تفسير سورة البينة

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة البينة من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة البينة
وتسمى سورة البرية أو «لم يكن»، وآياتها ثمان آيات، وفيها الرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب، ببيان أن ما جاء به النبي هو الحق، ثم ذكرت جزاء من بقي على الكفر منهم، ومن آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة البينة (٩٨) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)
المفردات:
مُنْفَكِّينَ: مفارقين كفرهم تاركين ما هم عليه. الْبَيِّنَةُ: الحجة الظاهرة
888
التي يتميز بها الحق من الباطل، من البيان وهو الظهور. مُطَهَّرَةً: طاهرة من الزور والبهتان. قَيِّمَةٌ: لا عوج فيها. حُنَفاءَ: مائلين عن الباطل.
الْقَيِّمَةِ أى: الكتب القيمة، أو الأمم المستقيمة العادلة. الْبَرِيَّةِ: الخلق.
جَنَّاتُ عَدْنٍ: إقامة ومكث.
المعنى:
أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس أجمعين، أرسل لهم بالهدى ودين الحق، ليخرجهم من ظلمات الجهالة، وفساد العقيدة، وذل التقليد الأعمى، وكان الكفار من أهل الكتاب أو المشركين سواء في البعد عن الحق والدين الصحيح. أما أهل الكتاب فبعد أن فارقهم موسى وعيسى تخبطوا وحرفوا الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وأصبح دينهم خليطا ممقوتا فيه إلى جانب الحق البسيط ضلالات وضلالات، وأما المشركون الذين لا يقولون بالتوحيد ولا يؤمنون بالبعث كمشركي مكة، فقد تردوا في الباطل إلى أقصاه، وأصبح دينهم مسخا من عقائد جاهلية وتقاليد بالية حسبوها دين إبراهيم الخليل، والله يعلم أنه منها برىء.
ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب الذين كانوا يستفتحون على الذين كفروا من المشركين ببعثة النبي العربي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فلما جاءهم ما عرفوا- بعثة النبي- كفروا به، ولهذا ذكرهم أولا، على أنهم أشد جرما من المشركين الذين يجهلون الحق، وهؤلاء عرفوه وكفروا به عنادا وحسدا من عند أنفسهم، ما كان هؤلاء وأولئك منفكين عن باطلهم حتى تأتيهم البينة الواضحة، والحجة الظاهرة التي تقصم ظهر الباطل، وما هي؟ هي رسول من الله، وقد كان رسول الله نفسه بينة وحجة ظاهرة على أن دينه هو الحق، فهو الصادق الأمين صاحب الخلق القويم والمعجزات الناطقة بصدقه، والمنزل عليه القرآن الذي يتلوه، أى: يقرؤه مع كونه أميا، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ القرآن حفظا عن ظهر قلب.
يتلو صحفا- القرآن- مطهرة من كل عيب وزور وكذب، تلك الصحف فيها كتب قيمة لا عوج فيها ولا نقص، وما المراد بالكتب؟ قيل: هي ما في القرآن مما بقي صحيحا من كتب موسى وإبراهيم مثلا، أو هي سور القرآن: وكأن كل سورة كتاب
889
مستقل قائم بذاته، أو هي أحكام الإسلام وشرائعه، وعلى كل فهي كتب قيمة لا عوج فيها ولا باطل، ولا كذب ولا بهتان الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً [سورة الكهف الآيتان ١ و ٢].
وهل انتهى الكفر بإرسال النبي حتى يصح قوله تعالى: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ والجواب: إن إرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم كان صدمة للشرك زلزلت عقائد المشركين وفتحت قلوب الجهلاء الملتاثين، وأنارت الطريق حتى عرفت الحق من الباطل، فكانت بعثته حدا فاصلا بين عهدين، لهذا صح قوله: «حتى» ولكن لم يؤمن الكل بالنبي. بل بعضهم وقف من النبي موقف العناد يصد عن سبيل الله، ويحاول بكل ما أوتى من قوة وجهد أن يصرف الناس عن رسول الله، أراد الله أن يسلى الرسول ببيان أن كفر الناس وعنادهم طبيعة فيهم، وقد حصل لإخوانك الأنبياء مثلك، وتفرق الناس معهم واختلفوا في شأنهم بين مؤمن وكافر ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ «١» ولقد اختلف أهل الكتاب على أنبيائهم، وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة والحجة القائمة، أى:
بعد إرسال الرسل إليهم.
عجبا لهؤلاء- اليهود والنصارى- كيف يقفون معك هذا الموقف!! هل جئتهم بأمر جديد عليهم! لا، هل أمرتهم بالمنكر ونهيتهم عن المعروف؟ إنك لم تأمرهم إلا بعبادة الله وحده مع الإخلاص والبعد عن الشرك والميل عن الإثم وكل بهتان، وأمرتهم بإقامة الصلاة لله وإيتاء الزكاة؟ ما لهم لا يؤمنون؟! إن كان هؤلاء متمسكين بدينهم حقا ومؤمنين به حقا فدينهم الصحيح يدعو لذلك، ويدعوهم للإيمان بالنبي محمد وذلك- الذي ذكر من العبادة والإخلاص إلخ- هو دين الكتب القيمة الصحيحة التي لم تحرف بعد، وهو دين الأمم المستقيمة على الحق والخير، فهل لهؤلاء عذر في ترك الإسلام؟ وهل يقبل منهم أن يعاندوا رسول الإسلام؟! ما جزاء من يكفر بتلك الشريعة الغراء السهلة السمحة؟ وما جزاء من يؤمن بها ويصدق رسولها؟ أما جزاء الذين كفروا من أهل الكتاب- وكانوا أولى الناس بأن يتسابقوا إلى الإسلام- والمشركين الذين يعبدون الأوثان ويقدسون الأصنام والأحجار فهم في نار جهنم، خالدين فيها أبدا.
(١) - سورة الأحقاف آية ٩.
890
ولا غرابة في ذلك فهم شر الخلق على الإطلاق لأنهم كذبوا على الله وصدوا عن سبيله وكذبوا بكتابه، ولم يصدقوا رسوله، بل كذبوه وآذوه وأخرجوه وحاربوه.
أما جزاء من آمن بالله وباليوم الآخر، وصدق رسول الله فأولئك هم خير البرية، وكان جزاؤهم عند ربهم- وهذه نهاية الشرف لهم- جنات إقامة ومكث، وجنات تجرى من تحتها الأنهار فيها ما يدعون ويشتهون: وهم فيها خالدون أبدا.
ولا غرابة فقد رضى الله عن أعمالهم التي عملوها، ورضى أن يمدحهم ويثيبهم عليها، وهم قد رضوا عنه لأنهم فرحوا بلقائه وسروا بنعيمه.
وذلك الفوز العظيم لمن خشي ربه، فاحذروا أيها الناس واعملوا لتنالوا هذا الأجر العظيم.
891
Icon