تفسير سورة الإسراء

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾؛ أي سُبحان الذي أسْرَى بعبدهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ واحدة من مَسجِدِ مكَّة إلى مسجدِ بيتِ المقدس. وسُمِّي مسجدُ بيتِ المقدس المسجدَ الأقصى؛ لأنه لم يكن وراءَهُ مسجدٌ يُعْبَدُ اللهُ فيه. وقيل: لأنه أبعدُ المساجدِ التي تُزار، قالَ صلى الله عليه وسلم:" أنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحِجْرِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، إذْ أتَانِي جِبْرِيلُ بالْبُرَاقِ... "وذكرَ حديث المعراجِ. وقال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: (أُسْرِيَ بهِ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هَانِئ بنْتِ أبي طَالِبٍ أُخْتِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَالْحَرَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ). وعن الكلبي عن أبي صالحٍ عن أُمِّ هانئ أنَّها كانت تقولُ: (مَا أُسْرِيَ برَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ وَهُوَ فِي بَيْتٍ)، قال مقاتلُ: (كَانَ الإسْرَاءُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بسَنَةٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ صفةُ بيتِ المقدسِ، بارَكَ الله فيما حولَهُ بالأشجار والأثمار والأنهار حتى لا يحتَاجُون إلى أنْ يُجلَبَ إليهم من موضعٍ آخر: وَقِيْلَ: يَعْنِي ﴿ بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾: جعلنَاهُ مَوضعاً للأنبياءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ، وفيه مَهبطُ الملائكةِ، وفيه الوحيُ، وفيه الصَّخرةُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ ﴾؛ أي من عَجائب قُدرَتِنا.
﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ﴾؛ لمقالةِ قُريشٍ وإنكارِهم ﴿ ٱلبَصِيرُ ﴾؛ بهم وبأعمالهم. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم" لَمَّا كَانَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بي وَأنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ، جَاءَنِي جِبْرِيلُ عليه السلام وَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ قُمْ، فَقُمْتُ فَإذا جِبْرِيلُ مَعَهُ مِيكَائِيلُ، فَقَالَ لِي: تَوَضَّأْ، فَتَوَضَّأْتُ، ثُمَّ قَالَ لِي: انْطَلِقْ يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ: إلَى أيْنَ؟ فَقَالَ: إلَى رَبكَ. فَأَخَذ بيَدِي وَأخْرَجَنِي مِنَ الْمَسْجِدِ، فَإذا بالْبُرَاقِ دَابَّةٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، خَدُّهُ كَخَدِّ الإنْسَانِ، وَذنَبُهُ كَذنَبِ الْبَعِيرِ، وَأظْلاَفُهُ كَأَظْلاَفِ الْبَقَرِ، وَصَدْرُهُ كَأَنَّهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، وَظَهْرُهُ كَأَنَّهُ دُرَّةٌ بَيْضَاءُ، عَلَيْهِ رَحْلٌ مِنْ رحَالِ الْجَنَّةِ، خَطْوُهُ مُنْتَهَى طَرْفِهِ. فَقَالَ لِي: ارْكَبْ، فَلَمَّا وَضَعْتُ يَدِي عَلَيْهِ شَمَسَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: مَهْلاً يَا بُرَاقُ؛ أمَا تَسْتَحِي! فَوَاللهِ مَا رَكِبَكَ نَبيٌّ أكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذا، هُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. فَارْتَعَشَ الْبُرَاقُ، وَتَصَبَّبَ عَرَقاً حَيَاءً مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ خَفَضَ حَتَّى لَزَقَ بالأَرْضِ، فَرَكِبْتُهُ وَاسْتَوَيْتُ عَلَى ظَهْرِهِ. قَامَ جِبْرِيلُ نَحْوَ الْمَسْجِدِ الأَقْصَى يَخْطُو مَدَّ الْبَصَرِ، وَالْبُرَاقُ يَتْبَعُهُ لاَ يَفُوتُ أحَدُهُمَا الآخَرَ حَتَّى أتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَإذا بالْمَلاَئِكَةِ قَدْ نَزَلُوا مِنَ السَّمَاءِ يَتَلَقَّوْنِي بالْبشَارَةِ وَالْكَرَامَةِ مِنْ عِنْدِ اللهِ، فَلَمَّا وَصَلْتُ بَابَ الْمَسْجِدِ أنْزَلَنِي جِبْرِيلُ، وَرَبَطَ الْبُرَاقَ بالْحَلَقَةِ الَّتِي كَانَتْ تَرْبطُ بهَا الأَنْبيَاءُ، وَكَانَ لِلبُراقِ خِطَامٌ مِنْ حَرِيرِ الْجَنَّةِ، فَصَلَّيْتُ فِي الْمَسْجِدِ رَكْعَتَيْنِ، وَالْمَلاَئِكَةُ خَلْفِي صُفُوفاً يُصَلُّونَ مَعِي. ثُمَّ أخَذ جِبْرِيلُ بيَدِي، وَانْطَلَقَ بي إلَى الصَّخْرَةِ فَصَعَدَ بي عَلَيْهَا. وَإذا مِعْرَاجٌ أصْلُهُ عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَرَأسُهُ مُلْتَصِقٌ بالسَّمَاءِ، إحْدَى عَارِضَيْهِ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاء وَالأُخْرَى زُبُرْجُدَةٌ خَضْرَاءُ، وَدَرْجُهُ زُمُرُّدٌ مُكَلَّلٌ بالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، فَاحْتَمَلَنِي جِبْرِيلُ حَتَّى وَضَعَنِي عَلَى جَنَاحَيْهِ، ثُمَّ صَعَدَ بي ذلِكَ الْمِعْرَاجَ حَتَّى وَصَلَ بي إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا. فَقَرَعَ الْبَابَ فَقِيلَ: مَنْ هَذا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قَالُوْا: مَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. فَفَتَحُواْ الْبَابَ فَدَخَلْنَا، فَقَالُواْ: مَرْحَباً وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلَى آدَمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذا؟ قَالَ: أبُوكَ آدَمُ، فَسَلَّمْتُ عَلِيْهِ فَقَالَ: مَرْحَباً بكَ، بالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ انْطَلَقْنَا حَتَّى أتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَفَتَحُواْ لَنَا وَقَالُواْ: مَرْحَباً برَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ رَسُولُ اللهِ، فَأَتَيْتُ عَلَى عِيسَى وَيَحْيَى فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذانِ؟ قَالَ: عِيسَى وَيَحْيَى ابْنَا الْخَالَةِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمَا، فَقَالاَ: مَرْحَباً بالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ انْطَلَقْنَا إلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقَالُواْ: مَنْ هَذا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ وَمَعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَفَتَحُواْ وَقَالُواْ: مَرْحَباً بهِ وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلَى يُوسُفَ عليه السلام فَقَالَ: مَرْحَباً بالأَخِ الصَّالِحِ. ثُمَّ أتَيْنَا السَّمَاءَ الرَّابعَةَ فَكَانَ مِنَ الاسْتِفْتَاحِ وَالْجَوَاب مِثْلَ مَا تَقَدَّمْ، فَوَجَدْتُ إدْريسَ فَقَالَ لِي: مَرْحَباً بالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبيِّ الصَّالِحِ. وَفِي السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ وَجَدْتُ هَارُونَ فَقَالَ لِي كَذلِكَ، وَفِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَجَدْتُ مُوسَى فَقَالَ لِي كَذلِكَ، وَفِي السَّمَاءِ السَّابعَةِ وَجَدْتُ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ لِي: مَرْحَباً بالابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ رُفِعْتُ إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإنَّ نَبقَهَا مِثْلَ قِلاَلِ هَجَرٍ، وَوَرَقُهَا كَأَذانِ الْفِيَلَةِ، وَرَأيِْتُ أرْبَعَةَ أنْهَارٍ تَجْرِي مِنْ أصْلِهَا، فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ مَا هَذِهِ الأَنْهَارِ؟ فَقَالَ: النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ فِي الْجَنَّةِ، وأمَّا النَّهْرَانِ الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، وَفِيهَا مَلاَئِكَةٌ لاَ يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إلاَّ اللهُ، وَمَقَامُ جِبْرِيلَ فِي وَسَطِهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إلَيْهَا فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ: تَقَدَّمْ، فَقُلْتُ: تَقَدَّمْ أنْتَ يَا جِبْرِيلُ! فَقَالَ: بَلْ تَقَدَّمْ أنْتَ يَا مُحَمَّدُ؛ فَأَنْتَ أكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنِّي. قَالَ: فَتَقَدَّمْتُ وَجِبْرِيلُ عَلَى إثْرِي حَتَّى انْتِهَائِي إلَى حِجَابٍ مِنْ ذهَبٍ، فَحَرَّكَهُ، فَقِيلَ: مَنْ هَذا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ وَمَعِي مُحَمَّدٌ، فَأَخْرَجَ الْمَلَكُ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْحِجَاب، فَاحْتَمَلَنِي وَتَخَلَّفَ جِبْرِيلُ، فَقُلْتُ: إلَى أيْنَ؟ فَقَالَ: وَمَا مِنَّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ، وَإنَّمَا أُذِنَ لِي فِي الدُّنُوِّ مِنَ الْحِجَاب لإكْرَامِكَ وَإجْلاَلِكَ. فَانْطَلَقَ بي الْمَلَكُ فِي أسْرَعِ مِنْ طُرْفَةِ عَيْنٍ إلَى حِجَابٍ آخَرَ، فَحَرَّكَهُ فَقَالَ الْمَلَكُ: مَنْ هَذا؟ فَقَالَ: هَذا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعِي، فَأخْرَجَ يَدَهُ مِنَ الْحِجَاب، فَاحْتَمَلَنِي حَتَّى وَسِعَنِي بَيْنَ يَدَيْهِ. فَلَمْ أزَلْ كَذلِكَ مِنْ حِجَابٍ إلَى حِجَابٍ حَتَّى سَبْعِينَ حِجَاباً، غِلْظُ كُلِّ حِجَابٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَمَا بَيْنَ الْحِجَاب إلَى الْحِجَاب خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ احْتُمْلِتُ إلَى الْعَرْشِ "فانتهى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى حيثُ شاءَ اللهُ، ورأى من العجائب والقدرة ما شاءَ اللهُ. قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" أُمِرْتُ بخَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى أتَيْتُ مُوسَى، فَسَأَلَنِي: بمَ أُمِرْتَ؟ فَقُلْتُ: بخَمْسِينَ صَلاَةً، فَقَالَ: إنَّ أُمَّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذلِكَ، فَارْجِعْ إلَى رَبكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فَقَالَ: فَرَجَعْتُ إلَى رَبي فَحَطَّ عَنِّي خَمْساً، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى أتَيْتُ مُوسَى فَذكَرْتُ لَهُ ذلِكَ، فَقَالَ لِي: ارْجِعْ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ فَحَطَّ عَنِّي خَمْساً أُخْرَى، فَلَم أزَلْ كَذلِكَ يَقُولُ لِي مُوسَى: ارْجِعْ وَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، وَأنَا أرْجِعُ حَتَّى بَقِيَتْ خَمْسُ صَلَوَاتٍ، فَقَالَ لِي مُوسَى: اسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ رَجَعْتُ حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبي، فَنُودِيتُ: أنْ قَدْ أمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَلَى عِبَادِي وَجَعَلْتُ كُلَّ حَسَنَةٍ بعَشْرِ أمْثَالِهَا ". قال ابنُ عبَّاس:" (فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ اللَّيْلِ إلَى مَكَّةَ وَأخْبَرَ قُرَيْشاً كَذبُوهُ، ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنْ صِفَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَا كَانَ عَنْ يَمِينِهِ حِينَ دَخَلَ، وَمَا كَانَ عَنْ يَسَارهِ حِينَ خَرَجَ، وَمَا اسْتَقْبَلَهُ، فَأَخْبَرَهُمْ بصِفَاتِهَا كُلِّهَا، وَقَالَ: " مَرَرْتُ عَلَى عِير بَنِي فُلاَنٍ، وَهِيَ بالرَّوْحَاءِ وَقَدْ أضَلُّوا بَعِيراً لَهُمْ وَهُمْ فِي طَلَبهِ " قَالُواْ: فَأَخْبرْنَا عَنْ عِيرنَا نَحْنُ، قَالَ: مَرَرْتُ بهَا بالتَّنْعِيمِ، قَالُواْ: فَمَا عِدَّتُهَا وَأحْمَالُهَا وَهَيْئَتُهَا؟ قَالَ: " كَذا وَكَذا، وَفِيهَا فُلاَنٌ، وَتَقَدَّمَهَا جَمَلٌ أوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ مَخِيطَاَنِ، تَطْلُعُ عَلَيْكُمْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ". قال: فَخَرَجُواْ يَشْتَدُّونَ نَحْوَ التَّثْنِيَةِ وَهُمْ يَقُولُونَ: لَقَدْ وَصَفَ مُحَمَّدٌ شَيْئاً فَسَنُكَذِّبُهُ، فَلَمَّا أتَّوا كِدَاءً جَلَسُوا عَلَيْهَا، فَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ مَتَى تَطْلُعُ الشَّمْسُ فَيُكَذِّبُوهُ، إذْ قَائِلٌ مِنْهُمْ يَقُولُ: هَذِهِ وَاللهِ الشَّمْسُ قَدْ طَلَعَتْ، وَقَالَ آخَرُ: وَهَذِهِ الْعِيرُ قَدْ طَلَعَتْ يَقْدِمُهَا بَعِيرٌ أوْرَقُ، فِيهَا فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ كَمَا قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يُؤْمِنُواْ وَلَمْ يُفْلِحُواْ) ". وَسَعَى نَاسٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إلَى أبي بَكْرٍ وَقَالُواْ: هَذا صَاحِبُكَ يَزْعُمُ أنَّهُ قَدْ أُسْرِيَ بهِ اللَّيْلَةَ إلَى الشَّامِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَرَجَعَ قَبْلَ الصُّبْحِ، قَالَ: (فَكَيْفَ لاَ أُصَدِّقُهُ عَلَى ذلِكَ؟!) قَالُواْ: أتُصَدِّقُهُ أنَّهُ ذهَبَ إلَى الشَّامِ؟ فَقَالَ: (إنْ كَانَ قَالَ ذلِكَ فَقَدْ صَدَقَ) قَالُواْ: أتُصَدِّقُهُ أنَّهُ ذهَبَ إلَى الشَّامِ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَرَجَعَ قَبْلَ الصُّبْحِ؟ قَالَ: (فَكَيْفَ لاَ أُصَدِّقُهُ عَلَى ذلِكَ) فَسُمِّيَ أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ. وأما المشرِكُون فقالوا: ما سَمعنا بهذا قطّ، إنْ هذا إلا سحرٌ مبين. فإنْ قِيْلَ إنما قالَ اللهُ ﴿ أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ﴾ فلِمَ قُلتم أسرى به إلى السَّماء؟ قُلنا: الأخبارُ في ذلك متواترةٌ ظاهرة، وما ذكَرَهُ في سورةِ النجم دليلٌ على صحَّة ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتَيْنَآ مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾؛ أي أعطَينا موسَى التوراة وجعلناهُ دلالةً لبني إسرائيل.
﴿ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ﴾؛ رَبّاً، ولا تتوكَّلوا على غَيري، ومَن قرأ ﴿ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ ﴾ بالتاءِ، فهو على الخطاب بعد الغَيبَةِ مثلُ﴿ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾[الفاتحة: ٢] ثُم قالَ:﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾[الفاتحة: ٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ﴾؛ أي يا ذرِّيةَ مَن حَمَلنا مع نُوحٍ، والناسُ كلُّهم ذريةُ نوحٍ، ثم اثنَى على نوحٍ فقال: ﴿ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ﴾ لنِعَمِ اللهِ، كان إذا أكلَ أو شَرِبَ أو اكتسَى أو احتذى قال: الْحَمْدُ للهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ ﴾؛ أي أخبَرنَاهُم في التوراةِ.
﴿ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ﴾؛ أي لتَعْصُنَّ كرَّتَين بقتلِ النُّفوس، وتخريب الديارِ، وأخذِ الأموال.
﴿ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً ﴾؛ ولتظلمُنَّ ظُلماً عظيماً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾؛ أي سلَّطنا عليكم عِبَاداً لنا ذوي عُدَّة في القتالِ.
﴿ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ ﴾؛ قال ابنُ عباس: (وَهُمْ بَخِتْنَصَّرَ وَأصْحَابُهُ الْمَجُوس، سَلَّطَهُمْ اللهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ حِينَ عَصَتْ فِي أوَّلِ الْفَسَادَيْنِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ بَخِتْنَصَّرَ أرْبَعِينَ ألْفاً مِمَّنْ كَانَ يَقْرَأْ التَّوْرَاةَ، وَدَخَلَ ديَارَهُمْ وَطَلَبَهُمْ طَلَباً شَدِيداً حَتَّى كَانُوا يَنْظُرُونَ فِي الأَزِقَّةِ وَالْبُيُوتِ، هَلْ بَقِيَ أحَدٌ لَمْ يَقْتُلُوهُ، وَاسْتَأْسَرُواْ مِنْ بَقِيَ بَعْدَ الأَرْبَعِينَ ألْفاً، وَمَضَواْ بهِمْ إلَى بلاَدِهِمْ، فَمَكَثَ الأُسَرَاءُ فِي أيْدِيهِمْ تِسْعِينَ سَنَةً حَتَّى مَاتَ بَخِتْنَصَّرَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً ﴾؛ أي وَعداً كَائناً لا محالةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ﴾؛ أي جعَلنا لكم الدولةَ والرجعةَ عليهم.
﴿ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾؛ أي وأعطيناكم أمْوَالاً وبنينَ.
﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ﴾؛ أي أكثرَ عَدَداً ينفِرُون إليهم. وذلك أنَّ رجُلاً من أهلِ الكتاب يقالُ له: كُورشُ غزَا أرضَ بابل، وهي بلادُ بَخِتْنَصَّر، فظهرَ عليهم فقتلَهم وسكنَ ديارَهم، وتزوَّجَ امرأةً مِن بني إسرائيلَ أُخْتُ مَلكِ بني إسرائيلَ، فطلَبت من زوجِها أن يَرُدَّ قومَها إلى أرضِهم ففعلَ، فمكثَ في بيتِ المقدس مِائتين وعشرين سنةً، وقامت بينهم الأنبياءُ، ورجَعُوا الى أحسنَ ما كانوا عليهِ، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ﴾.
وعن حذيفةَ بن اليمانِ قالَ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في هذهِ الآية:" إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ لَمَّا اعْتَدَواْ وَقَتَلُواْ الأَنْبيَاءَ، بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ الرُّومِ بَخِتْنَصَّرَ، فَسَارَ إلَيْهِمْ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَحَاصَرَهُمْ وَفَتَحَهَا، فَقَتلَ عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا أرْبَعِينَ ألْفاً - وَقِيْلَ: سَبْعِينَ ألْفاً - وَسَبَى أهْلَهَا، وَسَلَبَ حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ ابْنُ دَاوُدَ قَدْ بَنَاهُ مِنْ ذهَبٍ وَيَاقُوتٍ وَزُبُرْجُدٍ، وَعَمُودُهُ ذهَبٌ، أعْطَاهُ اللهُ ذلِكَ وَسَخَّرَ الشَّيَاطِينَ لَهُ يَأْتُونَهُ بهَذِهِ الأَشْيَاءِ. ثُمَّ سَارَ بَخِتْنَصَّرَ بالأُسَارَى حَتَّى نَزَلَ بَابلَ فَأَقَامَ بَنُو إسْرَائِيلَ فِي مُدَّتِهِ سَنَةً تَتَعَبَّدُ الْمَجُوسَ وَأبْنَاءَ الْمَجُوسِ، ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى رَحِمَهُمْ فَسَلَطَ مَلِكاً مِنْ مُلُوكِ فَارسَ يُقَالُ لَهُ كُورشُ وَكَانَ مُؤْمِناً، فَسَارَ إلَيْهِمْ فَاسْتَنْقَذ بَنِي إسْرَائِيلَ مِنْهُمْ، وَاسْتَنْقَذ حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى رَدَّهُ إلَيْهِ، فَأَقَامَ بَنُو إسْرَائِيلَ مُطِيعِينَ اللهَ زَمَاناً، ثُمَّ عَادُوا إلَى الْمَعَاصِي، فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ مَلِكاً آخَرَ وَحَرَقَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَسَبَاهُمْ ". قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا ﴾[الإسراء: ٥] يعني أُولى الْمَرَّتَين، واختلَفُوا فيها، فعلى قولِ قتادة: (إفْسَادُهُمْ فِي الْمَرَّةِ الأُوْلَى مَا تَرَكُواْ مِنْ أحْكَامِ التَّوْرَاةِ، وَعَصَوا رَبَّهُمْ وَلَمْ يَحْفَظُوا أمْرَ نَبيِّهِمْ مُوسَى، وَرَكِبُواْ الْمَحَارمَ). وعن ابنِ مسعود رضي الله عنه (أنَّ الْفَسَادَ الأَوَّلَ قَتْلُ زَكَرِيَّا)، وَقِيْلَ: قَتْلُهُمْ شَعْيَا نَبيُّ اللهِ فِي الشَّجَرَةِ، قال ابنُ اسحاق: (إنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أخْبَرَهُ أنَّ زَكَرِيَّا مَاتَ مَوْتاً وَلَمْ يُقْتَلْ، وَإنَّمَا الْمَقْتُولُ شَعْيَا). قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ ﴾[الإسراء: ٥] يعني جَالُوتَ وجنودَهُ، وقال ابنُ اسحاق: (بَخِتْنَصَّرَ الْبَابليُّ وَأصْحَابُهُ، أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ؛ أيْ ذوِي بَطْشٍ شَدِيدٍ فِي الْحَرْب، فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَار؛ أيْ طَافُوا وَدَارُواْ). وقال الفرَّاء: قتلوكم بين بيوتكم، قال حَسَّانُ: وَمِنَّا الَّذِي لاَقَى بسَيْفِ مُحَمَّدٍ   فَجَاسَ بهِ الأَعْدَاءَ عَرْضَ الْعَسَاكِرِوَقِيْلَ: (فَجَاسُواْ) أي طلَبُوا مَن فيها كما تُجَاسُ الأخبارُ. وقولهُ تعالى:﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ ﴾[الإسراء: ٧] أي المرَّة الآخرة، وهو قصدُهم قتلَ عيسى حين رُفِعَ، وقتلُهم يحيى بن زكريَّا عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، فسلَّطَ الله عليهم طَطُوسُ بن استِيباتيُوس فَارسَ وَالرُّومَ حِينَ قَتَلُوهُمْ وسَبَوهم، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾[الإسراء: ٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ ﴾؛ أي منفعةُ إحسَانِكم راجعةً إليكم.
﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾؛ أي فإلى أنفُسِكم، ولم يقل فإليها على جهةِ المقابلة للكلامِ الأول، ومثلُ هذه الحروفِ قد تُقام بعضُها مقامَ بعضٍ، كما في قولهِ تعالى:﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَىٰ لَهَا ﴾[الزلزلة: ٥] أي إليها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ ﴾؛ أي وعدَ المرَّة الآخرة في الفسادِ.
﴿ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾؛ بالقتلِ والسَّبي.
﴿ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ ﴾؛ أي مسجدَ بيتِ المقدس.
﴿ كَمَا دَخَلُوهُ ﴾؛ دخلَهُ بَخِتْنَصِّر وأصحابهُ.
﴿ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً ﴾؛ أي وليُخَرِّبوا ما عَلَوا عليه تخريباً، والتَّبَارُ والرَّماد والهلاكُ بمعنى واحدٍ. ذلك أن اللهَ سلَّط عليهم بعدَ مائتين وعشرين سنةً ططوس بن استيباتوس الرومي، فحاصَرَهم وقَتَلَ منهم مائةَ ألفٍ وثمانين، وخرَّبَ بيتَ المقدس، وذلك بعدَ قَتلِهم يحيى عليه السلام، فلم يزَلْ كذلك خَراباً إلى أن بناهُ المسلمون، فلم يدخلْهُ رُومِيٌّ بعد ذلكَ إلا خائفاً، كما قالَ تعالى:﴿ أُوْلَـٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ ﴾[البقرة: ١١٤].
وذهبَ بعضُهم إلى أن بَخِتْنَصَّرَ غَزَا بني إسرائيلَ مرَّتين، ففتحَ مدينَتهم في المرَّة الأولى، وجَاسُوا خلالَها يَقتُلون فيهم، فتابَتْ بنو إسرائيلَ إلى اللهِ تعالى فأظهرَهم اللهُ تعالى على بختنصِّر فرَدَّ عنهم، ثم بعثَ الله إلى بني اسرائيلَ (أرْضِيَّا) النبيَّ عليه السلام، فقامَ فيهم بوحيِِ الله تعالى، فضربوهُ وقيَّدوه وحبسوهُ، فسلَّطَ الله عليهم بختنَصِّر مرَّةً أُخرى ففعلَ ما فعلَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ﴾؛ أي بعدَ استقامةِ منكم.
﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ ﴾؛ لمعصيةٍ.
﴿ عُدْنَا ﴾؛ إلى العقوبةٍ، قال قتادةُ: (فَعَادُواْ فَبَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم، فَعَادَ اللهُ عَلَيْهِمْ بالْعُقُوبَةِ بإذْلاَلِهِمْ بأَخْذِ الْجِزْيَةِ وَالْقَتْلِ، فَهُمْ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ﴾؛ أي مُحْتَبَساً من قولِكَ: حصَرتهُ فهو محصورٌ إذا حبستَهُ، وَقِيْلَ: فِرَاشاً ومِهَاداً تَشْبيهاً بالحصيرِ الذي يُبسَطُ ويُفرَشُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾؛ أي يَهدي للحالةِ التي هي أقوَمُ الحالاتِ، والطريقةِ التي هي أصوبُ، وَقِيْلَ: يُرشِدُ إلى الكلمةِ التي هي أعدلُ الكلماتِ، وهي كلمةُ التوحيد والطاعةِ لله تعالى والإيمان به وبرُسلهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُبَشِّرُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ﴾؛ ثواباً عظيماً وهو الجنَّةُ.
﴿ وأَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾؛ أي إنَّ الذين لا يُؤمنون بالآخرةِ يُبشِّرُهم بعذابٍ أليم وهو النارُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ ﴾؛ أي يدعُو على نفسهِ وعلى ولَدهِ بالسُّوء عندَ الضَّجَرِ والغضب، فيقولُ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ اللهم أهلِكْهُ ونحوُ ذلك، كدُعائِه ربَّهُ بأن يهَبَ له العافِيةَ والنِّعمةَ، ويرزقه السلامةَ في نفسهِ وماله وولدهِ، فلو استجابَ اللهُ له إذا دعاهُ باللعنِ والهلاك، كما يستجابُ له إذا دعاهُ بالخيرِ لَهَلَكَ، ولكنَّ اللهَ تعالى بفضلهِ لا يستجيبُ له، ونظيرُ هذا﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾[يونس: ١١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً ﴾؛ أي عَجُولاً في الدُّعاء بما يكرَهُ أن يستجابَ لهُ، وقال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ ضَجُوراً لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ). وَقِيْلَ: أرادَ به آدمَ عليه السلام لَمَّا نُفِخَ في الروحُ فبلغَ إلى رجليه، قصدَ القيامَ قبلَ أن يجرِيَ فيه الروحُ فسقَطَ، فقيل له: لاَ تَعْجَلْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ ﴾؛ أي عَلامَتَين تدُلاَّن على قُدرةِ خالِقِهما.
﴿ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ ﴾؛ أي ضوءَ القمَرِ، قال ابنُ عبَّاس: (أرَادَ بهِ السَّوَادَ الَّذِي فِي الْقَمَرِ، وَذلِكَ أنَّ اللهَ خَلَقَ الْقَمَرَ أوَّلَ مَا خَلَقَهُ عَلَى صُورَةِ الشَّمْسِ، وَكَانَتِ شَمْسٌ باللَّيْلِ وَشَمَسٌ بالنَّهَارِ، وَكَانَ لاَ يُعْرَفُ اللَّيْلُ مِنَ النَّهَار، فَأَمَرَ اللهُ جِبْرِيلَ فَمَسَحَ بجَنَاحَيْهِ شَمْسَ اللَّيْلَ فَذَهَبَ ضَوْءُهَا، وَبَقِيَ عَلاَمَةُ جَنَاحِهِ وَهُوَ السَّوَادُ الَّذِي يَرَوْنَهُ فِي جَوْفِ الْقَمَرِ). وقال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أيضاً: (جَعَلَ اللهُ نُورَ الشَّمْسَ سَبْعِينَ جُزْءاً، وَنُورَ الْقَمَرِ سَبْعِينَ جُزْءاً، فَأُمْحِيَ مِنْ نُور الْقَمَرِ تَسْعَةٌ وَسِتُّونَ جُزْءاً فَجَعَلَهَا مِنْ نُور الشَّمْسِ، فَصَارَ ضَوْءُ الشَّمْسِ مِائَةً وَثَلاَثِينَ جُزْءاً، وَالْقَمَرُ جُزْءاً واحداً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾؛ وهي الشَّمسُ مُبْصِرَةً مُضِيئةً مُنِيرةً.
﴿ لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾؛ أي لتَسكنُوا بالليلِ، وتطلبُوا معايشَكم بالنهار، إلاَّ أنه حذفَ لتَسكنُوا بالليلِ؛ لأنه ذكرَهُ في موضعٍ آخر.
﴿ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ ﴾؛ أي جعَلنا ذلك لتَعلَمُوا حسابَ الشُّهور والأيَّامِ ومواقيتَ الصلاةِ والصيام والحجِّ، يعني بمَحْوِ آيةِ الليل.
﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ ﴾؛ من الأمرِ والنهي والحلال والحرامِ.
﴿ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ﴾؛ أي بَيَّنَّاه في القرآنِ؛ ليكونَ أقربَ إلى معرِفَتكم، وبَيَّنَّاهُ تبييناً؛ لئلا يلتبسَ بغِيرِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ﴾؛ أي ألزمناهُ عمَلهُ من خيرٍ أو شرٍّ في عنُقهِ، فجعلنا جزاءَ عملهِ لازماً له، كما يقالُ: هذا الحقُّ في عُنقِ فلان وفي ذمَّتهِ، قال مجاهدُ: (مَكْتُوبٌ فِي وَرَقَةٍ مُعَلَّقَةٍ فِي عُنُقِهِ شَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ) روىَ الحكمُ عن مجاهدٍ: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ وَفِي عُنُقِهِ مَكْتُوبٌ شَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ). وفي الآية تشبيهُ العملِ بالطائرِ الذي يجيءُ من ناحية اليمينِ فيُتبَرَّك بهِ، والذي يجيءُ من ذاتِ الشِّمال فيُتشاءَمُ به، وأما الإضافةُ إلى العُنقِ دون سائرِ الأعضاء؛ فلأنَّ ما يتزيَّن به من طَوقٍ أو ما يشين من غِلٍّ فإنما يضافُ إلى الأعناقِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ﴾؛ أي يرفعُ الله يوم القيامةِ كتابَهُ يرَى فيه جزاءَ أعمالهِ، قرأ الحسنُ ومجاهد: (وَنُخْرَجُ) على ما لَم يسَمَّ فاعلهُ، على معنى: ونخرجُ له الطائرَ كتاباً. وانتصبَ قولهُ (كِتَاباً) على الحالِ. وقرأ أبو جعفرٍ: (وَيُخْرِجُ) بالياء مسمَّى الفاعل؛ أي ويَخرُجُ له الطائرُ يومَ القيامةِ. وقرأ يحيى بن وثَّاب (وَيُخْرِجُ) بضمِّ الياء وكسر الراء، المعنى: ويخرِجُ اللهُ له كتاباً، وقرأ الحسنُ ومجاهد: (ألْزَمْنَاهُ طَيْرَهُ) بغيرِ ألف، وقال أهلُ المعاني: أرادَ بالطائرِ ما قضَى عليهِ أنه فاعلهُ، وما هو صائرٌ إليه من شقاوةٍ أو سعادة. قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُلَقَّاهُ مَنشُوراً) قرأ أبو جعفر بضمِّ الياء وفتحِ اللام وتشديدِ القاف، يعني يَلقى الإنسانُ ذلك الكتابَ الذي يؤتى، وقرأ الباقون بالتخفيفِ؛ أي يراهُ مَنشورةً فيه حسناتهُ وسيئاته. قال ابنُ عباس (يُعْطَى الْمُؤْمِنُ كِتَاباً بيَمِينِهِ وَهِيَ صَحِيفَتُهُ، يَقْرَأ فِيْهَا حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ فِي بَطْنِهَا: عَمِلْتَ كَذا، وَقُلْتَ كَذا فِي سَنَةِ كَذا، فِي شَهْرِ كَذا، فِي يَوْمِ كَذا، فِي سَاعَةِ كَذا، فِي مَكَانِ كَذا. فَإذا انْتَهَىَ إلَى أسْفَلِهَا قِيْلَ لَهُ: قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ، إقْرَأ مَا فِي ظَاهِرِهَا، فَيْقْرَأ حَسَنَاتِهِ فَيَسُرُّهُ مَا يَرَى فِيْهَا، وَيُشْرِقُ لَوْنُهُ عِنْدَ ذلِكَ﴿ فَيَقُولُ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ ﴾[الحاقة: ١٩ - ٢٠]). قال: (وَيُعْطَى الْكَافِرُ كِتَابَهُ بشِمَالِهِ، فَيَقْرَأُ حَسَنَاتِهِ فِي بَاطِنِهَا، فَيَجِدُ عَمِلْتَ كَذا فِي سَنَةِ كَذا، فِي شَهْرِ كَذا، فِي يَوْمِ كَذا، فِي سَاعَةِ كَذا. فَإذا انْتَهَى إلَى آخِرِهَا قِيلَ لَهُ: هَذِهِ حَسَنَاتُكَ قَدْ رُدَّتْ عَلَيْكَ، إقْرَأْ مَا فِي ظَاهِرِ كِتَابكَ، فَيَرَى مَا فِي ظَاهِرِ كِتَابِهِ كُلَّ سَيِّئَاتِهِ، كُلَّ صَغِيرَةٍ وَكَبيرَةٍ، فَيَسْوَدُّ وَجْهُهُ وَتَزْرَقُ عَيْنَاهُ، وَيَقُولُ عِنْدَ ذلِكَ﴿ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ﴾[الحاقة: ٢٥ - ٢٦]).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ ﴾؛ أي يقالُ له اقْرَأ كِتَابَكَ، قال الحسنُ: (يَقْرَؤُهُ أُمِّيّاً كَانَ أوْ غَيْرَ أُمِّيٍّ)، وقال قتادةُ: (يَقْرَؤُهُ يَوْمَئِذٍ مَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئاً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ﴾؛ أي مُحَاسِباً، وإنما جُعل محاسباً لنفسهِ؛ لأنه إذا رأى أعمالَهُ كلَّها مكتوبةً، ورأى خيرَ أعمالهِ مكتوباً لم ينقُصْ من ثوابهِ شيءٌ، ولم يُزَدْ على عقابهِ شيءٌ كفاهُ ذلك في الحساب، وكان الحسنُ يقول: (يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ عَدَلَ عَلَيْكَ مَنْ جَعَلَكَ لِنَفْسِكَ حَسِيباً).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ ﴾؛ أي منفعةُ هدايتهِ راجعةٌ إليه.
﴿ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾؛ أي ومَن ضلَّ في الدُّنيا، فإنَّ وَبَالَ ضلالهِ راجعٌ إليهِ.
﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾؛ أي لا يَحْمِلُ أحدٌ حِمْلَ غيرهِ، فلا يؤخَذُ بذنب غيره.
﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾؛ إقامةً للحجَّة، وقطعاً للعُذرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا ﴾؛ أي إذا أرَدنا الحكمَ بهَلاكِ قريةٍ.
﴿ أمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ جَبَابرَتَهَا ورُؤساءَها بالطاعةِ فعَمِلُوا بالمعاصي، وهذا كما يقالُ للرجُلِ: أمَرتُكَ فَعَصَيتَنِي، يعني أمرتُكَ لتُطيعَنِي فخالَفتَني. وإنما ذكرَ الرؤساءَ دون المتبوعين؛ لأن غيرَهم تَبَعٌ لَهم، فيكون الأمرُ لهم بالطاعةِ أمرٌ للأَتباع. وقرأ مجاهدُ وأبو رجاء (أمَّرْنَا) بالتشديدِ؛ أي جعَلنا لهم إمْرَةً وسُلطاناً. وقولهُ تعالى: ﴿ فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ ﴾؛ أي وجبَ عليها القولُ بالعذاب.
﴿ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾؛ أي أهلَكناها هَلاكاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ﴾؛ أي أهلكنا قروناً كثيرة بعد نوح، قال ابنُ عباس: (الْقَرْنُ مِائَةٌ وَعُشْرُونَ سَنَةً)، وقال المازنِيُّ: (مِائةُ سَنَةٍ)، وقولهُ تعالى: ﴿ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً ﴾؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ﴾؛ أي مَن كان هَمُّهُ مَقصوراً على طلب الدُّنيا دونَ الآخرةِ، نحوُ أن يكون يريدُ بالجهادِ الغنيمةَ وبعمَلهِ الذي فرضَهُ اللهُ عليه في الدُّنيا ويَغنَمُهَا خاصَّةً، عجَّلنا له في الدُّنيا ما نشاءُ مِن عَرَضِ الدُّنيا لا ما يشاءُ العبد، ولِمَن يريدُ أن يُعطِيَهُ لا لكلِّ مَن يطلبُ، فأدخلَ اللهُ تعالى في إعطاءِ المراد من العاجِلَة استثناءً من استثناءٍ في العطيَّة، واستثناءً في المعطِين؛ لئلاَّ يَثِقُ الطالِبون للدُّنيا بأنَّهم لا محالةَ سينَالون بسَعيهم ما يريدون. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ ﴾؛ أي بهذا الذي لم يُرِدِ اللهَ بعمَلهِ.
﴿ يَصْلاهَا ﴾؛ أي يدخُلها.
﴿ مَذْمُوماً ﴾؛ بذمِّ نفسهِ ويَذُمُّهُ الناسُ.
﴿ مَّدْحُوراً ﴾؛ أي مَطرُوداً مُبعَداً من كلِّ خيرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَنْ أَرَادَ ٱلآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾؛ شَرَطَ اللهُ تعالى في ذلك ثلاثةَ شرائطَ: أحدُها: أنْ يريدَ بعملهِ ثوابَ الآخرةِ بالإخلاصِ في النيَّة. والثانِي: أن يسعَى في العملِ الذي يستحقُّ به ثوابَ الآخرةِ. والثالثُ أن يكون مُؤمناً؛ لأنه إذا كان كَافراً لا ينتفعُ بشيءٍ من عملهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً ﴾؛ أي تُضَعَّفُ لهم الحسناتُ، وتُمْحَى عنهم السَّيئاتُ، وتُرفَعُ لهم الدرجاتُ، وقال مجاهدُ: (شُكْرُهُ أنْ يُثِبَهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ لَهُ، وَيَعْفُوَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ ﴾؛ أي كلُّ واحدٍ من الفريقَين ممن يريدُ الدنيا، وممن يريدُ الآخرةَ نُمِدُّهُ من رزقِ ربكَ.
﴿ وَمَا كَانَ عَطَآءُ ﴾؛ رزقُ.
﴿ رَبِّكَ مَحْظُوراً ﴾؛ أي مَحْبُوساً من البرِّ والفاجرِ. وفي هذا بيانُ أنَّ نِعَمَ الدنيا مشتركةٌ بينهم، بخلافِ نِعَمِ الآخرةِ التي هي خاصَّةٌ للمتَّقين، ألاَ ترَى أن سائرَ نِعَمِ اللهِ من الشَّمسِ والقمر؛ والهواءِ والماء؛ والنباتِ والحيوانات؛ والأغذيَةِ والأدويةِ؛ وصحَّة الجسمِ والعافيةِ؛ وغيرِ ذلك شاملةٌ للمؤمنِ والكافر.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱنظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ﴾؛ أي انظُرْ يا مُحَمَّدُ كيف فضَّلنا بعضَهم على بعضٍ في الرِّزق في الدُّنيا بالمال والخَدَمِ، منهم الْمُقِلُّ ومنهم الْمُكْثِرُ، هذا في الدُّنيا.
﴿ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾؛ أي ولدرجاتُ الآخرةِ أكبرُ من درجاتِ الدُّنيا، وفضائلُ الآخرة وثوابُها أرفَعُ مما فُضِّلوا في الدنيا، فينبغي أنْ يكون سَعيُهم للآخرةِ أكثرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ ﴾؛ قِيْلَ: إنَّ الخطابَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمرادُ به كافَّةُ المكلَّفين كما في قولهِ تعالى:﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾[الزمر: ٦٥].
وَقِيْلَ: هو خطابٌ للإنسانِ، كأنَّهُ قالَ: لا تجعَلْ أيُّها الإنسانُ مع مَن له العَطَايا عَاجِلاً وآجلاً إلَهاً آخر.
﴿ فَتَقْعُدَ ﴾؛ فتبقَى في جهنم.
﴿ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً ﴾؛ لا نَاصِرَ لكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾؛ برّاً بهما وعَطْفاً عليهما، وقولهُ تعالى: ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ﴾؛ أي إنْ عاشَا عندَكَ أيُّها الإنسانُ حتى يَكبُرَا، وقرأ حمزة والكسائي (يَبْلُغَانِ)؛ لأن الوالدينِ قد ذُكر قبلَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ﴾؛ تقذُّراً حين ترَى منهما شيئاً من الأذى، بل أمِطْ عنهما كما كانا يُمِيطَانِ عنكَ في حالةِ الصِّغَرِ، والأُفُّ هو وسَخُ الأظفارِ، والتُّفُّ وسخُ الأُذن، والمعنى: لا تتأَذى بهما، كما لم يكُونَا يتأذيان بكَ، قال صلى الله عليه وسلم" لَوْ عَلِمَ اللهُ شَيْئاً مِنَ الْعُقُوقِ أدْنَى مِنْ أُفٍّ لَحَرَّمَهُ، فَلْيَعْمَلِ الْعَاقُّ مَا شَاءَ أنْ يَعْمَلَ، فَلَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ. وَلْيَعْمَلِ الْبَارُّ مَا شَاءَ أنْ يَعْمَلَ، فَلَنْ يَدْخُلَ النَّارَ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ﴾؛ أي لا تَزجُرهما بإغْلاَظٍ وصِيَاحٍ في وجُوهِهِما، ولا تُكلِّمْهُما ضَجِراً.
﴿ وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ﴾؛ أي يكون فيه كرامةٌ لهما كقولِ العبدِ الْمُذْنِب للسيِّد الغليظِ، كذا قال ابنُ المسيَّب، وقال عطاءُ: (لاَ تَشْتُمْهُمَا وَلاَ تُبْكِيهِمَا، وقُلْ لَهُمَا: يَا أبَتَاهُ، يَا أُمَّاهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ ﴾؛ أي وكُن لهما مُتضرِّعاً مُتَذلِّلاً، فإنَّ خَفْضَ الْجَنَاحِ عبارةٌ عن الخضُوعِ، والمبالغةِ في التذلُّل والتواضعِ، وعن عطاء أنه قالَ: (جَنَاحُكَ يَدُكَ، فَلاَ يَنْبَغِي لَكَ أنْ تَرْفَعَ يَدَيْكَ عِنْدَ أبَوَيْكَ، وَلاَ أنْ تُحِدَّ بَصَرَكَ عَلَيْهِمَا تَعْظِيماً لَهُمَا). وعن عُروة بنِ الزُّبير قال: (مَا أبَرَّ وَالِدَهُ مَنْ أحَدَّ النَّظَرَ إلَيْهِ). وَقِيْلَ: خفضُ الجناحِ عبارةٌ عن السُّكون، قرأ الحسنُ وسعيد بن جبير وعاصم: (جَنَاحَ الذِّلِّ) بكسرِ الذال؛ أي لا تَسْتَصْعِبْ معَهُما. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾؛ وهذا أمرٌ بالدُّعاء لهما بالرحمةِ والمغفرةِ إذا كانا مُسلِمين، والمعنى: رب ارحَمهُما مثلَ رَحمتِهما أيَّايَ في صِغَري حتى ربَّيانِي، وقال قتادةُ: (هَكَذا عُلِّمْتُمْ، بهَذا أُمِرْتُمْ). قال صلى الله عليه وسلم:" رضَا اللهِ مَعَ رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللهِ مَعَ سَخَطِ الْوَالِدَيْنِ "، وقال صلى الله عليه وسلم:" " مَنْ أمْسَى مَرْضِيّاً لِوَالِدَيْهِ وَأصْبَحَ، أصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إلَى الْجَنَّةِ، وَإنْ كَانَ وَاحِداً فَوَاحِدٌ. وَمَنْ أمْسَى مُسْخِطاً لِوَالِدَيْهِ وَأصْبَحَ، أصْبَحَ لَهُ بَابَانِ مَفْتُوحَانِ إلَى النَّارِ، وَإنْ كَانَ وَاحِداً فَوَاحِدُ " فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ فَإْنْ ظَلَمَاهُ؟ قَالَ: " وَإنْ ظَلَمَاهُ؛ وَإنْ ظَلَمَاهُ؛ وَإنْ ظَلَمَاهُ " ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ﴾؛ أي هو أعلَمُ بما في قُلوبكم من الرَّحمة عليهما، والمعنى: ربُّكم أعلمُ بما تُضمِرون من البرِّ والعُقوقِ، فمَن ندرَتْ منه نادرةٌ وهو لا يُضمِرُ عُقوقاً غَفَرَ اللهُ له ذلكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ ﴾؛ أي إن تَكونُوا مُطِيعِينَ للهِ تعالى.
﴿ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً ﴾؛ أي للرَّاجِعين من الذُّنوب إلى طاعةِ الله، النادمِين على المعاصي والزَّلاَّتِ. والأوَّابُ: هو الذي يتوبُ مرَّةً بعدَ مرةٍ، كلَّما أذنبَ بادرَ إلى التوبةِ. وعن مجاهدٍ: (أن الأَوَّابَ: هُوَ الَّذي يَذْكُرُ ذنْبَهُ فِي الْخَلاَءِ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (أرَادَ بذِي الْقُرْبَى قَرَابَةَ الإنْسَانِ، وَحَقُهُ مَا يَصِلُ بهِ رَحِمَهُ). وقال بعضُهم: أرادَ به قرابةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وحقُّهم هو الحقُّ الذي يجب لهم من الْخُمْسِ. والتأويلُ الأول أقربُ إلى ظاهرِ الآية؛ لأن ذكرَ القرابةِ معطوفٌ على ذكرِ الوالدَين، وذلك عامٌّ في جميعِ الناس. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ ﴾؛ أي وآتِ المسكين وابنَ السَّبيل حقَّهم الذي وجبَ لهم من الزَّكاة والعُشرِ وغيرِهما. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ﴾؛ التبذيرُ: تفريقُ المالِ في المعصية، قال مجاهدُ: (لَوْ أنْفَقَ دِرْهَماً أوْ مُدّاً فِي مَعْصِيَةِ اللهِ تَعَالَى كَانَ مُبَذِّراً، وَلَوْ أنْفَقَ فِي مِثْلِ أبي قُبَيْسٍ فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ مُبَذِّراً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ ﴾؛ أي أتباعَ الشَّياطين، يَتبعونَهم ويَجْرُونَ على سُنَنِهم، وَقِيْلَ: يُقْرَنُونَ بالشَّياطينِ في النارِ.
﴿ وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ٱبْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا ﴾؛ معناه: إنْ أعرضتَ عن هؤلاءِ الذين أوصَيناكَ بهم من ذوي القُربَى والمساكينِ انتظارَ رزقٍ يأتيكَ من اللهِ تعالى؛ لأنَّكَ لا تجدُ ما تصِلُهم، وكنتَ مُنتظراً لرزقِ ربكَ ترجوهُ من اللهِ لتُعطِيهم منهُ.
﴿ فَقُل لَّهُمْ ﴾؛ عندَ ذلك.
﴿ قَوْلاً مَّيْسُوراً ﴾؛ سَهلاً لَيِّناً، نحوَ أن تَعِدَهم عدةً حسنةً وبقَولِ: افْعَلُ؛ وكرامةً ليس عندي اليومَ شيءٌ، وسوف أُعطِيكُم؛ وأقضِي حقَّكُم إذا ادركتُ الغُلَّةَ، ووصَلَ إلَيَّ مالِي الذي في موضعِ كذا. أو تقولَ: يرزُقنا الله وإيَّاكم من فضلهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ ﴾؛ أي تَبْخَلُ بالمنعِ من حقُوقِهم الواجبة لهم، ومرادهُ: الذي يتركُ الإنفاقَ يكون بمنْزِلة مَن غُلَّتْ يداهُ إلى عُنقهِ، فلا يعطِي من مالهِ شَيئاً في الخير، وسُمِّي البخلُ بمثل هذه الصِّفات، يقولون: فلانٌ قصيرُ البَاعِ، وإذا كان كَريماً قالوا: طويلَ الباعِ، وقال صلى الله عليه وسلم لنسائهِ:" أسْرَعُكُنَّ لَحَاقاً أطْوَلُكُنَّ يَداً "فَكَانَتْ زَيْنَبُ بنْتُ جَحْشٍ؛ لأنَّهَا كَانَتْ أكْثَرَهُنَّ صَدَقَة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ ﴾؛ أي لا تُخرِجْ جميعَ ما في يدِكَ مع حاجتِكَ وحاجة عيالك إليه.
﴿ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً ﴾؛ ذا حَسرَةٍ تلومُ نفسَكَ وتُلاَمُ، وتبقَى الحسرَةُ على ما تُخرِجهُ من يدِكَ، والحسرةُ: الغَمُّ لانْحِسَارِ مَا فَاتَ، وحَسَرَ عن ذراعهِ يَحْسُرُ حَسْراً إذا كَشَفَ عنه. وقد قِيْلَ: إنَّ المرادَ بالخطاب في هذه الآية غيرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يدَّخِرُ شيئاً لِغَدٍ، وكان يجوعُ حتى يشُدَّ الحجرَ على بطنهِ، وقد كان كثيرٌ من فُضَلاءِ الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يُنفقون جميعَ أمْلاكِهم في سبيلِ الله تعالى، مِثْلَ ما فعلَهُ أبو بكرٍ رضي الله عنه حتى يبقَى في عباءة، فلم يُعنِّفْهمُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولم يُنكِرْ عليهم لصحَّةِ يقينهم وشدَّةِ بصائرهم. وإنما نَهَى اللهُ تعالى عن الإفراطِ في الإنفاقِ مَن خِيفَ عليه الحسرةَ على ما يخرجهُ من يدهِ، كما رُوي:" أنَّ رَجُلاً أتَى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بمِثْلِ بَيْضَةٍ مِنْ ذهَبٍ، فَقَالَ: وَجَدْتُهَا فِي مَعْدِنِ كَذا وَلاَ أمْلِكُ غَيْرَهَا، فَتَصَدَّقَ بهَا، فَأَخَذهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَرَمَاهُ بهَا حَتَّى لَوْ أصَابَهُ بهَا لَشَجَّهُ، ثُمَّ قَالَ: " إنَّ أحَدَكُمْ لَيَتَصَدَّقُ بجَمِيعِ مَالِهِ، ثُمَّ يَقْعُدُ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ "ومن الدليلِ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَم يكن دَاخِلاً في هذا الخطاب: أن اللهَ تعالى قال ﴿ مَلُوماً مَّحْسُوراً ﴾ ومعلومٌ أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يتحسَّرُ على ما كان يملِكهُ. وذهبَ بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ الخطابَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأن سببَ نُزولِ هذه الآية ما رُوي:" أنَّ امْرَأةً بَعَثَتِ ابْنَهَا إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ لَهُ: قُلْ: إنَّ أُمِّي تَسْتَكْسِيكَ دِرْعاً، فَإنْ قَالَ لَكَ حَتَّى يَأْتِينَا شَيْءٌ، فَقُلْ لَهُ: فَإنَّهَا تَسْتَكْسِيكَ قَمِيصَكَ، فَفَعَلَ الابْنُ كَمَا قَالَتْ أُمُّهُ، فَنَزَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَهُ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ قَمِيصٌ يَخْرُجُ فِيْهِ إلَى الصَّلاَةِ "، فنَزلت هذه الآيةُ بما فيها من الدلالةِ بالنَّهي عن الإمساكِ، فيكون التحسُّرُ على هذا القولِ لتأخُّرِ خروجهِ إلى الصلاةِ بسبب القَميصِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾؛ أي يوسِّعُ الرزقَ لمن يشاءُ، ويُضيِّقُ على من يشاءُ، على ما يرَى فيه المصلحةَ.
﴿ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ﴾؛ وهذا كما قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن ﴾[الشورى: ٢٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ﴾؛ أي خَشيَةَ الفقرِ والإقْتَارِ.
﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ﴾؛ نزلَ في جماعةٍ كانوا يدفِنون بنَاتِهم خشيةَ الفَاقَةِ، ولئَلاَّ يحتاجُوا إلى النفقةِ عليهم، وكان ذلك مُستفيضاً شَائعاً بينهم وهي الْمَوْءُودَةُ التي ذكرَها اللهُ تعالى في قوله﴿ وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ﴾[التكوير: ٨].
وقوله تعالى: ﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ﴾ أي إنَّ رِزقَكم ورزقَ بناتِكم على اللهِ، وإنْ كان لسببٍ يجري على أيدِيكم، فإنَّ اللهَ تعالى لو لَم يُقوِّكُم على الاكتساب ولَم يُمكِّنكُم من تحصيلِ النفقة لم تتمَكَّنوا من تحصيلٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً ﴾؛ أي إنَّ دَفنَهم أحياءً كان ذنباً عظيماً في العقوبةِ، يقال: خَطِأَ الرجُل يَخْطَأُ خطأً مثل أثِمَ يأثَمُ إثماً، وقرأ ابنُ عامر (خَطَأً) بفتحِ الخاء على أنه مصدرُ أخْطَأَ، فيكون المعنى على هذا أنَّ قَتلَهم كان غيرَ صوابٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ﴾؛ الفَاحِشَةُ ما تفاحَشَ قُبحهُ وتعظَّمَ، فكان الزنَى قبيحاً في الفعلِ قبل ورُودِ السمعِ؛ لأن فيه قطعَ الأنساب وما يتعلَّقُ به من الْمُحَرَّمَاتِ، وإبطالِ حقِّ الولد على الوالدِ. قال صلى الله عليه وسلم:" وَفِي الزِّنَى سِتُّ خِصَالٍ: ثَلاَثٌ فِي الدُّنْيَا، وَثَلاَثٌ فِي الآخِرَةِ. فَأمَّا اللَّوَاتِي فِي الدُّنْيَا: فَيُذْهِبُ نُورَ الْوَجْهِ وَيَقْطَعُ الرِّزْقَ وَيُسْرِعُ الْفَنَاءَ. وأمَّا اللَّوَاتِي فِي الآخِرَةِ: فَغَضَبُ الرَّب وَسُوءُ الْحِسَاب وَالدُّخُولُ فِي النَّارِ "، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَسَآءَ سَبِيلاً ﴾؛ أي بئْسَ الزِّنَى طَريقاً لمن يسلكهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلحَقِّ ﴾؛ أي لا تقتُلوا النفسَ التي حرَّمَ اللهُ قتلَها إلا بحقٍّ تستحقُّ قَتلَها بهِ، وهو أن يَقتُلَ نَفساً بغيرِ حقٍّ، أو يَزنِيَ وهو مُحصَنٌ، أو يرتدَّ عن الإسلامِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً ﴾؛ أي مَن قُتل بغيرِ حقٍّ، فقد جَعلنا لوارثهِ حجَّةًُ في كتاب الله تعالى في إيجاب القَوَدِ على القاتلِ، وعن ابنِ عبَّاس أنه قالَ: (الْمُرَادُ بهَذا السُّلْطَانِ: أنَّ لِلْوَلِيِّ أنْ يَقْتُلَ إنْ شَاءَ، أوْ أخَذ الدِّيَةَ، أوْ عَفَى). ويجوزُ أن يكون المرادُ بالسُّلطان السلطانَ الذي يلِي الأمرَ والنهيَ يجب عليه أن يُعِينَ ولِيَّ القتيلِ حتى يطلبَ قاتلَهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلاَ يُسْرِف فِّي ٱلْقَتْلِ ﴾؛ السَّرَفُ: أن يقتُلَ غيرَ القاتلِ كما يفعلهُ العربُ. وَقِيْلَ: معناهُ: ولا تُمَثِّلُوا بالقاتلِ في القتل. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ﴾؛ يعنِي ولِيَّ المقتولِ، حكمَ اللهُ له بذلك، وأمرَ المؤمنين أن يُعينوهُ، ويجبُ أيضاً على الإمامِ أن يُدفَعَ إليه القاتلُ. ويقالُ: معناه: إن المقتولَ كان منصُوراً بالثَّوابِ وبإيجاب القَصَاصِ لِوَلِيِّهِ، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" إنَّ مِنْ أعْتَى النَّاسِ عَلَى اللهِ ثَلاَثةٌ: رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ، أوْ قَتَلَ بدَخَنٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أوْ قَتَلَ فِي حَرَمِ اللهِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾؛ أي إلا بما يؤدِّي إلى حفظهِ وصيانته وتَمييزهِ، وإنما خَصَّ اليتيمَ بذلك؛ لأن الطمعَ في مالهِ أكثرُ، وهو إلى الحفظِ أحوَجُ لِعَجْزِهِ عن حفظهِ بنفسه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾؛ أي حتى يُكمِلَ ثَماني عشرةَ سَنة. وَقِيْلَ: معناهُ: حتى يبلُغَ وقتَ الْحَلُمِ ويكمل عقله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾؛ أي وأوْفُوا بعهدِ الله إليكم في أموالِ اليتَامى، وكلُّ ما أمرَ اللهُ به ونَهى عنهُ فهو من العهدِ.
﴿ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾ عنه للجزاءِ، فحُذِفَ استكفاءً بدلالةِ الحال.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ﴾؛ أي أتِمُّوهُ ولا تَبْخَسُوهُ.
﴿ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ ﴾؛ أي بميزان العدل، قرأ أهلُ الكوفة (بالْقِسْطَاسِ) بكسر القافِ وهما لُغتان. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾؛ أي ذلكَ الذي أمَرتُكم به خيرٌ لكم وأحسنُ عاقبةً، والتَّأْويلُ: هو الذي إليه مرجعُ الشيءِ من قولِهم آلَيَؤُولُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾؛ أي لا تَقُلْ ما ليسَ لك به علمٌ، وقال قتادة: (لاَ تَقُلْ: سَمِعْتُ وَرَأيْتُ، وَلَمْ تَرَ وَلَمْ تَسْمَعْ، وَعَلِمْتُ وَلَمْ تَعْلَمُ). والقَفْوُ في اللغة: اتِّباعُ الأمرِ كأنه يتبَعُ الأثرَ، ومنه القِيَافَةُ، كانت العربُ يتَّبعون فيها أثرَ الآباءِ، ويقولُ: قفوتُ الشيءَ أقْفُوهُ؛ إذا اتَّبَعْتَ أثَرَهُ، والمعنى على هذا: لا تُتْبعَنَّ لسَانَكَ مِن القول ما ليس لكَ به علمٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ ﴾؛ يعني إنَّ المرءَ مسؤُولٌ يومَ القيامةِ عمَّا يفعلهُ بهذه الجوارحِ مِن الاستماعِ لِمَا لا يحلُّ، والنظر الى ما لا يجوزُ، والارادةِ لِمَا يَقْبُحُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾؛ أي كلُّ هذه الجوارجِ والأعضاء، ولَم يقُل تلكَ، قال الشاعرُ: ذّمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى   وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُوْلَئِكَ الأَيَّامِويجوزُ أن يكون راجعاً إلى أصحَابها وأربَابها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً ﴾؛ أي بَطَراً وكِبْراً وخُيَلاَءً، والْمَرَحُ: شدَّةُ الفَرَحِ.
﴿ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ ﴾؛ بقَدَمَيكَ وكِبْرِكَ.
﴿ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ ﴾؛ بعَظَمَتِكَ.
﴿ طُولاً ﴾؛ أي لا تُطاولُ الجبالَ فاستقصِرْ نفسَكَ عندما ترَى من سَعَةِ الأرضِ وبسطِها وعِظَمِ الجبال وطُولِها. من قرأ (مَرَحاً) بنصب الراء فهو المصدرُ، ومَن قرأ بكسرِ الراء فهو اسمُ الفاعلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ﴾؛ أي كُلُّ ما تقدَّمَ مِن قولهِ تعالى﴿ وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ﴾[الإسراء: ٣١] إلى هذا الموضعِ كان سَيِّئَةً لا حسنةَ فيه، وهذا على قراءةِ مَن قرأ (سَيِّئَةً) بالنصب، وقرأ ابنُ عامر والكوفيُّون (سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبكَ) على الإضافةِ بمعنى: هذا الذي ذكرتهُ مِن قوله تعالى﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾[الإسراء: ٢٣] إلى هذه الآيةِ ذكرُ الحسَنِ، والسَّيِّءُ وقولهُ تعالى ﴿ مَكْرُوهاً ﴾ على قراءة من قرأ سَيِّئَةً بالنصب بدل من سَيِّئُهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ مِمَّآ أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ ٱلْحِكْمَةِ ﴾؛ أي ذلك الذي سبقَ ذِكرهُ من هذه الأشياءِ مما أوحَى إليكَ ربُّكَ من صواب القول والعملِ.
﴿ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ ﴾؛ هذا خطابٌ لكلِّ مؤمنٍ، كأنَّهُ قال: ولا تجعَلْ أيُّها الإنسانُ.
﴿ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً ﴾؛ تَلُومُ نفسَكَ.
﴿ مَّدْحُوراً ﴾؛ أي مَطرُوداً من رحمةِ الله تعالى. قال الكلبيُّ وابنُ عبَّاس: (هَذِهِ الثَّمَانِي عَشْرَةَ آيَةً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ... ﴾ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:﴿ كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ﴾[الإسراء: ٣٨] كَانَتْ فِي ألْوَاحِ مُوسَى عليه السلام حِينَ كَتَبَهَا اللهُ لَهُ، وَقَدْ أنْزَلَهَا عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ فِي الْكُتُب كُلِّهَا مَوْجُودَةٌ لَمْ تُنْسَخْ قَطُّ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِٱلْبَنِينَ وَٱتَّخَذَ مِنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ إِنَاثاً ﴾؛ خطابٌ للمشرِكين الذين زعَموا أن الملائكةَ بناتُ اللهِ مُنكِراً عليهم، تعالى اللهُ عن ذلكَ عُلُوّاً كَبيراً، والمعنى: أفحَكَم لكم ربكم بالبنين، فأخلصَ لكم البنينَ دونَهُ وجعل البناتِ مشتركةً بينَكم وبينَهُ، فأخلَصَكم بالأجَلِّ وجعلَ لنفسه الأَدْوَنَ، ولا يكون هذا من الحكمةِ أن يَخُصَّ الحكيمُ عَدُوَّهُ بالأشرفِ ويختارُ لنفسه الأَدْوَنَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً ﴾؛ في الكُفرِ والفِرْيَةِ على اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ ﴾؛ أي بَيَّنَّا في هذا القرآنِ من الأمثال والعِبَرِ ليتَّعِظُوا بها.
﴿ وَمَا يَزِيدُهُمْ ﴾؛ تصريفُ الأمثالِ.
﴿ إِلاَّ نُفُوراً ﴾؛ أي تَبَاعُداً عن الإيمانِ. قرأ الأعمشُ وحمزة (لِيَذْكُرُوا) مخفَّفاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَىٰ ذِي ٱلْعَرْشِ سَبِيلاً ﴾؛ أي قُلْ لَهم يا مُحَمَّدُ: لو كانَ مع اللهِ آلِهَةٌ كما تقولُون أنتُم إذاً لطَلَبُوا ما يُفرِّقُهم إلى مالكِ العرشِ لعُلُوِّهِ عليهم وكونهِ أفضلَ منهم، وهذا قولُ مجاهدٍ. وذهب أكثرُ المفسِّرين إلى أنَّ المعنى: لطَلَبُوا مُغَالَبَتَهُ، وَابْتَغَوا طَرِيقاً لِيَقْهَرُوهُ، كَفِعْلِ الْمُلُوكِ يَطْلُبُ كُلُّ وَاحِدٍ مُغَالَبَةَ صَاحِبهِ لِيَصْفُو لَهُ الْمُلْكُ. وقرأ ابنُ كثير (كَمَا يَقُولُونَ) بالياءِ على معنى: كما يقولُ المشركون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً ﴾؛ قرأ الأعمشُ وحمزةُ والكسائي (عَمَّا تَقُولُونَ) بالتاء، وقرأ الباقون بالياءِ. ومعنى الآيةِ: تَنْزِيهَاً للهِ عن كلِّ ما لاَ يليقُ بهِ من الولدِ والشَّريكِ؛ أي يُرَفَّعُ عما يقولون من إضافةِ البناتِ إلى اللهِ تعالى. وقولهُ تعالى ﴿ عُلُوّاً كَبِيراً ﴾ أي تَعظِيماً كَبيراً، ولم يقل تَعَالِياً؛ لأن المصدرَ قد يُذكَرُ لا على لفظِ الأوَّل كما في قولهِ تعالى:﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾[المزمل: ٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ ٱلسَّبْعُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ﴾؛ قرأ أبو عمرٍو وحمزةُ والكسائي بالتاء، وقرأ غيرُهم بالياءِ. قال إبراهيمُ النخعيُّ وجماعةٌ من المفسِّرين: (إنَّ كُلَّ شَيْءٍ سَبَّحَ للهِ حَتَّى صَرِيرُ الْبَاب)، ولِهذا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾؛ أي لا تَعلَمُونَ، قال الحسنُ والضحَّاك: (يَعْنِي كُلَّ شَيْءٍ فِيْهِ الرُّوحُ)، وقال قتادةُ: (يَعْنِي الْحَيْوَانَاتِ)، وقال عكرمةُ: (وَالشَّجَرُ يُسَبحُ وَالاسْطِوَانَةُ تُسَبحُ). وَقِيْلَ: إن الترابَ يسبحُ ما دام يَابساً، فإذا ابْتَلَّ تركَ التسبيحَ! وإنَّ الماءَ يُسَبحُ ما دامَ جَارياً، فإذا ركَدَ تركَ التسبيحَ! وإنَّ الورقَ ما دامَ على الشَّجرِ يسبحُ، فإذا سقطَ تركَ التسبيحَ! وإنَّ الثوبَ يسبحُ ما دامَ جَديداً، فإذا توَسَّخَ تركَ التسبيحَ! وإنَّ الوحشَ إذا صاحتَ سبَّحَتْ، فإذا سكَتَتْ تَرَكَتِ التسبيحَ. وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ:" كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَخَذ كَفّاً مِنْ حَصَى فَسَبَّحَ فِي يَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى سَمْعْنَا التَّسْبيحَ، فَصَبَّهُنَّ فِي أيْدِينَا فَمَا سَبَّحْنَ فِي أيْدِينَا "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾؛ أي حَليماً لا يَعْجَلُ بعقاب الكفَّار، غَفُوراً يَسْتُرُ الذنوبَ على عبادهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً ﴾؛ نزلَ في قومٍ من المشركين كادوا يُؤذُونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآنَ، قال الكلبيُّ: (هُمْ أبُو سُفْيَانَ وَالنَّضْرُ بنُ الْحَرِثِ وَأبُو جَهْلٍ وَأُمُّ جَمِيلٍ امْرَأةُ أبي لَهَبٍ، حَجَبَ اللهُ رَسُولَهُ عَنْ أبْصَارِهِمْ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَكَانُواْ يَأْتُونَهُ وَيَمُرُّونَ بهِ وَلاَ يَرَوْنَهُ)وعن سعيدِ بن جُبير قال:" لَمَّا نَزَلَتْ ﴿ تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ جَاءَتِ امْرَأةُ أبي لَهَبٍ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ أبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ تَجَنَّبْتَ عَنِ امْرَأةِ أبي لَهَبٍ لِئَلاَّ تُسْمِعَكَ، فَإنَّهَا امْرَأةٌ نَدِيَّةٌ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " إنَّّهُ سَيُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهَا " فَجَاءَتْ أُمُّ جَمِيلٍ وَلَهَا وَلْوَلَةٌ وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ، وَهِيَ تَقُولُ: هَذا مِمَّا أبَيْنَا وَدِينِهِ قَلَيْنَا وَأمْرِهِ عَصَيْنَا. وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ وَأبُو بَكْرٍ إلَى جَنْبهِ. فَقَالَ أبُو بَكْرٍ رضي الله عنه: لَقَدْ أقْبَلَتْ هَذِهِ وَأنَا أخَافُ أنْ تَرَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: إنَّهَا لَنْ تَرَانِي، وَقَرَأ ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً ﴾.
قَالَ: فَجَاءَتْ حَتَّى قَامَتْ عِنْدَ أبي بَكْرٍ وَلَمْ تَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا أبَا بَكْرٍ بَلَغَنِي أنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، فَقَالَ: لاَ وَرَب الْبَيْتِ مَا هَجَاكِ، فَانْدَفَعَتْ رَاجِعَةً، فَقَالَ أبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ أمَا رَأتْكَ؟ قَالَ: " لا ". قال: لِمَ؟ قَالَ: " نَزَلَ مَلَكٌ بَيْنِي وَبَيْنَهَا يَسْتُرُنِي حَتَّى ذهَبْتُ " ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ حِجَاباً مَّسْتُوراً ﴾ أي سَاتِراً لَهم عن إدراكهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ﴾؛ أي منعناهم عن تدبُّرِ كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في وقتٍ مخصوصٍ، وهو الوقتُ الذي أرادوا إيذاءَهُ فيهِ.
﴿ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً ﴾؛ ففِي ذلك الوقتِ صرَفنا آذانَهم عن الاستماعِ إليه، والمعنى: طبَعنا على قُلوبهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْءَانِ وَحْدَهُ ﴾؛ يعني إذا قُلتَ: لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنتَ تَتلُو القرآنَ.
﴿ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَٰرِهِمْ نُفُوراً ﴾، قال ابنُ عبَّاس: (كَارهِينَ أنْ يُوَحِّدُواْ اللهَ)، وقال قتادةُ:" إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَالَ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، أنْكَرَ ذلِكَ الْمُشْرِكُونَ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمْ "والمعنى: انصَرَفُوا عنكَ هاربين؛ كراهةً لما يسمعونَهُ من توحيدِ الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾؛ أي نحنُ أعلمُ بما يستَمعون إليه من قراءةِ القرآن، أنَّهم لماذا يستَمِعون وأنَّ قَصدَهم به الأذى دون طلب الحقِّ، فيسمعون إلى قِرَاءَتِكَ.
﴿ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ ﴾؛ في أمرِكَ يتَناجَوْنَ، فيقولُ بعضهم: هذا كاهنٌ، ويقول بعضُهم: هذا ساحرٌ، ويقول بعضهم: هذا مجنونٌ، ويقول بعضُهم: هذا شاعرٌ. وَقِيْلَ: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمَرَ عَلِيّاً رضي الله عنه أنْ يتَّخِذ طَعاماً، فيدعُو إليه أشرافَ قُريش من المشركين، ففعلَ ذلكَ، ودخلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآنَ، ودعاهُم إلى التوحيدِ، فكانوا يستَمِعون ويقولون فيما بينهم مُتَنَاجِينَ: هو ساحرٌ، وهو مجنون مسحورٌ. فأخبرَ اللهُ تعالى نَبيَّهُ بذلكَ، وأنزلَ عليه ﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ ﴾ أي يتناجَون بينهم بالتكذيب والاستهزاءِ.
﴿ إِذْ يَقُولُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾؛ أي أُولئك المشرِكون: ﴿ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ﴾ أي مغلوبَ العقلِ قد سُحِرَ، وأُزيلَ عن حدِّ الاستواءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ ٱلأَمْثَالَ ﴾؛ أي كيف وصَفُوا لكَ الأشباهَ، فشَّبهوكَ بالمجنون والكاهنِ والساحر.
﴿ فَضَلُّواْ ﴾؛ عن الحقِّ.
﴿ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ﴾؛ مَخرَجاً عن الضَّلالِ إلى الهدَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالُوۤاْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً ﴾؛ أي إذا صِرْنَا عِظَاماً بَالِيَةً وصِرنَا تُراباً.
﴿ أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾؛ لنُبعَثُ بعدَ ذلكَ؛ ﴿ خَلْقاً جَدِيداً ﴾؛أيْ أنُبْعَثُ بعدَ ذلكَ؟ وهذا استفهامُ إنكارٍ وتعجُّبٍ منهم. والرُّفَاتُ في اللغة: كلُّ شيء يُحَطِّمُ ويُكَسَّرُ، قال ابنُ عبَّاس: (يَقُولُونَ: إذا ذهَبَ اللَّحْمُ وَالْعُرُوقُ وَتَفَتَّتَ عِظَامٌ قَدْ بَلَتْ، فَإذا مَسَّيْتَهُ بَيْنَ يَدَيْكَ انْسَحَقَ، أنُبْعَثُ بَعْدَ ذلِكَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً ﴾؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّدُ: كونُوا حجارةً إنْ قَدرتُم عليها، أو أشدَّ منها بأن تكُونوا حَديداً، أو أقوَى من الحديدِ؛ ﴿ أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ﴾؛ أو أيَّ شيءٍ من الخلقِ نحوَ السَّماوات والأرضِ والجبالِ، فإنِّي أُعيدكم لا محالةَ إلى ما كُنتم عليهِ من قَبْل. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ﴾ أي إذا قُلْتَ لهم ذلكَ فسيقولون لكَ: مَن يُعِيدُنا؟ ﴿ قُلِ ﴾؛ لَهم: يُعِيدُكم.
﴿ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾؛ لأنَّ مَن قَدَرَ على البناءِ كان على الهدمِ أقدرَ، ومَن قدر على ابتداءِ الشيء كان على إعادتهِ أقدرَ. قولهُ: ﴿ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ ﴾؛ أي فسيُحرِّكون إليكَ رُؤوسَهم تعجُّباً لقولِكَ، والإنْغَاضُ: تحرُّكُ الرأس بالارتفاع والانخفاضِ على جهة الاستهزاءِ والاستبطاء.
﴿ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ﴾؛ أي متى تكون الإعادةُ.
﴿ قُلْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَرِيباً ﴾؛ أي قل عسى أن تكون الإعادةُ قريبةً، و(عَسَى) مِن الله واجبةٌ.
﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ﴾؛ في النَّفخةِ الثانية، فتجيبون دَاعِيَ اللهِ حامِدين لله، قال سعيدُ بن جبير: (يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورهِمْ يَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ وَبحَمْدِكَ، وَلاَ يَنْفَعُهُمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ؛ لأَنَّهُمْ حَمَدُوا حِينَ لاَ يَنْفَعُهُمُ الْحَمْدُ). قولهُ: ﴿ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾؛ أي تظُنون أنَّكم لم تلبَثُوا في الدُّنيا إلا قَليلاً لسُرعةِ انقلاب الدُّنيا إلى الآخرةِ، كما قال الحسنُ: (كَأَنَّكَ بالدُّنْيَا وَلَمْ تَكُنْ وَبالآخِرَةِ وَلَمْ تَزَلْ). ومِن المفسِّرين مَن قالَ: هذه الآية خطابٌ للمؤمنِين؛ لأنَّهم يستَجيبون للهِ بحمده على إحسانهِ إليهم، كما قالَ صلى الله عليه وسلم:" كَأَنِّي بأَهْلِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَهُمْ يَنْفِضُونَ التُّرَابَ عَنْ رُؤُوسِهِمْ وَيَقُولُونَ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ ٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾؛ وذلك" أنَّ المشركين كانوا يُؤذُونَ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بالقولِ والفعلِ بمكَّة، فشَكَوا ذلكَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ائْذنْ لَنَا فِي قِتَالِهِمْ، فَقَالَ: " إنِّي لَمْ أُؤْمَرْ فِيْهِمْ بشَيْءٍ " "وكان ذلك قبلَ أن يُؤمَرَ بالجهادِ. والمعنى: قُل للمؤمنين يقولون للكفَّار، والمقالَةُ التي هي أحسَنُ من الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر على وجه الرِّفقِ، ويقولون لَهم: يَهدِيكُمُ اللهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ﴾؛ أي يُغْرِي المشركين على المسلمين، فيوقعُ العداوةَ بينهم ويفسِدُ نيَّتَهم.
﴿ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً ﴾؛ مُظْهِراً للعداوةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ﴾؛ أي بأحوالِكم.
﴿ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ ﴾؛ بأن يُنَجِّيكُمْ من كفَّار مكَّة وينصُرَكم عليهم.
﴿ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ﴾؛ أي يُسلِّطْهم عليكم.
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴾؛ أي حَفيظاً وكفيلاً؛ أي ما وُكِّلَ إليكَ إيمانُهم، إنْ شاءَ اللهُ تعالى هدَاهُم، وإنْ شاءَ خذلَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ لأنه خلَقَهم فهدَى بعضَهم وأضلَّ بعضهم على علمٍ منه بهم، لم يَخْتَرْ بعضَ الملائكةِ والأنبياء لِمَيْلِهِ إليهم، وإنما أختَارَهم لعِلمهِ بباطنهم، وقولهُ تعالى: ﴿ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ ﴾.
قال قتادةُ: (اتَّخَذ اللهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً، وَجَعَلَ عِيسَى كَلِمَتَهُ وَرُوحَهُ، وَآتَى سُلَيْمَانَ مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ، وَغَفَرَ لِمُحَمَّدٍ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبهِ وَمَا تَأَخَّرَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ﴾؛ يعني كِتَابَهُ الذي أعطاهُ إياه، وهو مِائَةٌ وخمسون سورةً، ليس فيها حُكمٌ ولا فريضة، وإنما هو ثناءٌ على اللهِ تعالى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ ﴾؛ أي قالَ المفسِّرون: ابتلَى اللهُ كفارَ مكَّة بالقحطِ سنينَ، فشَكَوا ذلك إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فأنزلَ اللهُ هذهِ الآيةَ؛ أي قُل للمشركين: ادْعُوا الذين زعَمتُم أنَّهم آلهةٌ.
﴿ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ ٱلضُّرِّ ﴾؛ أي البُؤْسِ والشدَّةِ.
﴿ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ﴾ التحويلُ: النَّقْلُ من حالٍ الى حال.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ﴾؛ معناهُ: أولئكَ الذين يدْعون إلى اللهِ في طلب الجنَّة، ويطلُبون التقرُّبَ إليه، فكيف تَعبُدونَهم أنتم. والوسيلةُ: القربَةُ إلى اللهِ تعالى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ﴾ أي أقرَبُ إلى اللهِ بالوسيلة، يعني يتقرَّبون إليه بالعملِ الصالح، وعن ابنِ مسعودٍ في تفسيرِ هذه الآية: (أنَّ قَوْماً مِنَ الإنْسِ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَوْماً مِنَ الْجِنِّ، فَأَسْلَمَ الْجِنُّ وَبَقِيَ الإنْسُ عَلَى كُفْرِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). وقولهُ تعالى: ﴿ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلْوَسِيلَةَ ﴾ أي يطلبُون أن يعلَمُوا أيُّهم أقربُ إلى اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ﴾؛ أي يريدون جَنَّتَهُ.
﴿ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً ﴾؛ أي مما يجبُ أن يُحذرَ عنهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً ﴾؛ يعني بالموتِ أو معذِّبوها بعذاب الاستئصال، ومعنى ﴿ وَإِن مِّن قَرْيَةٍ ﴾: وما مِنْ قريةٍ قال ابنُ مسعودٍ: (إذا ظَهَرَ الزِّنَى وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ أذِنَ اللهُ فِي هَلاَكِهَا)، وقال مقاتلُ: (أمَّا الصَّالِحَةُ فَبالْمَوْتِ، وَأمَّا الطَّالِحَةُ فَبالْعَذاب). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَانَ ذٰلِك فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً ﴾؛ أي قضاءً من اللهِ، كما يسمَعون ليس منه بدٌّ، وَقِيْلَ: كان ذلك في اللَّوحِ المحفوظِ مَكتوباً، فإنه مكتوبٌ فيه كيفَ يُهلِكهم اللهُ، ومتى يُهِلِكهم، وبأَيِّ عذابٍ يُهلكهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ ﴾؛ وذلكَ أنَّ قُريشاً قالت للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: حوِّلْ لَنَا الصَّفَا ذهَباً، وَنَحِّ الْجِبَالَ عَنَّا لنَنْفَسِحَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ؛ أي إنْ حوَّلتهُ فلم يؤمنوا لَمْ أُمهِلْهُمْ لسُنَّتي في مَن قبلَهم. وموضع (أنْ) الأُولى نُصِبَ بتكذيب الأوَّلين برفعِ المنع عليه، وموضعُ (أنْ) الثانية رَفعٌ تقديره: وما مَنَعَنَا الإرسالَ بالآياتِ إلا تكذيب الأوَّلين بها، وهذا اللفظُ أغنَى عن لفظ المنعِ على طريق المجازِ؛ لأن المنعَ لا يجوزُ على اللهِ تعالى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَآتَيْنَا ثَمُودَ ٱلنَّاقَةَ مُبْصِرَةً ﴾؛ أي أخرَجنا لثمودَ الناقةَ ليُبصِرُوا بها الْهُدَى من الضَّلالة، والسعادةَ من الشقاوةِ.
﴿ فَظَلَمُواْ بِهَا ﴾؛ أي جَحَدوا بها وعَقَرُوها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً ﴾؛ أي العِبَرَ والدلالاتِ إلا تَخْوِيفاً للعبادِ ليُؤمِنُوا، فإذا لم يفعَلُوا عُذِّبُوا. قال قتادةُ: (يُخَوِّفُ اللهُ الْخَلْقَ بمَا شَاءَ مِنْ آيَةٍ لَعَلَّهُمْ يَعْتَبرُونَ أوْ يَرْجِعُونَ، ذُكِرَ لَنَا أنَّ الْكُوفَةَ رَجَفَتْ عَلَى عَهْدِ عَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: يَا أيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللهَ يَسْتَعْتِبُكُمْ فَاعْتِبُوهُ). وعن الحسنِ في قوله: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً ﴾ قال: (الْمَوْتُ الذريعُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ ﴾؛ عِلْماً وقدرةً فَهُمْ في قبضتهِ لا يقدرون على الخروجِ عن مَشِيئته، وهو مانعُكَ منهم وحافظُكَ، فلا تتَهيَّب وتخافُ منهم، وامْضِ بما أُمِرْتَ به من تبليغِ الرِّسالةِ، وقال مقاتلُ: (مَعْنَاهُ: أحَاطَ بالنَّاسِ؛ أيْ أهْلَ مَكَّةَ أَنَّهَا سَتُفْتَحُ لَكَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ﴾؛ قال أكثرُ المفسِّرين: يعني ما ذُكِرَ في أوَّلِ هذه السُّورة من الإسراءِ في ليلةٍ واحدة من المسجدِ الحرام إلى المسجدِ الأقصَى على معنى أنَّها شدَّةٌ من التكليفِ، كما رُوي أنَّ المشركين استعظَمُوا ذلك وكذبوهُ، فيكون معنى الرُّؤيا رؤيةَ العينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلقُرْآنِ ﴾؛ أي وما جعَلنا الشجرةَ الملعونةَ إلاَّ فتنةً للناس، والشجرةُ الْمَلْعُونَةُ: شجرةُ الزَّقُّومِ، يقولُ العرب: لكُلِّ طعامٍ منارٌ معلوم، وسَمَّوها فتنةً؛ لأنَّهم قالوا: إنَّ النارَ تأكلُ الشجرةَ، فكيف تنبتُ الشجرة في النارِ؟!وقال ابن الزُّبْعَرَى: (مَا نَعْلَمُ الزَّقُّومَ إلاَّ التَّمْرَ وَالزَّبَدَ) فَهَذا الْكَلاَمُ مِنْهُمْ هُوَ فِتْنَتُهُمْ؛ أيْ فُتِنُواْ بذلِكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً ﴾؛ أي نُخوِّفُهم بما نُرسِلُ الآياتِ، فما يزدادون إلا تَجاوُزاً عن الحدِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمََ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ ﴾؛ قد تقدَّمَ تفسيرُ ذلك. وقولهُ تعالى: ﴿ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ﴾؛ أي قالَ إبليسُ: أأسجدُ لآدم وهو مخلوقٌ من طينٍ؟ وهذا استفهامٌ بمعنى الإنكار، ونُصِبَ (طِيناً) على الحالِ. قال اللهُ تعالى حَاكياً عن إبليس: ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـٰذَا ٱلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ﴾ أي قالَ إبليس: أخبرنِي عن هذا الذي كرَّمتهُ عليَّ، لِمَ كرَّمتَهُ علَيَّ، وقد خلَقتَني من نارٍ وخلقتهُ من طينٍ؟! اعتقدَ إبليس أنَّ النارَ أكرَمُ أصلاً من الطينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾؛ أي لأَستَأْصِلَنَّ ذُرِّيتَهُ بإغوائِهم، إلاَّ قليلاً منهم وهمُ الذين عصَمتَهم مني، تقولُ العربُ: احْتَنَكَتِ السَّنَةُ أمْوالَنَا؛ أي استأْصَلَتْهَا، قال الشاعرُ: أشْكُو إلَيْكَ سَنَةً قَدْ أجْحَفَتْ   وَاحْتَنَكَتْ أمْوَالَنَا وَاجْتَلَفَتْوَاحْتَنَكَتْ حَلَقَتْ، وَاحْتَنَكَتِ الْجَرَادُ مَا عَلَى الأَرْضِ. وَقِيْلَ: معنى ﴿ لأَحْتَنِكَنَّ ﴾ أي لأقتَطِعَنَّ ذُرِّيتَهُ إلى المعاصي، يقالُ: احْتَنَكَ فلانٌ ما عندَ فلانٍ من مالٍ، إذا اقتطعَهُ. وَقِيْلَ: معناهُ: لأَقُودَنَّ ذُريَّتَهُ إلى المعاصِي وإلى النار، مِن قولهم: حَنَكَ دَابَّتَهُ يَحْنِكُهَا من الأَسْفَلِ بحَبْلٍ يَقُودُهَا بهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ ٱذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً ﴾؛ أي فمَن تَبعَكَ من ذُرية آدمَ فإنَّ جهنمَ جزاؤُكم جزاء وافراً مُكَمَّلاً. قولهُ: ﴿ وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ﴾؛ أي اسْتَنْزِلْ واستَخِفَّ واستَجْهِلْ مَن استطعتَ منهم بدُعائِكَ في المعصيةِ، مِن قولهم: صَوَّتَ فلانٌ، إذا دعاهُ، ويقال: أراد بالصوتِ صوتَ الغناءِ والمزامير، وهذا لعَلَى وجهِ التهديدِ وإنْ كان في صورَةِ الأمرِ كقوله تعالى:﴿ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ﴾[فصلت: ٤٠] وكقولهم: أجْهِدْ جُهْدَكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ﴾؛ أي صِحْ بخَيْلِكَ ورَجْلِكَ احْثُثْهُمْ على الإغواءِ، يقالُ: أجْلَبَ على العدوِّ، إذا جمعَ عليهم الخيولَ، والمعنى على هذا: إجمعْ عليهم كلَّ ما تقدرُ من مكائدٍ، وقال مقاتلُ: (مَعْنَاهُ: اسْتَعِنْ عَلَيْهِمْ برِكَاب جُنْدِكَ وَمُشَاتِهِمْ). والْجَلْبُ هو قَوْدُ الشيءِ وسَوقُهُ بالصوتِ، يقالُ للغنَمِ: جَلَبٌ وجَلُوبَةٌ؛ أي جلبت من موضعٍ إلى آخر، قال الحسنُ: (كُلُّ رَاكِبٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ فَهْوَ مِنْ خَيْلِ إبْلِيسَ، وَكُلُّ مَاشٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ فَهْوَ مِنْ رَجْلِ الشَّيْطَانِ)، وقرأ حفصٌ (وَرَجِلِكَ) بنصب الراء وكسرِ الجيم وهما لُغتان، أتبَعَ كسرةَ الجيمِ كسرةَ اللام، وهذا على طريقِ الإهانَةِ لإبليسَ، لاَ أنَّ له خَيْلاً ورَجِلاً، كما يقولُ الرجل لغيرهِ: أجْمِعْ خَيْلَكَ وَرَجِلَكَ وَمَا أمْكَنَكَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَشَارِكْهُمْ فِي ٱلأَمْوَالِ وَٱلأَوْلادِ ﴾؛ شِركَتهُ في الأموالِ أن يجعَلُوا شيئاً من أموالهم لغيرِ الله، كما جعَلُوا من الحرثِ والأنعامِ، وشِركَتهُ في الأولادِ أن سَمَّوا أولادَهم: عبدَ يَغُوث، وعبدَ شمسٍ، وعبدَ الحرب. وقال بعضُهم: شِركتهُ في أولادِهم أولاد الزِّنَى، كذا قال مجاهدُ والضحَّاك. ويقالُ شركتهُ في الأموالِ كلَّ ما أُخذ من حرامٍ وأُنفِقَ في حرامٍ، وشركتهُ في الأولادِ الذي يُهَوِّدَاهُ أبَوَاهُ ويُنَصِّرانِهِ ويُمَجِّسانِه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾؛ أي مَنِّيهِمْ بما شِئتَ من الغُرور: من طولِ الحياةِ، والتَّشكيكِ في البعثِ، وما تكون مواعيدُ الشَّيطان إلا غُروراً؛ أي تَزييناً بَاطِلاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾؛ أي " إلاَّ " في الوسوَسة، فإما أن يَمنعَهم عن الطاعةِ، أو يحملَهم على المعصيةِ فلا، وَقِيْلَ: معناهُ: إنَّ أولِيائي ليس لك عليهم حجَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴾؛ أي حَافِظاً لأوليائهِ يعصِمُهم عن القبولِ من إبليس؛ لأن الوكيلَ بالشيءِ يكون حَافظاً له. ثُم ذكَرَ سبحانَهُ نِعَمَهُ على عبادهِ فقال: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ رَّبُّكُمُ ٱلَّذِي يُزْجِي لَكُمُ ٱلْفُلْكَ فِي ٱلْبَحْرِ ﴾؛ أي ربُّكم الذي يسوقُ لكم، ويُجرِي لكم السُّفنَ في البحرِ.
﴿ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾؛ أي لتطلبُوا ما كان مصلحةً لكم في دُنياكم وآخِرَتِكم من التِّجارة وغيرِها.
﴿ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ﴾؛ حين أنعمَ عليكم بهذه النِّعم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾؛ أي يُخَلِّصُكم من الشدَّة في البحرِ عند عَصْفِ الرياحِ وترادُفِ الأمواجِ، وخِفتُم الغرقَ، ضلَّ مَن تدعون من الأصنامِ عن تخليصِكم؛ أي بَطَلَ وزَالَ، ولا يرجُون النجاةَ إلا من اللهِ. قال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: إذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ نَسِيتُمُ الأَنْدَادَ وَالشُّرَكَاءَ، وَتَرَكْتُمُوهُمْ وَأخْلَصْتُمْ للهِ).
﴿ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ ﴾، فَلَمَّا أجَابَ دُعَاءَكُمْ وَنَجَّاكُمْ مِنَ الْبَحْرِ، وَأخْرَجَكُمْ إلى البَرِّ ونجاكم.
﴿ أَعْرَضْتُمْ ﴾؛ عن الإيمانِ والطاعة، ورجعتُم إلى ما كنتم عليهِ.
﴿ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ كَفُوراً ﴾؛ لنِعَمِ اللهِ تعالى، وأرادَ بالإنسانِ الكافرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ ٱلْبَرِّ ﴾؛ معناهُ: أفأَمِنتُمْ بعدَ ذلك أن نَخسِفَ بكمُ الأرضَ كما فُعِلَ بقارونَ.
﴿ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ﴾؛ أي حجارةً تُمطِرُ من السَّماءِ عليكم، كما أمطَرتْ على قومِ لوط، قال القُتَيْبيُّ: (الْحَاصِبُ: الرِّيحُ الَّتِي تَرْمِي بالْحَصْبَاءِ) وهي الحصَى الصِّغار، يقال: حَصَبَهُ بالحجارةِ، إذا رمَاهُ بها مُتَتابعاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً ﴾؛ أي حَافِظاً يحفَظُكم من عذاب الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَىٰ ﴾؛ أي أمْ أمِنتُم أن يُعيدَكم اللهُ في البحرِ مرَّةً أُخرى.
﴿ فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ ٱلرِّيحِ ﴾؛ أي ريحاً شديدةً تَقْصِفُ الفُلْكَ، قال أبو عُبيدة: (الْقَاصِفُ هِيَ الرِّيحُ الَّتِي تَقْصِفُ كُلَّ شَيْءٍ؛ أيْ تَدُقُّهُ وَتُحَطِّمُهُ). وقال القتيبيُّ: (هِيَ الَّتِي تَقْصِفُ الشَّجَرَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ﴾؛ أي بكُفرِكم.
﴿ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً ﴾؛ أي لا تجدُوا لكم من يَتْبَعُنَا فيطالِبُنا بدمائِكم، والتَّبيعُ: مَنْ يَتْبَعُ غَيْرَهُ لأمرٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ ﴾؛ أي فضَّلناهم بالعقلِ والنُّطقِ والتمييزِ، وعامَلناهم معاملةَ الإكرامِ بالنعمة، وجعلناهم يهتَدُون إلى مَعايشهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ ﴾؛ أي في البَرِّ على الدواب، وفي البحرِ على السُّفن. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ ﴾؛ أي لَذِيذِ المطاعمِ والمشارب، قال مقاتلُ: (السَّمْنُ وَالزُّبْدُ وَالتَّمْرُ وَالْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾؛ أي فضَّلنَاهم على كثيرٍ من حيواناتِ البرِّ والبحرِ، ومِن تفضيلهم أنَّهم يأكُلون بالأيدِي، وغيرُهم من الحيواناتِ يأكلون بالأفواهِ. ويقالُ: إنَّ ابنَ آدم يَمشِي مُنتَصِباً قائماً وسائرُ الحيواناتِ تَمشِي مُنْكَبَّةً. ولم يقُل في الآية: عَلَى كلِّ مَنْ خلَقْنَا؛ لأن اللهَ فضَّلَ الملائكةَ كما قالَ تعالى:﴿ وَلاَ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ ﴾[النساء: ١٧٢] ولكنَّ ابنَ آدمَ مُفَضَّلٌ على سائرِ الحيوانات، وقال عطاءُ في هذه الآيةِ: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ بتَعْدِيلِ الْقَامَةِ وَامْتِدَادِهَا)، وقال محمَّدُ بن كعبٍ: (بأَنْ جَعَلَ مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ). وَقِيْلَ: بحُسنِ الصُّورة، وَقِيْلَ: الرِّجالُ باللِّحَا والنِّساءُ بالذوائب. وَقِيْلَ: بتسلِيطهم على غيرِهم من الخلائقِ، وبتسخيرِ الخلائق لَهم. وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في تفسيرِ الآية قال:" الْكَرَامَةُ الأَكْلُ بالأصَابعِ "وقولهُ: ﴿ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ ﴾ يعني الثِّمارَ والحبوبَ، وكلَّ طعامٍ لَيِّنٍ، ورَزَقَ الدوابَ التِّبنَ والحشيشَ والشَّوكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ﴾؛ يعني يومَ القيامةِ وهو منصوبٌ على معنى: واذْكُرْ يومَ ندعُو كلَّ أناسٍ بإمامِهم؛ أي نَبيِّهِمْ، فيقالُ: هاتُوا متَّبعِي إبراهيمَ، هاتوا مُتَّبعي موسَى، هاتوا متَّبعي عيسَى، هاتوا متَّبعي مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فيقومُونَ يأْخذُونَ كُتبَهم بأَيمانِهم. ثم يقالُ: هاتُوا متَّبعي الشيطانِ رؤساءَ الضَّلالةِ، هاتوا مُتَّبعي الطاغوتِ، فيقُومون ويُعطَونَ كُتبَهم بشمائلِهم. ويقالُ: يُدعَى كلُّ أُناسٍ بعَملهِ، فيقالُ: أين صاحبُ هذا الكتاب؟ أين فلانُ بن فلان الْمُصَلِّي؟ وأين فلانُ بن فلان الصَّوَّام؟ إلى أن يُنادِي بالعازفِ والدفَّافِ والرَّقاصِ، فيُدعَى كلُّ أُناسٍ بعملهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾؛ أي مَن أُعطِيَ كتابَهُ الذي فيه ثوابُ عملهِ بيمينه.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ ﴾؛ يفرَحُون ويُسَرُّونَ بما يقرَأُون، وقولهُ تعالى: ﴿ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾؛ ولا يُنقَصُونَ من ثواب أعمالهم مقدارَ الفَتِيلِ، وهو القِشْرُ الذي في شِقِّ النَّواةِ، ويقالُ: هو الوَسَخُ الذي تَفْتِلُهُ بين إصبعَيكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾؛ أي مَن كان في هذه الدُّنيا التي هو مُشَاهِدٌ لها أعمَى عن الحجَّة، لا يتفكَّرُ بقلبهِ في ملَكوتِ السَّماوات والأرضِ، فهو في الآخرةِ التي هي غائبةٌ عن عَينَيهِ أشدُّ عمًى، وأخطأُ طَريقاً. ويقالُ: معناهُ: مَن كان في هذه الدُّنيا ضَالاً عن الحقِّ فهو في الآخرةِ أشدُّ تَحَيُّراً وذهَاباً عن طريقِ الحقِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ﴾؛ وذلك" أنَّ ثَقيفاً أرسَلُوا وَفدَهُم إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينةِ، فقالُوا: يَا مُحَمَّدُ نَحْنُ أخْوَالُكَ وَأصْهَارُكَ وَجِيرَانُكَ، وَجِيرَانُ أهْلِ نَجْدٍ لَكَ سِلْماً وَصِرْهُمْ عَلَيْكَ حَزَناً، إنْ سَالَمْنَا سَالَمَ مَنْ بَعْدَنَا، وَإنْ حَارَبْنَا حَارَبَ مَنْ بَعْدَنَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَاذا تُرِيدُونَ؟ " قَالُواْ: نُبَايعُكَ عَلَى أنْ تُعْطِيَنَا ثَلاَثَ خِصَالٍ: أنْ لاَ نَنْحَنِي - يَعْنُونَ فِي الصَّلَوَاتِ - وَأنْ لاَ تُكْسَرَ أصْنَامُنَا بأَيْدِينَا، تُمَتِّعُنَا بالأَصْنَامِ سَنَةً. فَقَالَ لَهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " لاَ خَيْرَ فِي دِينٍ لاَ صَلاَةَ فِيْهِ وَلاَ رُكُوعَ وَلاَ سُجُودَ، وَأمَّا قَوْلُكُمْ عَلَى أنْ لاَ تَكْسِرُواْ أصْنَامَكُمْ بأَيْدِيكُمْ فَذلِكَ لَكُمْ، وَنَحْنُ نَبْعَثُ لَهَا مَنْ يَكْسِرُهَا، وأمَّا الأَصْنَامُ فَأَنَا غَيْرُ مُمَتِّعُكُمْ بهَا " فَقَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ فَإنَّا نُحِبُّ أنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أنَّكَ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ غَيْرَنَا، فَإنْ خِفْتَ أنْ تَقُولَ الْعَرَبُ أعْطَيْتَهُمْ مَا لَمْ تُعْطِنَا، فَقُلِ اللهُ أمَرَنِي بذلِكَ! فَسَكَتَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَقُلْ لاَ: رَجَاءَ أنْ يُسْلِمُواْ "، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ ﴾ أي يَصرِفُونَكَ عن الذي أمَرنَاكَ من كَسْرِ آلِهتِهم وعَيب دِينِهم؛ لتَفتَرِيَ علينا غيرَ الذي أمرنَاكَ به، فلو فعلتَ ما أرادوهُ.
﴿ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ﴾؛ أي صَفِيّاً لمبايَعتِكَ إيَّاهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ﴾؛ أي لقد كِدْتَ تَميلُ إليهم، قال ابنُ عبَّاس: (يَعْنِي حِينَ سَكَتَّ عَنْ جَوَابهِمْ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ﴾؛ أي إنَّكَ لو مِلْتَ إليهم لأذقناكَ ضِعْفَ عذاب الدُّنيا، وضعفَ عذاب الآخرة، يريدُ عذابَ الآخرةِ ضِعْفَ ما يُعذبُ به غيرهُ.
﴿ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ﴾؛ أي مَانِعاً يَمنعُنَا من تعذيبكَ، قال ابنُ عبَّاس: (وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعْصُومٌ، وَلَكِنْ هَذا تَخْوِيفاً لأُمَّتِهِ؛ لِئَلاَّ يَرْكَنَ أحَدٌ منَ الْمُؤْمِنِينَ إلَى أحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ أحْكَامِ اللهِ تَعاَلَى وَشَرَائِعِهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:" اللَّهُمَّ لاَ تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلاَ أدْنَى مِنْ ذلِكَ ". وذهبَ السديُّ في هذه الآياتِ: (إلَى أنَّ قُرَيْشاً قَالَتْ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّكَ تَرْفُضُ آلِهَتَنَا كُلَّ الرَّفْضِ، فَلَوْ أنَّكَ تأْتِيهَا وَتَلْمِسُهَا وَتَبْعَثُ بَعْضَ وَلَدِكَ فَيَمْسَحُهَا، كَانَ أرَقَّ لِقُلُوبنَا وَأحْرَى أنْ نَتَّبعَكَ! فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَبْعَثَ بَعْضَ وَلَدِهِ فَيَمْسَحَهَا، فَنَهَاهُ اللهُ عَنْ ذلِكَ). ويقال: إنَّهم قالوا: أُطْرُدْ سِقَاطَ الناسِ وموالِيهم، هؤلاءِ الذين رائحتُهم كرائحةِ الضَّأنِ حتى نتَّبعَكَ، فَهَمَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعلَ رجاءَ أن يُسلِمُوا، فأنزلَ اللهُ هذه الآياتِ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ﴾؛ وذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لِمَّا قَدِمَ المدينةَ، حسَدَتْهُ اليهودُ قالوا له: يَا مُحَمَّدُ أنَبيٌّ أنْتَ؟ فَقَالَ: " نَعَمْ " قَالُواْ لَهُ: وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَذِهِ بأرْضِ الأَنْبيَاءِ، وَإنَّ أرْضَ الأَنْبيَاءِ الشَّامُ، كَانَ بهَا إبْرَاهِيمُ وَعِيسَى، فَإنْ كُنْتَ نَبيّاً فَأْتِ الشَّامَ، فَإنَّ اللهَ سَيَمْنَعُكَ بهَا مِنَ الرُّومِ إنْ كُنْتَ رَسُولَهُ، وَهِيَ الأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ وَأرْضُ الْمَحْشَرِ. فَهَمَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَخْرُجَ إلَى الشَّامِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ بهَذِهِ الآيَةِ. ومعناها: وقد كَادُوا ليَستَفِزُّونَكَ من أرضِ المدينة ليُخرِجُوكَ منها إلى الشَّامِ.
﴿ وَإِذاً ﴾؛ لو أخرَجُوكَ.
﴿ لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾؛ أي الاَّ مدَّةً يسيرةً حتى يُهلِكَهم اللهُ. ومن قرأ (خِلاَفَكَ) فمعناهُ: مُخالَفَتِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ﴾؛ نَصْبٌ على المصدرِ؛ أي سَنَّ لَهم سُنَّةَ مَن قد أرسَلنا، فإن سُنَّةَ اللهِ قد جرت في مَن قبلِكَ من الرُّسل بأنَّ أُمَمَهم إذا أخرجُوهم من مواضِعهم لم يلبَثُوا إلا قليلاً، والسُّنَّةُ: هي العادةُ الجارية. وقولهُ تعالى: ﴿ وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ﴾؛ أي لا يقدرُ أحدٌ على تحويلِ السُّنة التي أجرَاها اللهُ. وقال مجاهدُ وقتادة: (هَمَّ أهْلُ مَكَّةَ بإخْرَاجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ حِينَ شَاوَرُواْ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَلَوْ فَعَلُواْ مَا أُمْهِلُواْ، وَلَكِنَّ اللهَ كَفَّهُمْ عَنْ إخْرَاجِهِ حَتَّى أمَرَهُ بالْخُرُوجِ). والقَلِيلُ: مَا لَبثُوا بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَّةَ حَتَّى أهْلَكَهُمُ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ، غيرَ أن التأويلَ الأول أصحُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلَّيلِ ﴾؛ قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: (مَعْنَاهُ: أقِمِ الصَّلاَةَ لِغُرُوب الشَّمْسِ) والصلاةُ المأمور بها على هذا هي المغربُ، والغَسَقُ بُدُوُّ الليلِ، وعن ابنِ عباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في إحدى الرِّوايَتين عنه مثلُ قول ابنِ مسعود، وفي الروايةِ الثانية وهو قولُ الحسنِ ومجاهد وقتادةُ: (إنَّ دُلُوكَهَا زَوَالُهَا) وَالصَّلاَةُ المأمور بها على هذا الظهرُ والعصر والمغربُ والعشاءُ. فالغَسَقُ على هذا القولِ هو اجتماعُ ظُلمَةِ الليلِ. قوله تعالى: ﴿ وَقُرْآنَ ٱلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ﴾؛ صلاةَ الفجرِ تشهدُها ملائكةُ الليلِ وملائكةُ النهارِ يُصلُّونَها مع المسلمين. وإنما سُميت صلاةُ الفجرِ قُرْآناً؛ لأن القراءةَ فيها طولٌ، ولأن القراءةَ فريضةٌ من الرَّكعتين، وفي هذا بيانُ أن الصلاةَ لا تكون إلا بقراءةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (فَصَلِّ بالْقُرْآنِ). والتَّهَجُّدُ هو التَّيَقُّظُ بَعْدَ النَّومِ، ويقالُ: تَهَجَّدَ إذا نامَ، وتَهَجَّدَ إذا استيقظَ، والمعنى: أقِمِ الصلاةَ بالليلِ بعد التيقُّظِ من النومِ، ويقال: الْمُتَهَجِّدُ القائمُ إلى الصلاةِ من النوم، وقيل له: مُتَهَجِّدٌ لانتفاءِ التجدُّدِ عن نفسهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ نَافِلَةً لَّكَ ﴾ أي تطَوُّعاً، وَقِيْلَ: فضيلةً لكَ لرفعِ الدرجات لا للكفَّارات، فإنه عليه السلام قد غُفِرَ له من ذنبهِ ما تقدَّمَ وما تأخَّرَ، وليست لنا بنافلةٍ، لكَثرَةِ ذُنوبنا وإنما هي كفارةٌ لغيرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، هكذا قال مجاهدُ. وقد رُوي ما يدلُّ على أنَّها نافلةٌ لغيرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو ما روَى أبو أُمامة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" الْوُضُوءُ يُكَفِّرُ مَا قَبْلَهُ، وَتَصِيرُ الصَّلاَةُ نَافِلَةً "قِيلَ لَهُ: أنْتَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ غَيْرَ مَرَّةٍ وَلاَ مَرَّتَيْنِ وَلاَ ثَلاَثٍ وَأرْبَعٍ وَلاَ خَمْسٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ﴾؛ أي المقامَ الذي تُحْمَدُ عاقبتهُ، وهو المقامُ الذي يُعطيهِ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيه لواءُ الْحَمْدِ تجتمعُ تحته الملائكةُ والأنبياء، فيكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم أوَّلَ شافعٍ وأوَّلَ مُشفَّعٍ، قال ابنُ عبَّاس: (وَعَسَى مِنَ اللهِ وَاجِبَةٌ). ويعني بقولهِ ﴿ مَقَاماً مَّحْمُوداً ﴾ أي يُعطِيكَ اللهُ يومَ القيامة مقاماً يحمدُكَ فيه الأوَّلون والآخِرون شرفٌ به على جميعِ الخلائق، والمقامُ المحمود مقامُ الشَّفاعَةُ، ومعنى ﴿ يَبْعَثَكَ ﴾ يُقِيمُكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾؛ أي أدخِلني المدينةَ وأخرِجني من مكَّة. وَقِيْلَ: أدخِلني في ما أمَرتَّني به، وأخرِجني من ما نَهيتني عنهُ. وَقِيْلَ: أدخِلني مُدخَلَ صدقِ في جميع الأمور، وأخرجني مُخرَجَ صدقٍ من جميعِ الأمور. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱجْعَل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً ﴾؛ أي واجعَلْ لي من عندَكَ قوَّةً أمتنِعُ بها عن مَن عادَانِي. وقِيْلَ: حجَّةً أتقَوَّى بها على إبطالِ سائرِ الأديان الباطلة. وعن محمَّد بن المنكدر قال:" قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ دَخَلَ الْغَارَ: أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ "وقال الضحَّاكُ: (مَعْنَاهُ أخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ مِنْ مَكَّةَ آمِناً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأدْخِلْنِي مَكَّةَ مُدْخَلَ صِدْقٍ ظَاهِراً عَلَيْهَا بالْفَتْحِ)، وقال عطيةُ عن ابنِ عبَّاس: (أدْخِلْنِي الْقَبْرَ مُدْخَلَ صِدْقٍ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأخْرِجْنِي مِنْهُ مُخْرَجَ صِدْقٍ عِنْدَ الْبَعْثِ). وَقِيْلَ: المعنى: أدخلني حيث ما أدخلتَني بالصِّدقِ، وأخرجني منه بالصِّدقِ، أي لا تجعلني مِمَّن يدخلُ بوجهٍ ويخرجُ بوجهٍ آخرَ، فإنَّ ذا الوجهَين لا يكون أمِيناً عند الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ إِنَّ ٱلْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ﴾؛ معنى: الحقُّ هو ما جاءَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الشَّرائعِ والإسلامِ، وما جاءَ به من القُرآنِ، وقال السديُّ: (الْحَقُّ الإسْلاَمُ، وَالْبَاطِلُ الشِّرْكُ). ومعنى (زَهَقَ): بَطَلَ واضْمَحَلَّ. قال ابنُ مسعودٍ وابن عبَّاس:" لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ، وَجَدَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ صَنَماً، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بمخْصَرَةٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً " فَكَانَ الصَّنَمُ يَنْكَبُّ لِوَجْهِهِ، وَكَانَ أهْلُ مَكَّةَ يَتْبَعُونَهُ وَيَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ: مَا رَأيْنَا رَجُلاً أسْحَرَ مِنْ مُحَمَّدٍ "
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي شفاءٌ للمسلمين في الدُّنيا والآخرةِ، يتبَرَّكون بقراءَتهِ على أنفُسِهم، ويستَعينون به على دفعِ الأسقام والبلاَيا. وَقِيْلَ: شفاءٌ للقلوب يزولُ به الجهلُ منها كما يشفَى المريض. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ أي نعمةٌ مِن الله تعالى عليهم، وكونُ القرآن شفاءٌ؛ أي يُزِيلُ عمَى الجهلِ وحيرةَ الشكِّ، فهو شفاءٌ من داءِ الجهلِ. وقال ابنُ عبَّاس: (يُرِيدُ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ)، ويؤيِّدُ هذا ما رُوي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:" مَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بالْقُرْآنِ فَلاَ شَفَاهُ اللهُ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ يَزِيدُ ٱلظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ﴾؛ أي لا يُزَادُ الكفارُ عند نزولِ القرآن إلا خَسَاراً لأنه لا ينتفِعُ به.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى ٱلإنْسَانِ ﴾؛ أي أنعَمنا عليه بكشفِ الضُّرِّ وتبديلِ البُؤسِ بالنعمةِ.
﴿ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ﴾؛ أي أعرضَ عن شُكرِه وتباعَدَ عن ذلك بنفسهِ، وقولهُ تعالى: ﴿ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ﴾ أي تعَظَّمَ وتكَبَّر وبعَّدَ نفسَهُ عن القيامِ بحقوق النِّعَمِ. يريدُ بالإنسانِ، قال ابنُ عبَّاس: (يُرِيدُ بالإنْسَانِ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ يَئُوساً ﴾؛ أي إذا أصابتْهُ شدَّةٌ كان قَنُوطاً من رجاءِ الفَرَجِ من اللهِ، لا يَثِقُ بفضلِ الله تعالى على عبادهِ فيطمعُ في كشفِ تلك البليَّةِ من جهتهِ، وهذه صفةُ الكافرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ ﴾؛ أي على طَبْعِهِ الذي جُبلَ عليه، وَقِيْلَ: على عادتهِ التي ألِفَها، وفي هذا تحذيرٌ من الفسادِ المسكون إليهِ، وَقِيْلَ على فِئَتِهِ، وَقِيْلَ: على طريقتهِ التي تشابهُ كلَّ أخلاقهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلاً ﴾؛ أي إنَّ اللهَ يعلمُ أيَّ الفريقَين على الهدى وأيُّهما على الضلالةِ من المؤمنين والكفَّارِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾؛ اختلَفُوا في الذي سأَلُوا عنه النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال بعضُهم: سأَلوهُ عن جبريلَ قد سَمَّاهُ اللهُ روحاً في قولهِ تعالى﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ﴾[الشورى: ٥٢]، وعن عليٍّ رضي الله عنه قالَ: (إنَّ الرُّوحَ مَلَكٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ لَهُ سَبْعُونَ ألْفَ وَجْهٍ، فِي كُلِّ وَجْهٍ سَبْعُونَ ألْفَ لِسَانٍ يُسَبحُ اللهَ تَعَالَى بكُلِّ لِسَانٍ مِنْ هَذِهِ الأَلْسِنَةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذلِكَ الْمَلَكِ). وعن عبدِالله بن مسعود قال: (كُنْتُ أمْشِي مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَمَرَّ بقَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تَسْأَلُوهُ، ثُمَّ أتَاهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ فَقَالُواْ لَهُ: يَا أبَا الْقَاسِمِ مَا تَقُولُ فِي الرُّوحِ؟ فَسَكَتَ، ثُمَّ قَامَ فَاشْتَدَّ بيَدِهِ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَعَرَفْتُ أنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ وَحْيٌ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ... ﴾ الآية). وعنِ ابن عبَّاس: (أنَّ الْيَهُودَ اجْتَمَعُواْ فَقَالُواْ لِقُرَيْشٍ: سَلُوا مُحَمَّداً فِي ثَلاَثٍ، فَإنْ أخْبَرَكُمْ باثْنَيْنِ وَأمْسَكَ عَنِ الثَّالِثَةِ فَهُوَ نبيٌّ، سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ مَضَوا فِي الزَّمَانِ، وَعَنْ رَجُلٍ بَلَغَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَاسْأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. فَسَأَلُوهُ عَنْ ذلِكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الْفِتْيَةِ﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ ٱلْكَهْفِ وَٱلرَّقِيمِ ﴾[الكهف: ٩].
.. إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، وَأنْزَلَ اللهُ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ ﴾[الكهف: ٨٣].
.. إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، وَأنْزَلَ اللهُ فِي الرُّوحِ ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ... ﴾ الآيَةُ، وإنَّمَا سَأَلَتْهُ الْيَهُودُ عَنِ الرُّوحِ لأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ قِصَّتُهُ وَلاَ تَفْسِيرُهُ، وَلَيْسَ فِيهَا إلاَّ ذِكْرُ اسْمِهِ الرُّوحُ). وقال سعيدُ بن جبير: (لَمْ يَخْلُقِ اللهُ خَلْقاً أعْظَمَ مِنَ الرُّوحِ غَيْرَ الْعَرْشِ، لَوْ شَاءَ أنْ يَبْلَعَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضَ السَّبْعِ وَمَنْ فِيْهِمَا بلُقْمَةٍ فَعَلَ، صُورَةُ خَلْقِهِ عَلَى صُورَةِ الْمَلاَئِكَةِ، وَصُورَةُ وَجْهِهِ عَلَى وَجْهِ الآدَمِيِّينَ، وَلَوْلاَ أنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَلاَئِكَةِ سِتْراً مِنْ نُورٍ لاحْتَرَقَتِ السَّمَاوَاتُ مِنْ نُوره). ويقالُ: أرادَ بالرُّوحِ روحَ الحيوانِ وهو ظاهرُ الكلامِ، وفي روحِ الحيوان خِلافٌ بين العلماءِ، وكلُّ حيوانٍ فهو روحٌ وبَدَنٌ، وروحُ الحيوان جسمٌ رقيق على بُنيَةٍ حيوانيَّة، في كلِّ جُزءٍ منها حياةٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ أي من الأمرِ الذي لا يعلمهُ إلا ربي، وإنما لم يُجِبْهُمْ عن ذلك؛ لأن اليهودَ هم الذين سألوهُ عن الروحِ، وكان في كتابهم أنه إنْ أجابَهم عن الروحِ فليس بنبيٍّ! فلم يُجِبهُم تصديقاً لِمَا في كتابهم، وكانت المصلحةُ في هذا أن لا يُعرِّفَهم الروحَ من جهة النصِّ، بل يكلِّمُهم في تعريفهِ إلى ما في عقولهم، لِمَا في ذلك من الرياضةِ باستخراج الفائدة. وقال بعضُهم: هو الدمُ! ألا ترَى أنه مَن نَزَفَ دمهُ ماتَ، والْمَيْتُ لا يَفْقُدُ من جسمهِ إلا الدمَ. وزعمَ قومٌ: أن الروحَ هو استنشاقُ الهواءِ، ألا ترَى أن المخنوقَ ومَن مُنِعَ استنشاقُ وشَمُّ الهواءِ يموتُ. وقال بعضُ الحكماء: إن اللهَ خَلَقَ الروحَ من ستَّة أشياء: من جوهرِ النُّور والطِّيب والهواءِ لبقاء الحياةِ والعلمِ والعلُوِّ، ألا ترَى أنه ما دامَ في الجسدِ كان الجسدُ نورانياً تبصرُ العينان، وتسمَعُ الأُذنان، ويكون طَيِّباً، فإذا خرجَ انتنَّ الجسدُ، ويكون باقياً فإذا زَايَلَتْهُ الروحُ صارَ فانياً، ويكون حَيّاً وبخروجهِ ميتاً، ويكون عالِماً فإذا خرجَ منه الروحُ صار سُفْلِيّاً بالياً. والاختيارُ من هذه الأقوالِ: أنه جسمٌ لطيف يوجَدُ فيه الحياةُ! بدليلِ قولهِ تعالى في صفةِ الشُّهداء:﴿ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ ﴾[آل عمران: ١٦٩-١٧٠] والأرزَاقُ والفَرَحُ من صفةِ الأجسامِ، والمرادُ بهذا أرواحُهم؛ لأن أجسادَهم قد بَلِيَتْ في التراب، وكذلك قولهُ صلى الله عليه وسلم:" إنَّ أرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ تُعَلَّقُ فِي شَجَرَةٍ مِنَ الْجَنَّةِ، وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ "وهذا لا يكون إلا في جسمٍ، ولا يتأتَّى ذلك في الأعراضِ كما زَعمت المعتزلةُ والنجارِية: أن الروحَ عرَضٌ، وهو مردودٌ بما ذكرناهُ. وعن ابن عبَّاس: (أنَّ الرُّوحَ إذا خَرَجَ مَاتَ الْجَسَدُ، وَصَارَ الرُّوحُ صُورَةً أُخْرَى لاَ تُطِيقُ الْكَلاَمَ؛ لأَنَّ الْجَسَدَ جُرْمٌ، وَالرُّوحُ يُصَوِّتُ مِنْ جَوْفِهِ وَيَتَكَلَّمُ، فَإذا فَارَقَ الْجَسَدَ صَارَ الْجَسَدُ صِفْراً، وَصَارَ الرُّوحُ صُورَةً أُخْرَى يَنْظُرُ النَّاسُ سُكُونَهُ، وَيَغْسِلُونَهُ وَيَدْفِنُونَهُ وَلاَ يَسْتَطِيعُ أنْ يَتَكَلَّمَ، كَمَا أنَّ الرِّيحَ إذا دَخَلَ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ سَمْعْتَ لَهُ دَويّاً، فَإذا خَرَجَ مِنْهُ لَمْ تَسْمَعُ لَهُ صَوْتاً، وَكَذلِكَ الْمَزَامِيرُ، فَأَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ يَنْظُرُونَ إلَى الْجَنَّةِ وَيَجِدُونَ ريحَهَا، وَأرْوَاحُ الْكُفَّارِ يُعَذبُونَ فِي قُبُورهِمْ). وهذا الذي ذكرناهُ كلُّه في تفسيرِ الروح عند التحقيقِ منَ التكلُّفِ؛ لأن اللهَ سُبحانَهُ أبْهَمَ علمَ ذلكَ، قال عبدُاللهِ بن يزيد: (مَا بَلَغَ الإنْسُ وَالْجِنُّ وَالْمَلاَئِكَةُ وَالشَّيَاطِينُ عِلمَ الرُّوحُ، وَلَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا يَدْري مَا الرُّوحُ، وَلَمْ يُخْبرِ اللهُ أحَداً مِنْ خَلْقِهِ بهِ، وَلَمْ يُعْطِ أحَداً عِلْمَهُ مِنَ عِبَادِهِ، فَقَالَ: ﴿ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾ أيْ مِنْ عِلْمِ رَبي وإنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَهُ)قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾؛ أي وما أُوتِيتُم من العلمِ المنصوصِ عليه، إلا قليلاً من كثيرٍ بحسب حاجَتِكم إليه، قُلْ: فالروحُ من المتروكِ الذي لا يصلحُ النصُّ عليه لأمورٍ من الحكمة تقتضِي تركَهُ. والخطابُ لليهودِ، وذلكَ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قرأ هذه الآيةَ على اليهودِ، قالوا: أُوْتِينَا التوراةَ وفيها الحكمةُ، ومَن يؤتَ الحكمةَ فقد أُوتِيَ خَيراً كثيراً، فأعلَمَهم اللهُ أنَّ علمَ التوراةِ قليلٌ في علمِ الله تعالى﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ ﴾[لقمان: ٢٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾؛ أي لو شِئْنا لَمَحَونَا القرآنَ من القلوب والكتُب، وأنسَيْنَا ذكرَهُ كَيلاَ يوجدَ له أثرٌ.
﴿ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً ﴾؛ تتوكَّلُ عليه في ردِّ شيءٍ منهُ، وقولهُ تعالى: ﴿ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾؛ أي لكِنْ لا نشاءُ ذلك إلا رحمةً من ربك، فأثبتَ ذلك في قلبكَ وقلوب المؤمنين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ﴾؛ أي حيث اختارَكَ للنبوَّةِ، واصطفاكَ للرسالةِ، وخصَّكَ بالوحيِ والقرآن، وجعلَكَ سيِّدَ ولدِ آدمَ، وختمَ بكَ الأنبياءَ، وأعطاكَ المقامَ المحمودَ. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:" أنَّهُ خَرَجَ وَهُوَ مَعْصُوبُ الرَّأسِ مِنْ وَجَعٍ، فَصَعَدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمَدَ اللهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: " يَا أيُّهَا النَّاسُ، مَا هَذِهِ الْكُتُبُ الَّتِي تَكْتُبُونَ؟ أكِتَابٌ غَيْرُ كِتَاب اللهِ، كُلُّ مَنْ كَتَبَ كِتَاباً غَيْرَ كِتَاب اللهِ يُوشِكُ أنْ يَغْضَبَ اللهُ عَلَيْهِ لِكِتَابهِ، وَلاَ يَدَعُ وَرَقاً وَلاَ قَلْباً إلاَّ أُخِذ مِنْهُ " قَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ بالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: " مَنْ أرَادَ اللهُ بهِ خَيْراً بَقِيَ فِي قَلْبهِ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ " ". وعن عبدِالله بن مسعودٍ: (إنَّ أوَّلَ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الصَّلاَةَ، وَلَيُصَلِّيَنَّ أَقْوَامٌ ولاَ دِينَ لَهُمْ، وَإنَّ هَذا الْقُرْآنَ لَيُصْبحَنَّ وَمَا فِيكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ) فَقَالَ رَجُلٌ: كَيْفَ يَكُونُ ذلِكَ يَا أبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ وَقَدْ أتْقَنَّاهُ فِي قُلُوبنَا، وَأثْبَتْنَاهُ فِي مَضَاجِعِنَا، نُعَلِّمُهُ أبَاءَنَا وَأبْنَاءَنَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: (يَسْرِي بهِ فِي لَيْلَةٍ فَيَذْهَبُ مَا فِي الْمَصَاحِفِ وَمَا فِي الْقُلُوب. وقرأ عبدُالله: ﴿ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ ). وعن عبدِالله قالَ: (أكْثِرُواْ الطَّوَافَ بالْبَيْتِ قَبْلَ أنْ يُرْفَعَ وَتَبْنِي النَّاسُ مَكَانَهُ، وَأكْثِرُواْ مِنْ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ قَبْلَ أنْ يُرْفَعَ) فَقِيلَ: هَذِهِ الْمَصَاحِفُ تُرْفَعُ، فَكَيْفَ بمَا فِي صُدُور الرِّجَالِ؟ قَالَ: (يَسْرِي عَلَيْهِ لَيْلاً فَتُصْبحُواَ مِنْهُ فُقَرَاءَ، وَتَنْسَوْنَ قَوْلَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وَتَقَعُونَ فِي قَوْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأشْعَارهِمْ). وعن عبدِالله بن عَمروٍ قال: (لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَرْتَفِعَ الْقُرْآنُ مِنْ حَيْثُ نَزَلَ بهِ، لَهُ دَويٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: مَا بَالُكَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَب مِنْكَ خَرَجْتُ وَإلَيْكَ أعُودُ، أُتْلَى وَلاَ يُعْمَلُ بي).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾؛ هذا تكذيبٌ للنَّضرِ بن الحارثِ حين قالَ: لو نشاءُ لقُلنَا مثلَ هذا، والمعنى: قُل لو اجتَمَعوا على أن يأتُوا بمثلهِ في حُسنِ النَّظْمِ، وجودَةِ اللفظِ، وجمعِ المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرةِ لا يأتُونَ بمثلهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ﴾؛ أي أعْوَاناً، وأما رَفْعُ ﴿ لاَ يَأْتُونَ ﴾، فلأنَّ جوابَ القسَمِ غالبٌ على جواب (أنْ) لوقوعه في صدر الكلام.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾؛ أي من التخويفِ والتَّرغيب.
﴿ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ﴾ وامتنعَ أكثرُهم؛ أي أكثرُ أهلِ مكَّة إلا جُحوداً وإنكاراً للحقِّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً ﴾ رَوى عكرمةُ عن ابنِ عبَّاس:" أنَّ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَا رَبيعَةَ، وَأبَا سُفْيَانَ، وَالنَّضرَ بْنَ الْحَارِثِ، وأبَا جَهْلٍ بْنَ هِشَام، وَالأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِب، وَرَبيعَةَ بْنَ الأَسْوَدِ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَأبَا جَهْلٍ، وَأُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ، وَالْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ وَغَيْرَهُمْ، اجْتَمَعُوْا بَعْدَ غُرُوب الشَّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إبْعَثُواْ إلَى مُحَمَّدٍ، وَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ. فَبَعَثُوا إلَيْهِ أنَّ أشْرَافَ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُواْ لَكَ لِيُكَلِّمُوكَ. فَجَاءَ إلَيْهِمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيعاً يَظُنُّ أنَّهُ بَدَا لَهُمْ فِي أمْرِهِ شَيْءٌ، فَجَلَسَ إلَيْهِمْ فَقَالُواْ: يَا مُحَمَّدُ وَاللهِ مَا نَعْلَمُ رَجُلاً مِنَ الْعَرَب أدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مَا أدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ، لَقَدَ شَتَمْتَ الآبَاءَ، وَعِبْتَ الدِّينَ، وَسَفَّهْتَ الأَحْلاَمَ، وَشَتَمْتَ الآلِهَةُ، وَفَرَّقْتَ الْجَمَاعَةَ. فَمَا أمْرٌ قَبيحٌ إلاَّ وَقَدْ جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ، فَإنْ كُنْتَ إنَّمَا جِئْتَ بهَذا الْحَدِيثَ تَطْلُبُ مَالاً، جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أكْثَرَنَا مَالاً، وَإنْ كُنْتَ تَطْلُبُ بهِ الشَّرَفَ فِيْنَا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإنْ كَانَ هَذا الَّذِي بكَ تَابعٌ مِنَ الْجِنِّ، بَدْلْنَا أمْوَالَنَا فِي طَلَب الطِّب لَكَ حَتَّى نُبْرِيَكَ مِنْهُ!فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَا بي مَا تَقُولُونَ، مَا جِئْتُكُمْ بهِ لِطَلَب أمْوَالِكُمْ وَلاَ الشَّرَفَ عَلَيْكُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى بَعَثَنِي رَسُولاً وَأنْزَلَ عَلَيَّ كِتَاباً، وَأمَرَنِي أنْ أكُونَ لَكُمْ بَشِيراً وَنَذِيراً، فَبَلَّغْتُكُمْ رسَالَةَ رَبي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بهِ فَهُوَ حَظُّكُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَإنْ تَرُدُّوهُ عَلَيَّ أصْبرُ عَلَى مَا أمَرَ اللهُ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمِ ". فَقَالُواْ: يَا مُحَمَّدُ فَإنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابلٍ مِنَّا مَا عَرَضْنَا عَلَيْكَ، فَقَدْ عَلِمْتَ أنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أحَدٌ أضْيَقَ بلاَداً وَلاَ أقَلَ مِنَّا، فَاسْأَلْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ إلَيْنَا أنْ يُسَيِّرَ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ الَّتِي ضَيَّقَتْ عَلَيْنَا، وَيَبْسُطَ لَنَا بلاَدَنَا وَيُجْرِيَ لَنَا فِيهَا أنْهَاراً كَأَرْضِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَلْيَبْعَثْ لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ أبَائِنَا، وَلْيَكُنْ مِمَّنْ يَبْعَثُ لَنَا قُصَيَّ بْنَ كِلاَبٍ فَإنَّهُ كَانَ شَيْخاً صَدُوقاً، فَنَسْأَلُهُمْ عَنْ مَا تَقُولُ: أحَقٌّ هُوَ أمْ بَاطِلٌ؟ فَإنْ صَنَعْتَ لَنَا مَا سَأَلْنَاكَ وَصَدَّقُوكَ صَدَّقْنَاكَ، وَعَرَفْنَا بذلِكَ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ اللهِ بأَنَّهَ بَعَثَكَ رَسُولاً كَمَا تَقُولُ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَا بهَذا بُعِثْتُ، إنَّمَا جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ بمَا بَعَثَنِي ". قَالُواْ: وَإنْ لَمْ تَفْعَلْ هَذاَ فَاسْأَلْ رَبَّكَ يَبْعَثْ مَلَكاً يُصَدِّقُكَ، وَيُعِينُكَ عَمَّا نَرَى بكَ، فَإنَّكَ تَقُومُ فِي الأَسْوَاقِ تَتَلَمَّسُ الْمَعَاشَ. فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَا أنَا بالَّذِي يَسْأَلُ اللهَ هَذا، وَلَكِنَّ اللهَ بَعَثَنِي بَشِيراً ونَذِيراً ". قَالُواْ: فَأَسْقِطِ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً، كَمَا زَعَمْتَ أنَّ اللهَ مَا شَاءَ فَعَلَ! فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " ذلِكَ إلَى اللهِ، إنْ شَاءَ فَعَلَهُ بكُمْ " فَقَالُواْ: قَدْ أُعْذِرْنَا إلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، أمَا وَاللهِ مَا نَتْرُكُكَ وَمَا فَعَلْتَ بنَا حَتَّى نُهْلِكَكَ أوْ تُهْلِكَنَا. وَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى تَأْتِيَ باللهِ وَالْمِلاَئِكَةِ قَبيلاً. فَلَمَّا قَالُواْ ذلِكَ قَامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَامَ مَعَهُ عَبْدُاللهِ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ، وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ عَاتِكَةُ بنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِب، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ عَرَضَ عَلَيْكَ قَوْمُكَ مَا عَرَضُواْ فَلَمْ تَقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أُمُوراً لأَنْفُسِهِمْ؛ لِيَعْرِفُواْ بهَا مَنْزِلَتَكَ مِنَ اللهِ فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أنْ تُعَجِّلَ لَهُمْ مَا خَوَّفْتَهُمْ بهِ مِنَ الْعَذاب فَلَمْ تَفْعَلْ، فَوَاللهِ لاَ أُؤْمِنُ بكَ أبَداً حَتَّى تَتَّخِذ سُلَّّماً إلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ تَرْقَى فِيْهِ وَأنَا أنْظَرُ حَتَّى تَلِجَ بَابَهَا، أوْ تَأْتِيَ مَعَكَ بنُسْخَةٍ مَنْشُورَةٍ، وَنَفَرٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ يَشْهَدُونَ أنَّكَ نِبيٌّ كَمَا تَقُولُ، وَأيْمِ اللهِ لَمْ فَعَلْتَ ذلِكَ لَظَنَنْتُ أنِّي لاَ أُصَدِّقُكَ. ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى مَنْزِلهِ حَزِيناً لِمَا نَالَهُ مِنْ سَفَاهَةِ قَوْمِهِ وَتَبَاعُدِهِمْ مِنَ اللهِ، فَقَالَ أبُو جَهْلٍ حِينَ قَامَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنَّ مُحَمَّداً قَدْ أتَى إلَى مَا تَرَوْنَ مِنْ عَيْب دِينِنَا وَشَتْمِ آبَائِنَا وَتَسْفِيهِ أحْلاَمِنَا وَتَتْبيب آلِهَتِنَا، إنِّي أُعَاهِدُ اللهَ لأَجْلِسُ لَهُ بحَجَرٍ غَداً قَدْرَ مَا أُطِيقُ حَمْلَهُ، فَإذا سَجَدَ فِي صَلاَتِهِ رَضَخْتُ بهِ رَأسَهُ فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً ﴾ "قرأ أهلُ الكوفةِ (تَفْجُرَ) مخففة بفتحِ التاء وضمِّ الجيم، واختارَهُ أبو حاتم؛ لأن الينبوعَ واحدٌ، وقرأ الباقون بالتشديدِ، ولم يختلِفُوا في الثانِي أنه مشدَّدٌ لأجلِ أنَّها جمعٌ. وذلك أنَّهم لَمَّا عجَزُوا عن الإتيانِ بسُورَةٍ مثل القرآن وانقطعَتْ حُجَّتهم، جعلوا يقتَرحُون من الآياتِ ما ليس لَهم، مع أن الذي أتَاهُم به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من القُرْآنِ، وانشقاقِ القمرِ، وغير ذلك من دلائلِ النبوَّة، كان أبلغَ في الدلالةِ مما اقترحوهُ من تفجيرِ الينبُوعِ وغيرِ ذلك. والْيَنْبُوعُ: عَيْنٌ تفورُ بالماءِ، وأرادَ بقولهِ ﴿ مِنَ ٱلأَرْضِ ﴾ أرضَ مكَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ﴾؛ فَتُشَقِّقَ.
﴿ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً ﴾؛ في وسطِ ذلك البُستَان تَشْقِيقاً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً ﴾؛ مَن قرأ بسُكون السِّين؛ أي قِطَعاً، فجَمعُ الكثيرِ كسِدرَةٍ وسُدْرٍ، وَقِيْلَ: أراد جَانِباً. ومن قرأ (كِسَفاً) بفتح السين فهو جمعُ القليلِ؛ أي جمعُ كُسْفَةٍ، يقالُ: أعْطِني كُسْفَةً من هذا الثوب؛ أي قطعةً منه، والكُسُوفُ هو انقطاعُ النُّورِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً ﴾؛ قال قتادةُ والضحَّاك: (عَيَاناً)، والمعنى: تأتِي بهم حتى نرَاهُم مقابلةً ونُشاهِدُهم، ويشهَدُون على صدقِ دعوَاكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ ﴾؛ أي من ذهَبٍ، والزُّخْرُفُ في الأصلِ هو الزِّينَةُ كما في قولهِ تعالى﴿ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ ﴾[يونس: ٢٤] أي بزينَتِها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ ﴾؛ معناهُ: أو تصعدُ.
﴿ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ﴾؛ أي لن نصدِّقَك مع ذلك.
﴿ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً ﴾؛ تأتِينا بكتابٍ من الله.
﴿ نَّقْرَؤُهُ ﴾؛ أنَّك رسولُ من اللهِ إلينا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي ﴾؛ أي قُل لَهم يا مُحَمَّد: تَنْزِيهاً لرَبي عن المقابَلةِ التي وصَفتُمْ، فإنَّ العارفَ باللهِ يعلمُ أنه لا يجوزُ المقابَلةُ على اللهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً ﴾؛ أي ما كنتُ إلا بَشراً رَسُولاً كسائرِ الرُّسل، فلا أقدرُ على الإتيانِ بالآيات المقترَحة، كما لم يقدِرْ عليها مَن قبلِي من الأنبياءِ. قرأ ابنُ مسعودٍ (أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ ذهَبٍ) قال مجاهدُ: (كُنْتُ مَا أدْرِي مَا الزُّخْرُفُ حَتَّى رَأْيْتُهُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي ﴾، قرأ أهلُ مكَّة والشام: (قَالَ سُبْحَانَ رَبي) يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً ﴾؛ أي ما صَرَفَ الناسَ إذ جاءَهم الْهُدَى إلاّ شبهةً أدخَلُوها على أنفُسِهم، يعني قولَهم ﴿ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً ﴾ وهذه شبهةٌ ضعيفة، ويعجَبُ منهم في غير التعجُّب، ومرادُهم هَلاَّ بعثَ اللهُ بشَراً رسولاً؟ فأجابَهم اللهُ بقولهِ تعالى: ﴿ قُل لَوْ كَانَ فِي ٱلأَرْضِ مَلاۤئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ﴾؛ أي لو كان في الأرض ملائكةٌ يَمشُونَ على أقدامِهم مُقِيمين في الأرض كما أنتم مُقيمون فيها.
﴿ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَلَكاً ﴾؛ مِن جِنسِهم.
﴿ رَّسُولاً ﴾؛ كما أرسَلنا إليكم بشَراً من جِنْسِكم رسُولاً، لأن الملَك إنما يُبعَثُ إلى الملائكةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ كَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾؛ فإن اللهَ يشهدُ لِي بالنبوَّة في القرآنِ، وأنتم تُنكِرُونَ نُبُوَّتِي.
﴿ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ﴾؛ بأحوالِهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ ﴾؛ أي من يُوَفِّقْهُ اللهُ لدينهِ بالطاعة فهو المهتدي.
﴿ وَمَن يُضْلِلْ ﴾؛ أي مَن يخذُلْهم عن دينهِ.
﴿ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ ﴾؛ يَهدُونَهم من دون الله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً ﴾؛ عما يسُرُّهم.
﴿ وَبُكْماً ﴾؛ عما ينفعُهم.
﴿ وَصُمّاً ﴾؛ عما يَمنَعُهم. وَقِيْلَ: يُحشَرون في أول الحشرِ عُمياً وبُكماً وصُمّاً على هذه الصفةِ، ثم تزولُ هذه الصفات عنهم فيَرَونَ ويتكلَّمون ويسمعون كما قَالَ اللهُ تَعَالَى:﴿ وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ فَظَنُّوۤاْ ﴾[الكهف: ٥٣] وقال﴿ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾[الفرقان: ١٢] وقال﴿ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ﴾[الفرقان: ١٣].
ويقالُ: إنه لَمْ يُرِدْ بالحشرِ في هذه الآية الحشرَ عن القبرِ، وإنما أرادَ به الحشرَ عن موضعِ الْمُحاسَبَة، فإنَّهم يُسحَبُونَ عن ذلك الموضعِ على وجُوهِهم على هذه الصِّفاتِ. وعن أنسٍ:" أنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: " إنَّ الَّذِي أمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُمْشِيهِ عَلَى وَجْهِهِ " ". وعن أبي هريرةَ قال: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" " يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلاَثَةِ أصْنَافٍ: صِنْفٌ مُشَاةٌ، وَصِنْفٌ رُكْبَانٌ، وَصِنْفٌ عَلَى وُجُوهِهِمْ " قِيْلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: " إنَّ الَّذِي أمْشَاهُمْ عَلَى أرْجُلِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، يَتَّقُونَ بوُجُوهِهِمْ كُلَّ حَدَبٍ وَشَوْكٍ " ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ﴾؛ أي مَصيرُهم إليها. وقولهُ تعالى: ﴿ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ﴾؛ أي كلَّما سَكَنَ لَهبُها من جانبٍ زدنَاها اشْتِعَالاً من جانبٍ آخر، يقالُ للنار اذا سَكَنَ لَهبُها: خَمَدَتْ، فَإذا أُطْفِئَتْ ولَمْ يبقَ فيها شيءٌ من النارِ قِيْلَ: هَمَدَتْ، وقال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ خَبَتْ ﴾ أيْ سَكَنَتْ)، وقال مجاهدُ: (طُفِئَتْ)، وقال قتادةُ: (لاَنَتْ وَضَعُفَتْ)، وقولهُ تعالى: ﴿ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ﴾ أي وَقُوداً. ثم بَيَّنَ اللهُ تعالى لماذا يزدَادُون سَعيراً، فقال تعالى: ﴿ ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا ﴾؛ أي ذلك العذابُ جزاءُ كُفرِهم بدلاَئِلنا، وإنكارِهم للبعثِ، وهو قولُهم: ﴿ وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾؛ في صِغَرِهم وضَعْفِهم، ونظيرُ هذا قوله﴿ ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ ﴾[النازعات: ٢٧] وقولهِ تعالى:﴿ لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ ﴾[غافر: ٥٧] ولأنَّ مَن قَدَرَ على خلقِ الأكبر عُلِمَ أنه قادرٌ على خلقِ الأصغرِ، فإذا قدرَ على خلقِ أمثالهم قدرَ على إعادَتِهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾؛ أي جعلَ لإعادَتِهم وقتاً لا شكَّ فيه أنه كائنٌ.
﴿ فَأَبَىٰ ٱلظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً ﴾؛ جُحوداً مع وضُوحِ الدلالة والحجَجِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ ٱلإِنْفَاقِ وَكَانَ ٱلإنْسَانُ قَتُوراً ﴾؛ جوابٌ لقولِهم:﴿ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً ﴾[الإسراء: ٩٠] المعنى: لو أنتم تَملِكون مقدورات رحمةِ ربي إذاً لأَمسَكْتُم لأنفُسِكم مخافةَ أن يَفْنَى بالإنفاقِ ولا يبقَى لكم، وقوله تعالى: ﴿ خَشْيَةَ ٱلإِنْفَاقِ ﴾، أي خشيةَ الفقرِ والحاجة، وَقِيْلَ: خشيةَ أن يُنفِقُوا فيَفتَقِروا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾؛ أي تِسْعَ دلالاتٍ واضحات، قال ابنُ عبَّاس: (هِيَ الْعَصَا وَاللِّسَانِ، فَإنَّهُ كَانَ فِي لِسَانِهِ عُقْدَةً فَرَفَعَهَا اللهُ، كَمَا قَالَ:﴿ وَٱحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي ﴾[طه: ٢٧ - ٢٨] والْبَحْرُ وَالْيَدُ، وَالآيَاتُ الْخَمْسُ: وَهِيَ الطُّوفَانُ وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ). وقال محمَّد بنُ كعبٍ: (هَذِهِ الْخَمْسُ وَالْعَصَا وَاللِّسَانِ وَانْفِجَارِ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ، وَالطَّمْسِ كَمَا قَالَ﴿ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَالِهِمْ ﴾[يونس: ٨٨].
وَقِيْلَ: هي الخمسُ والعصى ويدهُ والسُّنون ونقصٌ من الثمراتِ. قال محمَّد بن كعبٍ في الطَّمسِ: (كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ مَعَ أهْلِهِ فِي فِرَاشِهِ، وَإذا قَدْ صَارَا حَجَرَيْنَ، وَأنَّ الْمَرْأةَ الْقَائِمَةَ تَخْبزُ وَقَدْ صَارَتْ حَجَراً، وَأنَّ الْمَرْأةَ فِي الْحَمَّامِ وَأنَّهَا لَحَجَرٌ، وَكَانَتْ تَنْقَلِبُ الْفَوَاكِهُ وَالْفُلُوسُ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أحْجَاراً). ورُوي:" أنَّ يَهُودِيّاً قَالَ لِصَاحِبهِ: تَعَالَ حَتَّى نسْأَلَ هَذا النَّبيَّ، فَأَتَيَاهُ فَسَأَلاَهُ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ قَالَ: " لاَ تُشْرِكُواْ باللهِ شَيْئاً، وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَسْرِقُواْ، وَلاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلاَ تَسْحَرُواْ، وَلاَ تَمْشُواْ ببَرِيءٍ إلَى سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلاَ تَقْذِفُواْ الْمُحْصَنَةَ، وَلاَ تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً يَا يَهُودُ أنْ لاَ تَعْدَواْ فِي السَّبْتِ " فَقَبَّلُواْ يَدَهُ وَقَالُواْ: نَشْهَدُ أنَّكَ نَبيٌّ ". قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ ﴾؛ الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمرادُ به غيرهُ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يقعُ له العِلمُ من عندِ الله، فكان لا يحتاجُ في معرفةِ ذلك إلى الرُّجوعِ إلى أهلِ الكتاب، فكأنَّهُ تعالى قال: فاسأل أيها السامعُ وأيها الشَّاكُّ بنَي إسرائيلَ إذ جاءَهم موسى بالبيِّنات، قال ابنُ عباس: (فَاسْأَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ، يَعْنِي الْمُؤمِنِينَ مِنْ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يٰمُوسَىٰ مَسْحُوراً ﴾؛ أي إنِّي لأَظُنُّكَ يا موسى قد سُحِرتَ فلذلك تدَّعي النبوةَ، وَقِيْلَ: هذا مفعولٌ بمعنى فاعلٍ كأنه قالَ: إنِّي لأَظُنكَ ساحراً، وَقِيْلَ: المسحورُ المخدوع.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾؛ أي قالَ موسى لفرعونَ: لقد عَلِمتَ يا فرعون أنَّ هذه الآيات لا تدخلُ في مقدور العبادِ، فلَمْ يُنْزِلها إلا ربُّ السماوات والأرضِ.
﴿ بَصَآئِرَ ﴾؛ أي حُجَجاً للناسِ يُبصَرُونَ بها في أمرِ دينهم.
﴿ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يٰفِرْعَونُ مَثْبُوراً ﴾؛ وإني لأعلَمُ يا فرعون إنَّكَ هالكٌ، يقال: ثَبَرَ الرجلُ فهو مَثْبُورٌ؛ أي هالكٌ، والظنَّ قد يُذكَرُ بمعنى اليقينِ على ما تقدَّمَ. وقرأ الكسائيُّ (لَقَدْ عَلِمْتُ) بضمِّ التاء، وهي قراءةُ عليٍّ (كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ) وقالَ: (وَاللهَ مَا عَلِمَ عَدُوُّ اللهِ، وِلَكِنْ مُوسَى هُوَ الَّذِي عَلِمَ) فبلغَ ذلك ابنَ عبَّاس فقالَ: (إنَّهُ ﴿ لَقَدْ عَلِمْتَ ﴾ تَصْدِيقاً لِقَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا وَٱسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾[النمل: ١٤]). وقراءةُ النصب أصحُّ وأشهر، وليست قراءةُ الضمِّ مشهورةً عن عليٍّ رضي الله عنه ولا ثابتة، وإنما روَاها عنه رجلٌ مجهول لا يُعْرَفُ، ولا تَمسَّكَ بها أحدٌ من القرَّاء غيرَ الكسائيِّ. وقولهُ تعالى: ﴿ مَثْبُوراً ﴾ قال ابنُ عبَّاس: (مَغْلُوباً)، وقال مجاهدُ: (هَالِكاً)، وَقِيْلَ: مُخَبَّلاً لا عقلَ لكَ، وَقِيْلَ: بَعِيداً من الخيراتِ، وَقِيْلَ: سِلاَخاً في القطيفةِ، قال مجاهدُ: (دَخَلَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَرَأى فِرْعَوْنُ ثُعْبَاناً فَفَزِعَ وَأحْدَثَ فِي الْقَطِيفَةِ). وروَى أبو سعيدٍ الجوهريُّ قال: (كُنْتُ قَائِماً عَلَى رَأسِ الْمَأْمُونِ وَهُوَ يُنَاظِرُ رَجُلاً وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَثْبُورُ، ثُمَّ أقْبَلَ إلَيَّ فَقَالَ: مَا مَعْنَى (مَثْبُوراً)؟ قُلْتُ: لاَ أدْرِي، فَقَالَ: حَدَّثَنِي الرَّشِيدُ قَالَ: حَدَّثَنِي الْمَهْدِي قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ أمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُور، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ لِرَجُلٍ: يَا مَثْبُورُ، فَقُلْتُ: يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا مَعْنَى يَا مَثْبُورُ؟ قَالَ مَيْمُونُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (يَا فِرْعَوْنَ مَثْبُوراً) مَا مَثْبُوراً؟ قَالَ: نَاقِصُ الْعَقْلِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي فأرادَ فرعونُ أن يُزعِجَ بني إسرائيلَ، ويُخرِجَهم من أرضِ مصرَ قَهْراً. والاسْتِفْزَازُ: هو الخوفُ بالشدِّة، ويجوز أن يكون المرادُ به أنه قصَدَ قَتلَهم.
﴿ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً ﴾؛ أي أمَرْنا موسى وقومَهُ بالخروجِ من مصرَ، فتَبعَهُ فرعونُ وقومهُ، فجعلنَا في الماءِ طريقاً يَابساً، فجاوزَ موسى وقومهُ البحرَ، فَتَبعَهُمْ فرعونُ وقومهُ، فأطبَقنا الماءَ عليهم حتى غَرِقوا كلُّهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ ﴾؛ من بعدِ هلاك فرعون.
﴿ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ٱسْكُنُواْ ٱلأَرْضَ ﴾؛ الشَّامَ وأرضَ مصرَ، وأورثَ بني إسرائيلَ مساكِنَهم وديارَهم، وفي هذا تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه يفعلُ به وبالمشركين ما فعلَ بموسَى وعدُوِّهِ، فأظهرَ اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على المشركين، ورَدَّهُ إلى مكَّةَ ظَافراً عليها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ﴾؛ يعني يومَ القيامةِ جِئنَا بكم جَميعاً؛ أي أتَينا بكم مِن كلِّ قبيلةٍ، واللَّفِيفُ: الجماعاتُ من قبائلَ شتَّى، وَقِيْلَ: جئنا بكم مُختَلِطِينَ لا تتعارَفُون، والمعنى: جِئنا بكم من قُبورِكم إلى الْمَحْشَرِ أخلاطاً، يعني جميعَ الخلقِ، المسلمَ والكافرَ والبَرَّ والفاجرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ ﴾؛ يعني القرآنَ، ويجوز أن تكون الهاءُ كنايةً عن جبريلَ، فإن اللهَ أنزلَهُ بالقرآنِ، ونزَلَ هو به. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً ﴾؛ أي بَشيراً لِمَن أطاعَ بالجنَّة، ومخوِّفاً بالنُّذُر للكفارِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ ﴾؛ معناه: وأنزَلنا قُرآناً فرَّقناهُ شيئاً بعد شيءٍ، فإنه كان ينْزِلُ منه شيءٌ، ثم يَمكثُون ما شاءَ اللهُ، ثم ينْزِلُ منه شيءٌ آخر، وكان بين أوَّلهِ وآخرهِ عشرون سَنة. وقولهُ تعالى: ﴿ لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ ﴾؛ أي على تَثَبُّتٍ وتوقُّفٍ ليَفهموهُ بالتأمُّلِ، ويعمَلُوا ما فيه بالتفكُّرِ، وهو معنى قولهِ تعالى﴿ وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾[المزمل: ٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً ﴾؛ تَأكيداً لأَنزلنَاهُ مرَّةً بعدَ مرةٍ لعِظَمِ شأنهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ ﴾؛ أي قُل يا مُحَمَّدُ لأهلِ مكَّة: آمِنوا بالقرآنِ أو لا تُؤمِنُوا، وهذا وعيدٌ لَهم؛ أي إنْ آمَنتُم وإنْ لَم تُؤمِنُوا، فاللهُ غنِيٌّ عنكم وعن إيمانِكم، وإيمانُكم لا ينفعُ غيرَكم، وكفرُكم لا يضرُّ سِوَاكُم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ ﴾؛ أي مِن قبلِ نُزولِ القرآن، والمرادُ بهم مُؤمِنوا أهلِ الكتاب.
﴿ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ﴾؛ القرآنُ.
﴿ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ ﴾؛ أي يقَعُون على وجُوهِهم ﴿ سُجَّداً ﴾؛ لله، والمرادُ بالأذقانِ الوجوهَ، كذا قال ابنُ عبَّاس.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾؛ أي يقولُون في سُجودِهم: تَنْزيهاً للهِ عما لا يليقُ به، وقد كان وعدُ ربنا كَائناً لا محالةَ. وهؤلاءِ الذين سجدوا كانوا يسمَعُون أنَّ اللهَ يبعثُ نَبيّاً من العرب وينَزِّلُ عليه كِتَاباً، فلما سَمعوا القرآنَ سَجَدوا للهِ وحمدوه على إنجازِ الوعدِ ببعثِ الرسولِ والكتاب، وقالوا: قد كان وعدُ ربنا مَفعُولاً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ﴾؛ أي يسقُطون على الوجوهِ يَبْكُونَ في السُّجودِ.
﴿ وَيَزِيدُهُمْ ﴾؛ البكاءُ في السُّجودِ.
﴿ خُشُوعاً ﴾؛ إلى خُشوعِهم؛ لأن مخافَتهم الله داعيةٌ إلى طاعتهِ، والإخلاصِ في عبادتهِ. وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ البكاءَ في الصَّلاةِ من خوفِ الله لا يقطعُ الصلاةَ؛ لأن اللهَ مدَحَهم عليه." وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم " أنَّهُ كَانَ يُصَلِّي، فَيُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أزيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنَ الْبُكَاءِ " "وعن عبدِالله بن شدَّاد قالَ: (كُنْتُ أُصَلّي خَلْفَ عُمَرَ رضي الله عنه صَلاَةَ الصُّبْحِ، وَكَانَ يَقْرَأُ سُورَةَ يُوسُفَ حَتَّى إذا بَلَغَ﴿ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى ٱللَّهِ ﴾[يوسف: ٨٦] سَمِعْتُ نَشِيجَهُ، وَأَنَا فِي آخِرِ الصُّفُوفِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ ﴾؛ فقالَ ابنُ عبَّاس: (تَهَجَّدَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ لَيْلَةٍ بمَكَّةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ في سجودهِ: " يَا اللهُ يَا رَحْمَنُ ". فَقَالَ أبُو جَهْلٍ: إنَّ مُحَمَّداً يَنْهَانَا أنْ نَعْبُدَ الَهَيْنِ وَهُوَ يَدْعُو إلَهاً آخَرَ مَعَ اللهِ يُقَالُ لَهُ الرَّحْمَنُ! وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ الرَّحْمَنَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). ومعناها: قل يا مُحَمَّدُ: أُدعوا اللهَ يا معشرَ المؤمنين، أو ادعُو الرَّحْمَنَ، إنْ شِئتُم فقُولُوا: يا رَحْمَنُ، وإنْ شِئتُم فقولوا: يَا اللهُ يا رَحْمَنُ؛ ﴿ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ ﴾؛ أيُّ أسماءِ الله تدعوهُ بها.
﴿ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾؛ فأسْماؤهُ كلُّها حَسنةٌ فادعوهُ بصفاتهِ. وقوله تعالى: ﴿ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ ﴾ قال بعضُهم: (مَا) في هذا صِلَةٌ، ومعناها التأكيدُ، تقديرهُ: أيّاً تدعون، ومِثلهُ: عمَّا قليلٍ، وخُذ مَا هُنالِكَ، و﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ ﴾[آل عمران: ١٥٩].
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (نَزَلَتْ بمَكَّةَ، كَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا صَلَّى بأَصْحَابهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بالْقُرْآنِ، فَإذا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بهِ، وَلَعِبُوا وَصَفَّقُوا وَصَفَّرُواْ وَلَغَطُوْا، كُلُّ ذلِكَ لِيُغْلِطُوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَكَانُوا بهِ يُؤْذُونَهُ، وَإذا خَافَتَ بالْقِرَاءَةِ لَمْ يَسْمَعْهُ أصْحَابُهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). أي لا تجهَرْ بقِراءَتِكَ في الصَّلاةِ فيسمَعُها المشركون فيُؤذونَكَ، وَلاَ تُخَافِتْ بهَا فلا يسمعُها أصحابُكَ. وقال الحسنُ: (مَعْنَاهُ: وَلاَ تَجْهَرْ بِقِرَاءَتِكَ فِي الصَّلاَةِ كُلِّهَا وَلاَ تُخَافِتْ بهَا فِي الصَّلاَةِ كُلِّهَا، وَلَكِنِ اجْهَرْ بهَا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ، وَخَافِتْ بهَا فِي بَعْضِ الصَّلَوَاتِ)." وَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أبَا بَكْرٍ عَنْ قِراءَتِهِ باللَّيْلِ، فَقَالَ: أُخَافِتُ بهَا كَيْ لاَ أُؤْذِي جَاري، أُنَاجِي رَبي وَقَدْ عَلِمَ بحَاجَتِي، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم " أحْسَنْتَ " وَسَأَلَ عُمَرَ رضي الله عنه عَنْ قِرَاءَتِهِ باللَّيْلِ فَقَالَ: أرْفَعُ صَوْتِي أُوْقِظُ الْوَسْنَانَ وَأطْرُدُ الشَّيْطَانَ، فَقَالَ: " أحْسَنْتَ " فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ لأبي بكر: " زدْ فِي صَوْتِكَ " وقال لعُمر: " انْقُصْ مِنْ صَوْتِكَ " "﴿ وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً ﴾.
وعن ابن عباس أن معنى الآية: (لاَ تُصَلِّ مُرَاءَاةً لِلنَّاسِ وَلاَ تَدَعَهَا مَخَافَةً لِلنَّاسِ)." وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أحسنِ الناس قراءةً؟ فقال: " الَّذِي إذا سَمِعْتَ قِرَاءَتَهُ رَأيْتَ أنَّهُ يَخْشَى اللهَ تَعَالَى " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ﴾؛ فيرثه؛ ﴿ وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ ﴾؛ يعاونه عليه.
﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ ٱلذُّلِّ ﴾؛ أي من أهل الذل وهم اليهود والنصارى، يودون إخراج رؤوسهم ويقولون: نحن أبناء الله وأحباؤه. وقال مجاهد: (مَعْنَاهُ: لَمْ يُحَالِفْ، وَلَمْ يَبْتَغِ نَصْرَ أحَدٍ) والمعنى أنه عَزَّ وَجَلَّ لا يحتاج إلى موالاة أحد لذل يلحقه فهو مستغن عن الولي والنصير، وقوله تعالى: ﴿ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ﴾؛ أي عظِّمهُ عظمَةً تامة عن أن يكون له شريك أو ولي وصِفْهُ بأنه أكبر من كل شيء، وأنه القادر الذي لا يُعجِزهُ شيءٌ، العالِمُ الذي لا يخفى عليه شيء، الغنيُّ عن كل شيء. معتقداً لذلك بقلبك، عاملاً على أمره فيما أمركَ. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم" أَنَّهُ كَانَ إذا أفْصَحَ الْوَلَدُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَّمَهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً... ﴾ الآية ". وروي" أنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنِّي كَثِيرُ الدَّينِ كَثِيرُ الْهَمِّ، فَقَالَ: " إقْرَأ آخِرَ سُورَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ ﴿ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ... ﴾ إلَى آخِرِ السُّورَةِ، ثُمَّ قُلْ: تَوَكَّلْتُ عَلَى الَّذِي لاَ يَمُوتُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ " ". وعن ابن عباس أنه قال: ((مَنْ قَرَأ سُورَةَ بَنِي إسْرَائِيلَ فِي سَفَرٍ أوْ حَضَرٍ إيْمَاناً وَاحْتِسَاباً ضَرَبَ اللهُ عَلَيْهِ سُوراً مِنْ حَدِيدٍ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرْقِ وَالْبَرْقِ)). وعن عبدِالحميد أنه قال: ((مَنْ قَرَأ آخِرِ بَنِي إسْرَائِيلَ، كَتَبَ اللهُ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَالأَرْضِينَ السَّبْعِ، وَالْبحَارِ وَالْجِبَالِ)).
Icon