تفسير سورة البينة

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة البينة من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿مُنفَكِّينَ﴾ منتهين زائلين، وأصلُ الفك: الفتحُ ومنه فكُّ الكتاب، وفكُّ الخلخال ﴿البينة﴾ الحجة الواضحة، والدلالة القاطعة ﴿مُّطَهَّرَةً﴾ منزهة عن الباطل والشبهات ﴿قَيِّمَةٌ﴾ مستقيمة عادلة ﴿حُنَفَآءَ﴾ مائلين عن الباطل إِلى الدين الحق، وأصل الحنف: الميلُ ﴿البرية﴾ الخلق من قولهم: برأ اللهُ الخلق، ومنه البارىء أي الخالق.
التفسِير: ﴿لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ﴾ أي لم يكن أهل الكفر والجحود، الذين كفروا بالله وبرسوله، ثم بيَّنهم بقوله ﴿مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين﴾ أي من اليهود والنصارى أهل الكتاب، ومن المشركين عبدة الأوثان والأصنام ﴿مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة﴾ أي منفصلين ومنتهين عما هم عليه من الكفر، حتى تأتيهم الحجة الواضحة، وهي بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولهذ فسَّرها بقوله ﴿رَسُولٌ مِّنَ الله﴾ أي هذه البيّنة هي رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المرسل من عند الله تعالى ﴿يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً﴾ أي يقرأ عليهم صحفاً منزَّهة عن الباطل عن ظهر قلب، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أميٌ لا يقرأ ولا يكتب قال القرطبي: أي يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب، يتلوها عن ظهر قلبه لا عن كتاب، لأنه عليه السلام كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ قال ابن عباس: ﴿مُّطَهَّرَةً﴾ من الزور، والشك والنفاق، والضلالة وقال قتادة: مطهَّرة عن الباطل ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ أي فيها أحكام قيمة لا عوج فيها، تبيّن الحق من الباطل قال الصاوي: المراد بالصحف القراطيس التي يكتب فيها القرآن، والمراد بالكتب الأحكام المكتوبة فيها، وإِنما قال ﴿فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ﴾ لأن القرآن جمع ثمرة كتب الله المتقدمة.. ثم ذكر تعالى من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة﴾ أي وما اختلف اليهود والنصارى في شأن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إِلا من بعد ما جاءتم الحجة الواضحة، الدالة على صدق رسالته، وأنه الرسول الموعود به في كتبهم قال ابو السعود: والآية مسوقةٌ لغاية التشنيع على أهل الكتاب خاصة، وتغليظ جناياتهم، ببيان أن تفرقهم لم يكن إِلا بعد وضوح الحق، وتبيّن الحال، وانقطاع الأعذار بالكلية، كقوله تعالى: ﴿وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم﴾ [آل عمران: ١٩] وقال في التسهيل: أي ما اختلفوا في نبوة سيدنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا من بعد ما علموا أنه حق، وإنما خصَّ أهل الكتاب هنا بالذكر، لأنهم كانوا يعلمون صحة نبوته، بما يجدون في كتبهم من ذكره ﴿وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ أي والحال أنهم ما أُمروا في التوراة والإِنجيل إِلا بأن يعبدوالله وحده، مخلصين العبادة جلّ وعلا، ولكنهم حرَّفوا وبدَّلوا، فعبودوا أحبارهم ورهبانهم كما قال تعالى
{اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ
560
وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً} [التوبة: ٣١] ﴿حُنَفَآءَ﴾ أي مائلين عن الأديان كلها إِلى دين الإِسلام، مستقيمين على دين إِبراهيم، دين الحنيفية السمحة، الذي جاء به خاتم المرسلين ﴿وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكاة﴾ أي وأُمروما بأن يؤدوا الصلاة على الوجه الأكمل، في أوقاتها بشروطها وخشوعها وآدابها، ويعطوا الزكاة لمستحقيها عن طيب نفس قال الصاوي: وخصَّ الصلاة والزكاة لشرفهما ﴿وَذَلِكَ دِينُ القيمة﴾ أي وذلك المذكور من العبادة والإِخلاص، وإِقام الصلاة وإِيتاء الزكاة، هنو دين الملة المستقيمة دين الإِسلام فلماذا لا يدخلون فيه؟ ثم ذكر تعالى مآل كل من الآبرار والأشرار، في دار الجزاء والقرار فقال ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ﴾ أي إِنَّ الذين كذبوا بالقرآن وبنبوة محمد عليه السلام، من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان، هؤلاء جميعهم يوم القيامة في نار جهنم، ماكثين فيها أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون ﴿أولئك هُمْ شَرُّ البرية﴾ أي أولئك هم شر الخلق على الإِطلاق قال الامام الفخر: فإن قيل: لم ذكر ﴿كَفَرُواْ﴾ بلفظ الفعل، ﴿والمشركين﴾ باسم الفاعل؟ فالجواب تنبيهاً على أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر، لأنهم كانوا مصدقين بالتوارة والإِنجيل، ومقرين بمبعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم أنهم كفروا بذلك بعد مبعثه عليه السلام، بخلاف المشركين فإِنهم ولدوا على عبادة الأوثان، وإِنكار الحشر والقيامة، وقوله ﴿أولئك هُمْ شَرُّ البرية﴾ لإِفادة الحصر أي شرٌ من السراق لأنهم سرقوا من كتاب الله صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرُّ من قطاع الطريق، لأنهم قطعوا طريق الحق عن الخلق، ولما ذكر مقرٍ الأشقياء، ذكر بعده مقر السعداء فاقل ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي إن المؤمنين الذين جمعوا بين الإِيمان وصالح الأعمال ﴿أولئك هُمْ خَيْرُ البرية﴾ أي هم خير الخليقة التي خلقها الله ويرأها ﴿جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي ثوابهم في الآخرة على ما قدموا من الإِيمان والأعمال الصالحة ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي جنات إِقامة تجري من تحت قصورها أنهار الجنة ﴿خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ أي ما كثين فيها أبداً، لا يموتون ولا يخرجون منها، وهم في نعيم دائم لا ينقطع ﴿رِّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ أي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بما قدموا في الدنيا من الطاعات وفعل الصالحات، ورضوا عنه بما أعطاهم من الخيرات والكرامات ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ أي ذلك الجزاء والثواب الحسن لمن خالف الله واتقاه، والنتهى عن معصية مولاه.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البديع والبيان نوجزها فيما يلي:
١ - الإِجمال ثم التفصيل ﴿حتى تَأْتِيَهُمُ البينة﴾ ثم فصلها بقوله ﴿رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً﴾.
٢ - الطباق بين ﴿خَيْرُ البرية﴾ و ﴿شَرُّ البرية﴾.
٣ - الاستعارةى التصريحية ﴿يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً﴾ لفظة مطهرة فيها استعارة حيث شبه تنزه الصحف عن الباطل بطهارتها عن النجاس.
٤ - المقابلة بين نعيم الأبرار وعذب الفجار ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب..﴾ الآية وبين {
561
إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية.
٥ - توافق الفواصل وهو من المحسنات البديعية مثل ﴿البينة، القَيِّمَةٌ، خَيْرُ البرية، شَرُّ البرية﴾ ونحو ذلك.
تنبيه: الإِخلاص هو لبُّ العبادة وقد جاء في الحديث القدسي: «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه» وقد قسم العلماء الأعمال الى ثلاثة أقسام: «مأمورات، ومنهيات، ومباحات» فأما المأمورات فالإِخلاص فيها بأن يقصد بعمله وجه الله، وإن كانت النية لغير وج الله، فالعمل رياء محض مردود، وأما المنهيات فإن تركها بدون نية خرج عن عهدتها، ولم يكن له أجر في تركها، وإِن تكرها ابتغاء وجه الله كان مأجوراً على تركها، وأما المباحاتن كالأكل والنوم والجماع وشبه ذلك، فإِن فعلها بغير نية لم يكن بها أجر، وإن فعلها بنية وجه الله فله فيها أجر، فإن كل مباح يمكن أن يصير قربة إِذا قصد به وجه الله، مل أن يقصد بالأكل القوة على العبادة ويقصد بالجماع التعفُّف عن الحرام.
562
Icon