سورة الرعد من السور التي اختلف في مكيتها ومدنيتها ؛ فقال قوم : إنها مكية ؛ لأنها شبيهة بالسور المكية في قصتها وموضوعاتها، وقال آخرون : إنها مدنية. ولكن موضوعاتها تشبه السور المكية. وفي المصحف المطبوع بالقاهرة : سورة الرعد مدنية، وآياتها ٤٣ نزلت بعد سورة محمد.
وفي تفسير مقاتل بن سليمان : سورة الرعد مكية ويقال : مدنية. وتسمى : الرعد ؛ لقوله سبحانه فيها :﴿ ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ﴾. ( الرعد : ١٣ ).
وسورة الرعد من أعاجيب السور القرآنية التي تستولي على النفس وتثير الوجدان وتزحم الحس بالصور والمشاهد، ثم تأخذ النفس من أقطارها جميعا، فإذا هي في مهرجان من الصور والمشاعر. وتسلك السورة سبيلها إلى القلب وترتاد به آفاقا وأكوانا وعوالم وأزمانا، وهو مستيقظ مبصر مدرك شاعر بما يموج حوله من المشاهد والصور.
إنها ليست ألفاظا وعبارات ولكنها صور حية تستولي على الفؤاد وتلمس الوجدان وتوحي بالإيمان.
موضوع السورة
إن موضوع سورة الرعد الرئيس هو : العقيدة، وقضاياها هي : التوحيد، والبعث وهذا الموضوع تكرر عرضه في سور سابقة ولاحقة.
ولكنه يعرض في كل مرة بطريقة جديدة، وفي ضوء جديد، ويتناول عرضه مؤثرات وموحيات ذات إيقاع جديد وإيحاء جديد.
تطوف سورة الرعد بالقلب البشري في مجالات وآفاق وآماد وأعماق، وتعرض عليه الكون كله في شتى مجالاته الأخاذة : في السماوات المرفوعة بغير عمد، وفي الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، وفي الليل يغشاه النهار، وفي الأرض الممدودة وما فيها من رواس ثابتة وأنهار جارية، وجنات وزرع ونخيل مختلف الأشكال والطعوم والألوان، ينبت في قطع من الأرض متجاورات ويسقى بماء واحد، وفي البرق يخيف ويطمع، والرعد يسبح ويحمد، والملائكة تخاف وتخشع، والصواعق يصيب بها من يشاء، والسحاب الثقال، والمطر في الوديان، والزبد الذي يذهب جفاء ؛ ليبقى في الأرض ما ينفع الناس.
وهي تلاحق ذلك القلب أينما توجه تلاحقه بعلم الله النافذ الكاشف الشامل، يلم بالشارد والوارد والمستخفي والسارب. ويتعقب كل حي ويحصي عليه الخواطر والخوالج. والغيب المكنون الذي لا تدركه الظنون مكشوف لعلم الله وما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار.
إنها تقرب لمدارك البشر شيئا من حقيقة القوة الكبرى، المحيطة بالكون ظاهره وخافيه، جليله ودقيقه، حاضره وغيبه، وهذا القدر الذي يمكن لمدارك البشر تصوره هائل مخيف، ترجف له القلوب.
وذلك إلى الأمثال المصورة تتمثل في مشاهد حية حافلة بالحركة والانفعال إلى مشاهد القيامة، وصور النعيم والعذاب، وخلجات الأنفس في هذا وذاك، إلى وقفات على مصارع الغابرين وتأملات في سير الراحلين، وفي سنة الله التي مشت عليهم فإذا هم داثرون.
مشاهد الكون في سورة الرعد
تبدأ سورة الرعد بقضية عامة من قضايا العقيدة : قضية الوحي بهذا الكتاب، والحق الذي اشتمل عليه فيقول سبحانه :
﴿ المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾. ( الرعد : ١ ).
وهذا الافتتاح يلخص موضوع السورة كله، ويشير إلى جملة قضاياها، وتسترسل السورة في استعراض آيات القدرة، وعجائب الكون، الدالة على قدرة الله الخالق، وحكمته وتدبيره، الناطقة بأن من مقتضيات هذه الحكمة ؛ أن يكون هناك وحي ؛ لتبصير الناس، وأن يكون هناك بعث لحساب الناس، وأن مقتضيات تلك القدرة ؛ أن تكون مستطيعة بعث الناس ورجعهم إلى الخالق الذي بدأهم وبدأ الكون كله قبلهم، وسخره لهم ؛ ليبلوهم فيما آتاهم.
وتبدأ الآيات الرائعة في رسم المشاهد الكونية الضخمة ؛ نظرة إلى السماوات، ونظرة إلى الأرضين ونظرة إلى مشاهد الأرض وكوامن الحياة.
قال تعالى :﴿ الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون* وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾. ( الرعد : ٣، ٢ ).
وهذه اللفتة الأولى إلى مظاهر القدرة الإلهية تحرك الوجدان ؛ فيقف أمام هذا المشهد الهائل يتملاه، ويدرك أنه ما من أحد يقدر على رفع السماء بلا عمد - أو حتى بعمد إلا الله، وقصارى ما يرفعه الناس بعمد أو بغير عمد، تلك البنايات الصغيرة الهزيلة، القابعة في ركن ضيق من الأرض لا تتعداه، ثم يتحدث الناس عما في تلك البنايات من عظمة ومن قدرة وإتقان، غافلين عما يشملهم ويعلوهم من سماوات مرفوعة بغير عمد وعما وراءها من القدرة الحقة، والعظمة الحقة، والإتقان الذي لا يتطاول إليه خيال إنسان.
ومن هذا المنظور الهائل الذي يشاهده الناس في خلق الله، إلى المغيب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك والأبصار.
﴿ ثم استوى على العرش ﴾.
أي : استولى على ملك جميع الموجودات وأحاطت قدرته بجميع الكائنات، ومع الاستعلاء والتسخير، الحكمة والتدبير.
﴿ كل يجري لأجل مسمى ﴾. وإلى حدود مرسومة وفق ناموس مقدر.
﴿ يدبر الأمر ﴾. ويمسك بالأفلاك الهائلة والأجرام السابحة في الفضاء فتجري لأجل لا تتعداه، ومن قدرة الله : أنه مد الأرض وبسطها أمام البصر، وأمدها بمقومات الحياة.
﴿ ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ﴾. ليكمل، إبداع الخلق وتناسقه، ثم تابع الله بين الليل والنهار في انتظام عجيب، ونظام دقيق يبعث على التأمل في ناموس هذا الكون والتفكير في القدرة المبدعة التي تدبرها وترعاه، ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾.
أدلة الألوهية في سورة الرعد
نحن في سورة الرعد أمام عدد من أدلة الألوهية تتوارد وراء بعضها في سياق بديع، وعرض شائق.
فهناك الأرض التي تزرع بألوان مختلفة من النبات فيها :﴿ جنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان ﴾.
منه ما هو عود واحد، ومنه ما هو عودان أو أكثر في أصل واحد وكله :﴿ يسقى بماء واحد ﴾.
والتربة واحدة، ولكن الثمار مختلفات الطعوم :﴿ ونفضل بعضها على بعض في الأكل ﴾.
فمن غير الخالق المدبر يفعل ذلك ؟ !.
إن القرآن بمثل هذه اللفتة يبقى جديدا أبدا ؛ لأنه يجدد أحاسيس البشر بالمناظر والمشاهد في الكون والنفس وهي لا تنفد ولا يستقصيها إنسان في عمره المحدود، ولا تستقصيها البشرية في أجلها الموعود.
﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾. ( الرعد : ٤ ).
ومن أدلة الألوهية : إحاطة علم الله بالجنين في بطن أمه، وبالسر المكنون في الصدر، وبالحركة الخفية في جنح الليل، وبكل مختف بالليل وظاهر بالنهار، وهو سبحانه محيط بكل من تكلم دمسا أو تكلم جهرا ؛ فإن كل شيء مكشوف تحت المجهر الكاشف يتبعه شعاع من علم الله وتتعقبه حفظة تحصي الخواطر والنوايا، إلا إنها الرهبة الخاشعة التي لا تملك النفس معها إلا أن تلجأ إلى الله، تطمئن في حماه، وهي تتصور علم الله المحيط بكل شيء.
وتلحظ أن بعض الآيات في سورة الرعد تلمس آفاق الكون الهائل مثل : الآيات الأربع الأولى من السورة، وبعض الآيات تلمس أغوار النفس ومجاهل السرائر مثل : الآيات من ٨ إلى ١٠ حيث يقول سبحانه :﴿ الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار* عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال* سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار. ﴾.
ثم يأخذ السياق في جولة جديدة في واد آخر تجتمع فيه مناظر الطبيعة ومشاعر النفس متداخلة متناسقة، حيث يقول سبحانه :﴿ هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال* ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ﴾. ( الرعد : ١٣، ١٢ ).
والبرق والرعد والسحاب مشاهد معروفة، وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان، وهي بذاتها مشاهد ذات أثر في النفس حتى اليوم، وعند الذين يعرفون الكثير عن طبيعتها. والسورة تذكر هذه الظواهر متتابعة وتضيف إليها الملائكة والتسبيح والسجود والخوف والطمع ؛ لتصوير سلطان الله المتفرد بالقهر والنفع والضر، وقد سميت السورة بسورة الرعد ؛ لقوله سبحانه :﴿ ويسبح الرعد بحمده ﴾.
والرعد هو ذلك الصوت المقرقع المدوي، وهو أثر من آثار الناموس الكوني الذي صنعه الله أيا كانت طبيعته وأسبابه فهو رجع صنع الله في هذا الكون، وهو يحمد ويسبح بلسان الحال للقدرة التي صاغت هذا النظام، كما أن كل مصنوع جميل متقن، يسبح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه، بما يحمله من جمال وإتقان.
وقد اختار التعبير أن يجعل صوت الرعد تسبيحا للحمد ؛ إتباعا لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق، وخلع سمات الحياة وحركاتها على مشاهد الكون الصامتة ؛ لتشارك في المشهد بحركة من جنس حركة المشهد كله، وقد انضم إلى تسبيح الرعد بحمد الله، تسبيح الملائكة من خوفه ومن تعظيمه، وفي آية أخرى يقول سبحانه :﴿ والملائكة يسبحون بحمد ربهم ﴾. ( الشورى : ٥ ).
وفي الحديث النبوي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :( أطت السماء، وحق لها أن تئط ؛ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد يسبح الله تعالى ).
ثم يعبر السياق عن خضوع جميع الكائنات لمشيئة الله بالسجود، وهو أقصى رمز للعبودية، فتسجد الكائنات ويسجد ظلها معها عند انكسار الأشعة، وامتداد الظلال، فإن الكون كله بما فيه من شخوص وظلال جاثية خاضعة عن طريق الإيمان أو غير الإيمان سواء، كلها تسجد لله.
﴿ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ﴾. ( الرعد : ١٥ ).
النصف الثاني من سورة الرعد
في النصف الأول من سورة الرعد حدثتنا السورة عن المشاهد الهائلة في آفاق الكون وفي أعماق الغيب وفي أغوار النفس.
وفي النصف الثاني من السورة تسترسل الآيات في لمسات وجدانية وعقلية وتصويرية دقيقة رقيقة، حول قضية الوحي والرسالة، وقضية التوحيد والشركاء، ومسألة طلب الآيات واستعجال تأويل الوعيد. وهي جولة جديدة حول تلك القضايا في السورة.
وتبدأ هذه الجولة بلمسة في طبيعة الإيمان، وطبيعة الكفر ؛ فالأول : علم، والثاني : عمل، ﴿ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ﴾( الرعد : ١٩ ).
وتبين الآيات طبيعة المؤمنين وطبيعة الكافرين، والصفات المميزة لهؤلاء وهؤلاء، ثم يتلوها مشهد من مشاهد القيامة، وما فيها من نعيم للأولين ومن عذاب للآخرين، ويعقب ذلك لمسة في بسط الرزق وتقديره، وردهما إلى الله، فجولة مع القلوب المؤمنة المطمئنة بذكر الله، فوصف لهذا القرآن الذي يكاد يسير الجبال، وتقطع به الأرض، ويكلم به الموتى، فلمسة بما يصيب الكفار من قوارع تنزل بهم، أو تحل قريبا من دارهم، فجدل تهكمي حول الآلهة المدعاة، فلمسة عن مصارع الغابرين، ونقص أطراف الأرض منهم حينا بعد حين، يختم هذا كله بتهديد الذين يكذبون برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم بتركهم للمصير المعلوم.
من ذلك نرى أن الإيقاعات والمطارق المتوالية في شطر السورة الأول، وتحضر المشاعر وتهيئها لمواجهة القضايا والمسائل في شطرها الثاني وهي على استعداد وتفتح لتلقيها، وأن شطري السورة متكاملان، وكل منهما يوقع على الح
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون١ الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون٢ وهو الذي مدّ الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون٣ وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون٤ ﴾.المفردات :
المر : هذه الحروف للتحدي والإعجاز، أو هي مما استأثر الله بعلمه، أو هي لافتتاح الكلام، أو أسماء للسور، وقيل : هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته، ويجوز أن تشمل على جميع المعاني التي ذكرها العلماء في تفسيرها.
التفسير :
١ ﴿ المر... ﴾.
سبق أن ذكرنا : عدة آراء في تفسير الأحرف المقطعة في فواتح السور، ومجملها ما يأتي :
( أ ) أنها مما استأثر الله تعالى بعلمه.
( ب ) أنها فواتح للسور.
( ج ) أنها للتحدي والإعجاز، وبيان : أن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل هذا القرآن، مع أنه مؤلف من حروف عربية ينطقون بها ؛ فدل ذلك : على أن القرآن ليس من صنع بشر، ولكنه تنزيل من حكيم حميد.
﴿ تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾.
أي : هذه آيات هذه السورة من الكتاب، أو هذه آيات القرآن البالغ حد الكمال، المستغنى عن الوصف ؛ الجدير بأن يختص باسم الكتاب.
﴿ والذي أنزل إليك من ربك الحق ﴾. أي : كل القرآن الذي أنزله إليك حق لا شك فيه، لا يلتبس به باطل، ولا يحوم حول صحته شك أو التباس، وهذا التعبير جار على سنن العرب في تخاطبهم، حيث يميلون إلى الإجمال بعد التفصيل، سئلت فاطمة الأنمارية عن بنيها : أيهم أفضل فقالت : ربيعة، بل عماره، بل قيس، بل أنس، ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفها.
فبعد أن أثبتت الفضل لكل منهم على سبيل التعيين، أجملت القول، وأثبتت لهم الفضل جميعا.
وكذلك هنا عندما قال :﴿ تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ﴾.
أي : تلك آيات هذه السورة، التي تستعرض آيات القدرة وعجائب الكون، وحقائق القيامة، والقرآن كله حق لا ريب فيه، وصدق لا شك فيه.
﴿ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾.
أي : لانطماس بصائرهم، واستيلاء العناد على نفوسهم ؛ فهم لذلك لا يصدقون بما أنزل عليك، ولا يقرون بهذا القرآن، وما اشتمل عليه من بديع الأمثال والحكم والأحكام التي تناسب مختلف العصور والأزمان، والتي لو سار عليها الناس ؛ لسعدوا في الدنيا والآخرة.
وسخر الشمس والقمر : لمصالح خلقه.
لأجل مسمى : لوقت معلوم وذلك إلى فناء الدنيا وقيام القيامة، التي عندها تكور الشمس ويخسف القمر.
يدبر الأمر : أمر السماوات والأرض وحده بلا ظهير ولا معين.
يفصل الآيات : يبينها لكم.
لعلكم بلقاء ربكم توقنون : وبوحدانيته ووعده ووعيده.
التفسير :
﴿ الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون ﴾.
وهذه اللفتة الأولى إلى مظاهر القدرة الإلهية تحرك الوجدان ؛ فيقف أمام هذا المشهد الهائل يتملاه، ويدرك أنه ما من أحد يقدر على رفع السماء بلا عمد أو حتى بعمد إلا الله، وقصارى ما يرفعه الناس بعمد أو بغير عمد تلك البنايات الصغيرة الهزيلة، القابعة في ركن ضيق من الأرض لا تتعداه، ثم يتحدث الناس عما في تلك البنايات من عظمة ومن قدرة وإتقان، غافلين عما يشملهم ويعلوهم من سماوات مرفوعة بغير عمد، وعما وراءها من القدرة الحقة، والعظمة الحقة، والإتقان الذي لا يتطاول إليه خيال إنسان.
ومن هذا المنظور الهائل الذي يشاهده الناس في خلق الله، إلى المغيب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك والأبصار.
﴿ ثم استوى على العرش ﴾. أي : استولى على ملك جميع الموجودات، وأحاطت قدرته بجميع الكائنات وفي رواية :" العرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل " ii.
ونحن نؤمن بهذه الآيات كما وردت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل، تعالى الله علوا كبيرا.
﴿ وسخر الشمس والقمر ﴾. أي : ذلل الله الشمس والقمر وسائر الكواكب لمصالح عباده، ولنفع الناس وإعمار الكون، وذكر الشمس والقمر ؛ لأنهما أظهر الكواكب السيارة.
﴿ كل يجري لأجل مسمى ﴾. وإلى حدود مرسومة وفق ناموس مقدر.
﴿ يدبر الأمر ﴾. ويمسك بالأفلاك الهائلة والأجرام السابحة في الفضاء فتجري لأجل لا تتعداه.
﴿ يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون ﴾. يوضح الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما بدأه.
مد الأرض : بسطها أمام البصر طولا وعرضا، وأمدها بمقومات الحياة.
وجعل فيها رواسي : جبالا ثابتة، وهي : جمع راسية، يقال : أرسيت الوتد في الأرض ؛ إذا أثبته.
ومن كل الثمرات : وجعل فيها زوجين اثنين من كل الثمرات.
زوجين اثنين : نوعين وضربين.
يغشي الليل النهار : يجلل الليل النهار فيلبسه ظلمته، والنهار الليل فيلبسه ضياءه.
إن في ذلك لآيات : استدلالات وحجج لمن فكر ؛ فيعلم أن العبادة لا تجوز إلا للخالق عز وجل.
التفسير :
﴿ وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا... ﴾ الآية.
بسط الله الأرض أمام البصر، وجعلها صالحة للحياة، فجعل الجبال أوتادا ؛ لحفظ توازنها، وأمدها بالأنهار والمياه، والماء هو العنصر اللازم لأي حياة نباتية. قال تعالى :﴿ وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى ﴾. ( طه : ٥٣ ).
ويقول سبحانه :﴿ ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ﴾ ؛ ليكمل إبداع الخلق وتناسقه.
" والمعروف أن الثمرة هي نتاج عملية تناسل النباتات العليا التي تمتلك نظاما مركبا والمرحلة التي تسبق الثمرة هي مرحلة الزهرة بأعضائها الذكرية( الأبر ) وأعضائها الأنثوية( البويضات ) وبعد نقل اللقاح تعطى هذه الأخيرة الثمار التي تعطى هذه الحبوب بعد النضج. إن كل ثمرة تتضمن بالضرورة وجود أعضاء ذكورة وأعضاء أنوثة، ونلمح ذلك من المقطع السابق من الآية.
﴿ يغشي الليل النهار ﴾. أي : جعل كلا منهما يطلب الآخر طلبا حثيثا، فإذا ذهب هذا غشيه هذا، وإذا انقضى هذا جاء الآخر، فيتابع الله بين الليل والنهار في انتظام عجيب ونظام دقيق يبعث على التأمل في ناموس هذا الكون والتفكير في القدرة المبدعة التي تدبره وترعاه.
﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ﴾. فإن التفكر والتأمل عبادة روحية صامتة تقود الإنسان إلى اليقين بقدرة الله رب العالمين.
وفي الأرض قطع متجاورات : أراضي يجاور بعضها بعضا مع اختلاف طبيعة كل قطعة ولونها فهذه طيبة، وهذه سبخة مالحة، وهذه تربة حمراء، وهذه بيضاء، وهذه صفراء، وهذه سوداء، وهذه محجرة، وهذه سهلة، وهذه سميكة وهذه رقيقة.
صنوان وغير صنوان : من النبات ما له أصول مجتمعة في منبت واحد كالرمان والتين وهو الصنوان أي : ما له عودان أو أكثر في أصل واحد، وغير صنوان ما كان على أصل واحد وعود واحد، وواحد الصنوان : صنو وفي الصحيح( عم الرجل صنو أبيه ).
يسقى بماء واحد : من السماء، ومن شرب واحد.
ونفضل بعضها على بعض في الأكل : فمنها حلو ومنها حامض ومر، وقيل : هو مثل في بني آدم، أبوهم واحد ومنهم الصالح والخبيث.
التفسير :
﴿ وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد.. ﴾ والتربة واحدة ولكن الثمار مختلفات الطعوم.
﴿ ونفضل بعضها على بعض في الأكل ﴾. أي : هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزر وع في أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها وأوراقها وأزهارها ؛ فهذا في غاية الحلاوة، وهذا في غاية الحموضة، وذا في غاية المرارة، وذا عفص، وهذا عذب، وهذا أصفر وهذا أحمر، وهذا أبيض وكذلك الزهور مع أنها كلها تسقى من طبيعة واحدة وهو الماء، مع هذا الاختلاف الكثير الذي لا ينحصر ولا ينضبط ؛ ففي ذلك آيات لمن كان واعيا ﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ﴾.
إن القرآن بمثل هذه اللفتة يبقى جديدا أبدا ؛ لأنه يجدد أحاسيس البشر بالمناظر والمشاهد في الكون النفس وهي لا تنفد ولا يستقصيها إنسان في عمره المحدود ولا تستقصيها البشرية في أجلها الموعود.
قال في الميزان :
ومعنى الآية : أن من الدليل على أن هذا النظام الجاري قام بتدبير مدبر وراءه، يخضع له الأشياء بطبائعها، ويجريها على ما يشاء وكيف يشاء ؛ أن في الأرض قطعا متجاورات متقاربة بعضها من بعض متشابهة في طبع ترابها وفيها جنات من أعناب، والعنب من الثمرات التي تختلف اختلافا عظيما في الشكل واللون والطعم والمقدار، واللطافة والجودة وغير ذلك، وفيها زرع مختلف في جنسه وصنفه من القمح والشعير وغير ذلك وفيها نخيل صنوان أي : أمثال ثابتة على أصل مشترك فيه. وغير صنوان أي : متفرقة. تسقى الجميع من ماء واحد، ونفضل بعضها على بعض بما فيه من المزية المطلوبة في شيء من صفاتهiii.
المفردات :
وإن تعجب : العجب والتعجب كلاهما يستعمل على وجهين : أحدهما : فيما يستحسن ويحمد، والثاني : فيما يكره وينكر.
الأغلال : جمع غل بضم الغين. وهو طوق من حديد، أو غيره يوضع في العنق أو في اليد ؛ فتشد به إلى العنق.
التفسير :
٥ ﴿ وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا... ﴾.
أنكر الكفار البعث والحشر والجزاء والحساب، مع ما تقدم لهم من دلائل القدرة الإلهية، التي تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي فغفلوا عن تقدير هذه القدرة، وظنوا أن موت الإنسان ودفنه في التراب، يصعب معه حياة الإنسان مرة أخرى.
والمعنى : وإن تعجب من تكذيب المشركين بأمر المعاد مع ما شاهدوه من دلائل قدرة الله تعالى. فعجب أشد منه قول المشركين :
﴿ أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد ﴾. أي : إذا فنيت أجسامنا، وتفتت عظامنا، وبليت وتحللت أجسامنا، فإن الإعادة والبعث في صورة خلق جديد أمر بعيد مستغرب، ولو عقلوا ؛ لأدركوا أن قدرة الله على البدء متوفرة في الإعادة ؛ بل الإعادة أهون.
قال تعالى :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ﴾( الروم : ٢٧ ).
من تفسير الكشاف للزمخشري :
﴿ وإن تعجب ﴾. يا محمد من قولهم في إنكار البعث ؛ فقولهم عجيب، حقيق بأن يتعجب منه ؛ لأن من قدر على إنشاء ما عدد من الفطر العظيمة، ولم يعي بخلقهن ؛ كانت الإعادة أهون شيء عليه وأيسره ؛ فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيبiv. وقد تكرر هذا الاستفهام في أحد عشر موضعا في تسع سور من القرآن الكريم، في الرعد والإسراء والمؤمنون والنحل والعنكبوت، والسجدة والصافات والواقعة والنازعات، وكلها تتضمن كمال الإنكار وعظيم الاستبعاد، مثل قوله تعالى :﴿ يقولون أئنا لمردودون في الحافرة* أئذا كنا عظاما نخرة* قالوا تلك إذا كرة خاسرة* فإنما هي زجرة واحدة* فإذا هم بالساهرة ﴾( النازعات١٠ ١٤ ).
ومثل قوله تعالى :﴿ وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون* أو آباؤنا الأولون* قل إن الأولين والآخرين* لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم ﴾( الواقعة : ٤٧ ٥٠ ).
ومثل قوله تعالى :﴿ وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ﴾( الإسراء : ٤٩ ).
وجوز بعضهم : أن يكون الخطاب لكل من يصلح له، أي : وإن تعجب أيها العاقل بشيء ؛ فازدد تعجبا ممن ينكر قدرة الله على إحياء الموتى.
﴿ أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم ﴾.
أي : هؤلاء المنكرون للبعث المستعبدون له، هم الذين كفروا بربهم وخالقهم، وجحدوا نعمه المتعددة، ولم يتأملوا بعقولهم في أن من أوجدهم قادر على إعادتهم بعد الموت.
﴿ وأولئك الأغلال في أعناقهم ﴾.
لقد حجّروا أنفسهم، كأنما وضعوا قيودا في أيديهم وأعناقهم من الضلال، تصدهم عن التأمل والتفكر وإتباع الحق، كما قال القائل :
كيف الرشاد وقد خلقت في نفر لهم عن الرشد أغلال وأقياد
وقد يكون المعنى :
أولئك الذين توضع القيود والأغلال في أيديهم وأعناقهم يوم القيامة ؛ عندما يساقون إلى النار بذلة وقهر ؛ كما يقاد الأسير الذليل في القيد والغل.
قال تعالى :﴿ إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون* في الحميم ثم في النار يسجرون ﴾( غافر : ٧٢، ٧١ ).
﴿ وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ﴾.
أي : وأولئك الملازمون للنار، حتى كأنهم أصحابها ؛ من طول إقامتهم فيها، وهم ملازمون لها لا يخرجون منها أبدا.
المفردات :
السيئة : العقوبة.
الحسنة : العافية والسلامة.
المثلات : جمع مثله بفتح الميم وضم الثاء. وهي العقوبة، سميت بذلك ؛ لأنها تماثل الذنب، والمراد بالمثلات في الآية الكريمة عقوبات أمثالهم المكذبين قبلهم.
التفسير :
٦ ﴿ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة... ﴾.
أي : إن هؤلاء المشركين لظلمهم وعدوانهم وعنادهم ؛ إذا توعدهم النبي بالعذاب إن لم يؤمنوا ؛ قالوا له : أرنا هذا العذاب إن كنت صادقا، وقد عبر عن هذا المعنى في قوله سبحانه :﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾( الأنفال : ٣٢ ).
أي : أنهم بدل أن يطلبوا من الرسول : الدعاء لهم : بالأمان والخير، والعافية والهداية والأمور الحسنة، فإنهم يستعجلون الأمور السيئة، ووقوع العذاب بهم تهكما وعنادا.
﴿ وقد خلت من قبلهم المثلاث ﴾.
أي : هلاك الأمم المكذبة، الذين جعل الله هلاكهم سلفا ومثلا للآخرين، فمنهم : أمة مسخت قردة، وأخرى : خنازير، وثالثة : أهلكت بالخطف، ورابعة : أهلكت بالرجفة، وخامسة : بالغرق، حيث جعل الله العقوبة التي أنزلها بالمكذبين عظة وعبرة ومثلا واضحا لجزاء كل مكذب.
قال تعالى :﴿ وضربنا لكم الأمثال ﴾.
﴿ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ﴾.
أي : إن الله تعالى فتح بابه للتائبين، وستر على المذنبين، وقبل توبة التائبين، ولم يعجل بعقوبة المذنبين، قال تعالى :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة.. ﴾( فاطر : ٤٥ ).
وهو سبحانه شديد العقاب لمن مات مصرا على المعصية، وبهذا نجد الآية الكريمة قد جمعت بين الرحمة والعذاب والرجاء والخوف ؛ حتى يتكامل الموقف، ويأخذ الإنسان بنصيبه في العمل والتوبة قبل أن ينزل به العذاب، وفي هذا المعنى قال تعالى :﴿ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم* وأن عذابي هو العذاب الأليم ﴾( الحجر : ٥٠، ٤٩ ).
قال ابن جرير الطبري :
وهذا الكلام وإن كان ظاهره ظاهر خير، فإنه وعيد من الله، وتهديد للمشركين من قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هم لم ينيبوا ويتوبوا من كفرهم، قبل حلول نقمة الله بهمv.
المفردات :
الذين كفروا : المراد بهم هنا : كفار أهل مكة.
لولا أنزل : لولا بمعنى : هلاّ، فكلتاهما للحض والحث على فعل الشيء.
آية من ربه : الآية : العلامة، والمراد بها هنا : ما طلبوه من الخوارق مثل : تفجير الينابيع والأنهار، والرقى في السماء.
التفسير :
٧ ﴿ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه... ﴾.
وهذا لون آخر من تعنت المشركين من أهل مكة، فقد أنزل الله القرآن الكريم، معجزة خالدة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وآية باقية، لكن كفار مكة اقترحوا على الرسول : أن ينزل عليهم آية مثل آيات الرسل السابقين، أي : كعصا موسى، أو ناقة صالح، أو إحياء الموتى على يد عيسى.
أي : هلا أنزل على محمد معجزة مادية ملموسة تدل على صدقه، مثل : تفجير ينابيع الأرض، وزحزحة الجبال من حول مكة، ثم ينبت مكانها الأعناب وصنوف النباتات، وقد حكى القرآن الكريم عنهم مثل هذه الاقتراحات في سورة الفرقان في الآيات ٧١١، وكذلك في سورة الإسراء، حيث يقول سبحانه :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا* أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا* أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا* أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ﴾( الإسراء : ٩٠ ٩٣ ).
﴿ إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ﴾.
أي : إن وظيفتك قاصرة على إبلاغ الرسالة، وتبشير المؤمنين بالجنة، وإنذار المشركين بالعذاب، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن الكريم ؛ لإفهام المشركين : أن وظيفة الرسل قاصرة على تبليغ الرسالة والدعوة إلى الإيمان، وإنذار المكذبين، والرسول بعد ذلك بشر يوحى إليه، فليس إلها، ولا يملك الاستجابة لمطالبهم وتحقيق رغباتهم المتعنتة، قال تعالى :﴿ ومنعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ﴾( الإسراء : ٥٩ ) ؛ فهؤلاء كفار مكة إذا جاءتهم معجزة مادية، سيصرون على كفرهم وبذلك يستحقون نزول العذاب بهم ؛ عقوبة على كفرهم وعنادهم، وقد شاء الله أن يكون الإسلام آخر الرسالات، وأن يكون محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل، وأن تكون معجزته عقلية خالدة باقية، وألا يهلك قومه في حياته، قال تعالى :﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم* وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾( الأنفال : ٣٣، ٣٢ ).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية قومه، فكان الوحي يرشده إلى الصبر والاحتمال، وبيان أن هذه سنة الله في خلقه، قال تعالى :﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ﴾. ( البقرة : ٢٧٢ ). ﴿ إن عليك إلا البلاغ ﴾. ( الشورى : ٤٨ )، ﴿ فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمصيطر ﴾ ( الغاشية : ٢٢، ٢١ ).
﴿ ولكل قوم هاد ﴾.
أي : نبي يدعوهم إلى الهدى والرشاد، ويحتمل أن يكون المعنى : أن الله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو يعطي كل رسول ما يناسبه من الآيات والمعجزات وقد شاء سبحانه أن يؤيد محمدا بمعجزة خالدة باقية داعية إلى الهداية.
أي : لكل قوم من أقوام الرسل معجزة داعية إلى الهدى لمن اهتدى بها، وقد أعطى الله محمدا القرآن أبلغ داعية إلى الهدىvi، قال تعالى :﴿ أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ﴾( العنكبوت : ٥١ ).
المفردات :
تغيض الأرحام : تنقص، ومنه : غيض الماء.
بمقدار : أي : بأجل لا يتجاوزه ولا ينقص عنه.
التفسير :
٨ ﴿ الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد... ﴾.
تأتي هذه الآية وما بعدها ؛ لبيان علم الله الشامل وقدرته الحقة، وفي مقام الرد على من أنكر البعث والحشر والجزاء.
فهو سبحانه عالم بكل شيء :﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾. يعلم ما تحمل كل أنثى من ذكر أو أنثى، طويل أم قصير، تام الخلقة أو ناقصها، صبيح أم قبيح، صالح أم طالح، شقي أم سعيد، قال تعالى :﴿ ويعلم ما في الأرحام ﴾( لقمان : ٣٤ ).
﴿ وما تغيض الأرحام وما تزداد ﴾.
إنه سبحانه يعلم ما يكون في داخل الأرحام من نقص في الخلقة أو زيادة فيها، ومن نقص في مدة الحمل أو زيادة فيها، ومن نقص في العدد أو زيادة فيه، فقد يكون واحدا وقد يكون اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، وقد تكون مدة الحمل أقل من تسعة أشهر، وقد تكون تسعة إلى عشرة أشهر تقريبا، وقد دلت البحوث : على أن الجنين لا يستقر في البطن وهو حي أكثر من ٣٠٨ أيام، أي : عشرة أشهر وبضعة أيام.
﴿ وكل شيء عنده بمقدار ﴾. أي : ولكل شيء ميقات معين، لا يعدوه زيادة ولا نقصا.
قال تعالى :﴿ إنا كل شيء خلقناه بقدر ﴾. ( القمر : ٤٩ )، كما قال سبحانه :﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ﴾( الحجر : ٢١ ).
وقد روى الشيخان : أن زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه تخبره : أن ابنا لها في الموت يحتضر، وتدعو النبي أن يحضر إليها، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من يقول لها :( إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى ؛ فاصبري واحتسب )vii.
عالم الغيب والشهادة : يعلم ما غاب عن الحس ما لا تدركه الحواس ولا يعلم ببداهة العقل، كما يعلم الحاضر المشاهد.
الكبير المتعال : العظيم الشأن، المستعلي على كل شيء في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله.
التفسير :
﴿ عالم الغيب والشهادة... ﴾.
إنه سبحانه مطلع على السر والنجوى، محيط علمه بكل غائب وحاضر، مطلع على ما هو غائب لا تدركه الأبصار من عوالم لا نهاية لها، ومن أفلاك وملائكة وجن وقوى خفية، ﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو ﴾( المدثر : ٣١ )، ومطلع أيضا على الظاهر المشاهد، ثم هو يجازى ويحاسب الجميع، قال تعالى :﴿ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور* والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير ﴾( غافر : ٢٠، ١٩ ).
﴿ الكبير المتعال ﴾.
أي : هو العظيم الشأن، المستعلي على كل شيء بقدرته وجبروته، وهو وحده الذي له التصرف في ملكوته.
﴿ المتعال ﴾. الذي يجل عما وصفه به الخلق من صفات، ويستعلي على ما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله.
سواء منكم من أسر القول ومن جهر به : أي : هو سبحانه مستو في عمله : من أخفى منكم القول، ومن أعلنه، ومن بالغ في الاستخفاء، ومن ظهر.
التفسير :
﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ﴾.
إن علم الله يشمل السر والجهر، والخفي والظاهر، يستوي عنده كل ذلك ؛ فعلمه ممتد شامل، ﴿ أحاط بكل شيء علما ﴾.
قال الشوكاني :
﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ﴾. فهو يعلم ما أسره الإنسان، كعلمه بما جهر به من خير أو شر، ﴿ ومن هو مستخف بالليل ﴾. أي : مستتر في الظلمة متوار عن الأعين، ﴿ وسارب بالنهار ﴾. أي : بارز وظاهر بالنهار فالظاهر في الطرقات، والمستخفي في الظلمات، علم الله فيهم جميعا سواءviii. اه.
وفي هذا المعنى يقول الله تعالى :﴿ وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى ﴾( طه : ٧ )، ويقول سبحانه﴿ ويعلم ما تخفون وما تعلنون ﴾( النمل : ٢٥ ).
ويقول عز شأنه :﴿ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ﴾( البقرة : ٢٨٤ ).
وقد سمع سبحانه المرأة المجادلة من فوق سبع سماوات وأنزل آيات بشأنها في صدر سورة المجادلة، فبدأ بقوله تعالى :﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ﴾( المجادلة : ١ ).
المفردات :
معقبات : هم الحفظة، يأتي بعضهم بعقب بعض.
من بين يديه : من قدامه.
من خلقه : من ورائه.
من أمر الله : أي : بأمره وإعانته.
وال : ناصر.
التفسير :
١١ ﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله... ﴾.
أي : لكل واحد من هؤلاء المذكورين ممن يسرون القول أو يجهرون به، ملائكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار، ويحيطون به من جميع جوانبه لحفظه ورعايته، ولكتابة أقواله وأعماله، وهذا التعقيب والحفظ إنما هو بسبب أمر الله تعالى لهم بذلك، فإذا جاء قدر الله تخلوا عنه، وفي الحديث الصحيح :( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين باتوا فيكم ؛ فيسألهم، وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون )ix. ( أخرجه البخاري ).
﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾.
جعل الله لهذا الكون نواميس وأسباب ؛ فمن سلك طريق الهدى ؛ يسر الله له سبل الهداية، ومن بدل نعمة الله كفرا ؛ غير الله عطاءه له إلى نقمة وعقاب في الدنيا والآخرة، وتلك آية في العدالة الإلهية ؛ فقد جعل للنصر أسبابا، وللهلاك أسبابا، فلا يسلب الله نعمة أنعم بها على قوم ؛ حتى يغيروا ما بأنفسهم، من الخير والأعمال الصالحة.
قال تعالى :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ﴾( النحل : ١١٢ ).
ويصح أن يكون المعنى : إن الله لا يغير ما بقوم من العقاب والبلاء ؛ حتى يغيروا ما بأنفسهم من المعاصي ؛ ليكونوا أهلا لعفوه ورحمته.
ومن أسباب استحقاق الناس للعقوبة ؛ ظهور الفاحشة يتعامل بها علانية، وإهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
جاء في تفسير المراغي :
روى : أن أبا بكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ؛ يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب )x.
وفي هذا المعنى يقول الله تعالى :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾( الأنفال : ٢٥ ).
وأشار إلى ذلك العلامة ابن خلدون في مقدمة التاريخ تحت عنوان ( فصل : في أن الظلم مؤذن بخراب العمران ).
وأخذ يضرب الأمثال بكثير من الأمم، التي ثل الظلم عروشها، وأذل أهلها، وجعلها طعمة للآكلين، ومثلا للآخرين.
قال تعالى :﴿ ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ﴾( الأنبياء : ١٠٥ )، أي : الصالحون لعمارتها والانتفاع بها.
﴿ وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له ﴾.
أي : إذا أراد الله بقوم سوءا، من مرض وفقر ونحوهما، من أنواع البلاء، كالهلاك والعذاب فلا مرد له. فلا دافع لبلائه على اختلاف أنواعه، وقيل : المعنى :{ إذا أراد الله بقوم سوءا ؛ أعمى أبصارهم وبصائرهم ؛ فاختاروا ما فيه هلاكهم وعملوا بأنفسهم، فيستحيل لذلك رده عنهم.
﴿ ومالهم من دونه من وال ﴾. أي : ليس لهم ملجأ أو ناصر غيره يقيهم من أخذ الله لهم، ويدفع عنهم السوء، وفي هذا دلالة قاطعة على أن تخلف مراد الله تعالى محال، وإيذان بأنهم حين أنكروا البعث، واستعجلوا السيئة، واقترحوا الآية ؛ قد استحقوا العذاب، الذي لا يستطيع أحد دفعه عنهم ؛ إذا أراد الله نزوله بهم.
المفردات :
خوفا وطمعا : خوفا للمسافرين في أسفارهم من مشقته وأذاه، وطمعا للمقيم أن يمطر فينتفع به.
وينشئ السحاب الثقال : الذي فيه ماء.
التفسير :
١٣، ١٢ ﴿ هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال* ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ﴾.
يخبر الله تعالى : أنه هو الذي يسخر البرق، وهو ما يرى من النور اللامع ساطعا من خلل السحابxi.
﴿ خوفا وطمعا ﴾. قال قتادة : خوفا للمسافر ؛ يخاف أذاه ومشقته، وطمعا للمقيم ؛ يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله.
﴿ وينشئ السحاب الثقال ﴾. قال مجاهد : السحاب الثقال : الذي فيه الماء.
ويسبح الرعد بحمده : يخضع الرعد لقدرة الله ونظامه المحكم في هذا الكون فهو يعظم الله ويحمده.
والملائكة من خيفته : من خوف الله عز وجل ورهبته.
ويرسل الصواعق : جمع صاعقة، وأصل الصاعقة : كل أمر جسيم يؤدي إلى هلاك أو ذهاب عقل أو فقد بعض الجسم.
وهم يجادلون في الله : ذكر : أن رجلا أنكر القرآن، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته.
وهو شديد المحال : شديد المماحلة في عقوبة من طغى وعتا عليه، والمحال مصدر من ما حلت فلانا محالا ؛ إذا عرضته لما يهلكه، وقيل : شديد الأخذ، شديد القوة.
التفسير :
﴿ ويسبح الرعد بحمده ﴾. أي : يظهر قدرته تعالى وجبروته وتسخيره لجميع ظواهر هذا الكون كقوله تعالى :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده... ﴾.
وكان رسول الله صلى اله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق ؛ قال :( اللهم، لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك )xviii، وعن أبي هريرة مرفوعا : أنه كان إذا سمع الرعد قال : سبحان من يسبح الرعد بحمده، وعن عبد الله بن الزبير : أنه كان إذا سمع الرعد ؛ ترك الحديث وقال : سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، ويقول : إن هذا لوعيد شديد لأهل الأرضxix.
والبرق والرعد والسحاب مشاهد معروفة، وكذلك الصواعق التي تصاحبها في بعض الأحيان، وهي بذاتها مشاهد ذات أثر في النفس حتى اليوم، وعند الذين يعرفون الكثير عن طبيعتها. والسورة تذكر هذه الظواهر متتابعة وتضيف إليها الملائكة والتسبيح والسجود والخوف والطمع ؛ لتصوير سلطان الله المتفرد بالقهر والنفع والضرxx.
وقد سميت السورة بسورة الرعد ؛ لقوله سبحانه فيها :﴿ ويسبح الرعد بحمده ﴾( الرعد : ١٣ ).
والرعد هو ذلك الصوت المفرقع المدوي، وهو أثر من آثار الناموس الكوني الذي صنعه الله أيا كانت طبيعته وأسبابه فهو رجع صنع الله في هذا الكون، وهو يحمد ويسبح بلسان الحال، للقدرية التي صاغت هذا النظام، كما أن كل مصنوع جميل متقن يسبح ويعلن عن حمد الصانع والثناء عليه بما يحمله من جمال وإتقان.
وقد اختار التعبير أن يجعل صوت الرعد تسبيحا للحمد ؛ إتباعا لمنهج التصوير القرآني في مثل هذا السياق، وخلق سمات الحياة وحركاتها على مشاهد الكون الصامتة ؛ لتشارك في المشهد كله، وقد انضم إلى تسبيح الرعد بحمد الله، تسبيح الملائكة من خوفه ومن تعظيمه، وفي آية أخرى يقول سبحانه :﴿ والملائكة يسبحون بحمد ربهم ﴾. ( الشورى : ٥ ).
وفي الحديث النبوي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم :( أطت السماء، وحق لها أن تئط ؛ ما فيها موضوع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد يسبح الله تعالى )xxi.
﴿ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ﴾. أي : يرسلها نقمة ينتقم بها ممن يشاء.
قال قتادة : ذكر لنا : أن رجلا أنكر القرآن، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فأرسل الله صاعقة ؛ فأهلكته.
وذكروا في سبب نزولها : قصة( عامر بن طفيل ) و( أربد بن ربيعة )، لما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فسألاه : أن يجعل لهما نصف الأمر ؛ فأبى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال له عامر بن الطفيل لعنه الله، أما والله لأملأنها عليك خيلا جردا، ورجالا مردا ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يأبى الله ذلك وأبناء قيله ) يعني : الأنصار، ثم إنهما هما بالفتك برسول الله، فجعل أحدهما يخاطبه، والآخر يستل سيفه ؛ ليقتله من ورائه، فحماه الله تعالى منهما وعصمه، فخرجا من المدينة، فانطلقا في أحياء العرب يجمعان الناس ؛ لحربه عليه الصلاة والسلام، فأرسل الله على ( أربد ) سحابة فيها صاعقة فأحرقته، وأما ( عامر بن الطفيل )، فأرسل الله عليه الطاعون، فخرجت فيه غدة عظيمة فجعل يقول : يا أهل عامر، غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية، حتى ماتا لعنهما الله وأنزل الله في مثل ذلك :﴿ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله ﴾. xxii.
﴿ وهم يجادلون في الله ﴾. أي : يشكون في عظمته وأنه لا إله إلا هو.
﴿ وهو شديد المحال ﴾. قال ابن جرير : شديدة مما حلته في عقوبة من طغى عليه وعتا وتمادى في كفره، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى :﴿ ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون* فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين ﴾. ( النمل : ٥١، ٥٠ )، وعن عليّ رضي الله عنه :﴿ وهو شديد المحال ﴾. أي : شديد الأخذ، وقال مجاهد : شديد القوة.
له دعوة الحق : لا إله إلا الله.
والذين يدعون من دونه : يعني : آلهة المشركين.
إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه : أي : كالرجل العطشان يمد يده إلى البئر ؛ ليرتفع إليه الماء، فلا يدركه.
وما هو ببالغه : حتى يموت عطشا، وهذا مثل ضربه الله لمن يدعو من دونه آلهة لا تضر ولا تنفع.
إلا في ضلال : في غير هدى ولا استقامة.
التفسير :
﴿ له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء... ﴾.
من الدعاء ما يحظى بالإجابة وما يكون دعاء حقا، وهو دعاء من يملك الإجابة، أي : دعاء الله جل جلاله ؛ فهو سبحانه يسمع الداعي ويستجيب له، قال تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ﴾( البقرة : ١٨٦ ).
وقال سبحانه :﴿ ادعوني أستجب لكم ﴾. ( غافر : ٦٠ ).
ومن الدعاء ما يتجه به الداعي إلى الأصنام والنجوم وغيرها من المخلوقات التي لا تملك الإجابة، فالأصنام لا تسمع وغيرها من الملائكة أو الجن، أو البشر لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فكيف بغيرهم ؟ !.
﴿ إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير ﴾ ( فاطر : ١٤ ).
وهذا القسم من الدعاء جدير بأن يسمى : دعاء الباطل، وهو الذي لا يهتدي إلى هدف الإجابة كدعاء من لا يسمع أو لا يقدر على الاستجابة.
لقد ذكر الله في الآيات السابقة : أنه عليم بكل شيء، قدير على كل شيء، ثم ذكر في هذه الآية : أن له حقيقة الدعاء والاستجابة ؛ فهو مجيب الدعاء كما أنه عليم قدير.
وقد ذكر ذلك في الآية بطريقى الإثبات والنفي، أعني : إثبات حق الدعاء لنفسه وفيه عن غيره.
أما الأول فقوله :
﴿ له دعوة الحق ﴾. وتقديم الظرف يفيد الحصر، ويؤيده ما بعده من نفيه عن غيره.
وأما الثاني فقوله :
﴿ والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء ﴾.
وقد أخبر فيه : أن الذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء، ثم صورة معبرة تؤكد ضلال من يدعو غير الله وهي صورة ملهوف ظمآن يمد ذراعيه ويبسط كفيه إلى بئر سحيق فيه ماء وفمه مفتوح يلهث بالدعاء، يطلب الماء ؛ ليبلغ فاه فلا يبلغه، وما هو ببالغه، بعد الجهد واللهفة والعناء، وكذلك دعاء الكافرين بالله الواحد، حين يدعون الشركاء.
﴿ له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ﴾.
فهذا الدعاء للأصنام ليس له من الدعاء إلا صورته كما أن باسط كفيه إلى الماء ليس له إلا صورة الطلب ببسط الكفين، ولن ينتقل الماء إلى فمه.
ومن هنا نعلم أن هذا الاستثناء :﴿ إلا كباسط كفيه... ﴾ الخ، لا ينتقض به عموم النفي المستثنى منه ولا يتضمن إلا صورة الاستثناء فهو يفيد : تقوية الحكم في جانب المستثنى منه فإن مفاده : إن الذين يدعون من دون الله لا يستجاب لهم إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء ولن يستجاب له، وبعبارة أخرى : لن ينالوا بدعائهم إلا عدم الإجابة، أي : لن ينالوا شيئا البتة.
وهذا من لطيف كلامه تعالىxxiii، ويناظر من وجه قوله سبحانه :﴿ قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ﴾. ( الرعد : ١٦ ).
﴿ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ﴾. أي : في ضياع وانحراف، فإن الأصل في الدعاء أن يتوجه به الإنسان إلى من يملك الإجابة وهو الله سبحانه وتعالى :
فمن دعا غير الله ؛ فقد ضل دعاؤه وانحرف وضاع، والضلال : هو الخروج عن الطريق وسلوك مالا يوصل إلى المطلوب.
قال الطبري :﴿ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ﴾.
وما دعاء من كفر بالله ما يدعو من الأوثان والآلهة إلا في ضلال، يقول : إلا في غير استقامة ولا هدى ؛ لأنه يشرك بالله.
ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها : المؤمن يسجد طوعا، والكافر يسجد كرها.
وظلالهم بالغدو والآصال : يقول : ويسجد أيضا ظلال كل من يسجد لله طوعا وكرها.
بالغدو : أي : البكور.
والآصال : جمع أصيل وهو ما بين العصر إلى مغيب الشمس.
التفسير :
﴿ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ﴾.
كل من في الكون خاضع لأمر الله وإرادته ؛ إذ إنه يعيش في ملكه ويسير وفق قانونه، المؤمن يخضع لله ؛ طاعة وإيمانا وغير المؤمن يخضع كرها وإرغاما، فإذا مسه الضر أو خاف الموت أو الغرق ؛ لجأ إلى الله داعيا مستجيرا.
قال تعالى :﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم... ﴾( الإسراء : ٦٧ ).
وقال تعالى :﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ﴾. ( العنكبوت : ٦٥ ).
وقال سبحانه :﴿ لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴾ ( يونس : ٢٢ ).
وفي ظلال القرآن ما يأتي :
والسياق يعبر عن الخضوع لمشيئة الله بالسجود وهو أقصى رمز للعبودية ثم يضم إلى شخوص من في السماوات والأرض ظلالهم كذلك، ظلالهم بالغدو في الصباح، وبالآصال عند انكسار الأشعة وامتداد الظلال يضم هذا الظلال إلى الشخوص في السجود والخضوع والامتثال وهي في ذاتها حقيقة، فالظلال تبع للشخوص، ثم تلقى هذه الحقيقة ظلها على المشهد، فإذا هو عجب، وإذا الإيمان أو غير الإيمان سواء. كلها تسجد لله.. وأولئك الخائبون يدعون آلهة من دون اللهxxiv.
التفسير :
١٦ ﴿ قل من رب السماوات والأرض قل الله... ﴾.
بعد أن بين سبحانه أن كل من في السماوات والأرض، خاضع لقدرته، منقاد لإرادته بالغدو والآصال، اتجه في هذه الآية إلى مناقشة المشركين عن طريق السؤال والجواب.
والمعنى : قل لهم يا محمد : من رب هذه الأجرام العظيمة التي ترونها، فيبهركم ما فيها من دقة وكمال وجمال ؟ !، فإذا تأخروا في الجواب ؛ عنادا أو مكابرة ؛ فقل لهم : الذي خلقها وأنشأها وسواها على أتم وضع هو الله، وهذا جواب يتفق عليه السائل والمجيب، بدليل قوله تعالى :﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ﴾( الزخرف : ٨٧ ).
﴿ قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ﴾.
أي : إذا علمتم أن خالق هذا الكون البديع هو الله ؛ فلم اتخذتم لأنفسكم من دون الله معبودات هي جمادات، لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ؟ ! فكيف تنفع غيرها أو تضر ؟ !.
وإذا لم يكن لها القدرة على شيء من ذلك فعبادتها محض السفه، الذي لا يرضاه لنفسه رشيد.
﴿ قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور ﴾.
أي : توجه بالسؤال إليهم يا محمد، وقل لهم : هل يستوي الأعمى الذي لا يبصر، والبصير الذي يرى ويهدي الأعمى إلى سواء الطريق ؟ !.
لا شك أنهما غير مستويين ؛ فكذلك المؤمن الذي يبصر الحق فيتبعه، ويعرف الهدى فيسلكه، لا يستوي هو والكافر، الذي أعرض عن الحق.
﴿ أم هل تستوي الظلمات والنور ﴾.
أي : هل يستوي ظلام الكفر ونور الإيمان.
﴿ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ﴾.
ترى أن الآية تلاحق المشركين بهذه الأسئلة فلا يجدون مناصا من الإذعان ؛ وكأنها تأخذ بتلابيبهم في أسلوب تبكيتي تهكمي، فتقول : هل خلقت هذه الأصنام مخلوقات كما خلق الله، فتشابه الخلق على المشركين، فلم يستطيعوا التمييز بين خلق الله وخلق آلهتهم ؟ ! فيكون لهم بعض العذر في عباده هذه الأصنام، ولكن الأمر ليس كذلك ؛ لأنهم جعلوا لله شركاء عاجزين لا يقدرون على شيء، ثم بين فذلكة لما تقدم، ونتيجة لما سبق من الأدلة والأمثال التي ضربت لها فقال :
﴿ قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ﴾.
أي : قل لهم أيها الرسول الكريم : الله تعالى هو الخالق لكل شيء في هذا الكون، وهو سبحانه الواحد الأحد، الفرد الصمد، ﴿ القهار ﴾. لكل ما سواه، والغالب لكل من غالبه.
المفردات :
أودية : جمع واد، وهو كل منفرج بين جبال أو آكام. ويكون منفذا للسيل.
الزبد : ما يعلو وجه الماء كالرغوة.
رابيا : مرتفعا فوق الماء.
الحلية : ما يتخذ للزينة من الذهب والفضة وغيرهما.
متاع : المتاع كل ما ينتفع به من الطعام والثياب وأثاث البيت. ويراد بالمتاع هنا : أثاث البيت المتخذ من نحو الحديد والنحاس والرصاص.
جفاء : مرميا به، يقال : جفأ الماء بالزبد ؛ إذا قذفه ورمى به، وجفأت القدر : رمت بزبدها عند الغليان.
التفسير :
١٧ ﴿ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا... ﴾.
تمهيد :
ضرب الله تعالى بهذه الآية مثلا في بقاء الحق ونقائه، وهلاك الباطل وفنائه، فدولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، وقد يرتفع شأن الباطل إلى حين ؛ لكنه لا أساس له، قال تعالى :﴿ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء* تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون* ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار ﴾( إبراهيم : ٢٤ ٢٦ ).
﴿ أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها... ﴾.
ضرب الله مثلا للحق في عموم فائدته، وعظيم بركته بالماء الصافي الذي أنزله الله من السماء فسالت به أودية بين الجبال والآكام ؛ بحسب مقدارها في الصغر والكبر، فحمل السيل الذي حدث من ذلك الماء زبدا عاليا، مرتفعا فوقه، طافيا عليها، وهذا هو المثل الأول الذي ضربه الله للحق والباطل والإيمان والكفر ؛ فالحق يشبه الماء ؛ فهو ينساب في بطون الأرض، ثم تحيا به الأرض، وتثمر ما ينفع الإنسان والحيوان، والباطل يشبه الرغوة التي تعلو فوق سطح الماء ؛ لكنها تضمحل وتزول وتنتهي.
﴿ ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله ﴾.
أي : ومن الذي يطرحه الناس في النار من ذهب أو فضة، وكذلك من سائر الفلزات كالحديد والنحاس والرصاص ؛ عندما يطرح الناس هذه المعادن في النار ؛ لتصفيتها وصهرها، وليتخذوا حليا تصنع من الذهب والفضة، أو أواني ينتفعون بها ويصنعونها من الحديد والرصاص والنحاس، وفي أثناء صهر هذه المعادن يعلو فوقها زبد كزبد الماء في كونه رابيا فوقه ولا ينتفع به، والزبد الذي يعلو فوق الماء، ومثله الزبد الذي يعلو فوق المعادن عند صهرها ؛ مثل للباطل، لا ثبات له ولا دوام له أمام الحق.
﴿ كذلك يضرب الله الحق والباطل ﴾.
أي : مثل ذلك البيان البديع، يضرب الله الأمثلة للحق والباطل إذا اجتمعا ؛ بأن يبين : بأنه لا ثبات للباطل مهما علا وارتفع مع وجود الحق كما أنه لا ثبات للزبد مع الماء الصافي، ولا مع المعادن النقية، وتقدير الكلام( كذلك يضرب الله مثل الحق، ومثل الباطل ).
﴿ فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ﴾.
أي : فأما الزبد الذي يعلو السيل ؛ فيذهب في جانبي الوادي، ويعلق بالشجر وتنسقه الرياح، وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس، يذهب ولا يرجع منه شيء ؛ وأما ما ينفع الناس من الماء الخالص الصافي، وما خلص من الذهب والفضة والنحاس والرصاص، فيمكث في الأرض، فالماء يشرب بعضه، ويذهب بعضه الآخر إلى جوف الأرض ؛ لينتفع به العيون والآبار والأفلاج، وأما المعادن فيصاغ من بعضها أنواع الحلي والنقود، ويؤخذ من بعضها الأواني وأصناف الآلات والأدوات، والمصانع ووسائل الدفاع ونحو ذلك.
﴿ كذلك يضرب الله الأمثال ﴾. أي : مثل ذلك البيان البديع الذي اشتملت عليه الآية الكريمة، يضرب الأمثال للناس في كل باب ؛ حتى تستبين لهم طرق الهدى فيسلكوها، وطرق الباطل فيتركوها.
من أقوال العلماء
قال الإمام الشوكاني :
هذان مثلان ضربهما الله تعالى في هذه الآية للحق والباطل يقول : إن الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال ؛ فإن الله تعالى سيمحقه ويبطله ويجعل العاقبة للحق وأهله، كالزبد الذي يعلو الماء فيلقيه الماء، وكخبث هذه الأجسام ؛ فإنه وإن علا عليها، فإن الكير يقذفه ويدفعه، فهذا مثل الباطل.
وأما الماء الذي ينفع الناس، وينبت المرعى ؛ فيمكث في الأرض، وكذلك الصافي من هذه الأجسام ؛ فإنه يبقى خالصا لا شوب فيه، وهو مثل الحق.
وقال الزجاج :
( مثل المؤمن واعتقاده ونفع الإيمان له كمثل الماء المنتفع به في نبات الأرض، وحياة كل شيء، وكمثل نفع الفضة والذهب وسائر الجواهر ؛ لأنها كلها تبقى منتفعا بها.
ومثل الكافر وكفره، كمثل الزبد الذي يذهب جفاء، وكمثل خبث الحديد، وما تخرجه النار من وسخ الفضة والذهب الذي ينتفع به )xxv.
من الصحيحين
روى البخاري ومسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب، وكانت منها أجاذب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ؛ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني به، ونفع به الناس فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به )xxvi.
استجابوا : أجابوا بصدق.
الحسنى : مؤنث الأحسن، والمراد بها : المثوبة الحسنى، وهي الجنة وما فيها من نعيم مقيم.
التفسير :
﴿ للذين استجابوا لربهم الحسنى... ﴾الآية.
أي : الذين أجابوا داعي الله وآمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، هؤلاء المؤمنين الطائعين لله، لهم الحسنى وهي الجنة، أو المنزلة الحسنة في الدنيا والآخرة.
﴿ والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به ﴾.
أي : إن الذين أعرضوا عن الحق، وعاندوا واستكبروا وأصروا على الباطل ؛ سينالهم عذاب رهيب أليم ؛ يتمنون أن يفتدوا من عذاب الآخرة، بكل غال ونفيس ؛ فلو أنهم يملكون ما في الأرض جميعا من أصناف الأموال المتنوعة، ويملكون مثل ذلك معه، لقدموه افتداء لأنفسهم ؛ ليتخلصوا مما هم فيه من عذاب ونكال، ولن يقبل ذلك منهم.
﴿ أولئك لهم سوء الحساب ﴾. هو أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر منه شيء.
﴿ ومأواهم جهنم وبئس المهاد ﴾. إن مسكنهم جهنم وبئس الفراش الذي أعدوه لأنفسهم، وبئس المستقر الذي يستقرون فيه.
التفسير :
تأتي هذه الآية في أعقاب مثل ضربه للحق والباطل ؛ فالحق يشبه الماء والمعادن النفيسة الخالصة من الشوائب، والباطل يشبه الزبد والرغوة التي تعلو فوق ماء السيل، أو خبث المعادن الذي يرتفع فوقها عند صهرها.
وهنا يبين القرآن : أن المستفيد بضرب الأمثال، هم أصحاب العقول المستنيرة، والقلوب النظيفة الذين يؤمنون بالله ويستجيبون لداعي الهدى، ولا يستوي أبدا البصير صاحب البصيرة، والأعمى الذي انطمس بصره وبصيرته.
١٩ ﴿ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى... ﴾.
أي : أيستوي في الجزاء مؤمن وكافر ؟ !.
فالمؤمن استجاب للحق وآمن به وأشرق قلبه بالهدى ؛ ﴿ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ﴾. ( الزمر : ٢٢ ).
والكافر ضل عن الحق، وانطمست بصيرته، فلم يستفد بأنوار الهداية، ولم يسترشد بنور الرسالة المحمدية.
قال قتادة :
هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه، وهؤلاء كمن هو أعمى عن الحق، فلا يبصره ولا يعقله.
﴿ إنما يتذكر أولوا الألباب ﴾. أي : إنما يعتبر بهذه الأمثال ويتعظ بها، ويصل إلى لبها وسرها ؛ أصحاب العقول السليمة، والقلوب المشرقة بنور الإيمان.
المفردات :
بعهد الله : بما عاهدوه عليه من الإيمان به، والعمل بما أمرهم به في كتبه التي أنزلها إليهم.
ولا ينقضون الميثاق : المراد بالميثاق : ما أخذوه على أنفسهم من العهود نحو ربهم، ونحو عباده، وقال القفال : وهو ما ركب في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات والشرائع، ونقض الميثاق : عدم العمل به.
التفسير :
٢٠ ﴿ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ﴾.
مدح الله في هذه الآيات المؤمنين أصحاب العقول المستنيرة أولوا الألباب، بصفات متعددة ؛ فهم أوفياء بالعهود، سواء أكانت بينهم وبين خالقهم ؛ كإطاعة أوامره واجتناب نواهيه، أو بينهم وبين المخلوقين، وإضافتها إلى الله إضافة تشريف وتكريم ؛ فالوفاء بالعهد صفة من صفات المؤمنين، والغدر صفة من صفات المنافقين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا معشر الناس اضمنوا لي ستا ؛ أضمن لكم الجنة : اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا عاهدتم، وأدوا الأمانة إذا اؤتمنتم، وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم، وكفوا أيديكم )xxvii.
وروى البخاري في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان )xxviii.
﴿ ولا ينقضون الميثاق ﴾. لا يفسخون العهود، ولا يقطعون المواثيق، التي التزموا بها بينهم وبين ربهم من الإيمان به وطاعته، وبينهم وبين الناس، من العقود كالبيع والشراء، وسائر المعاملات والعهود التي تعاهدوا على الوفاء بها.
قال تعالى :﴿ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ﴾. ( البقرة : ١٧٧ ).
والفقرة الثانية يمكن أن تكون تأكيدا لما جاء في الفقرة الأولى، أو هي من باب النعيم بعد التخصيص لتشمل عهودهم مع الله تعالى، ومع غيره من عباده.
أي : إن من صفات أولي الألباب : أنهم يصلون كل ما أمر الله بوصله، كصلة الأرحام، وإفشاء السلام، والإحسان إلى المحاويج، وذوي الخلة منهم، بإيصال الخير إليهم، ودفع الأذى عنهم بقدر الاستطاعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى اله عليه وسلم قال :( من سره أن يبسط له في رزقه، وأن ينسأ له في أجله ؛ فليصل رحمه )xxix.
ويدخل في ذلك جميع حقوق عباد الله تعالى، ووصل قرابة المسلمين بسبب الإيمان، كالإحسان إليهم، ونصرتهم، والشفقة عليهم، وإفشاء السلام، وعيادة المرضى، ومرعاة حق الأصحاب والخدم والجيران، والرفقة في السفر إلى غير ذلك.
﴿ ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ﴾.
أي : يخافون الله خوف إجلال ومهابة وتعظيم ؛ قال تعالى :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾( فاطر : ٢٨ ).
أي : أن العلماء هم أقدر الناس على معرفة قدرة الله وعظمته وجلاله ؛ فهم أهل خشيته وإجلاله وتعظيمه وتوقيره.
﴿ ويخافون سوء الحساب ﴾. أي : يخافون مناقشة الله لهم الحساب، وتذكيرهم بذنوبهم، وعدم الصفح عن سيئاتهم، فيحملهم ذلك على أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
ابتغاء وجه ربهم : الابتغاء معناه : الطلب، والمراد بالوجه : الذات.
ويدرءون : أي : يدفعون.
عقبى الدار : عاقبة دار الدنيا التي أعدت للصالحين وهي الجنة.
التفسير :
﴿ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ﴾.
تستمر هذه الآية مع ما سبقها في وصف أولي الألباب ؛ فهم صابرون على البأساء، راضون بالقضاء، والصبر على المكاره جزاؤه عظيم، وقد ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعا، وهو أنواع : منه : الصبر على الطاعات، ومنه : الصبر عن المعاصي، ومنه : الصبر على المصائب عند الصدمة الأولى، فهم صابرون ابتغاء وجه الله، أي : رغبة في ثوابه، لا خوفا من شماتة الشامتين، كما قال الشاعر :
وتجلدى للشامتين أريهم | أني لريب الدهر لا أتضعضع |
﴿ وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ﴾.
فهم ينفقون سرا حيث يكون السر أفضل، مثل : صدقة التطوع، ومثل : الصدقة على كرام الناس المتعففين تجملا، ومن يزعجهم الصدقة عليهم في الملأ ؛ وينفقون علنا في أداء الفريضة، وعند التسابق ؛ ليقتدي بهم غيرهم، أي : أنهم حكماء في تصرفهم، ينفقون في جميع الأحوال، وحسب ما تقتضيه الحكمة.
﴿ ويدرءون بالحسنة السيئة ﴾. أي : يقابلون إساءة من أساء إليهم بالإحسان إليه، إذا كان ذلك من الحكمة ؛ كما قال عز شأنه :﴿ ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ﴾( فصلت : ٣٤ ).
وقد أباح الإسلام مقابلة السيئة بالسيئة ؛ إذا كان المسئ لئيما لا يردعه إلا العقوبة، أما إذا كان المسئ كريما فالصفح أنسب، قال تعالى :﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ﴾( الشورى : ٤١ ).
وذكر بعض المفسرين : أن الآية تشير إلى إتباع السيئة بالحسنة، أو الاستغفار والتوبة ؛ في أعقاب الذنب.
﴿ أولئك لهم عقبى الدار ﴾. أي : حسن الجزاء من العاقبة، وهو دخول الجنة في الآخرة.
قال تعالى :﴿ وتلك الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون ﴾.
والجملة الكريمة خبر عن الذين يوفون بعهد الله... وما عطف عليها.
المفردات :
جنات عدن : العدن في اللغة : الإقامة، ومنه عدن بالمكان، أي : أقام به، وفي عرف الشرع : اسم لجنة من جنان الآخرة، والمراد هنا : المعنى الأول، أي : جنات إقامة، فهم يقيمون فيها لا يبرحونها.
التفسير :
٢٣ ﴿ جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذريا تهم ﴾.
تأتي هذه الآية بمثابة التوضيح والتفصيل لحسن عاقبة هؤلاء المؤمنين.
أي : هؤلاء الذين قدموا في دنياهم ما قدموا : من الوفاء، وصلة الرحم، وخشية الله، والصبر الجميل، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وإخراج الصدقة، ومقابلة السيئة بالحسنة ؛ لهم حسن العاقبة في الجنة، ثم وضح نعيم هذه الجنة ؛ فبين : أنها جنات عدن، أي : إقامة دائمة باقية، يدخلونها هم ومن كان صالحا لدخولها من آبائهم وأزواجهم وذريا تهم، أي : من أصولهم وفروعهم وأزواجهم ؛ على سبيل التكريم والزيادة في فرحهم ومسرتهم.
وفي الآية إشارة إلى العدالة والفضل الإلهي، فهؤلاء الأقارب لا يدخلون الجنة ؛ إلا إذا اشتركوا في الصلاح والعمل الصلاح ؛ فإذا كانوا قصروا عن أقاربهم الأعلون ؛ جاء فضل الله فرفع الأدنى إلى منزلة الأعلى، ولا ينقص الأعلى شيئا من درجته ومنزلته، قال تعالى :﴿ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين ﴾( الطور : ٢١ ).
وزيادة في تكريم هؤلاء المؤمنين ؛ فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب من أبواب منازلهم في الجنة، ﴿ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ﴾.
سلام عليكم : أمان لكم من المحن، والآفات.
التفسير :
﴿ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ﴾.
أي : تقول لهم الملائكة : سلام عليكم بما صبرتم.
أي : أمان عليكم من المكاره والمخاوف التي تحيق بغيركم ؛ بسبب صبركم على مشاق الحياة ومتاعبها وآلامها ؛ كأنهم يقولون لهم : لئن تعبتم في الدنيا ؛ فقد استرحتم ونعمتم وسعدتم في الآخرة.
﴿ فنعم عقبى الدار ﴾. فنعم عاقبة الدنيا ؛ الجنة، وفيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أخرج ابن جرير : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي على قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول :﴿ سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ﴾، وكذا كان يفعل أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.
من مسند الإمام أحمد
روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ؟، قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : أول من يدخل الجنة من خلق الله، الفقراء والمهاجرون، الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء، فيقول الله لمن يشاء من ملائكته : ائتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة : نحن سكان سمائك، وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم ؟ !، قال : إنهم كانوا عبادا يعبدونني ؛ لا يشركون بي شيئا، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره، فلا يستطيع لها قضاء، قال : فتأتيهم الملائكة عند ذلك، فيدخلون عليهم من كل باب، ﴿ سلام عليكم بما صبرتم ﴾. xxx.
المفردات :
ينقضون عهد الله : المراد بعهد الله : ما أوجبه عليهم من طاعته، وبنقضه عصيانه.
من بعد ميثاقه : من بعد توثيقه وتوكيده.
اللعنة : الطرد من رحمة الله.
سوء الدار : أي : سوء عاقبة الدار الدنيا، أو هو : من إضافة الصفة للموصوف، أي : الدار السيئة، وهي : جهنم فهي دارهم ومأواهم وبئست الدار والمأوى.
التفسير :
٢٥ ﴿ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه... ﴾الآية.
من عادة القرآن أن يقابل بين الحق والباطل، وبين المؤمنين وصفاتهم الحسنة، والكافرين وصفاتهم المرذولة ؛ فلما ذكر المؤمنين بوفائهم العهد، وصلتهم الرحم ؛ بين هنا : أن الكافرين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ونقض العهد : إبطاله وعدم الوفاء به.
﴿ من بعد ميثاقه ﴾. من بعد أن وثقوه وأكدوا التزامهم به، وعهد الله : هو ما أخذه الله على بني آدم من الإيمان بالله تعالى، أو ما ركبه فيهم من العقول، ودعاهم إلى التأمل في ملكوت السماوات والأرض ؛ ليتبينوا قدرة الخالق وعظمته، أو يرتكبون المنكرات، ويعصون أوامر الله تعالى.
﴿ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ﴾.
أي : يقطعون كل ما أوجب الله تعالى وصله، ويدخل فيه وصل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ؛ بالإتباع والموالاة، ووصل المؤمنين ؛ بالمودة والمحبة والمعاونة، ووصل أولي الأرحام ؛ بالتعاطف والتعاون ؛ فالجملة بيان لحال هؤلاء الأشقياء : بأنهم كانوا على الضد، من أولئك الأوفياء الأخيار، الذين كانوا يصلون ما أمر الله به أن يوصل.
﴿ ويفسدون في الأرض ﴾. بالظلم وإثارة الفتن وإشعال نار الحرب ؛ فهم عنصر شرير وراء كل فساد.
﴿ أولئك لهم اللعنة ﴾. أي : هؤلاء لهم الطرد من رحمة الله.
﴿ ولهم سوء الدار ﴾. أي : جهنم فليس فيها إلا ما يسوء أهلها وبئست دار ومقرا.
يبسط الرزق : يوسعه.
ويقدر : يضيق.
متاع : شيء قليل يتمتع به، كزاد الراكب.
التفسير :
﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر... ﴾.
فهو سبحانه حكيم عليم بما يناسب عباده، وليس اتساع الرزق كرامة، ولا نقصانه إهانة ؛ فالأنبياء والأولياء كانوا أكثر بلاء وأشد امتحانا في هذه الدنيا، وقد نزلت هذه الآية في أهل مكة، وكانوا على جانب من الغنى والمال، فنزلت هذه الآية تنهاهم عن الفرح والبطر، والغرور بالحياة الدنيا ؛ لأنها إلى زوال.
﴿ وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع ﴾.
أي : فرح أهل مكة بما أحرزوا من المال والجاه، ولم يعملوا لما بعد هذه الحياة، مع أن متاع الدنيا قليل، ومتاع الآخرة دائم مستمر، وليس متاع الدنيا في جانب متاع الآخرة إلا شيئا قليلا، وليس له بقاء، كعجالة الراكب وزاد الراعي.
أخرج الترمذي وصححه : عن عبد الله بن مسعود، قال : نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير ؛ فقام، وقد أثر في جنبه، فقلنا : يا رسول الله : لو اتخذنا لك وطاء، فقال :( مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها )xxxi.
المفردات :
من أناب : من رجع إلى الحق.
وقال ابن عباس : فرح لهم وقرة عين. وقال قتادة : حسنى لهم، إلى غير ذلك من المعاني التي ترجع إلى ما ذكره الزجاج، وقيل : هي : اسم للجنة، أو لشجرة فيها.
وحسن مآب : وحسن مرجع.
التفسير :
٢٧ ﴿ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه... ﴾.
لازال الحديث متصلا في شأن أهل مكة، والمراد بهم : عبد الله بن أمية وأصحابه، حين طالبوا النبي صلى الله عليه وسلم بالآيات الكونية ؛ فقد اقترح مشركو مكة على النبي صلى الله عليه وسلم، أن يأتي بآيات ومعجزات حسية كناقة صالح، وعصا موسى ونحو ذلك ؛ من الآيات الحسية الملموسة.
قال تعالى :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا* أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا* أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا* أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا* وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ﴾ ( الإسراء : ٩٠ ٩٤ ).
والمعنى : يقول الذين كفروا من أهل مكة : هلا أنزل على محمد معجزة ملموسة، مثل تحويل الصحراء إلى بساتين كأرض الشام، أو إحياء جدهم قصىّ، أو سقوط السماء عليهم كسفا، أو تحويل الصفا ذهبا، أو تفجير ينابيع المياه في مكة وما حولها، أو أن يمتلك محمد بيتا من ذهب، أو يصعد إلى السماء ويعود ومعه كتاب من الله يفيد : أن محمدا رسول حقا، أو يأتي بالله والملائكة جميعا أمامهم ؛ ليشاهدوهم، وغير ذلك من الآيات التي تفيد : تعنت المشركين ؛ لأنهم لم يستخدموا عقولهم، ولم يفتحوا قلوبهم ؛ ليتدبروا أن هذا الذي أرسل إليهم بشر مثلهم، يوحى إليه بوحي فمن اهتدى به ؛ آمن، ومن أعرض عنه ؛ جحد وكفر، ولن يفيد الكافرون كثرة الآيات، ولا حجم المعجزات، مادامت قلوبهم تصر على الجحود والإعراض، قال تعالى :﴿ وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ﴾( يونس : ١٠١ ).
وقال سبحانه :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ﴾( الأنعام : ١١١ ).
﴿ قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ﴾.
إن هداية السماء تحتاج إلى إقبال وتفتح، ورغبة في المعرفة والفهم، وتبصر في حقيقة الإيمان، فمن أعرض عن الهدى، واختار الضلال والكفر ؛ سلب الله عنه أسباب الهداية، وتركه في حيرة وضلال، ومن اختار أسباب الهداية ؛ يسر الله له الهدى ؛ لأنه رجع عن العناد، وأناب إلى الله وتبصر في وحيه ودعوته، أي : قل لهم يا محمد : إن الله يضل الكافرين ؛ لإعراضهم، ويهدي إلى دينه، ﴿ من أناب ﴾، أي : رجع إليه وسلك سبيله،
﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾.
المفردات :
تطمئن قلوبهم : تستقر وتستريح وتستأنس.
تمهيد :
اشتمل القرآن الكريم على عدد من المعجزات، منها : الإخبار عن الأمم السابقة، وبيان : نواميس الكون، ونواميس الله في خلقه، ونواميس الاجتماع البشري، وأشار إلى طائفة من المعارف والعلوم، وقدم نموذجا رائعا من الآداب والهداية والتشريع، وأشار إلى نصر الروم، وانتشار الإسلام، ومع هذا طلب الكفار معجزات مادية ؛ فبين الله : أن الإعراض عن هداية القرآن ؛ هو الضلال الذي يضل الله به من أعرض عنه، والهداية بالقرآن والاستمساك به ؛ هو الهدى الذي يهدي به الله من أناب إليه من المؤمنين.
والمعنى : من أناب إلى الله هم المؤمنون، الذين استجابوا لداعي الإيمان فآمنوا، وإذا تلي عليهم القرآن ؛ زادهم إيمانا واطمئنانا ؛ فقلوبهم تستروح بذكر الله، وتلاوة القرآن والحديث عن الإيمان.
﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب ﴾.
بتذكر عظمة الله، وتلاوة كتابه، تطمئن القلوب، ويزول عنها القلق والاضطراب ؛ بما يفيضه عليها من نور الإيمان، وهداية الرحمان، التي تذهب الهلع والوحشة.
وذكر الله يمكن أن يطلق على : القرآن الكريم ؛ فهو ذكر وأعظم ذكر، فكل حرف منه له ثواب عشر حسنات، قال تعالى :﴿ وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون ﴾ ( الأنبياء : ٥٠ )، وقال سبحانه :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ﴾( الحجر : ٩ ).
ويمكن أن يراد به التسبيح والتحميد والتهليل، قال تعالى :﴿ والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾( الأحزاب : ٣٥ ).
ويمكن أن يراد به : ما يشمل القرآن، والذكر، وتذكر عظمة الله وجلاله.
طوبى لهم : قال الزجاج : طوبى : فعلى ؛ من الطيب، وهي الحالة المستطابة لهم.
التفسير :
﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب ﴾.
جاءت هذه الآية ؛ لتبشير المؤمنين الذين اطمأنت قلوبهم للإيمان والقرآن وذكر الله.
والمعنى : الذين آمنوا بالله وبالنبي، وعملوا الأعمال الصالحة ؛ لهم في آخرتهم عيش طيب، وخير كامل، ومرجع حسن حين يرجعون إلى ربهم وخالقهم، ﴿ أو طوبى لهم ﴾. الجنة لهم ؛ ينعمون فيها بكل ما يشتهون، كما جاء في الحديث :( فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )xxxii.
التفسير :
٣٠ ﴿ وكذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم الذي أوحينا إليك... ﴾الآية.
أي : كما أرسلنا المرسلين قبلك يا محمد أرسلناك في أمة قد سبقتها أمم أرسلت إليهم رسل، فلست بدعا في رسالتك إلى أمتك، كما قال سبحانه :﴿ قل ما كنت بدعا من الرسل ﴾. ( الأحقاف : ٩ ).
وقيل : الإشارة راجعة إلى إرسال محمد مؤيدا بالقرآن، فكأنه قيل : مثل هذا الإرسال العظيم المؤيد بالقرآن أرسلناك يا محمد في أمة قد خلت من قبلها أمم.
وخلاصة المعنى : إننا كما أرسلنا إلى أمم من قبلك، وأعطيناهم كتبا تتلى عليهم، أرسلناك وأعطيناك هذا الكتاب ؛ لتتلوه عليهم فلماذا يقترحون غيره ؟ !.
﴿ وهم يكفرون بالرحمن ﴾ أي : أرسلناك لتتلو عليهم كتاب الله، داعيا لهم إلى الهدى، والحال والشأن أنهم يكفرون بمن أحاطت بهم نعمه، وشملتهم رحمته ؟، حيث أرسلك إليهم ؛ رحمة بهم، قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ﴾. ( الأنبياء : ١٠٧ ).
﴿ قل هو ربي لا إله إلا هو ﴾. أي : قل لهم : إن الرحمان الذي كفرتم به هو ربي وخالقي، لا رب غيره ولا معبود سواه ؛ فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
﴿ عليه توكلت وإليه متاب ﴾. على الله وحده توكلت واعتمدت في جميع أموري، وإليه وحده توبتي وإنابتي.
وفي معنى هذه الآية ورد قوله تعالى :﴿ وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ﴾. ( الإسراء : ١١٠ ).
" وقد ثبت في الحديث الصحيح : أنهم لم يرضوا بكتابة : الرحمن الرحيم في صلح الحديبية ؛ فعندما قال صلى الله عليه وسلم لعلي :( اكتب : باسم الرحمان الرحيم ) ؛ قال أحد زعمائهم : ما ندري ما الرحمان الرحيم، اكتب باسمك اللهم ؛ فقال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم : دعنا نقاتلهم ! قال :( لا، اكتبوا كما يريدون )xxxiii.
المفردات :
سيرت به الجبال : أزيلت من أماكنها.
ييأس : بمعنى : يعلم، كما حكاه القشيري عن ابن عباس، وذكره بهذا المعنى الجوهري في الصحاح، ويرى هذا الرأي مجاهد، والحسن، وأبو عبيدة، وأنشد في ذلك أبو عبيدة لمالك ابن عوف النصري :
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني :*** ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
وييسرونني من الميسر ويروى : يأسرونني من الأسر انظر القرطبي : وقال رباح بن عدي :
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه *** وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
وهو بهذا المعنى في لغة النخع كما حكاه الفراء عن الكلبي انظر القرطبي وقيل : في لغة هوازن، كما قاله القاسم بن معن، وسيأتي لذلك مزيد بيان في التفسير.
قارعة : مصيبة من قرعه ؛ إذا أصابه، والأصل في القرع : الضرب ؛ فكأنها إذ تصيبهم ؛ تدق قلوبهم وتضربها.
التفسير :
٣١ ﴿ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا... ﴾الآية.
جاء في تفسير الطبري وابن كثير والشوكاني وغيرهم :
ما روي عن ابن عباس : أن نفرا من قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن سرك أن نتبعك ؛ فسير لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عنا ؛ حتى تتسع أرضنا الضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا ؛ حتى نغرس ونزرع، فلست بأهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه، وسخر لنا الريح فنركبها إلى الشام ؛ نقضي عليها حوائجنا ثم نرجع من يومنا ؛ فقد سخرت الريح لسليمان، وأرنا أشياخنا الأول من الموتى ؛ نكلمهم ونسألهم، أحق ما تقول أم باطل ؛ فإن عيسى كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، والآيات التي قبلها ؛ للرد عليهم. xxxiv، وجواب لو محذوف يفهم من السياق.
والمعنى : لو ثبت أن كتابا سيرت بتلاوته الجبال.
﴿ أو قطعت به الأرض ﴾. أي : شققت وجعلت أنهارا وعيونا.
﴿ أو كلم به الموتى ﴾. أو كلم أحد به الموتى في قبورهم ؛ بأن أحياهم بقراءته فتكلم معهم.
لو أن كتابا مقروءا كان من وظيفته أن يفعل ذلك ؛ لكان هذا القرآن ؛ لكونه مشتملا على الغاية القصوى في الهداية والتذكير، والترغيب والترهيب.
والمقصود : بيان عظمة القرآن، وأن من شأنه أن يرقق القلوب وأن يهدي النفوس، وأن يصلح الأفراد والجماعات كما قال عز شأنه :﴿ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ﴾. ( الحشر : ٢١ ).
ويجوز أن يكون المعنى :
لو أن كتابا فعلت بواسطته هذه الأفاعيل العجيبة : من إحياء الموتى، وزحزحة الجبال ؛ لما آمنوا ؛ لفرط عنادهم، وغلوهم في مكابرتهم، وهذا بمعنى قوله تعالى :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون ﴾. ( الأنعام : ١١١ ).
﴿ بل لله الأمر جميعا ﴾.
أي : أن الله قادر على أن يأتي بمثل هذه الآيات التي اقترحها المشركون، لكن الإرادة لم تتعلق بذلك ؛ لأنها اقتراحات صادرة عن التشهي والهوى، والتمادي في الضلال، والمكابرة والعناد، ولو أجيبوا إلى مقترحاتهم ؛ لكفروا وكذبوا وعاندوا.
﴿ أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ﴾.
أي : أفلم يعلم ويتبين ويتيقن الذين آمنوا : أن الله لو شاء هداية الناس أجمعين ؛ لهداهم من غير أن يشاهدوا الآيات ؛ لكنه لم يشأ ذلك ليتميز الخبيث من الطيب.
ويجوز أن يكون المعنى :
﴿ أفلم ييأس الذين آمنوا ﴾. من إيمان جميع الخلق، ويعلموا ويتبينوا : أن الله لو شاء هداية الناس جميعا ؛ لفعل، ولكنه جعل سبيل الهداية إلى الحق اختيار العبد وفعله، بعد أن يسر الله له أسبابها وأزاح موانعها.
ذكر السيوطي في تفسيره : أن بعض الصحابة قالوا للرسول صلى اله عليه وسلم : اطلب للمشركين ما اقترحوه ؛ عسى أن يؤمنوا. اه.
لقد مرت البشرية بأطوار سابقة، وجاءت بعض الرسل بمعجزات مادية ملموسة ؛ كناقة صالح، وعصا موسى التي ضرب بها الحجر فتفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وكان عيسى يشفي المرضى بإذن الله ويحيي الموتى بإذن الله.
وفي رسالة الإسلام الخالدة، ورسالة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، أراد الله أن تكون المعجزة التي تم بها التحدي والإعجاز : القرآن الذي اشتمل على صنوف البلاغة، وألوان الإعجاز والهداية والبيان، وأخبار السابقين، ونواميس الكون، وسبل التقدم.
صحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له معجزات في مكة والمدينة، مثل : الإسراء والمعراج في مكة، ومثل : نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطعام في الجيش، وشفاء بعض المرضى في المدينة، لكن ذلك لم يكن على سبيل التحدي.
كان القرآن وحده هو المعجزة الخالدة، التي تحدى بها الله العرب والعجم والناس أجمعين، وسيظل معجزة خالدة إلى يوم الدين، مع أن المعجزات السابقة لم يشاهدها إلا أهلها، وكانت أمرا خارجا عن الرسالة ؛ لكن هذا القرآن يشاهده الناس الآن وغدا إلى ما شاء الله، والقرآن في نفس الوقت هو عين الرسالة وحقيقتها، وهو الدليل على صدقها.
روى البخاري في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة )xxxv.
﴿ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله ﴾.
ولا يزال الذين كفروا تصيبهم البلايا والرزايا ؛ والقوا رع التي تقرع القلوب بأهوالها. وفي هذا إشارة إلى ما نزل بهم في غزوة بدر وغيرها من الأسر والقتل.
﴿ أو تحل قريبا من دارهم ﴾.
كما حدث في صلح الحديبية ؛ فقد كانت سببا في تقدم الإسلام، وزلزلة أقدام المشركين.
﴿ حتى يأتي وعد الله ﴾. بفتح مكة أو انتصار الإسلام، ودخول الناس في دين الله أفواجا.
﴿ إن الله لا يخلف الميعاد ﴾.
إن الله سبحانه منجز وعده لرسوله وللمسلمين بالنصر، قال تعالى :﴿ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام ﴾. ( إبراهيم : ٤٧ ).
من تفسير الطبري
قال أبو جعفر : فتأويل الكلام إذا : ولو أن قرآنا سوى هذا القرآن كان سيرت به الجبال ؛ لسير بهذا القرآن، أو قطعت به الأرض، لقطعت بهذا، أو كلم به الموتى ؛ لكلم بهذا، ولكن لم يفعل ذلك بقرآن قبل هذا القرآن فيفعل بهذا، ﴿ بل لله الأمر جميعا ﴾. يقول : ذلك كله إليه وبيده، يهدي من يشاء إلى الإيمان فيوفقه له، ويضل من يشاء فيخذله.
أفلم يتبين الذين آمنوا بالله وبرسوله، إذ طمعوا في إجابتي من سأل نبيهم : تسير الجبال عنهم، وتقريب أرض الشام عليهم، وإحياء موتاهم، أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا إلى الإيمان، من غير إيجاد آية، ولا إحداث شيء مما سألوا إحداثه ؟ ! يقول تعالى ذكره : فما معنى محبتهم ذلك، مع علمهم بأن الهداية والإهلاك إليّ وبيدي، أنزلت آية أو لم أنزلها، أهدي من أشاء بغير إنزال آية، وأضل من أردت مع إنزالهاxxxvi.
المفردات :
فأمليت للذين كفروا : أي : أمهلتهم وتركتهم ملاوة من الزمان دون عقاب.
التفسير :
٣٢ ﴿ ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب ﴾.
تأتي هذه الآية في أعقاب طلب كفار مكة من النبي صلى الله عليه وسلم، عددا من الآيات المادية على سبيل السخرية والاستهزاء، والتعنت والعناد، حيث طلبوا : زحزحة الجبال عن مكة، وتفجير عيون الأرض، وإحياء الموتى، فقال الله لنبيه : لا تحزن ولا تبتئس من تعنت هؤلاء المشركين، فكثيرا ما سخر الكافرون من المرسلين قبلك.
قال تعالى عن نوح :﴿ ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون* فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ﴾. ( هود : ٣٩، ٣٨ ).
﴿ فأمليت للذين كفروا ﴾. أي : أمهلتهم وتركتهم مرة من الزمان في أمن ودعة.
﴿ ثم أخذتهم ﴾. أي : أحللت بهم عذابي ونقمتي حين تمادوا في غيهم وضلالهم ؛ ﴿ فكيف كان عقاب ﴾. فانظر كيف كان عقابي إياهم حين عاقبتهم، ألم أذقهم أليم العذاب، وأجعلهم عبرة لأولي الألباب ؟ ! xxxvii.
وقد عقب ابن كثير على تفسير الآية بقوله :
ومثل هذه الآية قوله تعالى :﴿ وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير ﴾( الحج : ٤٨ ).
وفي الصحيحين :( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ﴾xxxviii( هود : ١٠٢ ).
قائم على كل نفس : رقيب ومهين عليها.
التفسير :
﴿ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء... ﴾الآية.
هذا الاستفهام إنكاري وجوابه محذوف دل عليه السياق، والمراد من الآية : الإنكار على الكفار اتخاذ الشركاء لله، وعبادتهم آلهة لا تضر ولا تنفع، وقد ترقى القرآن في مناقشتهم في هذه الآية، فبدأ بهذا، الاستفهام الإنكاري :﴿ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ﴾، أي : حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة، يعلم ما يعمل العاملون من خير أو شر ولا تخفى عليه خافية، فهو سبحانه :﴿ يعلم السر وأخفى ﴾. ( طه : ٧ )، ﴿ وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير ﴾. ( الحديد : ٤ )، أفمن كان كذلك يشبه الأصنام التي لا تسمع ولا تنفع ولا تجيب ؟ !.
والمراد : نفي المماثلة بين الخالق الرازق النافع المحيي المميت، وبين الأصنام التي لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تجيب.
﴿ وجعلوا لله شركاء قل سموهم ﴾. أي : قل لهم أيها الرسول : اذكروا أسماءهم وصفاتهم التي جعلتم في نظركم يستحقون العبادة مع الله.
﴿ أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض ﴾. أي : بل أتخبرون الله بشركاء زاعمين : استحقاقها للعبادة، وهو لا يعلمها في أرضه، مع أنه العليم بكل شيء، ولا تغيب عن علمه ذرة في الأرض ولا في السماء.
﴿ أم بظاهر من القول ﴾. بل أتخبرونه عن ألوهيتها بظاهر من القول ليس له حقيقة واقعة، وليس له ظل في الخارج، فكلامكم قول باطل كاذب، تقولونه بأفواهكم فقط، وليس لله شريك أبدا.
﴿ بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ﴾.
وبل هنا للإضراب، ونلمح هنا التدرج في الإضراب على ألطف وجه ؛ فبعد أن عددت الآية عددا من الأساليب البديعة على ضلال الكافرين، وانتقلت من الخبر إلى التحدي بتسمية الشركاء، إلى الاستفهام الإنكاري، انتقلت إلى بيان حقيقتهم فقالت : دع عنك أيها الرسول مجادلتهم ؛ لأنه لا فائدة من ورائها ؛ فإن هؤلاء الكافرين قد زين لهم الشيطان مكرهم، وكيدهم للإسلام وأتباعه، كما أن رؤساءهم في الكفر شجعوهم على هذا الباطل، وصدوهم عن السبيل الحق، وعن الصراط المستقيم.
﴿ ومن يضلل الله فماله من هاد ﴾. أي : من يسلب عنه الهدى بسبب ضلاله وإعراضه ؛ فلن يجد هاديا يهديه، كما قال سبحانه :﴿ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ﴾. ( المائدة : ٤١ )، وقال سبحانه :﴿ إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل ومالهم من ناصرين ﴾. ( النحل : ٣٧ ).
يعذب الله هؤلاء الكافرين في الدنيا عن طريق القوا رع والمصائب التي ينزلها الله بهم، وعن طريق القتل والأسر بيد المؤمنين.
﴿ ولعذاب الآخرة أشق ﴾. إن عذاب الآخرة أشق وأصعب من عذاب الدنيا ؛ فهو أبدي سرمدي لا نهاية له.
﴿ وما لهم من الله من واق ﴾. أي : ليس لهؤلاء الكافرين من أحد يقيهم من عذابه. أو يحفظهم ويعصمهم منه، ولا حميم ولا ولي ولا نصير.
المفردات :
مثل الجنة : المثل هنا بمعنى : الصفة العجيبة. وأصله بمعنى : الشبه والنظير.
أكلها دائم : أي : ثمرها باق لا يغيب ولا ينقطع.
عقبى الذين اتقوا : أي : مآلهم وعاقبتهم.
التفسير :
٣٥﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار... ﴾الآية.
صفة الجنة التي وعد الله بها عباده المتقين، الذين راقبوه وأطاعوا أمره واجتنبوا معاصيه، هذه الجنة جزاء جميل بديع للأتقياء، ومن صفتها : أن الأنهار تجري من تحت أشجارها وقصورها، وتتحرك الأنهار حسب ما يشاء أهل الجنة ؛ قال تعالى :﴿ عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا ﴾. ( الإنسان : ٦ ).
وفي الجنة : أنهار من لبن، وأنهار من خمر، وأنهار من عسل، قال تعالى :﴿ فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم... ﴾. ( محمد : ١٥ ).
ومن صفة الجنة : أن أكلهاxxxix دائم وظلها، أي : ثمرها باق لا ينقطع، مع اعتدال مناخها، وطيب هوائها، قال تعالى :﴿ لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا* ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ﴾. ( الإنسان : ١٤، ١٣ ).
﴿ تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ﴾.
أي : تلك الجنة الموصوفة بما ذكر هي : مآل المتقين الذين استقاموا على طريق الحق والإيمان، أما مآل الكافرين بالله ورسوله ؛ فعاقبتهم النار، وبئس القرار.
المفردات :
الكتاب : المراد به هنا : التوراة والإنجيل.
الأحزاب : الجماعات القوية والأقوام المتشابهون في ميولهم وعقائدهم.
مآب : مرجع ومصير.
التفسير :
٣٦ ﴿ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه... ﴾.
تكلم سبحانه عن ثواب المؤمنين وعقوبة الكافرين فيما سبق، وفي هذه الآية تحدث عن فريق ثالث وهو أهل الكتاب، والمراد بهم : اليهود والنصارى، الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يفرحون بنزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم يرونه مطابقا لما عندهم في التوراة والإنجيل.
قال تعالى :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ﴾. ( البقرة : ١٢١ )، وهم جماعة ممن آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، ومن النصارى وهم ثمانون رجلا من الحبشة واليمن ونجران.
﴿ ومن الأحزاب من ينكر بعضه ﴾. أي : الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالعداوة والبغضاء، وهم : المشركون، واليهود، والنصارى، الذين أنكروا بعض القرآن، وهو ما لم يوافق ما حرفوه من كتبهم وشرائعهم ؛ ككعب بن الأشرف، والسيد والعاقب : أسقفى نجران وأشياعهم.
﴿ قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به ﴾.
أي : إنما أمرت فيما أوحي إلى من القرآن : أن أعبد الله وحده، ولا أشرك بعبادته أحدا سواه، وهذا مالا سبيل إلى إنكاره ؛ فهو أمر اتفقت عليه الشرائع والملل، المقتدية بالرسل.
قال تعالى :﴿ قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ﴾. ( آل عمران : ٦٤ ).
وذلك ما دلت عليه دلائل الآفاق والاكتشافات العلمية، التي ذكرت : أن هذا النظام المذهل، في الآفاق والأفلاك والمجرات والكواكب ؛ لا يمكن أن يتم إلا إذا كان في يد الله وتدبيره.
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه الواحد
﴿ إليه أدعو وإليه مآب ﴾. أي : إلى الله تعالى وحده، أدعو جميع الناس إلى عبادته وتوحيده، وتنزيهه عن الصاحبة والولد ؛ فلذلك لا أقر ما أنتم عليه من اتخاذ اليهود عزيرا ابنا لله، واتخاذ النصارى المسيح ابنا لله.
﴿ وإليه مآب ﴾. وإليه وحده مرجعي ومصيري ومصيركم للجزاء.
قال تعالى :﴿ إن إلى ربك الرجعى ﴾. ( العلق : ٨ ).
المفردات :
أنزلناه حكما عربيا : أي : أنزلنا القرآن حاكما للناس في قضاياهم بلسان العرب.
ولا واق : أي : ولا حافظ. من وقاه، يقيه وقاية، أي : حفظه.
التفسير :
٣٧ ﴿ وكذلك أنزلناه حكما عربيا... ﴾الآية.
أي : وكما أرسلنا قبلك المرسلين، وأنزلنا عليهم الكتاب بلغاتهم وألسنتهم ؛ أنزلنا عليك القرآن مشتملا على فضيلتين :
﴿ حكما ﴾. أي : بيان الأحكام والشرائع، التي يحتاج إليها المكلفون وتقتضيها الحكمة.
﴿ عربيا ﴾ ؛ ليفهمه قومك، ويسهل عليهم معرفة معانيه والرجوع إليه في الأحكام، وهو شرف ورفعة لهم، كان الأولى أن يقابلوه بالقبول والتصديق، بدلا من الرفض والتكذيب، فلو أنزل القرآن على جبل لخشع، ولان لسماعه، وقد سمعته الجن ؛ فقالوا :﴿ إنا سمعنا قرءانا عجبا* يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ﴾. ( الجن : ٢، ١ ).
وفي معنى الآية بين الله : أن القرآن كتاب عربي، يشرّف هذه الأمة ويعلي شأنها قال تعالى :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ﴾. ( الزخرف : ٤٤ )، وقال عز شأنه :﴿ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون ﴾. ( الأنبياء : ١٠ )، أي : فيه مجدكم وعزتكم وشرفكم.
﴿ ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ﴾ أي : إذا اتبعت أهواء هؤلاء الأحزاب ؛ ابتغاء رضاهم، كالتوجه إلى بيت المقدس، بعد تحويل القبلة، أو عبادة آلهتهم يوما ؛ ليعبدوا إلهك يوما مثله.
﴿ مالك من الله من ولي ولا واق ﴾. أي : ليس لك من دون الله ولي يلي أمرك وينصرك ولا واق يقيك عذابه إن أراد عذابك، فاحذر أن تتبع أهواءهم أو تنهج نهجهم، والخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد : أمته، وفي هذا وعيد للعلماء ؛ إن هم حادوا عن الطريق، واتبعوا سبل أهل الضلالة.
جاء في تفسير المراغي :
ومثل هذا الخطاب من باب( إياك أعني واسمعي يا جارة )، فهو إنما جاء ؛ لقطع أطماع الكافرين، وتهييج المؤمنين على الثبات في الدين.
وقال الدكتور/ محمد طنطاوي في التفسير الوسيط :
فكأنه سبحانه يقول : لو اتبع أهواءهم على سبيل الفرض أكرم الناس عندي ؛ لعاقبته، وأحق بهذا العقاب من كان دونه في الفضل والمنزلة، وشبيه بهذه الآية قوله تعالى :﴿ ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ﴾. ( الزمر : ٦٥ ).
المفردات :
لكل أجل كتاب : الأجل : الوقت والمدة، والكتاب : الحكم المعين الذي يكتب على العباد ؛ حسب ما تقتضيه الحكمة.
التفسير :
٣٨ ﴿ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية... ﴾الآية.
أرسل الله الرسل من البشر ومن شأن البشر أن يتزوجوا ويولد لهم الولد قال سبحانه :﴿ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ﴾. ( الفرقان : ٢٠ ). ومن مقتضى هذه البشرية ؛ إتيان الزوجات، وكفالة الأولاد.
ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل، فلماذا ينكر عليه اليهود وغيرهم زواج النساء. روى : أن أعداء النبي محمد صلى الله عليه وسلم قالوا : ما نرى لهذا الرجل همة إلا في النساء، ولو كان رسولا من عند الله حقا ؛ لما اشتغل عن رسالاته بالنساء ؛ فرد الله عليهم بهذه الآية، حيث قال سبحانه :﴿ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية ﴾. وفي هذا تذكير بما كان عليه داود وسليمان عليهما السلام ؛ حيث كانت لهما زوجات كثيرات وذرية كثيرة، ولم يقدح ذلك في نبوتهما.
على أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصرت حياته الأولى على زوجة واحدة، هي : السيدة خديجة، فلم يتزوج عليها في حياتها، وحين ماتت كان عمره يناهز الخمسين.
فحياته في مكة كلها، كانت مع زوجة واحدة هي : السيدة خديجة، ولما هاجر إلى المدينة حدثت ظروف ودواع ؛ اقتضت الإصهار إلى القبائل لمصلحة الإسلام، فكان من الخير أن تتعدد زوجاته ؛ لأهداف متعددة، وأغراض حكيمة لهذا التعدد، وكان لزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، دور رئيس في بيان حياة الرسول الداخلية والخارجية، وكانت عائشة رضي الله عنها تناقش الصحابة وتستدرك عليهم، وتشرح وجهة نظرها لهم، وكذلك بقية أمهات المؤمنين، فكانت حكمة إلهية في زواجه عليه الصلاة والسلام ؛ تحقيقا لمعنى البشرية، وتأكيدا لهذه القدوة العملية.
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأرقد، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني )xl.
﴿ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ﴾.
أي : ما صح ولا استقام لرسول من رسل الله، أن يأتي لقومه بمعجزة إلا بإذن الله ومشيئته وحكمته، وقد تضمنت الرد على المشركين، حين اقترحوا على الرسول صلى الله عليه وسلم طائفة من المعجزات مثل : زحزحة جبال مكة، وتسخير الرياح لهم، وتفجير ينابيع الأرض...
﴿ ولكل أجل كتاب ﴾.
لكل وقت من الزمان شرع كتبه الله يناسب حال أهله، وينتهي بانتهاء الحاجة إلى هذا الشرع ؛ لذلك ذكر العلماء : أنه لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان ؛ فقد أرسل الله موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام في أزمنة متعددة، رأى الله سبحانه وجودهم في هذه الأزمنة لا يتقدمون عنها ولا يتأخرون، وهكذا أعمار الناس وآجالهم، كلها كتبت في آجال ومدد معينة، لا تقديم فيها ولا تأخير.
ولكل أمر قضاه الله أجل وموعد لا يتقدم عنه ولا يتأخر، ولكل وقت من الأوقات كتاب. أي : حكم معين يكتب على الناس حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية.
المفردات :
يمحو : المحو : الإزالة، والمراد به هنا : نسخ الشرائع والأحكام وتغييرها.
أم الكتاب : أصل الكتاب، والمراد به : علم الله تعالى، أو اللوح المحفوظ.
التفسير :
٣٩ ﴿ يمحو الله ما يشاء ويثبت... ﴾.
أي : ينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام ؛ لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت.
﴿ ويثبت ﴾. بدله ما فيه المصلحةxli ؛ فإن الحكمة تقتضي : أن ينسخ الله ما يشاء أن ينسخه من الأحكام والشرائع بحسب الوقت، ويثبت بدله، أو يبقيه على حاله من غير نسخ ؛ لأن الشرائع كلها لإصلاح أحوال العباد في المبدأ والمعاد، وقد جعل الله الشرائع كلها متفقه في الأصول، التي لا سبيل إلى تغييرهاxlii، مثل عبادة الله عز وجل، والإحسان إلى الوالدين، وتحريم القتل والزنا، وأكل مال اليتيم، والأمر بالعدل، والوفاء بالعهد، والتزام آداب الإسلام. فهذه الأصول وأمثالها : لا تتغير ولا تتبدل بتغير الرسالات والكتب السماوية، أما الفروع : فإنها عرضة للتغير والتبديل، كطريقة الصيام وزمنه، ومقادير الزكاة والأصناف التي تزكى، وغير ذلك مما يتغير بتغير الأجيال وأحوالهمxliii.
وقد أورد ابن جرير الطبري آراء متعددة في تفسير هذه الآية، ونقلها عنه ابن كثير في تفسيره، ولخصها عدد من المفسرين، ومن هذه الآراء ما يأتي :
١ الآية عامة في كل ما يمحوه الله ويثبته، وظاهر النظم القرآني : العموم في كل شيء مما في الكتاب، فيمحو ما يشاء محوه من شقاوة أو سعادة، أو رزق أو عمر، ويبدل هذا بهذا ويجعل هذا مكان هذا، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وإلى هذا ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وقتادة وغيرهم.
روى ابن جرير، وابن كثير : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو يطوف بالبيت ويبكي : اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبا فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب فاجعله سعادة ومغفرة.
٢ روي عن ابن عباس في معنى :﴿ يمحو الله ما يشاء ويثبت ﴾ : قال : كل شيء إلا الموت والحياة، والشقاء والسعادة ؛ فإنهما قد فرغ منهما.
٣ يمحو من ديوان الحفظة الذين ديدنهم كتابة كل قول وعمل : مالا يتعلق به الجزاء أو يمحو سيئات التائب ويثبت مكانها الحسنة.
٤ وقال آخرون :﴿ يمحو الله ما يشاء ﴾ من الشرائع بالنسخ، ويثبت ما يشاء فلا ينسخه ولا يبدله.
٥ وقال آخرون : يمحو الله المحن والمصائب بالدعاء.
قال أبو السعود في التفسير :
والأنسب تعميم كل من المحو والإثبات ؛ ليشمل الكل.
وقال الإمام الشوكاني في فتح القدير :
الأولى حمل الآية على عمومها، فالمراد منها : أنه يمحو ما يشاء مما في اللوح المحفوظ، فيكون كالعدم، ويثبت ما يشاء، مما فيه فيجري فيه قضاؤه وقدره على حسب ما تقتضيه مشيئته. وهذا لا ينافي ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله :( جف القلم )xliv ؛ لأن المحو والإثبات هو من جملة ما قضاه سبحانه.
﴿ وعنده أم الكتاب ﴾. هو علم الله، وجميع ما يكتب في صحف الملائكة، لا يقع حيثما يقع إلا موافقا لما يثبت فيه، فهو أم لذلك، فكأنه قيل : يمحو الله ما يشاء محوه، ويثبت ما يشاء، وهو ثابت عنده في علمه الأزلي، الذي لا يكون شيء إلا وفق ما فيه.
المفردات :
وإما نرينك : ما هنا ؛ لتأكيد معنى الشرط، أي : وإن أريناك، والتعبير بالمضارع ؛ لحكاية الحال الماضية، أو لإفادة تجدد الوعيد.
التفسير :
٤٠ ﴿ وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾.
أي : إن أريناك أيها الرسول مصارع أعدائك، المصرين على الكفر، وما وعدناهم به من نزول العذاب بهم ؛ فهذا انتقام عاجل لك من أعدائك، وإن توفيناك قبل نزول العذاب بهم ؛ فلا تجزع لذلك واترك الأمر لنا، فما عليك إلا تبليغ رسالة ربك، لا طلب صلاحهم ولا فسادهم ؛ وعلينا محاسبتهم ومجازاتهم بأعمالهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، قال تعالى :﴿ فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمسيطر* إلا من تولى وكفر* فيعذبه الله العذاب الأكبر* إن إلينا إيابهم* ثم إن علينا حسابهم ﴾. ( الغاشية : ٢١ ٢٦ ).
من أطرافها : الأطراف : الجوانب.
لا معقب لحكمه : أي : لا راد له. والمعقب : هو الذي يكر على الشيء فيبطله، ويقال لصاحب الحق الذي يطالب به : معقب ؛ لأنه يتتبع غريمه بالاقتضاء والطلب.
التفسير :
﴿ أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها... ﴾.
ألم يشاهد أهل مكة أمام أعينهم، انخفاض شأن الكفر وانزواء أهله، وتقدم شأن الإسلام وتفوق أهله، فقد نصر الله المسلمين في بدر، وفي غزوات متتابعة، حتى جاء نصر الله والفتح، وتم فتح مكة ودانت أم القرى بالإسلام، فالمراد بالأرض : أرض الكفر، ونقصانها من أطرافها : انتصار المسلمين على المشركين مرة إثر أخرى.
وقيل : المعنى : أعمى هؤلاء الكافرون عن التفكر والاعتبار ؟ !، ولم يشاهدوا أن قدرة الله القاهرة، قد أتت على الأمم القوية القادرة ؛ حين كفرت بنعمة الله ؛ فصيرت غناها فقرا، وعزها ذلا، وما أصاب هذه الأمم يمكن أن يصيب أهل مكة عقابا عادلا، قال تعالى :﴿ أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون ﴾. ( الأنبياء : ٤٤ ).
﴿ والله يحكم لا معقب لحكمه ﴾. أي : إن الله تعالى يحكم ما يشاء أن يحكم به في خلقه ؛ لا راد لحكمه ولا دافع لقضائه، ولا يتعقب أحد ما حكم به بتغيير أو تبديل، وقد حكم سبحانه بعزة الإسلام وعلو شأنه.
﴿ وهو سريع الحساب ﴾. فعما قريب سيحاسبهم في الآخرة، كفاء جحودهم وعنادهم ؛ فلا تستعجل عذابهم ؛ فإنه آت لا محالة، وكل آت قريب.
المفردات :
مكر : المكر : هو تدبير المكروه في خفية.
فلله المكر جميعا : أي : أنه تعالى يعلم المكر كله، فلا تخفى منه خافية عليه سبحانه.
عقبى الدار : أي : عاقبة دار الدنيا.
التفسير :
٤٢ ﴿ وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا... ﴾.
أي : دبر الكافرون السوء لرسلهم، الذين سبقوا قومك يا محمد، وحاولوا إيقاع المكروه بهم، ولكن الله تعالى نصر رسله، وأحبط كيد الكافرين.
﴿ فلله المكر جميعا ﴾. أي : لا تأثير لمكر الكافرين أصلا : لأنه معلوم لله وتحت قدرته.
قال الشوكاني :
مكر الكفار الذين من قبل كفار مكة، بمن أرسله الله إليهم من الرسل، فكادوهم وكفروا بهم، ومكرهم هذا كالعدم.
﴿ فلله المكر جميعا ﴾. أي : لا اعتداد بمكر غيره ؛ فلا قيمة له ولا تأثير له في مواجهة مكر الله تعالى بالماكرين ا. ه.
﴿ يعلم ما تكسب كل نفس ﴾. إنه سبحانه لا تخفى عليه خافية من أحوال كل نفس، ومن علم ما تكسب كل نفس وأعد لها جزاءها، كان المكر كله له، ولا أثر لمكر غيره في مقابلة مكره.
﴿ وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار ﴾. وسيعلم الكفار حين ينزل العذاب بهم، لمن العاقبة المحمودة من الفريقين، في دار الدنيا أو في الدار الآخرة ؛ هل ستكون العاقبة للكافرين أم للمؤمنين ؟، لا شك أنها ستكون للمؤمنين.
قال تعالى :﴿ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين ﴾. ( القصص : ٨٣ ).
علم الكتاب : أي : علم القرآن وما هو عليه من البيان المعجز، والحكمة التي لا تضارع، أو علم التوراة والإنجيل، وما فيها من البشارات برسول الله والإسلام.
التفسير :
﴿ ويقول الذين كفروا لست مرسلا... ﴾.
يقول من أنكر نبوتك وكفر برسالتك : لست رسولا من عند الله، وإنما أنت متقول على الله تعالى.
يقولون ذلك بعد أن أيده الله بالمعجزات، وبعد أن تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثل القرآن فعجزوا، ولزمهم العجز وثبت قصورهم وضعف حجتهم، وبدل أن يؤمنوا ويشهدوا له بالرسالة، كابروا وعاندوا، وقالوا : لست مرسلا من عند الله، ولكنك تدعي الرسالة.
﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ﴾. أي : قل : حسبي الله شاهدا لي بتأييد رسالتي وصدق مقالتي، وشاهدا عليكم أيها المكذبون فيما تفترونه من البهتان.
﴿ ومن عنده علم الكتاب ﴾. ممن أسلم من أهل الكتابين : التوراة والإنجيل ؛ فإنهم كانوا يجدون البشارات بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، وحاصل الجواب بذلك : لستم بأهل للحكم في شأني، فاسألوا أهل الكتاب ؛ فإنهم يجاورونكم.
أخرج ابن جرير وابن المنذر : عن قتادة قال : كان من أهل الكتاب قوم يشهدون بالحق ويعرفونه، منهم : عبد الله بن سلام، والجارود، وتميم الداري، وسلمان الفارسي، رضي الله عنهم.