أخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت في خزاعة حين جعلوا يقتلون بني بكر بمكة. وأخرج عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية في خزاعة. وأخرج عن السدّي: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ قال: هم خزاعة حلفاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، يشف صدورهم من بني بكر.
المناسبة:
بعد أن قال الله تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أتبعه بذكر السبب الذي يبعث على مقاتلتهم، وهو نقضهم العهد، واعتداؤهم على المؤمنين، وبدؤهم لهم بالقتال، وهمهم بإخراج الرسول من بلده، وأما قتالهم فلأجل تطهير الجزيرة العربية من الشرك والوثنية.
127
التفسير والبيان:
هذا حض وتحريض على قتال المشركين الناكثين أيمانهم وعهودهم، وذلك لأسباب ثلاثة ذكرها الله تعالى في هذه الآية:
١- نكثهم العهد: إنهم نقضوا عهودهم التي أقسموا عليها. قال ابن عباس والسدي والكلبي: نزلت في كفار مكة الذين نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة. وهذا يدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار، ليكون ذلك زجرا لغيرهم.
والعهد الذي نقضوه: هو- كما تبين- صلح الحديبية، لمناصرة قريش حلفاءهم بني بكر على خزاعة حلفاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ليلا بالقرب من مكة، على ماء يسمى (الهجير). فسار إليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وفتح مكة سنة ثمان هجرية في العشرين من رمضان.
٢- إخراج الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم من مكة: فقد هموا بإخراج الرسول من مكة، أو حبسه حتى لا يراه أحد، أو قتله بيد عصابة من أفراد القبائل ليذهب دمه هدرا، كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ، أَوْ يَقْتُلُوكَ، أَوْ يُخْرِجُوكَ، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [الأنفال ٨/ ٣٠] وقال تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة ٦٠/ ١] وقال عز وجل: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ، لِيُخْرِجُوكَ مِنْها [الإسراء ١٧/ ٧٦].
٣- بدؤهم بالقتال: إنهم بدؤوا بقتال المؤمنين يوم بدر، حين قالوا بعد العلم بنجاة العير: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا ومن معه. وكذلك في أحد والخندق وغيرها.
128
وبعد أن ذكر الله تعالى هذه الأسباب الثلاثة التي تستدعي الإقدام على القتال زاد أربعة أخرى: أولها- تعداد موجبات القتال وتفصيلها، وثانيها- التحميس بالإغارة والتحريك، كما لو قال شخص لآخر: أتخشى خصمك وتخافه؟ وثالثها- كون الله أحق بالخشية لأنه صاحب القدرة المطلقة التي تدفع الضرر المتوقع وهو القتل، ورابعها- إن كنتم مؤمنين، فالإيمان قوة دافعة على الإقدام. فهذه أمور سبعة تبعث على مقاتلة أولئك الكفار الناكثين.
وبعد بيان هذه الأسباب أنكر الله تعالى عليهم الخشية من المشركين ووبخهم عليها، فقال: أَتَخْشَوْنَهُمْ؟ أي أبعد هذا تتركون قتالهم خشية وخوفا منهم؟ فإن كنتم تخشونهم، فالله أحق بالخشية، أي لا تخشوهم واخشون، فأنا أحق بالخشية منهم، إن كنتم مؤمنين بي، إذ شرط الإيمان الخوف من الله وحده دون سواه لأن بيده النفع والضرّ.
وفي هذا دلالة على أن المؤمن الذي يخشى الله وحده يجب أن يكون أشجع الناس وأجرأهم على القتال.
وبعد أن ذكر الله تعالى مسوغات القتال وحكمته، أمر به المؤمنين أمرا صريحا، فقال: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ... أي قاتلوهم أيها المؤمنون، وهذا عام في المؤمنين كلهم، فإن قاتلتموهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم بالقتل والأسر والهزيمة، وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين امتلأت غيظا من أفعال المشركين بهم في مكة، وهم بنو خزاعة حلفاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، كما قال مجاهد.
ويذهب غيظ قلوبهم أي قلوب هؤلاء المؤمنين على المشركين من غدرهم وظلمهم وشدة إيذائهم. أو يذهب غيظ قلوبكم لما لقيتم من شدة المكروه منهم. والفرق بين شفاء الصدور وإذهاب غيظ القلوب: أن الأول إحداث للسرور بتحقيق النصر الذي ينتظرونه بعد وعد الله لهم به، وأن الثاني: إزالة لآثار الواقع.
129
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة، فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديدا، فبعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يشكون إليه،
فقال: «أبشروا، فإن الفرج قريب».
ثم قال تعالى: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وهذا ابتداء كلام وإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره، وقد حدث ذلك فعلا، فأسلم أناس منهم وحسن إسلامهم، مثل أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسليم بن أبي عمرو.
والسبب في جعل هذه الجملة استئناف كلام جديد هو أن التوبة لا يكون سببها القتال إذ قد توجد بغير قتال لمن شاء الله أن يتوب عليه في كل حال.
والله عليم بما يصلح عباده، حكيم في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية، فيفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهو العادل الحكيم الذي لا يجور أبدا، ولا يفعل إلا ما اقتضته الحكمة، ويجازي كل إنسان على ما قدم من خير أو شر في الدنيا والآخرة.
وهذا دليل على أن من سنته تعالى تفاوت البشر في قابلية التحول من حال إلى حال بأسباب ومؤثرات تقتضيها المقادير الإلهية.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على أن قتال المشركين الناكثين العهد كان لأسباب كثيرة أهمها نقضهم العهد، والتصميم على طرد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من موطنه، أو حبسه أو قتله، وبدؤهم المؤمنين بالعدوان والقتال، إلى آخر الأسباب السبعة الداعية للقتال.
فبالرغم من التحريض على القتال بقوله تعالى: أَلا تُقاتِلُونَ فإنه تعالى أثار في المؤمنين روح الشجاعة والإقدام من طريق أنهم لا يخشون أحدا إلا الله، ومن إيمانهم الحق الصادق بالله، فإن من لا يخشى غير الله، وآمن بالله إيمانا
130
صادقا، هانت عليه الصعاب، وأقدم على المقاتلة بنفس متحمسة لا تعرف التردد والخوف والجبن.
ونقل عن ابن عباس أنه قال: قوله تعالى: أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً ترغيب في فتح مكة. وهذه الأوصاف مناسبة لفتح مكة.
وقال أبو بكر الأصم: دلت هذه الآية على أنهم كرهوا هذا القتال، لقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة ٢/ ٢١٦] فآمنهم الله تعالى بهذه الآيات.
ودلت هذه الآية على أن المؤمن ينبغي أن يخشى ربه، وألا يخشى أحدا سواه.
وتضمن قوله تعالى: وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ الإخبار بأن بعض المشركين يتوب عن كفره، وقد حدث ذلك فعلا، وهذا من معجزات القرآن، لتأييد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في دعوته، ودفع الناس إلى الإيمان برسالته، ما دام قد ظهر لهم صدقه.
فالآية دالة على المعجزة لأنه تعالى أخبر عن حصول هذه الأحوال، وقد وقعت موافقة لهذه الأخبار، فيكون ذلك إخبارا عن الغيب، والإخبار عن الغيب معجز.
وهذه الآية تدل على كون الصحابة مؤمنين في علم الله تعالى إيمانا حقيقيا لأنها تدل على أن قلوب الصحابة كانت مملوءة بالحمية لأجل الدين، والرغبة الشديدة في إعلاء شأن الإسلام «١».
وأرشدت الآية إلى خمس منافع من هذا القتال: وهي تعذيب المشركين
(١) تفسير الرازي: ١٦/ ٤
131
بأيدي المؤمنين بالقتل والأسر، وخزيهم وإذلالهم بعد قتلهم، وتحقيق النصر عليهم، وشفاء الصدور من انتظار الفتح الذي وعدهم الله به، وإذهاب غيظ القلوب.
اختبار المسلمين واتخاذ البطانة
[سورة التوبة (٩) : آية ١٦]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦)
الإعراب:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا: أن وصلتها: في موضع نصب بحسب، وسدت مع الصلة مسد المفعولين.
وَلَمَّا معناها التوقع.
وَلَمْ يَتَّخِذُوا معطوف على جاهَدُوا داخل في حيز الصلة، كأنه قيل: ولما يعلم الله المجاهدين منكم والمخلصين غير المتخذين وليجة من دون الله. والوليجة: الدخيلة.
البلاغة:
أَمْ منقطعة، ومعنى الهمزة فيها التوبيخ على وجود الحسبان.
المفردات اللغوية:
أَمْ بمعنى همزة الإنكار، والمعنى: أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلّص منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله، لوجه الله. وَلِيجَةً أي بطانة من قوم ليس منهم، والمراد هنا: من الذين يضادون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين رضوان الله عليهم. وَلَمَّا أي لم، ومعناها التوقع، أي إن تبين ذلك وإيضاحه متوقع كائن، وإن الذين لم يخلصوا دينهم لله، يميز بينهم وبين المخلصين. والمراد بقوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ نفي المعلوم الموجود لا نفي العلم. وقال السيوطي: المراد علم ظهور. والمعنى: ولم يظهر المخلصون وهم الموصوفون بما ذكر من غيرهم.
132
المناسبة:
كانت الآيات المتقدمة مرغبة في جهاد المشركين الناقضين العهد، وهذه الآية ترغيب جديد زائد عما سبق لتمييز المجاهدين المخلصين عن غيرهم.
التفسير والبيان:
الآية مرتبطة بما قبلها، والمعنى: ألا تقاتلون أولئك المشركين الذين نقضوا العهود واعتدوا عليكم إلى آخر الأسباب السبعة التي يوجب كل واحد منها الإقدام على القتال، أم حسبتم أيها المؤمنون أن تتركوا وشأنكم مهملين بغير اختبار بأمور يظهر فيها أهل العزم الصادق من الكاذب، من طريق الجهاد الذي يتبين فيه الخلّص من المجاهدين منكم بالأموال والأنفس، والذين لم يتخذوا بطانة من الكفار أولياء يسرّون إليهم بأحوال المسلمين وأمورهم وأسرارهم، بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله، ويتميزوا من المنافقين الذين يطلعون الولائج على أسرار الأمة وسياستها، وقد اكتفى بأحد القسمين عن الآخر، للعلم به ضمنا.
قال الجصاص: قوله: وَلَمْ يَتَّخِذُوا... وَلِيجَةً يقتضي لزوم اتباع المؤمنين وترك العدول عنهم، كما يلزم اتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وفيه دليل على لزوم حجة الإجماع، وهو كقوله: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ.. «١» [النساء ٤/ ١١٥].
والله خبير في كل وقت بأعمالكم، فيجازيكم عليها. ومن المعروف أن التكليف الشاق على الأنفس هو الذي يحقق الاختبار، ويظهر المخلص من المنافق.
وليس المقصود بقوله تعالى: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ نفي علم الله، وأنه تعالى- كما فهم هشام بن عبد الحكم من ظاهر الآية- لا يعلم الشيء إلا حال وجوده، وإنما المراد منه نفي المعلوم الموجود في الواقع وإظهاره على مسرح الحياة، ليكون
(١) أحكام القرآن: ٣/ ٨٧.
133
دليلا ملموسا على الناس يوم القيامة، يقصد منه أن يصدر الجهاد عنهم فعلا، ويظهر المجاهدون ويتميزوا عن المنافقين، بدليل قوله تعالى في آخر الآية:
وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي عالم، مطلع على كل شيء، محيط به علما، وما لا يعلم الله وجوده فلا وجود له.
ونظير الآية في الاختبار قوله تعالى: الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [العنكبوت ٢٩/ ١- ٣].
ونظير الآية في اتخاذ الوليجة أو البطانة قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ، لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا، وَدُّوا ما عَنِتُّمْ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران ٣/ ١١٨].
والخلاصة: أن الله تعالى لما شرع لعباده الجهاد، بيّن حكمته، وهي اختبار عبيده، من يطيعه ممن يعصيه، وهو تعالى قبل ذلك وبعده العالم بما كان، وما يكون، وما لم يكن.
فقه الحياة أو الأحكام:
تبين من الآية أن المكلف لا يتخلص من العقاب إلا بأمرين:
الأول- أن يعلم الله الذين جاهدوا منكم، عن طريق إظهارهم في الواقع، وتمييزهم بين الناس.
الثاني- أن يكون المجاهد مخلصا، باطنه وظاهره سواء، لا منافقا، باطنه خلاف ظاهره، وهو الذي يتخذ بطانة أو وليجة من المشركين، يخبرهم بأسرار المسلمين، ويعلمهم بأمورهم، فليس كل مجاهد مخلصا، وليس الغرض من إيجاب القتال القتال نفسه فقط، بل الغرض الإتيان به على وفق أمر الله وحكمه.
134
وتبين من الآية أيضا أن الله عالم بالنيات والأغراض، مطلع عليها، لا يخفى عليه منها شيء، فعلى الإنسان التركيز على أمر النية وجعلها خالصة لوجه الله تعالى.
عمارة المساجد
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٧ الى ١٨]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
الإعراب:
شاهِدِينَ حال من الواو في يَعْمُرُوا.
وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ إما عطف على جملة حَبِطَتْ على أنها خبر آخر لأولئك، وإما مستأنفة كجملة أُولئِكَ حَبِطَتْ وفائدتهما تقرير النفي السابق، الأولى: من جهة نفي استتباع الثواب، والثانية: من جهة نفي استدفاع العذاب.
أُولئِكَ عبر به للاستبعاد.
البلاغة:
وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ تخصيص الصلاة والزكاة بالذكر توضيح لأهميتهما وحث على القيام بهما.
المفردات اللغوية:
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ ما صح لهم وما استقام وما ينبغي لهم. أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ عمارة المسجد لغة: لزومه والإقامة فيه وعبادة الله فيه، وبناؤه وترميمه. وعمارة المساجد نوعان:
حسية، ومعنوية، فالحسية: بالتشييد والبناء والترميم والتنظيف والفرش والتنوير بالمصابيح والدخول إليها والقعود فيها، والمعنوية: بالصلاة وذكر الله والاعتكاف والزيارة للعبادة فيها، وذلك
135
يشمل العمرة، ومن الذكر: درس العلم، بل هو أجله وأعظمه وصيانتها مما لم تبن له المساجد من أحاديث الدنيا، فضلا عن فضول الحديث، كما قال الزمخشري. والمساجد فيها وجهان: أحدهما- أن يراد المسجد الحرام، وإنما قيل: مساجد لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها، فعامره كعامر جميع المساجد، ولأن كل بقعة منه مسجد. والثاني- أن يراد جنس المساجد، وتشمل المسجد الحرام، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها، فلأن لا يعمروا المسجد الحرام آكد. والمعنى: ما استقام للمشركين أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة متعبّدات الله، مع الكفر بالله وبعبادته. والمساجد في الأصل: جمع مسجد، وهو مكان السجود، ثم صار اسما للبيت المخصص للعبادة. ومن قرأ:
مسجد الله، فأراد به المسجد الحرام أشرف المساجد في الأرض.
شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ معنى هذه الشهادة: ظهور كفرهم، وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة، ويقولون: لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطا سجدوا لها. حَبِطَتْ بطلت. أَعْمالُهُمْ لعدم شرطها وهو الإيمان.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال العباس حين أسر يوم بدر: إن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحجاج، ونفكّ العاني (أي الأسير) فأنزل الله: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ الآية.
وفي رواية أخرى: قد أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر، فعيّروهم بالشرك، فطفق علي بن أبي طالب رضي الله عنه يوبخ العباس بقتال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وقطيعة الرحم، وأغلظ له في القول، فقال العباس: تذكرون مساوينا، وتكتمون محاسننا؟ فقال: أو لكم محاسن؟ قالوا: نعم، ونحن أفضل منكم أجرا، إنا لنعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، فنزلت «١».
والمراد أن الآية تضمنت الرد على العباس وأمثاله، لا أنها نزلت عقب قوله.
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ١٣٩، الكشاف: ٢/ ٣١
136
المناسبة:
بعد أن ذكر الله في أول السورة البراءة عن الكفار، وذكر أنواع فضائحهم وقبائحهم الموجبة تلك البراءة، احتجوا بأن هذه البراءة غير جائزة، وأنه يجب أن تكون المخالطة والمناصرة حاصلة لأنهم موصوفون بصفات حميدة وخصال مرضية، ومن جملتها كونهم عامرين للمسجد الحرام، كما ورد في سبب النزول.
وكذلك ناسب أن يذكر بعد نبذ العهود منع عبادة الشرك من المسجد الحرام، وإبطال حق المشركين في الإشراف عليه وخدمته، وذلك مناسب لنقض عهودهم.
التفسير والبيان:
ما ينبغي للمشركين بالله، وما صح لهم وما استقام أن يعمروا مساجد الله التي منها المسجد الحرام بالإقامة فيه للعبادة، أو للخدمة والولاية عليه، ولا أن يدخلوه حجاجا أو عمّارا، وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر، أي بشهادة الحال والمقال، بأن يعبدوا الأصنام، وأن يطوفوا بالبيت عراة، وكلما طافوا بالكعبة شوطا سجدوا لها. وقيل: هو قولهم: «لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك تملكه وما ملك» فهذه شهادتهم بالكفر ثابتة قولا وعملا، أما القول فهذا، وأما العمل فهو عبادة الأصنام.
فهم بهذا جمعوا بين الضدين، وبين أمرين متنافيين لا يعقل الجمع بينهما على وجه صحيح: عمارة بيت الله مع الكفر به.
أولئك المشركون بالله حبطت أعمالهم أي بشركهم، وبطلت فلا ثواب لهم، وهم في نار جهنم خالدون لعظم ما ارتكبوه أي ماكثون مقيمون إقامة خلود وبقاء، فإن الكفر محبط للعمل ولا ثواب لصاحبه في الآخرة، بدليل آيات كثيرة في القرآن الكريم منها: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
137
[الأنعام ٦/ ٨٨]، ومنها: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الزّمر ٣٩/ ٦٥] ومنها:
وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ، فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان ٢٥/ ٢٣].
وبعد أن نفى أهليتهم لعمارة المساجد، أبان من هم أهل لهذه المهمة، فقال:
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ... أي إنما يستحق عمارة المساجد وتستقيم منه العمارة، ويكون أهلا لها من اتصف بالإيمان بالله تعالى إيمانا صحيحا، على النحو المبيّن في القرآن من الإقرار بوجود الله والاعتراف بوحدانيته، وتخصيصه بالعبادة، والتوكل عليه، وآمن باليوم الآخر الذي يحاسب الله فيه العباد، ويجزي فيه بالثواب للمحسنين وبالعقاب للمسيئين، وأقام الصلاة المفروضة على الوجه المستكمل لأركانها وشروطها وتدبر تلاوتها وأذكارها، وخشوع القلب لله وخشيته، وآتى الزكاة لمستحقيها المعروفين كالفقراء والمساكين وأبناء السبيل، ولم يخش في قوله وعمله إلا الله وحده، دون غيره من الأصنام والعظماء الذين لا ينفعون ولا يضرون في الحقيقة، وإنما النفع والضر بيد الله. أما إنه لم يذكر الإيمان بالرسول فلأنه دل عليه ما ذكر من إقامة الصلاة وغيرها لأنه مما جاء به الرسول، فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إنما يصح من المؤمن بالرسول.
هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات هم الذين يقتصر عليهم عمارة المساجد الحسية بالبناء والتشييد والترميم، والمعنوية بالعبادة والأذكار وحضور دروس العلم، فلا يعمر بيوت الله غيرهم، وهؤلاء هم الذين يرجى بحق أن يكونوا من المهتدين إلى الخير دائما، وإلى ما يحب الله ويرضيه، المستحقون الثواب على أعمالهم، لا أولئك المشركون الضالون الذين يجمعون بين الأضداد، فيشركون بالله ويكفرون بما جاء به رسوله، ويسجدون للطواغيت (الأصنام) ثم يقدمون بعض الخدمات للمسجد الحرام.
138
وليس المراد من الرجاء المستفاد من (عسى) حقيقته، فذلك لا يصح أن يكون صادرا من الله لأنه ظن بحصول أمر وقعت أسبابه. وإنما عبر بكلمة (عسى) إشارة إلى قطع أطماع الكفار من الانتفاع بأعمالهم التي افتخروا بها وتأملوا عاقبتها، أي إذا كان جزاء المؤمنين على أعمالهم منوطا بالرجاء منهم، فليس للكفار أي دور، أو إذا كان حصول الاهتداء للمؤمنين دائرا بين- لعل وعسى- فما بال هؤلاء المشركين يقطعون بأنهم مهتدون ويجزمون بفوزهم بالخير من عند الله تعالى؟! ويؤكد استحقاق عمارة المساجد من قبل المتصفين بالأوصاف السابقة أحاديث نبوية كثيرة، منها في البناء المادي أو الحسي:
ما رواه الشيخان والترمذي عن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتا في الجنة».
ومنها ما رواه أحمد عن ابن عباس مرفوعا: «من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة لبيضها، بنى الله له بيتا في الجنة»
والمفحص:
موضع البيض. وروى الحارث بن أبي أسامة وأبو الشيخ بسند ضعيف عن أنس رضي الله عنه: «من أسرج في مسجد سراجا، لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له، ما دام في ذلك المسجد ضوء من ذلك السراج».
ومنها في العمارة المعنوية:
ما رواه الشيخان والحافظ أبو بكر البزار وعبد بن حميد عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إنما عمّار المساجد هم أهل الله».
ومنها ما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان. قال الله تعالى: إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
ومنها قوله عليه الصلاة والسّلام فيما رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود وهو ضعيف: قال الله تعالى: إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته، ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره»
.
139
وحذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الإخلال بحرمة المساجد، فقال فيما رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود وهو ضعيف: «يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي، يأتون المساجد، فيقعدون فيها حلقا، ذكرهم الدنيا، وحب الدنيا، لا تجالسوهم، فليس لله بهم حاجة».
وفي حديث آخر: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
استنبط من الآيات ما يأتي:
١- لا ثواب للمشركين في الآخرة على أعمال البر التي تصدر عنهم في الدنيا.
٢- المتصفون بالإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، والمقيمون الصلاة، والمؤتون الزكاة، والذين لا يخشون أحدا سوى الله، هم الجديرون بعمارة المساجد، وأصحاب هذه الصفات الأربعة هم الذين يعمرون المساجد، وهم أهل الاهتداء إلى الخير والصراط المستقيم.
٣- دل قوله: وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ على أنه ينبغي لمن بنى مسجدا أن يخلص لله في بنائه، وألا يقصد الرياء والسمعة.
والأصح أنه يجوز استخدام الكافر في بناء المساجد، والقيام بأعمال لا ولاية له فيها، كنحت الحجارة والبناء والنجارة، فهذا لا يدخل في المنع المذكور في الآية، إنما المنع موجه إلى الولاية على المساجد والاستقلال بالقيام بمصالحها، مثل تعيينه ناظر المسجد أو ناظر أوقافه. وقيل: إن الكفار ممنوعون من عمارة مساجد المسلمين مطلقا.
ولا مانع أيضا من قيام الكافر ببناء مسجد أو المساهمة في نفقاته، بشرط ألا
(١) هكذا ذكره الكشاف، والمشهور على الألسنة «الكلام المباح في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» (كشف الخفا ١/ ٣٥٤).
140
يتخذ أداة للضرر، وإلا كان حينئذ كمسجد الضرار. ولكن ليس للكافر ترميم المساجد، حفاظا على تعظيمها، ولأن تطهير المساجد واجب لقوله تعالى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والكافر نجس الاعتقاد، لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة ٩/ ٢٨] ولأنه لا يحترز من النجاسات، فدخوله في المسجد ربما يؤدي إلى تلويثه، فتفسد عبادة المسلمين.
٤- الترغيب بعمارة المساجد الحسية والمعنوية، كما دلت الآية والأحاديث.
٥- قال الواحدي: يمنع الكافر من دخول المساجد، وإن دخل بغير إذن مسلم، استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظيم المساجد، ومنعهم منها، وقد أنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفد ثقيف في المسجد، وهم كفار، وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد الحرام، وهو كافر.
٦- دل قوله: وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ على أن الكفار مخلدون في النار.
٧- قوله تعالى في بدء الآية: إِنَّما يَعْمُرُ وتعبيره بكلمة إِنَّما التي تفيد الحصر، دليل على أن المسجد يجب صونه عن غير العبادة، من فضول الحديث، وإصلاح مهمات الدنيا، وكما أوضحت الأحاديث المتقدمة.
٨- قال الجصاص: اقتضت الآية منع الكفار من دخول المساجد، ومن بنائها، وتولي مصالحها والقيام بها لانتظام اللفظ- أي العمارة- للأمرين، وهما الدخول والبناء. فإن عمارة المسجد تكون بمعنيين: أحدهما- زيارته والكون فيه، والآخر- ببنائه وتجديد ما استرم منه «١».
٩- دلت الآية على أن عمارة المسجد لا تكون بالكفر، وإنما تكون بالإيمان والعبادة وأداء الطاعة.
(١) أحكام القرآن: ٢/ ٨٧
141
فضل الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٩ الى ٢٢]
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢)
الإعراب:
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ... في الكلام حذف مضاف إما من أول الكلام تقديره: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج وأصحاب عمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله. وإما من آخر الكلام تقديره:
أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كإيمان من آمن بالله. وإنما وجب تقدير الحذف ليصح المعنى.
خالِدِينَ فِيها حال لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ نَعِيمٌ مُقِيمٌ: مبتدأ وصفة، ولَهُمْ: خبر المبتدأ، والجملة صفة لجنات. وضمير فِيها يعود إلى الجنات أو الرحمة أو البشرى. وكذلك ضمير فِيها الثانية حال...
البلاغة:
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ استفهام إنكاري لمن يسوي بين هذا أو ذاك.
وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ في الجملة حصر، أي هم الفائزون لا غيرهم.
بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ تنكير الكلمتين للتفخيم والتعظيم، أي برحمة ورضوان لا يوصفان.
142
المفردات اللغوية:
سِقايَةَ الْحاجِّ سقي الحجيج الماء، والسقاية في اللغة: موضع السقي أو إناء السقي.
وكانت قريش تسقي الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يتولى هذا العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام. وفي الآية حذف مضاف: أي أجعلتم أهل ذلك. لا يستوون عند الله في الفضل. الظَّالِمِينَ الكافرين. دَرَجَةً رتبة. الْفائِزُونَ الظافرون بالخير. نَعِيمٌ مُقِيمٌ دائم. خالِدِينَ فِيها أَبَداً ماكثين فيها على الدوام، أكد الخلود بالتأييد لأنه قد يستعمل للمكث الطويل. إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يستحقر دونه ما استوجبوه لأجله أو نعم الدنيا.
سبب النزول:
أخرج مسلم وابن حبان وأبو داود عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة، دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فاستفتيته فيما اختصمتم، فأنزل الله: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ- إلى قوله- وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
وأخرج الفريابي عن ابن سيرين قال: قدم علي بن أبي طالب مكة، فقال للعباس: أي عم؟ ألا تهاجر؟ ألا تلحق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: أعمر المسجد، وأحجب البيت، فأنزل الله: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الآية.
والحجابة: هي سدانة البيت وخدمته.
والسقاية والحجابة أفضل مآثر قريش، وقد أقرهما الإسلام، جاء
في الحديث الوارد في خطبة حجة الوداع عن جابر: «إن مآثر الجاهلية تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت»
ومآثر العرب: مكارمها ومفاخرها التي تؤثر عنها، أي تروى وتذكر.
143
وأخرج عبد الرزاق عن الشعبي نحوه. وأخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: افتخر طلحة بن شيبة والعباس وعلي بن أبي طالب، فقال طلحة: أنا صاحب البيت معي مفتاحه، وقال العباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها،
فقال علي: لقد صليت إلى القبلة قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله: أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ الآية كلها.
والخلاصة: أن الأصح في سبب النزول ما ذكره النعمان بن بشير، والروايات الأخرى عن الحسن والشعبي والقرظي وابن سيرين تفصيل لمجمل رواية النعمان.
المناسبة:
هذه الآية مرتبطة بما قبلها، ومكملة لها، فالآية السابقة أوضحت أن عمارة المسجد الحرام مقبولة إذا كانت صادرة عن إيمان، فهي للمسلمين دون المشركين، وهذه الآية أبانت أن الإيمان والجهاد أفضل مما كان يفخر به المشركون من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج.
التفسير والبيان:
هذه الآية خطاب للمؤمنين بحسب حديث النعمان بن بشير، وقيل: هي خطاب للمشركين بدليل السياق، والأصح أنها تضمنت المفاضلة التي جرت بين المسلمين والكافرين، لقوله تعالى: كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فإن العباس- كما تقدم- احتج على فضائل نفسه بأنه عمر المسجد الحرام وسقى الحاج.
والمعنى: أجعلتم أهل السقاية وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله سواء في الفضيلة والدرجة؟ فإن السقاية والعمارة، وإن كانتا من أعمال الخير، فأصحابهما لا يساوون في المنزلة أهل الإيمان والجهاد.
وهذا معنى قوله: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ أي لا تساوي أبدا بين الفريقين
144
لا في الصفة ولا في العمل، في حكم الله وفي إثابته، في الدنيا والآخرة.
ثم بين عدم تساويهم بقوله: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي لا يهدي القوم الكافرين في أعمالهم إلى ما هو الأفضل والأرقى رتبة إذ قد طمس على قلوبهم.
والمعنى: إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة، وأن يسوى بينهم، وجعل تسويتهم ظلما، بعد ظلمهم بالكفر.
فالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس أفضل وأعظم درجة عند الله من أعمال السقاية والسدانة أو العمارة.
ثم بين الله تعالى مراتب التفاضل بين المؤمنين أنفسهم، فقال: الَّذِينَ آمَنُوا.. أي أن المؤمنين بالله ورسوله، المهاجرين من مكة إلى المدينة، المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم ولإعلاء كلمة الله، هم أعظم درجة وأرفع مقاما ومكانة من القائمين بأعمال أخرى كالسقاية والعمارة.
وأولئك المؤمنون المهاجرون المجاهدون هم الفائزون بفضل الله وكرامته ومثوبته.
وهذا الفوز هو أنه تعالى يبشرهم في كتابه المنزل على رسوله برحمة واسعة، ورضوان كامل، وجنات لهم فيها نعيم دائم، وهم في هذا النعيم خالدون على الدوام إلى ما شاء الله تعالى.
وإن الله عنده الثواب العظيم على الإيمان والعمل الصالح ومنه الهجرة، والجهاد في سبيله ومن أجل مرضاته، كما قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة ٩/ ٧٢].
145
والرضوان: نهاية الإحسان، وهو شيء روحي، والنعيم في الجنة شيء مادي، فهو لين العيش ورغده.
وروى الشيخان والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: ربنا، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على أن الجهاد مع الإيمان أفضل عند الله من أي عمل آخر من أعمال الخير والبر لأنه بذل للنفس أو المال، بقصد إعلاء كلمة الله. وأما السقاية وعمارة المسجد الحرام فهما وإن كانا عملين طيبين، إلا أنهما ليسا في الدرجة مثل الجهاد.
روى عبد الرزاق عن الحسن البصري قال: نزلت آية أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ... في علي وعباس وعثمان وشيبة، تكلموا في ذلك، فقال العباس:
ما أراني إلا أني تارك سقايتنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أقيموا على سقايتكم، فإن لكم فيها خيرا».
والآية إنكار أن يشبه المشركون وأعمالهم المحبطة بالمؤمنين وأعمالهم المثبتة وأن يسوى بينهم، وجعل تسويتهم ظلما بعد ظلمهم بالكفر.
ومراتب فضل المجاهدين كثيرة، فهم أعظم درجة عند الله من كل ذي درجة، فلهم المزية والمرتبة العلية، وهم الفائزون الظافرون الناجون، وهم الذين يبشرهم ربهم، أي يعلمهم في الدنيا ما لهم في الآخرة من الثواب الجزيل
146
والنعيم المقيم، وهم الخالدون إلى الأبد وإلى ما شاء الله في جنان الخلد، ولهم ثواب عظيم أعده الله لهم في دار كرامته.
هؤلاء هم أعظم درجة عند الله من أهل السقاية والعمارة، وهم المختصون بالفوز دون غيرهم.
ولاية الآباء والإخوان الكافرين وتفضيل الإيمان والجهاد على ثمانية أشياء
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤)
البلاغة:
فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ أمر يراد به الوعيد، مثل اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت ٤١/ ٤٠].
المفردات اللغوية:
اسْتَحَبُّوا اختاروا، وهو بمعنى: أحبوا الظَّالِمُونَ الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. وَعَشِيرَتُكُمْ أقرباؤكم ذوو القرابة القريبة اقْتَرَفْتُمُوها اكتسبتموها كَسادَها عدم رواجها أو عدم نفادها، وبوارها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ أي أحب إليكم
147
من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله، فقعدتم لأجله عن الهجرة والجهاد فَتَرَبَّصُوا انتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ تهديد لهم، والأمر: العقوبة العاجلة أو الآجلة.
سبب النزول:
نزلت الآيتان فيمن ترك الهجرة لأجل أهله وتجارته.
سبب نزول الآية: (٢٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا قال الكلبي: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالهجرة إلى المدينة، جعل الرجل يقول لأبيه وأخيه وامرأته: إنا قد أمرنا بالهجرة، فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه، ومنهم من يتعلق به زوجته وعياله وولده، فيقولون: نشدناك الله أن تدعنا إلى غير شيء فنضيع، فيرق، فيجلس معهم ويدع الهجرة، فنزلت يعاتبهم سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ الآية «١».
ونزلت في الذين تخلفوا بمكة ولم يهاجروا آية: قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ إلى قوله فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ يعني القتال وفتح مكة.
أخرج الفريابي عن ابن سيرين عن علي بن أبي طالب قال لقوم قد سماهم: ألا تهاجروا، ألا تلحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!! فقالوا: نقيم مع إخواننا وعشائرنا ومساكننا، فأنزل الله: قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ الآية كلها.
المناسبة:
لما أمر الله تعالى المؤمنين بالتبري عن المشركين ونبذ عهودهم، قالوا: كيف تمكن هذه المقاطعة التامة بين الرجل وبين أبيه وأمه وأخيه، فذكر تعالى أن
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ١٤٠ [.....]
148
الانقطاع عن الآباء والأولاد والإخوان واجب بسبب الكفر، وهو قوله: إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ.
ثم جاءت الآية التالية: قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ مؤكدة لمضمون الآية السابقة، وأبان تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية، ليبقى الدين سليما، إذ سلامة الدين تكون بمباينة الكفار وعدم موالاتهم.
والخلاصة: أن الدين يغير المفاهيم، فيجعل رابطة الدين أعلى وأقوى وأولى من رابطة العصبية الجنسية، وصلة القرابة، والانتماء للأسرة، ويقرر أن ثمرة الهجرة والجهاد لا تظهر إلا بترك ولاية المشركين، وإيثار طاعة الله والرسول على كل شيء في الحياة.
التفسير والبيان:
يا أيها المصدقون بالله ورسوله، لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء تنصرونهم في القتال، وتؤيدون الكفار لأجلهم، أو تطلعونهم على أسرار المسلمين العامة أو الحربية، إن اختاروا الكفر على الإيمان، وآثروا الشرك على الإسلام، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون لأنفسهم وأمتهم لأنه خالفوا الله ورسوله، بموالاة الكافرين بدلا من التبرؤ منهم.
فبعد أن نهى عن مخالطتهم، أوضح أن هذا النهي للتحريم لا للتنزيه، بقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال ابن عباس: هو مشرك مثلهم لأنه رضي بشركهم، والرضا بالكفر كفر، كما أن الرضا بالفسق فسق.
ويؤيد ذلك آية أخرى هي إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ، وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ، وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة ٦٠/ ٩].
149
ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله ورسوله وجهاد في سبيله، مصدرا ذلك بكلمة إِنِ المفيدة للشك لأن حب الكافرين مشكوك فيه من المؤمنين، والمقصود هو تفضيل حبهم على حب الله، أما أصل الحب فهو أمر فطري طبعي لا لوم عليه، ولا مؤاخذة فيه لأن التكليف يتوجه على الأمور المقدورة للإنسان، لا على الأمور الجبلية الفطرية كالحب والبغض.
فقال له: قل: إن كنتم تؤثرون هذه الأشياء الثمانية، وتفضلون الآباء، والأبناء، والإخوان، والأزواج، والعشيرة (القرابة القريبة) والأموال، والتجارة، والمساكن، على حب الله ورسوله، أي طاعتهما، والجهاد في سبيله الذي يحقق السعادة الأبدية في الآخرة، فانتظروا حتى يأتي الله بعقابه العاجل أو الآجل.
ويمكن تصنيف هذه الأنواع الثمانية بأربعة: وهي مخالطة الأقارب، وذلك يشمل الآباء والأبناء والإخوان والأزواج، ثم بقية العشيرة، والميل إلى إمساك الأموال المكتسبة، والرغبة في تحصيل الأموال بالتجارة، والرغبة في المساكن.
وهذا ترتيب حسن، يبدأ بالأشد تعلقا والأدعى إلى المخالطة وهو القرابة، ثم الحرص على المال، ثم طريق اكتسابه بالتجارة، ثم الرغبة في البناء في الأوطان والدور المخصصة للسكنى. ولكن الله تعالى أبان أن رعاية الدين خير من رعاية جملة هذه الأمور.
ومن المعروف أن محبة هذه الأمور الثمانية بالطبيعة، فمحبة الآباء غريزة عند الأبناء لأن الولد بضعة من أبيه، والولد يشعر أن أباه سبب في وجوده، والعرب قديما وحديثا يفخرون بالآباء، لهذا حث الله على ذكره في الحج مثل ذكر الآباء أو أشد، فقال: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة ٢/ ٢٠٠].
150
ومحبة الأبناء غريزة أيضا، بل هي أشد من محبة الآباء إذ الولد فلذة من الكبد، وهو محط الأمل، ومفخرة الأهل، كما قال تعالى: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف ١٨/ ٤٦].
والأخ يتقوى بأخيه، ويربطهما الانتماء للأصول من الأب والأم، قال تعالى لموسى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص ٢٨/ ٣٥].
وحب الزوجة أمر فطري أيضا، وكل من الزوجين يكمل الآخر، وسكينة له، وبينهما الود والتراحم: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم ٣٠/ ٢١].
وحب العشيرة قائم على الحاجة للتعاون والتناصر، وهو شديد التأثير في المجتمعات القبلية.
وحب المال المكتسب قوي عند الإنسان لأنه ثمرة عنائه وجهده، وكذلك حب التجارة أصيل في النفس البشرية لأنه مصدر التمويل، لذا يحرص الشخص على تنمية تجاراته، لتنمو موارده، وتكثر أرباحه، فيستفيد منها.
وحب المساكن الطيبة أمر مستكن في النفوس لأنها مهد الراحة والطمأنينة والاستقرار، ووسيلة التفاخر والتظاهر بالنعمة، وربما كانت من المقومات الاجتماعية في الأعراف والعادات.
وبالرغم من مظاهر الحب وحقائقه لهذه الأنواع الثمانية، أمر الله تعالى بإيثار حب الله والرسول وطاعتهما والجهاد في سبيله على هذه الأشياء لأن الله تعالى مصدر جميع النعم، وملجأ لدفع كل الكروب والمحن، لذا وصف تعالى المؤمنين بقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة ٢/ ١٦٥].
151
وكذلك حب الرسول واجب بعد محبة الله لأنه صاحب الفضل في إنقاذنا من الضلالة إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ولأنه القدوة الحسنة والمثل الأعلى للمؤمنين في تطبيق الشريعة والأخلاق.
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين».
وروى أحمد والبخاري عن عبد الله بن هشام، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: والله يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه» فقال عمر: فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي، فقال رسول الله: «الآن يا عمر».
وأما الجهاد، وإن كان مكروها لدى بعض الناس: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ [البقرة ٢/ ٢١٦] فإنه السبيل للحفاظ على كرامة الأمة ومنعة البلاد واستقلالها ومصالح الأفراد، وسبب للذود عن الحرمات والأموال والأعراض، وطريق لدفع العدوان وقمع الأطماع، وأساس لتوفير عزة الأمة ومجدها، وبدونه تكون المصالح العامة والخاصة مهددة بالزوال. لذا فرضه تعالى للضرورة من أجل الحفاظ على هذه المقاصد، ولمنع الفتنة في الدين، وحماية المستضعفين، والتمكين لحرية انتشار الإسلام بالطرق السلمية، وكانت محبته أمرا مطلوبا لحياة المسلمين، لذا
قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم- فيما أخرجه الترمذي عن معاذ بن جبل-: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد»
وقال فيما يرويه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه عن أنس: «لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها».
ثم ختم الله تعالى الآية بوعيد المخالفين وتهديد المعرضين بعقوبة عاجلة أو
152
آجلة، فقال: فَتَرَبَّصُوا... أي فانتظروا العقاب الآتي عاجلا أو آجلا. قال الزمخشري: وهذه آية شديدة، لا ترى أشد منها، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين «١». وقال البيضاوي: وفي الآية تشديد عظيم وقل من يتخلص منه.
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي لا يرشد العصاة الخارجين عن حدود الدين ومقتضى العقل والحكمة أو عن طاعة الله إلى معصيته.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ، أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ... [المجادلة ٥٨/ ٢٢].
فقه الحياة أو الأحكام:
ظاهر آية: لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ... أنها خطاب لجميع المؤمنين، وهي باقية الحكم إلى يوم القيامة في قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين.
وخص الله سبحانه الآباء والإخوة إذ لا قرابة أقرب منها، فنفى الموالاة بينهم كما نفاها بين الناس بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة ٥/ ٥١] ليبين أن القرب قرب الأديان، لا قرب الأبدان.
ولم يذكر الأبناء في هذه الآية إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء.
والإحسان وهبة الأشياء مستثناة من الولاية، بدليل
ما أخرجه البخاري:
(١) الكشاف: ٢/ ٣٣
153
قالت أسماء: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي راغبة، وهي مشركة، أفأصلها؟ قال: صلي أمك».
وقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تفسير لقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إما بالمآل وسوء العاقبة، وإما بالأحكام في الدنيا العاجلة، وذلك ظلم، أي وضع الشيء في غير موضعه.
وفي آية: قُلْ: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ... دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب.
ومعنى محبة الله تعالى ومحبة رسوله كما قال الأزهري: طاعته لهما واتباعه أمرهما، قال الله تعالى: قُلْ: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران ٣/ ٣١] «١».
ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله، ويبغض في الله، حتى يحب في الله أبعد الناس، ويبغض في الله أقرب الناس إليه».
وهذه الآية دليل على فضل الجهاد، وإيثاره على راحة النفس وعلائقها بالأهل والمال. وقال المفسرون: هذه الآية في بيان حال من ترك الهجرة، وآثر البقاء مع الأهل والمال.
(١) تفسير القرطبي: ٤/ ٦٠
154
نصر المؤمنين في مواطن كثيرة
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)
الإعراب:
فِي مَواطِنَ امتناعه من الصرف لأنه جمع وعلى صيغة لم يأت عليها واحد. وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ظرف منصوب بالعطف على موضع فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وتقديره: ونصركم يوم حنين.
وعطف الزمان وهو يَوْمَ على المكان وهو مَواطِنَ لأن معناه وموطن يوم حنين، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين ويجوز أن يراد بالموطن: الوقت كمقتل الحسين، على أن الواجب أن يكون يَوْمَ حُنَيْنٍ منصوبا بفعل مضمر، لا بهذا الظاهر، وموجب ذلك أن قوله: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ بدل من يَوْمَ حُنَيْنٍ. أما لو جعل ناصبه هذا الظاهر فلم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيرا في جميعها، فصار ناصبه فعلا خاصا به، إلا إذا نصبت إِذْ بإضمار: اذكر. وحُنَيْنٍ: اسم منصرف لأنه اسم مذكر، وهي لغة القرآن، ومن العرب من لا يصرفه، يجعله اسما للبقعة.
البلاغة:
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عطف خاص على عام للتنويه بشأنه، لمجيء النصر بعد اليأس. وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ استعارة، شبه ما حل بهم من الكرب والهزيمة بضيق الأرض على سعتها.
155
المفردات اللغوية:
مَواطِنَ كَثِيرَةٍ أي مواقع الحرب ومشاهدها، مثل بدر وقريظة والنضير، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة وَيَوْمَ حُنَيْنٍ أي واذكر، وهو واد بين مكة والطائف على ثلاثة أميال من الطائف، كانت فيه الوقعة بين المسلمين، وهم اثنا عشر ألفا، الذين حضروا فتح مكة، منضما إليهم ألفان من الطلقاء، وبين هوازن وثقيف، وهم أربعة آلاف مع من انضم إليهم من أمداد سائر العرب. وتسمى غزوته غزوة أوطاس، وغزوة هوازن، في شوال سنة ثمان، فكانوا الجم الغفير، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: «لن نغلب اليوم من قلة» فساء ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ بدل من يَوْمَ.
بِما رَحُبَتْ ما: مصدرية، ورَحُبَتْ: اتسعت، والرحب: السعة، والرحب:
الواسع، أي ضاقت عليكم الأرض مع رحبها أي سعتها، فلم تجدوا مكانا تطمئنون إليه، لشدة ما لحقكم من الخوف ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أي هاربين منهزمين، وثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بغلته البيضاء، وليس معه غير العباس، وأبو سفيان آخذ بركابه سَكِينَتَهُ طمأنينته عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي فردوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما ناداهم العباس بإذنه وقاتلوا.
وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها أي ملائكة وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل والأسر. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ منهم بالإسلام.
سبب النزول:
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ: أخرج البيهقي في الدلائل أن رجلا قال يوم حنين:
«لن نغلب اليوم من قلة» وكانوا اثني عشر ألفا، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ الآية.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء وغيرهم، رعاية لمصالح الدين، وعلم الله أن هذا يشق جدا على النفوس، ذكر ما يدل على أن من ترك الدنيا لأجل الدين، فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضا، وضرب مثلا لذلك كثرة عسكر المؤمنين وقوتهم يوم حنين، فلما أعجبوا
156
بكثرتهم انهزموا، ثم في حال الانهزام لما تضرعوا إلى الله قواهم حتى هزموا عسكر الكفار، وهو يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا، ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا، آتاه الله الأمرين معا على أحسن الوجوه، فكان ذكر ذلك تسلية عن مقاطعة الآباء ومن عداهم، لمصلحة الدين، وإعلاما للمؤمنين ليتذكروا أن عنايته تعالى لهم بالقوة المعنوية، لا بالكثرة العددية.
قال مجاهد: هذه أول آية نزلت من براءة يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم، وإحسانه لديهم في نصره إياهم، في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله، وأن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره، لا بعددهم ولا بعددهم، ونبههم على أن النصر من عنده، سواء قل الجمع أو كثر، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا، فولوا مدبرين إلا القليل منهم، مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه، ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده، وبإمداده، وإن قل الجمع، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين.
أضواء من التاريخ على وقعة حنين:
كانت هوازن قوة كبيرة بعد قريش، وكانت تنافسها، فلما بلغها فتح مكة، نادى سيدهم مالك بن عوف النصري بالحرب، واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها، ونصر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وأجمع السير إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وساق مع جيشه أموالهم ومواشيهم ونساءهم وأولادهم، وزعم أن ذلك يحمي نفوسهم به، ويقوي شوكتهم، وكان على ثقيف كنانة بن عبيد، وشهد الحرب دريد بن الصمة، وكان شيخا كبيرا، له رأي وحكمة، ونزلوا بأوطاس: واد في ديار هوازن عند الطائف، كانت فيه وقعة حنين.
ولما علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمرهم، خرج إليهم، وكان معه إثنا عشر ألفا من
157
المسلمين: عشرة آلاف من أصحابه في المدينة، من المهاجرين والأنصار، وألفان من أهل مكة مسلمة الفتح، وهم الطلقاء.
واستعار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من صفوان بن أمية أدراعا وسلاحا.
ولما رأى المسلمون كثرتهم، وبلوغ عددهم ما لم يبلغه عدد في غزوة سابقة، اغتروا وقال بعضهم: لن نغلب اليوم من قلة.
روى أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة»
قيل:
إن القائل: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: أبو بكر رضي الله عنه.
واتكل المسلمون على قوتهم في مبدأ الأمر فانهزموا، ثم لما عدلوا عن غرورهم، وتضرعوا إلى ربهم، كان النصر حليفهم.
التفسير والبيان:
لقد نصركم الله أيها المؤمنون في مواقع حربية كثيرة، كبدر والحديبية ومكة وقريظة والنضير، وأنتم قلة وهم كثرة: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران ٣/ ١٢٣] حيث كنتم متوكلين على الله، معتمدين على أن النصر من عند الله. والمواطن الكثيرة: غزوات رسول الله، ويقال: إنها ثمانون موطنا، فأعلمهم الله تعالى بأنه هو الذي نصر المؤمنين، إما نصرا كاملا وهو الأكثر، وإما نصرا جزئيا للتربية والتعليم، كما حدث في أحد، حينما خالف جماعة من الصحابة أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتركوا جبل الرماة، وكما حدث في حنين حينما اعتمدوا على الكثرة العددية، وغاب عنهم أن الله هو الناصر، لا كثرة الجنود، فانهزموا.
وذكر بعضهم أن المواطن أقل من ثمانين، روى أبو يعلى عن جابر أن عدد غزواته صلى الله عليه وآله وسلم إحدى وعشرون، قاتل بنفسه في ثمان: بدر وأحد والأحزاب والمصطلق وخيبر ومكة وحنين والطائف. وبعوثه وسراياه ست وثلاثون.
158
ثم قال تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ... أي ونصركم أيضا في يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فيه، إذ بلغتم اثني عشر ألفا، وكان الكافرون أربعة آلاف فقط، وقيل: ثمانية آلاف في قول الحسن ومجاهد، فكانت الهزيمة عليكم، لاعتمادكم على أنفسكم، وغروركم بقوتكم، وتركتم اللجوء إلى ربكم واهب النصر، فلم تغن كثرتكم عنكم شيئا من قضاء الله، وضاقت عليكم الأرض بما اتسعت من الخوف، ثم وليتم مدبرين منهزمين.
وذلك أنهم اقتتلوا اقتتالا شديدا، فانهزموا أمام ثقيف وهوازن، إذ كمنت هوازن في وادي حنين، ثم بادروا المسلمين بالقتال، وحملوا حملة رجل واحد، كما أمرهم سيدهم، فولى المسلمون مدبرين،
وثبت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحر العدو، والعباس عمه آخذ بلجامها وبركابها الأيمن، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر، يثقلانها لئلا تسرع في السير.
وهذا دليل على تناهي شجاعته ورباطة جأشه صلى الله عليه وآله وسلم، وما هي إلا من آيات النبوة، ثم قال: «يا رب ائتني بما وعدتني».
ثم قال للعباس وكان صيتا: صح بالناس، فنادى الأنصار ثم نادى:
يا أصحاب الشجرة «١»، يا أصحاب السمرة، فأجابوه: لبيك لبيك.
ويدعو الرسول المسلمين إلى الرجعة قائلا: «إلى عباد الله، إلي أنا رسول الله» ويقول في تلك الحال:
أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب
(١) يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها، على ألا يفروا عنه.
159
فتراجع الناس، وثبت معه من أصحابه قريب من مائة، وقيل: ثمانون، ونزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق، فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قتال المسلمين، فقال: «الآن حمي الوطيس» «١» ثم أخذ كفا من تراب، فرماهم به، ثم قال: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، انهزموا ورب الكعبة» فانهزموا، قال العباس:
«فما زلت أرى حدهم كليلا، وأمرهم مدبرا» «لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يركض خلفهم على بغلته».
وتمت هزيمة هوازن، وكانت هذه آخر غزوة ضد المسلمين، انتصر فيها المسلمون، وانهزم فيها العرب.
ولهذا قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ... أي أفرغ الله طمأنينته وثباته على رسوله، وعلى المؤمنين الذين كانوا معه، وأنزل جنودا لم تروها، وهم الملائكة، كما روي مسلم في صحيحة، لتقوية روح المؤمنين وتثبيتهم، وإضعاف الكافرين بما يقذفون في قلوبهم من الخوف والجبن من حيث لا يرونهم.
إلا أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر، روي عن بعض من أسلم بعد حنين أنه قال: أين الخيل البلق، والرجال الذين كانوا عليهم، بيض، ما كان قتلنا إلا بأيديهم؟! وعذب الذين كفروا بسيوفكم بالقتل والسبي والأسر، وذلك هو جزاء الكافرين في الدنيا، ونظير الآية: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ [التوبة ٩/ ١٤].
وكان السبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألفا، والغنم أكثر من أربعين ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة، وكانت تلك أكبر غنيمة غنمها المسلمون.
(١) يعني: استعرت الحرب، وهي من كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم يسبق إليه.
160
وجريا على عادة القرآن في فتح باب الأمل والتوبة أمام الكفار والعصاة، قال تعالى: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ثم يتوب الله بعد هذا التعذيب الذي حدث في الحرب على من يشاء من الكفار، يعني: ومع كل ما جرى عليهم من الخذلان، فإن الله تعالى قد يتوب على بعضهم، بأن يزيل عن قلبه الكفر، ويخلق فيه الإسلام، كما قال أهل السنة، أو بأن يسلموا ويتوبوا فيقبل الله توبتهم، كما قال المعتزلة.
والله غفور لمن تاب، رحيم بمن آمن وعمل صالحا. وقد تاب الله على بقية هوازن، فأسلموا، وقدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسلمين، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة «١»، بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما، فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم، فاختاروا سبيهم، وكانوا ستة آلاف أسير، ما بين صبي وامرأة، فرده عليهم، وقسم الأموال بين الغانمين، ونفل أناسا من الطلقاء (أهل مكة) لكي يتألف قلوبهم على الإسلام، فأعطاهم مائة مائة من الإبل، وكان من جملة من أعطى مائة: مالك بن عوف النصري، واستعمله على قومه: هوازن، كما كان.
روى البخاري عن المسور بن مخرمة: «أن ناسا منهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبايعوه على الإسلام، وقالوا: يا رسول الله، أنت خير الناس، وأبر الناس، وقد سبي أهلونا، وأولادنا، وأخذت أموالنا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن عندي من ترون، إن خير القول أصدقه، اختاروا إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم» قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «هؤلاء جاءونا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان بيده شيء، وطابت به نفسه أن يرده فشأنه، ومن لا فليعطنا، وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه» قالوا: رضينا وسلمنا.
(١) الجعرانة: موضع على سبعة أميال من مكة إلى الطائف.
161
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم، فليرفعوا ذلك إلينا»
فرفعت إليه العرفاء أنهم قد رضوا.
فقه الحياة أو الأحكام:
١- الآيات تذكر المؤمنين بنعم الله عليهم، إذ نصرهم في معارك حربية كثيرة، وأن النصر من عند الله، فقد تخطئ الحسابات والاحتمالات، وكثيرا ما تنهزم الكثرة الكاثرة، وتنتصر القلة القليلة، والمعول عليه إنما هو عناية الله بعباده المؤمنين وتأييده لهم، فذلك أقوى تأثيرا من كل القوى العسكرية أو المادية.
٢-
ذكر العلماء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في هذه الغزوة فيما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي قتادة وغيره: «من قتل قتيلا له عليه بينة، فله سلبه»
وهذا في رأي الشافعية والحنابلة صادر عنه بطريق التبليغ والوحي، فهو حكم دائم لا يحتاج إلى إذن الإمام، وفي رأي الحنفية والمالكية: هذا الحكم صادر عنه صلى الله عليه وآله وسلم بطريق الإمامة والسياسة، فلا يستحق في كل معركة إلا بإذن الإمام، ولا يكون ذلك من الإمام إلا على وجه الاجتهاد. ولم ينقل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك إلا يوم حنين، وليس في مغازيه كلها.
٣- في قصة هذه الغزوة استعار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من صفوان بن أمية وهو مشرك أدراعا وأسلحة. وهذا يدل على جواز استعارة السلاح، وجواز الاستمتاع بما أستعير إذا كان على المعهود مما يستعار مثله، وجواز استلاف الإمام المال عند الحاجة إلى ذلك ورده إلى صاحبه.
وفي هذه الغزوة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو داود وصححه الحاكم عن أبي سعيد الخدري «ألا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة»
وهو يدل على أن السبي يقطع العصمة.
162
وفيها أيضا أنه صلى الله عليه وآله وسلم استعان بصفوان في الحرب، وقد قال أبو حنيفة والشافعي: لا بأس بالاستعانة بالمشركين على المشركين، إذا كان حكم الإسلام هو الغالب، وإنما تكره الاستعانة بهم إذا كان حكم الشرك هو الظاهر.
وقال مالك: لم يكن خروج صفوان إلى حنين والطائف بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أرى أن يستعان بالمشركين على المشركين، إلا أن يكونوا خدما أو نواتية (بحارة).
٤- أبان الله عز وجل في هذه الآية أن الغلبة إنما تكون بنصر الله لا بالكثرة، فلا يغلبون بكثرتهم، وقد قال: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران ٣/ ١٦٠]. والنصر عند اشتداد المحنة من أعظم النعم الإلهية، والمحنة هي ما طرأ عليهم من الخوف، حتى لكأنهم لا يجدون في الأرض موضعا يصلح لفرارهم من عدوهم.
٥- أنزل الله في هذه المعركة ما يسكن قلوب المؤمنين ويذهب خوفهم، حتى اجترؤوا على قتال المشركين بعد أن ولوا، وأنزل ملائكة يقوون المؤمنين بما يلقون في قلوبهم من الخواطر والتثبيت، ويضعضعون الكافرين بالتجبين لهم من حيث لا يرونهم ومن غير قتال لأن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر.
وروي- كما تقدم- أن رجلا من بني نصر قال للمؤمنين بعد القتال: أين الخيل البلق، والرجال الذين كانوا عليها بيض، ما كنا فيهم إلا كهيئة الشامة، وما كان قتلنا إلا بأيديهم؟! فأخبروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فقال: «تلك الملائكة».
٦- عذب الله الكافرين في هذه المعركة بالقتل بأسياف المسلمين، وهو جزاؤهم المستحق في دار الدنيا، ثم تاب الله على من انهزم، فهداه إلى الإسلام، كمالك بن عوف النصري رئيس حنين، ومن أسلم معه من قومه.
والخلاصة: حدثت أمور ثلاثة يوم حنين: إنزال الله السكينة على رسوله
163
وعلى المؤمنين، وإنزاله جنودا هم الملائكة، وتعذيب الكافرين بالقتل والسبي.
٧-
لما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غنائم حنين بالجعرانة، أتاه وفد هوازن مسلمين، راغبين في العطف عليهم والإحسان إليهم، فخيرهم بين السبي والأموال، فاختاروا السبي، فرد عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساءهم وأولادهم، واستطاب أنفس الغانمين عما بيدهم من الأموال، وعوض من لم تطب نفسه بترك نصيبه من الغنائم أعواضا رضوا بها.
وكان من جملة السبي الشيماء أخت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الرضاعة، وهي بنت الحارث بن عبد العزى من بني سعد بن بكر، وبنت حليمة السعدية، فأكرمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأعطاها وأحسن إليها، ورجعت مسرورة إلى بلادها بدينها وبما أفاء الله عليها.
وحدثت قصة طريفة عند رد السبي، أخرج مسلم عن ابن عباس قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أوطاس امرأة تعدو وتصحيح ولا تستقر، فسأل عنها فقيل:
فقدت بنيا لها، ثم رآها وقد وجدت ابنها وهي تقبله وتدنيه، فدعاها وقال لأصحابه: «أطارحة هذه ولدها في النار» قالوا: لا، قال: لم؟ قالوا:
لشفقتها، قال: «الله أرحم بكم منها».
تحريم دخول المسجد الحرام على المشركين
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)
164
البلاغة:
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ إِنَّمَا: تفيد الحصر، وقوله: الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ: تشبيه بليغ أي كالنجس في خبث الاعتقاد، حذفت منه أداة الشبه ووجه الشبه، مثل: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً أي كالأرباب في طاعتهم. وقال الزمخشري: نَجَسٌ: مصدر، ومعناه ذوو نجس لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فهي ملابسة لهم، أو جعلوا كأنهم النجاسة بعينها مبالغة في وصفهم بها.
فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ عبر عن الدخول بالقرب للمبالغة، أي إنما نهى عن الاقتراب للمبالغة، أو للمنع عن دخول الحرم. وذهب أبو حنيفة إلى أن المراد به النهي عن الحج والعمرة، لا عن الدخول مطلقا. وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع.
المفردات اللغوية:
نجس ونجاسة: قذارة وعدم نظافة، وإذا وصف به الإنسان كان المراد أنه شرير خبيث النفس، وإن كان طاهر البدن. والناجس والنجيس: داء خبيث لا دواء له. وفي اصطلاح الفقهاء: ما يجب تطهيره، سواء كان قذرا كالبول أو غير قذر كالخمر مثلا.
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ المراد به في رأي عطاء: الحرم كله وهو مكة. وهو مذهب الشافعية أيضا. ورأى المالكية أن المراد خصوص المسجد الحرام، أخذا بظاهر اللفظ، ولكن بقية المساجد تقاس عليه لأن العلة وهي النجاسة موجودة في المشركين، والحرمة موجودة في كل مسجد، فلا يجوز تمكينهم من دخول المسجد الحرام والمساجد كلها. ومذهب الحنفية: ليس المراد النهي عن دخول المسجد الحرام، وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون ويعتمروا، كما كانوا يعملون في الجاهلية.
بَعْدَ عامِهِمْ هذا العام التاسع من الهجرة عَيْلَةً فقرا بانقطاع تجارتهم عنكم، وفعله:
عال يعيل عيلا وعيلة فهو عائل. وأعال: كثر عياله، ويعول عيالا كثيرين، أي يمونهم ويكفيهم معاشهم مِنْ فَضْلِهِ عطائه وتفضله وقد أغناهم بالفتوح والجزية.
سبب النزول:
نزول وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت، ويجيئون معهم بالطعام يتجرون فيه، فلما منعوا
165
عن أن يأتوا البيت، قال المسلمون: من أين لنا الطعام، فأنزل الله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وأخرج ابن جرير الطبري وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ شق ذلك على المسلمين، وقالوا:
من يأتينا بالطعام والمتاع؟ فأنزل الله: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً الآية.
المناسبة:
لما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا رضي الله عنه أن يقرأ على مشركي مكة أول سورة براءة، وينبذ إليهم عهدهم، سنة تسع من الهجرة، وأن الله بريء من المشركين ورسوله، قال أناس: يا أهل مكة، ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل، وفقد الحمولات، فنزلت هذه الآية لدفع هذه الشبهة.
التفسير والبيان:
يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، إن المشركين أنجاس، فاسدو الاعتقاد، منغمسون في النجاسة، فهم أنجاس إما لخبث باطنهم وفساد عقيدتهم لعبادة الأصنام والأوثان، أو لأن معهم الشرك الذي هو مثل النجس الذي يجب اجتنابه، أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات الحسية. وإذا كانوا أنجاسا، فلا يدخلوا المسجد الحرام، ولا أن يطوفوا به عراة.
فهذا نهي للمؤمنين أن يمكنوا المشركين من دخول المسجد الحرام بعد العام التاسع من الهجرة. وقوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ يدل على الحصر، أي لا نجس إلا المشرك.
والمراد بالمشركين في رأي الأكثرين هم عبدة الأوثان، وقال قوم: بل يتناول جميع الكفار، بدليل قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ،
166
وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ
[النساء ٤/ ٤٨]. وهذا هو الأرجح الظاهر من الآية.
والمراد بالنجس: النجاسة المعنوية أي نجاسة الاعتقاد. ونقل الزمخشري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أعيان المشركين نجسة كالكلاب والخنازير، تمسكا بظاهر هذه الآية «١». ولكن جمهور الفقهاء اتفقوا على خلاف ذلك وعلى طهارة أبدانهم، فليس المشرك أو الكافر نجس البدن والذات لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب.
والمقصود بالمسجد الحرام كما تبين في المفردات: الحرم كله في رأي عطاء والشافعية، وخصوص المسجد الحرام في مذهب المالكية أخذا بظاهر اللفظ، ورأى الحنفية أن ليس المراد النهي عن دخول المسجد الحرام، وإنما المراد النهي عن أن يحج المشركون ويعتمروا، كما كانوا يعملون في الجاهلية، بدليل قوله تعالى: بَعْدَ عامِهِمْ هذا أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو العام التاسع من الهجرة،
ولقول علي رضي الله عنه حين نادى بسورة براءة: «ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك»
ولأن قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً يدل على أن خشية العيلة بسبب انقطاع مواسم المشركين، لمنعهم من الحج والعمرة، ولإجماع المسلمين على منع المشركين من سائر أعمال الحج وإن لم تكن في المسجد.
ثم ألقى الله الطمأنينة في قلوب المسلمين بشأن توافر موارد الأطعمة وأنواع التجارات، فقال: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً... أي وإن خفتم أيها المسلمون فقرا، بسبب قلة جلب الأقوات وأنواع التجارات التي كان المشركون يجلبونها، ومنعوا بعد هذا العام من دخول المسجد الحرام، فسوف يغنيكم الله من فضله وعطائه بوجه آخر، وييسر لكم موارد المعيشة والأرزاق والمكاسب.
(١) وهو قول الهادي من أئمة الزيدية ورأي بعض الظاهرية، وروى ابن جرير عن الحسن: من صافح مشركا توضأ.
167
إن الله عليم بأحوالكم وبما يكون في المستقبل من غنى وفقر، حكيم فيما يشرعه لكم من أمر ونهي، كالأمر بقتال المشركين بعد انقضاء عهودهم، والنهي عن قرب المشركين للمسجد الحرام بعد هذا العام، وهو أيضا حكيم فيما يعطي ويمنع لأنه الكامل في أفعاله وأقواله، العادل في خلقه وأمره تعالى.
وهذا إخبار عن غيب في المستقبل، وقد تحقق الخبر، وأنجز الله وعده، فأسلم أهل اليمن وأهل جدة وجرش وغيرهم، وصاروا يحملون الأطعمة إلى مكة، وأسلم المشركون أنفسهم، ولم يبق منهم أحد يمنع من الحرم، وأتتهم الثروات والخيرات من كل مكان، وجاءتهم الغنائم وأموال الجزية التي كانوا يأخذونها من أهل الذمة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على ما يأتي:
١- النص صريح في أن المشرك نجس، وفي أن المؤمن طاهر ليس بنجس.
لذا كان مذهب المالكية والحنابلة: إيجاب الغسل على الكافر إذا أسلم، وقال الشافعي: أحب إلي أن يغتسل.
روى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بثمامة بن أثال يوما، فأسلم، فبعث به إلى حائط (بستان) أبي طلحة، فأمره أن يغتسل، فاغتسل وصلى ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لقد حسن إسلام صاحبكم» وأخرجه مسلم بمعناه.
وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر.
٢- المشرك ممنوع من دخول المسجد الحرام، والمقصود به لدى الشافعية:
حرم مكة كله، سواء مساجدها وغيرها، فلا يمكن الكافر من دخول حرم مكة «١». قال الشافعي: الآية عامة في سائر المشركين، وبخاصة في المسجد
(١) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي: ص ١٧٣ وما بعدها.
168
الحرام، ولا يمنعون من دخول غيره، كما دخل في المسجد ثمامة وأبو سفيان، وهما مشركان.
وقال المالكية: الآية عامة في سائر المشركين وسائر المساجد، إلا في حالة العذر، كدخول الذمي المسجد للتقاضي أمام الحاكم المسلم. وبذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله، واستدل بهذه الآية، ويؤيدهم قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور ٢٤/ ٣٦] ودخول الكفار فيها مناقض لترفيعها، ولأن قوله عز وجل: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ تنبيه على العلة بالشرك والنجاسة «١».
وأباح الحنفية للكافر دخول المساجد كلها في الحرم وغيره لحاجة أو لغير حاجة لأن المقصود بالآية النهي عن حج المشركين واعتمارهم، كما تقدم بيانه.
فلا يمنع اليهود والنصارى من دخول المسجد الحرام ولا غيره، ولا يمنع دخول المسجد الحرام إلا المشركون وأهل الأوثان.
٣- قال الرازي: لا شبهة في أن المراد بقوله: بَعْدَ عامِهِمْ هذا السنة التي حصل فيها النداء من المشركين، وهي السنة التاسعة من الهجرة «٢» أي أن المنع يبدأ من السنة العاشرة.
٤- الفضل المذكور في الآية مطلق، يشمل كل ما أغناهم الله به، وهو الأصح، وقيل: المراد به حمل الطعام إلى مكة من البلاد التي أسلم أهلها كجدة وصنعاء وحنين، فإنه سد حاجتهم وأغناهم عما في أيدي المشركين. وقيل: المراد به الجزية، وقيل: الفيء.
(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٢/ ٩٠١، تفسير القرطبي: ٨/ ١٠٤ وما بعدها.
(٢) تفسير الرازي: ١٦/ ٢٦.
169
وقوله تعالى: فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إخبار عن غيب في المستقبل على سبيل الجزم، وقد وقع الأمر مطابقا لذلك الخبر، فكان معجزة.
وفي هذه الآية دليل على أن تعلق القلب بأسباب الرزق جائز، ولا ينافي ذلك التوكل، وإن كان الرزق مقدرا، وأمر الله وقسمه مفعولا، ولكنه علقه بالأسباب، لحمل الناس على العمل، والسبب لا ينافي التوكل، بدليل
ما أخرج البخاري من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا، وتروح بطانا «١» »
فأخبر أن التوكل الحقيقي لا يعارضه الغدو والرواح في طلب الرزق.
وقوله تعالى: إِنْ شاءَ يدل على أن الرزق ليس بالاجتهاد، وإنما هو فضل من الله تعالى تولى قسمته، وذلك في قوله: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا... [الزخرف ٤٣/ ٣٢].
٥- إقامة الكفار في ديار الإسلام:
بلاد الإسلام بالنسبة لدخول الكفار إليها وإقامتهم فيها ثلاثة أقسام:
الأول- الحرم المكي: يمنع الكافر من دخول الحرم المكي وهو قول الشافعية والحنابلة، عملا بظاهر الآية، فلا يسمح لكافر بدخول الحرم، ولو كان حاملا رسالة، وإنما يخرج إليه الإمام أو نائبه خارج الحرم ليسمع رسالته. وأجاز المالكية لغير المسلم دخول حرم مكة دون البيت الحرام بأمان لمدة ثلاثة أيام، أو بحسب الحاجة في تقدير المصلحة من قبل الإمام.
وأباح أبو حنيفة أيضا للكافر دخول الحرم بإذن الإمام أو نائبه، ثلاثة أيام بلياليها.
(١) أي تغدو بكرة وهي جياع، وتروح عشية وهي ممتلئة الأجواف والبطون.
170
الثاني- الحجاز: وهو ما بين عدن إلى حدود العراق طولا، وما بين جدّه وما والاها من ساحل البحر إلى حدود الشام عرضا. يجوز للكافر دخولها بالإذن لمدة ثلاثة أيام فقط.
روى مسلم عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «لأخرجنّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب، فلا أترك فيها إلا مسلما»
وفي رواية لمسلم: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب».
والمراد من جزيرة العرب في رأي الشافعية والحنابلة هو الحجاز خاصة، كما
حكى ابن حجر عن الجمهور، بدليل رواية أحمد: «أخرجوا اليهود من الحجاز»
ولفعل عمر رضي الله عنه فيما رواه البخاري والبيهقي، حيث أجلى اليهود والنصارى من الحجاز فقط دون جزيرة العرب، وأقرهم في اليمن مع أنها من جزيرة العرب.
ولا يجوز عند المالكية لغير المسلم استيطان جزيرة العرب (الحجاز واليمن) لعموم الحديث السابق عن ابن عمر،
وحديث عائشة عند أحمد: «لا يترك بجزيرة العرب دينان»
وما أخرجه مالك في الموطأ عن الزهري مرسلا: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب».
الثالث- سائر بلاد الإسلام: يجوز للكافر أن يقيم فيها بأمان، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن المسلم، فيجوز للكافر دخول المسجد واللبث فيه، وإن كان جنبا، فإن الكفار كانوا يدخلون مسجده صلّى الله عليه وآله وسلم، ولا شك أن فيهم الجنب، وقد ترجم البخاري: دخول المشرك المسجد «١».
(١) إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي: ص ٣١٨
171
قتال أهل الكتاب
[سورة التوبة (٩) : آية ٢٩]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩)
الإعراب:
مِنَ الَّذِينَ بيان للذين الأولى، وهي بدل.
عَنْ يَدٍ في موضع حال.
المفردات اللغوية:
لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ لا يؤمنون إيمانا صحيحا بالله لأن اليهود جعلوا عزيرا ابن الله، والنصارى جعلوا عيسى ابن الله، وهو الله، ولا يؤمنون باليوم الآخر على نحو صحيح لأن النصارى يجعلون الدينونة والحساب لعيسى لا لله تعالى، ثم إنهم جميعا كفروا بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم الذي أمروا في كتبهم بالإيمان به، فلم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ولا بما جاؤوا به، وإنما يتبعون أهواءهم فيما هم فيه، ولا يتبعون شرع الله ودينه ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كالخمر والربا وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ الثابت الناسخ لغيره من الأديان، وهو دين الإسلام، يقال: دان بكذا: اتخذه دينا وعقيدة مِنَ الَّذِينَ بيان للذين الأولى. أُوتُوا الْكِتابَ أي اليهود والنصاري حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ يلتزموا أداء الجزية، وهي ضريبة مفروضة على الأشخاص القادرين، لا على الأرض، كضرائب الدخل اليوم عَنْ يَدٍ سعة وقدرة وَهُمْ صاغِرُونَ الصغار: التزام أحكام الإسلام وسيادته.
سبب النزول:
روى ابن المنذر عن الزهري قال: أنزلت في كفار قريش والعرب:
172
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ونزلت في أهل الكتاب: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية، فكان أول من أعطى الجزية أهل نجران قبل وفاته عليه الصلاة والسّلام.
وروى ابن أبي شيبة وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن الحسن البصري قال: قاتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أهل هذه الجزيرة من العرب على الإسلام، لم يقبل منهم غيره، وكان أفضل الجهاد، وكان بعده جهاد على هذه الآية في شأن أهل الكتاب: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة من عهودهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وإبعادهم عن المسجد الحرام، أعقبه ببيان حكم أهل الكتاب:
وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية. وفي ذلك توطئة للكلام عن غزوة تبوك مع الروم من أهل الكتاب، والخروج إليها في زمن العسرة والقيظ، حين طابت الثمار واشتد الحر، وما يتعلق بها من فضيحة المنافقين، وتمحيص المؤمنين.
التفسير والبيان:
لما كفر اليهود والنصارى بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم، لم يبق لهم إيمان صحيح، ولا شرع ولا دين، وإنما يتبعون أهواءهم لأنهم لو كانوا مؤمنين بأصل دينهم، لقادهم ذلك إلى الإيمان برسالة الإسلام وبنبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم لأن جميع الأنبياء بشروا به، وأمروا باتباعه، ولم يعد ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء لأن الإسلام من عند الله، وختمت به الديانات، فلم يكف الإيمان بالبعض دون البعض، ما داموا قد كفروا بخاتم النبيين وأشرف المرسلين.
لهذا أمر الله بمقاتلة أهل الكتاب، إذا كانوا موصوفين بصفات أربع وهي:
173
١- إنهم لا يؤمنون بالله: فإن أكثر اليهود مشبّهة يعتقدون أن الإله جسم، والله منزه عن الجسمية والشبيه، فهم لا يؤمنون بوجود الله وتوحيده حقا، وجودا منزها عن التجسيم. والنصارى يعتقدون بالتثليث ثم التوحيد، فهم يقولون بوجود الأب والابن وروح القدس، ثم يعتقدون أن الإله حل في عيسى، فأصبح هو الرب، والله منزه عن الاتحاد والحلول في غيره، وعن الابن والشريك، فصاروا لا يؤمنون بوجود الإله الحق.
ثم إن اليهود يقولون: عزيز ابن الله، وكل من اليهود والنصارى اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، يشرّعون لهم العبادات ويحرّمون، ويطيعونهم في ذلك، فصاروا بمثابة الرب.
٢- إنهم لا يؤمنون باليوم الآخر على النحو الصحيح، فهم يعتقدون بأن الأرواح هي التي تبعث دون الأجساد، كالملائكة، وأن أهل الجنة لا يأكلون ولا يشربون، وليس هناك متع مادية، ويرون أن نعيم الجنة وعذاب النار معان روحية فقط كالسرور والهم، فهم لا يؤمنون بحياة كاملة مادية وروحية في عالم الآخرة، وهذا مناف لما أخبر به القرآن، ومن أنكر البعث الجسماني، فقد أنكر صريح القرآن.
٣- وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: فهم لا يحرمون ما حرمه القرآن وسنة الرسول، ولا يحرمون ما حرمه موسى وعيسى عليهما السّلام، بل حرفوا التوراة والإنجيل، وشرعوا لأنفسهم أحكاما تخالف أصل دينهم المنسوخ بحكم الإسلام، فترى اليهود يستحلون أكل أموال الناس بالباطل كالربا وغيره، والنصارى استباحوا ما حرم عليهم في التوراة كالشحوم والخمور.
٤- ولا يدينون دين الحق: أي لا يعتقدون بصحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق، وإنما يسيرون على وفق ما وضعه رجال الدين بحسب أهوائهم،
174
فبدلوا التوراة والإنجيل، ولم يعد أصل الدين المطابق للإسلام والموحى به إلى موسى وعيسى عليهما السّلام هو المعمول به.
فقاتلوا هؤلاء الموصوفين بأنهم من أهل الكتاب، لتمييزهم عن المشركين في الحكم، فالمشركون يجب في حقهم القتال أو الإسلام، وأهل الكتاب يجب فيهم أحد خصال ثلاث: القتال أو الإسلام أو الجزية.
وغاية قتالهم حتى يلتزموا الدخول في عهد مصحوب بأداء الجزية، وهم صاغرون أي ملتزمون الخضوع لأحكام الإسلام.
وكما أن قتال المشركين واجب إذا حاربوا المسلمين، كما تقدم بيانه عن ابن العربي «١»، كذلك قتال أهل الكتاب عند وجود مقتضيات القتال، كالاعتداء على المسلمين أو بلادهم أو أعراضهم أو فتنتهم عن دينهم أو تهديد أمنهم وسلامتهم، كما حصل من الروم، فكان ذلك سببا لغزوة تبوك، أو حسبما يرى الإمام من المصلحة الحربية معتمدا على التحركات المشبوهة، والاستعدادات الحربية، والحشود العسكرية على حدود دار الإسلام.
وقد سموا بأهل الكتاب لأن لهم في الأصل كتابا سماويا، ويعتقدون في الجملة بالإله وبالبعث والحساب والرسل والشرائع والملل.
ويسمون أيضا «أهل الذمة» أي أهل العهد والميثاق الذي يوجب الإسلام معاملتهم بالعدل والمساواة بمقتضى ذمة الله ورسوله.
ويقال لهم أيضا «المعاهدون» لأنهم يقيمون في دار الإسلام بموجب عهد أو معاهدة معقودة بيننا وبينهم، ويجب تنفيذ أحكامها واحترامها من الجانبين، ويحرم ظلمهم وتكليفهم مالا يطيقون.
(١) أحكام القرآن: ٢/ ٨٨٩
175
والصغار كما تقدم وذكر بعض الفقهاء كالشافعية وابن القيم: هو التزام الأحكام، وليس الإذلال والإهانة.
والجزية ليست من مبتدعات الإسلام، وإنما كانت معروفة لدى الفرس، وأول من سنّها كسرى أنو شروان، فعمل بها عمر حينما افتتح بلاد الفرس.
ولم يحدد القرآن مقدارها، فاختلف الفقهاء في تقديرها، فقال الشافعي:
هي في السنة دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء، لما
روى أبو داود وغيره عن معاذ: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا في الجزية.
قال الشافعي: وهو أي الرسول المبيّن عن الله تعالى مراده. وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز. وتؤخذ في آخر السنة.
وقال المالكية: إنها أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على أهل الورق (الفضة)، الغني والفقير سواء، ولو كان مجوسيا، لا يزاد ولا ينقص على ما فرض عمر، لا يؤخذ منهم غيره.
وقال الحنفية: مقدار الجزية اثنا عشر درهما على الفقراء، وأربعة وعشرون درهما على الأوساط، وأربعون درهما على الأغنياء. وتؤخذ في أول السنة.
ويعامل المجوس في أخذ الجزية معاملة أهل الكتاب، قال ابن المنذر:
لا أعلم خلافا أن الجزية تؤخذ منهم.
روى مالك في الموطأ أن عمر بن الخطاب ذكر أمر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب»
قال ابن عبد البر: يعني في الجزية خاصّة. وفي هذا القول دليل واضح على أنهم ليسوا أهل كتاب.
أما أهل الأوثان: فقال الشافعي رحمه الله وجمهور الفقهاء: لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب على التخصيص، عربا كانوا أو عجما لهذه الآية، فإنهم هم الذين
176
خصّوا بالذكر، فتوجه الحكم إليهم دون سواهم لقوله عز وجل: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٥] ولم يقل: حتى يعطوا الجزية، كما قال في أهل الكتاب. فلا تؤخذ الجزية من عبدة الأوثان من العرب.
وقال الأوزاعي والمالكية: تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذّب، عربيا أو عجميا، تغلبيا أو قرشيا، كائنا من كان إلا المرتد.
والجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين لأنه تعالى قال: قاتِلُوا الَّذِينَ إلى قوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل، وقد أجمع العلماء على أن الجزية تؤخذ من الرجال الأحرار المقاتلين.
وإذا أعطوا الجزية لم يؤخذ منهم شيء من ثمارهم ولا زروعهم ولا تجارتهم، إلا أن يتجروا في بلاد غير بلادهم التي أقرّوا فيها وصولحوا عليها، فحينئذ يؤخذ منهم العشر إذا باعوا أمتعة التجارة، وحصلوا على أثمانها، ولو كان ذلك في السنة مرارا، إلا في حملهم الطعام: الحنطة والزيت إلى المدينة ومكة على التخصيص، فإنه يؤخذ منهم نصف العشر، على ما فعل عمر.
ويمنعون من إظهار الخمر والخنزير في أسواق المسلمين، فإن أظهروا شيئا من ذلك أريقت الخمر عليهم، وأدّب من أظهر الخنزير. وإن أراقها مسلم من غير إظهارها فقد تعدّى، ويجب عليه الضمان في مذهبي المالكية والحنفية.
وإن امتنعوا من أداء الجزية وغيرها، وامتنعوا من حكم الإسلام من غير أن يظلموا، قوتلوا في رأي الجمهور غير الحنفية.
وإن قطعوا الطريق فهم بمنزلة المحاربين المسلمين إذا لم يمنعوا الجزية، أي يطبق عليهم حكم آية المحاربة: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة ٥/ ٣٣].
177
وإذا أسلموا سقطت عنهم الجزية باتفاق الفقهاء،
لما رواه أحمد وأبو داود والبيهقي والدارقطني عن ابن عباس من قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ليس على مسلم جزية»
وفي رواية للطبراني عن ابن عمر: «من أسلم فلا جزية عليه».
وكما تسقط الجزية بالإسلام تسقط بالموت. لذا فإنها تجب بدلا عن عصمة الدم، وسكنى دار الإسلام.
فقه الحياة أو الأحكام:
هذه آية الجزية التي تدخل ضمن معاهدة بين المسلمين وغيرهم، ليستوطنوا في دار الإسلام بأمان وسلام، مع إخضاعهم لأحكام الإسلام المدنية والجزائية، وما عدا ذلك فإنا في عباداتهم أمرنا بتركهم وما يدينون.
وقتالهم مثل قتال المشركين إذا حاربونا واعتدوا علينا، فإنما القتال لمن قاتلنا كما قال تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة ٢/ ١٩٠].
وربما تكون الإقامة في دار الإسلام من قبل هؤلاء المعقود لهم عقد الذمة سببا في تعرفهم على محاسن الإسلام وقوة دلائله، فيتركون دينهم، وينتقلون من الكفر إلى الإيمان.
ومقتضى عقد الذمة: حقن الدماء، ومنع القتال، والتزام أحكام الإسلام، مع تقريرنا البقاء على دينهم إذ لا إكراه في الدين، ولكن ليس يراد بذلك الرضا بكفرهم.
ودلت الآية على أن دين الحق هو الإسلام، قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران ٣/ ١٩] والإسلام: هو التسليم لأمر الله وما جاءت به
178
رسله، والانقياد له، والعمل به. والدين: يراد به الطاعة، أو القهر، أو الجزاء «١». والكفر: إنكار وجود الله، أو نسبة الشريك له، أو عدم الإيمان برسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، أو تكذيب أحد الأنبياء السابقين.
وأرى أن المراد بالدين هنا: النظام الموضوع من الله لعباده في العقيدة والعبادة والأخلاق والتشريع.
عقيدة أهل الكتاب (اليهود والنّصارى)
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣)
الإعراب:
قالَتِ الْيَهُودُ هذا لفظ خرج على العموم، ومعناه الخصوص لأنه ليس كلّ اليهود قالوا ذلك.
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ٩٠
179
عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ من قرأ بالتّنوين كان عُزَيْرٌ مبتدأ، وابْنُ خبره. ولا تحذف الألف في ابن من الخط، ويكسر التّنوين لالتقاء السّاكنين. ومن قرأه بغير تنوين ففيه ثلاثة أوجه:
الأول- أن يكون عُزَيْرٌ مبتدأ، وابْنُ خبره، وحذف التّنوين لسكونه وسكون الباء من ابْنُ كقراءة من قرأ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص ١١٢/ ١- ٢] فحذف التّنوين لسكونه وسكون اللام.
الثاني- أن يجعل ابْنُ صفة لعزيز، وابن: إذا كان صفة لعلم مضافا إلى علم، حذف التّنوين من الأول، مثل: زيد بن عمرو. ويكون خبر المبتدأ محذوفا تقديره: وقالت اليهود عزيز ابن الله معبودهم، وحذف الخبر للعلم به، كما يحذف المبتدأ للعلم به.
الثالث- أن يكون عُزَيْرٌ ممنوعا من الصّرف للعجمة والتّعريف كإبراهيم وإسماعيل، وهذا أضعف الوجوه لأنه عند المحققين عربي مشتق من (عزّره) : إذا عظّمه ووقّره.
لبلاغة:
يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ أراد نور الإسلام، فيه استعارة، شبّه الإسلام بوضوح أدلّته وقطعيّتها وإضاءتها بالشّمس السّاطعة في نورها وضيائها.
المفردات اللغوية:
عُزَيْرٌ هو المعروف عند اليهود باسم (عزرا) المنسوب إلى العازار بن هارون.
يُضاهِؤُنَ يشابهون به في الكفر والشّناعة. قاتَلَهُمُ اللَّهُ لعنهم. أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحقّ إلى غيره مع قيام الدّليل؟ أَحْبارَهُمْ علماء اليهود، جمع حبر.
وَرُهْبانَهُمْ عبّاد اليهود المنقطعين للعبادة، جمع راهب. أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يتّبعونهم في تحليل ما حرّم الله وتحريم ما أحلّ. أَرْباباً جمع ربّ: وهو الخالق الذي يختصّ بالتّشريع حلاله وحرامه. وَما أُمِرُوا في التّوراة والإنجيل. إِلَّا لِيَعْبُدُوا أي بأن يعبدوا.
سُبْحانَهُ تنزيها له. يُرِيدُونَ يقصدون إلى الشيء، أو يفعلون فعلا يفضي إلى المراد، وإن لم يقصدوه. نُورَ اللَّهِ هو دين الإسلام وشرعه وبراهينه. بِأَفْواهِهِمْ بأقوالهم فيه.
أَنْ يُتِمَّ يظهر. أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم. لِيُظْهِرَهُ يعليه. عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ جميع الأديان المخالفة له.
180
سبب النّزول: نزول الآية (٣٠) :
وَقالَتِ الْيَهُودُ:
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم سلّام بن مشكم، ونعمان بن أبي أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصّيف، فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا؟ وأنت لا تزعم أن عزيزا ابن الله، فأنزل الله في ذلك: وَقالَتِ الْيَهُودُ الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى في آية الجزية المتقدمة أن اليهود والنّصارى لا يؤمنون بالله، أوضح ذلك في هذه الآية، فنقل عنهم أنهم أثبتوا لله ابنا، وهذا شرك، ومن جوّز ذلك فهو في الحقيقة قد أنكر الإله، وأنهم اتّخذوا علماءهم أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ في التّحليل والتّحريم، وأنهم يسعون في إبطال الإسلام وهديه.
وهذه الآيات دليل واضح في بيان سبب قتال المؤمنين لأهل الكتاب.
التفسير والبيان:
قالت اليهود أي بعضهم: عزيز ابن الله، وعزيز: كاهن يهودي سكن بابل حوالي سنة ٤٥٧ ق. م، وأسّس المجمع الكبير، وجمع أسفار الكتاب المقدّس، وألّف أسفار: الأيام، وعزرا، ونحميا، وهو يعدّ ناشر اليهودية، بعد أن نسيت، فقدّسه اليهود ووصفوه بأنه ابْنُ اللَّهِ.
والثابت عند المؤرّخين حتى اليهود أنفسهم أن التوراة التي كتبها موسى، ووضعها في تابوت العهد قد فقدت عند ما تغلّب العمالقة على بني إسرائيل، أو بختنصّر قبل عهد سليمان عليه السّلام، فإنه لما فتح التّابوت، لم يجد فيه غير لوحي الوصايا العشر، كما جاء في سفر الملوك الأوّل، وأنّ عزرا هو الذي كتب
181
التّوراة بعد السّبي بالحروف الكلدانية مع بقايا العبرانية. ويرى النقّاد- كما جاء في دائرة المعارف البريطانية- أن أسطورة عزرا اختلقها الرّواة اختلاقا.
وَقالَتِ النَّصارى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وكان قدماؤهم يريدون بالنبوّة معنى مجازيا لا حقيقيا، يعنون به أنه المحبوب المكرّم عند الله، ثم تأثروا بوثنية الهنود، فصاروا يعنون بالبنوّة معنى حقيقيا، وأن ابن الله هو الله، وهو روح القدس، إذ اندمجت هذه الأقانيم الثلاثة وصارت واحدا حقيقة، وكان أول من أعلن ذلك مجمع نيقية ٣٢٥ م أي بعد المسيح بثلاثة قرون، وصارت كلمة (الثّالوث) وهي الأب والابن وروح القدس تطلق على هذه الأقانيم الثّلاثة، التي حلّت في اللّاهوت. وكتبت الأناجيل بعد المسيح عليه السّلام في مدّة تتراوح بين قرن وثلاثة قرون، وقد تأثّرت بوثنية الرّومان، بعد أن فقد الإنجيل الأصلي الذي نزل على عيسى عليه السّلام.
وبما أنّ كلّا من اليهود والنّصارى لا يعتمدون على أصل صحيح لديانتهم، وأن المكتوب لديهم مخترع موضوع من قبل علمائهم، لذا كذّبهم الله تعالى بقوله:
ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ أي لا مستند لهم فيما ادّعوه سوى افترائهم واختلاقهم، كما قال تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ، إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [الكهف ١٨/ ٤- ٥].
يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أي يشابهون في كفرهم قول من قبلهم من الأمم، ضلّوا كما ضلّ هؤلاء، وهم الوثنيّون البراهمة والبوذيون في الهند والصين واليابان، وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرّومان. كما أن مشركي العرب كانوا يقولون: الملائكة بنات الله.
قاتَلَهُمُ اللَّهُ أي لعنهم الله، كيف يصرفون عن الحق وهو توحيد الله
182
وتنزيهه إلى غيره وهو الشّرك الباطل، فما المسيح وعزير إلا مخلوقان عبدان لله، ولا يعقل أن يجعل المخلوق خالقا، مع أنه يأكل ويشرب ويتعب ويألم، لذا قال تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ، كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ... [المائدة ٥/ ٧٥]، وقال تعالى عن المسيح:
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ، وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [الزّخرف ٤٣/ ٥٩]، وقوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
[النساء ٤/ ١٧٢].
ثم أوضح تعالى وجه مضاهاة من كفروا قبلهم، فقال: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ أي اتّخذوا اليهود والنصارى رؤساء الدّين فيهم أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، يقومون بحقّ التّشريع، فيحلّون الحرام، ويحرّمون الحلال، ويطيعونهم في ذلك، تاركين حكم الله.
أما اليهود فقد أضافوا لأحكام التّوراة ما شرعه رؤساؤهم، وأما النّصارى فقد غيّروا أحكام التّوراة وأوجدوا شرائع أخرى في العبادات والمعاملات.
ويوضح ذلك قصة إسلام عدي بن حاتم، روى الإمام أحمد والتّرمذي وابن جرير الطّبري عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فرّ إلى الشّام، وكان قد تنصّر في الجاهلية، فأسرت أخته وجماعة من قومه، ثم منّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم على أخته، وأعطاها، فرجعت إلى أخيها، فرغّبته في الإسلام، وفي القدوم على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقدم عدي إلى المدينة، وكان رئيسا في قومه طيء، وأبوه حاتم الطّائي المشهور بالكرم، فتحدّث الناس بقدومه، فدخل على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم- وفي عنق عدي صليب من فضة- وهو يقرأ هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ.
قال: فقلت: إنهم لم يعبدوهم، فقال: بلى، إنّهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلّوا لهم الحرام، فاتّبعوهم، فذلك عبادتهم إيّاهم.
183
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «يا عدي ما تقول؟ أيضرّك أن يقال: الله أكبر؟
فهل تعلم شيئا أكبر من الله؟ ما يضرّك؟ أيضرّك أن يقال: لا إله إلا الله، فهل تعلم إلها غير الله؟»
.
ثم دعاه إلى الإسلام، فأسلم وشهد شهادة الحق، قال: فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال: «إن اليهود مغضوب عليهم، والنّصارى ضالّون».
ثم أبان الله تعالى ترك أولئك الرؤساء دينهم، فقال: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً أي والحال أنهم ما أمروا على لسان موسى وعيسى إلا أن يعبدوا إلها واحدا، وهو الله الذي شرّع لهم أحكام الدّين، وهو ربّهم وربّ كلّ شيء، فهو الذي إذا حرّم الشيء فهو الحرام، وما حلّله فهو الحلال، وما شرعه اتّبع، وما حكم به نفذ.
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي أنه تعالى شرعا وعقلا لا يوجد إله غيره، وأنه تعالى تنزّه وتقدّس عن الشّركاء والنّظراء والأعوان والأضداد والأولاد، لا إله إلا هو، ولا ربّ سواه.
ولكن هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب يريدون أن يطفئوا نور الإسلام الذي بعث به رسوله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم، ويطفئوا شعلة الحقّ ومصباح الهداية، فيضلّ الناس أجمعون.
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بتثبيته وحفظه والعناية به وإكماله وإتمامه، ولو كره الكافرون ذلك بعد تمامه، كما كرهوه حين بدء ظهوره. والكافر: هو الذي يستر الشيء ويغطيه. أما اليهود فكانوا أشدّ الناس عداوة للمؤمنين، فهم كمشركي العرب.
وأما النّصارى الرّوم فبدؤوا عدوانهم على المسلمين، ثم استمرّ الأوربيون في عدوانهم على الشرق الإسلامي، ثم جاءت الحروب الصّليبيّة التي مثّلت قمّة
184
العدوان على المسلمين، وما زالت السّياسة الاستعمارية والتّبشيرية تحتضن المخططات الرّهيبة لتفريق المسلمين وإبعادهم عن دينهم بمختلف الوسائل الإعلامية والمواقف الحاقدة المتحيّزة ضدّ مصالحهم في أي مكان.
وأما النّور الإسلامي فهو الذي أرسل الله به رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ الذي لا يغيّره ولا يبطله شيء آخر. والهدى: هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع. ودين الحق: هو الأعمال الصحيحة النافعة في الدّنيا والآخرة.
والهدف من ذلك أن يعلي تعالى هذا الدّين على جميع الأديان، ولو كره المشركون ذلك الإظهار. وقد وصفوا بالشّرك بعد الوصف بالكفر للدّلالة على أنهم جمعوا بين الكفر بالرّسول والشّرك.
وقد تحقّق وعد الله ونصره، كما ثبت
في الصّحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن الله زوي لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها».
وروى الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا دخلته كلمة الإسلام، يعزّ عزيزا، ويذلّ ذليلا، إما يعزّهم الله، فيجعلهم من أهلها، وإما يذلّهم فيدينون لها».
وفي مسند أحمد أيضا عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «فوالذي نفسي بيده ليتمنّ الله هذا الدّين حتى تخرج الظّعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: نعم كسرى بن هرمز، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد».
185
فقه الحياة أو الأحكام:
أثبتت الآيات أن أكثر اليهود وأكثر النّصارى مشركون لأنهم نسبوا الابن لله، مقلّدين في ذلك من سبقهم من الكفار كمشركي العرب الذين كانوا يقولون:
الملائكة بنات الله، ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك، فإن حكاية الله عنهم أصدق، ولعلّ هذا المذهب كان فاشيا فيهم، ثم انتهى.
وقال ابن العربي: في هذا دليل من قول ربّنا تبارك وتعالى على أن من أخبر عن كفر غيره- الذي لا يجوز لأحد أن يبتدئ به- لا حرج عليه لأنه إنما ينطق به على معنى الاستعظام له، والردّ عليه، فلا يمنع ذلك منه، ولو شاء ربّنا ما تكلّم به أحد، فإذا مكّن من إطلاق الألسن به، فقد أذن بالإخبار عنه على معنى إنكاره بالقلب واللسان، والرّدّ عليه بالحجّة والبرهان «١».
وقد كذّبهم الله تعالى بقوله: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ أي أنه قول ساقط باطل لا يتجاوز الفم، ولعنهم بقوله: قاتَلَهُمُ اللَّهُ قال ابن عباس: كلّ شيء في القرآن قتل فهو لعن.
ثم وصفهم تعالى بنوع آخر من الشّرك بقوله: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا من دون الله والأكثرون من المفسّرين قالوا: ليس المراد من الأرباب أنهم اعتقدوا فيهم أنهم آلهة العالم، بل المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم، مع أن التّوراة والإنجيل والكتب الإلهية ناطقة بألا يعبدوا إلا إلها واحدا، وأنه لا إله إلا هو، تنزّه من أن يكون له شريك في الأمر والتّكليف أو التّشريع، وأن يكون له شريك في كونه مسجودا له أو معبودا، وأن يكون له شريك يستحقّ التّعظيم والإجلال.
(١) أحكام القرآن: ٢/ ٩١٣ [.....]
186
ثم أخبر الله تعالى عن نوع ثالث من الأفعال القبيحة الصادرة عن رؤساء اليهود والنّصارى، وهو سعيهم في إبطال دعوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وإمعانهم في إخفاء أدلّة صحّة شرعه وقوّة دينه.
والمراد من النّور: الدّلائل الدّالّة على صحّة نبوّته.
أوّلها- المعجزات القاهرة التي ظهرت على يده.
وثانيها- القرآن العظيم الذي ظهر على لسان محمد صلّى الله عليه وآله وسلم مع أنه كان أميّا.
وثالثها- أنّ حاصل شريعته تعظيم الله والثّناء عليه، والانقياد لطاعته، وصرف النّفس عن حبّ الدّنيا أي الحرص عليها دون الآخرة، والتّرغيب في سعادات الآخرة، والعقل يدلّ على أنه لا طريق إلى الله إلا من هذا الوجه.
ورابعها- أن شرعه كان خاليا عن جميع العيوب، فليس فيه دعوة إلى غير الله، وإلى إصلاح حياة البشر «١».
ثم إنه تعالى وعد محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم مزيد النّصر والقوة وإعلاء المنزلة، فقال:
وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
ثم بيّن الله تعالى بعد خيبتهم في إبطال دعوة الإسلام كيف يتمّ أمره بقوله:
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ.
وفي هذه الآية الأخيرة دلالة على أن رسالة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم تمتاز بكثرة الدّلائل والمعجزات على صحّتها، وهو الهدى، وأنها دين الحقّ المشتمل على الصّواب والصّلاح ومطابقة الحكمة وموافقة المنفعة في الدّنيا والآخرة، وأن دينه يعلو على كلّ الأديان، ويغلب كلّ الأديان، فلا دين يصمد أمام النّقاش العلمي والعقلي غير دين الإسلام. والتّاريخ على ممرّ الزّمان يؤكّد إنجاز هذه الوعود علانية في
(١) تفسير الرّازي: ١٦/ ٣٨- ٣٩
187
اقتناع كبار العلماء في كلّ اختصاص إنساني أو علمي بأحقيّته في التّديّن والاعتقاد وإصلاح الحياة البشرية، وظهر الإسلام على كلّ الأديان في الماضي، فاندحر اليهود وأخرجوا من جزيرة العرب، وغلب المسلمون النّصارى في بلاد الشّام وغيرها، وغلبوا المجوس، وعبّاد الأصنام في كثير من بلاد التّرك والهند.
والخلاصة: تضمّنت الآيات أوصافا قبيحة لليهود والنّصارى: نسبة البنوّة لله، إطاعة الرؤساء دون إطاعة الله، محاولتهم إبطال دعوة الإسلام وإخفات صوت الحقّ.
سيرة الأحبار والرهبان في معاملاتهم مع الناس
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥)
الإعراب:
وَالَّذِينَ مبتدأ، والخبر: فَبَشِّرْهُمْ لَيَأْكُلُونَ دخلت اللام على يفعل، ولا تدخل على فعل، لأن يفعل تشبه الأسماء. وَلا يُنْفِقُونَها: إنما قال: يُنْفِقُونَها ولم يقل:
ينفقونهما لأن عادة العرب أن يخبروا عن أحد الشيئين إذا كان هناك دليل يدل على اشتراك بينهما، كقوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها ولم يقل إليهما وإنما أريد التجارة لأنها أعم، وكقوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ أريد الصلاة لأنها أهم، وكقوله
188
تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أريد الرسول لتأكيد الاهتمام بسنته. وقيل: الضمير في «ينفقونها» يعود على الكنوز لدلالة يكنزون عليها، وقيل: يعود على الأموال لأن الذهب والفضة أموال. والخلاصة: أن الضمير يعود إلى الفضة لأنه قصد الأغلب والأعم.
يَوْمَ يُحْمى يَوْمَ: منصوب من ثلاثة أوجه: إما بفعل مقدر تقديره: اذكر يوم يحمى، أو بفعل يقال: أي يقال لهم: هذا في يوم يحمى، أو يكون بدلا من بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي عذاب يوم يحمى، فحذف المضاف، فانتصب على الموضع، لا على اللفظ، كما انتصب قوله تعالى:
دِيناً قِيَماً بالبدل على موضع إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.
البلاغة:
لَيَأْكُلُونَ عبر تعالى عن أخذ الأموال بالأكل على سبيل الاستعارة لأن المقصود الأعظم من جمع الأموال هو الأكل، فسمي الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده.
المفردات اللغوية:
الْأَحْبارِ علماء اليهود. وَالرُّهْبانِ عبّاد النصارى، والقسيسون علماؤهم.
لَيَأْكُلُونَ المراد التصرف فيها بكل أوجه الانتفاع، وعبر عن ذلك بالأكل، والمراد به الأخذ والانتفاع لأنه أهم حالات الانتفاع. بِالْباطِلِ بغير حق كالرشاوى في الحكم. وَيَصُدُّونَ يمنعون. عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه وطريق معرفته الصحيحة وعبادته القويمة. وَلا يُنْفِقُونَها الكنوز، والكنز: خزن الأموال في الصناديق دون إعطاء حق الله فيها. فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لا يؤدون منها حق الزكاة. فَبَشِّرْهُمْ أخبرهم. بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم، وهو تهكم بهم لأن البشارة تكون في الخير لا في الشر. فَتُكْوى تحرق. فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي نالوا جزاءه.
سبب النزول:
نزول الآية (٣٤) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً... : قال الواحدي: نزلت في العلماء والقرّاء من أهل الكتاب كانوا يأخذون الرشا من سفلتهم، وهي المأكل الذي كانوا يصيبونه من عوامهم «١».
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ١٤٠.
189
نزول الآية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ... :
روى البخاري عن زيد بن وهب قال: مررت بالرّبذة (موضع قريب من المدينة) فإذا أنا بأبي ذرّ، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينه كلام في ذلك، وكتب إلى عثمان يشكو مني، وكتب إليّ عثمان أن: أقدم المدينة، فقدمتها، وكثر الناس علي حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال: إن شئت تنحيت وكنت قريبا، فذلك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّروا علي حبشيا لسمعت وأطعت.
والمفسرون أيضا مختلفون، فعند بعضهم أنها في أهل الكتاب خاصة. وقال السدّي: هي في أهل القبلة. وقال الضحاك: هي عامة في أهل الكتاب والمسلمين «١»، وهو الأصح.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية، لادعائهم حق التشريع للناس، وصفهم في هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس تحقيرا لشأنهم، فهم ذوو أطماع وحرص شديد على أخذ أموال الناس بالباطل، وما قاوموا الإسلام إلا خوفا من ضياع مصالحهم المادية، فهم يتخذون الدين مطية لنيل الدنيا.
ووصفهم تعالى أيضا بالبخل الشديد، وحب كنز المال في صناديقهم، والامتناع عن أداء الواجبات في أموالهم.
(١) أسباب النزول، المرجع السابق.
190
والوعيد على الكنز لا يقتصر عليهم في الحقيقة، وإنما يشمل المسلمين أيضا، فبعد أن وصفهم الله تعالى بالحرص على أخذ أموال الناس بالباطل، أردفه بوعيد كل من امتنع عن إخراج الحقوق الواجبة من ماله.
التفسير والبيان:
هذه الآيات بيان لسيرة الأحبار (علماء اليهود) والرهبان (عبّاد النصارى) وكشف لقبائحهم، حتى يعرف أهل الكتاب حقيقتهم، ويتبينوا خطأهم في الاقتداء بهم والثقة فيهم، وليعلم المسلمون سبب عنادهم وبقائهم على كفرهم، ويكون الهدف من الآيات التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم.
يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، اعلموا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ ليأخذون أموال الناس بالباطل، لا بحق شرعي، ونسب ذلك لكثير منهم لا لكلهم إحقاقا للحق، وإنصافا للقلة الصالحة منهم.
وأمثلة أخذهم الأموال بالباطل كثيرة منها: قبول الرشاوى في الأحكام القضائية، وأخذ الربا وهو محرم عليهم، وأخذ الهدايا والنذور والأوقاف المخصصة لقبور الأنبياء والصالحين، وأخذ الأرثوذكس والكاثوليك مقابل صكوك الغفران التي شاعت في القرون الوسطى، أو في مقابل الدعاء والشفاعة للمخطئين عند الله. وبيع الفتاوى بالمال لتحليل الحرام وتحريم الحلال، بقصد إرضاء الملوك والأمراء والحكام، كما قال تعالى في حق اليهود: قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ، تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ، تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً، وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ: اللَّهُ [الأنعام ٦/ ٩١].
ومنها: استباحة اليهود أخذ أموال كل من عداهم ولو بالخيانة أو السرقة، كما قال تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً، ذلِكَ بأنهم قالُوا: لَيْسَ عَلَيْنا
191
فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ، وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ
[آل عمران ٣/ ٧٥].
ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من قبائح رؤساء الدين اليهودي والنصراني، وهو صدهم عن سبيل الله، أي وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس ويمنعونهم عن اتباع الحق، إما بتكذيب رسالة الإسلام، أو التشكيك في مبادئها وأحكامها في العبادة والعقيدة والمعاملة، أو الطعن في النبي المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلم أو في القرآن الكريم.
وبه يتبين أن ما يحرص عليه الناس في الدنيا وهو المال والجاه، شغف به الأحبار والرهبان، فأخذوا المال بالباطل، ومنعوا الناس من معرفة الله معرفة صحيحة، وعبادته عبادة قويمة، وأمعنوا في المنع من متابعة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، حفاظا على مراكزهم الأدبية ومكاسبهم المادية.
ثم وصفهم الله بصفة أخرى هي البخل الشديد ومنع أداء حقوق الله في أموالهم، فقال: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ... أي والذين يجمعون المال ويدخرونه في بيوتهم ولا يخرجون منه الحقوق الواجبة شرعا كالزكاة، ولا ينفقون منه في سبيل الله، فيستحقون العذاب الشديد المؤلم في نار جهنم. وهذا الوعيد كما هو موجه للأحبار يشمل المسلمين أيضا، فكان المراد به الكل. كما وأن المراد بالنفقة:
الواجب لقوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ولا يتوجه العذاب إلا على تارك الواجب.
ولا يكون الكنز حراما إلا إذا لم تؤد زكاته، فإن أديت الزكاة فلا يحرم.
قال مالك عن ابن عمر رضي الله عنه في الكنز: هو المال الذي لا تؤدى زكاته.
وروى الثوري والشافعي وغيرهما عن ابن عمر قال: ما أدّي زكاته، فليس بكنز، وإن تحت سبع أرضين وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز. وهذا مروي أيضا عن عمر وابن عباس وجابر وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا.
أخرج ابن عدي
192
والخطيب عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «أيّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز».
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والحاكم عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ كبر ذلك على المسلمين، وقالوا:
ما يستطيع أحد منا ألا يبقي لولده مالا بعده، فقال عمر: أنا أفرّج عنكم، فانطلق وتبعه ثوبان، فأتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله، إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية، فقال:
«إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيّب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث عن أموال تبقى بعدكم» فكبّر عمر رضي الله عنه، ثم قال له النبي صلّى الله عليه وآله وسلم:
«ألا أخبرك بخير ما يكنز؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها الرجل سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته».
وورد في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر منها أحاديث كثيرة منها ما رواه عبد الرزاق عن علي رضي الله عنه في قوله: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «تبّا للذهب والفضة» فقال الصحابة:
يا رسول الله، فأي المال نتخذ؟ قال: «لسانا ذاكرا، وقلبا شاكرا، وزوجة تعين أحدكم على دينه».
ثم أخبر الله تعالى عن نوع العذاب الذي يطبق على أصحاب الكنوز، وهو أنه يحمى على ما جمعوه من الأموال المكنوزة في النار، أي توضع ويوقد عليها في النار حتى تحمى، ثم يحرق بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، وخصت هذه الأعضاء بالذكر لأنهم بالوجوه يستقبلون الناس مغتبطين بالثروة، ويعبسون في وجوه الفقراء كيلا يعطوهم شيئا، ويتنعمون على جوانبهم وظهورهم في أوساط النعمة، ثم إن الكي على الوجه أشهر وأشنع، وعلى الجنب والظهر آلم وأوجع، ويقال لهم
193
من قبل الملائكة: هذا جزاء ما كنزتم، فذوقوا وبال ما كنزتم لأنفسكم، أي أن ما توهمتم فيه منفعة أصبح ضررا ووبالا عليكم، وهذه آفة المسلمين اليوم حيث إنهم اكتنزوا الأموال الضخمة ولم ينفقوا بعضا منها في سبيل الله، أي في صالح الأمة والجماعة المسلمة.
روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار».
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من آتاه الله مالا، فلم يؤدّ زكاته، مثّل له يوم القيامة شجاعا (حنشا) أقرع له زبيبتان (نقطتان منتفختان في شدقيه) يطوّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه- يعني شدقيه- ثم يقول له: أنا مالك، أنا كنزك. ثم تلا: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ الآية [آل عمران ٣/ ١٨٠].
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات أحكاما ثلاثة:
١- تحريم أكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله تعالى: وهو المبالغة في منع الناس بجميع وجوه المكر والخداع من اتباع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ومتابعة الأخيار من العلماء والناس.
٢- تحريم اكتناز المال دون إنفاقه في سبيل الله، والكنز: المال الذي لا تؤدى زكاته.
194
٣- استحقاق الكانز العقاب الشديد في الآخرة في نار جهنم، مع التوبيخ والتهكم والهم.
أما الحكم الأول: فهو عام للأحبار والرهبان وغيرهم، إلا أنه كان مستقبحا منهم لأنهم يتاجرون في الدين، ويدعون أنهم مقربون إلى الله، وهم أشد الناس حرصا على جمع المال وطمعا فيه، وبخلا به، فجمعوا بين حب المال والجاه. وقد سبق بيان مظاهر أكل أموال الناس بالباطل.
وأما الحكم الثاني: فالمراد به على الصحيح أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين لأنه لو أراد أهل الكتاب على التخصيص لقال: ويكنزون، بغير: وَالَّذِينَ فلما قال: وَالَّذِينَ فقد استأنف معنى آخر يبيّن أنه عطف جملة على جملة، فالذين يكنزون كلام مستأنف، مرفوع على الابتداء، وهذا قول أبي ذرّ وغيره، وعلى هذا القول يكون في الآية دليل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة.
أما القولان الآخران فضعيفان، أحدهما- ما نقل عن معاوية أن المراد بالآية أهل الكتاب، والثاني- ما قاله السدّي وهو أن المراد مانعو الزكاة من المسلمين.
قال ابن خويز منداد: تضمنت الآية زكاة العين (أي النقود) وهي تجب بأربعة شروط: حرية، وإسلام، وحول، ونصاب سليم من الدين. والنصاب مائتا درهم أو عشرون دينارا «١». أو يكمل نصاب أحدهما من الآخر، وأخرج ربع العشر (٥، ٢) من هذا، وربع العشر من هذا «٢». أما اشتراط الحرية، فلأن العبد ناقص الملك، وأما اشتراط الإسلام فلأن الزكاة تطهير للمال والكافر ليس أهلا للتطهير، وأما اشتراط الحول
فلأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال فيما رواه الدارقطني عن أنس بن مالك: «ليس في المال زكاة حتى يحول عليه الحول»
وأما اشتراط النصاب فلأن
النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال ما معناه فيما رواه
(١) الدرهم العربي ٩٧٥، ٢ غم، والدينار هو المثقال وهو ٤٥٧، ٤ غم.
(٢) تفسير القرطبي: ٨/ ١٢٤
195
أبو داود عن علي رضي الله عنه: «ليس في أقل من مائتي درهم زكاة، وليس في أقل من عشرين دينارا زكاة»
ويراعى كمال النصاب عند آخر الحول لاتفاق العلماء على أن الربح في حكم الأصل، فيه الزكاة.
والصحيح ما نقل عن جماعة من الصحابة السابق ذكرهم: أن ما أدّي زكاته فليس بكنز، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز. ولا يصح ما نقل عن علي رضي الله عنه:
أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كثر فهو كنز وإن أدّيت زكاته، فهو خبر غريب.
وأما ما نقل عن أبي ذرّ: «الكنز: ما فضل عن الحاجة» فهو رأي خاص به، ومن شدائده، ومما انفرد به رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون ذلك في وقت شدة الحاجة، ولم يكن في بيت المال ما يكفي المحتاجين، ولا يجوز ادّخار الذهب والفضة في مثل تلك الحال.
وأما زكاة الحلي فلم يوجبها الجمهور لأنها غير مقصودة للنّماء لكن بشرط عدم قصد الكنز، وعدم تجاوز القدر المعتاد بين الناس وهو الوسط الذي لا إسراف فيه، كأن يكون دون الكيلوغرام، كما ذكر الشافعية. وأوجبها أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي عملا بعموم الألفاظ في إيجاب الزكاة في النقدين (الذهب والفضة) ولم يفرّق بين حليّ وغيره. قال الرازي: وهو الصحيح عندنا، لظاهر الآية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ....
وأما الحكم الثالث: وهو تعذيب الكانز بعذاب أليم،
فقد فسر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم هذا العذاب- فيما يرويه مسلم- بقوله: «بشّر الكنّازين بكيّ في ظهورهم يخرج من جنوبهم، وبكيّ من قبل أقفائهم يخرج من جباههم».
ثم إن ظاهر الآية تعليق الوعيد بمن كنز، ولم ينفق في سبيل الله، وهذا أي عدم الإنفاق هو الغالب عرفا، فلذلك خص الوعيد به، أما الصحيح فهو أنه لا بد من توافر صفة الكنز واعتبارها: وهو المال الذي لم تؤدّ زكاته، كما تبين، فمن
196
أدّى زكاة المال لا يعد كانزا، ويعد كانزا أيضا في رأي المالكية من لم يكنز ومنع الإنفاق الواجب في سبيل الله، فما فضل عن الحاجة ليس بكنز إذا كان معدا لسبيل الله.
وقد رتب الله سوء العقوبة والجزاء بقوله: يَوْمَ يُحْمى على حال المعصية الحاصلة من الكانز المسلم والكافر بتعطيله خاصية المال، وهي إنفاقه في سبيل الله، فإن كان المكتنز كافرا فهذه بعض عقوباته، وإن كان مؤمنا، فهذه عقوبته إن لم يغفر له، ويجوز أن يعفى عنه.
وتمثيل صورة العذاب في الآية والحديث حقيقة، ففي حال يمثّل المال فيه ثعبانا، وفي حال يكون صفائح من نار، وفي حال يكون رضفا (حجارة محماة) فتتغير الصفات والجسمية واحدة، فالشجاع الأقرع (الحنش) الذي يمثل به المال جسم، والمال جسم. وخص الشجاع بالذكر لأنه العدو الثاني للناس، والشجاع من الحيات: هو الحية الذكر الذي يواثب الفارس والراجل، ويقوم على ذنبه وربما بلغ الفارس، ويكون في الصحاري.
والأولى لطالب الدّين ألا يجمع المال الكثير، وإن لم يمنع عنه في ظاهر الشرع لأنه أقرب للتقوى، ولأن تكثير المال سبب لتكثير الحرص في الطلب، والحرص متعب للروح والنفس والقلب وضرره شديد على النفس، ولأن كسب المال شاق شديد، وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب، ولأن كثرة المال والجاه تورث الطغيان، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق ٦٨/ ٦- ٧] ولأنه تعالى أوجب الزكاة بقصد تنقيص المال، ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه. وكذلك خيرية اليد العليا لأنها تؤدي إلى نقصان المال.
197
عدد الشهور في حكم الله وقتال المشركين كافة وتحريم النسيء
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (٣٦) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٣٧)
الإعراب:
اثْنا عَشَرَ شَهْراً اثنا عشر: خبر إِنَّ، وشَهْراً: منصوب على التمييز. فِي كِتابِ اللَّهِ فِي: متعلقة بمحذوف، وهي صفة لاثني عشر، وتقديره: إن عدة الشهور اثنا عشر شهرا كائنة في كتاب الله. ولا يجوز أن تكون متعلقة ب عِدَّةَ لأنه يؤدي إلى الفصل بين الصلة والموصول بالخبر، وهو اثْنا عَشَرَ.
وكِتابِ: مصدر، أي كتابة الله، ولا يجوز أن يكون اسما للقرآن ولا لغيره من الكتب لأن الأسماء التي تدل على الأعيان لا تعمل في الظروف لأنها ليس فيها معنى الفعل.
ويَوْمَ: منصوب ب كِتابِ والتقدير: فيما كتب الله يوم خلق السموات والأرض، ولا يجوز تعلقه ب عِدَّةَ لما قدمنا في فِي كِتابِ اللَّهِ.
والضمير في مِنْها يعود إلى الاثني عشر. والضمير في فِيهِنَّ يعود إلى الأربعة لأن (ها) تكون لجمع الكثرة، وهن: لجمع القلة.
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَافَّةً: منصوب على المصدر في موضع الجار، كقولهم:
198
عافاه الله عافية، ورأيتهم عامة وخاصة. وكَافَّةً: إما حال من الفاعل أي قاتلوا المشركين حال كونكم جميعا متعاونين غير متخاذلين كما يفعلون ذلك معكم تماما، وإما من المفعول، أي قاتلوا المشركين حال كونهم جميعا دون تفرقة بين فئة وأخرى.
لِيُواطِؤُا اللام متعلقة بالفعل الثاني، وهو: وَيُحَرِّمُونَهُ أو بما دلّ عليه مجموع الفعلين السابقين.
البلاغة:
يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً: بين يحلون ويحرمون طباق. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ وضع الظاهر وهو الْمُتَّقِينَ موضع المضمر (أي معكم) للثناء عليهم بالتقوى ولحث القاصرين عليها، وتبيان أنها سبب الفوز والفلاح.
المفردات اللغوية:
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ أي عددها المكون للسنة، والشهور: جمع شهر: وهو اسم للهلال سميت به الأيام. فِي كِتابِ اللَّهِ مصدر، وليس اسما للقرآن ولا للوح المحفوظ لأنه نصب كلمة يَوْمَ. مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ أي من الشهور أربعة محرمة وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، والحرم: جمع حرام: من الحرمة بمعنى التعظيم. ذلِكَ أي تحريمها. الدِّينُ الْقَيِّمُ الدِّينُ: الشرع، والْقَيِّمُ: المستقيم الذي لا عوج فيه. فِيهِنَّ أي في الأشهر الحرم.
أَنْفُسَكُمْ أي لا تظلموا في الأشهر الحرم أنفسكم بالمعاصي فإنها فيها أعظم وزرا.
كَافَّةً أي جميعا، في كل الشهور، مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعون والنصر. النَّسِيءُ أي تأخير حرمة شهر إلى آخر، كما كانت الجاهلية تفعله من تأخير حرمة المحرم إذا هل، وهم في القتال، إلى صفر. والنَّسِيءُ: من نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة: إذا أخره عن موضعه. زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ أي زيادة لكفرهم بحكم الله فيه. يُحِلُّونَهُ أي النسيء. لِيُواطِؤُا يوافقوا بتحليل شهر وتحريم آخر بدله. عِدَّةَ عدد. ما حَرَّمَ اللَّهُ من الأشهر، فلا يزيدوا على تحريم أربعة، ولا ينقصوا، ولا ينظروا إلى أعيانها. زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ فظنوه حسنا.
سبب النزول: نزول الآية (٣٧) :
إِنَّمَا النَّسِيءُ: أخرج ابن جرير الطبري عن أبي مالك قال: كانوا
199
يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، فيجعلون المحرم صفر، فيستحلون فيه المحرمات، فأنزل الله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ.
المناسبة:
الآيات عود للكلام عن المشركين في تعداد قبائحهم: وهو إقدامهم على السعي في تغييرهم أحكام الله، وذلك مثل فعل اليهود والنصارى الذين غيّروا حكم الله، فكان الكلام مناسبا عن حكم قتالهم ومعاملتهم، ثم العود إلى أحكام المشركين، فصار هناك تشابه بين المشركين وبين اليهود والنصارى في تعاطي أسباب القتال، وفي إيجاب القتال.
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن أشهر السنة، فيقول: إن عدة الشهور في علمه تعالى وحكمه، وفيما كتبه الله وأوجب الأخذ به، وأثبته في نظام دورة القمر، وفي اليوم الذي خلق الله فيه السموات والأرض اثنا عشر شهرا، على هذا النحو المألوف اليوم.
والمراد: الأشهر القمرية لأن الحساب بها يسير، يعتمد على رؤية القمر، من كل الناس المتعلمين والعوام.
والمراد بقوله: فِي كِتابِ اللَّهِ، أي في كتابته ونظامه وحكمه التشريعي على وفق السنن الإلهية في نظام الكون، أو فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصوابا. وقيل: في اللوح المحفوظ.
والمراد بقوله: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: الوقت الذي تمّ فيه خلقهما، وهو ستة أيام من أيام التكوين والإيجاد.
مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ثلاثة سرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد
200
فرد وهو رجب، أي ذات حرمة وتعظيم تمتاز بها عن بقية الشهور، فقد ورد أن المعصية فيها أشد عقابا، وأن الطاعة فيها أعظم ثوابا، ولله تعالى أن يعظم بعض الأزمنة والأمكنة كما يشاء، فقد فضل البلد الحرام عن سائر البلاد، وميّز يوم الجمعة ويوم عرفة وعشر ذي الحجة عن سائر الأيام، وميز شهر رمضان وأشهر الحج عن بقية الشهور كما قال تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة ٢/ ١٩٧] وإن كان ذلك محرما في سائر الشهور، وميز بعض الليالي كليلة القدر، وبعض الأشخاص بالرسالة أو النبوة.
وكان القتال محرما في هذه الأشهر الأربعة على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام، واستمر العرب على ذلك، ثم نسخت حرمتها عن عطاء الخراساني رضي الله عنه قال: أحلّت القتال في الأشهر الحرم: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وجاءت السنة مبينة حرمة الأشهر وثباتها في وقتها الصحيح،
روى الإمام أحمد والبخاري في التفسير عن أبي بكرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم خطب في حجة الوداع، فقال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» أي رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه، وعاد الحج في ذي الحجة، وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية. وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة، وكانت حجة أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة «١».
ثم قال: «أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، ثم قال: أي شهر هذا؟
(١) الكشاف: ٢/ ٣٨
201
قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا: بلى، ثم قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أليست البلدة؟ قلنا: بلى قال: فإن دماءكم وأموالكم- وأحسبه قال: وأعراضكم- عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا.
وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا لا ترجعوا بعدي ضلّالا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا هل بلغت؟ ألا ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، فلعلّ من يبلّغه يكون أوعى له من بعض من سمعه».
ثم قال الله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي أن تحريم الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم دين إبراهيم وإسماعيل، أي الحكم والشرع الذي لا التواء فيه ولا اعوجاج، فلا يجوز نقل تحريم المحرم مثلا إلى صفر، خلافا لما كان يفعل أهل الجاهلية من تقديم بعض أسماء الشهور وتأخير البعض.
وكانت العرب قد تمسكت بتعظيم هذه الأشهر الحرم وراثة عن إبراهيم وإسماعيل، ويحرمون القتال فيها، حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه، لم يتعرض له. وسموا رجبا: الأصم، حتى أحدث النسيء، فغيروا وبدلوا وأخلّ أهل الجاهلية بحرمة هذه الأشهر.
فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي لا تظلموا في الأشهر الحرم أنفسكم، باستحلال حرامها، فإن الله عظّمها، وإياكم أن تعملوا النسيء فتنقلوا الحج من شهره إلى شهر آخر، وتغيروا حكم الله تعالى.
والمراد النهي عن جميع المعاصي بسبب ما لهذه الأشهر من تعظيم الثواب والعقاب فيها، كما قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ [البقرة ٢/ ١٩٧].
202
وهذه الأمور وإن كانت حراما في غير هذه الأشهر، إلا أنه أكد الله تعالى فيها المنع، زيادة في شرفها.
ثم أبان الله تعالى حكم قتال المشركين بنحو عام في كل زمان، فقال:
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أي قاتلوا المشركين جميعا أي مجتمعين متعاونين، كما يقاتلونكم جميعا مجتمعين متعاونين، وهذا على أن كَافَّةً حال من الفاعل، ويصح كونها حالا من المفعول، أي قاتلوا المشركين حال كونهم جميعا، كما يقاتلونكم جميعا من غير تفرقة بين فئة وأخرى.
وظاهر الآية: إباحة قتالهم في جميع الأشهر، حتى الأشهر الحرم، فيكون القتال فيها مباحا، ويؤيده قول عطاء الخراساني المتقدم: أحلت القتال في الأشهر الحرم: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي ما فيها من قوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وقوله: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً.
فهذه الآية تأذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام، إذا كانت البداءة منهم، كما قال تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ [البقرة ٢/ ١٩٤] وقال تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة ٢/ ١٩١].
وحاصر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أهل الطائف في شوال، واستمر الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام، وهو بعض ذي القعدة.
وأما آيات البقرة الدالة على تحريم القتال في الأشهر الحرم [١٩٤، ٢١٧] وآية المائدة [٢] فهي منسوخة بآيات التوبة لنزولها بعد سورة البقرة بسنتين.
وهذا القول بإباحة القتال في الأشهر الحرم هو المعتمد شرعا.
203
ويحتمل أن يكون قوله تعالى: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً... منقطعا عما قبله وأنه حكم مستأنف، للتحريض على قتال المشركين، أي كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم، فاجتمعوا أنتم أيضا لهم إذا حاربتموهم، وقاتلوهم بنظير ما يفعلون.
ثم قال الله تعالى مطمئنا المؤمنين بالنصر: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ أي أن الله تعالى مؤيد وناصر الأولياء الأتقياء الذين يتخذون وقاية من مخالفة أمره، وهو معهم بالمعونة والنصر فيما يقومون به من أعمال القتال وغيره.
ثم أبان الله تعالى سبب استحقاق المشركين القتال والذم العظيم وهو تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الخاصة، وتحليلهم ما حرم الله، وتحريمهم ما أحلّ الله، وذلك بالتلاعب في الزمان والوقت بلجوئهم إلى كبس السنة القمرية لتساوي السنة الشمسية، وعملهم النسيء في الأشهر الحرم لأنه كان يشق عليهم ترك القتال وشن الغارات ثلاثة أشهر متواليات.
أما كبس السنة القمرية: فهو تكميل النقص الذي في السنة القمرية لتساوي السنة الشمسية، فيزيدون كل ثلاث سنين شهرا في العام، وذلك لأن السنة القمرية تنقص عن السنة الشمسية أحد عشر يوما تقريبا، إذ هي (١٠٠٠/ ٣٦٦ ٣٥٤ يوما) فتنتقل الشهور العربية من فصل إلى فصل، فيكملون النقص بأن يزيدوا في كل ثلاث سنوات شهرا، لتكون السنة قمرية شمسية، وليجعلوا وقت الحج في زمن معين وفقا لمصلحتهم، لينتفعوا بتجاراتهم، فكانوا إذا حضروا للحج حضروا للتجارة، وربما يكون الوقت غير مناسب لحضور التجارات من أنحاء البلاد، فيختل بذلك نظام تجارتهم إذ قد يكون الحج مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، فيشق ذلك على العرب أيام الجاهلية، فاختاروا للحج وقتا معينا، وثبّتوا السنة القمرية كالسنة الشمسية لتنتظم علاقاتهم التجارية مع غيرهم من الشعوب الأخرى، مع احتفاظهم بمراعاة نظام السنة القمرية في المعاملات والعبادات الذي توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السّلام.
204
وقد تعلموا كبس السنة من اليهود والنصارى الذين يعتمدون على السنة الشمسية، وهي (٤/ ١ ٣٦٥ يوما) وفي كل أربع سنوات يتكون من الكسر عندهم يوم كامل، فتصبح السنة (٣٦٦ يوما) وفي كل مائة وعشرين سنة تزيد السنة شهرا كاملا، فتكون ثلاثة عشر شهرا، وتسمى كبيسة. أما في عصرنا فيقتصر على زيادة يوم في آخر شهر شباط (فبراير) كل أربع سنوات.
وأما النسيء في الشهور: فهو تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر ليس له تلك الحرمة، بسبب أنه كان يشق عليهم أداء عباداتهم والقيام بتجاراتهم بالسنة القمرية، حيث كان حجهم يقع مرة في الشتاء، ومرة في الصيف، فيتألمون من مشقة الصيف، ولا ينتفعون بتجاراتهم التي يصطحبونها في موسم الحج، كما أنه كان يشق ترك القتال وشن الغارات ثلاثة أشهر متوالية، فتركوا اعتبار السنة القمرية، واعتمدوا على السنة الشمسية، ولزيادتها عن السنة القمرية احتاجوا إلى الكبس، كما بينت، فنقلوا حرمة شهر المحرم إلى صفر لتبقى الأشهر الحرم أربعة ليوافقوا عدد ما حرمه الله في الاسم دون الحقيقة، اكتفاء بمجرد العدد، ونقلوا الحج من شهر إلى آخر، وإذا كانوا في حرب ودخل شهر رجب مثلا قالوا: نسميه رمضان، ونطلق اسم رمضان على رجب.
وذلك لأن دورة القمر الشهرية: (٨، ٢ ثانية ٤٤ دقيقة ١٢ ساعة ٢٩ يوما) فتكون السنة القمرية أنقص من السنة الشمسية.
وأول من عمل النسيء: نعيم بن ثعلبة الكناني.
وكان يفعل النسيء بعده رجل كبير من كنانة يقال له (القلمّس) يقول في أيام منى حيث يجتمع الحجيج: أنا الذي لا يردّ لي قضاء، فيقولون: صدقت، فأخّر عنا حرمة المحرم، واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم، ويحرم عليهم صفرا، ثم يجيء العام المقبل بعده، فيقول مثل مقالته: إنا قد حرمنا صفر
205
وأخرنا المحرم، ثم صاروا ينسئون غير المحرم، فتتغير حقائق الشهور كلها، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، وحرموا أربعة أشهر من شهور العام اكتفاء بمجرد العدد.
لذا ذم الله تعالى تصرفهم وتلاعبهم بالشهور القمرية، فقال: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ أي إن تأخير حرمة شهر إلى آخر، وقلب وضع التحريم والتحليل زيادة في أصل كفرهم القائم على الشرك وعبادة الأصنام، وتغيير لملة إبراهيم بسوء التأويل، ولأن الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفرا.
يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يوقع النسيء الذين كفروا في ضلال زيادة على ضلالهم القديم. وعلى قراءة يضل المبني للمعلوم معناه: يضلهم الله، فيحلون الشهر المؤخر عاما، ويحرمونه عاما.
لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي ليوافقوا في مجرد العدد الأربعة الأشهر الحرم.
فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ أي فيحلوا بهذه المواطأة ما حرمه الله تعالى من القتال، بتأخير هذا الشهر الحرام.
زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ أي حسّن الشيطان لهم أعمالهم السيئة، فظنوا ما كان سيئا حسنا، وتوهموا شبهتهم الباطلة أنها صواب.
وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي لا يوفق ولا يرشد القوم الضالين الذين يختارون السيئات، إلى الحكمة والخير والصواب وفهم الحكمة من أحكام الشرع، وإنما يخذلهم ولا يلطف بهم لأن الهداية المؤدية إلى السعادة في الدارين من آثار الإيمان والعمل الصالح، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ [يونس ١٠/ ٩].
206
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على الأحكام التالية:
١- إن عدد الشهور القمرية في علم الله تعالى وفي حكمه وإيجابه في اللوح المحفوظ يوم خلق السموات والأرض اثنا عشر شهرا، فإنه تعالى وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها على ما رتّبها عليه، يوم خلق السموات والأرض، على وفق سنته الإلهية ونظامه البديع المتقن، وأنزل ذلك على أنبيائه في كتبه المنزلة. وحكمها باق على ما كانت عليه، لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها.
والمقصود من ذلك اتباع أمر الله تعالى، ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية، من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتّبوها عليه.
٢- الواجب في شريعتنا الاعتماد على السنة القمرية في العبادات كالصوم والحج وغيرها، كما عرفتها العرب، دون السنة الشمسية أو العبرية أو القبطية وغيرها، وإن لم تزد على اثني عشر شهرا. وذلك بدليل الآية التي معنا، حيث ذكر فيها: مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ والأربعة الحرم من الشهور القمرية وهي (ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب)
وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن رجب: «الذي بين جمادى وشعبان»
وبدليل قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ، لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ [يونس ١٠/ ٥] فجعل تقدير القمر بالمنازل علة لمعرفة السنوات والحساب، وهو إنما يصحّ بالاعتماد على دورة القمر.
وبدليل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، قُلْ: هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة ٢/ ١٨٩] وهو يدل على السنة القمرية واعتبارها في الصيام والزكاة والحج والأعياد والمعاملات وأحكامها.
207
٣- الإسلام دين الحق والصواب والاستقامة لقوله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي ذلك الشرع والطاعة، والقيّم أي القائم المستقيم. وقيل: ذلك الحساب الصحيح والعدد المستوفى، وقيل: ذلك القضاء، وقيل: الحق.
٤- تحريم ظلم النفس بارتكاب المعاصي والذنوب في جميع السنة لقوله تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ على قول ابن عباس: راجع إلى جميع الشهور. وقال الأكثرون: راجع إلى الأشهر الحرم خاصة لأنه إليها أقرب، ولها مزية في تعظيم الظلم لقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وهذا تعظيم لحرمتها وتأكيد لامتيازها، لا أن الظلم في غير هذه الأيام جائز، وإنما هو حرام في كل الأيام والشهور والسنين، وإذا عظم الله تعالى شيئا عظّمه من جهتين، وصارت حرمته متعددة، فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، وذلك ثابت في البلد الحرام.
وقيل: إن الظلم هو إباحة القتال فيها، ثم نسخ بإباحة القتال في جميع الشهور، كما قال قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري، وهو الصحيح المعتمد
لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفا بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة.
ونظرا لتعظيم حرمة الشهر الحرام، قال الشافعي فيمن قتل فيه شخصا خطأ: تغلظ عليه الدية، وقال: تغلظ الدية في النفس وفي الجراح في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وذوي الرحم. وقال الأوزاعي: القتل في الشهر الحرام تغلّظ فيه الدية فيما بلغنا، وفي الحرم، فتجعل دية وثلثا.
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهما وابن أبي ليلى: القتل في الحلّ والحرم سواء، وفي الشهر الحرام وغيره سواء، قال القرطبي: وهو الصحيح لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم سنّ الديات، ولم يذكر فيها الحرم ولا الشهر الحرام. وأجمعوا على أن
208
الكفارة على من قتل خطأ في الشهر الحرام وغيره سواء، فالقياس أن تكون الدية كذلك.
٥- تعظيم حرمة الأشهر الحرم: خصّ الله تعالى الأربعة الأشهر بالذكر، ونهى عن الظلم فيها تشريفا لها، وإن كان منهيا عنه في كل الزمان، كما قال:
فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وهذا رأي أكثر المفسرين، أي لا تظلموا في الأربعة الأشهر أنفسكم. وروي عن ابن عباس قال: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ في الاثني عشر.
٦- الأمر بقتال المشركين كافة، قال ابن العربي: يعني محيطين بهم من كل جهة وحالة، فمنعهم ذلك من الاسترسال في القتال»
. وهذا ترغيب في قتالهم وتحريض، معاملة بالمثل، وتوحيدا للصف وجمعا للكلمة.
وقال بعض العلماء: كان الغرض بهذه الآية قد توجّه على الأعيان (أي أن القتال فرض عين) ثم نسخ ذلك، وجعل فرض كفاية.
وفي هذا الكلام بعد لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لم يلزم الأمة جميعا النّفر، وكان القتال قد استقرّ على أنه فرض كفاية بعد أن كان في مرحلة قصيرة فرض عين، وإنما معنى هذه الآية- كما ذكر القرطبي- الحض على قتالهم والتحزب عليهم وجمع الكلمة، ثم قيدها بقوله: كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً فبحسب قتالهم واجتماعهم لنا يكون فرض اجتماعنا لهم «٢».
فليس في هذه الآية إعلان شامل للحرب على المشركين، وإنما هي آمرة بتوحيد المؤمنين، وجعلهم جبهة واحدة عند قتال المشركين، فهي لتحريضهم
(١) أحكام القرآن: ٢/ ٩٢٨
(٢) تفسير القرطبي: ٨/ ١٣٦، تفسير الرازي: ١٦/ ٥٤
209
على التعاون والتناصر، وعدم التخاذل والتقاطع، كما أن المشركين جبهة واحدة متعاونون متناصرون أثناء قتالهم المسلمين.
٧- تحريم النسيء، أي تأخير حرمة شهر ووقته إلى شهر آخر، فذلك يضادّ الحقائق، ويظهر التلاعب بالسنن الإلهية، ويغير أوقات العبادة، وهو أيضا زيادة في كفر المشركين، الذين أنكروا وجود الباري فقالوا:
وَمَا الرَّحْمنُ؟ [الفرقان ٢٥/ ٦٠] في أصح الوجوه، وأنكروا البعث فقالوا:
مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ [يس ٣٦/ ٧٨] وأنكروا بعثة الرسل فقالوا:
أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ؟ [القمر ٥٤/ ٢٤]، وزعموا أن التحليل والتحريم عائد إليهم، فحللوا ما حرّم الله وحرموا ما أحل الله على وفق شهواتهم وأهوائهم، وأضلوا الذين كفروا، وحافظوا على مجرد العدد في التحريم: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي لم يحلّوا شهرا إلا حرموا شهرا لتبقى الأشهر الحرم أربعة، وذلك كله من تزيين الشيطان لهم هذا العمل السيء، والله لا يرشد كل كفار أثيم.
وكان الهدف من النسيء شيئين ماديين لمصالح الدنيا: الأول- ترتيب وقت الحج في زمن يناسب ظروف تجاراتهم، بدلا من تقلّبه تارة في الصيف وتارة في الشتاء، والثاني- شن الغارات والحروب، أو الاستمرار في القتال، على وفق رغباتهم وأهوائهم ومصالحهم.
وترتب على النسيء الاعتماد على السنة الشمسية في الواقع لأنهم جعلوا السنة القمرية تساير السنة الشمسية، عن طريق الكبيسة، وأدى ذلك إلى جعل بعض السنين ثلاثة عشر شهرا، ونقل الحج من بعض الشهور القمرية إلى غير وقته المخصص له.
210
التحريض على الجهاد والتحذير من تركه ومعجزة الغار في الهجرة
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (٣٨) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)
الإعراب:
إِلَّا تَنْفِرُوا بإدغام لا في نون إن الشرطية، ومثلها: إِلَّا تَنْصُرُوهُ. إِذْ أَخْرَجَهُ منصوب ب نَصَرَهُ اللَّهُ وثانِيَ اثْنَيْنِ أي أحد اثنين، وهو منصوب على الحال من هاء أَخْرَجَهُ وهو النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. وقيل: هو حال من ضمير محذوف تقديره: فخرج ثماني اثنين.
فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ جواب الشرط.
إِذْ هُما فِي الْغارِ منصوب على البدل من قوله تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهو بدل الاشتمال.
211
إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ بدل من قوله: إِذْ هُما فِي الْغارِ وهاء لِصاحِبِهِ يراد بها أبو بكر.
لا تَحْزَنْ جملة فعلية في موضع نصب ب يَقُولُ. وهاء أَيَّدَهُ يراد بها النبي عليه الصلاة والسّلام.
وَكَلِمَةُ اللَّهِ مبتدأ مرفوع، وهِيَ الْعُلْيا خبره. وقرئ كلمة بالنصب، وفيه بعد لأن كلمة الله لم تزل عالية، فيبعد نصبها ب جَعَلَ لما فيه من إيهام أنها صارت عالية بعد أن لم تكن. والذي عليه جماهير القراء: هو الرفع.
هِيَ الْعُلْيا هِيَ ضمير فصل أو مبتدأ، وفيها تأكيد فضل كلمة الله في العلو وأنها المختصة به دون سائر الكلم.
البلاغة:
ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ استفهام للإنكار واللوم أو التوبيخ.
أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فيه إيجاز بالحذف، أي أرضيتم بنعيم الدنيا بدل نعيم الآخرة.
فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا إظهار الدنيا في مقام الإضمار لزيادة التقرير، والمبالغة في التهوين بشأن الدنيا وبيان حقارتها بالنسبة للآخرة.
يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً بينهما جناس اشتقاق.
وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى: كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا استعارة للشرك والدعوة إلى الكفر، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا استعارة للإيمان والتوحيد والدعوة إلى الإسلام.
المفردات اللغوية:
انْفِرُوا أقدموا على القتال بخفة ونشاط، والمصدر: النفر والنفور، واستنفر الإمام الناس إلى القتال: أعلن النفير العام، وحثهم ودعاهم إلى جهاد العدو، واسم ذلك القوم الذين يخرجون:
النفير. اثَّاقَلْتُمْ تباطأتم وملتم عن الجهاد. إِلَى الْأَرْضِ قعدتم فيها، والاستفهام للتوبيخ.
مِنَ الْآخِرَةِ آثرتم الدنيا على الآخرة، وقبلتم بدل نعيمها. مَتاعُ ما يتمتع به من لذائذ الدنيا. فِي الْآخِرَةِ في جنب متاعها. إِلَّا قَلِيلٌ حقير. إِلَّا تَنْفِرُوا إن لم تخرجوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للجهاد. أَلِيماً مؤلما. وَيَسْتَبْدِلْ أي يأت بهم بدلكم. وَلا تَضُرُّوهُ أي الله
212
أو النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. شَيْئاً بترك نصره، فإن الله ناصر دينه. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ مقتدر، ومنه نصر دينه ونبيه.
إِلَّا تَنْصُرُوهُ إن لم تنصروا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم. إِذْ حين. أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا من مكة، أي ألجؤوه إلى الخروج، لما أرادوا قتله أو حبسه أو نفيه، بدار الندوة. ثانِيَ اثْنَيْنِ أحد اثنين، والآخر أبو بكر، والمعنى: نصره الله في مثل تلك الحالة، فلا يخذله في غيرها. الْغارِ غار جبل ثور، والغار: النقب أو الفتحة في الجبل. إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ أبي بكر الذي قال للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما رأى أقدام المشركين: لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا. لا تَحْزَنْ المراد بالنهي عن الحزن مجاهدة النفس وتوطينها على عدم الاستسلام له. إِنَّ اللَّهَ مَعَنا بنصره وتأييده.
سَكِينَتَهُ طمأنينته. عَلَيْهِ الضمير يعود على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وقيل: على أبي بكر. وَأَيَّدَهُ أي النبي. بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها ملائكة في الغار، وفي مواطن قتاله. كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي دعوة الشرك والكفر. السُّفْلى المغلوبة. وَكَلِمَةُ اللَّهِ أي كلمة التوحيد أو الشهادة بتوحيد الإله. هِيَ الْعُلْيا الغالبة. وَاللَّهُ عَزِيزٌ في ملكه. حَكِيمٌ في صنعه.
سبب النزول:
نزول الآية (٣٨) :
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: أخرج ابن جرير عن مجاهد في هذه الآية قال:
هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين في الصيف حين طابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشق عليهم المخرج، فأنزل الله هذه الآية.
نزول الآية (٣٩)
إِلَّا تَنْفِرُوا:
أخرج ابن أبي حاتم عن نجدة بن نفيع قال: سألت ابن عباس عن هذه الآية، فقال: استنفر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أحياء من العرب، فتثاقلوا عنه، فأنزل الله: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً فأمسك عليهم المطر، فكان عذابهم.
والخلاصة: لا خلاف أن هذه الآيات نزلت عتابا على تخلّف من تخلّف عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام.
213
قال المحققون: وإنما استثقل الناس الخروج لغزوة تبوك لجهاد الروم لأسباب.
أحدها- شدة الزمان في الصيف والقحط.
وثانيها- بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به العادة في سائر الغزوات.
وثالثها- إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت.
ورابعها- شدة الحر في ذلك الوقت.
وخامسها- مهابة عسكر الروم «١».
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أسباب قتال الكفار من المشركين واليهود والنصارى، وذكر منافع مقاتلتهم، كقوله: يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ. ذكر هنا ما يوجب قتال الروم وأتباعهم من النصارى من عرب الشام في غزوة تبوك. وتبوك في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، تبعد عن الأولى ٦٩٠ كم وعن الثانية ٦٩٢ كم، وكانت هذه الغزوة في رجب السنة التاسعة للهجرة بعد رجوع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من غزوة حنين والطائف.
ونزلت هذه الآيات لما دعا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم إلى غزوة تبوك، وكانوا في عسرة وضيق. وشدة حر وقد حان قطاف التمر عندهم، فشق ذلك عليهم، فأبان تعالى أنه لا يصح ترك سعادة الآخرة والخير الكثير من أجل سعادة الدنيا وطيباتها، فذلك جهل وسفه.
والكلام من هنا إلى آخر السورة في غزوة تبوك، وما صاحبها من هتك ستر
(١) تفسير الرازي: ١٦/ ٥٩
214
المنافقين وضعفاء الإيمان، وتطهير قلوب المؤمنين من عوامل الشقاق، إلا آيتين في آخرها، وإلا ما جاء في أثنائها من أحكام وحكم، جريا على منهج القرآن في أسلوبه الذي اختص به.
وسبب الغزوة: استعداد الروم والقبائل العربية المتنصرة من لخم وجذام وغيرهم، وتجهيز جيش كثيف، لغزو المدينة، بقيادة «قباذ» وعدد جنده أربعون ألفا.
فندب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم الناس للخروج لقتالهم، وكان عثمان قد جهز عيرا إلى الشام للتجارة، فقال: يا رسول الله، هذه مائتا بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتا أوقية (من الفضة) فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم».
ولما لم يجد النبي من يقاتله عاد إلى المدينة، بسبب انسحاب الروم وعدولهم عن فكرة الزحف واقتحام الحدود. ولكن كان لهذه الغزوة أثر معنوي كبير في نظر العرب والروم، فكانت كفتح مكة لأنها كانت احتكاكا بأعظم قوة حينذاك، وأثرت على المدى البعيد في نفوس الأعداء، بعد أن كان العرب يخشون غزو الروم في عقر دارهم.
وقد مهد الله بهذا الغزو الذي كان له أثر عميق في نفوس العرب، لغزو المسلمين للشام في عهد الخليفتين: أبي بكر وعمر.
التفسير والبيان:
يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، ما لكم تثاقلتم وتباطأتم عن الجهاد، حين قال لكم الرسول الأمين: انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم ومهاجمتكم؟ فقوله: ما لَكُمْ ما: حرف استفهام معناه التقرير والتوبيخ، والتقدير: أي شيء يمنعكم عن كذا؟
215
ومعنى: انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ: إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله ولإعلاء كلمته. واثَّاقَلْتُمْ: تكاسلتم وملتم إلى الراحة وطيب الثمار والتفيؤ في الظلال. فهذا ليس من شأن الإيمان الذي يدعو إلى بذل النفس والمال في سبيل الله وطاعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات ٤٩/ ١٥].
أرضيتم بلذات الحياة الدنيا بدلا من الآخرة وسعادتها ونعيمها؟ إن كنتم فعلتم ذلك فقد تركتم الخير الكثير في سبيل الشيء الحقير، فما تتمتعون به في الدنيا متاعا مقترنا بالهم والألم، إذا قيس بنعيم الآخرة الدائم المقيم، إلا شيء حقير، لا يصلح عوضا عن الشيء الكثير.
روى الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن المستورد أخي بني فهر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع؟» وأشار بالسبابة.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة» ثم تلا هذه الآية: فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ.
فالآية والحديث تزهيد في الدنيا، وترغيب في الآخرة.
ثم توعد الله تعالى من ترك الجهاد، فقال: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ... أي إن لم تخرجوا مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى ما دعاكم إليه، يعذبكم عذابا مؤلما في الدنيا كالهلاك بالقحط وغلبة العدو، ويستبدل بكم قوما غيركم، لنصرة نبيه وإقامة دينه، كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ، ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد ٤٧/ ٣٨] أي أنه تعالى يهلكهم ويستبدل بهم قوما آخرين خيرا منهم وأطوع،
216
وأنه غني عنهم في نصرة دينه، لا يؤثر تثاقلهم فيها شيئا. قال ابن عباس:
استنفر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم حيا من العرب، فتثاقلوا عنه، فأمسك الله عنهم القطر، فكان عذابهم.
ولا تضروا الله شيئا بتوليكم عن الجهاد، وتثاقلكم عنه لأنه هو القاهر فوق عباده. وقيل: الضمير للرسول، أي ولا تضروه لأن الله وعده أن يعصمه من الناس، وأن ينصره، ووعد الله كائن لا محالة: إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ [آل عمران ٣/ ١٩٤]. وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [الحج ٢٢/ ٤٧].
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي قادر على الانتصار من الأعداء بدونكم.
ثم رغبهم الله تعالى في الجهاد ثانية ومناصرة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: إِلَّا تَنْصُرُوهُ... أي إن لم تنصروا رسوله، فإن الله ناصره ومؤيده، وكافيه وحافظه، كما تولى نصره عام الهجرة، لما همّ المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه من بلده: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ...
[الأنفال ٨/ ٣٠].
فخرج منهم هاربا بصحبة صدّيقه وصاحبه أبي بكر، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام، ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم، ثم يسيروا نحو المدينة.
ففزع أبو بكر على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لما رأى المشركين، حال كون النبي أحد اثنين، والثاني أبو بكر في غار جبل ثور، إذ قال لصاحبه: لا تخف ولا تحزن، إن الله معنا يؤيدنا بنصره وعونه وحفظه.
روى أحمد والشيخان عن أنس قال: «حدثني أبو بكر قال: كنت مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الغار، فرأيت آثار المشركين، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه، لأبصرنا تحت قدمه، فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين، الله
217
ثالثهما»
وفي رواية أحمد: «لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه... ».
فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ.. أي فأنزل الله طمأنينته وتأييده ونصره عليه، أي على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، في أشهر القولين، وقيل: على أبي بكر، قال ابن عباس وغيره: لأن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لم تزل معه سكينة، وهذا لا ينافي تجدد سكينة خاصة بتلك الحال. والسكينة: ما ألقى في قلبه من الأمن. وقال ابن العربي:
عود الضمير على أبي بكر هو الأقوى لأنه خاف على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من القوم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ بتأمين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فسكن جأشه، وذهب روعه، وحصل الأمن، ورجح الرازي هذا القول لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكورات في هذه الآية: هو أبو بكر، ولأن الحزن والخوف كان حاصلا لأبي بكر لا للرسول عليه الصلاة والسلام، ولو كان الرسول خائفا لما أمكنه تسكين خوف أبي بكر بقوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، وقال الجمهور: الضمير عائد على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، لأن السكينة هنا بمعنى الصون وخصائص النبوة.
ثم قال: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها أي قوّاه وآزره بالملائكة. وجعل كلمة الشرك والكفر هي السفلى أي المغلوبة، وكلمة الله التي هي لا إله إلا الله أو الدعوة إلى الإسلام هي العليا الغالبة، والله عزيز غالب في انتقامه وانتصاره، منيع الجناب، لا يضام من لاذ به، حكيم في أقواله وأفعاله، يضع الأشياء في مواضعها. وقد تم نصر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم وارتقاء دولته، وهزمت كلمة المشركين وذلت دولة الشرك، وأظهر الله دينه على كل الأديان: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف ٦١/ ٩] قال ابن عباس: يعني بكلمة الذين كفروا: الشرك، وكلمة الله: هي لا إله إلا الله.
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حميّة، ويقاتل رياء، أي
218
ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله».
فقه الحياة أو الأحكام:
تضمنت الآيات عتاب من تخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام واحد.
ودلت الآية الأولى: انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ... على وجوب الجهاد في كل حال، وذلك ليس من صيغة الأمر عند القائلين بأن الأمر يقتضي الفعل فقط، وإنما من النص على العقاب، وإنكار التثاقل لأنه تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر، ولو لم يكن الجهاد واجبا، لما كان هذا التثاقل منكرا. ثم إن الآية التي بعدها وهي إِلَّا تَنْفِرُوا فيها تهديد شديد، ووعيد مؤكد في ترك النفير، بعذاب أليم، ولا يكون العذاب أو العقاب إلا على ترك واجب، فوجب بمقتضى الآيتين النفير للجهاد والخروج إلى الكفار لمقاتلتهم، على أن تكون كلمة الله هي العليا، لكن قيل: المراد بهذه الآية الثانية وجوب النفير عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم.
وآية: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ وإن دلت على خطاب كل المؤمنين، إلا أن المراد بها البعض، وخطاب الكل وإرادة البعض مجاز مشهور في القرآن، وفي سائر أنواع الكلام، كقول بعضهم: إياك أعني واسمعي يا جارة.
ثم إن فرضية الجهاد العينية المستفادة من هاتين الآيتين قد نسخت بما يدل على أن فرض الجهاد استقر كونه فرض كفاية روى أبو داود عن ابن عباس قال: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ- إلى قوله- يَعْمَلُونَ [التوبة ٩/ ١٢٠- ١٢١] نسختها الآية التي تليها: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة ٩/ ١٢٢]. وهو قول الضحاك والحسن البصري وعكرمة.
219
وقال المحققون: إن هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فلم ينفروا، وعلى هذا التقدير فلا نسخ.
وتضمنت آية إِلَّا تَنْصُرُوهُ عتاب الله أيضا للمؤمنين بعد انصراف نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم من تبوك لأن معناها كما عرفنا: إن تركتم نصره، فالله يتكفّل به إذ قد نصره الله في مواطن القلة، وأظهره على عدوه بالغلبة والعزة.
وأبانت الآية في قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ: لا تَحْزَنْ، إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فضل أبي بكر بسبب صحبته النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في أحلك الظروف وشدة الخوف، وتعرضه للقتل إن عثر المشركون عليه وعلى النبي، واختيار النبي له لعلمه بأنه من المؤمنين الصادقين، ولأن الظاهر يدل على كون الاختيار بأمر الله. ولتسميته بأنه ثانِيَ اثْنَيْنِ ولوصف الله تعالى أبا بكر بكونه صاحبا للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.
قال الليث بن سعد: ما صحب الأنبياء عليهم السّلام مثل أبي بكر الصديق.
وقال سفيان بن عيينة: خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله:
إِلَّا تَنْصُرُوهُ.
وفي قوله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ ما يدل على أن الخليفة بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأن الخليفة لا يكون أبدا إلا ثانيا.
وجاء في السنة أحاديث صحيحة، يدل ظاهرها على أنه الخليفة بعده، وقد انعقد الإجماع على ذلك، ولم يبق منهم مخالف. روى البخاري عن ابن عمر قال: كنا نخيّر بين الناس في زمن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فنخيّر أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان.
220
وجمهور أئمة السلف على تقديم عثمان على علي رضي الله عنهم أجمعين.
وتضمنت آية إِلَّا تَنْصُرُوهُ أيضا معجزتين هما: تأييد الله نبيه بجند من الملائكة في قوله: وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها والضمير يعود إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وحماية الله نبيه في الغار من أذى المشركين في قوله: إِذْ هُما فِي الْغارِ والمراد غار ثور.
وقصة الهجرة ومعجزة الغار هي بإيجاز: لما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة، قالوا: هذا شر شاغل لا يطاق فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فبيّتوه ورصدوه على باب منزله طوال ليلتهم، ليقتلوه إذا خرج فأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه «١»، ودعا الله أن يعمّي عليهم أثره، فطمس الله على أبصارهم، فخرج وقد غشيهم النوم، فوضع على رؤوسهم ترابا ونهض، فلما أصبحوا، خرج عليهم علي رضي الله عنه، وأخبرهم أن ليس في الدار أحد، فعلموا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قد فات ونجا.
وتواعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم مع أبي بكر الصديق للهجرة، فدفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أرقط، ويقال: ابن أريقط، وكان كافرا، لكنهما وثقا به، وكان دليلا بالطرق، فاستأجراه ليدل بهما إلى المدينة.
وخرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من خوخة (ثغرة) في ظهر دار أبي بكر التي في بني جمح، ونهضا نحو الغار في جبل ثور.
وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع ما يقول الناس، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه، ويريحها (يردّها) عليهما ليلا، فيأخذا منها حاجتهما. ثم نهضا فدخلا الغار.
(١) وفي هذا مخاطرة وفضل كبير أيضا لسيدنا علي كرم الله وجهه، وهي طاعة عظيمة ومنصب رفيع.
221
وكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق تأتيهما بالطعام، ويأتيهما عبد الله بن أبي بكر بالأخبار، ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم، فيعفّي آثارهما، فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الأثر، حتى وقف على الغار، فقال:
هنا انقطع الأثر، فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته «١» ولهذا نهى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عن قتله. فلما رأوا نسج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه، فرجعوا وجعلوا في النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مائة ناقة لمن ردّه عليهم، والخبر مشهور، وقصة سراقة بن مالك بن جعشم في ذلك مشهورة أيضا.
وقد روي من حديث أبي الدرداء وثوبان رضي الله عنهما: أن الله عز وجل أمر حمامة، فباضت على نسج العنكبوت، وجعلت ترقد على بيضها، فلما نظر الكفار إليها ردهم ذلك عن الغار.
روى البخاري عن عائشة قالت: استأجر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر رجلا من بني الدّيل هاديا خرّيتا «٢»، وهو على دين كفار قريش، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث، فارتحلا وارتحل معهما عامر بن فهيرة والدليل الدّيلي، فأخذ بهما طريق الساحل، أي موضع بعينه، ولم يرد به ساحل البحر.
قال المهلب: وفي هذا من الفقه ائتمان أهل الشرك على السرّ والمال إذا علم منهم وفاء ومروءة، كما ائتمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم هذا المشرك على سرّه في الخروج من مكة وعلى الناقتين. وقال ابن المنذر: فيه استئجار المسلمين الكفار على هداية الطريق «٣».
(١) هذا ثابت في صحاح السيرة، وإن لم يثبته أهل الحديث.
(٢) الخرّيت: الدليل الحاذق والماهر بطرق المفاوز.
(٣) تفسير القرطبي: ٨/ ١٤٤ وما بعدها.
222
وفي قوله تعالى: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى... دلالة واضحة على أنه تعالى جعل يوم بدر كلمة الشرك مغلوبة خاسئة حقيرة، وأن كلمة الله هي العليا، وهي قوله: لا إله إلا الله.
وختام الآية: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فيه بيان مقتضب يدل على قدرة الله الباهرة وحكمته العالية، فالله قاهر غالب، لا يفعل إلا الصواب.
النفر للجهاد في سبيل الله
[سورة التوبة (٩) : آية ٤١]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤١)
الإعراب:
خِفافاً وَثِقالًا منصوبان على الحال من واو انْفِرُوا.
البلاغة:
خِفافاً وَثِقالًا بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
انْفِرُوا أصل النفر: الخروج إلى مكان، لأمر واجب، والمراد هنا الحث على الجهاد والدعوة إليه،
ومنه قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه النسائي عن صفوان بن أمية: «إذا استنفرتم فانفروا»
واسم ذلك القوم الذين يخرجون: النفير، ومنه قولهم: فلان لا في العير ولا في النفير. خِفافاً وَثِقالًا نشاطا وغير نشاط، وقيل: أقوياء وضعفاء، كهولا وشبانا، في العسر واليسر، أو أغنياء وفقراء، ثم خفف الأمر على الضعفاء بآية: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ... [التوبة ٩/ ٩١]. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنه خير لكم فلا تتثاقلوا.
223
سبب النزول:
أخرج ابن جرير عن حضرمي: أنه ذكر له أن أناسا ربما كان أحدهم عليلا أو كبيرا، فيقول: إني آثم، فأنزل الله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا.
وعن أبي طلحة: كهولا وشبانا، ما سمع الله عذر أحد. ثم خرج إلى الشام فقاتل حتى قتل.
وعن مجاهد: قالوا: فإن فينا الثقيل وذا الحاجة والضيعة والشغل والمتيسر به أمره، فأنزل الله تعالى، وأبى أن يعذرهم دون أن ينفروا: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا أي على ما كان منهم.
والخلاصة: نزلت الآية في الذين اعتذروا بالضيعة والشغل، فأبى الله أن يعذرهم دون أن ينفروا على ما كان منهم.
التفسير والبيان:
موضوع الآية: أمر الله تعالى بالنفير العام مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عام غزوة تبوك، لقتال أعداء الله من الروم الكفرة من أهل الكتاب، وحتّم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال، في المنشط والمكره والعسر واليسر. والمعنى:
اخرجوا إلى الجهاد على كل حال من يسر أو عسر، صحة أو مرض، غنى أو فقر، شغل أو فراغ منه، كهولة أو شباب، نشاط وغير نشاط، أي خفاف في النفر لنشاطكم له، وثقال عنه لمشقته عليكم.
وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ أي قاتلوا أعداءكم الذين يقاتلونكم، وفيه إيجاب للجهاد بالنفس والمال إن أمكن، أو بأحدهما على حسب الحال، فمن قدر على
224
الجهاد بنفسه وماله، وجب عليه ذلك، ومن قدر على الجهاد بالنفس فقط، أو بالمال فقط، وجب عليه.
ذلكم المأمور به من النفر والجهاد خير لكم في الدنيا والآخرة، كما
قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الشيخان والنسائي عن أبي هريرة: «تكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة، أو يرده إلى منزله بما نال من أجر أو غنيمة».
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك وأنه خير، فانفروا ولا تتثاقلوا.
فقه الحياة أو الأحكام:
الآية تدل على إيجاب الجهاد والنفير العام في غزوة تبوك، لكن روي عن ابن عباس وآخرين أنها منسوخة بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة ٩/ ٩١].
قال القرطبي: والصحيح أنها ليست بمنسوخة. ويبقى الجهاد فرض عين إذا تعيّن بغلبة العدو على قطر من الأقطار، فيجب حينئذ على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إلى الجهاد خفافا وثقالا، شبانا وشيوخا، كلّ على قدر طاقته، يخرج الابن بغير إذن أبيه، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج. فإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بدحر العدو، كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا لتحقيق الهدف المرجو، فالمسلمون كلهم يد واحدة على من سواهم، حتى إذا قام هؤلاء بدفع العدو سقط الفرض عن الباقين.
ولو قارب العدو دار الإسلام، ولم يدخلوها، لزم المسلمين أيضا الخروج إليه، حتى تعلو كلمة الله، وتصان البلاد، ويخزي العدو.
وفرض أيضا على الإمام غزو الأعداء كل سنة مرة، حتى يدخلوا الإسلام،
225
أو يعطوا الجزية عن يد «١».
وقد بادر الصحابة لتنفيذ هذا الأمر الإلهي الحاسم العام، فقال أبو أيوب الأنصاري- وقد شهد المشاهد كلها إلا غزاة واحدة-: قال الله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا.
وروى ابن جرير الطبري عن أبي راشد الحرّاني قال: وافيت المقداد بن الأسود فارس رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، وقد فصل عنها من عظمه، يريد الغزو، فقلت: قد أعذر الله إليك، فقال:
أتت علينا سورة البعوث (أي سورة براءة) : انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا.
وروى ابن جرير أيضا عن صفوان بن عمرو قال: كنت واليا على حمص، فلقيت شيخا قد سقط حاجباه، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو، قلت: يا عم، أنت معذور عند الله، فرفع حاجبيه، وقال: يا ابن أخي، استنفرنا الله خفافا وثقالا، ألا إن من أحبه الله ابتلاه.
والجهاد واجب بالنفس والمال إذا قدر عليهما، أو على أحدهما، على حسب الحال والحاجة، فقد كان المسلمون ينفقون على أنفسهم من أموالهم، وهم يعدّون السلاح، وقد ينفقون على غيرهم، كما فعل عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك، وكما فعل غيره من أغنياء الصحابة. فهذه الآية:
انْفِرُوا تتناول القادر المتمكن إذ عدم الاستطاعة عذر في التخلف.
ولما أصبح في بيت المال وفر وسعة، صار الحكام يجهزون الجيوش من بيت المال، وهذا هو المتبع الآن، حيث تخصص بنود من الميزانية كل عام لنفقات الحرب والدفاع، وتزاد الميزانية عند الحاجة.
(١) تفسير القرطبي: ٨/ ١٥٠- ١٥٢ [.....]
226
وللجهاد ثمرة يانعة عظيمة، فهو يحقق إحدى الحسنيين: إما النصر، وما الشهادة في سبيل الله، وفي ذلك من الخير العظيم مالا يوصف، سواء في الدنيا بإعلاء كلمة الله وإعزاز المسلمين، وفي الآخرة بالقرار في نعيمها والاستمتاع بخلود الجنة، ولا يقدّر هذا إلا المؤمن الصادق الإيمان، الذي يؤمن بأن القيامة حق، وبأن الثواب والعقاب فيها حق وصدق.
فما يستفاد بالجهاد من نعيم الآخرة خير وأعظم مما يستفيده القاعد عنه من الراحة والدعة والتنعم بهما، ولا تدرك هذه الخيرات إلا بالتأمل، ولا يعرفها إلا المؤمن بالآخرة، لذا قال الله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
تخلف المنافقين عن غزوة تبوك وقضية الإذن لهم
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٢ الى ٤٥]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٤٢) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (٤٣) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (٤٤) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)
الإعراب:
بِاللَّهِ متعلق ب سَيَحْلِفُونَ أو هو من جملة كلامهم، والقول مراد في الوجهين، أي سيحلفون، يعني المتخلفين، عند رجوعك من غزوة تبوك، معتذرين يقولون: بِاللَّهِ.
227
لَخَرَجْنا سادّ مسدّ جوابي القسم والشرط. وهذا من المعجزات لأنه إخبار عما وقع قبل وقوعه.
يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ إما أن يكون بدلا من سَيَحْلِفُونَ أو حالا بمعنى: مهلكين. ويحتمل أن يكون حالا من قوله: لَخَرَجْنا أي لخرجنا معكم، وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها من المسير في تلك المشقة.
أَنْ يُجاهِدُوا في موضع نصب بإضمار: في، وقيل: التقدير كراهية أن يجاهدوا، مثل:
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء ٤/ ١٧٦].
البلاغة:
بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ استعار الشقة للمسافة الطويلة البعيدة الشاقة.
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ كناية عن خطئه في الإذن لأن العفو يعقب الخطأ، وهو خبر قصد به تقديم المسرة على المضرة، وإن من لطف الله بالنبي أن بدأه بالعفو قبل العتاب.
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ بيان لما كني عنه بالعفو، ومعناه: مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك وهلا استأنيت بالإذن؟
المفردات اللغوية:
لَوْ كانَ ما دعوتهم إليه من الخروج للجهاد عَرَضاً متاعا من الدنيا قريبا سهل المأخذ، أو ما يعرض من منافع الدنيا، ويكون غنيمة قريبة سَفَراً قاصِداً أي سهلا لا عناء فيه ولا مشقة، أي وسطا معتدلا لَاتَّبَعُوكَ طلبا للغنيمة الشُّقَّةُ المسافة البعيدة التي تحتاج لعناء ومشقة وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إذا رجعتم إليهم لَوِ اسْتَطَعْنا الخروج يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بالحلف الكاذب عَفَا اللَّهُ عَنْكَ العفو: التجاوز عن الخطأ وترك المؤاخذة عليه إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ في التخلف وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ شكت قلوبهم في الدين يَتَرَدَّدُونَ يتحيرون.
سبب النزول: نزول الآية (٤٣) :
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ: أخرج ابن جرير الطبري عن عمرو بن ميمون الأزدي قال: اثنتان فعلهما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذ
228
الفداء من الأسارى، فأنزل الله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ، لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ. وهذا مروي أيضا عن قتادة.
قال بعض العلماء: إنما بدر منه ترك الأولى، فقدّم الله العفو على الخطاب الذي هو في صورة العتاب.
وهو عتاب تلطف إذ قال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. وكان صلّى الله عليه وآله وسلم أذن من غير وحي نزل فيه.
المناسبة:
بعد أن بالغ الله تعالى في ترغيب المؤمنين في الجهاد في سبيل الله، ووبخ المتثاقلين عنه بقوله: ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ: انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين، وبيّن أن أقواما، مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد، تخلفوا عن غزوة تبوك، وأما الأكثر فكان يلبي نداء الجهاد بسرعة ونشاط لأنهم ينتظرون إحدى الحسنيين: إما الشهادة، وإما النصر.
فهذه الآيات نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وهي أول ما نزل في التفرقة بين المنافقين والمؤمنين في القتال، لذا سميت سورة براءة كما بينت آنفا «الفاضحة» لأنها فضحت أحوال المنافقين، قال ابن عباس: لم يكن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يعرف المنافقين حتى نزلت سورة براءة أي لم يعرف شؤونهم مفصلة، فلما رجع من غزوة تبوك أظهر الله نفاق قوم.
التفسير والبيان:
وبخ الله تعالى في هذه الآيات المتخلفين عن غزوة تبوك، الذين استأذنوا
229
النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في التخلف، مظهرين أنهم ذوو أعذار، ولم يكونوا كذلك، فقال:
لَوْ كانَ عَرَضاً....
أي لو كان الأمر الذي دعوتهم إليه غنيمة أو منفعة قريبة المنال، أو سفرا سهلا قريبا لا عناء فيه، لاتبعوك أي لجاؤوا معك، وسارعوا إلى الذهاب، ولكنهم تخلفوا حينما رأوا أن السفر شاق إلى مسافة بعيدة إلى الشام، وأن القتال لأكبر قوة في العالم وهم الروم حينذاك، فآثروا الجبن والراحة والسلامة، والتفيؤ في الظلال وقت الحر والقيظ، فدل ذلك على انهم جماعة نفعيون ماديون دنيويون، كما
قال صلّى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: «لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقا- أي عظما عليه لحم- سمينا أو مرماتين «١» حسنتين، لشهد العشاء»
أي لو علم أحدهم أنه يجد شيئا ماديا حاضرا معجّلا يأخذه، لأتى المسجد من أجله.
ثم أخبر الله تعالى عن شيء سيقع منهم فقال: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي سيقسمون بالله اليمين الكاذبة عند رجوعك من غزوة تبوك، كما قال: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ [التوبة ٩/ ٩٤] يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ [التوبة ٩/ ٩٦] قائلين: لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ، أي لو لم يكن لنا أعذار لخرجنا معكم.
يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ في العذاب باليمين الكاذبة أو بالكذب والنفاق،
كما قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه خيثمة بن سليمان: «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع».
وَاللَّهُ يَعْلَمُ، إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في الاعتذار والاعتلال وحلفهم بالله، وقولهم: لو استطعنا الخروج لخرجنا معكم، فإنهم لم يكونوا ذوي أعذار، وإنما كانوا أقوياء الأجسام، وأصحاب يسار. قال قتادة: لقد كانوا يستطيعون الخروج، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم وزهادة في الجهاد.
(١) المرماتان: تثنية مرماة: وهي ظلف الشاة، أو ما بين ظلفها من اللحم.
230
ثم عاتب الله نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم في إذنه لطائفة ممن تخلف من هؤلاء المنافقين، فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ... أي سامحك الله بإذنك لهم، لم أذنت لهم بالتخلف، وهلا استأنيت بالإذن وتوقفت عنه حتى تظهر لك الحقيقة، ويتبين لك الفريقان: الذين صدقوا، والذين كذبوا في إبداء الأعذار، وهلا تركتهم لما استأذنوك لتعلم الصادق منهم من الكاذب، فإنهم كانوا مصرين على التخلف وإن لم تأذن لهم فيه. على أن الله كره انبعاثهم، وكان في خروجهم ضرر وخطر على المسلمين.
قال مجاهد: نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
لهذا أخبر الله تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله، فقال: لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... أي لا يستأذنك في القعود عن الغزو المؤمنون بالله واليوم الآخر في أن يجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، بل يقدمون على الجهاد من غير استئذان لأنهم يرون أن الجهاد قربة وسبيل إلى الجنة، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا، وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحجرات ٤٩/ ١٥].
فليس من شأن المؤمنين ولا من عادتهم أن يستأذنوك في الجهاد، وكان أكابر المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الجهاد، فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد أخرى، فأي فائدة في الاستئذان؟
والله عليم بالمتقين خبير بمن خافه فاتقاه، باجتناب ما يسخطه، وفعل ما يرضيه.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال فيما رواه مسلم وابن ماجه عن
231
أبي هريرة: «من خير معاش الناس لهم: رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعا، طار على متنه، يبتغي القتل والموت في مظانّه... »
أي خير أعمال الرجل إعداد فرسه في سبيل الله، كلما سمع صيحة لقتال أو دعوة لجهاد، أقدم قاصدا الاستشهاد في المواضع التي يظن فيها ذلك.
وإذا كان أهل الإيمان لا يستأذنون للجهاد عادة، فإن الذي يستأذنك في التخلف عن الجهاد من غير عذر، إنما هم المنافقون الذين لا يصدّقون بالله واليوم الآخر، ولا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة على أعمالهم، وشكّت قلوبهم في صحة ما جئتم به، فهم في شكهم أو ريبهم يتحيرون، ليس لهم ثبات على شيء، فهم قوم حيارى هلكى.
روي أن عدد هؤلاء كان تسعة وثلاثين رجلا.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- إن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك، كما
قال صلّى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتقدم عن خيثمة بن سليمان: «اليمين الغموس تدع الديار بلاقع».
٢- الجهاد يتطلب التضحية والإيمان، للتغلب على أهواء النفس، وميلها إلى حب المنافع المادية العاجلة، وإيثارها على الباقي الدائم الخالد.
٣- القرآن معجز لأسباب كثيرة منها إخباره عن المغيبات في المستقبل، مثل إخباره تعالى هنا أنهم سيحلفون، والأمر لما وقع كما أخبر، كان هذا إخبارا عن الغيب، فكان معجزا.
٤- كان تقديم العفو على العتاب واللوم بالإذن للمنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك لطفا عظيما من الله برسوله، ومبالغة في تعظيمه وتوقيره، وهو أخف من
232
العتاب على قبوله مفاداة أسرى بدر، الذي صدر بتقرير حازم صارم في قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى [الأنفال: ٨/ ٦٧].
أما ما احتج به بعضهم بهذه الآية على صدور الذنب عن الرسول من وجهين:
الأول- إصدار العفو، والعفو يستدعي سابقة الذنب، والثاني- الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فيجاب عن الأول بأنا لا نسلم أن قوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يوجب الذنب، وإنما ذلك دليل على مبالغة الله في تعظيم نبيه وتوقيره. ويجاب عن الثاني بأنه بعد حصول العفو عنه يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، ويحمل قوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ على ترك الأولى والأكمل، لا سيما وهذه الوقعة من قضايا الحرب ومصالح الدنيا التي يجوز للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم الاجتهاد فيها اتفاقا، فكان ما حكم به صادرا بمقتضى الاجتهاد.
٥- دل قوله: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ.. على وجوب الاحتراز عن العجلة، ووجوب التثبت والتأني، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص والتريث.
٦- قال قتادة: عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية، ثم رخص له في سورة النور، فقال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [٦٢].
٧- لا ينبغي الاستئذان في أداء شيء من الواجبات، وفضائل العادات مثل إكرام الضيف، وإغاثة الملهوف، وفعل المعروف، قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ، أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء ٤/ ١١٤].
٨- المنافقون غير مؤمنين بالله ورسوله واليوم الآخر، وعدم إيمانهم إنما كان بسبب الشك والريب، لا بسبب الجزم والقطع بعدمه، وهذا يدل على أن الشاك المرتاب غير مؤمن بالله تعالى.
233
٩- قوله: أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ دليل على أن الجهاد نوعان:
جهاد بالمال وجهاد بالنفس. والجهاد بالمال له وجهان: إنفاق المال في التسليح والإعداد المادي الذي تتطلبه المعارك عادة، وإنفاق المال على المجاهدين وأسرهم وإعانتهم بالزاد والعتاد. والجهاد بالنفس أنواع منها: مباشرة القتال بالفعل وهو الأفضل، ومنها التحريض على القتال والأمر به، ومنها الإخبار بعورات العدو ومواطن الضعف لديه، والإرشاد إلى مكايد الحرب، وتنبيه المسلمين إلى الأولى والأصلح في أمر الحروب،
كما قال الحباب بن المنذر حين نزل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ببدر، فقال: يا رسول الله، أهذا رأي رأيته أم وحي؟ فقال: بل رأي رأيته، قال:
فإني أرى أن تنزل على الماء وتجعله خلف ظهرك، وتغوّر الآبار التي في ناحية العدو، ففعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ذلك.
ومنها بيان ما افترض الله من الجهاد وذكر الثواب الجزيل لمن قام به والعقاب لمن قعد عنه.
وأي الجهادين أفضل، أجهاد النفس والمال، أم جهاد العلم؟ الحقيقة أن جهاد العلم أصل، وجهاد النفس فرع، والأصل أولى بالتفضيل من الفرع.
فإذا كان النفير عاما: تعين فرض الجهاد على كل أحد، فيكون الاشتغال في هذه الحال بالجهاد أفضل من تعلم العلم لأن ضرر العدو إذا وقع بالمسلمين لم يمكن تلافيه، وتعلم العلم ممكن في سائر الأحوال، ولأن تعلم العلم فرض على الكفاية، لا على كل أحد في خاصة نفسه.
وأما إذا لم يكن النفير عاما: ففرض الجهاد على الكفاية، مثل تعلم العلم، إلا أن الاشتغال بالعلم في هذه الحال أولى وأفضل من الجهاد، لعلو مرتبة العلم على مرتبة الجهاد لأن ثبات الجهاد بثبات العلم، ولأن الجهاد فرع عن العلم ومبني عليه «١».
(١) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ١١٩
234
ويجوز الجهاد وإن كان أمير الجيش فاسقا، وجنوده فساقا، وقد كان أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يغزون بعد الخلفاء الأربعة مع الأمراء الفساق، وقد غرا أبو أيوب الأنصاري مع يزيد بن أبي سفيان. وإذا جاهد الفساق فهم مطيعون في ذلك. ثم إن الجهاد نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو رأينا فاسقا يأمر بمعروف وينهى عن منكر، كان علينا معاونته على ذلك، فكذلك الجهاد «١».
الدليل على تخلف المنافقين بغير عذر وخطر خروجهم للقتال
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (٤٨)
الإعراب:
يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ جملة فعلية في موضع نصب على الحال من الواو في وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ. والْفِتْنَةَ: مفعول به ثان.
البلاغة:
لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً واقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ بينهما جناس اشتقاق.
وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ الأصل: ولأوضعوا ركائبهم بينكم بالنميمة، والتضرية أو الهزيمة، أو
(١) المرجع السابق.
235
لسعوا بينكم بالنمائم وإفساد ذات البين، يقال: وضع البعير وضعا: إذا أسرع، وأوضعته أنا. فيه استعارة تبعية حيث شبه سرعة إفسادهم ذات البين بالنميمة بسرعة سير الراكب، ثم أستعير لها الإيضاع وهو للإبل.
المفردات اللغوية:
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ معك لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً أهبة من السلاح والزاد، فالعدة: هي ما يعده الإنسان ويهيئه لما يفعله في المستقبل، وهو نظير الأهبة وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ استدراك عن مفهوم قوله: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ كأنه قال: ما خرجوا، ولكن تثبطوا، لأنه تعالى كره انبعاثهم، أي نهوضهم للخروج فَثَبَّطَهُمْ فحبسهم وعوقهم بالجبن والكسل وَقِيلَ: اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ تمثيل لإلقاء الله كراهة الخروج في قلوبهم، أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود، أو حكاية قول بعضهم لبعض، أو إذن الرسول لهم، والقاعدين يحتمل المعذورين وغيرهم، وعلى الوجهين لا يخلو عن ذم لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ بخروجهم شيئا إِلَّا خَبالًا فسادا وشرا ونميمة وزرع الاختلاف، وأصل الخبال: مرض في العقل كالجنون، ينشأ عنه اضطراب في الرأي وفساد في العمل. وهذا ليس من الاستثناء المنقطع في شيء، كما يقولون لأن الاستثناء المنقطع:
هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كقولك: ما زادوكم خيرا إلا خبالا، والمستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، وإذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعمّ العام الذي هو الشيء، فكان استثناء متصلا لأن الخبال بعض أعم العام، كأنه قيل: ما زادوكم شيئا إلا خبالا.
وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ أسرعوا بالمشي بينكم بالنميمة يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم أو الرعب في قلوبكم، والْفِتْنَةَ: التشكيك في الدين والتخويف من الأعداء. وخلال الأشياء: ما يفصل بينها من الفرجة ونحوها.
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي فيكم قوم ضعاف يسمعون قول المنافقين ويطيعونهم، أو فيكم نمامون يسمعون حديثكم وينقلونه إليهم لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي لقد طلبوا وأرادوا لك تشتيت أمرك وتفريق أصحابك من قبل، أول ما قدمت المدينة، يعني يوم أحد، فإن عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين، كما تخلفوا عن تبوك، بعد ما خرجوا مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم إلى ذي جدّة أسفل من ثنية الوداع «١»، انصرفوا يوم أحد وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ أجالوا الفكر في تدبير المكايد والحيل لك، ونظروا في إبطال دينك وأمرك حَتَّى جاءَ الْحَقُّ النصر والتأييد الإلهي وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ علا دينه وغلب شرعه وَهُمْ كارِهُونَ أي على رغم منهم.
(١) الثنية: الطريق في الجبل كالنقب، والوداع: واد بمكة، وثنية الوداع منسوبة إليه.
236
المناسبة:
بعد ما ذكر الله تعالى أن استئذان المنافقين في التخلف عن غزوة تبوك كان بغير عذر، وأنهم أرادوا التخلف ثم استأذنوا سترا لنفاقهم، أقام الدليل هنا على ذلك وهو تركهم الاستعداد للمشاركة في هذه الغزوة، وأوضح أن خروجهم مع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم ما كان مصلحة، وإنما يؤدي إلى مفاسد ثلاثة: هي الإفساد والشر، وتفريق كلمة المؤمنين بالنميمة، والتسبب في سماع بعض ضعفاء الإيمان كلامهم وقبول قولهم.
فكانت الآية الأولى فضحا لاعتذارهم ونفاقهم، والآيتان الآخريان لتسلية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين على تخلفهم، وبيان ما ثبطهم الله لأجله، وكره انبعاثهم له، وهتك أستارهم، وكشف أسرارهم، وإزاحة اعتذارهم، تداركا لأسباب عتاب الرسول عليه الصلاة والسّلام على الإذن.
والخلاصة: تستمر الآيات في توضيح قبائح المنافقين، وبيان أخطارهم، وتحذير المؤمنين من مكائدهم.
التفسير والبيان:
ولو قصدوا الخروج معك إلى القتال لاستعدوا وتأهبوا له بإعداد السلاح والزاد والراحلة ونحوها، وقد كانوا مستطيعين ذلك، ولكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ، أي أبغض الله خروجهم مع المؤمنين، لما فيه من أضرار، فثبطهم أي أخرهم بما أحدث في قلوبهم من المخاوف، وفي نفوسهم من الكسل والفتور، وقيل لهم من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم: اقعدوا مع القاعدين من النساء والأطفال والمرضى والعجزة الذين شأنهم القعود في البيوت، كما قال تعالى: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ [التوبة ٩/ ٨٧] وهم القاعدون والخالفون.
237
ثم ألقى الله الطمأنينة في نفوس المؤمنين، وبيّن أن عدم خروجهم مصلحة للجيش، إذ لو خرج هؤلاء المنافقون ما زادوكم شيئا من القوة والمنعة، بل زادوكم اضطرابا في الرأي وفسادا في العمل والنظام، ولأسرعوا بالسعي بينكم بالنميمة والبغضاء، وتفريق الكلمة، وبذر بذور التفرقة والاختلاف، وإشاعة الخوف والأراجيف من الأعداء، وتثبيط الهمة.
علما بأن فيكم قوما ضعاف العقل والإيمان والعزيمة يسمعون كلامهم، ويصدقونهم في قولهم، ويطيعونهم، فتفتر عزائمهم عن القيام بأمر الجهاد، وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير.
والله عليم علم إحاطة بأحوال الظالمين الظاهرة والباطنة، فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن، ومجازيهم على أعمالهم كلها.
وفي هذا دلالة واضحة على أن خروجهم شر لا خير فيه، وضعف لا قوة.
ثم ذكّر الله تعالى بموقفهم المتخاذل في الماضي، وحرّض نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم على مهادنة المنافقين، فقال تعالى ذاكرا نوعا آخر من مكر المنافقين وخبث باطنهم: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ... أي لقد أرادوا إيقاع الفتنة بين المسلمين من قبل ذلك، في غزوة أحد، حين اعتزلهم عبد الله بن أبي زعيم المنافقين بثلث الجيش، في موضع يسمى الشوط بين المدينة وأحد، ثم قال للناس: أطاع النبي الولدان ومن لا رأي له، فعلام نقتل أنفسنا؟ وكاد يتبعه بنو سلمة وبنو حارثة، ولكن عصمهم الله من الهوان:
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا، وَاللَّهُ وَلِيُّهُما [آل عمران ٣/ ١٢٢] فكان خروجهم مع المؤمنين خطرا عليهم، وشرا محققا بهم.
وأرادوا أيضا تدبير الحيل والمكايد للنبي، وفكروا في إبطال أمره، حتى جاء النصر والتأييد، وظهر أمر الله، أي وغلب دينه وعلا شرعه، بالتنكيل باليهود، وإبطال الشرك بفتح مكة، وانتشار الإسلام، وهم كارهون لذلك.
238
قال ابن كثير: لما قدم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم المدينة، رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر، وأعلى كلمته، قال عبد الله بن أبي وأصحابه: هذا أمر قد توجه (أي أقبل). فدخلوا في الإسلام ظاهرا، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله، غاظهم ذلك وساءهم، ولهذا قال تعالى:
حَتَّى جاءَ الْحَقُّ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ كارِهُونَ «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- ترك المنافقين الاستعداد للمعركة دليل واضح على أنهم أرادوا التخلف، سواء أذن لهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أو لم يأذن، مع أنهم كانوا موسرين قادرين على تحصيل الأهبة والعدة.
٢- إن لوم هؤلاء على ترك الإعداد للقتال يدل على وجوب الاستعداد للجهاد قبل وقت وقوعه، وهو كقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ [الأنفال ٨/ ٦٠].
٣- لم تكن مشاركة المنافقين وخروجهم للقتال مع المؤمنين في غزوة تبوك وغيرها خيرا ومصلحة، وإنما كانت شرا ومفسدة، وقد شرح تعالى المفاسد وحصرها في ثلاث:
إفساد النظام والعمل، وتفريق كلمة المسلمين بالنميمة، واستدراج فئة من ضعاف الإيمان والعقل والحزم إلى صفوفهم وسماع كلامهم.
ثم تأكد ذلك بآيات أخرى، منها: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ، فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ، فَقُلْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التوبة ٩/ ٨٣] ومنها:
(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٦١
239
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ- إلى قوله- قُلْ: لَنْ تَتَّبِعُونا [الفتح ٤٨/ ١٥].
٤- كراهية انبعاثهم: معناها إرادة الله عدم ذلك الشيء «١»، أي عدم خروجهم لأن خروجهم يؤدي إلى الفساد وتخذيل المسلمين وتخويفهم من العدو وإثارة الخلافات والمنازعات، والخروج على هذا النحو معصية وكفر، فكرهه الله تعالى وثبطهم عنه، إذ كان معصية، والله لا يحب الفساد «٢».
٥- المقصود من قوله: اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ التنبيه على ذمهم وإلحاقهم بالنساء والصبيان والعاجزين الذين شأنهم القعود في البيت، وهم القاعدون والقواعد، والخالفون والخوالف.
٦- لن تفلح مكائد البشر من منافقين ويهود ومشركين وغيرهم، ولن تقف أي قوة في الدنيا أمام إرادة الله القاهرة إعلاء دينه، وغلبة شرعه، ونصرة نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم.
انتحال المنافقين أعذارا أخرى للتخلف عن غزوة تبوك وفرحهم عند السيئة التي تصيب المؤمنين وترحهم عند الحسنة
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٤٩) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (٥٠) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (٥٢)
(١) تفسير الرازي: ١٦/ ٧٩
(٢) أحكام القرآن للجصاص: ٣/ ١٢٠
240
الإعراب:
أَلا للتنبيه وافتتاح الكلام.
البلاغة:
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ فيها المقابلة بين أمرين.
إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا اللام هنا مفيدة معنى الاختصاص، كأنه قيل: لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله بإثباته وإيجابه من النصرة عليكم أو الشهادة.
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ تقديم الجار والمجرور على الفعل لإفادة القصر، وإظهار لفظ الجلالة مكان الإضمار لتربية المهابة والخوف منه تعالى.
هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا اللفظ استفهام، والمعنى توبيخ.
فَتَرَبَّصُوا أمر يراد به التهديد والوعيد.
المفردات اللغوية:
ائْذَنْ لِي في التخلف والقعود وَلا تَفْتِنِّي ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي، فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت. وقيل: ولا تلقني في الهلكة، فإني إذا خرجت معك، هلك مالي وعيالي. أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إن الفتنة هي التي وقعوا فيها وهي فتنة التخلف لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يعني أنها تحيط بهم يوم القيامة، أو هي محيطة بهم لأن أسباب الإحاطة معهم، فكأنهم في وسطها، والمعنى: لا محيص ولا مهرب لهم عنها.
241
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ أي إن تصبك في بعض الغزوات حسنة كنصر وغنيمة وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ نكبة وشدة يَقُولُوا: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ أي لقد احتطنا بالحزم حين تخلفنا من قبل هذه المصيبة فَرِحُونَ بما أصابك ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا إصابته هُوَ مَوْلانا ناصرنا ومتولي أمورنا هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا أي تنتظرون أن يقع، والأصل: تتربصون، فحذفت إحدى التاءين. إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إلا إحدى العاقبتين: النصر أو الشهادة، وهي تثنية حسنة تأنيث أحسن نَتَرَبَّصُ ننتظر بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ بقارعة من السماء أَوْ بِأَيْدِينا بأن يؤذن لنا في القتال مُتَرَبِّصُونَ عاقبتكم.
سبب النزول:
نزول الآية (٤٩) :
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ائْذَنْ لِي:
أخرج الطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال للجدّ بن قيس: يا جدّ بن قيس، ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال:
يا رسول الله، إني امرؤ صاحب نساء، ومتى أرى نساء بني الأصفر أفتتن، فأذن لي، ولا تفتني، فأنزل الله: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي
أي لا تفتني بصباحة وجوههن.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله مثله، وعبارته قال للجدّ بن قيس: يا جدّ بن قيس، ما تقول في مجاهدة بني الأصفر؟ فقال:
الأصفر؟ قال جدّ، وكان من شيوخ المنافقين: أتأذن لي يا رسول الله، فإني رجل أحبّ النساء، وإني أخشى إن أنا رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو معرض عنه: قد أذنت لك، فنزلت الآية.
ولما نزلت قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لبني سلمة- وكان الجد بن قيس منهم- «من سيدكم يا بني سلمة؟» قالوا: جدّ بن قيس، غير أنه بخيل جبان. فقال النبي
242
صلّى الله عليه وآله وسلم: وأي داء أدوى «١» من البخل؟ بل سيدكم الفتى الأبيض بشر بن البراء بن معرور.
نزول الآية (٥٠) :
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ:
أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جعل المنافقون الذين تخلفوا بالمدينة، يخبرون عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أخبار السوء، يقولون: إن محمدا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا، فبلغهم تكذيب حديثهم، وعافية النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فساءهم ذلك، فأنزل: «إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ» الآية.
المناسبة:
الآيات السابقة واللاحقة في تعداد قبائح المنافقين، وبيان نوع آخر من كيدهم ومن خبث بواطنهم، وشماتتهم بالمؤمنين إذا أصيبوا بمصيبة، وترحهم إذا تعرضوا لحسنة.
التفسير والبيان:
ومن المنافقين من يقول لك: يا محمد ائذن لي في القعود والتخلف عن القتال، ولا توقعني في الإثم والهلاك بالخروج معك، حتى لا أفتتن بنساء الروم، منتحلين الأعذار الواهية، مظهرين التمسك بالفضيلة، فيرد الله عليهم مكذبا دعواهم، كاشفا حقيقتهم فقال: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إنهم بهذه المقالة وقعوا فعلا في الفتنة، حين انتحلوا الأعذار الكاذبة، وقعدوا عن الجهاد، فقوله: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي في الإثم والمعصية وقعوا.
(١) أي: أيّ عيب أقبح منه؟ قال ابن الأثير: والصواب: أدوأ بالهمز، ولكن هكذا يروى، إلا أن يجعل من باب دوي: إذا هلك بمرض باطن.
243
وإن نار جهنم لمحيطة بهم، لا يجدون عنها محيدا ولا محيصا ولا مهربا. وهذا وعيد شديد لهم بأنهم أهل جهنم لكثرة خطاياهم، كما قال تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً، وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة ٢/ ٨١].
ثم ذكر الله تعالى نوعا آخر من كيد المنافقين وخبث باطنهم، معلما نبيه صلّى الله عليه وآله وسلم بعداوتهم، فقال: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ... أي إن عرضت لك في بعض الغزوات حسنة، أي فتح ونصر وغنيمة، كيوم بدر، ساءهم ذلك وإن أصابتك مصيبة، أي نكبة وشر وشدة كانهزام وتراجع في معركة، كما حدث يوم أحد، قالوا: قد اتخذنا ما يلزم من الحذر والتيقظ والعمل بالحزم، واحترزنا من متابعته من قبل هذا الذي وقع، إذ تخلفنا عن القتال، ولم نتعرض للهلاك لأنا متوقعون هذه الهزيمة، وانصرفوا إلى أهاليهم عن موضع التحدث والمفاخرة بآرائهم هذه، وهم مسرورون للنتيجة.
والحسنة: ما يسرّ النفس حصوله، والسيئة: ما يسوء النفس وقوعه.
فأرشد الله تعالى رسوله إلى إجابتهم عن هذا الموقف الشامت فقال: قل لهم: لن يصيبنا أبدا إلا ما كتب وخطّ لنا في اللوح المحفوظ، فنحن تحت مشيئته وقدره، هو مولانا، أي ناصرنا ومتولي أمورنا ونتولاه، كما قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [محمد ٤٧/ ١١] فكل ما كتب لنا هو الخير والصلاح.
وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون، أي ونحن متوكلون عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وحق المؤمنين ألا يتوكلوا على غير الله، فليفعلوا ما هو حقهم، ومن حقهم اتخاذ ما يجب من أسباب النصر المادية والمعنوية، كإعداد العدة
244
اللازمة، وتوقي كل المنازعات التي تؤدي الى الفشل وتفرق الكلمة. والتوكل:
تفويض الأمر إلى الله، بعد اتخاذ الأسباب المطلوبة عادة.
ثم أرشد الله تعالى إلى جواب ثان عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين، فقال: قُلْ: هَلْ تَرَبَّصُونَ أي قل لهم يا محمد: هل تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين الحسنتين: إما النصر والظفر، وإما الشهادة والثواب العظيم، فإن عشنا عشنا أعزة كراما مؤمنين، وإن متنا متنا شهداء مأجورين.
أما نحن فننتظر بكم إحدى السوأتين من العواقب: إما أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ، وهو قارعة من السماء، كما نزلت على عاد وثمود، أو بعذاب بأيدينا وهو السبي أو القتل على الكفر أو الإذن لنا في قتالكم، فانتظروا بنا ما ذكرنا من عواقبنا، إنا معكم منتظرون ما هو عاقبتكم، فلا بد أن يلقى كلنا ما يتربصه، لا يتجاوزه، فنحن على بيّنة من ربنا، ولا بينة لكم، لا تشاهدون إلا ما يسرّنا، ولا نشاهد إلا ما يسوؤكم، وانتظروا أنتم مواعد الشيطان، إنا منتظرون مواعد الله.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن الأعذار الكاذبة لا تخفى على الله المطلع على الغيوب وأسرار النفوس وخفايا ما في الصدور، فلا يغترن أحد بذكائه وفطنته في تعمية الحقائق، فإن الله كاشف كل شيء، ولكن المنافقين قوم أغرار جاهلون لا يعلمون هذه الحقيقة.
٢- المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في الخروج معه إلى غزوة تبوك هم الواقعون في الإثم والمعصية. قال أهل المعاني في قوله: أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا: فيه تنبيه على أن من عصى الله لغرض ما، فإنه تعالى يبطل عليه
245
ذلك الغرض، ألا ترى أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة، فالله تعالى بين أنهم في عين الفتنة واقعون ساقطون.
٣- المنافقون حصب جهنم وهم لها واردون، وهي تحيط بهم إحاطة شاملة، لا يفلت من حرها أحد منهم يوم القيامة. وقد عبر قوله تعالى عن ذلك:
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ وأفاد التعبير أنهم كانوا في أشد الخوف على أنفسهم وأموالهم وأولادهم بسبب تزايد دولة الإسلام واستعلائها وامتدادها، والخوف الشديد مع الجهل الشديد أعظم العقوبات الروحانية، كما قال الرازي «١».
٤- هناك نوع آخر من كيد المنافقين وخبث بواطنهم، وهو إساءتهم إن أصاب المؤمنين في بعض المعارك حسنة كظفر أو غنيمة، وفرحهم إن أصاب المؤمنين سيئة من نكبة وشدة ومصيبة ومكروه، ثم قولهم: قد أخذنا أمرنا الذي نحن مشهورون به، وهو الحذر والتيقظ والعمل بالحزم، من قبل وقوع ما وقع، ثم توليهم عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم، وهم فرحون مسرورون.
٥- كان الرد الحاسم الأول على كل تلك المكائد: أنه لن يصيب الإنسان خير ولا شر، ولا خوف ولا رجاء، ولا شدة ولا رخاء، إلا وهو مقدر عليه مكتوب عند الله، معلوم لله، مقضي به عند الله تعالى.
وهذا دليل في رأي أهل السنة على أن قضاء الله شامل لكل المحدثات، وأن تغير الشيء عما قضي الله به محال.
ويؤكد مضمون الآية
قوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «من علم سر الله في القدر، هانت عليه المصائب».
(١) تفسير الرازي: ١٦/ ٨٤
246
٦- التوكل على الله بمعنى تفويض الأمر إليه بعد اتخاذ الأسباب من أصول الإيمان.
٧- الجواب الثاني الحاسم عن فرح المؤمنين بمصائب المؤمنين: أن المؤمنين ينتظرون إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، وأما المنافقون فينتظرون إحدى السوأتين: العذاب الإلهي بالإهلاك الشامل في الدنيا كما عذبت الأمم الخالية، كعاد وثمود، أو العذاب على أيدي المؤمنين بالقتل أو غيره.
إحباط ثواب المنافقين على نفقاتهم وصلواتهم وتعذيبهم في الدنيا والآخرة
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (٥٣) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥)
الإعراب:
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً نصب على الحال، أي طائعين أو مكرهين.
أَنْ تُقْبَلَ فاعل منع، والضمير في مِنْهُمْ وأَنْ تُقْبَلَ: مفعولا منع.
وَهُمْ كُسالى مبتدأ وخبر، والجملة حالية.
247
البلاغة:
أَنْفِقُوا: أمر في معنى الخبر، كقوله تبارك وتعالى: قُلْ: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا.
طَوْعاً أَوْ كَرْهاً بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
أَنْفِقُوا في طاعة الله كالجهاد لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ ما أنفقتموه إِنَّكُمْ تعليل لرد إنفاقهم فاسِقِينَ الفسق: التمرد والعتو كُسالى متثاقلون وَهُمْ كارِهُونَ النفقة لأنهم يعدونها مغرما فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ أي لا تستحسن نعمنا عليهم، فهي استدراج لِيُعَذِّبَهُمْ أي أن يعذبهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بما يلقون في جمعها من المشقة وما فيها من المصائب وَتَزْهَقَ تخرج وَهُمْ كافِرُونَ فيعذبهم في الآخرة أشد العذاب.
سبب النزول: نزول الآية (٥٣) :
قُلْ: أَنْفِقُوا: أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال: قال الجدّ بن قيس: إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمالي، قال: ففيه نزلت: أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أي لقوله: أعينك بمالي. فهذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس حين تخلف عن غزوة تبوك وقال لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: هذا مالي أعينك به، فاتركني.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى عاقبة المنافقين وهي العذاب في الدنيا والآخرة، أعقب ذلك ببيان أنهم وإن أتوا بشيء من أعمال البر كالإنفاق على الجهاد، فإنهم لا ينتفعون به في الآخرة لأنهم يفعلونه رياء وسترا على نفاقهم من الفضيحة.
والمقصود بيان أن أسباب العذاب في الدنيا والآخرة مجتمعة في حقهم، وأن
248
أسباب الراحة والخير زائلة عنهم في الدنيا والآخرة، فأموالهم الكثيرة إنما هي عذاب لهم في الدارين.
والآيات من [٤٢] وما بعد هذه الآية إلى الآية [٥٩] كلها في المنافقين، ثم جاءت آية مصارف الزكاة.
التفسير والبيان:
قل أيها النبي للمنافقين: مهما أنفقتم من نفقة في سبيل الله ووجوه البر طائعين أو مكرهين، لن يتقبل منكم لأنكم كفرتم بالله ورسوله، وما زلتم في شك مما جاء به الرسول من الدين والجزاء على الأعمال في الآخرة، ولأنكم قوم فاسقون أي عتاة متمردون خارجون عن الإيمان، والأعمال إنما تصح بالإيمان، إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة ٥/ ٢٧] وقوله: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ.. تعليل لرد إنفاقهم وعدم القبول منهم في الدنيا والآخرة: وهو أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين، أي كافرين.
وقوله: طَوْعاً أَوْ كَرْهاً معناه: طائعين من غير إلزام من الله ورسوله، أو ملزمين، أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق، لما يرون من المصلحة فيه، أو مكرهين من جهتهم.
وعدم القبول غير معلل بعموم كونه فسقا، بل بخصوص وصفه: وهو كون ذلك الفسق كفرا، لذا صرح الله تعالى في الآية التالية بذلك فقال:
وَما مَنَعَهُمْ... أي وما منع قبول نفقاتهم إلا مجموع هذه الأمور الثلاثة: وهي الكفر بالله ورسوله، وعدم الإتيان بالصلاة إلا في حال الكسل، والإنفاق على سبيل الكراهية.
249
فهم كفروا بالله ورسوله وبما جاء به، والأعمال إنما تصح بالإيمان، كما ذكرت، ولا يصلون إلا وهم متكاسلون لأنهم لا يرجون بصلاتهم ثوابا، ولا يخشون بتركها عقابا، فهي ثقيلة عليهم، كقوله تعالى: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ [البقرة ٢/ ٤٥].
ولا ينفقون نفقة في سبيل الجهاد وغيره إلا وهم كارهون لها، لا تطيب بها أنفسهم لأنهم لا ينفقون لغرض الطاعة، بل رعاية للمصلحة الظاهرة، وسترا للنفاق، ويعدون الإنفاق مغرما وخسارة بينهم. وقد أخبر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أن الله لا يمل حتى تملوا، وأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، فلهذا لا يقبل الله من هؤلاء المنافقين نفقة ولا عملا لأنه إنما يتقبل من المتقين، وما طوعهم ذاك إلا عن كراهية واضطرار، لا عن رغبة واختيار.
فلا تعجبك أيها النبي وأيها السامع أموالهم ولا أولادهم ولا سائر نعم الله عليهم، فإنما هي من أسباب المحن والآفات عليهم. والإعجاب بالشيء: السرور به مع التعجب والافتخار من حسنه، والاعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه.
أما أموالهم في الدنيا فهي سبب لتعذيبهم بها حيث يتعبون في جمعها، ويصحبها الهم والقلق، ثم ينفقونها كارهين في الجهاد والزكاة وفي سبيل الله وتقوية المسلمين، وكذلك أولادهم ربما يموتون في الحروب، فيحزنون عليهم أشد الحزن، وفي الآخرة يعذبون عذابا شديدا، حيث يموتون على الكفر الذي يحبط العمل الصالح، وهذا من قبيل الاستدراج لهم فيما هم فيه، وتكون النتيجة أنهم خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. والاستدراج بالنعم: الإمداد بها مع البقاء على المعصية، مثل قوله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران ٣/ ١٧٨].
فما يظنون أنه من منافع الدنيا هو في الحقيقة سبب لعذابهم وبلائهم، وبه
250
يظهر أن النفاق مرض خطير جالب لجميع الآفات في الدين والدنيا، ومبطل لجميع الخيرات فيهما.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه ٢٠/ ١٣١] وقوله: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ، نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ، بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٥٦- ٥٥].
فقه الحياة أو الأحكام:
في الآيتين دلالة على ما يأتي:
١- إن أفعال الكافر الخيرية كصلة القرابة وإغاثة الملهوف قد تفيده في الدنيا بدفع ضرر أو سوء، ولكن لا يثاب عليها، ولا ينتفع بها في الآخرة. بدليل
ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه؟
قال: لا ينفعه، إنه لم يقل يوما ربّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين»
. وروي عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد ومسلم: «إن الله لا يظلم مؤمنا حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له حسنة يجزى بها».
والصحيح أن إفادته من حسناته في الدنيا مقيّد بمشيئة الله المذكورة في قوله: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء ١٧/ ١٨].
والخلاصة: أن شيئا من أعمال البر لا يكون مقبولا عند الله، مع الكفر بالله. أما قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة ٩٩/ ٧] فيراد به بالنسبة للكافر تأثير الخير في تخفيف العقاب أو العذاب عنه.
251
٢- لم تكن أعمال الخير في الظاهر، الصادرة من المنافقين عن إيمان وقناعة وطيب نفس، وإنما كانت في الواقع عن إكراه نفسي، سترا على نفاقهم، فهم لم يؤدوا الصلاة إلا وهم كسالى متثاقلون في أدائها، ولم ينفقوا نفقة في سبيل الله كالزكاة والجهاد، لغرض الطاعة، بل رعاية للمصلحة الظاهرة لأنهم يعدّون النفقة مغرما، ومنعها مغنما، وإذا كان الأمر كذلك فهي غير متقبّلة ولا مثاب عليها، حسبما تقدم.
٣- الأموال والأولاد قد تكون سببا للعذاب في الدنيا، وقد تكون سببا للعذاب في الآخرة. أما الأموال في الدنيا فهي عذاب على المنافقين في كسبها وفي إنفاقها، فكسبها يحتاج إلى عناء شديد، والحفاظ عليها يتطلب الحذر، ويصحبها القلق والهم، والتهديد بالضياع والخسارة، وقد تؤدي إلى قسوة القلب والطغيان، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق ٩٦/ ٦] وإنفاقها يكون كرها لا طواعية، فيعذبون بما ينفقون، وأما الأولاد فقد يموتون في الجهاد، فيعقب موتهم الحزن والغم والندم، وقد يؤمنون فيحترق الآباء غيظا عليهم، مثل حنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي شهد بدرا وكان من الله بمكان. وأما في الآخرة فيعذبون إذا اكتسبوا الأموال من حرام، وإذا آمن الأولاد وتبرموا من نفاق الآباء نجوا من العذاب الدائم.
252
حلف المنافقين الأيمان الكاذبة وانتهازهم الفرصة للطعن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (٥٨) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (٥٩)
الإعراب:
إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ إذا للمفاجاة، أي وإن لم يعطوا منها فاجؤوا النبي بالسخط.
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا جواب لَوْ محذوف، تقديره: ولو أنهم رضوا لكان خيرا لهم.
البلاغة:
رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ هنا طباق بين الرضا والسخط.
المفردات اللغوية:
إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي مؤمنون يَفْرَقُونَ يخافون أن تفعلوا بهم كالمشركين، فيحلفون تقية.
والفرق: الخوف الشديد الذي يحجب الإدراك الصحيح مَلْجَأً مكانا يلتجئون إليه للاعتصام به، كالقلعة أو الحصن أو الجزيرة أو نحوها مَغاراتٍ سراديب، جمع مغارة: وهي الكهف أو الغار في الجبل، سمي بذلك لأنه يستتر فيها مُدَّخَلًا موضعا يدخلونه، أو سربا في الأرض للدخول فيه بمشقة يَجْمَحُونَ يسرعون في دخوله إسراعا لا يقاوم يَلْمِزُكَ يعيبك، والهمز: العيب
253
في الغيبة، واللمز: العيب في الوجه، وأصله: الإشارة بالعين ونحوها، وقال الزجاج والجوهري:
الهمز كاللمز وزنا ومعنى، أي لا فرق بينهما حَسْبُنَا كافينا راغِبُونَ محبون أن يغنينا، يقال: رغب ورغب فيه: أحبه، ورغب عنه: كرهه، ورغب إليه: طلبه وتوجه إليه.
سبب النزول: نزول الآية (٥٨) :
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ:
روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «بينما رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقسم قسما، إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي- وهو حرقوض بن زهير أصل الخوارج- فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟ فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي أن أضرب عنقه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرّميّة، فنزلت فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر نحوه. وروى ابن جرير عن داود بن أبي عاصم قال: «أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بصدقة، فقسمها هاهنا وهاهنا، حتى ذهبت، ورأى ذلك رجل من الأنصار، فقال: ما هذا بالعدل، فنزلت هذه الآية»

ومجموع الروايات يدل على أن الطاعنين من المنافقين.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أن المنافقين جامعون لكل مضار الآخرة والدنيا، كاستئذانهم كاذبين، بيّن هنا إقدامهم على الأيمان الكاذبة، وانتهازهم الفرصة للطعن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد طعنوا فيه بسبب أخذ الصدقات من الأغنياء، ويقولون: إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته، وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل.
254
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن فزع المنافقين وهلعهم أنهم يحلفون بالله يمينا مؤكدة: إنهم لمنكم أي لمن جملة المسلمين أهل الملة والدين، وما هم منكم في نفس الأمر فليسوا على دينكم، بل هم أهل شك ونفاق، ولكنهم قوم يخافونكم فيحلفون، فالخوف من القتل هو الذي حملهم على الحلف، فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق، وهو كقوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا: آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة ٢/ ١٤].
ومن مظاهر خوفهم أنهم يتمنون الفرار منكم والمعيشة بعيدا عنكم، فلو وجدوا مفرا يتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم، لفروا إليه ولفارقوكم.
ولو وجدوا ملجأ، أي مكانا يتحصن فيه، أو مغارة أي كهفا في الجبال، أو مدّخلا أي سربا تحت الأرض كالآبار والقنوات، لولّوا إليه أي رجعوا إليه من أحد هذه المواضع مع أنها شر الأمكنة، وهم يجمحون أي يسرعون إسراعا في ذهابهم عنكم على نحو لا يقاوم لأنهم إنما يعيشون معكم كرها لا محبة وودا، ولكن للضرورة أحكام. ولهذا لا يزالون في همّ وحزن وغم لأن الإسلام وأهله في تقدم ورفعة، وعز ونصر، وذلك كله يسوؤهم.
ومن المنافقين من يعيب عليك ويطعن بك يا محمد في قسمة الصدقات وهي إما المغانم أو أخذ الصدقات من الأغنياء وهي أموال الزكاة المفروضة، قيل: هم المؤلفة قلوبهم كان يعطيهم النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للتأليف، وقيل: هو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج، كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقسم غنائم حنين، فقال: اعدل يا رسول الله،
فقال صلوات الله وسلامه عليه: ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟!.
وقيل: هو أبو الجوّاط من المنافقين قال: ألا ترون إلى صاحبكم؟ إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم، وهو يزعم أنه يعدل،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم:
255
لا أبا لك، أما كان موسى راعيا، أما كان داود راعيا؟ فلما ذهب، قال عليه الصلاة والسّلام: احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون.
ثم وصفهم الله تعالى بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم، لا للدين، وما فيه صلاح أهله لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم، فضجر المنافقون منه. فقال تعالى: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا.. أي إن أعطوا من الزكاة أو من الغنائم ولو بغير حق رضوا، وإن لم يعطوا منها فاجؤوك بالسخط، وإن لم يستحقوا العطاء، فهم إنما يغضبون لأنفسهم ولمنافعهم، لا للمصلحة العامة، فليس طعنهم أو نقدهم بريئا، ولكن لهدف خاص.
ولو أنهم رضوا ما أعطاهم الرسول من الغنائم وطابت به نفوسهم، وإن قلّ نصيبهم، وقالوا: كفانا فضل الله وصنعه، وحسبنا ما أصبناه، وسيرزقنا الله غنيمة أخرى، فيؤتينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أكثر مما آتانا اليوم، إنّا إلى الله في أن يمنحننا من فضله لراغبون، لا نرغب إلى غيره أبدا.
وقد تضمنت هذه الآية أدبا عظيما حيث إنها ترشدهم وتعلمهم الرضا بما آتاه الله ورسوله، والتوكل على الله وحده، وهو قوله: وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ.
والمقصود إنما هو التعليم بأن يرضوا بنعمة الله، وبقسمة الرسول، فهو لا يفعل إلا العدل وما فيه المصلحة العامة للإسلام وأهله، وما على المؤمن إلا أن يرضى بما قسمه الله له، ولا يطمع بأكثر من ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يلي:
١- إن من أخلاق المنافقين الحلف بأنهم مؤمنون، والإقدام على الأيمان
256
الكاذبة، كما قال تعالى: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ الآية [المنافقون ٦٣/ ١].
٢- المنافقون جماعة حيارى مضطربون قلقون كارهون العيش في الحقيقة مع المؤمنين، خوفا من افتضاح أمرهم، ويخافون أن يظهروا على ما هم عليه فيقتلوا، لذا يتمنون النجاة بأنفسهم واللجوء إلى شر الأمكنة كالحصون (الملاجئ) والمغارات (الكهوف في الجبال) والمداخل (السراديب المحفورة تحت الأرض).
٣- ومن أسوأ أخلاق المنافقين وقبائحهم وفضائحهم طعنهم في الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بسبب أخذ الصدقات المفروضة من الأغنياء، ويقولون: إنه يؤثر بها من يشاء من أقاربه وأهل مودته، أو بسبب قسمة غنائم الحرب المغنومة من الأعداء، كغنائم حنين التي تألف بها النبي المؤلفة قلوبهم من أهل مكة، وينسبونه إلى أنه لا يراعي العدل.
٤- تدل الآية على أن من طلب الدنيا وحدها آل أمره إلى النفاق، وأما من طلب الدنيا بقدر ما أذن الله فيه، وكان غرضه من الدنيا أن يتوسل إلى مصالح الدين، فهذا هو الطريق الحق. والأصل في هذه الأمور المادية الرضا بقضاء الله وقدره، بعد اتخاذ الأسباب، لذا قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ، سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ، إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ.
٥- اشتملت هذه الآية: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا على مراتب أربع:
الأولى- الرضا بما آتاهم الله ورسوله لأنه تعالى حكيم منزه عن العبث والخطأ، فحكمه حق وصواب.
الثانية- أن تظهر آثار الرضا على اللسان، وهو قوله: حَسْبُنَا اللَّهُ أي الرضا بحكم الله وقضائه.
257
الثالثة- أن يقول الإنسان إن لم يقل: حَسْبُنَا اللَّهُ: سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ أي إما في الدنيا أو في الآخرة.
الرابعة- أن يقول: إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ أي لا نبغي بالإيمان مكاسب الدنيا من مال وجاه، وإنما نريد الفوز بسعادة الآخرة.
مصارف الزكاة الثمانية
[سورة التوبة (٩) : آية ٦٠]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)
الإعراب:
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ منصوب بفعل مقدر، وهو في معنى المصدر المؤكد لما دلت عليه الآية، أي فرض الله لهم الصدقات فريضة، أو حال من الضمير المستكن في لِلْفُقَراءِ وقرئ بالرفع على تقدير: تلك فريضة.
البلاغة:
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كلاهما بصيغة فعيل التي هي للمبالغة، أي واسع العلم، عالي الحكمة يضع الأشياء في مواضعها.
المفردات اللغوية:
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ الزكوات المفروضة مصروفة لهؤلاء الثمانية، أفادت اللام وجوب إعطائها لهم، وأنها مختصة بهم لا تتجاوزها إلى غيرهم، فظاهر الآية يقتضي تخصيص استحقاق الزكاة بالأصناف الثمانية ووجوب الصرف إلى كل صنف وجد منهم، ومراعاة التسوية بينهم بسبب الاشتراك في الحق.
وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه. وعن عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم أجمعين جواز صرفها إلى صنف واحد، وبه قال الأئمة الثلاثة.
والمعنى: إنما الزكوات مستحقة لهؤلاء المعدودين دون غيرهم، وهو دليل على أن المراد باللمز في الآية السابقة لمزهم في قسم الزكوات دون الغنائم.
258
لِلْفُقَراءِ الفقير: من لا مال له ولا كسب يقع موقعا من حاجته، من الفقار كأنه أصيب فقاره. وَالْمَساكِينِ المسكين: من له مال أو كسب لا يكفيه، من السكون كأن العجز أسكنه، ويدل عليه قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ [الكهف ١٨/ ٧٩] وأنه عليه الصلاة والسّلام كان يسأل المسكنة، ويتعوذ من الفقر. وقيل: المسكين: هو عديم المال، لقوله تعالى: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد ٩٠/ ١٦] والمسألة خلافية بين الشافعية والحنفية. والفقر والمسكنة يتحددان بما دون الحد الأدنى اللازم للمعيشة، بحسب كل زمان ومكان.
وَالْعامِلِينَ عَلَيْها الساعين في تحصيلها وجمعها وهم الجباة. وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة بالإسلام فتستألف قلوبهم، أو هم أشراف قد يترقب بإعطائهم ومراعاتهم إسلام نظرائهم،
وقد أعطى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، والعباس بن مرداس لذلك.
وقيل: أشراف يستألفون على أن يسلموا، فإنه عليه الصلاة والسّلام يعطيهم، والأصح أنه كان يعطيهم من خمس الخمس الذي كان خاص ماله من الغنائم.
وقد عدّ منهم من يؤلف قلبه بشيء منها على قتال الكفار ومانعي الزكاة، فهم أقسام: إما أن يعطوا ليسلموا، أو يثبت إسلامهم، أو يسلم نظراؤهم، أو يدافعوا عن المسلمين. والأول والأخير لا يعطيان اليوم عند الشافعي رضي الله عنه لعز الإسلام، بخلاف الآخرين، فيعطيان على الأصح.
وَفِي الرِّقابِ أي وفي فك المكاتبين، بأن يعاون المكاتب بشيء من الزكاة على أداء الأقساط (النجوم) أو بأن يبتاع الرقاب فتعتق، وبه قال مالك وأحمد، أو بأن يفدى الأسارى.
والعدول عن اللام إلى فِي للدلالة على أن الاستحقاق للجهة، لا للرقاب.
وَالْغارِمِينَ المديونين إن استدانوا لأنفسهم في غير معصية ولا إسراف ولم يكن لهم وفاء للديون، أو استدانوا لإصلاح ذات البين ولو أغنياء
لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري: «لا تحل الصدقة إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لغارم، أو رجل اشتراها بماله، أو رجل له جار مسكين فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين للغني، أو لعامل عليها».
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ أي القائمين بالجهاد ولو أغنياء، أو للصرف في مصالح الجهاد بالإنفاق على المتطوعة وشراء السلاح. وقيل: وفي بناء القناطر والمصانع.
وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر المنقطع في سفره عن ماله.
فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي فرض الله ذلك فريضة، ليس لأحد فيها رأي.
259
المناسبة:
لما لمز المنافقون الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في الصدقات، بيّن لهم أن مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف الثمانية، فلا يبقى لأحد حق الاعتراض أو النقد والطعن في الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بسبب أخذ الصدقات. فهم مخطئون في اعتراضهم، والرسول صلّى الله عليه وآله وسلم محق فيما صنع، والآية قاضية على أطماعهم.
وورود الآية ضروري أيضا لبيان طريق الحق والعدل في صرف الزكاة، فلا يجور الأغنياء، وليس لهم أن يتحايلوا في صرفها إلى غير هؤلاء المستحقين، كما أن الآية تنبيه وتذكير دائم بهؤلاء المحتاجين، وحمل للأغنياء على إعطاء حقوق الله في أموالهم دون أن يكون لهم منّة، وحدّ من أطماعهم وحبهم للمال.
وأما السبب في ذكر هذه الآية بين آيات المنافقين ومكايدهم فللتنبيه على أنهم ليسوا من مستحقي الزكاة، حسما لأطماعهم، وإشعارا باستحقاقهم الحرمان، وأنهم بعداء عنها وعن مصارفها.
التفسير والبيان:
إنما مصارف الزكاة الواجبة لهؤلاء الأصناف الثمانية، وقد أفادت إِنَّمَا حصر الصدقات في هذه الأصناف، دون غيرهم.
والدليل على أن المراد بالصدقات هنا هو الزكوات الواجبة: أن (أل) في الصدقات للعهد الذكري، والمعهود هو الصدقات الواجبة المشار إليها في الآية المتقدمة: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ولأن الله أثبت الحق في هذه الصدقات بلام التمليك للأصناف الثمانية، والمملوك لهم إنما هو الزكاة الواجبة ولأنه ذكر في الآية سهما للعاملين، والعمال يوظفون لجباية الصدقات الواجبة لا المندوبة، ولأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها في غير هذه الأصناف.
والزكوات الواجبة هي زكاة النقود والأنعام والزروع والتجارة.
260
وقد أوجب الإمام الشافعي صرف جميع الصدقات الواجبة من الفطرة وزكاة الأموال إلى الأصناف الثمانية لأن الآية أضافت جميع الصدقات إليهم بلام التمليك، وشرّكت بينهم بواو التشريك، وحصرت صرفها في الأصناف الثمانية لأن لفظة إِنَّمَا تقتضي الحصر فيهم، فدلت الآية على أن الصدقات كلها مملوكة لهم، مشتركة بينهم. ولا يجوز الصرف لأقل من ثلاثة أشخاص من كل صنف لأن أقل الجمع ثلاثة.
وأجاز الأئمة الثلاثة الآخرون صرفها إلى صنف واحد، وإلى شخص واحد من كل صنف في رأي أبي حنيفة ومالك لأن الآية للتخيير في هذه الأصناف دون غيرهم، بدليل قوله تعالى: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة ٢/ ٢٧١]
وقوله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الجماعة عن معاذ بن جبل: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردها إلى فقرائكم»
والمذكور فقط في الآية والحديث هو صنف واحد وهم الفقراء.
ودليلهم على جواز الاقتصار على شخص واحد: هو أن (أل) في الجمع المعرف هنا مجاز في الجنس، أي جنس الصدقة لجنس الفقير، وجنس الفقير يتحقق بواحد، فتصرف إليه. وتحمل (أل) على المجاز لتعذر حملها على الحقيقة، وهو استغراق جميع الفقراء، وإعطاء الصدقة لكل فقير.
والسر في التعبير باللام المفيدة للملك في ستة أصناف (وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، والغارمون، وابن السبيل) أن أصحابها أشخاص يملكون. وأما التعبير ب فِي في صنفين (وهما: في الرقاب، وفي سبيل الله) فلأن المراد الجهة أو الأوصاف والمصالح العامة للمسلمين، وليس المراد الأشخاص، وللإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره، فالتعبير بفي في قوله: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فيه ترجيح لهذين الصنفين على الرقاب والغارمين.
261
وأما بيان الأصناف الثمانية فهو فيما يأتي:
١- الفقراء: وهم المحتاجون غير الأغنياء، الذين لا يجدون كفايتهم.
٢- المساكين: وهم فئة أخرى من المحتاجين.
وقد اختلف الفقهاء فيمن هو أسوأ حالا: الفقير أم المسكين، فقال الشافعية والحنابلة: الفقير أسوأ حالا من المسكين، فهو المعدم الذي لا يملك شيئا من مال ولا كسب يغطي حاجته، وأما المسكين: فهو من يملك أقل من كفايته. وقال الحنفية والمالكية: المسكين أسوأ حالا من الفقير.
وليس للخلاف ثمرة في الزكاة، وإنما تظهر فائدة الخلاف في الوصية للفقراء دون المساكين أو العكس، وفيمن أوصى بشيء للفقراء وبشيء آخر للمساكين.
وأدلة الشافعية والحنابلة هي: أنه تعالى قدم الفقراء لأنهم أحوج من غيرهم، وأنه تعالى بقوله:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ [الكهف ١٨/ ٧٩] وصف بالمسكنة من له سفينة،
وأنه صلّى الله عليه وآله وسلم كان يتعوذ من الفقر، ويقول فيما رواه الحاكم عن أبي سعيد الخدري: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين»
ولا يعقل أن يتعوذ من شيء، ثم يسأل حالا أسوأ منه، فالمسكين يملك شيئا وقد نقل جماعة من أهل اللغة كابن الأنباري: أن المسكين: الذي له ما يأكل، والفقير: الذي لا شيء له. وقالوا: والفقير: معناه في كلام العرب: الذي نزعت بعض فقرات ظهره من شدة الفقر، فلا حال أشدّ من هذه.
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس، فترده اللّقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا».
262
وأدلة الحنفية والمالكية على أن المسكين أسوأ حالا من الفقير هي: أنه تعالى وصفه بقوله: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد ٩٠/ ١٦] أي ألصق جلده بالتراب لمواراة جسده، مما يدل على شدة حاجته وأن بعض أهل اللغة كالأصمعي وابن السّكّيت قالوا: المسكين: الذي لا شيء له، والفقير: هو الذي له بعض ما يكفيه وأن المسكين: هو الذي يسكن حيث يحل، مما يدل على نهاية الضرر والبؤس.
والظاهر أن المنقول في اللغة متعارض، فيعذر الفريقان فيما ذهبا إليه، وهما متفقان على أنهما صنفان. وروي عن أبي يوسف ومحمد: أنهما صنف واحد.
وفائدة الخلاف: تظهر فيمن أوصى بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين فمن قال: هما صنف واحد قال: يكون لفلان نصف الثلث وللفقراء والمساكين النصف الآخر، ومن جعلهما صنفين قسم الثلث بينهم أثلاثا.
حدّ الفقر الذي يجوز معه الأخذ:
أجمع العلماء على أن من له دار وخادم لا يستغني عنهما: أن له أن يأخذ من الزكاة، وللمعطي أن يعطيه. واختلفوا فيما عدا ذلك.
فقال أبو حنيفة: من معه عشرون دينارا أو مائتا درهم (نصاب الزكاة) فلا يأخذ من الزكاة. فاعتبر النصاب،
لقوله عليه الصلاة والسّلام فيما رواه الجماعة عن معاذ: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم، وأردّها في فقرائكم».
وقال أحمد والثوري وإسحاق وغيرهم: لا يأخذ من له خمسون درهما أو قدرها من الذهب، ولا يعطى منها أكثر من خمسين درهما إلا أن يكون غارما لما رواه الدارقطني عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تحل الصدقة لرجل له خمسون درهما»
لكن في إسناده ضعف.
263
والمشهور عن مالك: ما رواه ابن القاسم عنه أنه سئل: هل يعطى من الزكاة من له أربعون درهما؟ قال: نعم. والفقير عند المالكية: هو من ملك من المال أقل من كفاية السنة.
وقال الشافعي وأبو ثور: من كان قويا على الكسب والتحرّف، مع قوة البدن وحسن التصرف، حتى يغنيه ذلك عن الناس، فالصدقة عليه حرام
لما أخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني عن عبد الله بن عمر عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تحلّ الصدقة لغني، ولا لذي مرّة سوي» «١».
هل تعطى الزكاة للكفار وآل البيت؟
ظاهر الآية وإطلاق اللفظ يقتضي إعطاء الزكاة لمن اتصف بصفة الفقير والمسكين، سواء في ذلك آل البيت وغيرهم، وسواء الأقارب وغيرهم، والمسلمون والكفار، ولكن رأى الفقهاء أن الزكاة محصورة في المسلمين، فلا يجوز دفع شيء منها إلى كافر
لما جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فتردّ على فقرائهم».
وأباح أبو حنيفة رحمه الله دفع الفطرة إلى الكفار لأن الحديث مختص بالزكاة.
وكذلك رأى الفقهاء أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى من تلزم المزكي نفقته من الأقارب (وهم الأصول والفروع) والزوجات لأن الزكاة لدفع الحاجة، ولا حاجة بهم مع وجود النفقة لهم، ولأنه بالدفع إليهم يجلب لنفسه نفعا.
واتفق العلماء على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى هاشمي
لما رواه مسلم عن
(١) المرّة: القوة والشدة، والسوي: الصحيح الأعضاء.
264
المطلّب بن ربيعة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد».
ولم يجز الشافعي أيضا دفعها إلى مطّلبي
لما رواه البخاري عن جبير بن مطعم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد، وشبّك بين أصابعه».
مقدار ما يعطى للفقير والمسكين:
للعلماء آراء متفاوتة في ذلك، فرأى أبو حنيفة: أنه لا يزاد على النصاب، أي أنه يكره أن يعطى إنسان من الزكاة مائتي درهم.
وذهب مالك إلى أن الأمر راجع إلى الاجتهاد، وأجاز مع الإمام أحمد إعطاء ما يكفي سنة.
ورأى الشافعي أنه يعطى الفقير والمسكين ما تزول به حاجته لأن المقصود من الزكاة سدّ الحاجة.
نقل الزكاة لفقراء بلد آخر:
للعلماء رأيان: فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز نقل الزكاة عن البلد الذي فيه المال إلى بلد آخر، لكن أجاز المالكية والشافعية والحنابلة نقلها إلى بلد آخر دون مسافة القصر (٨٩ كم) لأنه في حكم موضع الوجوب. وأوجب الشافعية نقلها إلى أقرب البلاد لبلد الوجوب إذا لم توجد الأصناف الثمانية في بلد الزكاة، أو فضل شيء عن بعض منهم.
وأباح ابن القاسم وسحنون نقلها لبلد آخر لضرورة أو حاجة شديدة فإن الحاجة إذا نزلت وجب تقديمها على من ليس بمحتاج،
«والمسلم أخو المسلم،
265
لا يسلمه «١»، ولا يظلمه»
قال ابن العربي: وهو الصحيح.
وقال الحنفية: يكره تنزيها نقل الزكاة من بلد إلى آخر إلا أن ينقلها إلى قرابته المحتاجين ليسد حاجتهم، أو إلى قوم هم أحوج إليها وأصلح أو أورع أو أنفع للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار الإسلام، أو إلى طالب علم، أو إلى الزهاد، أو كانت معجلة قبل تمام الحول، فلا يكره نقلها. ولو نقلها لغير هذه الأحوال جاز لأن المصرف مطلق الفقراء. والدليل قول معاذ لأهل اليمن: ايتوني بخميس «٢» أو لبيس آخذه منكم مكان الذرة والشعير في الصدقة، فإنه أيسر عليكم، وأنفع للمهاجرين بالمدينة. وقد دلّ هذا الحديث على أمرين:
أحدهما- نقل الزكاة من اليمن إلى المدينة، فيتولى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قسمتها، ويعضد هذا قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ولم يفرق بين فقير بلد وفقير آخر.
والثاني- أخذ القيمة في الزكاة. وهو رأي الحنفية لأن المقصود من الزكاة سدّ حاجة الفقراء، وأي شيء سدّ حاجتهم جاز، وقال الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ولم يخص شيئا من شيء.
ولم يجز الجمهور إخراج القيمة في شيء من الزكاة لأن الحق لله تعالى، وقد علقه على ما نص عليه، فلا يجوز نقل ذلك إلى غيره، كالأضحية لما علقها على الأنعام، لم يجز نقلها إلى غيرها، وإنما يجب العلم بالمنصوص عليه.
والمعتبر عند الحنفية والشافعية والحنابلة في زكاة المال: المكان الذي فيه المال، والمعتبر في صدقة الفطر مكان وجود الصائم.
(١) أي لا يتركه مع من يؤذيه، بل يحميه. والحديث رواه أبو داود عن سويد بن حنظلة.
(٢) الخميس: لفظ مشترك: وهو هنا الثوب طوله خمسة أذرع، وأول من عمله الخمس أحد ملوك اليمن.
266
وعند المالكية قولان: قول يعتبر مكان المال وقت تمام الحول، فتفرق الصدقة فيه، وقول يعتبر مكان المالك، إذ هو المخاطب بإخراج الزكاة، فصار المال تبعا له.
ومن أعطى فقيرا مسلما، ثم تبين له أنه عبد أو كافر أو غني، أجزأه على الأصح عند مالك، بدليل حديث مسلم عن أبي هريرة المتضمن قبول الصدقة على زانية وغني وسارق، ولأن المطلوب منه الاجتهاد في المعطى، فإذا اجتهد وأعطى من يظنه من أهل الزكاة، فقد أتى بالواجب عليه.
ومن أخرج الزكاة عند حلول الحول، فهلكت من غير تفريط، لم يضمن عند المالكية لأنه وكيل للفقراء. فإن أخرجها بعد ذلك بمدة، فهلكت ضمن لتأخيرها عن محلّها، فتعلقت بذمته، فلذلك ضمن.
وإذا كان الإمام يعدل في الأخذ والصرف، لم يسغ للمالك أن يتولى الصرف بنفسه في الناضّ «١» ولا في غيره.
٣- العاملون عليها: وهم السّعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة بالتوكيل على ذلك.
روى البخاري عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رجلا من الأسد على صدقات بني سليم يدعى ابن اللّتبيّة، فلما جاء حاسبه.
واختلف العلماء في المقدار الذي يأخذونه على ثلاثة أقوال:
الأول- قال مجاهد والشافعي: هو الثمن، فإن زادت أجرتهم على سهمهم، تمّم لهم من بيت المال، وقيل: من سائر السهمان. وهذا رأي موافق لظاهر الآية.
(١) الناض من المال: هو الدرهم والدينار، وإنما يسمى ناضا إذا تحوّل نقدا بعد أن كان متاعا، أي صار ذا سيولة.
267
الثاني- قال الحنفية والمالكية: يعطون قدر عملهم من الأجرة لأنهم عطّلوا أنفسهم لمصلحة الفقراء، فكانت كفايتهم وكفاية أعوانهم في مال الفقراء. وإذا استغرقت كفايتهم الزكاة، فلا يزيدهم الحنفية على النصف، ويعطون الوسط.
الثالث- يعطون من بيت المال، وهو قول ضعيف الدليل فإن الله سبحانه أخبر بسهمهم في الزكاة، فكيف لا يعطونه؟
والذي يعطى للعامل هو بمثابة الأجرة على العمل، فيعطاها ولو كان غنيا، لذا فإنه يعطاها ولو كان هاشميا في رأي مالك والشافعي لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بعث علي بن أبي طالب مصدّقا، وبعثه عاملا إلى اليمن على الزكاة، وولّى جماعة من بني هاشم، وولى الخلفاء بعده كذلك، ولأن العامل أجير على عمل مباح، فوجب أن يستوي فيه الهاشمي وغيره كسائر الصناعات.
وقال أبو حنيفة: لا يعطى العامل الهاشمي لأن سهمه جزء من الصدقة، وقد قال عليه الصلاة والسّلام فيما رواه مسلم عن المطّلب بن ربيعة: «إن الصدقة لا تحلّ لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس».
ودلّ قوله تعالى: وَالْعامِلِينَ عَلَيْها على أن كل ما كان من فروض الكفايات كالساعي والكاتب والقسّام والعاشر والعريف والحاسب وحافظ المال، يجوز للقائم به أخذ الأجرة عليه. ومن ذلك الإمامة، فإن الصلاة وإن كانت فرضا عينيا على كل واحد، فإن التفرغ للإمامة من فروض الكفايات، كما ذكر القرطبي...
ودلّ هذا القول أيضا على أنه يجب على الإمام أن يبعث السعاة لأخذ الصدقة (الزكاة) لأن بعض من يملك المال لا يعرف ما يجب عليه، وبعضهم قد يبخل،
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بعث عمر بن الخطاب
268
رضي الله عنه على الصدقات.
وروى أبو داود عن أبي رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: ولى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم رجلا من بني مخزوم على الصدقة.
والنص على العامل في الآية يدل على أن أخذ الزكاة إلى الإمام، ويجب دفعها له، ولا يجزي رب المال أن يعطيها إلى المستحقين، ويؤكده قوله تعالى:
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة ٩/ ١٠٣].
لكن يعارض ذلك قوله تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج ٧٠/ ٢٥- ٢٤] والحق يجوز لمن يجب عليه دفعه للسائل والمحروم مباشرة. لذا فصل العلماء فقالوا:
أ- إن كان مال الزكاة خفيا (باطنا) كالنقود: فيجوز بالإجماع للمالك أن يفرقه بنفسه أو أن يدفعه إلى الإمام.
ب- وإن كان مال الزكاة ظاهرا كالماشية والزرع والثمر: فيجب دفعه إلى الإمام في رأي الجمهور لأن حق المطالبة فيه للإمام، فيدفع إليه كالخراج والجزية.
وقال الشافعي في الجديد: يجوز للمالك توزيعه بنفسه لأنه زكاة كزكاة المال الخفي.
٤- المؤلفة قلوبهم: وهم قوم كانوا في صدر الإسلام ممن يظهر الإسلام، يتألّفون بدفع سهم من الصدقة إليهم لضعف يقينهم. وهم نوعان: مسلمون وكفار، يعطون ليتقوى إسلامهم.
أما الكفار حال كونهم كفارا: فيعطون من الزكاة في مذهب الحنابلة والمالكية، ترغيبا في الإسلام
لأن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم «أعطى المؤلفة قلوبهم من المسلمين والمشركين» «١».
(١) نيل الأوطار: ٤/ ١٦٦ [.....]
269
ولا يعطون من الزكاة في مذهب الحنفية والشافعية، لا لتأليف ولا لغيره لأن إعطاءهم في صدر الإسلام إنما كان في حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوهم، وقد أعزّ الله الإسلام وأهله، واستغنى بهم عن تألف الكفار، ولم يعطهم الخلفاء الراشدون بعد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، قال عمر رضي الله عنه: «إنا لا نعطي على الإسلام شيئا، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ».
وأما المسلمون من المؤلفة: فهم أصناف، يعطون لتثبيت إسلامهم:
أولا- ضعفاء النية في الإسلام: يعطون ليتقوى إسلامهم.
ثانيا- الشريف المسلم في قومه الذي يتوقع بإعطائه إسلام نظرائه، فقد أعطى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم أبا سفيان بن حرب وآخرين، وأعطى الزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم، لشرفهما في قومهما.
ثالثا- المقيم في ثغر من ثغور المسلمين المجاورة للكفار، ليكفينا شر من يليه من الكفار بالقتال.
رابعا- من يجبي الصدقات من قوم يتعذر إرسال ساع إليهم، وإن لم يمنعوها. وقد ثبت أن أبا بكر أعطى عدي بن حاتم حين قدم عليه بزكاته وزكاة قومه عام الردة.
وهل بقي سهم المؤلفة قلوبهم أو نسخ؟ رأيان:
قال الحنفية ومالك: قد سقط سهم المؤلفة بانتشار الإسلام وقوته، فيكون عدد الأصناف من بعد صدر الإسلام وإلى الآن سبعة لا ثمانية، ويكون سقوط هذا السهم من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته، كانتهاء جواز الصوم بانتهاء وقته وهو النهار.
وقال الجمهور منهم العلامة خليل من المالكية: حكم المؤلفة قلوبهم باق لم
270
ينسخ، فيعطون عند الحاجة، ويحمل ترك عمر وعثمان وعلي إعطاءهم على عدم الحاجة إلى إعطائهم في خلافتهم، لا لسقوط سهمهم، فإن الآية من آخر ما نزل من القرآن، ولأن المقصود من إعطائهم ترغيبهم في الإسلام، لا لإعانتهم لنا، حتى يسقط بانتشار الإسلام.
والخلاصة: أن هذا السهم حق للإمام يفعل فيه ما يراه محققا للمصلحة.
٥- وفي الرقاب: أي في فك الرقاب، كما قال ابن عباس وابن عمر، أي أن فيه محذوفا، والمراد به عند أكثر العلماء: المكاتبون «١» المسلمون الذين لا يجدون وفاء ما يؤدون لأسيادهم، ولو مع القوة والتكسب لأنه لا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتبا، ويدلّ عليه قوله تعالى:
وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ [النور ٢٤/ ٣٣] إلا أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة، ولكن يعطى منها في رقبة، ويعاون بها مكاتب لأن قوله: وَفِي الرِّقابِ يقتضي مشاركة المزكي في عتق الرقبة، لا أن يستقل بالعتق.
وقال المالكية: يشترى بسهمهم رقيق، فيعتق لأن كل موضع ذكرت فيه الرقبة: يراد بها عتقها، والعتق والتحرير لا يكون إلا في القن (العبد الخالص العبودية) كما في الكفارات. ويكون ولاؤهم لبيت المال.
وقد ورد حديث يدل على جواز عتق الرقبة وإعانة المكاتب معا،
روى أحمد والبخاري والدارقطني عن البراء بن عازب قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: دلّني على عمل يقربني من الجنة، ويباعدني من النار، فقال: «أعتق النسمة، وفك الرقبة» فقال: يا رسول الله، أو ليستا واحدا؟ قال: «لا،
(١) المكاتب: من كاتبه سيده على أقساط معينة، فإذا وفاها صار حرا. والكتابة مندوبة لقوله تعالى: فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً [النور ٢٤/ ٣٣] من أجل تحرير الرقاب.
271
عتق النسمة: أن تنفرد بعتقها، وفكّ الرقبة: أن تعين في ثمنها».
وشرط إعطاء المكاتب: هو كونه مسلما محتاجا.
وقال بعض العلماء كابن حبيب المالكي: يفدى من هذا السهم الأسارى.
ويؤخذ بهذا القول اليوم لإنهاء الرق من العالم.
٦- الغارمون: وهم المدينون الذين ركبهم الدّين ولا وفاء عندهم به، سواء استدان المدين في رأي الشافعية والحنابلة لنفسه أو لغيره، وسواء كان دينه في طاعة أو في معصية. فإن استدان لنفسه لم يعط إلا إذا كان فقيرا، وإن استدان لإصلاح ذات البين، ولو بين أهل الذمة، بسبب إتلاف نفس أو مال أو نهب، فيعطى من سهم الغارمين، ولو كان غنيا
لقوله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لا تحل الصدقة لغني إلا خمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار مسكين، فتصدق على المسكين، فأهدى المسكين إليه» «١».
وقال الحنفية: الغارم: من لزمه دين، ولا يملك نصابا فاضلا عن دينه، أي أنه الفقير.
وقال المالكية: الغارم: هو من فدحه الدين للناس في غير سفه ولا فساد، أي من ليس عنده ما يوفي به دينه، أي أنه الفقير، إذا كان الدين في غير معصية كشرب خمر وقمار، ولم يستدن لأخذ الزكاة، كأن يكون عنده ما يكفيه وتوسع في الإنفاق بالدين لأجل أن يأخذ من الزكاة، فلا يعطى منها لأنه قصد مذموم، بخلاف فقير استدان للضرورة، ناويا الأخذ من الزكاة، فإنه يعطى قدر دينه منها لحسن قصده. لكن إن تاب من استدان لمعصية، أو بقصد ذميم، فإنه يعطى على الأحسن.
(١) رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
272
وقال الجمهور: يقضى من الزكاة دين الميت لأنه من الغارمين
قال صلّى الله عليه وآله وسلم: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه: من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا «١» فإليّ وعلي» «٢».
٧- وفي سبيل الله: وهم في رأي الجمهور الغزاة المجاهدون الذين لا حق لهم في ديوان الجند، يعطون ما ينفقون في غزوهم، كانوا أغنياء أو فقراء لأن السبيل عند الإطلاق هو الغزو، وهو المستعمل في القرآن والسنة. وأما من له شيء مقدر في الديوان فلا يعطى لأن من له رزق راتب يكفيه، فهو مستغن به. ولا يحج أحد بزكاة ماله، ولا يغزو بزكاة ماله، ولا يحج بها عنه، ولا يغزى بها عنه، لعدم الإيتاء المأمور به. وعلى هذا الرأي: لا يعطى الجيش الحالي من الزكاة لأن الجنود والضباط تصرف لهم اليوم رواتب شهرية دائمة، وإنما يمكن المساهمة عند الضرورة أو الحاجة العامة في شراء السلاح، أو إعطاء المتطوعة في الجهاد.
وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي في سبيل الله إلا إذا كان فقيرا.
وقال أحمد في أصح الروايتين عنه: الحج من سبيل الله، فيعطى مريد الحج من الزكاة
لما روى أبو داود عن ابن عباس: «أن رجلا جعل ناقة في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: اركبيها، فإن الحج من سبيل الله»
وأجاب الجمهور بأن الحج سبيل الله، ولكن الآية محمولة على الجهاد، قال مالك: سبل الله كثيرة، وقال ابن العربي: ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله هاهنا الغزو، ومن جملة سبيل الله، إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا: إنه الحج.
(١) الضياع: مصدر ضاع، فسمي العيال بالمصدر، كما تقول: من مات وترك فقرا، أي فقراء.
(٢) رواه أحمد والشيخان والنسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو صحيح.
273
وفسر بعض الحنفية سبيل الله بطلب العلم، وفسره الكاساني بجميع القرب، فيدخل فيه جميع وجوه الخير مثل تكفين الموتى وبناء القناطر والحصون وعمارة المساجد لأن قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ عام في الكل.
والخلاصة: المراد بسبيل الله: إعطاء المجاهدين ولو كانوا أغنياء عند الشافعية، وبشرط كونهم فقراء عند الحنفية، والحج من سبيل الله عند أحمد والحسن وإسحاق. واتفق العلماء إلا ما يروى عن بعضهم أنه لا يجوز صرف الزكاة لبناء المساجد والجسور والقناطر وإصلاح الطرقات، وتكفين الموتى، وقضاء الدين، وشراء الأسلحة ونحو ذلك من القرب التي لم تذكر في الآية، مما لا تمليك فيه.
٨- ابن السبيل: هو المسافر المنقطع في أثناء الطريق عن بلده، أو الذي يريد السفر في طاعة غير معصية، فيعجز عن بلوغ مقصده إلا بمعونة.
والطاعة: مثل الحج والجهاد وزيارة مندوبة. وأما السفر المباح كالرياضة والسياحة فلا يعطى في رأي بعض الشافعية لعدم حاجته، ويعطي في رأي آخرين بدليل جواز القصر والفطر له.
ويعطى ابن السبيل ما يبلغ به مقصده إذا كان محتاجا في سفره، ولو كان غنيا في وطنه.
ومن جاء مدعيا وصفا من الأوصاف السابقة، فيطالب بإثبات ما يقول، وعليه أن يثبت الدّين، وأما سائر الصفات فظاهر الحال يشهد لها، ويكتفى به فيها، كما ذكر ابن العربي والقرطبي المالكيان.
وذكر الرافعي الشافعي أن الوصف الخفي كالفقر والمسكنة لا يطالب المدعي بإثباته، ويعطى بلا بيّنة، وأما الوصف الجلي فيطالب العامل والمكاتب والغارم بإثباته، ولا يطالب المؤلف قلبه بإثبات ما يدعيه من ضعف نيته في الإسلام،
274
فإن ادعى أنه شريف مطاع في قومه طولب بالبينة. واشتهار الحال أو الاستفاضة قائم مقام البينة في حق من يطالب بها.
ولا يجوز إعطاء الزكاة من تلزمه نفقته وهم الوالدان والولد والزوجة. أما إن أعطى الإمام صدقة الرجل لولده ووالده وزوجته جاز.
والأفضل إعطاء الزكاة للأقارب المحتاجين، قال مالك: أفضل من وضعت فيه زكاتك قرابتك الذين لا تعول. والدليل
قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لزوجة عبد الله بن مسعود زينب فيما رواه البخاري ومسلم: «لك أجران: أجر الصدقة، وأجر الصلة».
وقدر المعطى مختلف فيه، فالغارم يعطى قدر دينه، والفقير والمسكين يعطيان كفايتهما وكفاية عيالهما مدة سنة عند مالك وأحمد كما تقدم، وبقدر الحاجة عند الشافعية، وألا يزاد على نصاب الزكاة عند الحنفية.
ويلاحظ ضرورة الاهتمام في توزيع الزكاة بالترتيب المذكور في الآية، فإن الترتيب مقصود ومراد، لكن في سبيل الله وابن السبيل صنفان مفضلان على الرقاب والغارمين للتعبير بفي كما تقدم بيانه.
ثم قال الله تعالى بعد بيان أصناف مستحقي الزكاة: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي فرض الله الصدقات فريضة، أي حكما مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه، وذلك كالزجر عن مخالفة هذا الظاهر.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده، لا يشرع إلا ما فيه الخير والصلاح للعباد، فإنه سبحانه شرع الزكاة تطهيرا للنفس، وتحصينا للمال، وشكرا للخالق على ما أنعم به، كما قال: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ، وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة ٩/ ١٠٣].
275
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على بيان مصارف الزكاة، وأنها لثمانية أصناف، لكن اليوم تعطى الزكاة في الغالب من بعض الأغنياء لا من جميعهم للفقراء والمساكين، وإعطاؤها نادر للغارمين المديونين وأبناء السبيل. أما الرقاب والعاملون على الزكاة وفي سبيل الله والمؤلفة قلوبهم فلا يصرف من الزكاة عليهم شيء لأن سهم وَفِي الرِّقابِ قد انتهى بسبب انتهاء الرق في العالم، وأما العاملون أو الموظفون على جباية الزكاة فلم يعد لهم وجود بسبب ترك توزيع الزكاة لأصحابها، وعدم جباية الحاكم لها، إلا في بعض محاولات تقوم بها بعض الدول الإسلامية المعاصرة، وأما سهم في سبيل الله فإن الجيوش النظامية أصبحت تزود بالمؤن والذخائر والأسلحة والرواتب الشهرية الدائمة من خزينة الدولة العامة، ولم تعد تنتظر زكوات المزكين وإنما يمكن الإنفاق في شراء السلاح أو دعم المتطوعين للجهاد، وأما المؤلفة قلوبهم حتى عند القائلين ببقاء سهمهم فقد أصبح وجودهم وتشجيعهم وترغيبهم في الإسلام نادرا، ومحدودا جدا لأن نشاط الدول طغى على نشاط الأفراد، ولم تعد الدول المعاصرة تفكر غالبا في أمر انتشار الإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى.
وفي الآية أحكام سبعة هي:
١- قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ يدل على أن مصارف الصدقات لثمانية أصناف، والمراد من لفظ الصدقات هنا هو الزكوات الواجبة، بدليل إثباته تعالى هذه الصدقات بلام التمليك للأصناف الثمانية، والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة الواجبة، ولأن الحصر المستفاد من إنما في هؤلاء الثمانية يصحّ لو حملنا هذه الصدقات على الزكوات الواجبة، أما لو أدخلنا فيها المندوبات فلم يصح هذا الحصر لأن الصدقات المندوبة يجوز صرفها إلى بناء المساجد والرباطات في
276
الثغور، والمدارس، وتكفين الموتى وتجهيزهم وسائر الوجوه. ثم إن قوله: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ منصرف إلى الصدقات التي سبق بيانها وهي الصدقات الواجبة.
٢- دلت الآية على أن هذه الزكاة يتولى أخذها وتفرقتها الإمام أو من يليه من قبله، بدليل تعيين نصيب أو سهم للعاملين فيها، فيدل على أنه لا بد في أداء هذه الزكوات من عامل، والعامل: هو الذي يعينه الإمام لأخذ الزكوات، فدلّ هذا النص على أن الإمام هو الذي يأخذ هذه الزكوات. وتأكد هذا النص بقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة ٩/ ١٠٣]. أما إخراج المالك زكاة أمواله الباطنة بنفسه فيستفاد من قوله تعالى: فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج ٧٠/ ٢٤- ٢٥] وحق السائل والمحروم يجوز دفعه إليه من غير واسطة الإمام.
٣- للعامل في مال الزكاة حق، وإن كان غنيا في رأي الأكثرين.
٤- ظاهر الآية يدل على وجوب تعميم الزكاة للأصناف الثمانية، وقد ذكرت آراء العلماء وأدلتهم في جواز الصرف إلى ثلاثة منهم أو إلى واحد.
٥- العامل والمؤلفة والرقاب مفقودون في هذا الزمان. وأما مصرف فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي للمجاهدين فلم يعودوا بحاجة للزكاة، لأخذهم مرتبات شهرية دائمة، وإنما يعطى المتطوعون أو من أجل شراء السلاح عند الضرورة أو الحاجة الملحة.
٦- قوله: لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ يشمل بعمومه الكافر والمسلم، لكنه خصص بالسنة النبوية التي دلت على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى الفقراء والمساكين إلا إذا كانوا مسلمين.
٧- المقصود من قوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ الزجر عن مخالفة هذا الظاهر، وتحريم إخراج الزكاة عن هذه الأصناف،
قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه
277
أبو داود عن زياد بن الحارث الصدائي، وهو ضعيف: «إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء».
حكمة الزكاة:
أبان الرازي في تفسيره «١» الحكمة في إيجاب الزكاة، وذكر اثني عشر وجها من المصالح عائدة إلى معطي الزكاة، وثمانية وجوه من المصالح عائدة إلى آخذ الزكاة، أشير إليها بإيجاز وتصرف.
أما فوائد الزكاة للمزكي فهي ما يلي:
١- الزكاة علاج صالح متعين لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب، وكسر شدة الميل إلى المال، والمنع من انصراف النفس بالكلية إليه، وهو المراد من قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التوبة ٩/ ١٠٣] أي تطهرهم وتزكيهم عن الاستغراق في طلب الدنيا.
٢- الحد من ملذات الدنيا، والتوجه إلى عالم عبودية الله وطلب رضوانه، بالإنفاق في طلب مرضاة الله.
٣- الوقوف أمام طغيان المال وقسوة القلب، كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق ٩٦/ ٦- ٧] فإيجاب الزكاة يقلل الطغيان ويرد القلب إلى طلب رضوان الرحمن.
٤- تربية النفس عن طريق الشعور بآلام الآخرين، والإحسان إلى الناس، والسعي في إيصال الخيرات إليهم، ودفع الآفات عنهم، وهذا من صفات الله،
والنبي صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «تخلقوا بأخلاق الله».
٥- توفير محبة الفقراء للأغنياء لأن الإنفاق عليهم يستدعي حبهم، على
(١) انظر ١٦/ ١٠٠- ١٠٤
278
ما قال صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه ابن عدي وأبو نعيم البيهقي عن ابن مسعود وصححه: «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها»
وإذا أحبوه دعوا له بالخير، فيصير الدعاء سببا لبقاء الإنسان في النعمة، كما قال تعالى:
وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد ١٣/ ١٧]
وقال عليه الصلاة والسّلام فيما رواه الطبراني وأبو نعيم والخطابي عن ابن مسعود، وهو ضعيف:
«حصّنوا أموالكم بالزكاة».
٦- الزكاة تنقل الإنسان من درجة الاستغناء بالشيء إلى مقام أعلى وهو الاستغناء عن الشيء، والأول صفة الخلق، والثاني صفة الحق.
٧- الإنفاق من المال في وجوه البر والخير والمصالح العامة يوجب المدح الدائم في الدنيا، والثواب الدائم في الآخرة، فيكون ذلك سببا لنقل المال إلى القبر وإلى القيامة، بعد أن كان معرضا للزوال لأن المال غاد ورائح.
٨- إن بذل المال تشبّه بالملائكة والأنبياء، وإمساكه تشبه بالبخلاء المذمومين، فكان البذل أولى.
٩- إن إفاضة الخير والرحمة من صفات الحق تعالى، والإنفاق يؤدي إلى التخلق بأخلاق الله.
١٠- الإنفاق من المال يحقق السعادة الاجتماعية، كما أن الإيمان يحقق السعادة الروحانية، والصلاة تحقق السعادة البدنية.
١١- الزكاة: شكر النعمة، وشكر المنعم واجب، وشكر النعمة: صرفها إلى طلب مرضاة المنعم.
١٢- إن إيجاب الزكاة يوجب حصول الألفة بالمودة بين المسلمين، وزوال الحقد والحسد عنهم.
وأما فوائد الزكاة للآخذ، فهي ما يأتي:
279
١- دفع الحاجة وسد الخلّة، وذلك مقصد راجح على مراعاة جانب المالك الذي اكتسب المال وتعلق قلبه به، لكنه فضل عنده فائض زائد على قدر حاجته، فأبقينا له الكثير، وأخذنا منه اليسير.
٢- عدم تعطيل المال الفاضل عن الحاجات الأصلية، وقد خلق الله تعالى المال وسيلة لتوفير الحوائج، لا للاكتناز والادخار والإمساك.
٣- المال مال الله، والأغنياء خزّان الله، والفقراء عيال الله، ولا بد من تضامن الفريقين وتعاطفهم وتعاونهم، وتنفيذ أمر الله المالك الحقيقي للكون بالإنفاق على المحتاجين من عباده، والإنفاق على عيال الله تعالى.
٤- الحكمة والرحمة تقتضيان صرف الغني بعض ماله غير المحتاج إليه إلى الفقير العاجز عن الكسب بالكلية الذي هو أحوج إليه، وهذا يحقق معنى التكافل الاجتماعي في الإسلام.
٥- الزكاة جبران للنقص الحادث عند الفقير، ويستطيع المالك جبر النقصان الذي حدث بسبب الزكاة، عن طريق الاتجار فيه.
٦- الحد من ارتكاب الجرائم واللحاق بالأعداء، فلو لم ينفق الأغنياء على مهمات الفقراء، لأقدم هؤلاء على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها، أو على الالتحاق بأعداء المسلمين.
٧- أداء الزكاة يساعد جميع المكلفين على الاتصاف بصفة الصبر والشكر معا،
وقد قال عليه الصلاة والسّلام فيما رواه البيهقي عن أنس، وهو ضعيف: «الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر»
فإذا أدى الغني الزكاة شكر النعمة، وصبر على نقصان جزء من المال، وإذا أعطي الفقير الزكاة، صار شاكرا بعد أن كان صابرا.
٨- أخذ الزكاة فيه مساعدة الفقير الغني بتخليصه في الدنيا من الذم والعار، وفي الآخرة من عذاب النار، فيكون الفقير كالمنعم على الغنى بتخليصه من النار.
280
إيذاء المنافقين النبي صلّى الله عليه وآله وسلم وتصحيح مفاهيمهم
[سورة التوبة (٩) : آية ٦١]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦١)
الإعراب:
أُذُنُ خَيْرٍ خبر مبتدأ مقدر، أي هو أذن خير، أي هو مستمع خير وصلاح، لا مستمع شر وفساد، والمراد بالأذن: صاحب الأذن. وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ اللام زائدة للفرق بين إيمان التسليم وغيره.
وَرَحْمَةٌ مرفوعا معطوف على أُذُنٌ وقرئت بالجر عطفا على خَيْرٍ أي وهو أذن رحمة، فكما أضاف أذنا إلى الخير أضافه إلى الرحمة لأن الرحمة من الخير، والخير من الرحمة. وعدى فعل الإيمان بالباء لأنه قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر به، وعدّى المؤمنين باللام لأنه قصد السماع من المؤمنين، وأن يسلم لهم ما يقولونه ويصدقهم لكونهم صادقين عنده.
البلاغة:
هُوَ أُذُنٌ تشبيه بليغ، حذف منه أداة التشبيه أي هو كالأذن يسمع كل ما يقال له، كأن جملته أذن سامعة، مثل قولهم للربيئة: عين.
يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ أظهر كلمة رسول مقام الإضمار، تعظيما لشأنه عليه الصلاة والسّلام، وجمعا بين رتبتي النبوة والرسالة. وأضافها إلى الله زيادة في التكريم.
المفردات اللغوية:
وَمِنْهُمُ من المنافقين. يُؤْذُونَ الإيذاء: ما يؤلم الإنسان في نفسه أو بدنه أو ماله، قليلا كان أو كثيرا، والمراد هنا: عيبه ونقل حديثه. هُوَ أُذُنٌ أي يسمع من كل واحد ما يقول، ويصدق كل ما يسمع، ويقبل قول كل أحد، وهذا من باب تسمية الإنسان باسم جزء منه
281
وهو آلة السماع للمبالغة في وصفه، وكأن جملته أذن سامعة، كما يقال للجاسوس: عين. وإيذاؤهم له: هو قولهم فيه: هو أذن. وأُذُنُ خَيْرٍ مثل قولك: رجل صدق وشاهد عدل، تريد الجودة والصلاح، كأنه قيل: نعم هو أذن، ولكن نعم الأذن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أي يصدق بالله، لما قام عنده من الأدلة وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يقبل من المؤمنين الخلّص من المهاجرين والأنصار لا من غيرهم، ويصدقهم بسبب إيمانهم وَرَحْمَةٌ أي وهو رحمة لمن آمن منكم، أي أظهر الإيمان أيها المنافقون حيث يسمع منكم، ويقبل إيمانكم الظاهر، ولا يفضح أسراركم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، فهو أذن كما قلتم، إلا أنه أذن خير لكم، لا أذن سوء، ومستمع خير لا مستمع شر.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان نبتل بن الحارث «١» يأتي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فيجلس إليه، فيسمع منه، وينقل حديثه إلى المنافقين، فأنزل الله: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ الآية.
وذكر القرطبي: أن الآية نزلت في عتّاب بن قشير قال: إنما محمد أذن، يقبل كل ما قيل له.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: إن جماعة من المنافقين ذكروا النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بما لا ينبغي من القول، فقال بعضهم: لا تفعلوا، فإنا نخاف أن يبلغه ما نقول، فقال الجلاس بن سويد بن الصامت: بل نقول ما شئنا، ثم نذهب إليه، ونحلف أنا ما قلنا، فيقبل قولنا، إنما محمد أذن سامعة، فنزلت هذه الآية.
والغرض من كلامهم أنه ليس له ذكاء ولا تعمق في الأمور، بل هو سليم القلب، سريع الاغترار بكل ما يسمع، فلهذا سموه بأنه أذن، كما أن الجاسوس يسمى بالعين.
(١) كان نبتل رجلا جسيما ثائر شعر الرأس واللحية، آدم أحمر العينين، أسفع الخدين، مشوّه الخلقة، وهو الذي
قال فيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث»
والسّفعة: سواد مشرب بحمرة.
282
المناسبة:
هذا نوع آخر من جهالات المنافقين، وهو أنهم كانوا يقولون في رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: إنه أذن على وجه الطعن والذم، وإنه يصدق كل من حلف له. وقد ذكر تعالى في الآيات السابقة أنهم طعنوا في أفعاله صلّى الله عليه وآله وسلم ولمزوه في قسمة الصدقات.
التفسير والبيان:
ومن المنافقين قوم يؤذون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بالكلام فيه، ويعيبونه، فيقولون: هو أذن سامعة، يسمع كل ما يقال له، ويصدقه، فمن قال له شيئا صدقه، ومن حدثه صدقه، فإذا جئناه وحلفنا له صدقنا. يقصدون بقولهم أنه سليم القلب، سريع الاغترار بكل ما يسمع، دون أن يتدبر فيه ويميز بين الأمور، وذلك لأنه عليه الصلاة والسّلام كان يعاملهم بالظاهر، ولا يكشف أسرارهم.
فرد الله عليهم بأنه أذن خير لا أذن شر، أي مستمع خير، لا مستمع شر أي هو مستمع ما يحب استماعه، كما يقال: فلان رجل صدق وشاهد عدل، فهو يعرف الصادق من الكاذب، لكنه يعامل المنافقين بأحكام الشريعة وآدابها، فلا يفتضح أحدا منهم، وهو صاحب الخلق الكامل والإنسان المثالي.
وهو يصدق بالله لما قام عنده من الدلائل، وبما أوحي إليه مما فيه خيركم وخير غيركم، ويصدق المؤمنين الخلص من المهاجرين والأنصار، لا غيرهم، وهو رحمة لمن آمن منكم أي أظهر الإيمان أيها المنافقون، ويقبل إيمانكم الظاهر، ولا يكشف أسراركم ولا يفضحكم، ولا يفعل بكم ما يفعل بالمشركين، مراعاة لما رأى الله من المصلحة في الإبقاء عليكم، فهو أذن خير ورحمة، لا يسمع غيرهما ولا يقبله، ويصدق ما أخبره به المؤمنون، ولا يصدق خبر المنافقين، وهو رحمة للناس بهدايتهم إلى ما فيه سعادة الدنيا والآخرة.
283
والذين يؤذون الرسول بالقول أو بالفعل كوصفه بالسحر أو الكذب، وعدم الفطنة، والطعن في عدالته، فلهم عذاب شديد مؤلم في الآخرة بسبب إيذائه.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم صاحب الخلق الكامل، والفهم الشامل العميق، والذكاء الخارق، فسكوته عن المنافقين ليس عن غباء واغترار، وإنما لحكمة هي أن يترك الفرصة للمنافقين بالعدول التلقائي عن قبائحهم، وكيلا يعطي الفرصة للمشركين باستغلال حال المنافقين، والقول بأن هذا النبي يقتل من آمن به.
ودلت الآية أيضا على أن هذا النبي أذن خير لا أذن شر، يستمع ما فيه الصلاح والخير، ويعرض ترفعا وإباء عن سماع الشر والفساد، وهو أيضا رحمة للمؤمنين، لأنه هداهم إلى سعادة الدنيا والآخرة.
وأرشدت الآية إلى أن النبي لا يؤمن بأخبار المنافقين إيمان تسليم، ولا يصدقهم فيما يقولون، وإن أكدوا القول بالأيمان، لأن أدبه صلّى الله عليه وآله وسلم يمنعه من مواجهة الناس بما يكرهون، فهو يجري أمر المنافقين على الظاهر، ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنهم.
وقد وصفه الله بأوصاف ثلاثة هي أنه يؤمن بالله، ويؤمن للمؤمنين أي يسلم لهم قولهم، ورحمة لمن آمن، وهذه الأوصاف توجب كونه أذن خير.
ويستنبط من الآية أيضا أن إيذاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم فيما يتعلق برسالته كفر، يترتب عليه العقاب الشديد. أما الإيذاء الخفيف المتعلق بشخصه وشؤونه الشرية وعاداته الدنيوية، وكذا إيذاء أهل بيته، فحرام، لا كفر، مثل إيذائه في إطالة المكث عنده، كما قال تعالى: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ، فَيَسْتَحْيِي
284
مِنْكُمْ
[الأحزاب ٣٣/ ٥٣] ومثل رفع الصوت في ندائه وتسميته باسمه، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات ٤٩/ ٢].
بيان أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك الإقدام على اليمين الكاذبة، وتخوفهم من نزول القرآن فاضحا لهم، واستهزاؤهم بآيات الله
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٢ الى ٦٦]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)
الإعراب:
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أحق: خبر رَسُولُهُ وحذف خبر الأول لدلالة خبر الثاني عليه، في مذهب سيبويه، وتقديره: والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه. وفي مذهب المبرد:
لا حذف في الكلام، ولكن فيه تقديم وتأخير، وتقديره: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك.
وإنما وحّد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله، فكانا في حكم مرضيّ واحد.
285
فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ فيه أربعة أوجه: إما خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فالواجب أن له نار جهنم، أو بتقدير محذوف بين الفاء وأن، أي فله أن له نار، أو بدل من فَأَنَّ الأولى المنصوبة بيعلموا، أو مؤكّدة للأولى في موضع نصب، والفاء زائدة.
أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ... أن وصلتها في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: من أن تنزل، ويجوز أن تكون في موضع جر على إرادة حرف الجر لأن حرف الجر يكثر حذفه معها دون غيرها.
وَلَئِنْ اللام لام القسم.
البلاغة:
ذلِكَ الْخِزْيُ الإشارة بالبعيد عن القريب للإشعار ببعد درجته في الهول والشناعة.
المفردات اللغوية:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ الخطاب للمؤمنين، أي لترضوا عنهم وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أحق بالإرضاء بالطاعة والوفاق، وتوحيد الضمير لتلازم الإرضاءين إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ حقا أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ أي الشأن مَنْ يُحادِدِ يشاقق، والمحادّة مفاعلة من الحد، كالمشاقة من الشّق، والحد: طرف الشيء، والشق: الجانب، أي يصبح كلّ في ناحية وشق بالنسبة لخصمه وعدوه، وهما بمعنى المعاداة من العدوة: وهي جانب الوادي.
يَحْذَرُ يخاف في المستقبل أو يتحرّز أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ أي على المؤمنين سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق، وهم مع ذلك يستهزئون اسْتَهْزِؤُا أمر تهديد إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مظهر الشيء الخفي المستتر، ويشمل إظهار مكنون الصدور، وإخراج الحب من الأرض، والنفي من الوطن ما تَحْذَرُونَ إخراجه من نفاقكم.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عن استهزائهم بك والقرآن، وهم سائرون معك إلى تبوك لَيَقُولُنَّ معتذرين إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ في الحديث، لنقطع به الطريق، ولم نقصد ذلك. والخوض في الأصل: الدخول في الماء أو في الوحل، كثر استعماله في الباطل، لما فيه من التعرض للأخطار، والمراد: الإكثار من العمل الذي لا ينفع لا تعتذروا عنه، والاعتذار: الإدلاء بالعذر: أي لمحو أثر الذنب قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي ظهر كفركم بعد إظهار الإيمان إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ بإخلاصها وتوبتها كمخشّ بن حمير نُعَذِّبْ طائِفَةً الطائفة: الجماعة من الناس، والقطعة من الشيء بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ مصرّين على النفاق والاستهزاء.
286
سبب النزول:
نزول الآية (٦٢) :
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ:
روى ابن المنذر عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال في شأن المتخلّفين في غزوة تبوك الذين نزل فيهم ما نزل: والله، إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقا، لهم «١» شر من الحمير، فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله، إن ما يقول محمد لحق، ولأنت شر من الحمار، وسعى بها الرجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال:
ما الذي حملك على الذي قلت؟ فجعل يتلعن (يلعن نفسه) ويحلف بالله ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدّق الصادق، وكذّب الكاذب، فأنزل الله: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ الآية. وروي ذلك أيضا عن السدّي.
نزول الآية (٦٥) :
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك في مجلس يوما: ما رأينا مثل قرآن هؤلاء، ولا أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء! فقال له رجل: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ونزل القرآن.
وسمي الرجل في رواية أخرى: عبد الله بن أبي، والأصح أنه وديعة بن ثابت لأن عبد الله لم يشهد تبوك.
وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن كعب بن مالك: قال مخشّ بن حمير:
لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منكم مائة، على أن ننجو من أن ينزل فينا قرآن، فبلغ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فجاءوا يعتذرون، فأنزل الله: لا تَعْتَذِرُوا
(١) وفي عبارة السدّي: لنحن أشرّ من الحمر.
287
الآية، فكان الذي عفا الله عنه مخشّ بن حمير، فسمي عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمقتله، فقتل يوم اليمامة، لا يعلم مقتله إلا من قتله.
وقال السّدّيّ: قال بعض المنافقين: والله وددت لو أني قدّمت، فجلدت مائة، ولا ينزل فينا شيء يفضحنا فنزلت الآية.
وأخرج ابن جرير الطبري وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن قتادة أن ناسا من المنافقين قالوا: في غزوة تبوك: يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات له ذلك، فأطلع الله نبيه على ذلك، فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا، قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، فنزلت.
المناسبة:
هذا نوع آخر من قبائح المنافقين وهو إقدامهم على اليمين الكاذبة، ومشاقة (معاداة) الله ورسوله، وتحرزهم من نزول القرآن فاضحا لهم، واستهزاؤهم بآيات الله (القرآن) وهي آيات في الجملة لشرح أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك.
أخرج أبو الشيخ ابن حيان عن قتادة قال: كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين، وكان يقال لها المنبئة لأنها أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.
التفسير والبيان:
يخاطب الله المؤمنين مبينا لهم أن المنافقين يقدمون على حلف الأيمان الكاذبة لترضوا عنهم والله يعلم إنهم لكاذبون، وذلك يدل على أنهم شعروا بموقفهم الحرج، وظهور نفاقهم، وافتضاح أمرهم.
يحلفون لكم معتذرين عما صدر منهم من قول أو فعل ليرضوكم، والحال أن
288
الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين، وذلك يكون بالطاعة والوفاق والإيمان الصادق والعمل الصالح.
والتعبير بإفراد ضمير يُرْضُوهُ للإعلام بأن إرضاء الرسول إرضاء لله، كما قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء ٤/ ٨٠] لأن مصدر الرسالة واحد، والأوامر والنواهي واحدة.
هذا إذا كانوا مؤمنين حقا كما يدّعون ويحلفون، فمن كان مؤمنا فليرض الله ورسوله، وإلا كان كاذبا.
ثم وبخهم الله تعالى مبينا خطورة الأمر والشأن الذي أقدموا عليه وفي ذلك مزيد تعظيم وتهويل، فقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون ويتحققوا أن من يعاد الله ورسوله ويخالفه، بتجاوز حدوده، أو يلمز رسوله في أعماله كقسمة الصدقات، أو في أخلاقه كقولهم: هو أذن يسمع كل ما يقال له، وكان في حد، والله ورسوله في حد، فجزاؤه جهنم خالدا فيها أبدا، أي مهانا معذبا، وذلك العذاب هو الخزي العظيم أي هو الذل العظيم، والشقاء الكبير.
والحقيقة أن المنافقين يعرفون حقيقة أمرهم، فهم غير مؤمنين بالله والرسول، وهم شاكّون مرتابون في الوحي، قلقون مضطربون، والشك والقلق يدعوهم إلى الحذر والخوف، لذا وصفهم تعالى بقوله: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أي يخاف المنافقون ويتحرزون أن تنزل على المؤمنين سورة تكشف أحوالهم، وتفضح أسرارهم، وتبين نفاقهم، كهذه السورة التي سميت: الكاشفة والفاضحة والمنبئة، التي تنبئ المؤمنين بما في قلوب المنافقين، وتخبرهم بحقيقة وضعهم، فيفتضح أمرهم، وتنكشف أسرارهم.
وقوله: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ خبر وليس بأمر بدليل ما بعده: إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ لأنهم كفروا عنادا. وقوله: مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ أي أن
289
الله مظهر ما كنتم تحذرونه من إظهار نفاقكم.
وهم مع ذلك كانوا دائما يستهزئون بالقرآن وبالنبي والمؤمنين: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة ٢/ ١٤]، فهددهم الله وأوعدهم بقوله: قُلِ: اسْتَهْزِؤُا...
أي قل لهم يا محمد: استهزءوا بآيات الله كما تشاؤون، وهو أمر يقصد به التهديد والوعيد، إن الله مظهر ما تخافون حصوله، وسينزل على رسوله ما يفضحكم به، ويبين له أمركم، مثل قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ- إلى قوله- ولَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد ٤٧/ ٢٩- ٣٠].
ثم يقسم الله بأنه إن سألتهم أيها الرسول عن أقوالهم هذه وهزئهم، لاعتذروا عنها بأنهم لم يكونوا جادّين فيها، بل هازلين لاعبين خائضين في اللغو بقصد التسلي واللهو، فوبخهم الله وأنكر عليهم بقوله: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ أي إن هذا ليس مجال استهزاء، ألم تجدوا ما تستهزئون به غير ذلك؟ فإن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر محض، وشر مستطير. والمراد بالاستهزاء بالله: الاستهزاء بذكر الله وصفاته، وتكاليف الله تعالى. والمراد بآيات الله: القرآن وسائر أحكام الدين، والاستهزاء بالرسول معلوم كالطعن برسالته وتطلعاته وأخلاقه وأعماله.
فليس قولكم عذرا مقبولا، ولا تعتذروا أبدا بهذا أو بغيره، للتخلص من هذا الجرم العظيم، فإنكم قد كفرتم وظهر كفركم، كما أظهرتم إيمانكم، وتبين أمركم للناس قاطبة. وقوله: لا تَعْتَذِرُوا على جهة التوبيخ، كأنه يقول:
لا تفعلوا ما لا ينفع.
فإن نعف عن بعضكم لتوبتهم الخالصة كمخشّ بن حميّر، نعذّب طائفة أي جماعة أخرى لبقائهم على النفاق، وارتكابهم الآثام، وإجرامهم في حق أنفسهم وغيرهم، فتعذيبكم بسبب إجرامكم.
290
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- تعداد قبائح المنافقين وهي الإقدام على الأيمان الكاذبة، ومعاداة الله ورسوله، والاستهزاء بالقرآن والنبي والمؤمنين، والتخوف من نزول سورة في القرآن تفضح شأنهم، واعتذارهم بأنهم هازلون لاعبون، وهو إقرار بالذنب، بل هو عذر أقبح من الذنب.
٢- لا يقبل الهزل في الدين وأحكامه، ويعتبر الخوض في كتاب الله ورسله وصفاته كفرا، ولا خلاف بين الأمة في أن الهزل بالكفر كفر، لأن الهزل أخو الباطل والجهل، كما قال ابن العربي.
٣- دل قوله تعالى: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ على أربعة أحكام هي:
أولا- الاستهزاء بالدين كفر بالله تعالى، لمنافاته مقتضى الإيمان وهو تعظيم الله تعالى.
ثانيا- لا يقتصر الكفر على القلب، وإنما يشمل الأقوال والأفعال المكفرة.
ثالثا- قولهم الذي صدر منهم كفر حقيقي، وإن كانوا منافقين من قبل، وأن الكفر يتجدد.
رابعا- حدث الكفر بعد أن كانوا مؤمنين في الظاهر.
والخلاصة: إنه تعالى حكم عليهم بالكفر وعدم قبول الاعتذار من الذنب، ما لم يتوبوا من النفاق.
٤- التوبة عن النفاق أو الكفر مقبولة، فمن تاب عفي عنه، ومن أصر على الكفر أو النفاق عوقب في جهنم.
291
هذا في أساسيات العقيدة، أما حكم الهزل في العقود كالبيع والزواج، والفسوخ كالطلاق، فمختلف فيه بين العلماء على ثلاثة أقوال:
لا يلزم مطلقا، يلزم مطلقا، التفرقة بين البيع وغيره، فيلزم في الزواج والطلاق، ولا يلزم في البيع. والقول الثالث هو المشهور في المذاهب، لما
روى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «ثلاث جدّهن جدّ، وهزلهن جدّ: النكاح، والطلاق، والرجعة»
وفي موطأ مالك عن سعيد بن المسيّب قال: ثلاث ليس فيهن لعب: النكاح، والطلاق، والعتق. وذكر ابن المسيب عن عمر قال: أربع جائزات على كل أحد: العتق، والطلاق، والنكاح، والنذور.
٥- تضمنت آية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ قبول يمين الحالف، وإن لم يلزم المحلوف له الرضا. واليمين حق للمدّعي. وتضمنت أن يكون اليمين بالله عز وجل.
وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر: «من حلف فليحلف بالله أو ليصمت، ومن حلف له فليصدّق».
أوصاف المنافقين وجزاؤهم الأخروي
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٧ الى ٧٠]
الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٦٧) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٦٨) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٩) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠)
292
الإعراب:
خالِدِينَ فِيها حال، والعامل فيه محذوف أي يصلونها خالدين هِيَ حَسْبُهُمْ مبتدأ وخبر.
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الكاف في موضع نصب، لأنها صفة مصدر محذوف، وتقديره: وعدا كما وعد الذين من قبلكم، بدليل قوله: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ.
كَمَا اسْتَمْتَعَ... الكاف في موضع نصب أيضا صفة لمصدر محذوف، وتقديره: استمتاعا كاستمتاع الذين من قبلكم. وكذلك كاف كَالَّذِي خاضُوا في موضع نصب أيضا صفة محذوف دل عليه الفعل، وتقديره: وخضتم خوضا كالخوض الذي خاضوا.
البلاغة:
وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ قبض اليد: كناية عن الشح والبخل، كما أن بسط اليد كناية عن الجود.
نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ من باب المشاكلة، لأن الله لا ينسى، أي تركوا طاعته، فتركهم تعالى من رحمته.
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وخُضْتُمْ: فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لزيادة التقريع والذم.
فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ... فيه إطناب، قصد منه الذم والتوبيخ، لاشتغالهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة وطلب الفلاح في الآخرة.
293
المفردات اللغوية:
بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي متشابهون في صفة النفاق والبعد عن الإيمان كأبعاض الشيء الواحد كما يقال: أنت مني وأنا منك، أي أمرنا واحد لا مباينة فيه. وقال الزمخشري: المراد به نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في حلفهم بالله: إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ، وتقرير لقوله: وَما هُمْ مِنْكُمْ [التوبة ٩/ ٥٦] وما بعده كالدليل عليه، فإنه يدل على مضادّة حالهم لحال المؤمنين، وهو قوله:
يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ أي بالكفر والمعاصي. والمنكر: إما شرعي: وهو ما يستقبحه الشرع ويمنعه، وإما عقلي: وهو ما تستنكره العقول السليمة والفطر النقية، لمنافاته الأخلاق والمصالح العامة. وضده المعروف. وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ أي الإيمان والطاعة، والمعروف: كل ما أمر به الشرع، أو استحسنه العقل والعرف الصحيح غير المصادم للشرائع والأخلاق.
وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن الإنفاق في الطاعة، ويراد به الكف عن البذل فيما يرضي الله، وضده: بسط اليد نَسُوا اللَّهَ تركوا طاعته وأوامره حتى صارت بمنزلة المنسيّ فَنَسِيَهُمْ فتركهم من فضله ولطفه ورحمته، وجازاهم على نسيانهم وإغفالهم ذكر الله الْفاسِقُونَ الخارجون عن الطاعة، المنسلخون عن أصول الإيمان، الكاملون في التمرد والتنكر للخير.
وَعَدَ اللَّهُ الوعد: يستعمل في منح الخير والشر، والوعيد خاص بالشر خالِدِينَ فِيها مقدّرين الخلود هِيَ حَسْبُهُمْ كفايتهم عقابا وجزاء، وفيه دلالة على عظم عذابها وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم من رحمته وأهانهم مع التعذيب، وجعلهم مذمومين ملحقين بالشياطين الملاعين، كما عظم أهل الجنة وألحقهم بالملائكة المكرّمين. واللعن: الطرد أو الإبعاد من الرحمة والإهانة والإذلال وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم ثابت لا ينقطع، والمراد أن لهم نوعا من العذاب غير الصلي بالنار، أو لهم عذاب ملازم لهم في الدنيا وهو ما يقاسونه من تعب النفاق.
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أنتم أيها المنافقون مثل الذين من قبلكم من الكفار، أو فعلتم مثل ما فعل الذين من قبلكم، وهو أنكم استمتعتم وخضتم كما استمتعوا وخاضوا فَاسْتَمْتَعُوا تمتعوا بِخَلاقِهِمْ نصيبهم من ملاذ الدنيا فَاسْتَمْتَعْتُمْ أيها المنافقون وَخُضْتُمْ دخلتم في الباطل والطعن بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم كَالَّذِي خاضُوا أي كخوضهم. وفائدة ذكر فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ وقوله:
كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ: أن يذم الأولين بالاستمتاع بحظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة والسعي في تحصيل الفلاح في الآخرة، تمهيدا لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم.
حَبِطَتْ بطلت وفسدت أعمالهم وذهبت فائدتها في الدنيا والآخرة، ولم يستحقوا عليها ثوابا في الدارين وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا الدنيا والآخرة.
294
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ أغرقوا بالطوفان وَعادٍ قوم هود أهلكوا بالريح وَثَمُودَ قوم صالح أهلكوا بالرجفة وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ أهلك نمرود ببعوض، وأهلك أصحابه وَأَصْحابِ مَدْيَنَ هم قوم شعيب أهلكوا بالنار يوم الظلة وَالْمُؤْتَفِكاتِ قرى قوم لوط، أي أهلها، ائتفكت بهم، أي انقلبت، فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارة من سجّيل أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أتتهم يعني الكل بالمعجزات، فكذبوهم فأهلكوا فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي لم يكن من عادته أن يعذبهم من غير ذنب وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بارتكاب الذنب وتعريضها للعقاب بالكفر والتكذيب.
المناسبة:
تستمر الآيات في بيان فضائح المنافقين وقبائحهم، وهذا نوع آخر قصد به بيان الفرق بينهم وبين المؤمنين، وتشبيههم بمن قبلهم من المنافقين والكفار، وتمثيل حالهم بحال من سبقهم، وعقد قياس أو موازنة بينهم وبين أناس غابرين، لهم شبه بهم، كما قصد به بيان أن إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة، والأفعال الخبيثة.
التفسير والبيان:
تبيّن هذه الآيات وما بعدها الفروق الواضحة بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كان المنافقون عكسهم.
المنافقون والمنافقات أي الرّجال والنّساء يشبه بعضهم بعضا في صفة النفاق والبعد عن الإيمان وفي الأخلاق والأعمال، فهم يأمرون بالمنكر: وهو ما أنكره الشّرع ونهى عنه، ولم يقرّه الطّبع السليم والعقل الصحيح، كالكذب والخيانة وخلف الوعد ونقض العهد، كما جاء في الحديث الصّحيح الذي أخرجه الشّيخان والتّرمذي والنّسائي عن أبي هريرة: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان». وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ:
295
وهو ما أمر به الشرع وأقرّه العقل والطّبع كالجهاد وبذل المال في سبيل الله، كما قال تعالى عنهم: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون ٦٣/ ٧].
ونسوا ذكر الله، وأغفلوا تكاليف الشرع مما أمر به الله ونهى عنه، فنسيهم أي جازاهم بمثل فعلهم، وعاملهم معاملة من نسيهم، بحرمانهم من لطفه ورحمته، وفضله وتوفيقه في الدّنيا، ومن الثواب في الآخرة، كقوله تعالى: الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الجاثية ٤٥/ ٣٤]، وذلك لتركهم التّمسك بطاعة الله.
إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ، أي الخارجون عن طريق الحقّ والاستقامة، الدّاخلون في طريق الضّلالة، المتمرّدون في الكفر، المنسلخون عن كلّ خير.
ثم بيّن الله تعالى جزاءهم فقال: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ.
أي أنه تعالى أكّد وعيده السابق بمجازاتهم وضمّهم إلى الكفار، فأوعدهم جميعا نار جهنم يدخلونها، ماكثين فيها أبدا، مخلدين هم والكفار فيها، هي كفايتهم في العذاب ووفاء الجزاء أعمالهم، ولعنهم أي طردهم وأبعدهم من رحمته، ولهم عذاب دائم مستمر غير عذاب جهنم والخلود فيها، أو لهم عذاب ملازم في الدّنيا وهو ما يقاسونه من مرض النفاق، والخوف من اطّلاع الرّسول والمسلمين على بواطنهم، وحذرهم من أنواع الفضائح.
وفي ذكر النساء مع الرّجال دليل على عموم الوصف وتأصّل الدّاء، وأما تأخير ذكر الكفار عن المنافقين فهو دليل على أنهم شرّ من الكفار، وأن النّفاق أخطر من الكفر الصريح.
ثم بيّن الله تعالى أن ما أصاب هؤلاء المنافقين من العذاب في الدّنيا والآخرة،
296
له شبه بعذاب أولئك المنافقين والكفار السابقين مع أنبيائهم، فأنتم مثلهم مغرورون بالدّنيا ومتاعها الفاني، لكنهم كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً، وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، فتمتعتم وخضتم كما تمتعوا وخاضوا، وانصرفتم مثلهم إلى الاستمتاع بنصيبكم من المال والولد، وبلذائذ الدّنيا وحظوظها الزائلة، وشغلتم عن التّمتع بكلام الله وهدي رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم تنظروا في عواقب الأمور، ولم تعملوا على طلب الفلاح في الآخرة، وتوافرت دواعي الخير عندكم، كما توافرت دواعي الشّرّ عندهم، فكنتم أسوأ حالا منهم، وأحقّ بالعقاب منهم. فقوله: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ أي بنصيبهم من ملاذ الدّنيا، أو بنصيبهم من الدّين، كما فعل الذين من قبلهم.
وخضتم كالذي خاضوا، أي دخلتم في الباطل كما دخلوا، أو خضتم خوضا كالذي خاضوا.
وفائدة ذكر الاستمتاع بالخلاق (النصيب) في حقّ المتقدمين أولا، ثم ذكره في حق المنافقين ثانيا، ثم العود إلى ذكره مرة أخرى في حق المتقدمين ثالثا: هو ذمّ الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدّنيا، وحرمانهم عن سعادة الآخرة، بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة، ثم شبّه منافقي العهد الإسلامي بأولئك، نهاية في المبالغة، وزيادة في قبح وجه الشّبه، كمن أراد أن ينبّه بعض الظّلمة على قبح ظلمه، فيقول له: أنت مثل فرعون، كان يقتل بغير جرم، ويعذّب من غير موجب، وأنت تفعل مثل فعله. وبالجملة فالتّكرار هاهنا للتّأكيد.
وبعد أن بيّن الله تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك الكفار المتقدّمين في طلب الدّنيا، وفي الإعراض عن طلب الآخرة، بيّن شبها آخر بين الفريقين: وهو تكذيب الأنبياء، والاتّصاف بالمكر والخديعة والغدر بهم، فقال: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أي كخوضهم الذي خاضوا، وقد خاضوا في الكذب والباطل.
297
ثم بيّن الله تعالى مصير أعمال جميع المنافقين والكفار المتقدّمين واللاحقين، فقال: أُولئِكَ حَبِطَتْ... أي إن أولئك المنافقين والكفار بطلت مساعيهم وحسناتهم وفسدت أعمالهم في الدّنيا، لأنها أعمال رياء وسمعة، وفي الآخرة، فلم يكن لهم أجر أو ثواب، لأنهم لم يقصدوا وجه الله، ولأن شرط الثواب عليها الإيمان، وهم لم يؤمنوا حقّا، بل أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، فكانوا منافقين.
وأولئك هم الخاسرون الذين خسروا في مظنة الرّبح والمنفعة، لأنهم لم يحصلوا على الثّواب، وأتعبوا أنفسهم في الرّدّ على الأنبياء والرّسل، فما وجدوا إلّا فوات الخيرات في الدّنيا والآخرة، وإلّا حصول العقاب في الدّنيا والآخرة.
وذلك مثل قوله تعالى: قُلْ: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف ١٨/ ١٠٣- ١٠٤]، وقوله تعالى: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ... نقيض فعل الصّالحين المشار إليه في قوله تعالى: وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ [العنكبوت ٢٩/ ٢٧].
والمقصود: أنه تعالى بعد أن شبّه حال هؤلاء المنافقين بأولئك الكفار، بيّن أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال، وإلّا الخزي والخسار، مع أنهم كانوا أقوى من هؤلاء المنافقين وأكثر أموالا وأولادا منهم، مما جعل هؤلاء المنافقين أولى بالوقوع في عذاب الدّنيا والآخرة، والحرمان من خيرات الدّنيا والآخرة «١».
ثم وعظ الله تعالى هؤلاء المنافقين المكذّبين للرّسل وأنذرهم بقوله: أَلَمْ يَأْتِهِمْ... أي ألم تخبروا خبر من كان قبلكم من الأمم المكذّبة للرّسل، وذكر طوائف ستّة، وهم قوم نوح الذين أغرقوا بالطّوفان الذي عمّ جميع أهل الأرض القديمة إلا من آمن بنوح عليه السّلام، وعاد قوم هود الذين أهلكوا بالرّيح العقيم
(١) تفسير الرّازي: ١٦/ ١٢٩
298
لما كذّبوا هودا عليه السّلام، وثمود قوم صالح الذين أخذتهم الصّيحة لما كذّبوا صالحا عليه السّلام وعقروا النّاقة، وقوم إبراهيم الذين أهلكهم الله بسلب النعمة عنهم، وبتسليط البعوضة على ملكهم نمروذ بن كنعان بن كوش الكنعاني، ونصر الله إبراهيم عليه السّلام عليهم، وأيّده بالمعجزات الظاهرة وأنقذه من النار، وأصحاب مدين قوم شعيب عليه السّلام الذين أصابتهم الرّجفة وعذاب يوم الظّلّة، والمؤتفكات «١» قوم لوط الذين كانوا يسكنون في مدائن، فأهلكهم الله بالخسف، وجعل عالي أرضهم سافلها، وأمطر عليهم الحجارة، قال تعالى في آية أخرى: وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى [النجم ٥٣/ ٥٣] أي الأمة المؤتفكة، وأمّ قراهم:
سدوم، أهلكهم الله عن آخرهم، بتكذيبهم نبي الله لوطا عليه السّلام، وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين.
ذكر الله تعالى هؤلاء الطوائف السّتّة، لأنه أتاهم نبأ هؤلاء تارة، بأن سمعوا أخبارهم في التاريخ المنقول من الناس، وتارة لأجل أن بلاد هؤلاء، وهي بلاد الشام، قريبة من بلاد العرب، وقد بقيت آثارهم مشاهدة.
وقوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ استفهام للتقرير والتوبيخ، أي أتاهم نبأ هؤلاء الأقوام، فلم يعتبروا.
هؤلاء أتتهم رسلهم بالبينات، أي بالمعجزات والحجج والدلائل القاطعات، وهنا لا بدّ من إضمار محذوف في الكلام، تقديره: فكذّبوا، فعجّل الله هلاكهم.
فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بإهلاكه إياهم، لأنه أقام عليهم الحجّة بإرسال الرّسل، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بسبب أفعالهم القبيحة، وتكذيبهم
(١) قال الواحدي: المؤتفكات: جمع مؤتفكة، ومعنى الائتفاك في اللغة: الانقلاب، وتلك القرى ائتفكت بأهلها، أي انقلبت فصار أعلاها أسفلها، فالمؤتفكات صفة القرى.
299
الرّسل، ومخالفتهم الحقّ، فالظّلم كان من أنفسهم لا من الله تعالى، فاستحقّوا ذلك العذاب.
والهدف من التذكير بهؤلاء الأقوام أن يعرف المنافقون والكفار أنّ سنّة الله في عباده واحدة لا تتغير ولا تتبدل، فإذا ما أصرّوا على كفرهم، فإن العذاب سينزل بهم، لأن ما جرى على النّظير يجري على نظيره، قال تعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ، أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [القمر ٥٤/ ٤٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- النّفاق: مرض عضال متأصّل في البشر، وأصحاب ذلك المرض متشابهون في كل عصر وزمان في الأمر بالمنكر والنّهي عن المعروف، وقبض أيديهم وإمساكهم عن الإنفاق في سبيل الله للجهاد، وفيما يجب عليهم من حق.
٢- للمنافقين عذابان: عذاب في نار جهنم، ونوع آخر من العذاب المقيم الدائم، غير العذاب بالنار والخلود فيها.
٣- الجزاء من جنس العمل، فقوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ معناه أنهم تركوا أمره وطاعته حتى صار ذلك بمنزلة المنسي، فتركهم من رحمته، وسمّاه باسم الذّنب لمقابلته، لأنه جزاء وعقوبة على الفعل، وهو مجاز كقولهم: الجزاء بالجزاء، وقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى ٤٢/ ٤٠] ونحو ذلك.
٤- سبب العذاب للكفار والمنافقين واحد في كل العصور: وهو إيثار الدّنيا على الآخرة والاستمتاع بها، وتكذيب الأنبياء والمكر والخديعة والغدر بهم. وقد وعد الله الكفار نار جهنم وعدا كما وعد الذين من قبلهم، لفعلهم أفعال الذين من
300
قبلهم كالأمر بالمنكر والنّهي عن المعروف. جاء
في الصّحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم: «لتتّبعنّ سنن من قبلكم، شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنّصارى؟ قال: فمن؟».
وقال ابن عباس ونحوه عن ابن مسعود: ما أشبه الليلة بالبارحة، هؤلاء بنو إسرائيل، شبّهنا بهم.
٥- آية كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ دلّت على مشروعية القياس، وإلحاق النظائر والأشباه ببعضها، ويؤيّدها قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر ٥٩/ ٢].
٦- لا ثواب على أعمال الكفار في الآخرة: أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطلت حسناتهم وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ فلم يحصلوا على الثواب.
٧- إن إهلاك الأمم والأقوام الغابرة بسبب كفرهم وتكذيبهم الأنبياء فيه عظة وعبرة للمعتبر من العقلاء.
٨- لا عقوبة إلا بذنب: فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي ليهلكهم حتى يبعث إليهم الأنبياء، ويصدر منهم ما يستحقون به العذاب وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي ولكن ظلموا أنفسهم بعد قيام الحجة عليهم.
301
أوصاف المؤمنين وجزاؤهم الأخروي
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٧١) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢)
البلاغة:
في هذه الآيات مقابلة لطيفة بين صفات المؤمنين وصفات المنافقين، ومقابلة أيضا في الجزاء بين نار جهنم والجنة، فهي مقابلة في الصفات وفي الجزاء.
المفردات اللغوية:
أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي يتناصرون ويتعاضدون، من الولاية: وهي النصرة في الشدائد، والأخوة والمحبة، وهي ضد العداوة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شيء عن إنجاز وعده ووعيده، فيعز من أطاعه، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين حَكِيمٌ لا يضع شيئا إلا في محله جَنَّاتٍ هي البساتين، الكثيرة الأشجار، الملتفة الأغصان، التي تستر ما حولها من الأرض وَمَساكِنَ طَيِّبَةً أي حسنة البناء طيبة القرار جَنَّاتِ عَدْنٍ عدن: اسم مكان خاص في الجنة كالفردوس، بدليل قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ [مريم ١٩/ ٦١] ويدل عليه
ما روى أبو الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «عدن: دار الله التي لم ترها عين، ولم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيون، والصدّيقون، والشهداء، يقول الله تعالى: طوبى لمن دخلك».
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ أي وشيء من رضوان الله أكبر وأعظم من ذلك كله لأن رضاه هو
302
سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب ذلِكَ إشارة إلى ما وعد الله، أو إلى الرضوان هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وحده دون ما يعدّه الناس فوزا.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى صفات المنافقين الذميمة وما أعده لهم من العذاب، أعقبه بذكر صفات المؤمنين المحمودة وما أعده لهم من الثواب الدائم والنعيم المقيم.
وهكذا الشأن في الأسلوب القرآني يذكر المتقابلات والأضداد، للعبرة والعظة، وبيان الفروق، لاختيار الإنسان ما فيه المصلحة. وهنا يتجلى الفرق الواضح بين أفعال المنافقين الخبيثة وما يستحقونه من العذاب، وبين أفعال المؤمنين الحميدة وما يلاقونه من ثواب، ليعلم المنافقون أنهم غير مؤمنين في الحقيقة، وأن ما يظهرونه من إيمان نفاق وخداع، سرعان ما ينكشف، ولا يفيدهم مطلقا.
وأما السبب في ذكر لفظ مِنْ في المنافقين: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ وفي المؤمنين لفظ أَوْلِياءُ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ: فهو أن تجمع المنافقين على النفاق إنما هو بسبب التقليد والميل والعادة، وأما تجمع المؤمنين على الإيمان فهو بسبب المشاركة في القناعة والاستدلال والتوفيق والهداية.
التفسير والبيان:
إن أهل الإيمان من الذكور والإناث متناصرون متعاضدون، كما
جاء في الحديث الصحيح: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه
وفي الصحيح أيضا: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر».
303
وقد كان التعاون بين المسلمين والمسلمات قائما في الميادين والمواقف الحاسمة كلها كالهجرة والجهاد، مع اعتصام الرجال بالعفة وغض البصر، واعتصام النساء بالأدب الجم والحياء والتعفف وغض البصر والاحتشام في الحديث واللباس والعمل. فقد كان للمرأة دور بارز في إنجاح الهجرة كأسماء ذات النطاقين، وكانت النسوة في المعارك والحروب مع الأعداء يسقين الماء، ويجهزن الطعام، ويحرضن على القتال، ويرددن المنهزم من الرجال، ويواسين الجرحى، ويعالجن المرضى.
وقوله في أهل الإيمان: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في مقابلة قوله في المنافقين: بعضهم من بعض لأن المؤمنين إخوة تسودهم المحبة والمودة والتعاون والتعاطف، وأما المنافقون فلا رابطة قوية بينهم ولا عقيدة تجمعهم، وإنما هم أتباع بعضهم بعضا في الشكوك والجبن والبخل والانهزام والتردد لأن قلوبهم مختلفة.
وقد ذكر الله تعالى هنا للمؤمنين أوصافا خمسة غير الولاية مع بعضهم يتميز بها المؤمن عن المنافق، وهي في قوله: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
فالمؤمنون يأمرون بالمعروف، والمنافقون يأمرون بالمنكر كما في الآية المتقدمة.
والمؤمنون ينهون عن المنكر، والمنافقون ينهون عن المعروف كما تقدم.
والمؤمنون يقيمون الصلاة على أكمل وجه وفي خشوع لله، والمنافقون لا يقومون إلى الصلاة إلا وهم كسالى، يراءون الناس.
والمؤمنون يؤتون الزكاة المفروضة عليهم مع التطوع بالصدقات، والمنافقون يبخلون ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في سبيل الله، كما في الآية السابقة.
304
والمؤمنون يطيعون الله ورسوله، بفعل ما أمرا به، وترك ما نهيا عنه، والمنافقون فاسقون متمردون خارجون عن الطاعة.
وبسبب هذه الصفات التي يتصف بها أهل الإيمان استحقوا الرحمة:
أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ أي سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات، ويتعهدهم برحمته في الدنيا والآخرة، وذكر حرف السين في قوله سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ للتوكيد والمبالغة، ويقابل هذا نسيانه تعالى المنافقين من رحمته: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ فهو تعالى كما وعد المنافقين نار جهنم، فقد وعد المؤمنين الرحمة المستقبلة وهي ثواب الآخرة.
إن الله عزيز لا يمتنع عليه شيء من وعد ولا وعيد، حكيم لا يضع شيئا في غير موضعه، فلا حائل يحول بينه وبين عباده من رحمة أو عقوبة، وهو الحكيم المدبر أمر عباده على وفق العدل والحكمة والصواب، فيخص المؤمنين بالجنة والرضوان، ويخص المنافقين بالنار والعذاب والغضب.
ثم فصل الله تعالى ما وعد به المؤمنين من الرحمة، فأبان أن تلك الرحمة تشمل خيرات كثيرة ونعيما مقيما في جنات: بساتين مشجرة تغطي ما تحتها، تجري الأنهار من تحت أشجارها، فتزيدها جمالا، وهم خالدون ماكثون فيها أبدا، ولهم فيها مساكن طيبة أي حسنة البناء طيبة القرار، كما جاء في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: «جنتان: من ذهب آنيتهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنة عدن» ثم
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلا في السماء، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم، لا يرى بعضهم بعضا».
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه: «إن في الجنة مائة
305
درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله، فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن».
وجنات عدن: اسم مكان ومنزل من منازل الجنة كالفردوس، بدليل قوله تعالى: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ [مريم ١٩/ ٦١] وبدليل حديث أبي الدرداء المتقدم في شرح المفردات. وقيل: العدن: الإقامة والاستقرار، فجنات عدن: هي جنات الإقامة والخلود، كقوله تعالى: جَنَّةُ الْخُلْدِ [الفرقان ٢٥/ ١٥] وجَنَّةُ الْمَأْوى [النجم ٥٣/ ١٥] فالجنات كلها جنات عدن.
وللمؤمنين أيضا رضوان من الله أكبر وأعظم من الجنان، أي رضا الله عنهم أجل مما هم فيه من النعيم، وذلك دليل قاطع على أن السعادة الروحية أكمل وأشرف من السعادة الجسدية. ويؤيده
ما رواه الإمام مالك والشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبّيك ربنا وسعديك، والخير في يديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون:
يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا»
.
وقيل: إن الرضوان هو رؤية الله يوم القيامة، كما قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس ١٠/ ٢٦].
ولما ذكر تعالى هذه الأمور الثلاثة (الجنات، والمساكن الطيبة في جنات عدن، والرضوان الإلهي الأكبر) قال: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي ذلك
306
الوعد الصادر من الله، أو ذلك الرضوان أو هما معا أي النعيم الجسدي والروحي هو الفوز العظيم وحده، دون ما يعده الناس فوزا، وهو الذي يجزى به المؤمنون الخلّص، لا غيره من طيبات الدنيا الفانية التي يحرص عليها المنافقون والكفار ويطلبونها دائما.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآيات في صفات المؤمنين لتمييزهم عن المنافقين، وما وعدهم به ربهم في الآخرة، أما الصفات فهي ست، وأما الوعود فهي ثلاثة، والصفات الست هي ما يأتي:
١- إن أهل الإيمان رجالا ونساء أمة واحدة مترابطة متعاونة متناصرة، قلوبهم متحدة في التوادّ والتحابّ والتعاطف. أما المنافقون بعضهم من بعض لأن قلوبهم مختلفة، لا رابطة تربطهم غير الاتصاف بالنفاق وضم بعضهم إلى بعض في الحكم.
٢- يأمر أهل الإيمان بالمعروف أي بعبادة الله تعالى وتوحيده وما يتبع ذلك من أوامر الشرع ومحاسنه وآدابه. والمنافقون يأمرون بالمنكر.
٣- ينهي أهل الإيمان عن المنكر من عبادة الأوثان وما تبع ذلك مما منعه الشرع، والمنافقون ينهون عن المعروف.
٤- أهل الإيمان يقيمون الصلوات المفروضة الخمس، والمنافقون إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس.
٥- أهل الإيمان يؤدون الزكاة المفروضة عليهم، والمنافقون كانوا يزكون خوفا أو رياء، لا طاعة لله تعالى، ويقبضون أيديهم عن الإنفاق في سبيل الله.
307
٦- أهل الإيمان يطيعون الله في الفرائض ورسوله فيما سنّ لهم، والمنافقون متنكرون للطاعة.
وأما وعد الله تعالى للمؤمنين فيشمل ثلاثة أشياء مفسّرة للرحمة التي وعدهم بها في الآية المتقدمة:
١- الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، أي البساتين التي ينعم بها الناظر، وتجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار، وهي تجري منضبطة بالقدرة الإلهية في غير أخدود (شقّ).
٢- المساكن الطيبة في جنات عدن، أي القصور من الزبرجد (جوهر معروف هو الزمرّد الأخضر) والدّرّ والياقوت (ذي اللون الأحمر) يفوح طيبها من مسيرة خمس مائة عام، في جنات عدن (اسم موضع معين في الجنة، أو دار إقامة). قال مقاتل والكلبي: عدن: أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها محفوفة بها، وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها الأنبياء والصدّيقون والشهداء والصالحون ومن يشاء الله.
٣- رضوان من الله أكبر وأعظم وأجل من كل ما ذكر. وفي هذا دلالة واضحة على أن السعادة الروحانية أفضل من الجسمانية.
جهاد الكفار والمنافقين وأسبابه
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
308
الإعراب:
وَلَقَدْ قالُوا اللام لام القسم.
إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ... الاستثناء مفرّغ.
البلاغة:
وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ فيه تأكيد المدح بما يشبه الذّم، كما قال الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم... بهن فلول من قراع الكتائب
المفردات اللغوية:
جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسّلاح. والجهاد: استفراغ الجهد والوسع في مدافعة العدوّ.
وَالْمُنافِقِينَ باللسان والحجّة. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ بالانتهار والمقت، والغلظة: الخشونة والقسوة في المعاملة وهي ضدّ اللين. الْمَصِيرُ المرجع.
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي المنافقون. ما قالُوا وهو ما بلغك عنهم من السّبّ والطّعن.
وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام. وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا من الفتك بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة، عند عوده من تبوك، وهم بضعة عشر رجلا، فضرب عمار بن ياسر وجوه الرّواحل لما غشوه، فردّوا. وَما نَقَمُوا أنكروا وكرهوا وعابوا عليه. إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أي أثراهم بالغنائم بعد شدّة حاجتهم. فَإِنْ يَتُوبُوا عن النّفاق ويؤمنوا بك. وَإِنْ يَتَوَلَّوْا عن الإيمان. عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بالقتل. وَالْآخِرَةِ بالنّار.
وَلِيٍّ يحفظهم منه. وَلا نَصِيرٍ يمنعهم منه.
سبب النزول:
نزول الآية يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ:
قال الضّحّاك: خرج المنافقون مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، وكانوا إذا خلا بعضهم ببعض سبّوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، وطعنوا في الدّين، فنقل
309
ما قالوا حذيفة إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «يا أهل النّفاق، ما هذا الذي بلغني عنكم؟»، فحلفوا ما قالوا شيئا من ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية كذّابا لهم «١».
وقال قتادة فيما أخرجه عنه ابن جرير: ذكر لنا أن رجلين اقتتلا، أحدهما من جهينة، والآخر من غفار، فظهر الغفاري على الجهني، فنادى عبد الله بن أبيّ، يا بني الأوس انصروا أخاكم، فوالله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل:
سمّن كلبك يأكلك، فوالله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فسمع بها رجل من المسلمين، فجاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فأخبره، فأرسل إليه، فجعل يحلف بالله ما قال، وأنزل الله تعالى هذه الآية «٢».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الجلاس بن سويد أحد المتخلّفين عن غزوة تبوك قال: لئن كان هذا الرّجل صادقا (يعني محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم) على إخواننا الذين هم سادتنا وخيارنا، لنحن شرّ من الحمير (يقصد الآيات التي نزلت فيمن تخلّف من المنافقين) فرفع عمير بن سعيد ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فحلف بالله: ما قلت، فأنزل الله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا الآية. فزعموا أنه تاب وحسنت توبته.
ولعل أصحّ ما ذكر في سبب نزول هذه الآية:
ما رواه ابن جرير والطّبراني وأبو الشيخ ابن حيان وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم جالسا في ظلّ شجرة، فقال: إنه سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموا، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فقال له: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرّجل، فجاء
(١) أسباب النزول للواحدي: ص ١٤٤
(٢) أسباب النزول، المرجع السابق، تفسير الرازي: ١٦/ ١٣٦، تفسير ابن كثير: ٢/ ٣٧١
310
بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا، فتجاوز عنهم، فأنزل الله: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا الآية».
والخلاصة: إنه عليه الصّلاة والسّلام أقام في غزوة تبوك شهرين، ينزل عليه القرآن، ويعيب المتخلّفين، فنطق بعضهم بكلمة الكفر التي لم تذكر في القرآن، لئلا يتعبّد المسلمون بتلاوتها، فاختلف الرّواة فيها، كما ذكر، ولا مانع من تعدّد أسباب النّزول.
نزول: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا:
قال الضّحّاك: همّوا أن يدفعوا ليلة العقبة، وكانوا قوما قد أجمعوا على أن يقتلوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وهم معه يلتمسون غرّته حتى أخذ في عقبة، فتقدّم بعضهم وتأخّر بعضهم، وذلك كان ليلا، قالوا: إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي، وكان قائده في تلك الليلة عمار بن ياسر، وسائقه حذيفة، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل، فالتفت فإذا هو بقوم متلثّمين، فقال: إليكم يا أعداء الله فأمسكوا، ومضى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم حتى نزل منزله الذي أراد، فأنزل الله تعالى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا «١».
المناسبة:
بعد أن قارن الله تعالى صفات المؤمنين مع صفات المنافقين، وقابل بين جزاء كل من الفريقين، عاد مرة أخرى إلى تهديد الكفار والمنافقين وإنذارهم بالجهاد، وأبان أسبابه من إظهار الكفر، وحلف الأيمان الكاذبة، وقول كلمات فاسدة، ثم فتح لهم باب الأمل وهو التوبة، وهددهم بالعذاب الأليم إن أصروا على الكفر.
(١) أسباب النزول، المرجع السابق: ص ١٤٥، تفسير الرّازي، المرجع السابق.
311
التفسير والبيان:
الجهاد ثلاثة أنواع: جهاد العدو الظاهر، وجهاد الشيطان، وجهاد النفس والهوى. ويشملها كلها قوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ [الحج ٢٢/ ٧٨] وقوله: وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٤١].
وقال صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن أنس بن مالك: «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم»
والجهاد باللسان: إقامة الحجة والبرهان.
وروى ابن كثير عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بأربعة أسياف: سيف للمشركين: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة ٩/ ٥] وسيف للكفار: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ، مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ، وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة ٩/ ٢٩] وسيف للمنافقين: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة ٩/ ٧٣] وسيف للبغاة: فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات ٤٩/ ٩].
وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق، كما اختار ابن جرير الطبري. فإن لم يظهروا النفاق يعاملون باتفاق الأئمة معاملة المسلمين إلا إذا ارتدوا، أو بغوا على جماعة المسلمين بالقوة، أو امتنعوا من إقامة شعائر الإسلام وأركانه. قال ابن عباس رضي الله عنه: جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين باللسان، أي بالحجة والبرهان.
والكافر: هو كل من لم يؤمن بالإسلام، أو من لم ينطق بالشهادتين، والكفر: ستر نعمة الله تعالى وجحود الإسلام. والمنافق: هو الذي يستر كفره وينكره بلسانه.
312
ومعنى الآية: يا أيها النبي جاهد كلّا من الكفار والمنافقين، واغلظ عليهم أي عاملهم بالخشونة والشدة، ولا تحابهم ولا تلن لهم واعلم أن مقرهم جهنم لا مقر لهم سواه، وبئس المصير مصيرهم: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان ٢٥/ ٦٦]. أي أن لهم عذابين: عذاب الدنيا بالجهاد، وعذاب الآخرة في جهنم.
والجهاد: عبارة عن بذل الجهد، وليس في الآية ما يدل على أن ذلك الجهاد بالسيف أو باللسان، أو بطريق آخر، وإنما تدل على وجوب الجهاد مع الفريقين، فأما كيفية تلك المجاهدة فلفظ الآية لا يدل عليها، بل إنما يعرف من دليل آخر، وهذا هو الرأي الصحيح الذي اختاره الرازي.
وقد دلت الدلائل الأخرى من غير الآية على أن جهاد الكفار بالسيف، وجهاد المنافقين تارة بإقامة الحجة والبرهان، وبترك الرفق أحيانا، وبالانتهار أحيانا أخرى. قال ابن مسعود في قوله: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ: تارة باليد (أي بالسلاح الحربي) وتارة باللسان، فمن لم يستطع فليكشر في وجهه، فمن لم يستطع فبالقلب.
وقد أدت سياسة الإسلام الحكيمة بأمر الله وحكمة رسوله، ومعاملة المنافقين معاملة المسلمين في الظاهر، إلى توبة أكثرهم وإسلام الألوف منهم.
ثم ذكر الله تعالى أسباب جهاد الكفار والمنافقين، وهي إظهار الكفر بالقول، والهمّ بالفتك برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، والاستهزاء بآيات الله وبالنبي والمؤمنين، فقال: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ....
أي إن القرآن يثبت للمنافقين الكذب الصريح واليمين الفاجرة، فهم يحلفون بالله، إنهم ما قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم، ولم يذكر القرآن تلك الكلمة، ترفعا من ذكرها، ولئلا يردد المسلمون تلاوتها، ولكنهم قالوها، وهي كما ذكر
313
في سبب النزول: إنهم لما اجتمعوا إثر رجوع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم من تبوك، وكانوا خمسة عشر، بقصد الفتك به، ودفعه عن راحلته، فقد طعنوا في نبوته، ونسبوه إلى الكذب، والتصنع في ادعاء الرسالة، وذلك هو قول كلمة الكفر، كما اختار الزجاج والرازي.
وكفروا بعد إسلامهم: معناه أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام.
وهمّهم بما لم ينالوا: هو اغتيال الرسول في العقبة، بعد رجوعه من تبوك.
والصحيح أن عددهم كما جاء في رواية مسلم اثنا عشر منافقا.
وما أنكر هؤلاء المنافقون وما عابوا من أمر الإسلام أو الدين وبعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم شيئا، إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ تعالى من فضله ورسوله، بالغنائم الحربية، وكانوا كسائر الأنصار في المدينة فقراء، كما
قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم للأنصار: «كنتم عالة، فأغناكم الله بي»
أي أن أكثر أهل المدينة كانوا بحاجة وضنك من العيش، فلما قدمهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أثروا بالغنائم.
وروي أنه قتل للجلاس بن سويد (أحد المتخلفين عن تبوك) مولى، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بديته اثني عشر ألفا، فاستغنى.
فليس هناك شيء ينقمون منه إلا أن الإسلام كان سببا في غناهم. وهذا مدح بما يشبه الذم.
فإن ينوبوا من النفاق ومساوئ أقوالهم وأفعالهم، يكن ذلك خيرا لهم وأصلح، ويفوزوا بالخير، ويقبل الله توبتهم. وفي هذا ترغيب لهم بالتوبة، وفتح باب الأمل والرجاء بالرحمة أمامهم.
وإن يتولوا عن التوبة بالإصرار على النفاق، يعذبهم الله عذابا مؤلما في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهو قتلهم وسبي أولادهم ونسائهم واغتنام أموالهم،
314
وعيشهم في قلق وهمّ وخوف، كما قال تعالى عنهم: لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا، لَوَلَّوْا إِلَيْهِ، وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة ٩/ ٥٧] وقال: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون ٦٣/ ٤]. وأما عذابهم في الآخرة فهو معروف، وهو إلقاؤهم فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
وما لهم في الأرض كلها من ولي يتولى أمورهم ويدافع عنهم، ولا نصير ينصرهم وينجّيهم من العذاب، إذ أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وأما المنافقون فلا ولاية لهم ولا نصرة بينهم، فليس لهم أحد يجلب لهم خيرا أو يدفع عنهم شرا.
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآيات جهاد الكفار والمنافقين وأسباب ذلك، وقد دلت الآيات على ما يأتي:
١- وجوب مجاهدة الكفار والمنافقين، والخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم ولأمته من بعده.
وجهاد الكفار بالسيف وسائر أنواع الأسلحة الحربية، وجهاد المنافقين باللسان، وشدة الزجر والتغليط، أي بإقامة الحجة والبرهان تارة، وبالانتهار والكهر تارة أخرى. ويلاحظ أن إقامة الحجة باللسان دائمة.
٢- أسباب جهادهم: إعلان الكفر، وسبّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، والطعن في الإسلام، وتآمرهم على اغتيال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، واستهزاؤهم بآيات الله وبالرسول والمؤمنين.
٣- حلفهم الأيمان الفاجرة الكاذبة. والصحيح أن هذه الأقوال والأفعال لخبيثة هي ظاهرة عامة بين المنافقين لعموم القول، ووجود المعنى في
315
عبد الله بن أبي والجلاس بن سويد، ووديعة بن ثابت وفي غيرهم. وأساس اعتقادهم في النبي أنه ليس بنبي.
٤- كلمة الكفر التي قالوها قيل: هي تكذيبهم بما وعد الله من الفتح، أو قول الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقا لنحن أشرّ من الحمير، أو قول عبد الله بن أبي: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون ٦٣/ ٨]، وقيل: هي سبّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم والطعن في الإسلام. والظاهر هو المعنى الأخير.
٥- دل قوله: وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أي بعد الحكم بإسلامهم، على أن المنافقين كفار، ويدل عليه دلالة قاطعة قوله تعالى في آية أخرى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا [المنافقون ٦٣/ ٣].
ودلّ هذا القول أيضا على أن الكفر يكون بكل ما يناقض التصديق بالله وبالنبوة، والمعرفة لله عز وجل، وإن كان الإيمان لا يكون إلا بلا إله إلا الله، دون غيره من الأقوال والأفعال إلا في الصلاة. فمن شوهد يصلي الصلاة في وقتها، حتى صلّى صلوات كثيرة حكم عليه بالإيمان.
٦- دلّ قوله: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا على مؤامرة جماعية من المنافقين، وكانوا في الأصح اثني عشر منافقا، لقتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة في غزوة تبوك.
تشبه مؤامرة كفار قريش ليلة الهجرة.
٧- المنافقون من شرّ الناس لأنهم كما ذكر تعالى: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ... غادرون، يقابلون الإحسان بالإساءة، فقد استغنوا بالغنائم، ومع ذلك هموا بقتل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فانطبق عليهم المثل المشهور: «اتق شرّ من أحسنت إليه».
316
٨- أرشد قوله: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ على توبة الكافر الذي يسرّ الكفر، ويظهر الإيمان، وهو الذي يسميه الفقهاء: الزنديق. وقد اختلف العلماء في شأن توبته، فقال الشافعي والجمهور: تقبل توبته، وقال مالك: توبة الزنديق لا تعرف لأنه كان يظهر الإيمان ويسرّ الكفر، ولا يعلم إيمانه إلا بقوله. فإذا عثر عليه وقال: تبت، لم يقبل قوله، وإذا جاءنا تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه، قبلت توبته. وهو المراد بالآية.
٩- المنافقون خسروا الدنيا والآخرة، فإن هم أصروا على النفاق يعذبهم الله عذابين: في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار، وما لهم في الأرض كلها وليّ أي مانع يمنعهم، ولا نصير أي معين ينصرهم.
كذب المنافقين وإخلافهم العهد والوعد قصة ثعلبة بن حاطب المزعومة
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٥ الى ٧٨]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨)
الإعراب:
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ مَنْ: مبتدأ وَمِنْهُمْ متعلق بالخبر المحذوف، وتقديره كائن منهم. وهي صيغة قسم في المعنى، بدليل اللام في قوله: لَئِنْ وهي لام القسم، وأما لام: لَنَصَّدَّقَنَّ فهي لام الجواب. وكلاهما للتأكيد.
317
البلاغة:
يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وعَلَّامُ الْغُيُوبِ فيهما جناس اشتقاق.
أَلَمْ يَعْلَمُوا الاستفهام للتوبيخ والتقريع.
المفردات اللغوية:
وَمِنْهُمْ أي ومن المنافقين. وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ قال ابن عباس رضي الله عنه:
يريد الحج. وَتَوَلَّوْا عن طاعة الله. فَأَعْقَبَهُمْ فأورثهم البخل، والضمير يعود للبخل، في رأي الحسن وقتادة رحمهما الله، والظاهر أن الضمير لله عز وجل. نِفاقاً ثابتا متمكنا. فِي قُلُوبِهِمْ لأنه كان سببا فيه وداعيا إليه، وبما أن الضمير يعود لله تعالى في الراجح فالمعنى: فخذلهم حتى نافقوا، وتمكن في قلوبهم نفاقهم، فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا بسبب إخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح. إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ إلى يوم لقاء الله وهو يوم القيامة.
سبب النزول:
هناك قصة مشهورة بين الناس تروي سبب نزول هذه الآيات رددتها كتب التفسير، لكنها لم تصح لدى المحدثين، وهي
ما أخرجه الطبراني وابن مردويه وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل بسند ضعيف عن أبي أمامة: أن ثعلبة بن أبي حاطب قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالا، قال: ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه، قال: والله، لئن آتاني الله مالا، لأوتين كل ذي حقّ حقه، فدعا له، فاتخذ غنما، فنمت، حتى ضاقت عليه أزقّة المدينة، فتنحّى بها، وكان يشهد الصلاة، ثم يخرج إليها، ثم نمت حتى تعذرت عليه مراعي المدينة، فتنحى بها، فكان يشهد الجمعة، ثم يخرج إليها، ثم نمت فتنحى بها، فترك الجمعة والجماعة، ثم أنزل الله على رسوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها فاستعمل على الصدقات رجلين، وكتب لهما كتابا، فأتيا ثعلبة، فأقرآه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فقال: انطلقا إلى الناس، فإذا فرغتما، فمرا بي، ففعلا، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية! فانطلقا، فأنزل
318
الله: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ، لَئِنْ آتانا الله مِنْ فَضْلِهِ إلى قوله:
يَكْذِبُونَ.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس نحوه.
فجاء ثعلبة بالصدقة، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك.
فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال: هذا جزاء عملك، قد أمرتك، فلم تطعني، فقبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فجاء بها إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فلم يقبلها، ثم جاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها، وهلك في زمان عثمان رضي الله عنه.
والحقيقة أن ما روي عن ثعلبة هذا غير صحيح لدى المحدثين، وثعلبة بدري أنصاري، وممن شهد الله له ورسوله بالإيمان. قال ابن عبد البر: ولعلّ قول من قال في ثعلبة أنه مانع الزكاة الذي نزلت فيه الآية غير صحيح، والله أعلم.
وقال الضحاك: إن الآية نزلت في رجال من المنافقين: نبتل بن الحارث، وجدّ بن قيس، ومعتّب بن قشير. قال القرطبي: وهذا أشبه بنزول الآية فيهم، إلا أن قوله: فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً يدل على أن الذي عاهد الله تعالى لم يكن منافقا من قبل، إلا أن يكون المعنى: زادهم نفاقا ثبتوا عليه إلى الممات، وهو قوله تعالى: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ «١».
وذكر عن ابن عباس في سبب نزول الآية أن ثعلبة بن أبي حاطب أبطأ عنه
ماله بالشام، فحلف في مجلس من مجالس الأنصار: إن سلم ذلك لأتصدقن منه، ولأصلنّ منه، فلما سلم بخل بذلك، فنزلت. وهذا أيضا غير صحيح.
(١) تفسير القرطبي: ٨/ ٢١٠
319
المناسبة:
لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن المنافقين، وتفضح أسرارهم، وتكشف أحوالهم للناس، وبما أنهم أقسام وأصناف ذكرهم تعالى على التفصيل، فقال:
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ [التوبة ٩/ ٦١] وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ [التوبة ٩/ ٥٨] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التوبة ٩/ ٤٩] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ.
التفسير والبيان:
وبعض المنافقين عاهد الله ورسوله: لئن أغناه الله من فضله، ليصدّقن وليكونن من الصالحين الذين ينفقون أموالهم في مرضاة الله، كصلة الرحم والجهاد. فقوله: لَنَصَّدَّقَنَّ إشارة إلى إخراج الزكاة الواجبة، وقوله:
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ إشارة إلى إخراج كل مال يجب إخراجه على الإطلاق.
فلما رزقهم الله تعالى، وأعطاهم من فضله ما طلبوا، لم يوفوا بما قالوا، ولم يصدقوا فيما وعدوا، وإنما بخلوا به وأمسكوه، فلم يتصدقوا منه بشيء، ولم ينفقوا منه في مصالح الأمة كما عاهدوا الله عليه، بل تولوا بكل ما أوتوا من قوة عن العهد وطاعة الله، وأعرضوا إعراضا جازما عن النفقة وعن الإسلام، بسبب تأصل طبع النفاق في نفوسهم.
وبخلوا به أي بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير، وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا. وهم معرضون أي عن الإسلام. وهذا يدل على أنه تعالى وصفهم بصفات ثلاث: الأولى: البخل: وهو عبارة عن منع الحق، والثانية: التولي عن العهد، والثالثة: الإعراض عن تكاليف الله وأوامره.
320
فأعقبهم الله تعالى أي صيّر عاقبة أمرهم نفاقا دائما في قلوبهم، بمعنى زادهم نفاقا، وقيل: أعقبهم ذلك البخل نفاقا، ولهذا قال: بَخِلُوا بِهِ والأول أصح لأن البخل لا يؤدي عادة إلى النفاق فقد يوجد لدى كثير من الفساق، ولأن الضمير في قوله تعالى: يَلْقَوْنَهُ عائد إلى الله تعالى.
واستمر ذلك النفاق ثابتا متمكنا ملازما قلوبهم إلى يوم الحساب في الآخرة.
وفي هذا دليل على أنهم ماتوا منافقين.
وهذا دليل آخر على أن المنزّل فيه ليس ثعلبة أو حاطب البدريين لأن
النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال لعمر: «وما يدريك، لعلّ الله اطّلع على أهل بدر، فقال:
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»

وثعلبة وحاطب ممن حضر بدرا وشهدها.
ثم ذكر الله تعالى سببين للموت على النفاق وهما: إخلاف الوعد والكذب، فقال: بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ، وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي أن ملازمة النفاق لهم كان بسبب إخلافهم ما وعدوا الله تعالى من التصدق والصلاح، وكونهم كاذبين، وكذبهم: نقضهم العهد وتركهم الوفاء بما التزموه من ذلك.
أي أنه تعالى أعقبهم النفاق في قلوبهم إلى الموت بسبب إخلافهم الوعد وكذبهم، وخلف الوعد والكذب من أخص صفات المنافقين،
كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان».
وخرّج البخاري أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «أربع من كنّ فيه، كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».
ثم ندد الله تعالى بالمنافقين ووبخهم فقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا... أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون أن الله يعلم السر وأخفى، ويعلم ما يسرونه من الكلام،
321
ويتناجون أو يتحدثون به فيما بينهم من المطاعن في الدين، وأنه أعلم بضمائرهم، فإنهم إن قالوا: ليتصدقن بشيء من أموالهم، فإن الله أعلم بهم من أنفسهم، وأنه علام الغيوب، يعلم كل غيب وشهادة، وكل سرّ ونجوى، ويعلم ما ظهر وما بطن، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم الله كل ذلك وما أسروه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه، فكيف يكذبون على الله فيما يعاهدونه به، وعلى الناس فيما يحلفون عليه باسمه؟! والفرق بين السرّ والنجوى والغيب: أن السر: ما ينطوي عليه صدورهم، والنجوى: ما يتحدث به الناس فيما بينهم. والغيب: ما كان غائبا عن الخلق.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
١- المعاهدة مع الله توجب الوفاء بالعهد، وهل من شرط المعاهدة التلفظ بها باللسان أو لا حاجة إلى التلفظ، وإنما تكفي النية في القلب؟ خلاف بين العلماء، قال المالكية: العهد والطلاق وكل حكم ينفرد به المرء، ولا يفتقر إلى غيره فيه، فإنه يلزمه منه ما يلتزمه بقصده، وإن لم يتلفظ به. سئل مالك: إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يلفظ به بلسانه، فقال: يلزمه كما يكون مؤمنا بقلبه، وكافرا بقلبه. وروي عنه غير ذلك كما سيأتي.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا يلزم أحدا حكم إلا بعد أن يلفظ به، وذلك يشمل النذور والأيمان والطلاق ونحوها. ودليلهم
ما رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم به»
قال ابن عبد البر: هذا هو الأشهر عن مالك، وقال القرطبي: وهذا هو الأصح في النظر وطريق الأثر
لقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة: «إن الله تعالى تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به».
322
وبناء عليه: إن كان المعاهد به نذرا، فالوفاء بالنذر واجب من غير خلاف، وتركه معصية. وإن كان يمينا فليس الوفاء باليمين واجبا باتفاق.
٢- دلّ قوله تعالى: لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ على أن من قال:
«إن ملكت كذا وكذا فهو صدقة» فإنه يلزمه، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا يلزمه. ويجري الخلاف في الطلاق والعتق. وقال أحمد: يلزمه ذلك في الطلاق، ولا يلزمه في العتق لأن العتق قربة، وهي تثبت في الذمة بالنذر، بخلاف الطلاق، فإنه تصرف في محل.
واحتج الشافعي بما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك»
وهو قول أكثر الصحابة والتابعين وغيرهم.
٣- مظاهر نقض المنافقين العهد تمثلت في أوصاف ثلاثة: أ- البخل بإعطاء الصدقة وبإنفاق المال في الخير وبالوفاء بما ضمنوا والتزموا ب- والتولي عن العهد وعن طاعة الله تعالى ج- وإظهار الإعراض عن الإسلام أي عن تكاليف الله وأوامره.
٤- ظاهر هذه الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق، فيجب على المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه، فإذا عاهد الله في أمر فليجتهد في الوفاء به.
٥- دلّ قوله: إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ على أن ذلك المعاهد مات منافقا، وهذا إخبار بالغيب الذي هو أحد وجوه إعجاز القرآن.
٦- قوله تعالى: نِفاقاً: إذا كان النفاق في القلب فهو الكفر، وأما إذا
323
كان في الأعمال فهو معصية. وعلى هذا فإن الخيانة والكذب ونقض العهد والفجور عند الخصام التي هي آية المنافق في الحديث تعتبر معاص لا تكفّر مرتكبها، قال ابن العربي: قد قام الدليل الواضح على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو التكذيب له، تعالى وتقدس عن اعتقاد الجاهلين وعن زيغ الزائغين. ثم قال:
والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم يؤثر في الاعتقاد «١».
وقالت طائفة عن الحديث: ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
٧- يوصف الله تعالى بأنه علام الغيوب، أي أن ذاته تقتضي العلم بجميع الأشياء، فيعلم بجميع المعلومات، وهو عالم بما في الضمائر والسرائر. فأما وصف الله بالعلّامة فإنه لا يجوز لأنه مشعر بنوع تكلف بالعلم، والتكلف في حق الله تعالى محال.
طعن المنافقين بالمؤمنين وعدم المغفرة لهم
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠)
(١) أحكام القرآن: ٢/ ٩٧٤ وما بعدها. [.....]
324
الإعراب:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ... الَّذِينَ: اسم موصول مبتدأ، ويَلْمِزُونَ: صلته، وفِي الصَّدَقاتِ من صلة يَلْمِزُونَ. وما بين يَلْمِزُونَ وفِي الصَّدَقاتِ داخل في صلة الَّذِينَ. والَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ: عطف على الَّذِينَ يَلْمِزُونَ وخبر المبتدأ: إما أن يكون سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أو أن يكون مقدرا، تقديره: ومنهم الذين يلمزون.
البلاغة:
فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ هذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين.
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ التنوين في عَذابٌ: للتهويل والتفخيم.
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ بينهما طباق السلب، والمراد بالأمر التسوية.
سَبْعِينَ مَرَّةً هذا جار مجرى المثل للمبالغة، وليس لتحديد العدد. وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبع مائة ونحوها في التكثير، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنه العدد بأسره.
المفردات اللغوية:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ يعيبون. الْمُطَّوِّعِينَ المتطوعين أو المتنفلين المؤدي النفل بعد الواجب. إِلَّا جُهْدَهُمْ طاقتهم: وهي أقصى ما يستطيعه الإنسان، فيأتون به. سَخِرَ استهزأ بهم احتقارا، والمراد هنا جازاهم على سخريتهم، مثل: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة ٢/ ١٥] فهو خبر غير دعاء. اسْتَغْفِرْ لَهُمْ يا محمد. أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ يراد به التسوية بين الأمرين.
سَبْعِينَ مَرَّةً المراد بالسبعين: المبالغة في كثرة الاستغفار.
سبب النزول:
روى الشيخان عن أبي مسعود البدري قال: «لما نزلت آية الصدقة، كنا نحامل «١» على ظهورنا فجاء رجل (أبو عقيل اسمه الحبحاب) بشيء كثير،
(١) المعنى: نحمل الحمل على ظهورنا بالأجرة، ونتصدق من تلك الأجرة، أو نتصدق بها كلها، وبعبارة أخرى: نؤاجر أنفسنا في الحمل.
325
فقالوا: مرائي، فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، فنزل:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ... الآية.
المناسبة:
هذا نوع آخر من أعمال المنافقين القبيحة، وهو لمزهم من يأتي بالصدقات طوعا وطبعا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه عنه ابن جرير: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خطبهم ذات يوم، وحث على أن يجمعوا الصدقات، فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، وقال: كان لي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت لنفسي وعيالي أربعة، وهذه الأربعة أقرضتها ربي، فقال: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت.
قيل: قبل الله دعاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم فيه، حتى صالحت امرأته ناضر عن ربع الثمن على ثمانين ألفا.
وجاء عمر بنحو ذلك، وجاء عاصم بن عدي الأنصاري بسبعين وسقا من تمر الصدقة، وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة،
وجاء أبو عقيل بصاع من تمر، وقال: آجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله، فأخذت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما لعيالي، وأقرضت الآخر ربي، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بوضعه في الصدقات.
فقال المنافقون على وجه الطعن: ما جاؤوا بصدقاتهم إلا رياء وسمعة. وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر، والله غني عن صاعه، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
(١) تفسير الرازي: ١٦/ ١٤٤- ١٤٥
326
التفسير والبيان:
إن شأن المنافقين في كل أمة عجيب وغريب، ديدنهم تثبيط الهمم، وتدمير القيم، فلا يسلم أحد من طعنهم، ولو كان العمل خيرا محضا فهم يعيبون المتطوعين في الصدقات، والمراد بها هنا النوافل، سواء أكان المتطوع غنيا يأتي بالكثير كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، أم فقيرا كأبي عقيل، الذي يأتي بالقليل، وهو جهد المقلّ، فلا يجدون ما ينفقونه في سبيل الله إلا غاية جهدهم ومنتهى طاقتهم، فيهزءون منهم، وذكر هؤلاء، وإن كانوا داخلين في المتطوعين لأن السخرية منهم كانت أشد وأوقع.
ولكن الله تعالى سخر منهم، أي جازاهم على سخريتهم بمثل ذنبهم، حيث صاروا إلى النار، فقوله: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ من باب المقابلة أو المشاكلة على سوء صنيعهم، واستهزائهم بالمؤمنين لأن الجزاء من جنس العمل، فعاملهم معاملة من سخر منهم، انتصارا للمؤمنين في الدنيا.
وأعد للمنافقين في الآخرة عذابا شديدا مؤلما لأن الجزاء من جنس العمل.
ثم أبان الله تعالى أنهم كالكفار ليسوا أهلا للاستغفار، ولا ينفعهم الدعاء، فسواء استغفر لهم الرسول أو لم يستغفر لهم، فلن يستر الله عليهم ذنوبهم بالعفو عنها، وترك فضيحتهم بها، وإنه لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ولن يعفو عنهم، وذلك نظير قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون ٦٣/ ٦].
وليس المراد بالسبعين هنا التحديد بعدد معين، فيكون ما زاد عليها بخلافها، وإنما المراد المبالغة في الكلام بحسب أسلوب العرب.
وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إظهارا لرحمته بالأمة، ولطلبهم الاستغفار منه، يدعو الله لهم بالهداية، ويستغفر لهم، كما كان يدعو للمشركين كلما اشتد إيذاؤهم له،
327
فيقول كما روى ابن ماجه: «اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون»
فمنعه الله من ذلك.
وكان عذر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في استغفاره: هو عدم يأسه من إيمانهم، ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم لقوله تعالى:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة ٩/ ١١٣].
وقد ذكر الله تعالى هنا سبب عدم قبول الاستغفار والدعاء لهم بقوله:
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا... أي إنهم كفروا وجحدوا بالله ورسوله، فلم يقروا بوحدانية الله تعالى، ولم يعترفوا ببعثه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وأصروا على الجحود والإنكار، فلم تعد قلوبهم مستعدة لقبول الخير والنور، وإن سنة الله ألا يوفق للخير القوم المتمردين في الكفر، الخارجين عن الطاعة، الذين فقدوا الاستعداد للإيمان والتوبة. فاليأس من المغفرة وعدم قبول الاستغفار لهم ليس لبخل من الله، ولا قصور في النبي، بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عن المغفرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن المنافقين قوم حيارى مرضى القلوب لا يدركون حقيقة الأمور، فتراهم يعيبون غيرهم من المؤمنين، تسترا على النفاق، وحماية لأنفسهم من افتضاح أمرهم، وحبا في النقد والطعن، فافتضح القرآن أسرارهم، وأبان سوء تصرفاتهم.
٢- لقد كان جزاء لمزهم وعيبهم المؤمنين المتطوعين بالإنفاق في سبيل الله هو النار والعذاب الأليم فيها لأن الجزاء من جنس العمل كما تبين.
328
٣- لن ينفعهم استغفار الرسول ما داموا كفارا مصرين على النفاق. قال الشعبي: سأل عبد الله بن عبد الله بن أبيّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، وكان رجلا صالحا أن يستغفر لأبيه في مرضه، ففعل، فنزلت الآية. أي إن استغفار الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لبعض المنافقين كان بطلبهم، لكن رجح الرازي أنه صلّى الله عليه وآله وسلم لم يستغفر لهم لأنه يعلم أن المنافق كافر، والاستغفار للكافر لا يجوز في شرعه، وإنما لما طلب القوم منه أن يستغفر لهم، منعه الله منه «١».
فرح المنافقين المتخلفين عن الجهاد في غزوة تبوك
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)
الإعراب:
خِلافَ منصوب: لأنه مفعول لأجله، وقيل: لأنه مصدر.
جَزاءً مفعول لأجله، أي للجزاء.
البلاغة:
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً فيه ما يسمى بالمقابلة من أنواع الجناس.
المفردات اللغوية:
فَرِحَ سرّ وطرب، والفرح: شعور النفس بالارتياح والسرور. الْمُخَلَّفُونَ المتروكون في المدينة عن تبوك، من خلف فلانا، أي تركه خلفه. بِمَقْعَدِهِمْ بقعودهم. خِلافَ أي
(١) تفسير الرازي: ١٦/ ١٤٧
329
بعد، أو هو مصدر كالمخالفة، ويصح المعنيان هنا. وَقالُوا أي قال بعضهم لبعض.
لا تَنْفِرُوا تخرجوا إلى الجهاد. أَشَدُّ حَرًّا من تبوك، فالأولى أن يتقوها بترك التخلف.
لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ يعقلون أو يعلمون ذلك ما تخلفوا. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا في الدنيا.
وَلْيَبْكُوا في الآخرة. وهو خبر عن حالهم وارد بصيغة الأمر.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم الناس أن ينبعثوا معه، وذلك في الصيف، فقال رجال: يا رسول الله، الحر شديد، ولا نستطيع الخروج، فلا ننفر في الحر، فأنزل الله: قُلْ: نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا.
وأخرج ابن جرير أيضا عن محمد بن كعب القرظي قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في حر شديد إلى تبوك، فقال رجل من بني سلمة: لا تنفروا في الحر، فأنزل الله: قُلْ: نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى بعض قبائح المنافقين من اعتذارهم عن الخروج للقتال في تبوك، ولمزهم في قسمة الصدقات، عاد إلى بيان حال أولئك الذين تخلفوا عن الخروج مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك، وهو نوع آخر من قبائحهم، وهو فرحهم بالقعود وكراهتهم الجهاد.
وسموا بالمخلّفين لا بالمتخلفين أي المتأخرين عن الجهاد، لأنهم تخلفوا عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بعد خروجه إلى الجهاد، من حيث إنهم لم ينهضوا، فبقوا وأقاموا، ولأن الرسول منع أقواما منهم من الخروج معهم، لعلمه بأنهم يفسدون ويشوشون، ولأن الله تعالى لما منعهم في الآية التالية عن الخروج معه بقوله:
فَقُلْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً صاروا بهذا السبب مخلّفين.
330
التفسير والبيان:
هذه الآيات ذمّ واضح للمنافقين المتخلفين عن المشاركة في القتال في غزوة تبوك، وإخبار عن مصيرهم السيء في الآخرة، وقد نزلت في أثناء السفر.
والمعنى: فرح أولئك المنافقون المخلّفون في المدينة بقعودهم في بيوتهم، بعد أن تركهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم عند خروجه إلى غزوة تبوك، وسبب فرحهم عدم إيمانهم بأن في الجهاد خيرا، وكراهيتهم الجهاد مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. والفرح بالإقامة يدل على كراهة الذهاب، إلا أنه تعالى أعاده للتأكيد.
والخلاصة: إنهم فرحوا بسبب التخلف، وكرهوا الذهاب إلى الجهاد.
ولم يقتصر الأمر على فرحهم بأنفسهم، بل أغروا غيرهم بعدم الخروج، وقال بعضهم لبعض: لا تخرجوا للجهاد لأن غزوة تبوك في شدة الحر، وقد طابت الثمار والظلال.
فرد الله عليهم بقوله: قُلْ: نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا أي إن نار جهنم التي أعدت للعصاة والتي تصيرون إليها بمخالفتكم أشدا حرا مما فررتم منه من الحر، فلو كانوا يعقلون ذلك ويعتبرون به، لما خالفوا وقعدوا، ولما فرحوا بل حزنوا، كما
روى الإمام مالك والشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «نار بني آدم التي توقدونها جزء من سبعين جزءا من نار جهنم».
ثم أخبر الله تعالى عن عاقبة أمرهم فقال: فَلْيَضْحَكُوا... أي إن الأولى بهم أن يضحكوا ويفرحوا قليلا، ويبكوا كثيرا، وهو خبر عن حالهم وارد بصيغة الأمر، يقصد به التهديد وانتظار ما سيلاقون من عذاب شديد، جزاء على ما اقترفوه أو اكتسبوه من الجرائم والنفاق.
أخرج الشيخان في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لمن له نعلان وشراكان من نار جهنم، يغلي منهما دماغه، كما يغلي المرجل،
331
لا يرى أن أحدا من أهل النار أشدّ عذابا منه، وإنه أهونهم عذابا».
فقه الحياة أو الأحكام:
الآيات تدل على قصر نظر الإنسان، فهو ينظر غالبا إلى الحال والواقع الذي هو فيه، ولا ينظر إلى المستقبل وما يتمخض عنه من أحداث. فهؤلاء المنافقون فرحوا بالقعود والراحة في المدينة لعدم إيمانهم بجدوى الجهاد، وكرهوا الجهاد لأنه يحرمهم نعمة التفيؤ بالظلال وقطاف الثمار.
ولكن القرآن لامهم ونبّه عقولهم، فإن شدة الحر في نار جهنم التي يصيرون إليها بسبب تخلفهم عن جهاد الأعداء ونصرة الإسلام أكثر بكثير جدا من حر الصيف في الدنيا.
ثم هددهم تعالى بأنهم إن فرحوا قليلا في الدنيا، فليبكوا وليحزنوا كثيرا في جهنم، أو إنهم سيضحكون قليلا ويبكون كثيرا، جزاء بما كسبت أنفسهم، واقترفته أيديهم.
ولا يقتصر هذا التهديد على المنافقين، بل يشمل العباد الصالحين الذين يتحسسون شدة الخوف من الله تعالى،
أخرج الترمذي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، ولخرجتم إلى الصّعدات «١» تجأرون إلى الله تعالى، لوددت أني كنت شجرة تعضد».
ولا يعني هذا منع الضحك الخفيف لأن الله أضحك وأبكى، ولكن الإكثار منه وملازمته حتى يغلب على صاحبه مذموم منهي عنه، وهو من فعل السفهاء والبطالة،
وفي الخبر: «أن كثرته تميت القلب».
والخلاصة: لقد صدرت من المنافقين مخالفات خطيرة ثلاثة: هي التخلف
(١) الصعدات: هي الطرق، وهي جمع صعد، وصعد جمع صعيد كطريق وطرق وطرقات.
332
في المدينة عن غزوة تبوك، وكراهة الجهاد، وإغراء إخوانهم بعدم الجهاد، فاستحقوا نار جهنم، فهم إن فرحوا وضحكوا في كل عمرهم، فهذا قليل لأن متاع الدنيا قليل، وسيكون حزنهم وبكاؤهم في الآخرة كثيرا لأنه عقاب دائم لا ينقطع، بسبب ما كانوا يكسبون في الدنيا من النفاق.
منع المنافقين من الجهاد والمنع من الصلاة على موتاهم والتحذير من الاغترار بأموالهم وأولادهم
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٣ الى ٨٥]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥)
الإعراب:
فَإِنْ رَجَعَكَ الكاف: منصوب برجع، وهو يكون متعديا، كما يكون لازما يقال:
رجع ورجعته، نحو زاد وزدته، ونقص ونقصته، في أفعال تزيد على ثمانين فعلا.
ماتَ صفة لأحد، وإنما قيل: مات وماتوا بلفظ الماضي بالنسبة إلى سبب النزول وزمان النهي، لكن معناه على الاستقبال على تقدير الكون والوجود لأنه كائن موجود لا محالة.
إِنَّهُمْ كَفَرُوا تعليل للنهي.
أَبَداً ظرف متعلق بالنهي.
333
المفردات اللغوية:
فَإِنْ رَجَعَكَ ردك. اللَّهُ من تبوك. إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ ممن تخلف بالمدينة من المنافقين. الْخالِفِينَ المتخلفين من النساء والصبيان. وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ لدفن أو زيارة والمراد النهي عن الوقوف على قبره حين دفنه أو لزيارته، والقبر هو مدفن الميت. فاسِقُونَ كافرون. وَتَزْهَقَ تخرج.
سبب النزول: نزول الآية (٨٤) :
وَلا تُصَلِّ:
روى الشيخان عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي، جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام ليصلي عليه، فقام عمر بن الخطاب، وأخذ بثوبه، وقال: يا رسول الله، أتصلي عليه، وقد نهاك ربك أن تصلي على المنافقين؟ قال: إنما خيرني الله، فقال: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً... وسأزيده على السبعين، فقال: إنه منافق، فصلى عليه، فأنزل الله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً، وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ فترك الصلاة عليهم. وقد فهم عمر ذلك من قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية، على أنه تقدم نهي صريح. أو أنه فهم ذلك من قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة ٩/ ١١٣] لأنها نزلت بمكة.
وورد ذلك من حديث عمر وأنس وجابر وغيرهم.
وجاء في رواية عن ابن عباس: فقال عمر رضي الله عنه، لم تعطي قميصك الرجس النجس «١» ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إن قميصي لا يغني عنه من الله
(١) وهذا يدل على منقبة عظيمة من مناقب عمر رضي الله عنه وذلك لأن الوحي نزل على وفق قوله في آيات كثيرة، منها آية الفداء عن أسارى بدر، وآية تحريم الخمر، وآية تحويل
334
شيئا، فلعل الله أن يدخل به ألفا في الإسلام.
وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله، فلما رأوه يطلب هذا القميص، ويرجو أن ينفعه، أسلم منهم يومئذ ألف.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما خيرني الله»
مشكل، والظاهر أن الاستغفار للمنافقين الذي خير فيه إنما هو استغفار لساني لا ينفع، وغايته تطييب قلوب بعض الأحياء من قرابات المستغفر له.
وصلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عليه بعد أن علم كونه كافرا، وقد مات على كفره لأنه لما طلب منه أن يرسل إليه قميصه الذي مس جلده ليدفن فيه، غلب على ظنه أنه انتقل إلى الإيمان لأن ذلك الوقت وقت يتوب فيه الفاجر، ويؤمن فيه الكافر. أو إنما صلى عليه بناء على الظاهر من إعلان إسلامه.
وأخرج أبو يعلى وغيره عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبي، فأخذ جبريل بثوبه، فقال: وَلا تُصَلِّ... الآية.
فهذه الرواية تدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يصل على عبد الله بن أبي.
وأمام هذا التعارض في الروايات رجح بعض العلماء رواية البخاري، وجمع بعضهم بين الروايتين، فقال: المراد من الصلاة في رواية عمر وابنه: الدعاء، أو الهم بالصلاة عليه ثم منعه جبريل.
المناسبة:
ما تزال الآيات تتحدث عن مخازي المنافقين وسوء طريقتهم، فبعد أن بين تعالى قبائحهم، بين بعض المواقف الحاسمة في معاملتهم، بعد رجوعه من غزوة تبوك، فمنعهم الله تعالى من الخروج مع النبي إلى الجهاد في غزوات أخرى لأن
القبلة، وآية أمر النسوان بالحجاب، وهذه الآية. لهذا قال عليه الصلاة والسلام في حقه:
«لو لم أبعث لبعثت يا عمر نبيا».
335
خروجهم يؤدي إلى الفساد، ومنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة على موتاهم لأن الصلاة على الميت دعاء واستغفار واستشفاع له، والكافر ليس بأهل لذلك، ونهاه عن الاغترار بأموالهم وأولادهم أو استحسان ما لديهم لأنها ليست لخيرهم، وإنما هي طريق لتعذيبهم بها في الدنيا، وانشغالهم بها عن الآخرة.
التفسير والبيان:
يأمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بأنه إن ردك الله من سفرك هذا حين رجوعك من غزوة تبوك إلى طائفة من المنافقين المتخلفين، وكانوا كما ذكر قتادة اثني عشر رجلا، فاستأذنوك للخروج معك إلى غزوة أخرى، فقل لهم تعزيرا وعقوبة:
لن تخرجوا معي أبدا على أية حال، ولن تقاتلوا معي أبدا عدوا بأي وضع كان.
ثم علل ذلك وبين سبب المنع بقوله: إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ... أي إنكم اخترتم القعود عني أول مرة، وتخلفتم بلا عذر، وكذبتم في أيمانكم الفاجرة، وفرحتم بالقعود، بل وأغريتم بالتخلف عن الجهاد، فاقعدوا أبدا مع الخالفين أي الرجال المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد كما قال ابن عباس، أو مع فئة النساء والصبيان والعجزة كما قال الحسن، لكن قال ابن جرير: وهذا لا يستقيم لأن جمع النساء لا يكون بالياء والنون، ولو أريد النساء لقال: فاقعدوا مع الخوالف أو الخالفات. وقيل: المعنى فاقعدوا مع الفاسدين، وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في الغزوات لا يجوز. وقوله: أَوَّلَ مَرَّةٍ هي الخرجة إلى غزوة تبوك.
وعلى كل حال، فالآية تأمر بعقابهم بألا يصاحبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبدا، وذلك كما قال تعالى في سورة الفتح: قُلْ: لَنْ تَتَّبِعُونا [١٥].
ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبرأ من المنافقين، وألا يصلي على أحد منهم إذا مات، وألا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له لأنهم كفروا بالله
336
ورسوله، وماتوا عليه. وهذا نص في الامتناع من الصلاة على الكفار، وهو حكم عام في كل من عرف نفاقه، وإن كان سبب نزول الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين. ومعنى الآية: ولا تصل أيها النبي على أحد من المنافقين سيموت في المستقبل، ولا تقم على قبره حين دفنه أو لزيارته، داعيا له ومستغفرا، ويجوز أن يراد بالقبر: الدفن، ويكون المعنى: لا تتول دفنه.
ثم بين الله تعالى سبب النهي عن الصلاة والقيام على القبر للدعاء بقوله:
إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ... أي لأنهم كفروا بوجود الله وتوحيده وأنكروا بعثة نبيه لأن الصلاة على الميت استشفاع له، والقيام على قبره احتفال بالميت وإكرام له، وليس الكافر من أهل الاحترام والإكرام.
وماتوا وهم فاسقون أي إنهم ماتوا والحال أنهم خارجون من دين الإسلام، متمردون على أحكامه، متجاوزون حدوده وأوامره ونواهيه.
ثم نهى الله رسوله عن استحسان بعض مظاهر المنافقين، فقال: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ... أي لا تستحسن ما أنعمنا به عليهم من الأموال والأولاد، فلا يريد الله بهم الخير، إنما يريد أن يعذبهم بها في الدنيا بالمصائب، وتخرج أرواحهم ويموتوا على الكفر وهم مشغولون بالتمتع بها عن النظر في عواقب الأمور.
وقد سبق ذكر هذه الآية في هذه السورة رقم (٥٥) مع تفاوت في بعض الألفاظ: فلا تعجبك ولا تعجبك. أموالهم ولا أولادهم أموالهم وأولادهم، ليعذبهم أن يعذبهم، في الحياة الدنيا في الدنيا، ويفهم من اللفظ السابق:
وَلا أَوْلادُهُمْ أن إعجابهم بأولادهم كان أكثر من إعجابهم بأموالهم، وأما هنا رقم [٨٥] فلا تفاوت بين الأمرين. وفائدة التكرار التأكيد والتحذير من الاشتغال بالأموال والأولاد، مرة بعد أخرى، بسبب شدة تعلق النفوس بها، حتى
337
لا تحجب عن طلب ما هو أولى وهو الاشتغال للآخرة، فهي تحذير ونهي صريح عن الاغترار بالأموال والأولاد.
فقه الحياة أو الأحكام:
تتضمن الآيات اتخاذ مواقف حاسمة من المنافقين، بعد أن أمهلوا لمدة طويلة، وعوملوا في الظاهر معاملة المسلمين. وهي مواقف ثلاثة: منعهم من الخروج إلى الجهاد مع المسلمين، وعدم الصلاة على موتاهم، وعدم الاغترار بأموالهم وأولادهم التي يتباهون بها، وتلك المواقف تدل على أنهم جماعة كفار، كفروا بالله ورسوله.
أما الموقف الأول: فاقتصر على طائفة من المنافقين لأن جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان فيهم معذورون ومن لا عذر له، ثم عفا عنهم وتاب عليهم، كالثلاثة الذين خلفوا.
وأما الموقف الثاني: فإسقاط لاعتبارهم لأن الصلاة على الميت والقيام على قبره للدعاء له إكرام له واحترام، والكافر ليس من أهل الاحترام.
وعلى العكس من ذلك أهل الإيمان، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يبادر إلى الصلاة عليهم لأن صلاته شفاعة وسكن لهم واطمئنان وكان يطلب من المؤمنين الدعاء لهم والاستغفار تكريما وتعظيما.
روى أبو داود والحاكم والبزار عن عثمان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: «استغفروا لأخيكم. وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل».
وهذه الآية نص في الامتناع من الصلاة على الكفار وحظر الوقوف على قبورهم حين دفنهم، وكذلك تولي دفنهم، وليس فيه دليل على الصلاة على المؤمنين، وإنما يستفاد وجوب الصلاة على الميت المسلم من الأحاديث الصحيحة، مثل
ما روى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن أخا لكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه» قال: فقمنا فصففنا صفين، يعني النجاشي.
338
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، فخرج بهم إلى المصلى، وكبر أربع تكبيرات.
وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز ترك الصلاة على جنائز المسلمين، وراثة عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم قولا وعملا.
وألحق بعض العلماء بذلك تشييع جنائز المسلمين، ويفهم من الآية من طريق دليل الخطاب مشروعية الوقوف على قبر المسلم إلى أن يدفن، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يفعله، وقد قام على قبر حتى دفن الميت، ودعا له بالتثبيت، وكان ابن الزبير إذا مات له ميت، لم يزل قائما على قبره حتى يدفن. وجاء في صحيح مسلم أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال عند موته: إذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر الجزور، ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي.
وجمهور العلماء على أن التكبير على الجنائز أربع.
روى الدارقطني عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الملائكة صلت على آدم، فكبرت عليه أربعا، وقالوا: هذه سنتكم يا بني آدم».
ولا قراءة في هذه الصلاة في المشهور من مذهب مالك، وكذلك أبو حنيفة والثوري
لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة: «إذا صليتم على الميت، فأخلصوا له الدعاء».
وذهب الشافعي وأحمد وداود وجماعة إلى أنه يقرأ بالفاتحة
لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الجماعة عن عبادة بن الصامت: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»
حملا له على عمومه، وبما أخرجه البخاري عن ابن عباس، وصلى على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، وقالوا: لتعلموا أنها سنة.
وسنة الإمام أن يقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة، وهو رأي الشافعي
339
لما رواه أبو داود عن أنس، وصلى على جنازة، فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي على الجنائز كصلاتك، يكبر أربعا، ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم.
ورواه مسلم عن سمرة بن جندب قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وصلى على أم كعب، ماتت وهي نفساء، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للصلاة عليها وسطها.
وأما الموقف الثالث مع المنافقين الذي دلت عليه الآية فهو النهي عن الاغترار بأموالهم وأولادهم، والتحذير منه مرة بعد أخرى لشدة تعلق النفوس بذلك، وحملا للإنسان المؤمن على الاشتغال بما هو خالد باق، وطلب مغفرة الله تعالى. والتكرار مع ما سبق لهذه الآية لأجل التأكيد والمبالغة في التحذير، كما كرر تعالى مرتين قوله في سورة النساء: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [٤، ١١٦].
قصة حديث الصلاة على عبد الله بن أبي:
ضعف جماعة من العلماء كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وإمام الحرمين الجويني، والغزالي حديث الصلاة على زعيم المنافقين، لمخالفته لظاهر الآية من أوجه هي:
١- إن الآية نزلت أثناء رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك، وابن أبي مات في السنة التي بعدها.
٢- اعتراض عمر
وقوله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: «وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟»
يدل على أن النهي عن هذه الصلاة سابق لموت ابن أبي. وهذا يعارض قوله بعدئذ: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ وهو صريح في أن الآية نزلت بعد الصلاة عليه.
340
٣-
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله خيرني»
يعارض صريح الآية بأن الله لن يغفر لهم بسبب كفرهم، فأو فيها للتسوية، لا للتخيير.
وأما محاولة الجمع بين الآية والحديث فلا تخلو من تكلف غير مقنع.
استئذان زعماء المنافقين للتخلف عن الجهاد وإقدام المؤمنين عليه
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٨٧) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩)
الإعراب:
مَعَ الْخَوالِفِ عاطف ومعطوف، والْخَوالِفِ: جمع خالفة، فإن فاعلة يجمع على فواعل، كقاتلة وقواتل، وضاربة وضوارب، والْخَوالِفِ: النساء.
البلاغة:
مَعَ الْخَوالِفِ فيها استعارة، إذ شبه النساء المقيمات في البيوت بعد رحيل الرجال بالخوالف، وهي الأعمدة التي تكون في أواخر البيوت لكثرة لزوم الخوالف للبيوت.
341
المفردات اللغوية:
سُورَةٌ طائفة من القرآن. أَنْ أي بأن. أُولُوا الطَّوْلِ أولو الغنى والثروة، والمقدرة على الجهاد. ذَرْنا اتركنا ودعنا. الْقاعِدِينَ المتخلفين.
الْخَوالِفِ جمع خالفة، أي النساء اللاتي تخلفن في البيوت. وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ ختم عليها، فلم تعد قابلة لشيء جديد. لا يَفْقَهُونَ لا يعقلون الخير. وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ في الدنيا والآخرة. الْمُفْلِحُونَ الفائزون.
المناسبة:
بعد أن بين الله تعالى أن المنافقين احتالوا في التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والقعود عن الجهاد، أوضح أمرا آخر: وهو أنه متى نزلت آية مشتملة على الأمر بالإيمان وعلى الأمر بالجهاد، استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلف عن الجهاد، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ، أي مع الضعفاء والعاجزين عن القتال.
التفسير والبيان:
يذم الله تعالى في هذه الآيات فريقا ويمدح فريقا آخر، فيذم المتخلفين عن الجهاد، مع القدرة عليه، ووجود الثروة والغنى (أو السعة والطول) واستأذنوا الرسول في القعود.
فكلما أنزلت سورة- والمراد بالسورة إما تمامها وإما بعضها، كما يقع القرآن والكتاب على كله وبعضه- فيها الأمر بالإيمان والدعوة إلى الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، استأذنك أولو الطول، أي ذوو الفضل والسعة، وأولو المقدرة على الجهاد بالمال والنفس، في التخلف قائلين: اتركنا مع القاعدين في بيوتهم من النساء والصبيان والعجزة والضعفاء، وقوله تعالى: أَنْ آمِنُوا الأمر للمؤمنين باستدامة الإيمان، وللمنافقين بابتداء الإيمان. ونظير الآية قوله تعالى:
342
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: نُزِّلَتْ سُورَةٌ؟ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَأَوْلى لَهُمْ [محمد ٤٧/ ٢٠].
وهذا دليل على الجبن والذل والهوان. وفي تخصيص أُولُوا الطَّوْلِ بالذكر فائدتان: الأولى: أن الذم لهم ألزم لكونهم قادرين على السفر والجهاد، والثانية: أن من لا مال له ولا قدرة على السفر لا يحتاج إلى الاستئذان لأنه معذور.
هؤلاء رضوا لأنفسهم بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ من النساء، وفي هذا طعن برجولتهم، وتشبيه لهم بالنساء.
وعلة ذلك أن الله ختم على قلوبهم، بسبب نكولهم عن الجهاد والخروج مع الرسول في سبيل الله، فلم تعد قابلة لنور العلم والهداية، حتى كأنها قد ختم عليها، فأصبحوا لا يفقهون أي لا يفهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه، ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه، ولا يدركون أسرار حكمة الله في الأمر بالجهاد.
ثم قارن الله تعالى وضعهم بوضع المؤمنين، وبين ثناءه عليهم ومآلهم في الآخرة، فقال: لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا... أي بين تعالى حالهم ومآلهم، وهو أن الرسول والمؤمنين معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وأدوا واجبهم، فنالوا الخيرات العظمى في الدنيا كالنصر وهزيمة الكفر، وفي الآخرة بالاستمتاع في جنات الفردوس والدرجات العلى، وأولئك هم الفائزون بالسعادتين: سعادة الدنيا وسعادة الآخرة، خلافا للمنافقين الذين حرموا منهما.
وقوله: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ... إما تفسير للخيرات والفلاح، وإما أن الخيرات والفلاح هي منافع الدنيا كالعزة والكرامة والنصر والثروة، والجنات ثواب الآخرة. والفوز العظيم: هو المرتبة الرفيعة والدرجة العالية.
343
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أن رؤساء المنافقين القادرين على الجهاد بالمال والنفس تخلفوا عن الجهاد مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورضوا لأنفسهم المذلة والمهانة بالقعود مع العاجزين عن الخروج للجهاد. وقد أدى ذلك إلى الطبع على قلوبهم، فأصبحوا لا يميزون بين الخير والشر، ولا بين المصلحة والضرر، أي أن حالهم التخلف ومآلهم انعدام الخير فيهم.
قال الحسن البصري: الطبع: عبارة عن بلوغ القلب في الميل في الكفر إلى الحد الذي كأنه مات عن الإيمان. وعند المعتزلة: عبارة عن علامة تحصل في القلب.
ودلت الآيات أيضا على حال المؤمنين ومآلهم، فحالهم أنهم بذلوا المال والنفس في طلب رضوان الله والتقرب إليه، ومآلهم تحصيل الخيرات أي منافع الدارين، والفوز بالجنة والتخلص من العقاب والعذاب. وذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز غيره، وهو المرتبة الرفيعة والدرجة العالية.
نفاق الأعراب واستئذانهم للتخلف عن الجهاد
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٠]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠)
المفردات اللغوية:
الْمُعَذِّرُونَ المعذر: هو المجتهد البالغ في العذر، وهو المحق، أو المقصر من عذر في الأمر:
إذا قصر فيه وتوانى ولم يجد، أو من اعتذر: إذا مهد العذر، أي أن في تفسيره قولين:
344
أحدهما- أنه يكون المحق، فهو بمعنى المعتذر أو المعذور لأن له عذرا.
والثاني- أنه غير المحق وهو الذي يعتذر ولا عذر له. وسياق الكلام يدل على أنهم مذمومون لا عذر لهم لأنهم جاؤوا ليؤذن لهم، ولو كانوا من الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون لم يحتاجوا أن يستأذنوا. فهم الذين يعتذرون بالباطل، كقوله تعالى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ [التوبة ٩/ ٩٤].
الْأَعْرابِ هم سكان البادية وهم أسد وغطفان، استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد وكثرة العيال. كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أظهروا الإيمان بهما كذبا أو ادعوا الإيمان، يقال: كذبته عينه: إذا رأى ما لا حقيقة له.
سبب النزول:
قال الضحاك: هم رهط عامر بن الطفيل جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: يا رسول الله إنا إن غزونا معك، أغارت أعراب طي على أهالينا ومواشينا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «سيغنيني الله عنكم».
وعن مجاهد: هم نفر من غفار أو من غطفان اعتذروا، فلم يعذرهم الله تعالى. وعن قتادة: اعتذروا بالكذب.
المناسبة:
بعد أن بين الله تعالى أحوال المنافقين من سكان المدينة، قفى على ذلك ببيان أحوال المنافقين من الأعراب البدو.
التفسير والبيان:
وجاء المعتذرون من الأعراب يطلبون الإذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التخلف عن غزوة تبوك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «قد أنبأني الله من أخباركم، وسيغني الله عنكم».
345
وقعد عن الجهاد الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بادعائهم الإيمان، وهم منافقو الأعراب الذين جاؤوا وما اعتذروا، وظهر بذلك أنهم كاذبون.
ثم أوعدهم بالعذاب، فقال: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار لاعتذار الأولين بغير حق، وقعود الآخرين عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين كذبوا الله ورسوله من منافقي الأعراب، فالآية بشقيها في منافقي الأعراب، سواء من انتحل العذر بالباطل، ومن لم ينتحل وتخلف عن الجهاد، وعاقبتهم العقاب الشديد الأليم في الدنيا والآخرة بالقتل والنار. وإنما قال: مِنْهُمْ الدال على التبعيض لأنه تعالى كان عالما بأن بعضهم سيؤمن ويتخلص من هذا العقاب.
ومن المفسرين من جعل القسم الأول معذورين صادقين، وهم من أحياء العرب ممن حول المدينة، أو هم أسد وغطفان جاؤوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعتذرون إليه بسبب الضعف وعدم القدرة على الخروج، بدليل أنه تعالى لما ذكرهم قال بعدهم: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فلما ميز أولئك عن الكاذبين، دل ذلك على أنهم ليسوا بكاذبين. ورجح ابن كثير هذا القول لما ذكر، ورجح الرازي والزمخشري القول الأول بدلالة سياق الكلام لأنهم جاؤوا ليؤذن لهم، ولو كانوا معذورين بحق لم يحتاجوا إلى الاستئذان.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على أن مصير المنافقين الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بادعائهم الإيمان، والكاذبين من المعتذرين هو العقاب في نار جهنم، بسبب عدم إيمانهم، وبسبب كذبهم، وكل من الكفر أو ادعاء الإيمان في الظاهر، والكذب التابع له أمر عظيم يستحق فاعله العقوبة عليه.
346
وأما المعتذر بحق فيقبل عذره، وهم ذوو الأعذار في ترك الجهاد الذين أعفاهم الله، وتتحدث عنهم الآية التالية: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ....
أصحاب الأعذار المقبولة لعدم الجهاد
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (٩٢)
الإعراب:
تَوَلَّوْا جواب إِذا قُلْتَ: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ حال من كاف أَتَوْكَ بإضمار: وقد. وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ الجملة في موضع نصب على الحال.
مِنَ الدَّمْعِ من للبيان، وهي مع المجرور في محل نصب على التمييز، وهو أبلغ من يفيض دمعها لأنه يدل على أن العين صارت دمعا فياضا حَزَناً نصب على أنه مفعول لأجله، أو على الحال، أو المصدر لفعل دل عليه ما قبله. أَلَّا يَجِدُوا أي لئلا يجدوا، متعلق ب حَزَناً أو ب تَفِيضُ.
البلاغة:
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ عطف على الضُّعَفاءِ، أو على الْمُحْسِنِينَ.
وهو من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنهم. وهو مبتدأ معطوف على ما قبله بغير واو.
ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وضع الظاهر موضع الضمير، للدلالة على أنهم من جملة المحسنين غير المعاتبين بالتخلف.
347
المفردات اللغوية:
الضُّعَفاءِ كالشيوخ أو الهرمى جمع ضعيف وهو غير القوي، والمرضى جمع مريض، كالزمنى والعمي ما يُنْفِقُونَ في الجهاد حَرَجٌ ذنب أو إثم في التخلف عن الجهاد إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ في حال قعودهم بعدم الإرجاف والتثبيط، وبالطاعة ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ما عليهم بذلك من طريق بالمؤاخذة غَفُورٌ لهم رَحِيمٌ بهم في التوسعة عليهم حَزَناً الحزن والحزن: ضد السرور. والحزن: الصعب وما غلظ من الأرض، وفيها حزونة.
وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ معك إلى الجهاد وهم البكاؤون سبعة من الأنصار:
معقل بن يسار، وصخر بن خنساء، وعبد الله بن كعب، وسالم بن عمير، وثعلبة بن عتمة، وعبد الله بن مغفل، وعلية بن زيد، أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالوا: نذرنا الخروج، فاحملنا على الخفاف المرفوعة، والنعال المخصوفة، نغز معك،
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا أجد ما أحملكم، فتولوا
وهم يبكون.
وقيل: هم بنو مقرن من مزينة: معقل وسويد والنعمان وعقيل وسنان، وسابع لم يسم، وعلى هذا جمهور المفسرين. وقيل: أبو موسى وأصحابه.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب براءة فإني لواضع القلم في أذني، إذ أمرنا بالقتال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر ما ينزل عليه، إذ جاءه أعمى، فقال: كيف بي يا رسول الله، وأنا أعمى؟ فنزلت:
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ الآية.
وأما آية: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ فذكر في سبب نزولها ثلاث روايات:
الأولى-
أخرج ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءت عصابة من أصحابه، فيهم عبد الله بن مغفل المزني، فقالوا: يا رسول الله، احملنا، فقال: والله ما أجد ما أحملكم عليه، فتولوا ولهم بكاء، وعز عليهم أن يحبسوا عن الجهاد، ولا يجدوا نفقة ولا محملا،
348
فأنزل الله عذرهم: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ الآية.
وقد ذكرت أسماؤهم في المبهمات، وكانوا يسمون البكائين.
الثانية: قال مجاهد: هم ثلاثة إخوة: معقل، وسويد، والنعمان بن مقرن، سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحملهم على الخفاف المدبوغة، والنعال المخصوفة، فقال: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ وهذا رأي الجمهور.
والثالثة:
قال الحسن البصري: نزلت في أبي موسى الأشعري وأصحابه، أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستحملونه، ووافق ذلك منه غضبا، فقال: «والله ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه».
المناسبة:
هناك ارتباط واضح بين هذه الآيات وما قبلها، فبعد أن ذكر تعالى الوعيد لمن يوهم العذر أو ينتحل الأعذار، مع أنه لا عذر له، ذكر أصحاب الأعذار الحقيقية، وبين إسقاط فريضة الجهاد عنهم.
التفسير والبيان:
أبان الله تعالى في هذه الآيات الأعذار التي يقبل بها القعود عن القتال، وذكر أصنافا ثلاثة من ذوي الأعذار المقبولة: وهم الضعفاء، والمرضى، والفقراء.
فقال: ليس على الضعفاء والمرضى والفقراء العاجزين عن الإنفاق في الجهاد إثم أو ذنب أو عتاب في عدم الجهاد إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، بأن أخلصوا الإيمان لله، وللرسول في الطاعة في السر والعلن، وعرفوا الحق وأحبوا أولياءه وأبغضوا أعداءه، وللأمة بالحفاظ على مصلحتها العامة العليا من كتمان السر، والحث على البر، وعدم الإرجاف والتثبيط والقضاء على الإشاعات الكاذبة أو المغرضة،
روى مسلم عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الدين النصيحة، قالوا لمن
349
يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».
والنصيحة لله وللرسول: إخلاص الإيمان بهما وطاعتهما والحب والبغض فيهما، والنصيحة لكتابه: تلاوته وتدبر معانيه والعمل بما فيه، والنصيحة لأئمة المسلمين: مؤازرتهم وترك الخروج عليهم، وإرشادهم إن أخطئوا، والنصيحة لعامة المسلمين: إرشادهم إلى طريق الحق، والعمل على تقويتهم. والنصح:
إخلاص العمل من الغش.
والضعفاء: كل من لا قدرة لهم على القتال كالشيوخ والعجزة والنساء والصبيان.
والمرضى: من طرأ لهم مرض مزمن أو مؤقت لا يتمكنون معه من الجهاد، كالزمنى والعمي والعرج، والمحمومين.
والفقراء: الذين عدموا النفقة على أنفسهم في أثناء الجهاد، وعلى عيالهم.
ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي ليس عليهم جناح ولا مؤاخذة، ولا إلى معاتبتهم طريق، ولا إثم عليهم بسبب القعود عن الجهاد.
وهذا نص عام يشمل كل من أحسن عملا من أعمال البر والخير، وهو أصل معتبر في الشريعة، في تقرير أن الأصل براءة الذمة أو البراءة الأصلية، وعدم مطالبة الغير له في نفسه وماله، فالأصل في نفسه حرمة القتل، والأصل في ماله حرمة الأخذ إلا لدليل ثابت، والأصل عدم مطالبته بشيء من التكاليف إلا بدليل مستقل.
فما دام هؤلاء المعذرون عذرا شرعيا ناصحين لله ورسوله، مخلصين أعمالهم لله، فلا مؤاخذة عليهم.
والله غفور، كثير المغفرة لهم ولأمثالهم، رحيم بهم، فلا يكلفهم ما لا طاقة
350
لهم به. أما العصاة والمنافقون فلا يغفر لهم إلا إذا تابوا وأقلعوا عن العصيان والنفاق الذي كان سببا في الإثم.
وكذلك لا حرج ولا إثم على من استعد للقتال بنفسه، ولكنه لا يجد مركبا أو نفقة ينفقها في أثناء الجهاد على نفسه وعياله، بسبب فقره، ومن أخصهم أولئك النفر من الأنصار البكاؤون، أو من بني مقرن من مزينة الذين جاؤوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليحملهم على الرواحل، أو ليمدهم بالزاد والماء والنفقة في غزوهم، فيخرجوا معه، فلم يجد ما يحملهم عليه، فانصرفوا من مجلسه، وهم يبكون بكاء شديدا بسبب حزنهم على ما فاتهم من شرف المشاركة في الجهاد، وبسبب فقدهم النفقة التي تساعدهم على الجهاد.
والتعبير بقوله: لِتَحْمِلَهُمْ يفيد عموم سائر وسائل النقل والحرب والقتال القديمة والحديثة. قال ابن عباس: سألوه أن يحملهم على الدواب.
قال محمد بن إسحاق في سياق غزوة تبوك: ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم البكاؤون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير، وعلي بن زيد أخو بنى حارثة، وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو بني مازن بن النجار، وعمرو بن الحمام بن الجموح أخو بني سلمة، وعبد الله بن المغفل المزني. وبعض الناس يقول: بل هو عبد الله بن عمرو المزني، وحرمي بن عبد الله أخو بني واقف، وعياض بن سارية الفزاري، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا أهل حاجة، فقال: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ، تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ.
وروى ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لقد خلفتم بالمدينة أقواما، ما أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديا، ولا نلتم من عدو نيلا
351
إلا وقد شركوكم في الأجر» ثم قرأ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ: لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ الآية.
وأصل الحديث في الصحيحين من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن بالمدينة أقواما ما قطعتم واديا، ولا سرتم سيرا إلا وهم معكم، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: نعم، حبسهم العذر»
وفي رواية أحمد: «حبسهم المرض».
فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت الآيات إسقاط فرضية الجهاد بسبب العذر عن أصناف ثلاثة من ذوي الأعذار وهم الضعفاء والمرضى والفقراء، وأنه لا حرج ولا إثم على المعذورين بسبب القعود عن الجهاد، وهم قوم عرف عذرهم، كأرباب الزمانة والهرم والعمى والعرج، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون.
والجمهور من العلماء على أن من لا يجد ما ينفقه في غزوة: لا يجب عليه الجهاد. وقال المالكية: إذا كانت عادته المسألة، لزمه كالحج، وخرج على العادة لأن حاله إذا لم تتغير، يتوجه الفرض عليه كتوجهه على الواجد المليء.
ودلت الآيات على أصلين عظيمين من أصول الشريعة وهما:
الأصل الأول- سقوط التكليف عن العاجز، لقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ فكل من عجز عن شيء سقط عنه، فتارة إلى بدل هو فعل، وتارة إلى بدل هو غرم، ولا فرق بين العجز من جهة القوة البدنية، أو العجز من جهة المال. ونظير هذه الآية قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة ٢/ ٢٨٦] وقوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور ٢٤/ ٦١].
الأصل الثاني- الأصل في الإنسان براءة الذمة، أو براءة المتهم حتى تثبت
352
إدانته، ويعبر عنه بعبارة: الأصل براءة الذمة، وهذا مبدأ البراءة الأصلية.
وذلك لقوله تعالى: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ فالأصل في النفس حرمة القتل، والأصل في المال حرمة الأخذ، إلا لدليل ثابت أو لدليل منفصل مستقل.
ولا تكرار بين هؤلاء وبين قوله تعالى سابقا: وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ لأن الذين لا يجدون ما ينفقون: هم الفقراء الذين ليس معهم نفقة، وهؤلاء في الآية الأخيرة هم الذين ملكوا قدر النفقة، إلا أنهم لا يجدون المركوب.
353

[الجزء الحادي عشر]

[تتمة سورة التوبة]
مؤاخذة المتخلفين الأغنياء بغير عذر
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٣]
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣)
المفردات اللغوية:
إِنَّمَا السَّبِيلُ بالمعاتبة يَسْتَأْذِنُونَكَ في التخلف عن الجهاد وَهُمْ أَغْنِياءُ واجدون للأهبة رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ استئناف لبيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر، وهو رضاهم بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف من النساء والصبيان والعجزة، إيثارا للدعة والراحة وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ختم عليها بسبب تقصيرهم حتى غفلوا عن سوء العاقبة فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ لا يدركون مغبة عملهم.
المناسبة:
لما قال الله تعالى في الآية السابقة: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ قال في هذه الآية: إنما السبيل على من كان مستأذنا من الأغنياء، أي إن طريق المعاتبة بالتخلف عن الجهاد لهؤلاء المنافقين.
التفسير والبيان:
لما بيّن الله تعالى من لا سبيل عليه وهم ذوو الأعذار بحق، ذكر من عليهم السبيل، أي إن العلامة والمعاتبة لا على المحسنين، وإنما على هؤلاء الذين يستأذنون في العقود عن الجهاد، وهم أغنياء قادرون على إعداد العدة من زاد وراحلة وسلاح وغير ذلك، فلا عذر لهم البتة، والسبب في استحقاقهم المؤاخذة:
أنهم رضوا لأنفسهم بأن يكونوا مع الخوالف والخالفين من النساء والصبيان
5
والعجزة والمرضى والمعذّرين المفسدين، فكان شأنهم قبول المهانة والمذلة والانتظام في جملة الخوالف، وذلك من أخس مظاهر الخزي والعارفي عرف العرب وغيرهم.
وقد تكرر هذا مع الآية السابقة [٨٧] لترسيخ هذا الوصف فيهم، وللتأكيد في التحذير من سوء أفعالهم.
وترتب على تقصيرهم ما قاله تعالى في الآيتين: وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ... أي وختم عليها، حتى لا يصل إليها الخير، ولا ينفذ إليها النور، فهم لذلك لا يهتدون، ولا يعلمون ما في الجهاد من منافع الدين والدنيا، بسبب ما أحاطت بهم خطاياهم وذنوبهم، فأصبحوا لا يدركون حقيقة أمرهم، وسوء عاقبتهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
الإسلام دين العقل والمنطق والواقعية، كما أنه دين الرحمة والحق والعدل، لذا فإنه تعالى نفى السبيل على المحسنين، أي رفع العقوبة والإثم عن المؤمنين ذوي الأعذار، وأوجب العقوبة والمأثم على المنافقين المستأذنين وهم أغنياء ذوو قدرة على الجهاد بالمال والنفس. وقد كرر تعالى ذكرهم للتأكيد في التحذير من سوء أفعالهم.
فلا عذر لهم بالتخلف عن الجهاد، وإنما كان السبب في استئذانهم رضاهم بالدناءة والخسة، وخذلان الله تعالى إياهم، وأن الله طبع على قلوبهم، بسبب سوء أعمالهم.
ويا لها من خسارة! فقد شلّ فيهم عنصر أو أداة التمييز بين الخير والشر، وبين المصلحة والضرر. وإنهم خسروا الدنيا والآخرة، ففي الدنيا أصبحوا قوما منبوذين عن المجتمع، وفي الآخرة ينتظرهم العذاب الأليم.
6
اعتذار المنافقين المتخلفين عن غزوة تبوك وحلفهم الأيمان الكاذبة
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦)
الإعراب:
قَدْ نَبَّأَنَا نبّأ: بمعنى أعلم، وهو يتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، ويجوز أن يقتصر على واحد، ولا يجوز أن يقتصر على اثنين دون الثالث. ولهذا لا يجوز أن يكون نُؤْمِنَ في قوله:
مِنْ أَخْبارِكُمْ زائدة، وإنما تعدى إلى مفعول واحد، ثم تعدى بحرف جر.
جَزاءً بِما... يجوز أن يكون مصدرا، وأن يكون علة أي مفعولا لأجله.
البلاغة:
عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ بينهما طباق، وقوله: ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ.. أي إليه، فوضع الوصف موضع الضمير، للدلالة على أنه مطلع على سرّهم وعلنهم، لا يفوت عليه شيء من ضمائرهم وأعمالهم.
لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ فيه أيضا إظهار في موضع الإضمار لزيادة التشنيع والتقبيح، وأصله: لا يرضى عنهم.
7
المفردات اللغوية:
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ في التخلف إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ من الجهاد أو من هذه السفرة لا تَعْتَذِرُوا بالمعاذير الكاذبة لأنّه لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ لن نصدقكم لأنه قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ أي أخبرنا بأحوالكم، وأعلمنا بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم، وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ هل تتوبون عن الكفر أم تبقون عليه، وكأنه إعطاء فرصة للتوبة ثُمَّ تُرَدُّونَ بالبعث إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي إلى الله. والغيب: كل ما غاب عنك علمه. والشهادة: كل ما تشهده وتعرفه من عالم الحس فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه بالتوبيخ والعقاب عليه انْقَلَبْتُمْ رجعتم إليهم ووصلتم من تبوك لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ لتصفحوا عنهم ولا تعاتبوهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ولا توبخوهم إِنَّهُمْ رِجْسٌ قذر، لخبث باطنهم، فيجب الإعراض عنهم، ولا ينفع فيهم التأنيب وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ من تمام التعليل، أي إن النار كفتهم عتابا، فلا تتكلفوا عتابهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ... المقصود من الآية: النهي عن الرضا عنهم والاغترار بمعاذيرهم، بعد الأمر بالإعراض وعدم الالتفات نحوهم. فلا ينفع رضاكم مع سخط الله وتأكد عقابه إياهم.
سبب النزول:
روي عن ابن عباس أن هذه الآيات نزلت في الجدّ بن قيس، ومعتّب بن قشير وأصحابهما من المنافقين، وكانوا ثمانين رجلا، أمر النبي صلى الله عليه وسلّم المؤمنين لما رجعوا إلى المدينة بألا يجالسوهم ولا يكلموهم.
وقال قتادة ومقاتل: إنها نزلت في عبد الله بن أبيّ، فإنه حلف للنبي صلى الله عليه وسلّم بعد عودته ألا يتخلف عنه أبدا، وطلب أن يرضى عنه، فلم يفعل.
المناسبة:
بعد أن لام الله تعالى المنافقين المعذّرين الذي انتحلوا الأعذار للتخلف عن غزوة تبوك، وعذر المحقين من أصحاب الأعذار، ورفع الحرج عن الضعفاء والمرضى والفقراء، أخبر المؤمنين بما سيكون من أمر المنافقين الذين تخلفوا في
8
المدينة وما حولها عن تبوك، بعد عودتهم. وهذا من شأن الوحي على النبي صلى الله عليه وسلّم ومن الإخبار عن المغيبات في المستقبل.
التفسير والبيان:
هذا كلام مستأنف قصد به الإخبار عن المنافقين إذا رجع المؤمنون من تبوك إليهم، أنهم يعتذرون إليكم أيها المؤمنون عن سيئاتهم وتخلفهم عن القتال بغير عذر إذا رجعتم إليهم من غزوة تبوك. قل لهم أيها الرسول: لا تعتذروا بالأعذار الكاذبة لأنا لن نصدقكم أبدا.
والسبب في عدم تصديقكم أن الله قد أخبرنا سلفا بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم وأحوالكم: وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد ومناقصة الحقائق. وسيرى الله عملكم ورسوله، أي سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا، ويعلم مستقبلكم من الإصرار على النفاق أو التوبة منه، فإن تبتم فإن الله يتقبل توبتكم، ويغفر لكم ذنوبكم، وإن مكثتم فيما أنتم عليه من النفاق، عاملكم الرسول بما تستحقون.
وفي هذا ترغيب لهم بالتوبة وإمهال لإظهارها وإصلاح شؤونهم.
ثم يكون مصيركم إلى الله عالم الغيب والشهادة، فيعلم ما تكتمون وما تعلنون، فيخبركم بأعمالكم خيرها وشرها، ويجزيكم عليها، علما بأنكم أشد عذابا من الكفار، كما قال تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء ٤/ ١٤٥] وقوله: فَيُنَبِّئُكُمْ... تصريح بالتوبيخ والعقاب على أعمالهم.
وهذا يتضمن ضرورة تجنب المعاذير الكاذبة، وتحاشي كل ما يعتذر منه من السيئات، كما
قال صلى الله عليه وسلّم فيما رواه الضياء عن أنس: «إياك وكل أمر يعتذر منه».
ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم سيؤكدون تلك الأعذار بالأيمان الكاذبة، فقال:
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ... أي إنهم سيحلفون لكم بالله معتذرين، لتعرضوا عنهم،
9
فلا تعاتبوهم ولا تؤنبوهم على قعودهم مع الخالفين من النساء وأمثالهم.
فأعرضوا عنهم ولا توبخوهم، احتقارا لهم لأنهم رجس أي قذر معنوي، وخبث نجس بواطنهم واعتقاداتهم، لا يقبلون التطهير، وهذا علة الإعراض وترك المعاتبة.
ومأواهم في آخرتهم جهنم، جزاء بما كانوا يكسبون في الدنيا من الآثام والخطايا. وهذا من تمام التعليل، وكأنه قال: إنهم أرجاس من أهل النار، لا ينفع فيهم التوبيخ في الدنيا والآخرة.
ثم أعلمنا الله تعالى بأن أيمانهم الكاذبة التي يحلفونها هي مجرد استرضاء لكم، لتستديموا في معاملتهم كأهل الإسلام.
وإنكم إن رضيتم عنهم، فلا ينفعهم رضاكم، إذا كانوا في سخط الله وبصدد عقابه، بسبب فسقهم، أي خروجهم عن طاعة الله وطاعة رسوله، فليكن همهم إرضاء الله ورسوله، لا إرضاؤكم، كما قال تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ مَعَهُمْ
[النساء ٤/ ١٠٨] وقال سبحانه: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الحشر ٥٩/ ١٣].
وهذا إرشاد إلى منع المؤمنين من الرضا عنهم، والاغترار بأيمانهم الكاذبة، وكفى بالله شهيدا، وكفى بالله عليما ومعلما للمؤمنين طريق الاستقامة والصواب ومواقف الحزم والسداد.
ونظرا لأهمية هذه المعاني أعيدت هنا مرة أخرى، ويكون الكلام شاملا مناهج المنافقين كلهم، سواء كانوا من أهل الحضر وهم من سبق أو من أهل البادية، وهم المقصودون هنا.
10
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
١- عدم تصديق المنافقين في اعتذاراتهم، بعد إعلام الله بحقيقة أمرهم وأخبارهم.
٢- المستقبل خير شاهد وكفيل لإظهار كذب المنافقين.
٣- الله تعالى عالم بكل شيء، يعلم السر وأخفى، ويعلم ما في بواطن المنافقين من خبث ومكر ونفاق، وكذب وكيد. وفي هذا تخويف شديد، وزجر عظيم لهم.
٤- الجزاء على الأعمال ثابت، يردع كل فاسق وعات وظالم.
٥- المنافقون أنجاس أرجاس رجسا معنويا يقتضي الاحتراز عنهم، كما يجب الاحتراز عن الأرجاس الحسية، خوفا من التأثر بأعمالهم والميل إلى طبائعهم.
وزادهم رجسا أنهم حصب جهنم هم لها واردون، جزاء بما كسبوا في الدنيا من أعمال النفاق وخبث الأفعال وسوء الأخلاق.
٦- ينبغي الابتعاد عن كل ما يقتضي الاعتذار من الذنوب والسيئات.
٧- لا ينفع رضا الناس مع سخط الله، فإن المعول عليه عند العقلاء وأهل الإيمان الحق التماس رضا الله تعالى،
أخرج الترمذي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من التمس رضاء الله بسخط الناس، كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضاء الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس».
٨- إن سخط الله على المنافقين وأمثالهم إنما هو بسبب فسقهم وخروجهم عن دائرة الطاعة الواجبة لله وللرسول.
11
كفر الأعراب ونفاقهم وإيمانهم
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٩)
الإعراب:
عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ مبتدأ مؤخر وخبر مقدم، والدائرة في الأصل: مصدر أو اسم فاعل من دار يدور، سمي بها دورة الزمان، وهي هنا ما يحيط بالإنسان حتى لا يجد له منه مخلصا، وأضيفت إلى السوء (بضم السين وفتحها) للمبالغة والتأكيد والبيان، كقولهم: شمس النهار، ورجل صدق.
قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ قُرُباتٍ: مفعول ثان ليتخذ، وعِنْدَ اللَّهِ: صفتها، أو ظرف ليتخذ.
البلاغة:
سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مجاز مرسل أي في جنته، من باب إطلاق الحال وإرادة المحل أي محل الرحمة.
المفردات اللغوية:
الأعراب لفظ عام معناه الخصوص في جماعة من أهل البدو من العرب، والعرب: من ينطق بالعربية، سواء البدو والحضر وسميت العرب عربا لأن ولد إسماعيل نشؤوا من عربة، وهي
12
من تهامة، فنسبوا إليها أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً من أهل المدن، لجفائهم وغلظ طباعهم، وبعدهم عن سماع القرآن وَأَجْدَرُ أحق وأولى أَلَّا يَعْلَمُوا بأن لا يعلموا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ من الأحكام والشرائع عَلِيمٌ بخلقه حَكِيمٌ في صنعه بهم.
مَغْرَماً غرامة وخسرانا لازما لأنه لا يرجو ثوابه، بل ينفقه خوفا، وهم أسد وغطفان وَيَتَرَبَّصُ ينتظر بِكُمُ الدَّوائِرَ دوائر الزمان ذات الضرر والسوء أن تنقلب عليكم فيتخلص من الإنفاق عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربصونه، أو الإخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم، أي يدور العذاب والهلاك عليهم، لا عليكم، والسوء: اسم لما يسوء ويضر وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوال الناس ولما يقولون عند الإنفاق عَلِيمٌ بأفعالهم وبما يضمرون.
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ كجهينة ومزينة قُرُباتٍ جمع قربة: وهي ما يتقرب به إلى الله تعالى، ويقصد بها هنا اتخاذ المنزلة والمكانة عند الله وَصَلَواتِ الرَّسُولِ جمع صلاة ويراد بها هنا دعاؤه واستغفاره، فالصلاة من الله تعالى: الرحمة والخير والبركة، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ [الأحزاب ٣٣/ ٤٣] والصلاة من الملائكة: الدعاء، وكذا هي من النبي صلى الله عليه وسلّم كما قال تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة ٩/ ١٠٣] أي دعاؤك تثبيت لهم وطمأنينة أَلا استئناف بحرف التنبيه إِنَّها أي نفقتهم قُرْبَةٌ لَهُمْ أي تقرّبهم من رحمة الله سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ جنته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لأهل طاعته رَحِيمٌ بهم.
سبب النزول:
نزول الآية (٩٧) :
الْأَعْرابِ.. قال الواحدي: نزلت في أعاريب من أسد وغطفان، ومن أعاريب حاضري المدينة.
نزول الآية (٩٩) :
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ.. أخرج ابن جرير الطبري عن مجاهد أنها نزلت في بني مقرّن الذين نزلت فيهم: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ. [التوبة ٩/ ٩٢] وأخرج عن عبد الرحمن بن معقل المزني قال: كنا عشرة ولد مقرّن، فنزلت فينا هذه الآية.
13
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أحوال العرب مؤمنيهم ومنافقيهم بالمدينة، ذكر أحوال الأعراب خارج المدينة وهم سكان البادية، وأخبر أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين. ويرى الرازي أن هذه الآيات كسابقتها مباشرة تخاطب منافقي الأعراب وأصحاب البوادي أي الصحاري. ويرى المفسرون الآخرون أن ما سبق كله في منافقي المدينة وهذا في منافقي الأعراب.
التفسير والبيان:
إن كفر بعض الأعراب سكان البادية ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد، وأحرى وأولى ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله أي فرائض الشرع لأنهم أغلظ طبعا وأقسى قلبا، وأكثر جهلا،
روى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السلطان افتتن»
ورواه أبو داود والبيهقي أيضا عن أبي هريرة مرفوعا، وزاد فيه: «وما ازداد أحد من سلطانه قربا إلا ازداد من الله بعدا»
لأن السلاطين لا يريدون غالبا النصح وصراحة القول، فلا يتقرب منهم إلا المراؤون عادة. والله عليم واسع العلم بأحوال خلقه من أهل المدن والبوادي، حكيم فيما شرعه لهم وفيما يجازي محسنهم ثوابا ومسيئهم عقابا.
وليس هذا طعنا في الأعراب وإنما هو وصف لأحوالهم، وذم لواقعهم ما داموا راضين به، وكل من نزل البادية فهم أعراب. وأما من استوطن القرى والبلاد فهم عرب، ولا يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنما هم عرب،
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «حب العرب إيمان» «١».
(١) حديث ضعيف رواه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك.
14
ومن الأعراب أناس ينفقون أموالهم رياء أو تقيّة، وتقربا للمسلمين ويعدون ذلك مغرما وخسارة لأنهم لا يرجعون به ثوابا عند الله، وينتظرون بكم الحوادث والآفات، فيتخلصون من الإنفاق، وقد كانوا يتوقعون انتصار المشركين على المؤمنين، فلما يئسوا انتظروا موت النبي صلى الله عليه وسلّم ظنا منهم أن الإسلام ينتهي بموته.
روي أنهم أسد وغطفان كانوا يفعلون ذلك. فرد الله عليهم: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ أي هي منعكسة عليهم، والسوء دائر عليهم وحدهم، أو أن هذا دعاء عليهم بنحو ما ينتظرونه في المسلمين، وقد تحقق هذا الدعاء، فدارت دائرة السوء والشر عليهم، وأصيبوا بالهزيمة والخيبة والخذلان، والله سميع لما يقولون عند الإنفاق، ولدعاء عباده عليهم، عليم بما يضمرون وبمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان، كما قال تعالى: قُلْ: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا [التوبة ٩/ ٥٢].
وكما أن في الأعراب كفارا ومنافقين، فيهم أيضا مؤمنون لقوله تعالى:
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ... أي وبعض آخر من الأعراب يؤمنون إيمانا صحيحا، مثل جهينة ومزينة، وبنو أسلم وغفار، وقال مجاهد: هم بنو مقرّن من مزينة، وهم الذين قال الله فيهم: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ وهؤلاء الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله تعالى، ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم، أي صلواته.
ألا إن ذلك قربة حاصلة لهم، وهذا شهادة من الله بصحة معتقدهم، وتصديق لرجائهم وتمنيهم، على الاستئناف مع حرف التنبيه، وإنّ المحققة للنسبة. وضمير إِنَّها لنفقتهم.
سيدخلهم الله في رحمته أي في جنته ورضوانه، وهذا وعد لهم بإحاطة الرحمة
15
بهم، إن الله غفور رحيم واسع المغفرة والرحمة للمخلصين في أعمالهم، فهو يستر لهم ما فرط منهم من ذنب أو تقصير، ويرحمهم بهدايتهم إلى صالح الأعمال المؤدية إلى حسن الختام والمصير، وإحاطة الرحمة في هذه الآية أبلغ في إثباتها لهم في مثل قوله تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ [التوبة ٩/ ٢١].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أن في الأعراب كفارا ومنافقين ومؤمنين. أما الكفار والمنافقون فهم أشد كفرا ونفاقا من غيرهم، بسبب قسوة البيئة التي يعيشون فيها، وضعف مستوى الثقافة والمعرفة والعلم في أوساطهم، مما يجعلهم قساة الطباع والأكباد والقلوب، ويرتعون في مفاسد الجهل والأهواء ونقص السياسة والتأديب.
وهم أيضا لذلك أولى بألا يعلموا حدود الشرائع ومقادير التكاليف والأحكام وما أنزله الله على رسوله بالوحي الثابت.
وترتب على ذلك أحكام ثلاثة «١» :
أولها- لا حق لهم في الفيء والغنيمة، كما
قال النبي صلى الله عليه وسلّم في صحيح مسلم من حديث بريدة: «ثم أدعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم بأنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا عنها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين».
(١) تفسير القرطبي: ٨/ ٢٣٢
16
وثانيها- إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة لما في ذلك من تحقق التهمة. وأجازها أبو حنيفة قال: لأنها لا تراعى كل تهمة، والمسلمون كلهم عنده على العدالة. وأجازها الشافعي إذا كان عدلا مرضيا، قال القرطبي: وهو الصحيح.
وثالثها- أن إمامتهم بأهل الحاضرة ممنوعة لجهلهم بالسنة، وتركهم الجمعة. وقال الشافعي والحنيفة: الصلاة خلف الأعرابي جائزة.
ومن الأعراب جماعة منافقون يعدون النفقة خسارة، وينتظرون أن تحيط الدواهي والمصائب والحوادث بالمسلمين ليتخلصوا من الإنفاق. فقوله:
وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ يعني الموت والقتل، وانتظار موت الرسول صلى الله عليه وسلّم، وانتصار المشركين. ولكن الأمر سيكون بالعكس مما يتوقعون، فعليهم وحدهم دائرة العذاب والبلاء.
وبعض آخرون من الأعراب مؤمنون، وصفهم الله بوصفين:
الأول: كونهم مؤمنين بالله واليوم الآخر، وهذا دليل على أنه لا بد في جميع الطاعات حتى الجهاد من تقدم الإيمان.
والثاني: كونهم ينفقون أموالهم تقربا إلى الله تعالى، وبقصد التوصل إلى صلوات الرسول صلى الله عليه وسلّم أي استغفاره ودعائه لأن الرسول صلى الله عليه وسلّم كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة، ويستغفر لهم،
كقوله: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى»
وقال تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ كما تقدم.
وقد شهد الله تعالى بقوله: أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ للمتصدق بصحة ما اعتقد من كون نفقته قربات وصلوات، أي إن نفقاتهم تقربهم من رحمة الله، وذلك حاصل لهم، وهو وعد من الله، والله لا يخلف الميعاد.
17
أصناف الناس في المدينة وما حولها
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٢]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢)
الإعراب:
وَالسَّابِقُونَ مبتدأ، وخبره رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ومعناه: رضي الله عنهم لأعمالهم وكثرة طاعاتهم.
وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عطف على: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ أو خبر لمحذوف تقديره: قوم مردوا على النفاق، فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه. مثل: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا.
البلاغة:
عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً بين الصالح والسيء طباق.
المفردات اللغوية:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وهم من شهد بدرا، أو الذين صلوا إلى القبلتين، أو الذين أسلموا قبل الهجرة، وأهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير، أو جميع الصحابة وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ اللاحقون بالسابقين من الفئتين، أو الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم
18
القيامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي قبل طاعتهم وارتضى أعمالهم وَرَضُوا عَنْهُ بما نالوا من نعمه الدينية والدنيوية، أو بما أفاض عليهم من نعمه الجليلة في الدين والدنيا.
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ ممن حول بلدتكم المدينة يا أهل المدينة مُنافِقُونَ هم جهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار، كانوا نازلين حولها مَرَدُوا مرنوا وحذقوا واستمروا لا تَعْلَمُهُمْ لا تعرفهم بأعيانهم أيها النبي سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ بالفضيحة والقتل في الدنيا، وعذاب القبر، أو بأخذ الزكاة وإنهاك الأبدان ثُمَّ يُرَدُّونَ في الآخرة إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ هو النار.
خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً هو الجهاد السابق قبل ذلك أو إظهار الندم والتوبة وَآخَرَ سَيِّئاً وهو تخلفهم، وهم أبو لبابة وجماعة من المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد، لما بلغهم ما نزل في المتخلفين، وحلفوا ألا يحلهم إلا النبي صلى الله عليه وسلّم، فحلّهم لما نزلت عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أن يقبل توبتهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه.
سبب النزول:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ: الصحيح عند الرازي أنهم السابقون في الهجرة وفي النصرة.
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ: قال البغوي، والواحدي نقلا عن الكلبي: نزلت في جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار من أهل المدينة أي كانوا حول المدينة، يعني عبد الله بن أبيّ، وجدّ بن قيس، ومعتّب بن قشير، والجلاس بن سويد، وأبي عامر الراهب.
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ:
أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فتخلّف أبو لبابة وخمسة معه، ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكروا وندموا، وقالوا لنوثقن أنفسنا بالسواري فلا نطلقها، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو الذي يطلقها، ففعلوا، وبقي ثلاثة نفر لم يوثقوا أنفسهم، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من غزوة، فقال: من هؤلاء الموثقون بالسواري؟ فقال رجل: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم، فقال: لا أطلقهم حتى أؤمر
19
بإطلاقهم، فأنزل الله: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الآية. فلما نزلت أطلقهم وعذرهم، وبقي الثلاثة الذين لم يوثقوا أنفسهم لم يذكروا بشيء، وهم الذين قال الله فيهم: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ الآية، فجعل أناس يقولون: هلكوا إذ لم ينزل عذرهم، وآخرون يقولون: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، حتى نزلت: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى فضائل قوم من الأعراب ينفقون تقربا إلى الله تعالى ومن أجل دعاء الرسول، أبان فضائل قوم أعلى منهم منزلة وأعظم، وهي منازل السابقين الأولين، ثم أتبعهم ببيان حال طائفة من منافقي المدينة وما حولها، وإن كانوا غير معلومين بأعيانهم، وحال طائفة أخرى خلطوا صالح العمل بسيئه وهؤلاء يرجى قبول توبتهم، ثم عاد بعدئذ لبيان حال طائفة أخرى يرجى أمر قبول توبتهم إلى الله: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ [الآية: ١٠٦].
التفسير والبيان:
يخبر الله تعالى عن رضاه على أرفع منزلة في المسلمين وتفضيلهم على من عداهم، وهم السابقون الأولون، وهم ثلاث طبقات:
الأولى: السابقون الأولون من المهاجرين الذين هاجروا قبل صلح الحديبية، فتقدموا على غيرهم في الهجرة والنصرة. وأفضل هؤلاء الخلفاء الراشدون الأربعة، ثم العشرة المبشرون بالجنة، وأول السابقين من المهاجرين:
أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأن المعول عليه في السبق: الإيمان والهجرة والجهاد والبذل والنصرة.
والثانية: السابقون الأولون من الأنصار: وهم أصحاب بيعة العقبة الأولى
20
في منى سنة إحدى عشرة من البعثة، وكانوا سبعة، ثم أصحاب بيعة العقبة الثانية، وكانوا سبعين رجلا وامرأتين.
والثالثة: التابعون للأولين بإحسان: أي بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة.
وهؤلاء جميعا رضي الله عنهم بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم، ورضوا عنه بما أسبغ عليهم من نعمه الدينية والدنيوية، فانقذهم من الشرك والضلال، ووفقهم إلى الخير، وهداهم إلى الحق، وأعزهم وأغناهم، وأعز بهم الإسلام، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها أبدا، وذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز غيره، وهو فوز شامل، كما أن نعيم الجنة شامل للبدن والروح معا.
ويلاحظ أن الاتباع المطلوب هو الاتباع بإحسان، أي إحسان الأعمال والنيات والظواهر والبواطن، أما الاكتفاء بظاهر الإسلام فلا يحقق شرط الإحسان. وحينئذ ينطبق عليهم قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران ٣/ ١١٠] وقوله عز وجل: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة ٢/ ١٤٣].
ثم أخبر الله تعالى عن فئة المنافقين حول المدينة وفيها، فقال: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ... أي إن في المدينة وما حولها مردة المنافقين الذين مرنوا على النفاق وأتقنوه، وثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا، وهم مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار، الذين كانت منازلهم حول المدينة، وكان جماعة منهم آخرون في المدينة من الأوس والخزرج، لا تعلمهم أو لا تعرفهم بأعيانهم أيها النبي، ولا تعلم عاقبة أمورهم، وإنما نحن نختص بعلمها وبمعرفتهم، كما قال تعالى فيهم: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ. وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ [محمد ٤٧/ ٢٩- ٣٠].
وقوله وَمِمَّنْ يشير إلى بعضهم، أما الآخرون فهم مؤمنون بدليل
21
ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأشجع وغفار موالي لله تعالى، لا موالي لهم غيره» وقال صلى الله عليه وسلّم أيضا داعيا لبعضهم: «أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها، أما إني لم أقلها، لكن قالها الله تعالى».
هؤلاء المنافقون سنعذبهم في الدنيا مرتين: بالفضيحة والمصائب في أموالهم وأولادهم أولا، ثم بآلام الموت وعذاب القبر ثانيا، أو بأخذ الأموال وإنهاك الأبدان. قال ابن عباس: بالأمراض في الدنيا وعذاب الآخرة، فمرض المؤمن كفارة، ومرض الكافر عقوبة.
ثم يكون لهم عذاب جهنم، وهو أشد العذاب.
والغرض من الآية بيان مضاعفة العذاب عليهم.
وهناك فريق آخر حول المدينة وفيها وهم: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ أي إنهم جماعة أقروا بمعاصيهم واعترفوا بها لربهم، ولهم أعمال آخر صالحة، خلطوا هذه بتلك، فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه، إن الله غفور لمن تاب، رحيم بمن أحسن وأناب: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف ٧/ ٥٦].
وهذه الآية، وإن كانت نزلت في أناس معينين إلا أنها عامة في كل المذنبين الخطائين المخلطين المتلوثين. قال مجاهد: إنها نزلت في أبي لبابة لما قال لبني قريظة: إنه الذبح، وأشار بيده إلى حلقه. وقال ابن عباس وآخرون: نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، فقال بعضهم: أبو لبابة وخمسة معه، وقيل: وسبعة معه، وقيل: وتسعة معه... إلخ ما ذكر في سبب النزول.
22
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار: وهم الذين سبقوا إلى الهجرة قبل صلح الحديبية، وإلى النصرة في بيعتي العقبة الأولى والثانية. وقيل:
هم الذين صلوا إلى القبلتين، أو الذين شهدوا بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية، أو أهل بدر.
وأفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة المبشرين بالجنة، ثم البدريون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية. ولا خلاف أن أول السابقين من المهاجرين أبو بكر الصديق.
وقال ابن العربي: السبق يكون بثلاثة أشياء: وهو التقدم في الصفة أو في الزمان أو في المكان، فالصفة: الإيمان، والزمن: لمن حصل في أوان قبل أوان، والمكان: من تبوّأ دار النصرة واتخذه بدلا عن موضع الهجرة. وأفضل هذه الوجوه: سبق الصفات. والدليل عليه
قول النبي صلى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «نحن الآخرون الأولون، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم.
فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فاليهود غدا، والنصارى بعد غد»

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم أن من سبقنا من الأمم بالزمان، فجئنا بعدهم، سبقناهم بالإيمان، والامتثال لأمر الله تعالى، والانقياد إليه، والاستسلام لأمره، والرضا بتكليفه، والاحتمال لوظائفه، لا نعترض عليه، ولا نختار معه، ولا نبدّل بالرأي شريعته، كما فعل أهل الكتاب، وذلك بتوفيق الله لما قضاه، وبتيسيره لما يرضاه، وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله «١».
(١) أحكام القرآن: ٢/ ٩٩٠، ٩٩٣
23
والصحابي في علم الحديث: كل مسلم رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم. والتابعي: من صحب الصحابي. قال أحمد بن حنبل: أفضل التابعين سعيد بن المسيّب، فقيل له: فعلقمة والأسود؟ فقال: سعيد بن المسيب، وعلقمة والأسود. وفي التابعين طبقة تسمى المخضرمين: وهم الذين أدركوا الجاهلية وحياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأسلموا ولا صحبة لهم، وعددهم كما ذكر مسلم عشرون نفسا، منهم أبو عمرو الشيباني، وسويد بن غفلة الكندي، وعمرو بن ميمون الأودي. وممن لم يذكره مسلم:
أبو مسلم الخولاني عبد الله بن ثوب، والأحنف بن قيس.
لكن رجح الرازي: أن السبق ليس في زمن الإيمان أو الإسلام لأن لفظ السابق مجمل أو مطلق، يمكن حمله على السبق في سائر الأمور، لكن وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصارا، فوجب صرف ذلك اللفظ إلى ما به صاروا مهاجرين وأنصارا، وهو الهجرة والنصرة، فوجب أن يكون المراد منه: السابقون الأولون في الهجرة والنصرة، إزالة للإجمال عن اللفظ «١».
٢- الرضا الدائم عنهم لأن قوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ يتناول جميع الأحوال والأوقات، بدليل أنه لا وقت ولا حال إلا ويصح استثناؤه منه، مثل وقت طلب الإمامة، ولأن ذلك الحكم معلل بكونهم سابقين في الهجرة، والسبق في الهجرة وصف دائم في جميع مدة وجوده، ولأن إعداد الجنات لهم يقتضي بقاءهم على تلك الصفة التي لأجلها صاروا مستحقين لتلك الجنات.
وبعض العلماء أثبت هذا المدح لجميع الصحابة لأن كلمة مِنَ في قوله: مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ليست للتبعيض، بل للتبيين، فأوجب الله لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم الجنة والرضوان. وشرط على التابعين شرطا هو أن
(١) تفسير الرازي: ١٦/ ١٦٨- ١٦٩
24
يتبعوهم بإحسان في العمل: وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك.
٣- الرضا عن التابعين والثواب إلى يوم القيامة مشروط باتباع الصحابة بإحسان، أي إحسان القول والعمل، فمن لم يحسن القول في المهاجرين والأنصار لا يكون مستحقا للرضوان من الله تعالى، ولا يكون من أهل الثواب لهذا السبب.
٤- هناك قوم منافقون مردوا على النفاق، أي ثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا عنه، وهم قوم من الأعراب حول المدينة، يعني مزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع، وقوم من أهل المدينة أيضا. وهؤلاء لهم عذاب مضاعف: في الدنيا بالأمراض والمصائب، وفي الآخرة بالإصلاء (الإلقاء) في نار جهنم. وقيل:
بالفضيحة في الدنيا، ثم عذاب القبر. وقيل بغير ذلك. والأولى في رأي الرازي حمل قوله تعالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ على عذاب الدنيا بجميع أقسامه، وعذاب القبر، وأما قوله: ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ يراد منه العذاب في يوم القيامة.
٥- ومن أهل المدينة ومن حولها قوم أقروا بذنبهم، وآخرون مرجون لأمر الله، يحكم فيهم بما يريد. والصنف الأول: إما قوم من المنافقين، تابوا عن النفاق وما مردوا عليه، أو إنهم قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك، لا للكفر والنفاق، لكن للكسل، ثم ندموا على ما فعلوا ثم تابوا.
ومجرد الاعتراف بالذنب لا يكون توبة وإنما هو مقدمة للتوبة، فإذا اقترن به الندم على الماضي، والعزم على تركه في المستقبل، كان ذلك توبة.
وقد تاب هؤلاء لقوله تعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ والمفسرون قالوا: إن (عسى) من الله يدل على الوجوب.
25
قال ابن عباس: نزلت في عشرة تخلفوا عن غزوة تبوك، فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد. وقال بنحوه قتادة، وقال: وفيهم نزل: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً وهي الآية التالية.
أخذ الصدقة وقبول التوبة والأمر بالعمل الصالح
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٥]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
الإعراب:
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ جملتان فعليتان في موضع نصب على الحال من ضمير خُذْ أو أن يكون تُطَهِّرُهُمْ وصفا لصدقة، وتزكيهم: حالا من ضمير: خُذْ.
البلاغة:
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ فيه تشبيه بليغ، وأصله كالسكن، فحذفت أداة التشبيه ووجه الشبه.
أَلَمْ يَعْلَمُوا استفهام للتقرير في النفس، قصد به حثهم على التوبة والصدقة.
وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ مجاز عن قبوله لها.
المفردات اللغوية:
صَدَقَةً ما ينفقه المؤمن قربة لله وَتُزَكِّيهِمْ بِها تنمي بها حسناتهم وترفعهم إلى منازل
26
المخلصين، فأخذ ثلث أموالهم وتصدق بها. وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ادع لهم واستغفر سَكَنٌ أي تسكن إليها نفوسهم وتطمئن بها قلوبهم، والسكن في الأصل: ما تسكن إليه النفس وترتاح من منزل وأهل ومال ودعاء وثناء وَاللَّهُ سَمِيعٌ لاعترافهم عَلِيمٌ بندامتهم وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ يقبلها التَّوَّابُ صيغة مبالغة، أي يقبل توبة عباده الرَّحِيمُ بهم، صيغة مبالغة أيضا.
اعْمَلُوا ما شئتم وَسَتُرَدُّونَ بالبعث إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الله فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يجازيكم به
سبب النزول: نزول الآية (١٠٣) :
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ:
أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن هؤلاء الذين أطلقهم النبي صلى الله عليه وسلّم من سواري المسجد لما اعترفوا بذنوبهم وتاب الله عليهم، وهم أبو لبابة وأصحابه، جاؤوا بأموالهم، فقالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا التي كانت سببا في تخلفنا، فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا، فأنزل الله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً الآية. فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلّم من أموالهم الثلث.
قال الحسن البصري: وكان ذلك كفارة الذنب الذي حصل منهم. وقال جماعة من الفقهاء: المراد بهذه الآية الزكاة المفروضة، وعلى هذا يكون قوله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ هو لجميع الأموال والناس، وهو عام يراد به الخصوص في الأموال، إذ يخرج عنه الأموال التي لا زكاة فيها كالديار والثياب «١».
وهذا النص، وإن كان خاصا بالرسول صلى الله عليه وسلّم، وذا سبب خاص، فهو عام يشمل خلفاء الرسول ومن بعدهم من أئمة المسلمين، لذا قاتل أبو بكر الصديق وسائر الصحابة مانعي الزكاة من أحياء العرب، حتى أدّوا الزكاة إلى الخليفة، كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال الصدّيق: «والله لو منعوني عقالا- أو عناقا- كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لأقاتلنهم على منعه».
(١) البحر المحيط: ٥/ ٩٥
27
المناسبة وتعيين المراد بالصدقة:
إذا كان المقصود من كلمة صَدَقَةً كفارة الذنب الذي صدر من المتخلفين عن غزوة تبوك، كما قال الحسن البصري فيما تقدم، فالمناسبة بين هذه الآية وما قبلها واضحة لأن المراد علاج خطأ هذه الفئة من الناس، وتكون الآية خاصة بهم. ويمكن تعميم المراد بالآية بأن يقال: إنكم لما رضيتم بإخراج الصدقة التي هي غير واجبة، فلأن تصيروا راضين بإخراج الواجبات أولى.
وأما إذا كان المقصود من الآية الزكوات الواجبة أو إيجاب أخذ الزكاة من الأغنياء، وهو رأي أكثر الفقهاء، وهو الصحيح، فالمناسبة تكون على النحو التالي: لما أظهر هؤلاء التوبة والندامة عن تخلفهم عن غزوة تبوك، وأقروا بأن السبب الموجب لذلك التخلف هو حبهم للأموال، وشدة حرصهم على صونها عن الإنفاق، فكأنه قيل لهم: إنما تظهر صحة قولكم في ادعاء هذه التوبة والندامة لو أخرجتم الزكاة الواجبة لأن الدعوى لا تتقرر إلا بالمعنى، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. فإن أدوا تلك الزكوات عن طيب نفس، ظهر كونهم صادقين في توبتهم، وإلا فهم كاذبون.
ومما يدل على أن المراد الصدقات الواجبة قوله: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها أي تطهرهم عن الذنب بسبب أخذ تلك الصدقات.
قال الجصاص: والصحيح أنها الزكوات المفروضة، إذ لم يثبت أن هؤلاء القوم أوجب الله عليهم صدقة دون سائر الناس، سوى زكوات الأموال، وإذا لم يثبت بذلك خبر، فالظاهر أنهم وسائر الناس سواء في الأحكام والعبادات، وأنهم غير مخصوصين بها دون غيرهم من الناس.
ولأنه إذا كان مقتضى الآية وجوب هذه الصدقة على سائر الناس لتساوي الناس في الأحكام إلا من خصه دليل، فالواجب أن تكون هذه الصدقة واجبة
28
على جميع الناس، غير مخصوص بها قوم دون قوم، وإذا ثبت ذلك كانت هي الزكاة المفروضة إذ ليس في أموال سائر الناس حق سوى الصدقات المفروضة.
وقوله: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها لا دلالة فيه على أنها صدقة مكفرة للذنوب غير الزكاة المفروضة لأن الزكاة المفروضة أيضا تطهر وتزكي مؤديها، وسائر الناس في المكلفين محتاجون إلى ما يطهرهم ويزكيهم «١».
التفسير والبيان:
خذ أيها الرسول وكل حاكم مسلم بعدك من أموال هؤلاء التائبين ومن غيرهم صدقة مقدرة بمقدار معين، تطهرهم بها من داء البخل والطمع، وتزكي أنفسهم بها، وتنمي بها حسناتهم، وترفعهم إلى منازل المخلصين. والتزكية: مبالغة في التطهير وزيادة فيه، أو بمعنى الإنماء والبركة في المال، أي أنه تعالى يجعل النقصان الحاصل بسبب إخراج قدر الزكاة سببا للإنماء،
وفي الحديث الذي رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة: «ما نقصت صدقة من مال».
وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أي ادع لهم واستغفر وترحم، فإن دعاءك واستغفارك سكن لهم يسكنون إليه وتطمئن قلوبهم بأن الله قد تاب عليهم. والصلاة من الله على عباده: الرحمة، ومن ملائكته: الاستغفار، ومن النبي والمؤمنين: الدعاء.
وَاللَّهُ سَمِيعٌ يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم، وسميع لدعائك سماع قبول وإجابة، عليم بما في ضمائرهم وبإخلاصهم في توبتهم وصدقاتهم وبما فيه الخير والمصلحة لهم.
فالصدقة مطهرة للنفس، مرضاة للرب، وحصن للمال.
ألم يعلم أولئك التائبون وجميع المؤمنين أن الله هو الذي يقبل توبة عباده،
(١) أحكام القران للجصاص: ٣/ ١٤٨
29
ويتجاوز عن سيئاتهم، ويأخذ الصدقات أي يقبلها ويثيب عليها ويضاعف أجرها، كما قال: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، يُضاعِفْهُ لَكُمْ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ [التغابن ٦٤/ ١٧]
وفي الحديث الثابت الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة: «إن الله يربي الصدقة كما يربي أحدكم فلوّه»
أي ولد الفرس، وهذا تمثيل لزيادة الأجر.
وفي هذا حث على التوبة وإعطاء الصدقة سواء كانت فريضة أو تطوعا. قيل في سبب نزول هذه الآية: قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس، لا يكلّمون ولا يجالسون، فما لهم الآن؟ وما هذه الخاصة التي خصّوا بها فنزلت: أَلَمْ يَعْلَمُوا فالضمير في يَعْلَمُوا عائد إلى الذين لم يتوبوا من المتخلفين.
وأن الله هو التواب الذي من شأنه قبول توبة التائبين، والتفضل عليهم، وهو الرحيم بعباده التائبين، الذي يثيبهم على أعمالهم الصالحة، كما قال تعالى:
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه ٢٠/ ٨٢] وقال عز وجل: وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ، فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ، وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا، وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران ٣/ ١٣٥] والتوبة مفيدة في تجديد همة النفس والعهد، ومحو الذنب.
وقل أيها الرسول لهؤلاء التائبين ولغيرهم: اعملوا، فإن عملكم لا يخفى على الله وعباده، خيرا كان أو شرا، فالعمل أساس السعادة، وسيرى الله عملكم، ورسوله والمؤمنون باطلاعه إياهم على أعمالكم. وهذا وعيد لهم وتحذير من عاقبة الإصرار على الذنب والذهول عن التوبة، ولكل المخالفين أوامر الله، بأن أعمالهم ستعرض عليه تعالى، وعلى الرسول، وعلى المؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، كما قال: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة ٦٩/ ١٨].
وقال النبي صلى الله عليه وسلّم فيما يرويه أحمد والبيهقي عن أبي سعيد الخدري: «لو أن
30
أحدكم يعمل في صخرة صماء، ليس لها باب ولا كوّة، لأخرج الله عمله للناس، كائنا ما كان»
وقد ورد: أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات من الأقرباء والعشائر في البرزخ،
كما قال أبو داود الطيالسي، روي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن أعمالكم تعرض على أقربائكم وعشائركم في قبورهم، فإن كان خيرا استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم ألهمهم أن يعملوا بطاعتك».
وستردون يوم القيامة إلى الله الذي يعلم سرائركم وعلانيتكم، يعلم الغائب والحاضر، والباطن والظاهر، فيعرفكم أعمالكم، ثم يجازيكم عليها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وهذا كلام جامع للترغيب والترهيب.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام الثلاثة التالية:
١- فرضية أخذ الصدقات وهي الزكوات الواجبة لتطهير النفوس وتزكيتها وتنمية الأموال والبركة فيها. وأن صلاة الرسول صلى الله عليه وسلّم شفاعة وطمأنينة.
٢- قبول الله توبة التائبين بحق أي التوبة الصحيحة، وقبول الصدقات الصادرة عن خلوص النية والإثابة عليها، وسمى تعالى نفسه باسم اللَّهُ لينبه على أن كونه إلها يوجب قبول التوبة، والتخصيص بالله يدل على أن قبول التوبة وردها إلى الله، لا إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم.
٣- كل إنسان مجزي بعلمه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والعمل مشهود عند الله ورسوله والمؤمنين، وفي ذلك وعيد من الله تعالى للمخالفين أوامره بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى وعلى الرسول صلى الله عليه وسلّم، وعلى المؤمنين، في عالم البرزخ، كما قال تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة ٦٩/ ١٨].
31
لكن آية: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ عامة في أصناف الأموال، لم تبين نوع المال المأخوذ منه ولا مقدار المأخوذ، فيقتضي الظاهر أن يؤخذ من كل صنف بعضه لأن مِنْ أَمْوالِهِمْ تقتضي التبعيض، فدلت الآية على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال، لا كلها، لكن البعض غير مذكور هنا صراحة في اللفظ، فجاءت السنة والإجماع لبيان مقدار المأخوذ والمأخوذ منه، ومقادير الأنصبة ووقت الاستحقاق، ويكون لفظ الزكاة مجملا في هذه الوجوه كلها، مفتقرا إلى البيان فيما ذكر كما قال الجصاص. وقد نص القرآن على زكاة الذهب والفضة بقوله تعالى:
وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التوبة ٩/ ٣٤] ونص أيضا على زكاة الزروع والثمار في قوله سبحانه:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ إلى قوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ، وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ [الأنعام ٦/ ١٤١] وأوضحت السنة زكاة سائر الأموال الأخرى التي تجب فيها الزكاة، وهي عروض التجارة، والأنعام السائمة (الإبل والبقر والغنم) وبينت مقاديرها وأنصبتها
روى الأئمة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة» «١».
وأجمع العلماء على أن الأوقية أربعون درهما فإذا ملك الحر المسلم مائتي درهم من الفضة، وهي الخمس الأواق المنصوصة في الحديث، حولا كاملا، فقد وجبت عليه صدقتها، وذلك ربع عشرها خمسة دراهم.
وإنما اشترط الحول
لما أخرجه الترمذي من قوله صلى الله عليه وسلّم: «ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول. وما زاد على المائتي درهم من الفضة فبحساب ذلك في كل شيء منه ربع عشره، قل أو كثر.
(١) الخمسة أوسق ٦٥٣ كغ، والورق: الفضة، والذود من الإبل: ما بين الثلاث إلى العشرة.
32
وأما زكاة الذهب فتجب في رأي جمهور العلماء إذا كان الذهب عشرين دينارا قيمتها مائتا درهم، فما زاد، عملا بحديث علي الذي أخرجه الترمذي.
وأما زكاة الغنم ففي كل أربعين شاة شاة، على ما جاء في كتاب الصّديق لأنس لما وجهه إلى البحرين، وأخرجه البخاري وأبو داود والدارقطني والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
وزكاة البقر في كل ثلاثين بقرة تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنّة لما رواه الدارقطني والترمذي عن معاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن.
ولا زكاة في رأي الجمهور على الأنعام إلا إذا كانت سائمة ترعى في البراري ونحوها
لما روى الدارقطني عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ليس في البقر العوامل صدقة»
وروى الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) عن معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «وفي البقر في كل ثلاثين تبيع، وفي الأربعين مسّنة»
وروى أبو داود والدارقطني عن علي «ليس على العوالم شيء»
وفي حديث البخاري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلّم كتب لأبي بكر الصديق كتابا في الصدقات، جاء فيه: «صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين، فيها شاة»
فنفى بذلك الصدقة عن غير السائمة.
وقال مالك والليث: في العوامل صدقة، لعموم
قوله صلى الله عليه وسلّم في حديث أنس المتقدم: «في خمس من الإبل شاة»
والجواب: ذلك مخصوص بالأحاديث المتقدمة.
وظاهر عموم هذه الآية يوجب الزكاة في مال المديون وفي مال الضمان أي الكفالة.
وأما قوله تعالى: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها فقال الزجاج: والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلّم، أي فإنك تطهرهم وتزكيهم بها، على القطع والاستئناف. ويجوز الجزم على جواب الأمر، والمعنى: إن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم. وظاهر الآية يدل على أن الزكاة إنما وجبت طهرة عن
33
الآثام، وبما أن الإثم لا يتقرر إلا في حق البالغ، فوجب ألا تجب الزكاة في حق الصغير، كما قال أبو حنيفة رحمه الله. وأوجب الجمهور الزكاة في مال الصبي والمجنون، لأن الآية تدل على أخذ الصدقة من أموالهم، فتكون طهرة للأموال.
وظاهر قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ أنه يجب على الإمام أو نائبه إذا أخذ الزكاة أن يدعو للمتصدق بالبركة، وهذا رأي الظاهرية. وأما سائر الأئمة فحملوا الأمر على الندب والاستحباب
لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال لمعاذ في الحديث المتفق عليه عن ابن عباس: «أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم»
ولم يأمره بالدعاء لهم، ولأن الفقراء إذا أخذوا الزكاة لا يلزمهم الدعاء.
ومع هذا،
روى مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه قوم بصدقتهم: قال: «اللهم صل عليهم» فأتاه ابن أبي أوفى بصدقته، فقال: «اللهم صلّ على آل أبي أوفى»
والصلاة هنا: الرحمة والترحم. وبناء عليه قال الحنابلة والظاهرية في صيغة الدعاء: لا مانع أن يقول آخذ الزكاة: اللهم صل على آل فلان. وقال باقي الأئمة: لا يجوز هذا القول لأن الصلاة صارت مخصوصة بالأنبياء عليهم السلام. ولا خلاف أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم، فيقال: اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه لأن السلف استعملوه، وأمرنا به في التشهد.
والسلام في حكم الصلاة لأن الله تعالى قرن بينهما، فلا يفرد به غائب على غير الأنبياء. أما استحباب السلام في مخاطبة الأحياء تحية لهم وفي تحية الأموات فهو ثابت في السنة.
واستحسن الشافعي أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهورا، وبارك لك فيما أبقيت.
34
وقوله: فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ دليل على كونه تعالى رائيا للمرئيات، ودليل لأهل السنة أن كل موجود فإنه يصح رؤيته، أي إبصاره لأن الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد معناها الإبصار. والعمل المرئي يشمل أعمال القلوب كالإرادات والكراهات والأنظار، وأعمال الجوارح، كالحركات والسكنات.
وقوله تعالى: وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ نص صريح في أن الله تعالى هو الآخذ لها والمثيب عليها وأن الحق له جل وعز، والنبي صلى الله عليه وسلّم واسطة، فإن توفي فعامله هو الواسطة بعده، والله عز وجل حي لا يموت. وهذا يبين أن قوله سبحانه وتعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ليس مقصورا على النبي صلى الله عليه وسلّم، وإنما يشمل الأئمة بعده، كما تقدم.
روى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله يقبل الصدقة، ويأخذها بيمينه، فيربيها لأحدكم، كما يربي أحدكم مهره، حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد، وتصديق ذلك في كتاب الله: هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ، وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ، ويَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا، وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ.
وفي صحيح مسلم: «لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه، فتربو في كفّ الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل»
.
وهذا كناية عن القبول والجزاء عليها، كما كنى بنفسه الكريمة المقدسة عن المريض، تعطفا عليه
بقوله في الحديث القدسي: «يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني».
وخصّ اليمين والكف بالذكر إذ كل قابل لشيء إنما يأخذه بكفه وبيمينه، أو يوضع له فيه فخرج على ما يعرفونه، والله جل وعز منزّه عن الجارحة.
الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة عليهم
[سورة التوبة (٩) : آية ١٠٦]
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠٦)
35
المفردات اللغوية:
وَآخَرُونَ من المتخلفين مُرْجَوْنَ مؤخرون عن العقوبة، وموقوف أمرهم لِأَمْرِ اللَّهِ في شأنهم بأن يأمر فيهم بما شاء إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ بأن يميتهم بلا توبة وإما يتوب عليهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بخلقه حَكِيمٌ في صنعه.
سبب النزول:
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وآخرون: هم الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة، وهم مرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أمية من بني واقف، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلا وميلا إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال، لا شكا ونفاقا.
وكان المتخلفون عن غزوة تبوك أصنافا ثلاثة «١» :
١- المنافقون الذين مردوا على النفاق، وهم أكثر المتخلفين.
٢- التائبون المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا فتاب الله عليهم، وهم الذين ربطوا أنفسهم بالسواري وهم أبو لبابة وأصحابه، فنزلت توبتهم.
٣- الذين بقوا موقوفين وهم المؤمنون الذين حاروا في أمرهم ولم يعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم عن تخلفهم، وأرجؤوا توبتهم، فلم يربطوا أنفسهم بالسواري، فأرجأ الله الحكم في أمرهم، فوقف أمرهم خمسين ليلة، وهجرهم الناس حتى نزلت توبتهم بعد، وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون، والذين نزلت فيهم هذه الآية: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ [التوبة ٩/ ١١٨].
التفسير والبيان:
وآخرون من المتخلفين موقوفون مرجون أي مؤخرون لأمر الله في شأنهم،
(١) تفسير الرازي: ١٦/ ١٩١ [.....]
36
ولا يدري الناس ما ينزل فيهم، هل يتوب الله عليهم أولا، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلّم عن مجالستهم، وأمرهم باعتزال نسائهم وإرسالهن إلى أهلهن، إلى أن نزل قوله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ- إلى قوله- وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا.. [التوبة ٩/ ١١٨].
هؤلاء في هذه الآية أمرهم متردد بين أمرين: التعذيب والتوبة. وقد ترك أمرهم غامضا، لا للشك، فالله تعالى منزه عنه، وإنما ليكون أمرهم على الخوف والرجاء، وإثارة الغم والحزن في قلوبهم، ليقدموا على التوبة، ويصير أمرهم عند الناس على الرجاء، فجعل أناس يقولون: هلكوا إذا لم ينزل الله تعالى لهم عذرا، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم.
ولا شك أن القوم كانوا نادمين على تأخرهم عن الغزو، فلم يحكم تعالى بكونهم تائبين لأن الندم وحده لا يكون كافيا في صحة التوبة، ثم ندموا على المعصية لكونها معصية، فصحت توبتهم.
والله عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو، وبما يصلح عباده ويربّيهم، حكيم في أفعاله وأقواله، وفيما يشرعه لهم من الأحكام المؤدية لهذا الصلاح. ومن حكمته: إرجاء النص على توبتهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
إن الحكمة الإلهية قد تقتضي البت في شأن بعض العباد، وقد ترجئ ذلك، ليظل الناس في أمل ورجاء ورهبة وخوف، وقد أثمرت هذه الحكمة في دفع هؤلاء المخلفين عن التوبة إلى مزيد من الشعور بالقلق والاضطراب والخوف والهلع، وكادوا يحسون باليأس من قبول عذرهم، حتى أنزل الله في شأنهم ما يدل على قبول توبتهم في قوله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا....
وقوله: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ دليل على أنه لا حكم إلا أحد
37
هذين الأمرين، وهو إما التعذيب وإما التوبة. أما العفو عن الذنب من غير توبة فغير معتبر.
مسجد الضّرار (مسجد المنافقين) ومسجد التّقوى (مسجد قباء)
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (١٠٨) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠٩) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١١٠)
الإعراب:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا عطف على وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ أو مبتدأ، وخبره: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ، أو خبره محذوف، أي وفيمن وصفنا أو ممن ذكرنا الذين اتّخذوا، أو كما رجح أبو حيان منصوب على الاختصاص، كقوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ [النساء ٤/ ١٦٢].
ضِراراً إما منصوب على المصدر أي مضارّة للمؤمنين، وإما مفعول به، وما بعده من المنصوبات عطف عليه. مِنْ قَبْلُ متعلق بحارب أو باتّخذوا، أي اتّخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتّخلف، لما روي أنه بني قبيل غزوة تبوك.
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ فيه مضاف محذوف، تقديره: من تأسيس أول يوم لأن مِنْ
38
لا تدخل على ظروف الزمان. ويرى الكوفيون أنها تدخل على ظروف الزمان، فلا تحتاج إلى تقدير مضاف.
هارٍ صفة، أصله هائر، فقلب، كما قالوا: لاث في لائث، وشاك في شائك. وحذفت الياء كما حذفت في نحو قاض ورام في الرّفع والجّر.
أَفَمَنْ أَسَّسَ من: بمعنى الذي مبتدأ، وخبره: خَيْرٌ.
البلاغة:
هارٍ فَانْهارَ بينهما جناس ناقص.
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى استعارة مكنية، حيث شبهت التّقوى والرّضوان بأرض صلبة يقوم عليها البناء، ثم حذف المشبه به وأشير إلى شيء من لوازمه وهو التّأسيس. والاستفهام معناه التّقرير.
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ مصدر أريد به اسم المفعول.
المفردات اللغوية:
وَالَّذِينَ أي ومنهم الذين اتّخذوا مسجد الضّرار. وهم اثنا عشر من المنافقين.
ضِراراً مضارّة لأهل مسجد قباء، والضّرار: إيقاع الضّرر بالغير ولا منفعة لك فيه، والضرر:
إيقاع الضّرر بالغير وفيه لك منفعة. وكلاهما ممنوع
للحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه عن ابن عباس: «لا ضرر ولا ضرار».
وَكُفْراً لأنهم بنوه بأمر أبي عامر الرّاهب، ليكون معقلا له، يقدم فيه من يأتي من عنده، وكان ذهب ليأتي بجنود من قيصر، لقتال النّبي صلى الله عليه وسلّم. وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ الذين يصلّون بقباء، بصلاة بعضهم فيه، أي الذين يجتمعون للصّلاة في مسجد قباء.
وَإِرْصاداً ترقبا وانتظارا مع العداوة. لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ يعني من قبل بنائه، وهو أبو عامر الراهب. إِنْ أَرَدْنا ما أردنا ببنائه. إِلَّا الْحُسْنى الفعلة أو الخصلة أو الإرادة الحسنى من الرّفق بالمسكين في المطر والحرّ والتّوسعة على المسلمين. إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم ذلك، وكانوا سألوا النّبي صلى الله عليه وسلّم، فنزل: لا تَقُمْ.
لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لا تصلّ فيه أبدا، فأرسل جماعة هدموه وحرقوه وجعلوا مكانه كناسة تلقى فيها الجيف.
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى
أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصلّى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة.
والتأسيس: وضع الأساس الأول الذي يقوم عليه البناء. مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أي بني من
39
أول أيام وجوده، يوم حللت بدار الهجرة، وهو مسجد قباء، كما في البخاري. والتّقوى: ما يرضي الله ويبقي من سخطه. أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أجدر بأن تقوم فيه. فِيهِ رِجالٌ هم الأنصار.
يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أي يثيبهم.
عَلى تَقْوى مخافة من الله. وَرِضْوانٍ ورجاء رضوان منه وهذا مثال مسجد قباء.
عَلى شَفا طرف أو حرف أو حدّ. جُرُفٍ جانب الوادي ونحوه. هارٍ مشرف على السقوط. فَانْهارَ بِهِ سقط مع بانيه. فِي نارِ جَهَنَّمَ وهذا تمثيل للبناء على غير التقوى بما يؤول إليه، وهو مثال مسجد الضّرار.
رِيبَةً شكّا وحيرة. تَقَطَّعَ تنفصل وتنفرق قلوبهم أجزاء، بأن يموتوا. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بخلقه. حَكِيمٌ في صنعه بهم.
سبب النزول:
نزول آية وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا:
قال المفسّرون: إن بني عمرو بن عوف وهم من الأوس اتّخذوا مسجد قباء «١»، وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يأتيهم، فأتاهم فصلّى فيه، فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وهم من الخزرج، وقالوا: نبي مسجدا، ونبعث إلى النّبي صلى الله عليه وسلّم يأتينا فيصلّي لنا فيه، كما صلّى في مسجد إخواننا، ويصلّي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشّام فأتوا النّبي صلى الله عليه وسلّم، وهو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلّة، والليلة المطيرة، ونحبّ أن تصلّي لنا فيه وتدعو بالبركة.
فقال النّبي صلى الله عليه وسلّم: «إنّي على سفر وحال شغل، فلو قدمنا لآتيناكم، وصلّينا لكم فيه».
(١)
لما هاجر النّبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة، نزل أولا قباء على كلثوم بن الهدم شيخ بني عمرو بن عوف، وهم بطن من الأوس. وقباء: قرية على ميلين جنوب المدينة، وأقام بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الاثنين إلى الجمعة، وأسس مسجد قباء.
40
فلما انصرف النّبي صلى الله عليه وسلّم من تبوك أتوه وقد فرغوا منه، وصلّوا فيه الجمعة والسبت والأحد، فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزل عليه القرآن بخبر مسجد الضّرار.
فدعا النّبي صلى الله عليه وسلّم مالك بن الدّخشم، ومعن بن عدي، وعامر بن السّكن، ووحشيا قاتل حمزة، فقال: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدموه وأحرقوه».
فخرجوا مسرعين، وأخرج مالك بن الدّخشم من منزله شعلة نار، ونهضوا فأحرقوا المسجد وهدموه، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا.
وأما أبو عامر الراهب: فهو رجل من الخزرج، كان قد تنصّر، وكان له منزلة كبيرة في أهل الكتاب، فلما قدم النّبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة مهاجرا، واجتمع عليه المسلمون، وعلت كلمة الإسلام، خرج فارّا إلى مكة، وألّب المشركين على المسلمين في وقعة أحد. ولما فرغ الناس من الموقعة فرّ إلى هرقل ملك الرّوم يستنصره، فوعده وحباه.
وكتب أبو عامر إلى جماعة من قومه من أهل النّفاق: أنه سيقدم بجيش يقاتل به محمدا ويغلبه، وأمرهم أن يتّخذوا له معقلا يأوي إليه من يقوم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم بعد ذلك.
والخلاصة: أن هذا المسجد بناه اثنا عشر رجلا من المنافقين، بمشورة أبي عامر الرّاهب، ولقي هوى في نفوس أبناء عمّ بني عمرو بن عوف، لينافسوهم على تأسيس مسجد قباء، ومضاهاتهم به، وليكون مقرّا لأبي عامر إذا قدم، ليكون إمامهم فيه.
41
سبب نزول: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا:
أخرج التّرمذي عن أبي هريرة قال: نزلت هذه الآية في أهل قباء: فِيهِ رِجالٌ... قال: كانوا يستنجون بالماء، فنزلت فيهم.
وأخرج ابن جرير عن عطاء قال: أحدث قوم الوضوء بالماء من أهل قباء، فنزلت فيهم: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ.
وقال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى عويم بن ساعدة، فقال: «ما هذا الطّهور الذي أثنى الله عليكم؟» فقال: يا رسول الله، ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط إلا غسل فرجه أو قال: مقعدته، فقال النّبي صلى الله عليه وسلّم: «هو هذا».
وقيل: لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومعه المهاجرون، حتى وقف على باب مسجد قباء، فإذا الأنصار جلوس،
فقال عليه الصّلاة والسّلام: «أمؤمنون أنتم؟» فسكتوا، فأعادها، فقال عمر: إنهم مؤمنون، وأنا معهم، فقال عليه الصّلاة والسّلام: «أترضون بالقضاء؟» قالوا: نعم، قال: «أتصبرون على البلاء؟» قالوا: نعم، قال: «أتشكرون في الرّخاء؟» قالوا: نعم، قال عليه الصّلاة والسّلام: «أنتم مؤمنون، وربّ الكعبة» فجلس، ثم قال: «يا معشر الأنصار، إن الله عزّ وجلّ قد أثنى عليكم، فما الذي تصنعون عند الوضوء، وعند الغائط؟»، فقالوا: يا رسول الله، نتبع الغائط الأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار الماء، فتلا: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا.. الآية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أوصاف المنافقين وطرائقهم المختلفة في النّفاق، قال:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً...
42
التفسير والبيان:
ومن المنافقين الذين ذكرناهم جماعة بنوا مسجد الضّرار بجوار مسجد قباء، وكانوا اثني عشر رجلا من منافقي الأوس والخزرج، لأسباب أربعة هي:
١- مضارّة المؤمنين من أهل مسجد قباء الذي بناه النّبي صلى الله عليه وسلّم بمجرد وصوله إلى المدينة.
٢- الكفر بالنّبي عليه الصّلاة والسّلام وبما جاء به، وللطعن عليه وعلى الإسلام، واتّخاذه مقرّا للكيد والتّآمر على المسلمين، فصار مركز الفتنة، وبيت النّفاق، ومأوى المنافقين، للتّهرّب من أداء الصّلاة. وهذا كفر، لأن الكفر يطلق على الاعتقاد والعمل المنافيين للإيمان.
٣- التّفريق بين المؤمنين الذين كانوا يصلّون خلف النّبي صلى الله عليه وسلّم في مسجد واحد، فإذا صلّى فيه بعضهم، حدثت الفرقة، وبطلت الألفة، وتفرّقت الكلمة. لذا كان الأصل أن يصلّي المسلمون في مسجد واحد، ويكون تكثير المساجد لغير حاجة منافيا لأغراض الدّين وأهدافه.
٤- الإرصاد، أي التّرقب والانتظار لمجيء من حارب الله ورسوله إليه، ويتّخذه مقرّا له، ومكانا لقوم راصدين مستعدين للحرب معه، وهم المنافقون الذين بنوا هذا المسجد.
والمقصود بمن حارب الله ورسوله كما ذكر في سبب النزول: هو أبو عامر الراهب من الخزرج، والد حنظلة الذي غسلته الملائكة،
وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: الفاسق
، وكان قد تنصّر في الجاهلية، وترهّب وطلب العلم، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم عاداه، لأنه زالت رياسته، وقال للرّسول صلى الله عليه وسلّم يوم أحد: «لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم» فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين،
43
فلما انهزم مع هوازن، هرب إلى الشّام، ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومات بقنّسرين (بلد في شمال سوريا) وحيدا. وقيل: كان يجمع الجيوش يوم الأحزاب، فلما انهزموا خرج إلى الشّام.
فذهاب أبي عامر إلى هرقل كان إما بعد يوم أحد، أو بعد يوم حنين، أو بعد يوم الأحزاب (الخندق) بحسب ما دلّت عليه الرّوايات.
وليحلفن هؤلاء المنافقون: ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى، وهي الرّفق بالمسلمين، وتيسير صلاة الجماعة على أهل الضّعف والعجز، وفي أثناء المطر ليصدقهم الرّسول صلى الله عليه وسلّم، وليصلّي معهم فيه، تغريرا لبقية المسلمين، والله تعالى يعلم أنهم لكاذبون في أيمانهم وادّعائهم، منافقون في أعمالهم، وقد أطلع رسوله بذلك، فمعنى قوله تعالى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ..: أنه يعلم خبث ضمائرهم وكذبهم فيما يحلفون عليه.
وبما أنهم بنوه للضّرر والإساءة نهى الله تعالى بوحيه إلى جبريل أن يصلّي فيه والأمّة تبع له في ذلك، فقال: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً أي لا تصلّي فيه أبدا، وقد يعبر عن الصّلاة بالقيام، يقال: فلان يقوم الليل، ومنه
الحديث الصحيح لدى البخاري: «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه».
ويلاحظ استعمال الظّرف أَبَداً الذي يستغرق الزمن المستقبل كله لاتّصاله بلا النافية، فيفيد العموم.
ثم حثّه على الصّلاة في مسجد قباء لأمرين: الأول- أنه بني على التّقوى، أي الذي أسس من أول يوم بنيانه على التّقوى وهي طاعة الله وطاعة رسوله، وجمعا لكلمة المؤمنين، ومعقلا وموئلا للإسلام وأهله، فقال:
44
العبادة فيه، وجمع المؤمنين على محبة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والعمل على وحدة الإسلام، أولى وأحق من غيره بالصّلاة فيها أيها الرّسول.
والمراد به كما جاء في صحيح البخاري، وكما دلّ عليه السياق والقصة: مسجد قباء، لهذا جاء
في الحديث الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «صلاة في مسجد قباء كعمرة».
لكن
روى أحمد ومسلم والنسائي أنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم سئل عنه، فأجاب بأنه مسجده الذي في المدينة.
ولا مانع من إرادة المسجدين لأن كلّا منهما قد بني على التّقوى، من أول يوم بدئ ببنائه.
الثاني- إن في هذا المسجد رجالا يحبّون أن يتطهّروا طهارة معنوية: وهي التّطهر عن الذّنوب والمعاصي، وطهارة حسية للثوب والبدن بالوضوء والاغتسال، وبالماء بعد الحجر في الاستنجاء، وهذا النوع الأخير هو قول أكثر المفسّرين، والأولى إرادة نوعي التّطهّر.
والله يحبّ المطّهّرين، أي المبالغين في الطّهارة الرّوحية المعنويّة والجسديّة البدنيّة، وهؤلاء هم الكمّل بين النّاس. قال البيضاوي: فيه رجال يحبّون أن يتطهّروا من المعاصي والخصال المذمومة طلبا لمرضاة الله، وقيل: من الجنابة، فلا ينامون عليها. والله يحبّ المطهّرين: يرضى عنهم ويدنيهم من جنابه تعالى إدناء المحبّ حبيبه.
وقال في الكشّاف: محبّتهم للتّطهّر: أنهم يؤثرونه ويحرصون عليه حرص المحبّ للشيء المشتهي له على إيثاره، ومحبة الله تعالى إياهم: أنه يرضى عنهم، ويحسن إليهم، كما يفعل المحبّ بمحبوبه «١».
(١) الكشّاف: ٢/ ٥٨
45
فمحبة الله عباده: معناها الرّضا والقبول والإدناء لأنّ الله تعالى منزّه عن مشابهة صفاتنا، فحبّه غير حبّنا، وهو شيء يليق بكماله تعالى، كما جاء
في الحديث القدسي الذي يرويه البخاري: «ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به».
والحبّ في هذه الآية يشبه أيضا حبّ الله تعالى في تطهير آل بيت النبّوة في قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب ٣٣/ ٢٣].
ثم قارن الله تعالى بين أهداف بناء المسجدين فقال: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ...
أي لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، أي على أساس متين نافع في الدّنيا والآخرة، ومن بنى مسجدا ضرارا وكفرا، وتفريقا بين المؤمنين، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، فإنما يبني هؤلاء بنيانهم على شفا جرف هار، أي ساقط، وجرف: جانب الوادي الذي ينحفر بالماء، والمعنى: على طرف حفرة أو واد، أي أساس ضعيف منهار، مشرف على السقوط، فإذا أنهار فإنما ينهار في قعر جهنم، والله لا يهدي القوم الظالمين أي لا يصلح عمل المفسدين، ولا يوفقهم إلى الحق والعدل والسّداد والصّواب وما فيه صلاحهم ونجاتهم، قال الرّازي «١» : ولا نرى في العالم مثالا أجدر مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال! وحاصل الكلام أن أحد البناءين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر، فكان البناء الأول شريفا واجب الإبقاء، وكان الثاني خسيسا واجب الهدم.
وقوله تعالى: فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ قيل: إن ذلك حقيقة، أي إنه
(١) تفسير الرّازي: ١٦/ ١٩٧
46
موضع من مواضع جهنم، وقيل: إنه مجاز، والمعنى: صار البناء في نار جهنم، فكأنه أنهار إليه وهوى فيه.
ثم أبان الله تعالى ما يجسّده إقامة المنافقين مسجد الضّرار من معان سيئة ثابتة راسخة على ممرّ التاريخ، فقال: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ.. أي لا يزال بناؤهم هذا وهدمه سبب شكهم في الدّين، وتزايد نفاقهم لأنه يجسّد آثار النّفاق والكفر، فقد أورثهم نفاقا في قلوبهم، كما أشرب عابدو العجل حبّه، وأصبح وسمه لا يزول عن قلوبهم، فلا يزال هذا شأنهم في جميع الأحوال إلا في حال تقطع قلوبهم أجزاء، بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك، أي بموتهم، وهو في غاية المبالغة، والاستثناء من أعم الأزمنة.
والمراد أن هذا البناء الذي فرحوا به مصدر استلهام الشّكوك في الدّين، ومظهر تجسيد الكفر والنّفاق الجاثم في نفوسهم، فحينما أمر النّبي صلى الله عليه وسلّم بهدمه، ثقل ذلك عليهم، وازداد بغضهم له، وازداد ارتيابهم في نبوّته، وعظم خوفهم، وارتابوا في أمرهم: هل سيتركون أو يقتلون؟ فكان ذلك البنيان نفسه ريبة، لكونه سببا للرّيبة، وظهرت سببيّته للرّيبة بتخريبه وهدمه.
والله عليم بأعمال خلقه، حكيم في مجازاتهم عنها من خير أو شرّ، ومن حكمته تبيان حال المنافقين وإظهار ما خفي من أمرهم، لمعرفة الحقائق.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
١- من المنافقين جماعة أقاموا مسجد الضّرار بجوار مسجد قباء لمقاصد أربعة: محاولة الضّرار، والكفر بالنّبي صلى الله عليه وسلّم وبما جاء به، وتفريق جماعة المؤمنين، واتّخاذه معقلا لمن عادى الله ورسوله.
47
والمقصود في الضّرار بالمسجد من أهله، وليس لذات المسجد ضرار.
٢- كانت أيمانهم على حسن النّيّة، وسلامة القصد كاذبة.
٣- قال المالكية: كلّ مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضّرار لا تجوز الصّلاة فيه. ولا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه والمنع من بنائه، لئلا ينصرف أهل المسجد الأول، فيبقى شاغرا، إلا إذا كانت البلدة كبيرة، وأهلها كثيرين، ولم يعد يكفيهم مسجد واحد، فيبنى حينئذ. ولا ينبغي أن يبنى في البلد الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني ومن صلّى فيه الجمعة لم تجزه «١».
٤- قال العلماء: إن من كان إماما لظالم لا يصلّى وراءه، إلا أن يظهر عذره أو يتوب، فإن عمر بن الخطّاب في خلافته لم يأذن لمجمّع بن جارية أن يصلّي إماما في مسجد قباء لأنه كان إمام مسجد الضّرار، ثم أذن له لمّا تبيّن أنه كان جاهلا بما أضمر عليه المنافقون.
٥- إذا كان المسجد الذي يتّخذ للعبادة يهدم إذا كان فيه ضرر بغيره، فكلّ ما فيه ضرر يزال ويهدم، كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضّرر على الغير. والضابط: أن من أدخل على أخيه أو جاره ضررا منع، وهذا ما يسمّى حديثا عند القانونيين: نظرية التّعسّف في استعمال الحقّ.
وقد سبق فقهاء المالكية وغيرهم إلى تقرير هذه النّظرية.
٦- الكفر العملي: قال ابن العربي: لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النّبي صلى الله عليه وسلّم، كفروا بهذا الاعتقاد.
٧- دلّ قوله تعالى: وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ على أنّ المقصد الأسمى من
(١) تفسير القرطبي: ٨/ ٢٥٤
48
وجود الجماعة تأليف القلوب واتّحادهم على الطّاعة، حتى يأنسوا بالمخالطة، وتصفو القلوب من الأحقاد.
واستنبط مالك من هذه الآية: أنه لا تصلّى جماعتان في مسجد واحد بإمامين، خلافا لسائر العلماء.
٨- دلّ قوله تعالى: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى، على أن الأفعال تختلف باختلاف المقصود والإرادة.
٩- تحريم الصّلاة في مسجد الضّرار لقوله تعالى: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً يعني مسجد الضّرار.
١٠- أحقيّة مسجد التّقوى بالصّلاة فيه، والتّقوى: هي الخصال التي تتّقى بها العقوبة.
١١- ترغيب الإسلام بالنّظافة المعنوية (السّلامة من الأحقاد وصفاء النّفس وصحّة الإيمان) والنظافة البدنيّة (بالوضوء والاغتسال وإزالة النّجاسة عن الثّوب والبدن والمكان) لأن الله تعالى في هذه الآية أثنى على من أحبّ الطّهارة وآثر النّظافة.
وللعلماء في إزالة النّجاسة ثلاثة أقوال:
الأول- أنه واجب فرض، ولا تجوز صلاة من صلّى بثوب نجس، عالما كان أو ساهيا، وهو قول الشّافعي وأحمد، وروي عن مالك.
الثاني- إن كانت النّجاسة قدر الدّرهم أعاد الصّلاة. وقدر الدّرهم قياس على حلقة الدّبر. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
الثالث- إزالة النّجاسة من الثياب والأبدان سنّة وليس بفرض، وهو قول آخر لمالك وأصحابه.
49
قال القرطبي: والقول الأول أصح إن شاء الله، لأنّ
النّبي صلى الله عليه وسلّم- فيما يرويه البخاري ومسلم- مرّ على قبرين، فقال: «إنهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبير، أما أحدهما: فكان يمشي بالنّميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله»
ولا يعذّب الإنسان إلا على ترك واجب.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة وأحمد وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلّم قال: «أكثر عذاب القبر من البول».
واحتجّ الآخرون بخلع النّبي صلى الله عليه وسلّم نعليه في الصّلاة لما أعلمه جبريل عليه السّلام أنّ فيهما قذرا وأذى «١». ولما لم يعد ما صلّى دلّ على أنّ إزالة النّجاسة سنّة، وصلاته صحيحة، ويعيد ما دام في الوقت، طلبا للكمال.
١٢- دلّت آية: أَفَمَنْ أَسَّسَ.. على أن كلّ شيء ابتدئ بنيّة تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم، هو الذي يبقى، ويسعد به صاحبه، ويصعد إلى الله ويرفع إليه: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف ١٨/ ٤٦].
١٣- كان مسجد الضّرار سببا لريبة المنافقين، فإنهم لما بنوه عظم فرحهم به، ولما أمر الرّسول صلى الله عليه وسلّم بتخريبه، ثقل ذلك عليهم، وازداد بغضهم له، وزاد ارتيابهم في نبوّته. وظلّ ذلك الرّيب في قلوبهم حتى الموت.
(١) أخرجه أبو داود وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
50
صفات المؤمنين الصادقين الكمّل وهم المجاهدون التائبون العابدون
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١١ الى ١١٢]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١١) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٢)
الإعراب:
التَّائِبُونَ إما بدل من واو فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هم التائبون، أو مبتدأ وخبره: الْآمِرُونَ وما بعده.
وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مصدران منصوبان بفعلهما المحذوف.
البلاغة:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى استعارة تبعية، شبه بذلهم الأنفس والأموال وإثابتهم عليها بالجنة بالبيع والشراء. ولا يجوز أن يشتري الله شيئا في الحقيقة لأن الله مالك لكل شيء. ولهذا قال الحسن:
اشترى أنفسا هو خلقها، وأموالا هو رزقها.
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ بينهما جناس ناقص، لاختلاف الشكل.
فَاسْتَبْشِرُوا فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب.
51
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ أي المصلون، فيه مجاز مرسل، من إطلاق الجزء وإرادة الكل.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الإظهار في موضع الإضمار أي بشرهم للتكريم والاعتناء بهم، وللتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك، وأن المؤمن الكامل: من اتصف بتلك الصفات.
المفردات اللغوية:
اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ... بأن يبذلوها في طاعته كالجهاد، وهذا تمثيل مثل قوله تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة ٢/ ١٦، ١٧٥].
يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.. جملة استئناف بيان للشراء. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ أي لا أحد أوفى منه. وَذلِكَ المبيع. هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ المحقق غاية المطلوب.
الْعابِدُونَ المخلصون العبادة لله. الْحامِدُونَ له على كل حال. السَّائِحُونَ الصائمون. الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ المصلون. وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ لأحكامه بالعمل بها.
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالجنة.
سبب النزول:
نزلت هذه الآية لما بايع الأنصار- وكانوا سبعين رجلا- رسول الله صلى الله عليه وسلّم في البيعة الثالثة، وهي بيعة العقبة الكبرى، وكان أصغرهم سنّا عقبة بن عمرو.
أخرج ابن جرير عن عبد الله بن رواحة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم» قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: «الجنة» قالوا: ريح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ.. الآية.
المناسبة:
بعد أن أوضح الله تعالى فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وأبان أصناف المقّصرين من المؤمنين، ذكر حال المؤمنين الصادقين في إيمانهم، وأولها الجهاد في سبيل الله.
52
التفسير والبيان:
هذه الآية تمثيل قصد به الترغيب في الجهاد، عبّر فيه تعالى عن بذل المؤمنين أنفسهم وأموالهم وإثابتهم بالجنة، كرما وفضلا وإحسانا، عبر عن ذلك بالشراء والمعارضة، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له. قال الحسن البصري وقتادة: بايعهم والله فأغلى ثمنهم.
والمعنى: إن الله تعالى اشترى من المؤمنين الأنفس والأموال بثمن هو الجنة، أي مثّل الله إثابتهم بالجنة على بذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيله بصفقة الشراء. ثم استأنف بيان ما لأجله تم الشراء، وكيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقال:
يقاتلون في سبيل الله فيقتلون الأعداء، أو يستشهدون في سبيل الله، فسواء قتلوا أو قُتلوا أو اجتمع الأمران، فقد وجبت لهم الجنة.
ثم أكد الله تعالى وعده وإخباره بقوله: وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا.. أي وعدهم بذلك وعدا أوجبه على نفسه وجعله حقا ثابتا مقررا فيما أنزله على رسله في التوراة المنزلة على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى، والقرآن المنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وضياع التوراة والإنجيل وتحريفهما لا ينفي وقوع ذلك، فقد أثبته الله في القرآن الذي جعله مصدقا لتلك الكتب ومهيمنا عليها.
ومن أوفى بعهده من الله؟ أي لا أحد أوفى بعهده وأصدق في إنجاز وعده من الله، فإنه لا يخلف الميعاد، وهذا كقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً [النساء ٤/ ٨٧] وقوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء ٤/ ١٢٢].
وهذا مبالغة في الإنجاز وتقرير لكونه حقا.
وإذا كان الوفاء بالعهد مؤكدا على هذا النحو، فأظهروا غاية السرور والفرح على ما فزتم به من الجنة، ثوابا من الله وفضلا وإحسانا على بذلكم أنفسكم وأموالكم لله. وذلك الفوز هو الفوز العظيم والنعيم المقيم الذي لا فوز أعظم منه.
53
وهؤلاء المؤمنون المذكورون الباذلون أنفسهم وأموالهم في سبيل الله هم التائبون عن الكفر حقيقة، الراجعون إلى الله، بتركهم كل ما ينافي مرضاته، والتوبة تختلف باختلاف نوع المعصية، فالتوبة عن الكفر بالرجوع عنه، وتوبة المنافق بترك نفاقه، وتوبة العاصي: بالندم على ما حصل منه والعزم على عدم العود لمثله في المستقبل، وتوبة المقصر في شيء: بالتعويض عن تقصيره، وتوبة الغافل عن ربه: بالإكثار من ذكره وشكره.
وهم العابدون: الذين عبدوا الله مخلصين له الدين، الحامدون لنعمائه، أو لما نالهم من السّراء والضراء،
قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلّم إذا أتاه الأمر يسّره قال: «الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات» وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: «الحمد الله على كل حال».
السائحون في الأرض للجهاد أو لطلب العلم أو للرزق الحلال، أو الصائمون،
لقوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه الحاكم عن أبي هريرة: «السائحون هم الصائمون»
لأنه يعوق عن الشهوات واللذات، كما أن السياحة كذلك غالبا، أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على خفايا الملك والملكوت.
الراكعون الساجدون أي المؤدون صلواتهم المفروضة، وخص الركوع والسجود بالذكر لشرفهما ولما فيهما من الدلالة على التذلل والتواضع لله تعالى.
الآمرون بالمعروف أي الداعون إلى الإيمان والطاعة، والناهون عن المنكر أي عن الشرك والمعاصي. والعاطف الواو هنا للدلالة على أنهما في حكم خصلة واحدة، كأنه قال: الجامعون بين الوصفين.
والحافظون لحدود الله أي الحافظون لفرائض الله وشرائعه وأحكامه، وهذا مجمل الفضائل، وما قبله مفصل لها، فمن اتصف بتلك الصفات كان حافظا حدود الله. وذكرت الواو هنا لقربه من المعطوف عليه وهو: وَالنَّاهُونَ عَنِ
54
الْمُنْكَرِ
. وقيل: إنها زائدة، وهذا ضعيف لا معنى له.
وجزاؤهم المعبر عنه بقوله: بشر أيها الرسول هؤلاء المؤمنين الموصوفين بتلك الفضائل بخيري الدنيا والآخرة. وحذف المبشر به للتعظيم، كأنه قيل: وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- إن ثواب الجهاد في سبيل الله بالمال أو النفس أو بهما معا هو الجنة. وقد دل الله تعالى على هذا المعنى من طريق المجاز، بتمثيل المبذول وعوضه بصفقة بيع وشراء، فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثواب والنوال. وأكد تعالى منحه الثواب والجنة بمؤكدات عشرة هي: كون المشتري هو الله، وإيصال الثواب بالبيع والشراء، وذلك حق مؤكد، وقوله: وعدا، ووعد الله حق، وإثباته في الكتب الكبرى: التوراة والإنجيل والقرآن، وهذا يتضمن إشهاد جميع الكتب وجميع الرسل والأنبياء على هذه المبايعة، وقوله: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ؟ وهو غاية في التأكيد، وقوله: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ وهو أيضا مبالغة في التأكيد، وقوله: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ وقوله: الْعَظِيمُ.
٢- قال العلماء: كما اشترى من المؤمنين البالغين المكلفين، كذلك اشترى من الأطفال، فآلمهم وأسقمهم، لما في ذلك من المصلحة وما فيه من الاعتبار للبالغين، لأن هؤلاء يكونون أكثر صلاحا وأقل فسادا عند ألم الأطفال، ثم يعوض الله عز وجل هؤلاء الأطفال عوضا حسنا.
٣- القتال في سبيل الله وحده ومن أجل مرضاته هو المستحق لهذا الجزاء وهو الجنة.
55
٤- تشريع الجهاد أو مقاومة الأعداء قديم من عهد موسى عليه السّلام.
٥- لا أحد أوفى بعهده من الله، وهو يتضمن الوفاء بالوعد والوعيد، لكن وعده للجميع، وأما وعيده فمخصوص ببعض المذنبين، وببعض الذنوب، وفي بعض الأحوال.
٦- قال الحسن عن آية: فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ... : والله ما على الأرض مؤمن إلا يدخل في هذه البيعة.
٧- آية التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ذكرت أوصافا تسعة، بعد صفة المجاهدين، فتكون أوصاف المؤمنين الكّمل عشرة، والآيتان مرتبطتان ببعضهما، لا مستقلتان. قال ابن عباس: لما نزل: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الآية، قال رجل: يا رسول الله، وإن زنى، وإن سرق، وإن شرب الخمر، فنزلت التَّائِبُونَ الآية «١».
والأوصاف التسعة هي: الراجعون عن الحالة المذمومة في معصية الله إلى الحالة المحمودة في طاعة الله، المطيعون الذين قصدوا بطاعتهم الله سبحانه، والراضون بقضاء الله، المصرفون نعمته في طاعته، الذين يحمدون الله على كل حال، الصائمون، وسمي الصائم سائحا لأنه يترك اللذات كلّها من المطعم والمشرب والمنكح. وقال عطاء: السائحون المجاهدون.
والرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ في الصلاة المكتوبة وغيرها الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإيمان أو بالسنة وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ من الكفر والبدعة والمعصية وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي القائمون بما أمر به، والمنتهون عما نهى عنه.
(١) البحر المحيط: ٥/ ١٠٣
56
هذه أوصاف المؤمنين الكلمة، ذكرها الله، ليتسابق المؤمنون في الاتصاف بها.
٨- الحافظون لحدود الله تشمل جميع التكاليف الشرعية، سواء ما يتعلق منها بالعبادات أو بالمعاملات. وأما تفصيل الصفات التسع قبلها، فلأنها أمور تلازم المكلف غالبا.
٩- قوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ للتنبيه على أن البشارة المذكورة لم تتناول إلا المؤمنين الموصوفين بهذه الصفات.
الاستغفار للمشركين وشرط المؤاخذة (العقاب) على الذنوب
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٣ الى ١١٦]
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١٥) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١١٦)
البلاغة:
لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ بينهما طباق. وكذلك بين يُحْيِي وَيُمِيتُ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها بينهما جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
أَنْ يَسْتَغْفِرُوا يطلبوا المغفرة. أُولِي قُرْبى ذوي قرابة. أَصْحابُ الْجَحِيمِ النار، بأن ماتوا على الكفر. مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ بقوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم ١٩/ ٤٧] رجاء أن يسلم. أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ بموته على الكفر. تَبَرَّأَ مِنْهُ وترك الاستغفار
57
له. لَأَوَّاهٌ كثير التضرع والتأوه والدعاء. حَلِيمٌ صبور على الأذى لا يغضب. والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له مع معاداته له لِيُضِلَّ قَوْماً ليسميهم ضلالا أو يؤاخذهم.
بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ للإسلام. ما يَتَّقُونَ من العمل أي يبين لهم خطر ما يجب اتقاؤه، فإذا لم يتقوه استحقوا الإضلال. عَلِيمٌ يعلم كل شيء، ومنه مستحق الإضلال والهداية.
مِنْ دُونِ اللَّهِ من غيره. مِنْ وَلِيٍّ يحفظكم منه. وَلا نَصِيرٍ يمنعكم من ضرره.
سبب النزول:
أخرج أحمد والشيخان وابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهم من طريق سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: لما حضر أبا طالب الوفاة، دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: أي عم: قل:
لا إله إلا الله، أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى آخر شيء كلمهم به: هو على ملة عبد المطلب، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: لأستغفرن لك، ما لم أنه عنك، فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الآية. وأنزل في أبي طالب: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ الآية [القصص ٢٨/ ٥٦].
وظاهر هذا أن الآية نزلت بمكة ولأن أبا طالب مات بمكة قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين. ونظرا لأن هذه السورة مدنية، فقد استبعد بعض العلماء أن تكون نزلت في أبي طالب.
وأخرج الترمذي وحسنه الحاكم عن علي قال: سمعت رجلا يستغفر لأبويه، وهما مشركان، فقلت له: أتستغفر لأبويك، وهما مشركان؟ فقال: استغفر إبراهيم لأبيه، وهو مشرك، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ.
وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل وغيرهما عن ابن مسعود قال: خرج
58
رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوما إلى المقابر، فجلس إلى قبر منها، فناجاه طويلا، ثم بكى فبكيت لبكائه، فقال: إن القبر الذي جلست عنده قبر أمي، وإني استأذنت ربي في الدعاء لها، فلم يأذن لي، فأنزل الله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ.
وأخرج أحمد وابن مردويه، واللفظ له، من حديث بريدة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلّم، إذ وقف على عسفان، فأبصر قبر أمه، فتوضأ وصلى وبكى، ثم قال: استأذنت ربي أن أستغفر لها، فنهيت، فأنزل الله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ.
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: «أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، ثم قال: استأذنت ربي أن أستغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنت أن أزور قبرها، فأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تذكّركم الموت».
دلت الروايات على أن سبب النزول أبو طالب أو أم النبي، أو رجل مسلم يستغفر لأبويه.
قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون لنزول الآية أسباب: متقدم، وهو أمر أبي طالب، ومتأخر، وهو أمر آمنة، وقصة علي وجميع غيره بتعدد النزول.
المناسبة:
كان موضوع سورة التوبة من أولها إلى هنا إعلان البراءة من الكفار والمنافقين في جميع الأحوال، ثم بيّن هنا أنه تجب البراءة أيضا من أمواتهم، وإن كانوا أقرب الناس إلى الإنسان كالأب والأم، كما وجبت البراءة من أحيائهم.
والمقصود بيان وجوب مقاطعتهم في الحالات كلها.
59
التفسير والبيان:
ما ينبغي للنبي والمؤمنين، وليس من شأنهم أن يستغفروا أو يدعو الله بالمغفرة للمشركين، أو معناه ليس لهم ذلك على معنى النهي «١» لأن النبوة والإيمان مانعان من الاستغفار للمشركين، ولا تستغفروا، والمعنيان متقاربان، وسبب المنع قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة ٩/ ١١٣] وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ١١٦].
والمنع حتى ولو كانوا من أقرب المقربين، قياما بحق البر والصلة والشفقة عليهم.
من بعد ما ظهر لهم بالدليل أنهم من أصحاب النار، بأن ماتوا على الكفر، أي أن العلة المانعة من هذا الاستغفار هو تبين كونهم من أصحاب النار، وهذه العلة لا تفرّق بين الأقارب والأباعد. قال البيضاوي: وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم، فإنه طلب توفيقهم للإيمان، وبه دفع النقض باستغفار إبراهيم لأبيه الكافر، فقال: وَما كانَ اسْتِغْفارُ...
أما استغفار إبراهيم عليه السّلام لأبيه آزر بقوله: وَاغْفِرْ لِأَبِي، إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء ٢٦/ ٨٦] أي وفقه للإيمان، فكان بسبب صدور وعد سابق على المنع، إذ قال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [مريم ١٩/ ٤٧] أي لا أملك إلا الدعاء لك. وكان من خلق إبراهيم الوفاء: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم ٥٣/ ٣٧].
(١) قال أهل المعاني: ما كانَ في القرآن يأتي على وجهين: على النفي نحو قوله: ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها [النمل ٢٧/ ٦٠] والآخر بمعنى النهي كقوله: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب ٣٣/ ٥٣] وكهذه الآية.
60
فلما تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله، بأن مات على الكفر، أو أوحي إليه فيه بأنه لن يؤمن، تبرأ منه، وقطع استغفاره له، إن إبراهيم لأوّاه أي لكثير التأوه والتحسر، أو لكثير التضرع والدعاء، كما
قال صلى الله عليه وسلّم: «الأواه: الخاشع المتضرع»
وهو كناية عن فرط رحمته، ورقة قلبه، حليم: صبور على الأذى. والجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له، مع معاداته له وسوء خلقه معه، بدليل أنه أي آزر قال لإبراهيم: أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ، لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ، وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم ١٩/ ٤٦].
ثم رفع الله تعالى المؤاخذة عن الذين استغفروا للمشركين قبل نزول آية المنع هذه، وبيّن أنه تعالى لا يؤاخذهم بعمل إلا بعد أن يبين لهم أنه يجب عليهم أن يتقوه ويحترزوا عنه، فقال: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ... أي وما كان من سنة الله في خلقه ولا في رحمته وحكمته أن يصف قوما بالضلال أو يؤاخذهم مؤاخذة الضالين، بعد إذ هداهم للإسلام حتى يبين لهم ما يجب عليهم اتقاؤه من الأقوال والأفعال. وهذا يدل على أنه تعالى لا يعاقب إلا بعد التبيين، وإزالة العذر.
إن الله تعالى عليم بكل شيء، وبأحوال الناس وحاجتهم إلى البيان، وكأن هذا بيان عذر للرسول في قوله لعمه أو لمن استغفر له قبل المنع. وفي هذا دلالة على أن الغافل الذي لم تبلغه رسالة نبي غير مكلف. وبناء عليه، يستبعد أن يكون سبب نزول الآية الاستغفار لأم الرسول صلى الله عليه وسلّم لأنها ماتت قبل البعثة في عهد الفترة الجاهلية، التي انقطعت فيها النبوة بعد عيسى عليه السّلام، ولم يعد هناك مجال للتعرف على الدين الحق، لاختلاط الأمور.
وبعد أن أمر الله تعالى بالبراءة من الكفار، بين أن النصر لا يكون إلا من عنده لأن له ملك السموات والأرض، فإذا كان هو الناصر لكم، فهم لا يقدرون على إضراركم، فقال: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ... أي إنه تعالى مالك كل موجود
61
ومتولي أمره، والغالب المهيمن عليه بيده الأمر كله، يحيي ويميت، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه، ليتبرؤوا مما عداه، حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه، ولا تهمنكم القرابة والصلة الذين هم أولياء مناصرون لكم عادة، فما لكم ولي ولا نصير غير الله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
١- تحريم الدعاء لمن مات كافرا، بالمغفرة والرحمة، أو بوصفه بذلك، كقولهم: المغفور له، والمرحوم فلان، كما يفعل بعض الجهلة.
٢- قطع الموالاة مع الكفار حيّهم وميّتهم فإن الله لم يسمح للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين، فطلب الغفران للمشرك مما لا يجوز. وأما
دعاء النبي صلى الله عليه وسلّم يوم أحد حين كسروا رباعيته وشجّوا وجهه: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»
فإنما كان على سبيل الحكاية عمن تقدمه من الأنبياء، كما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم، أو أن هذا الدعاء كان قبل نزول سورة التوبة التي هي من آخر ما نزل من القرآن.
وحديث مسلم عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلّم يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول:
«رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
٣- لا حجة للمؤمنين في استغفار إبراهيم الخليل عليه السّلام لأبيه فإن ذلك لم يكن إلا عن عدة (وعد). والواعد: إما أبو إبراهيم، فإنه وعده أن يؤمن، قال ابن عباس: كان أبو إبراهيم وعد إبراهيم الخليل أن يؤمن بالله، ويخلع الأنداد، فلما مات على الكفر، علم أنه عدو الله، فترك الدعاء له.
وقوله: إِيَّاهُ ترجع إلى إبراهيم، والواعد أبوه. أو أن يكون الواعد هو إبراهيم، أي وعد إبراهيم أباه أن يستغفر له، رجاء إسلامه، فلما مات مشركا تبرأ
62
منه. ودل عليه قوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم ١٩/ ٤٧]. أي إن إبراهيم وعد أباه بالاستغفار قبل أن يتبين الكفر منه، وأملا في إسلامه، فلما تبين له الكفر منه، تبرأ منه.
٤- يحكم على الإنسان بظاهر حاله عند الموت، فإن مات على الإيمان حكم له به، وإن مات على الكفر حكم له به، وربك أعلم بباطن حاله.
٥- لا عقوبة إلا بنص، ولا مؤاخذة إلا بعد بيان، لقوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً....
٦- تدل هذه الآية أيضا: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً على أن المعاصي سبب للضلالة والهلاك، وطريق إلى ترك الرشاد والهدى.
٧- الله مالك الملك، وبيده مقاليد السموات والأرض، فالنصر منه وحده، لا من الأقارب أو الأباعد.
التوبة على أهل تبوك وعلى الثلاثة المخلفين والصدق
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٧ الى ١١٩]
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١١٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)
63
الإعراب:
كادَ يَزِيغُ اسمها ضمير الشأن، وجملة يَزِيغُ خبرها، وهي تفسير لضمير الشأن، وجاز إضمار الشأن في كادَ دون (عسى) لأنها أشبهت (كان) الناقصة، فإنها لا تستغني عن الخبر، بخلاف (عسى) فإنها قد تستغني عن الخبر إذا وقعت (أن) بعدها. ويجوز أن يكون اسمها ضمير القوم أصحاب النبي، وتقديره: كاد قبيل يزيغ، وضمير مِنْهُمْ عائد على هذا الاسم.
وَعَلَى الثَّلاثَةِ معطوف على النَّبِيِّ في الآية السابقة، وتقديره: لقد تاب الله على النبي وعلى الثلاثة.
البلاغة:
ضاقَتْ.. ورَحُبَتْ بينهما طباق.
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ من صيغ المبالغة.
المفردات اللغوية:
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ أدام توبته. الْعُسْرَةِ الشدة والضيق، وساعَةِ الْعُسْرَةِ: وقتها، وهي حالهم في غزوة تبوك، كانوا في عسرة من الركائب والزاد، حتى قيل: إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة، والعشرة تعتقب على بعير واحد، واشتد الحر حتى شربوا الفرث.
يَزِيغُ يميل عن اتباع النبي إلى التخلف، لما هم فيه من الشدة. ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ بالثبات.
وكرر للتأكيد والتنبيه على أنه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة. رَؤُفٌ رَحِيمٌ الرأفة: الرفق بالضعيف، والرحمة: السعي في إيصال المنفعة. وَعَلَى الثَّلاثَةِ أي وتاب على الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. الَّذِينَ خُلِّفُوا تخلفوا عن الغزو، أو خلّف وأخر أمرهم مدة، فإنهم المرجون لأمر الله، ثم تاب عليهم بعدئذ. رَحُبَتْ أي مع رحبها أو برحبها، أي سعتها، فلا يجدون مكانا يطمئنون إليه، وأعرض الناس عنهم بالكلية، وهو مثل لشدة الحيرة. وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ قلوبهم من فرط الوحشة والغم بتأخير توبتها، فلا يسعها سرور ولا أنس. وَظَنُّوا أيقنوا أو علموا. أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ أن: مخففة، أي ألا ملجأ من سخطه أي لا ملاذ ولا معتصم. ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ وفقهم للتوبة. اتَّقُوا اللَّهَ بترك معاصيه. مَعَ الصَّادِقِينَ في الإيمان والعهود بأن تلزموا الصدق.
64
سبب النزول:
روى البخاري وغيره عن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلّم في غزوة غزاها إلا بدرا، حتى كانت غزوة تبوك، وهي آخر غزوة، وآذن الناس بالرحيل... فأنزل الله توبتنا: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قال: وفينا نزل أيضا: اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.
المناسبة:
بعد أن استقصى الله تعالى في شرح أحوال غزوة تبوك، وأحوال المتخلفين عنها، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها، وهذا أسلوب القرآن في تفريق الآيات في الموضوع الواحد، للتأثير على النفس، وتجديد الذكرى، ومنع اليأس في التلاوة.
والآية مناسبة لما قبلها في النهي عن الاستغفار للمشركين، وكان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلّم خلاف الأولى، كما كان من بعض الصحابة زلات، فذكر تعالى أنه تفضل عليهم وتاب عليهم في تلك الزلات.
التفسير والبيان:
لقد تفضل الله ورضي عن نبيه، وتاب على أصحابه المؤمنين الذين صاحبوه واتبعوه في غزوة تبوك وقت الشدة والضيق، التي تسمى غزوة العسرة، وجيشها جيش العسرة الذي جهزه عثمان وغيره من الصحابة رضي الله عنهم. فكانوا في نقص شديد من وسائط الركوب والزاد والماء، حتى إن العشرة يعتقبون البعير الواحد، ويقتسم الاثنان التمرة الواحدة، وينحرون البعير ويعتصرون الفرث الذي في كرشه، ليبلّوا به ألسنتهم، بالإضافة إلى شدة الحر أو حرارة القيظ التي
65
صادفت خروجهم لتلك الغزوة. قال جابر بن عبد الله في ساعة العسرة: عسرة الظهر (الإبل) وعسرة الزاد، وعسرة الماء.
والتوبة على النبي لأنه كان قد صدر عنه ما هو خلاف الأفضل والأولى، مثل إذن المنافقين في التخلف بناء على اجتهاد منه لم يقره الله عليه لأن غيره خير منه، فسر ابن عباس التوبة على النبي صلى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين، بقوله: كانت التوبة على النبي لأجل إذنه للمنافقين في القعود دليله قوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة ٩/ ٤٣] وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه.
والتوبة على الصحابة من المهاجرين والأنصار كانت بسبب تثاقل بعضهم في الخروج، أو لسماعهم للمنافقين ما يثيرونه من فتنة.
والتوبة هنا ذات معنيين: بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلّم تعني الرضا والعطف، وبالنسبة للصحابة تعني قبول التوبة منهم وتوفيقهم إليها.
حدثت هذه التوبة على المؤمنين من بعد ما كاد يزيغ أو يميل بعضهم عن الحق والإيمان، وهم الذين تخلفوا لغير سبب النفاق، وهم الذين عملوا عملا صالحا وآخر سيئا، واعترفوا بذنوبهم، فقبل الله توبتهم. ومن بعد ما ارتاب بعضهم بما نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم.
ثم أكد الله تعالى التوبة عليهم، فقال: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه، إن ربهم رؤف رحيم بهم، فلا يتركهم بعد ما صبروا على الجهاد في سبيله، وإنما يزيل ضررهم ويوصل المنفعة إليهم. وهذا معنى الرأفة أي السعي في إزالة الضر، والرحمة أي السعي في إيصال النفع.
وفائدة تأكيد ذكر التوبة مرة أخرى تعظيم شأنهم، وإزالة الشك من نفوسهم، والتجاوز عن وساوسهم التي كانت تقع في قلوبهم في ساعة العسرة.
66
وتاب الله أيضا على الثلاثة الذين خلّفوا أي تخلفوا عن الغزو لا بسبب النفاق، وإنما كسلا وإيثارا للراحة والقعود. وخلفوا الغازين بالمدينة أي صاروا خلفاء للذين ذهبوا إلى الغزو وأرجئوا وأخروا عن المنافقين فلم يقض فيهم شيء، وهم المرجون لأمر الله، وهم كعب بن مالك الشاعر، وهلال بن أمية الواقفي الذي نزلت فيه آية اللعان، ومرارة بن الربيع العامري، وكلهم من الأنصار.
ووصف الله هؤلاء الثلاثة بصفات ثلاث هي:
الصفة الأولى:
حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ: أي خلفوا عن التوبة حتى شعروا بأن الأرض قد ضاقت عليهم على رحبها وسعتها بالخلق جميعا، خوفا من العاقبة، وجزعا من إعراض النبي صلى الله عليه وسلّم عنهم، ومنع المؤمنين من مكالمتهم، وأمر أزواجهم باعتزالهم، حتى بقوا على هذه الحالة خمسين يوما أو أكثر.
والصفة الثانية:
وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أي ضاقت صدورهم بسبب الهم والغم، ومجانبة الأحباء، ونظر الناس لهم بعين الإهانة.
والصفة الثانية:
وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ أي علموا واعتقدوا ألا ملجأ ولا ملاذ من غضب الله إلا بالتوبة والاستغفار ورجاء رحمته.
ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي أنزل قبول توبتهم.
لِيَتُوبُوا أي ليرجعوا إليه بعد إعراضهم عن هدايته واتباع رسوله صلى الله عليه وسلّم. وهذه الأوصاف السابقة كانت دليلا على توبتهم وصدقهم في ندمهم. إن الله
67
كثير القبول لتوبة التائبين، واسع الرحمة للمحسنين. وقصة قبول توبتهم تظهر فيما يأتي:
قال أكثر المفسرين: إنهم ما ذهبوا خلف الرسول عليه الصلاة والسلام،
قال كعب: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب حديثي، فلما أبطأت عنه في الخروج، قال عليه الصلاة والسلام: «ما الذي حبس كعبا؟» فلما قدم المدينة، اعتذر المنافقون، فعذرهم، وأتيته وقلت: إن كراعي (خيلى) وزادي كان حاضرا، واحتبست بذنبي، فاستغفر لي، فأبى الرسول صلى الله عليه وسلّم ذلك.
ثم إنه عليه الصلاة والسلام نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة، وأمر بمباينتهم حتى أمر بذلك نساءهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وجاءت امرأة هلال بن أمية، وقالت: يا رسول الله، لقد بكى هلال، حتى خفت على بصره، حتى إذا مضى خمسون يومأ أنزل الله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وأنزل قوله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا فعند ذلك خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى حجرته، وهو عند أم سلمة فقال: «الله أكبر، قد أنزل الله عذر أصحابنا» فلما صلى الفجر ذكر ذلك لأصحابه، وبشرهم بأن الله تاب عليهم، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وتلا عليهم ما نزل فيهم.
فقال كعب: توبتي إلى الله أن أخرج مالي صدقة، فقال: لا، قلت:
فنصفه قال: لا، قلت: فثلاثة؟ قال: نعم «١».
وبعد أن نزل قوله تعالى بقبول توبة هؤلاء الثلاثة، زجر عن فعل ما مضى، وهو التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الجهاد، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.
(١) تفسير الرازي: ١٦/ ٢١٨
68
أي اتقوا وتجنبوا ما لا يرضاه الله من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلّم، وكونوا مع الرسول صلى الله عليه وسلّم وأصحابه في الغزوات، ولا تكونوا متخلفين عنها، وجالسين مع المنافقين في البيوت، وكونوا في الدنيا مع الصادقين في إيمانهم وعهودهم، أو في دين الله نية وقولا وعملا، تكونوا في الآخرين مع الصادقين في الجنة.
والصدق: الثبات على دين الله وشرعه، وتنفيذ أوامره، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وقد استتبع صدق هؤلاء الثلاثة في ندمهم على ما فعلوا قبول الله تعالى توبتهم. وذلك مؤذن بأن الصدق في المواقف طريق النجاة والفلاح،
قال النبي صلى الله عليه وسلّم فيما أخرجه البيهقي مرفوعا: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، إنه يقال للصادق: صدق وبرّ، ويقال للكاذب: كذب وفجر، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدّيقا، ويكذب حتى يكتب عند الله كذابا».
وترك الكذب كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلّم سبيل لترك جميع المعاصي من خمر وزنا وسرقة ونحوها.
ولا يرخص في الكذب إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته ليرضيها، كأن يقول لها: أنت أجمل الناس، وأحب الناس إلى، لا في غير ذلك كمصالح البيت والنفقة ونحوها.
أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أسماء بنت يزيد عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل يكذب في خديعة حرب، أو صلاح بين اثنين، أو رجل يحدث امرأته ليرضيها».
وجاء في حديث آخر أخرجه ابن عدي والبيهقي عن عمران بن حصين، وهو ضعيف: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب».
فقه الحياة أو الأحكام:
موضوع الآيات: التوبة والصدق.
69
أما التوبة فكانت شاملة عامة لكل من شارك في غزوة العسرة أو غزوة تبوك. وذلك تفضل من الله ورحمة، بعد ما تعرضوا للشدائد في جميع أوقات تلك الغزوة، قال جابر: اجتمع عليهم عسرة الظّهر، وعسرة الزاد، وعسرة الماء.
قال الزمخشري في قوله تعالى: تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ هو كقوله:
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح ٤٨/ ٢] وقوله:
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر ٤٠/ ٥٥] وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي والمهاجرين والأنصار، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأن صفة التوابين الأولين صفة الأنبياء «١».
وشملت هذه التوبة أيضا الثلاثة الذين خلّفوا عن هذه الغزوة، أي أرجئوا وأخّروا عن المنافقين، فلم يقض فيهم بشيء، وذلك أن المنافقين لم تقبل توبتهم، واعتذر أقوام فقبل عذرهم، وأخّر النبي صلى الله عليه وسلّم هؤلاء الثلاثة حتى نزل فيهم القرآن.
وهذا هو الصحيح لما رواه مسلم والبخاري وغيرهما. قال كعب فيما رواه مسلم:
كنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمرنا حتى قضى الله فيه فبذلك قال الله عز وجل: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا وليس الذي ذكر الله مما خلّفنا تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له، واعتذر إليه، فقبل منه.
والأوصاف الثلاثة التي وصفهم بها القرآن دليل على صدقهم في التوبة. لذا
(١) الكشاف: ٢/ ٦١
70
أمر تعالى بالصدق بعد هذه الأوصاف، وهو خطاب لجميع المؤمنين يأمر فيه تعالى التزام مذهب الصادقين وسبيلهم.
والآية هذه توجب الصدق، وهو أمر حسن بعد قصة الثلاثة حين نفعهم الصدق، وأبعدهم عن منازل المنافقين، وهي دالة على فضل الصدق، وكمال درجته.
ولا شك بأن التوبة النصوح من أخص أحوال الصدق، فما على العاقل المتقي إلا ملازمة الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأفعال، والصفاء في الأحوال، ومن اتصف بذلك صار مع الأبرار، وحظي برضا الإله الغفار.
موقفا صدق وإيمان للمقارنة مع المتخلفين: الأول-
عن أبي ذر الغفاري أن بعيره أبطأ به، فحمل متاعه على ظهره، واتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ماشيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما رأى سواده: كن أبا ذر! فقال الناس: هو ذاك، فقال:
«رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده».
والثاني-
أن أبا خيثمة الأنصاري بلغ بستانه، وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظل ظليل، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحر والريح، ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومر كالريح، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يزهاه السراب، فقال: كن أبا خيثمة! فكان، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلّم، واستغفر له «١».
(١) الكشاف: ٢/ ٦١- ٦٢
71
فرضية الجهاد على أهل المدينة والأعراب وثوابه
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٠ الى ١٢١]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١)
الإعراب:
وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً مفعول به، وهو اسم منقوص كقاض، ودخلته الفتحة في النصب لخفتها، وجمعه أودية، وليس في كلام العرب فاعل جمعه أفعلة غيره.
البلاغة:
لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أي إن المسجد المؤسس على التقوى، تقوى الله، بإخلاص
يَطَؤُنَ مَوْطِئاً بينهما جناس اشتقاق، وكذلك يَنالُونَ نَيْلًا صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إذا غزا وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ بأن يصونوها عما رضيه لنفسه من الشدائد، والرغبة الأولى: المحبة والإيثار، والثانية: الكراهة، وهو نهي بلفظ الخبر ذلِكَ أي النهي عن التخلف بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم ظَمَأٌ عطش نَصَبٌ تعب مَخْمَصَةٌ جوع يَغِيظُ يغضب نَيْلًا أسرا أو قتلا أو أخذ مال إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إلا استوجبوا به الثواب والجزاء عليه لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أجرهم على إحسانهم، بل يثيبهم، وهو تنبيه على أن الجهاد إحسان، أما في حق الكفار فلأنه سعي في تكميلهم بأقصى ما يمكن
72
كشرب المريض الدواء المرّ، وأما في حق المؤمنين فلأنه صيانة لهم من سطوة الكفار واستيلائهم.
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً أي في الجهاد ولو مثل التمرة وَلا كَبِيرَةً مثل إنفاق عثمان رضي الله عنه في تجهيز جيش العسرة وادِياً في مسيرهم، وهو كل منفرج ينفذ فيه السيل، والمراد أي أرض إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ أثبت لهم ذلك لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ بذلك أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ جزاء أحسن أعمالهم أو أحسن جزاء أو أحسن جزاء أعمالهم.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى بقوله: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ بالصدق في متابعة الرسول في جميع الغزوات، أكد هنا ذلك، فنهى عن التخلف عنه، وأبان حسن الجزاء على الجهاد.
التفسير والبيان:
يعاتب الله تعالى المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، من أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، ورغبتهم بأنفسهم عن مشاركته في المشاق التي تعرض لها، فقال: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ.. أي ما كان ينبغي لأهل المدينة المؤمنين، ومن حولهم من قبائل العرب المجاورة لها كمزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم، التخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة تبوك، بل عليهم أن يصحبوه، فإن النفير كان فيهم، وخص هؤلاء بالعتاب لقربهم وجوارهم، وأنهم أحق بذلك من غيرهم، بل إن المراد من النص النهي عن التخلف، والتوبيخ عليه لأن المتخلف يؤثر نفسه على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلّم التي لا بد من إيثارها وحبها أكثر من حب النفس.
وظاهر هذه الألفاظ وجوب الجهاد على كل هؤلاء إلا أصحاب الأعذار بدليل العقل، وبقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة ٢/ ٢٨٦] وقوله أيضا: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ.. [النور ٢٤/ ٦١] ولا يقصد بهذا وجوب الجهاد عينا على كل واحد، فقد دل الإجماع على أن الجهاد فرض كفاية،
73
فيكون مخصوصا من هذا العموم، ويكون المنصوص عليهم هم المقصودين بالنص العام.
ولا يصح لهؤلاء إيثار أنفسهم على نفس الرسول صلى الله عليه وسلّم، فلا يرضوا لأنفسهم بالدعة والراحة، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم في المشقة.
لم يكن لهم حق التخلف، بل يجب عليهم الاتباع والجهاد، بسبب أن كل ما يصيبهم في جهادهم- من معاناة ومكابدة ومشاق كالعطش والتعب والجوع والألم في سبيل الله، ووطء جزء من أرض الكفر يغيظ الكفار، والنيل من الأعداء بالأسر أو القتل أو الهزيمة أو الغنيمة- يستوجب الثواب الجزيل المكافئ لما قدموه وزيادة، وذلك مما يوجب المشاركة في الجهاد، إن الله لا يضيع أجر المحسنين، أي لا يدع له شيئا من الثواب على إحسانه إلا كافأه به، كقوله تعالى:
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف ١٨/ ٣٠].
وكذلك لا ينفق هؤلاء المجاهدون (الغزاة) «١» في سبيل الله نفقة صغيرة ولا كبيرة، أي قبيلا ولا كثيرا، ولا يقطعون واديا، أي في السير إلى الأعداء، إلا أثبت لهم الجزء الأوفى، ليجزيهم الله أحسن الجزاء على عملهم لأن الجهاد في سبيل الله إعلاء لكلمة الإسلام، وصون الإيمان، وحفظ الأوطان، وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا واستعبدوا.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على الأحكام التالية:
١- فرضية الجهاد ووجوبه على أهل المدينة وقبائل العرب المجاورة لها، بسبب كون المدينة عاصمة الإسلام، وكونهم سكانها، وجيران الرسول صلى الله عليه وسلّم،
(١) الغزو والجهاد والحرب كلها بمعنى واحد في اللغة.
74
ويصيبهم مباشرة ما أصابه من مجد أو خير أو نصر أو غير ذلك.
٢- لا يصح لمؤمن إيثار نفسه على نفس الرسول صلى الله عليه وسلّم لأن الإيمان لا يكمل إلا بأن يحب الرسول صلى الله عليه وسلّم أكثر مما يحب نفسه.
٣- إن كل ما يتعرض له المجاهد من مكابدة ومتاعب في السفر للجهاد يثاب عليه ثوابا جزيلا.
٤- إن في الجهاد إحسانا، سواء في حق الأعداء لأنه قد ينقلهم من دائرة الكفر إلى دائرة الإسلام، وفي حق المسلمين لأنهم يصونون به الحرمات: حرمة الدين والإيمان، وحرمة البلاد والأوطان والأموال والأعراض، ويحققون به العزة والمجد والكرامة.
٥- تستحق الغنيمة بمجرد الاستيلاء، كما قال الشافعي لأن الله تعالى جعل وطء ديار الكفار بمثابة النّيل من أموالهم، وإخراجهم من ديارهم، وهو الذي يغيظهم، ويدخل الذّل عليهم، فهو بمثابة نيل الغنيمة والقتل والأسر.
٦- إن هذه الآية منسوخة بالآية التالية بعدها: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً.. وإن حكمها كان في حال قلة المسلمين، فلما كثروا نسخت، وأباح الله التخلف عن الجهاد مع الحكام لمن شاء. قال قتادة: كان هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلّم، إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر فأما غيره من الأئمة والولاة، فلمن شاء أن يتخلف خلفه من المسلمين إذا لم يكن بالناس حاجة إليه ولا ضرورة. قال القرطبي: قول قتادة حسن، بدليل غزاة تبوك.
أما المعذورون الباقون في المدينة فلهم مثل أجر العاملين المجاهدين لما
روى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لقد تركتم بالمدينة أقواما، ما سرتم مسيرا، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه، قالوا: يا رسول الله، وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر»
وأخرجه مسلم من حديث جابر قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزاة، فقال:
75
إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم، حبسهم المرض»
فأعطى صلى الله عليه وسلّم للمعذور من الأجر مثل ما أعطى للقوي العامل. ويؤكد ذلك أن النية الصادقة هي أصل الأعمال، فإذا صحت في فعل طاعة، فعجز عنها صاحبها لمانع منها، فله الثواب على عمله
لقوله صلى الله عليه وسلّم فيما رواه البيهقي عن أنس وهو ضعيف: «نية المؤمن خير من عمله».
الجهاد فرض كفاية وطلب العلم فريضة
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٢]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)
الإعراب:
لولا: للتحضيض، وهي داخلة هنا على الماضي، فتفيد التوبيخ واللوم على ترك الفعل فيما مضى، والأمر به في المستقبل.
المفردات اللغوية:
لِيَنْفِرُوا إلى الجهاد فَلَوْلا فهلا وهي تفيد الحض والحث على ما تدخل عليه نَفَرَ خرج للقتال فِرْقَةٍ قبيلة أو جماعة عظيمة طائِفَةٌ جماعة قليلة أقلها اثنان أو واحد، ومكث الباقون لِيَتَفَقَّهُوا ليتعلم الباقون الفقه والأحكام الشرعية، والتفقه: تكلف الفقاهة والفهم، وتجشم مشاق التحصيل وَلِيُنْذِرُوا يخوفوا إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ من الجهاد، بتعليمهم ما تعلموه من الأحكام لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ليحذروا عقاب الله بامتثال أمره ونهيه، والحذر من الشيء: التحرز منه.
سبب النزول:
أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً
76
أَلِيماً
وقد تخلف عنه ناس في البدو يفقهون قومهم، فقال المنافقون: قد بقي ناس في البوادي، هلك أصحاب البوادي، فنزلت: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً.
وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير قال: كان المؤمنون، لحرصهم على الجهاد، إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم سرية، خرجوا فيها، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلّم بالمدينة في رقة من الناس، فنزلت.
قال ابن عباس: لما شدّد الله على المتخلفين قالوا: لا يتخلف منا أحد عن جيش أو سرية أبدا، ففعلوا ذلك، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وحده، فنزل:
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ الآية.
وقال ابن عباس أيضا: فهذه مخصوصة بالسرايا، والتي قبلها بالنهي عن تخلف واحد، فيما إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلّم.
المناسبة:
هذه الآية من بقية أحكام الجهاد، فهي لا توجب على جميع المؤمنين الجهاد إذا لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلّم إليه، وإنما أرسل سرية. وحينئذ يجب على المؤمنين طلب العلم والتفقه في الدين لأن الجهاد يعتمد على العلم، ولأن نشر الإسلام في الأصل يتوقف على البيان بالحجة والبرهان.
التفسير والبيان:
هذا بيان لمراده تعالى من نفير الأحياء كلهم، فتكون فئة منهم للتفقه وفئة أخرى للجهاد، فإنه فرض كفاية على الناس، كما أن طلب العلم فرض كفاية أيضا.
فما كان من شأن المؤمنين أن ينفروا جميعا، ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلّم وحده، فإن
77
الجهاد فرض كفاية، متى قام به البعض سقط الإثم عن الباقين، لا فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل، وإنما يصبح فرض عين إذا خرج الرسول للجهاد واستنفر الناس إليه.
فهلا نفر في أثناء النهضة من كل جماعة كالقبيلة أو البلد طائفة قليلة منهم للتفقه في الدين، ومعرفة أحكام الشريعة وأسرارها، حتى إذا ما رجع المجاهدون من المعركة أنذروهم من الأعداء وحذروهم من غضب الله وعرفوهم أحكام الدين، لكي يخافوا الله، ويحذروا عاقبة عصيانه، ومخالفة أمره.
والضمير في لِيَتَفَقَّهُوا، ولِيُنْذِرُوا للمقيمين مع النبي صلى الله عليه وسلّم. وضمير إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ أي المجاهدون من الجهاد.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآية على الأحكام التالية:
١- الجهاد فرض كفاية، وليس فرض عين، إذ لو نفر الكل لتعطلت مصالح الأمة، وتضررت الأسر والأولاد، فليخرج فريق من المسلمين للجهاد، وليقم فريق يتفقهون في الدين، ويحفظون الحريم، ويصونون مصلحة البلاد.
حتى إذا عاد النافرون أعلمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع. وهذه الآية مبينة لقوله تعالى: إِلَّا تَنْفِرُوا وللآية التي قبلها: انْفِرُوا.
وقال مجاهد وابن يزيد: ناسخة والأصح القول بأنها مبينة لا ناسخة. وكل من مِنْ المفيدة للتبعيض، والفرقة (الجماعة الكثيرة) والطائفة (الجماعة الأقل) يفيد كون الجهاد وطلب العلم موجها للبعض.
٢- وجوب طلب العلم، والتفقه في القرآن والسنة، وهو فرض على الكفاية لا على الأعيان بدليل قوله تعالى: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ
78
لا تَعْلَمُونَ
[النحل ١٦/ ٤٣]. وآية لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وإن اقتضت فقط الحث على طلب العلم والندب إليه دون الوجوب والإلزام، فقد لزم طلب العلم بأدلة أخرى، مثل
حديث: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» رواه ابن عدي والبيهقي عن أنس، ورواه آخرون.
والطائفة وإن أطلقت على الاثنين والواحد في اللغة، فلا شك إن المراد بها هنا جماعة لقوله تعالى: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ فجاء بضمير الجماعة، ولأن العلم لا يتحصل بواحد في الغالب.
ومما يدل على أن الواحد يقال له طائفة قوله: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات ٤٩/ ٩] يعني نفسين، بدليل قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ فجاء بلفظ التثنية. وأما ضمير اقْتَتَلُوا وإن كان ضمير جماعة، فأقل الجماعة اثنان، في أحد القولين للعلماء.
٣- يجب أن يكون المقصود من التفقه والتعلم دعوة الخلق إلى الحق، وإرشادهم إلى الدين القويم والصراط المستقيم لأن الآية أمرت بإنذارهم إلى الدين الحق، وعليهم أن يحذروا الجهل والمعصية، ويرغبوا في قبول الدين. فغرض المعلم الإرشاد والإنذار، وغرض المتعلم اكتساب الخشية. هذا.. وطلب العلم ينقسم قسمين: فرض على الأعيان كالصلاة والزكاة والصيام، وفرض على الكفاية كتحصيل الحقوق وإقامة الحدود والفصل بين الخصوم ونحوه.
وطلب العلم فضيلة عظيمة، ومرتبة شريفة لا يوازيها عمل،
لما رواه مسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»
وروى الترمذي عن أبي الدرداء قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل
79
العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، إنما ورّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر».
٤- خبر الواحد حجة لأن الطائفة مأمورة بالإنذار أو الإخبار، وهو يقتضي فعل المأمور به، ولأنه سبحانه أمر القوم بالحذر عند الإنذار، والمراد: ليحذروا.
السياسة الحربية في قتال الكفار
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)
المفردات اللغوية:
يَلُونَكُمْ يجاورونكم الأقرب فالأقرب غِلْظَةً شدة وخشونة، أي اغلظوا عليهم مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعون والنصر.
المناسبة:
لما أمر الله سبحانه المؤمنين بقتال المشركين كافة، كما يقاتلونهم كافة، أرشدهم في هذه الآية إلى الطريق الأصوب الأصلح، وهو أن يبتدءوا من الأقرب فالأقرب، ثم ينتقلوا إلى الأبعد فالأبعد. وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلّم وصحابته بهذه الخطة، فقد قاتل قومه في مكة، ثم قاتل سائر العرب، ثم انتقل إلى قتال الروم في الشام، ثم دخل صحابته العراق.
وهكذا سار خط الدعوة الإسلامية على هذا الترتيب، فقال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء ٢٦/ ٢١٤] ثم اتسع نطاقها إلى الجزيرة العربية، فقال
80
تعالى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الأنعام ٦/ ٩٢] وقال عزّ وجلّ:
سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح ٤٨/ ١٦] ثم انتشرت خارج الجزيرة بين أهل الكتاب فقال سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة ٩/ ٢٩] وقال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام ٦/ ١٩] أي لأنذر العرب ومن يبلغه القرآن في كل زمان ومكان.
فالسياسة الإسلامية تسير على منهج دعوة الأقرب فالأقرب سلما، وقتال الأقرب فالأقرب إذا توافرت دواعي القتال.
التفسير والبيان:
يأيها المؤمنون قاتلوا الأقرب منهم فالأقرب إلى ديار الإسلام، فإن الأقرب أحق بالشفقة والإصلاح، ولأن تكوين الأتباع المؤمنين من الجوار بالدعوة الإسلامية أفيد وأحصن وأجدى، وفيه حماية الديار والوطن، ولأن هذا الترتيب يحقق قلة النفقات، والاقتصاد في نقل الآلات وانتقال المجاهدين بأمان، حتى لا يطعنوا من الخلف.
وهذا بالطبع يشمل أولا اليهود حوالي المدينة كقريظة والنضير وخيبر، ثم المشركين في جزيرة العرب، ثم أهل الكتاب وهم الروم في الشام شمال المدينة.
وسياسة القتال أن يجدوا في المؤمنين المقاتلين غلظة أي شدة وخشونة، وقوة وحميّة، وصبرا على القتال، وجرأة على خوض المعارك والفتك والأسر ونحو ذلك، وهذه طبيعة الحرب ومصلحة القتال، ونظير الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة ٩/ ٧٣].
وأعلموا أن الله مع المتقين أي بالنصر والحراسة والإعانة، والمتقون: هم
81
المتبعون أوامر الله، المجتنبون نواهيه. فهذه المعية ملازمة للتقوى، فالله معكم إذا التزمتم أحكام شرعه ومن أهمها إقامة الفرائض والسنن، والثبات والصبر والطاعة والنظام، وابتعدتم عن اختراق حدوده والتقصير في إعداد العدة المناسبة لكل عصر وزمان ومكان، كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ [الأنفال ٨/ ٦٠].
وإذا أريد بالمتقين المخاطبون، ففيه إظهار بدل الإضمار للدلالة على أن الإيمان والقتال من باب التقوى، والشهادة بكونهم من زمرة المتقين. وإذا أريد بالمتقين الجنس دخل المخاطبون دخولا أولياء، والكلام تعليل وتوكيد لما قبله، أي قاتلوهم واغلظوا عليهم ولا تخافوهم لأن الله معكم أو لأنكم متقون.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى ما يلي:
١- التعريف بكيفية الجهاد، وكون الابتداء به بالأقرب فالأقرب من العدو، ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعرب، ثم قصد الروم بالشام. وروي عن الحسن البصري أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٥]. والأصح أنها غير منسوخة لأنها للإرشاد ورسم خطة الحرب في قتال الكفار. قال قتادة: الآية على العموم في قتال الأقرب فالأقرب، والأدنى فالأدنى «١».
٢- أمر المؤمنين بالاتصاف بالغلظة على الكفار، حتى يجدهم الكفار متصفين بذلك. وهذا لا شك في أثناء القتال، أما قبل بدء المعركة فشأن المسلمين هو الرفق واللين والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن وجدوا تنمرا وتجهما
(١) تفسير القرطبي: ٨/ ٢٩٧، تفسير الرازي: ١٦/ ٢٨٨
82
من الأعداء، عوملوا بما يناسب من العنف والشدة فالفائدة في الشدة في هذه المواطن أقوى تأثيرا في الزجر والمنع عن القبيح والشر، وقد يحتاج الأمر إلى الرفق واللطف. فالأمر بالعنف ليس مطردا، وإنما يعمل بما هو الأوفق ولو في أثناء المعركة.
٣- إن الله نصير المتقين في السلم والحرب، والواجب أن يكون الهدف من القتال تقوى الله، لا طلب المال والجاه.
موقف المنافقين من سور القرآن
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٧]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
الإعراب:
وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ جملة حالية.
البلاغة:
فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ أي كفرا مضموما إلى الكفر بغيرها. ولما ازداد المنافقون عند
83
نزول السورة عمى، أضيف ذلك إلى السورة على طريق الاستعارة.
أَوَلا يَرَوْنَ هذه ألف استفهام، دخلت على واو العطف، وهو خطاب على سبيل التنبيه.
المفردات اللغوية:
سُورَةٌ من القرآن فَمِنْهُمْ من المنافقين مَنْ يَقُولُ لأصحابه استهزاء إِيماناً تصديقا يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بها وبنزولها مَرَضٌ شك وضعف اعتقاد وكفر ونفاق رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ كفرا ونفاقا إلى كفرهم وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ واستحكم ذلك فيهم حتى ماتوا على الكفر.
أَوَلا يَرَوْنَ أي المنافقون يا أيها المؤمنون يُفْتَنُونَ يبتلون بأصناف البلاء، أو بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فيعاينون ما يظهر عليه من الآيات فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أي أنهم يتعرضون للعذاب في الدنيا في كل عام مرة أو مرتين، وقال مقاتل: يفضحون بإظهار نفاقهم كل سنة مرة أو مرتين ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من نفاقهم وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ يتعظون. وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فيها ذكرهم وقرأها النبي صلى الله عليه وسلّم نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ تغامزوا بالعيون إنكارا لها وسخرية، أو غيظا، لما فيها من عيوبهم هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ أي أنهم يريدون الهرب، ويقولون: هل يراكم أحد إن قمتم من حضرة الرسول صلى الله عليه وسلّم، فإن لم يرهم أحد قاموا، وإن رآهم أحد أقاموا وتثبتوا ثُمَّ انْصَرَفُوا على كفرهم صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الهدى والإيمان، وهو يحتمل الإخبار، والدعاء بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الحق، لسوء فهمهم وعدم تدبرهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أنواعا من مخازي المنافقين وأعمالهم القبيحة، كتخلفهم عن غزوة تبوك، وتعللهم بالإيمان الفاجرة، ذكر هنا أنواعا أخرى أخطر مما سبق، وهي استهزاؤهم بالقرآن وتهربهم حين سماعه لأنه كلما نزلت سورة مشتملة على تبيان فضائحهم وعيوبهم تأذوا من سماعها، وكذلك كلما سمعوا سورة وإن لم يذكر فيها شيء عنهم، استهزءوا بها وطعنوا فيها، وأخذوا في التغامز والتضاحك على سبيل الطعن والهزء.
84
التفسير والبيان:
إذا ما أنزلت سورة من سور القرآن وبلغت المنافقين، فمنهم من يقول لإخوانه أي يقول بعضهم لبعض: أيكم زادته هذه السورة إيمانا؟ أي تصديقا بأن القرآن من عند الله، وأن محمدا صادق في نبوته.
ومن المعروف أن الإيمان الصحيح: وهو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس، يزيد بنزول القرآن، ويتضاعف بسماعه سماع تدبر وإمعان، مما يدفع إلى العمل بما نزل فيه. وفي هذا دلالة واضحة على أن الإيمان يزيد وينقص، كما هو مذهب الأكثرين.
فأجابهم الله تعالى عن حقيقة أثر القرآن: فأما المؤمنون فيزيدهم نزول القرآن يقينا وتصديقا وقوة دافعة إلى العمل به، وهم أي وحالهم أنهم يفرحون بنزول السورة لأنها تزكي أنفسهم، وترشدهم إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة. قال الزمخشري في فَزادَتْهُمْ إِيماناً: لأنها أزيد لليقين والثبات وأثلج للصدر، أو فزادتهم عملا، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان لأن الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل.
والذين في نفوسهم شك وكفر ونفاق، فتزيدهم السورة كفرا ونفاقا مضموما إلى كفرهم ونفاقهم السابق، ويستحكم ذلك فيهم إلى أن يموتوا وهم كافرون بالقرآن وبالنبي صلى الله عليه وسلّم. وهذا مناقض للهدف من إنزال السورة، فهي في الحقيقة هدى ونور، وشفاء لما في الصدور، وجلاء لما في القلوب، كما قال تعالى:
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء ١٧/ ٨٢] وقال عز وجل: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت ٤١/ ٤٤] فهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم، كما أن سيء المزاج لا يفيده الغذاء إلا تأخرا ونقصا.
85
وبعد أن بيّن الله تعالى أن المنافقين يموتون كفارا، أوضح أنهم يتعرضون أيضا لعذاب الدنيا كل عام مرة أو مرتين، فقال: أو لا يرى هؤلاء المنافقون أنهم يختبرون كل عام مرة أو مرتين بأنواع الاختبار العديدة من جهاد وقحط ومرض وهي التي تذكّر الإنسان بالله، وتجعله ميالا إلى الإيمان وترك الكفر والتمييز بين الحق والباطل.
ثم إنهم مع توالي الاختبارات لا يتوبون من ذنوبهم السابقة، ولا يتعظون فيما يستقبل من أحوالهم، مما يجعلهم غير مستعدين لقبول الإيمان.
وإذا أنزلت سورة قرآنية على النبي صلى الله عليه وسلّم، وهم جلوس عنده، تلفتوا وتغامزوا بالعيون وتهكموا لفساد قلوبهم، وعزموا على الهروب، قائلين: هل يراكم الرسول صلى الله عليه وسلّم أو المؤمنون إذا خرجتم؟
ثم انصرفوا جميعا عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم أي تولوا عن الحق، فهذا حالهم في الدنيا لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه، كقوله تعالى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر ٧٤/ ٤٩- ٥١] وقوله: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ [المعارج ٧٠/ ٣٦- ٣٧] أي ما لهؤلاء القوم يخرجون مسرعين، هروبا من الحق، وذهابا إلى الباطل.
صرف الله قلوبهم عن الحق والإيمان وعن الخير والنور. وهذا إما دعاء عليهم به أو إخبار عن أحوالهم.
ذلك الصرف بسبب أنهم قوم لا يفهمون الآيات التي يسمعونها، ولا يريدون فهمها، ولا يتدبرون فيها حتى يفقهوا، بل هم في شغل عن الفهم ونفور منه، كقوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف ٦١/ ٥].
86
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- الإيمان يزيد وينقص، وهو مذهب أكثر السلف والخلف، فالمؤمنون يزدادون إيمانا بما يتجدد نزوله من القرآن، ويفرحون به، لتزكية نفوسهم، وتحقيق سعادتهم.
٢- الكفر يتراكم بعضه فوق بعض، وينضم بعضه إلى بعض لأنهم كلما جددوا بتجديد الله الوحي كفرا ونفاقا، ازداد كفرهم واستحكم، وتضاعف عقابهم.
٣- المنافقون المستهزئون بالقرآن يموتون على كفرهم إن لم يتوبوا، مما يدل على مداومة الكفر.
٤- وسائل تذكير المنافقين بالإيمان والحق كثيرة متكررة، فتتوالى عليهم اختبارات عديدة كالأمراض والأوجاع، والشّدة والقحط، والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلّم كل عام مرة أو مرتين، ويرون ما وعد الله من النصر والتأييد.
٥- ومن الوسائل الداعية لإيمان المنافقين أيضا ما ينزل به القرآن كاشفا أسرارهم، معلما بمغيبات أمورهم، ومع ذلك ينصرفون عن تلك الحال التي هي مظنّة النظر الصحيح والاهتداء، ولا يسمعون القرآن سماع تدبر وتعقل ونظر في آياته: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال ٨/ ٢٢].
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد ٤٧/ ٢٤].
وقوله: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً قول صادر على سبيل الاستهزاء، وقوله نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ اكتفاء بنظر بعضهم إلى بعض على سبيل الهزء، وطلب الفرار.
87
٦- إن الله تعالى صرفهم عن الإيمان وصدهم عنه في مذهب أهل السنة، لصرف نفوسهم عنه لقوله: صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وهو إما دعاء عليهم أي قولوا لهم هذا، وإما خبر عن صرفها عن الخير والرشد والهدى، مجازاة على فعلهم.
وهذا رد على القدرية في اعتقادهم أن قلوب الخلق بأيديهم، وجوارحهم بحكمهم، يتصرفون بمشيئتهم، ويحكمون بإرادتهم واختيارهم.
صفات الرسول صلى الله عليه وسلّم ذات الصلة بأمته
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
الإعراب:
ما عَنِتُّمْ ما: مصدرية، وهي مع عَنِتُّمْ في تأويل المصدر، وتقديره: عزيز عليه عنتكم. وهو إما مرفوع بعزيز لأنه وقع صفة لرسول، وإما مبتدأ، وعَزِيزٌ خبره، والجملة من المبتدأ والخبر في موضع رفع لأنها صفة رَسُولٌ.
المفردات اللغوية:
مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي منكم ومن جنسكم، وهو محمد صلى الله عليه وسلّم عَزِيزٌ شديد أو شاق ما عَنِتُّمْ أي عنتكم أي مشقتكم ولقاؤكم المكروه حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أن تهتدوا والحرص: شدة الرغبة في الحصول على الشيء رَؤُفٌ شفوق، والرأفة أخص من الرحمة، وتكون مع الضعف والشفقة والرقة رَحِيمٌ يريد لكم الخير، والرحمة عامة شاملة حال الضعف وغيره فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان بك فَقُلْ: حَسْبِيَ كافي تَوَكَّلْتُ وثقت به لا بغيره وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الكرسي الْعَظِيمِ خص العرش بالذكر لأنه أعظم المخلوقات.
88
المناسبة:
لما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلّم أن يبلغ في هذه السورة تكاليف شاقة شديدة صعبة يعسر تحملها إلا من خصة الله بالتوفيق، ختمها بما يوجب سهولة تحملهم تلك التكاليف، وهو أن هذا الرسول صلى الله عليه وسلّم منكم، فكل ما يحققه من عز وشرف فهو عائد إليكم، وهو بحال يشق عليه ضرركم، وتعظم رغبته في إيصال خير الدنيا والآخرة إليكم، فهو كالطبيب الحاذق إذا أقدم على علاجات صعبة، فإنما يريد الخير، فاقبلوا منه هذه التكاليف الشاقة لتفوزوا بكل خير.
وكذلك لما بدأ السورة ببراءة الله ورسوله من المشركين، وقص فيها أحوال المنافقين شيئا فشيئا، خاطب العرب على سبيل تعداد النعم عليهم والمن عليهم بكونه جاءهم رسول من جنسهم أو من نسبهم عربي قرشي يبلغهم عن الله، متصف بالأوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم بالوقوع في العذاب الأخروي، ويحرص على هداهم ويرأف بهم ويرحمهم «١».
روى الحاكم في المستدرك عن أبي بن كعب قال: آخر آية نزلت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ... إلى آخر السورة. وروى الشيخان عن البراء بن عازب قال:
آخر آية نزلت: يَسْتَفْتُونَكَ، قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ وآخر سورة نزلت: بَراءَةٌ. وعن ابن عباس: آخر آية نزلت: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ وكان بين نزولها وموته صلى الله عليه وسلّم ثمانون يوما. وهذا قول سعيد بن جبير أيضا.
التفسير والبيان:
امتن الله تعالى على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم، أي من
(١) البحر المحيط: ٥/ ١١٧
89
جنسهم وعلى لغتهم. لقد جاءكم أيها العرب رسول من جنسكم وبلغتكم، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة ٦٢/ ٢] وقال أيضا:
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران ٣/ ١٦٤] وصف الله هذا الرسول بخمس صفات:
الأولى- قوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من العرب، والمقصود منه ترغيب العرب في نصرته. قال ابن عباس: إنه ليس من العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلّم مضريّها وربيعيها ويمانيها، أي أن نسبه تشعب في جميع قبائل العرب.
الثانية- عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي شديد عليه عنتكم أي مشقتكم ولقاؤكم المكروه في الدنيا والآخرة، إذ هو منكم، يتألم لألمكم ويفرح لفرحكم.
الثالثة- حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي حريص على هدايتكم وإيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة.
الرابعة والخامسة- بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ أي شديد الرأفة والرحمة بالمؤمنين. قال ابن عباس رضي الله عنهما: سماه الله تعالى باسمين من أسمائه.
فإن تولوا أي أعرض المشركون والمنافقون عنك وعن الإيمان برسالتك والاهتداء بشرعك، فقل: حسبي الله، أي الله كافي في النصر على الأعداء.
لا إله إلا هو، أي لا معبود سواه أدعوه وأخضع له، عليه توكلت أي فوضت أمري إليه وحده، فلا أتوكل إلا عليه.
وهو رب العرش العظيم، والعرش: سقف المخلوقات كلها في السموات والأرض وما بينهما، وخص العرش لأنه أعظم المخلوقات، فيدخل فيه ما دونه
90
إذا ذكر، إذ عليه تدبير أمور الخلق، كما قال تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [يونس ١٠/ ٣].
روى أبو داود عن أبي الدرداء قال: من قال إذا أصبح وإذا أمسى: «حسبي الله، لا إله إلا هو عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم، سبع مرات، كفاه الله ما أهمه، صادقا كان بها أو كاذبا».
وحكى النقاش عن أبي بن كعب أنه قال: أقرب القرآن عهدا بالله تعالى هاتان الآيتان: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السورة.
وقد اتفق الصحابة حين جمع القرآن على وضع هاتين الآيتين في آخر سورة بَراءَةٌ روى أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن زيد بن ثابت في جمع القرآن وكتابته في عهد أبي بكر أنه قال: حتى وجدت من سورة التوبة آيتين عند خزيمة الأنصاري، لم أجدهما مع أحد غيره: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخرها. أي لم يجدهما مكتوبتين عند غيره، وإن كانتا محفوظتين عنده وعند غيره، كما ذكر ابن حجر.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر أن رجلا من الأنصار جاء بهما عمر، فقال:
لا أسألك عليها. بيّنة أبدا، كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقرؤها.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أمرين:
١- اتصاف النبي صلى الله عليه وسلّم بصفات خمس تستدعي من العرب الاستجابة لدعوته، وتحمّل أعباء رسالته، والقيام بالتكاليف التي أمر بها، لأنه منهم وفيهم، وحريص على اهتدائهم، ورؤف رحيم بهم.
91
٢- إن أعرض الناس عن دعوة النبي فهو يستنصر بالله المعين الكافي ويكتفي باللجوء إليه في الدعاء والعبادة والإعانة، والخضوع والتذلل، لأن الله رب العرش العظيم، والناس مقهورون تحت العرش بقدرة الله تعالى، وعلمه محيط بكل شيء، وقدره نافذ في كل شيء، وهو على كل شيء وكيل.
92

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة يونس عليه السّلام
مكية وهي مائة وتسع آيات.
تسميتها:
سميت «سورة يونس» لذكر قصة نبي الله يونس فيها، وهي قصة مثيرة، سواء بالنسبة لشخصه الذي تعرض لالتقام الحوت له، أو بالنسبة لما اختص به قومه من بين سائر الأمم، برفع الله العذاب عنهم حين آمنوا وتابوا بصدق.
موضوعها:
تتميز بالكلام عن الأهداف الكبرى لرسالة القرآن وهي إثبات التوحيد لله وهدم الشرك، وإثبات النبوة والبعث والمعاد، والدعوة للإيمان بالرسالات السماوية وخاتمتها القرآن العظيم، وهي موضوعات السور المكية عادة.
مناسبتها لما قبلها:
ختمت سورة التوبة السابقة بذكر صفات الرسول صلى الله عليه وسلّم، وبدئت هذه السورة بتبديد الشكوك والأوهام نحو إنزال الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلّم، للتبشير والإنذار، وكانت أغلبية آيات السورة المتقدمة في أحوال المنافقين وموقفهم من القرآن، وهذه في أحوال الكفار والمشركين وقولهم في القرآن. فالاتصال بالسورة المتقدمة واضح، فقد ذكرت أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلّم التي تستدعي الإيمان به، ثم
93
ذكر هنا الكتاب الذي أنزل، والنبي الذي أرسل، وأن شأن الضالين التكذيب بالكتب الإلهية.
ويلاحظ أنه لا يشترط وجود تناسب واضح بين السور ولا بين الآيات في ضمن السورة الواحدة، فقد تتعدد الأغراض والانتقال من العقيدة إلى العبادة إلى الأخلاق والأمثال والقصص وأحكام السلوك والمعاملات، وذلك أسلوب خاص بالقرآن لاجتذاب الأنفس حين التلاوة والبعد عن السأم والملل، وقد أصبح هذا الأسلوب هو المرغوب فيه شعبيا كما يظهر في الإقبال على الروايات وأساليب العرض القصصي والتمثيليات، لشد انتباه المشاهدين والقارئين والسامعين، من خلال المفاجآت والاستطرادات وتحليل بعض القضايا الجانبية.
فقد يكون هناك تناسب بين السور، كسور الطواسين وحواميم وسورتي المرسلات والنبأ، وقد يوجد فاصل بينهما كسورتي الهمزة واللهب مع أن موضوعهما واحد.
ما اشتملت عليه السورة:
سورة يونس تتحدث عن الرسالات الإلهية، والألوهية وصفات الإله، والنبوة وقصص بعض الأنبياء، وموقف المشركين من القرآن، والبعث والمعاد.
١- بدأت السورة بتقرير سنة الله في خلقه بإرسال رسول لكل أمة، وختم الرسل بالنبي صلى الله عليه وسلّم، مما لا يستدعي عجب المشركين من بعثته: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [٢].
٢- ثم تحدثت عن إثبات وجود الإله من طريق آثاره في الكون: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ.. الآيات. ثم التذكير بمصير الخلائق إليه بالبعث والجزاء: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً.. وانقسام البشر إلى
94
مؤمنين وكفار وجزاء كل منهم. وإنذار الجاحدين بإهلاك الأمم الظالمة:
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا...
٣- ثم أوضحت عقائد المشركين وذكرت خمس شبهات لمنكري النبوة والرسالة وناقشتهم نقاشا منطقيا مقنعا، وأثبتت أن القرآن كلام الله ومعجزة النبي الخالدة على مر الزمان: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وأقامت الدليل على كونه من عند الله بتحدي المشركين وهم أمراء البيان وأساطين الفصاحة والبلاغة أن يأتوا بسورة من مثله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ... وذكرت موقف المشركين من القرآن: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ....
٤- ثم ذكرت آثار القدرة الإلهية الباهرة التي تدل على عظمة الله وضرورة الإيمان به، لأنه مصدر الحياة والرزق والنعم: قُلْ: مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، فَسَيَقُولُونَ: اللَّهُ، فَقُلْ: أَفَلا تَتَّقُونَ؟!.
٥- ثم تناولت بإيجاز للعبرة والعظة وتقرير صدق القرآن قصص بعض الأنبياء، كقصة نوح عليه السّلام في تذكير قومه، وقصة موسى عليه السّلام مع فرعون، واستعانة فرعون بالسحرة لإبطال دعوة موسى، وشأن موسى مع قومه، ودعائه على فرعون، ونجاة بني إسرائيل، وغرق فرعون في البحر، وقصة يونس عليه السّلام مع قومه، فصار المذكور في هذه السورة ثلاث قصص.
٦- ختمت السورة بما أشارت إليه في الآية [٥٧] : يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وهو اتباع رسالة القرآن وشريعة الله، لما فيها من خير وصلاح للإنسان: قُلْ: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ.. وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ، وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ،
95
Icon