ﰡ
وقيل : مضاف إلى المذكور أي لتذكروني بها، واللام على هذا لام التعليل، وقيل : هي اللام الوقتية، أي أقم الصلاة عند ذكري كقوله :﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس ﴾ [ الإسراء : ٧٨ ] وقوله تعالى :﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ﴾ [ الأنبياء : ٤٧ ].
وهذا المعنى يراد بالآية، لكن تفسيرها به على أنه معناها فيه نظر، لأن هذه اللام الوقتية بابها أسماء الزمان والظروف.
والذكر : مصدر، إلا أن يقدر زمان محذوف، أي عند وقت ذكري، وهذا محتمل.
والأظهر : أنها لام التعليل، أي أقم الصلاة لأجل ذكري، ويلزم من هذا أن تكون إقامتها عند ذكره، وإذا ذكر العبد ربه، فذكر الله سابق على ذكره، فإنه لما ذكره ألهمه ذكره. فالمعاني الثلاثة حق.
والواقف مع القالب ربما يخيل إليه : أن الجوع يقابل بالظمأ، والعرى بالضحى، والداخل إلى بلد الفقه عن الله : يرى هذا الكلام في أعلى الفصاحة والجلالة لأن الجوع ألم الباطن، والعرى ألم الظاهر، فهما متناسبان في المعنى، وكذلك الظمأ مع الضحى، لأن الظمأ موجب لحرارة الباطن، والضحى موجب لحرارة الظاهر فاقتضت الآية نفي جميع الآفات ظاهرا وباطنا.
وأحسن من هذا الوجه : أن يقال : الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء لا إضافة المصادر إلى معمولاتها.
والمعنى : ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكرا، قال تعالى :﴿ وهذا ذكر مبارك أنزلناه ﴾ [ الأنبياء : ٥٠ ] وقال تعالى :﴿ ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ﴾ [ آل عمران : ٥٨ ] وقال تعالى :﴿ وما هو إلا ذكر للعالمين ﴾ [ القلم : ٥٢ ] وقال تعالى :﴿ إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز ﴾ [ فصلت : ٤١ ] وقال تعالى :﴿ إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ﴾ [ يس : ١١ ] وأمثالها كثير.
فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله ونظيره في إضافة اسم الفاعل قوله :﴿ غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ﴾ [ غافر : ٣ ] فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد، وإنما قصد بها قصد الوصف الثابت اللازم، ولذلك جرت أوصافا على أعرف المعارف، وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى :﴿ تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير ﴾ [ غافر : ٢. ٣ ].
فصل
تفسير قوله تعالى :﴿ فإن له معيشة ضنكا ﴾ [ طه : ١٢٤ ] فسره غير واحد من السلف بعذاب القبر، وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر، ولهذا قال :﴿ ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ [ طه : ١٢٤. ١٢٦ ] أي تترك في العذاب، كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار.
ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون :﴿ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ﴾ [ غافر : ٤٦ ] فهذا في البرزخ، ﴿ ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ﴾ [ غافر : ٤٦ ] فهذا في القيامة الكبرى.
ونظيره قوله تعالى :﴿ ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون ﴾ [ الأنعام : ٩٣ ] فقول الملائكة ﴿ اليوم تجزون عذاب الهون ﴾ المراد به : عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت.
ونظيره قوله تعالى :﴿ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق ﴾ [ الأنفال : ٥٠ ] فهذه الإذاقة هي في البرزخ. وأولها حين الوفاة فإنه معطوف على قوله :﴿ يضربون وجوههم وأدبارهم ﴾ وهو من القول المحذوف مقوله لدلالة الكلام عليه. كنظائره. وكلاهما واقع وقت الوفاة، وفي «الصحيح » عن البراء ابن عازب رضي الله عنه في قوله تعالى :﴿ يثبت الله الذين امنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ﴾ [ إبراهيم : ٢٧ ] قال :«نزلت في عذاب القبر » والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر.
والمقصود : أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره - وهو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى - فإن له معيشة ضنكا. وتكفل لمن حفظ عهده أن يحييه حياة طيبة، ويجزيه أجره في الآخرة. فقال تعالى :﴿ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ﴾ [ النحل : ٩٧ ].
فاخبر سبحانه عن فلاح ما تمسك بعهده علما وعملا في العاجلة بالحياة الطيبة وفي الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ ونسيانه في العذاب بالآخرة.
وقال سبحانه :﴿ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين * وأنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون ﴾ [ الزخرف : ٣٦. ٣٧ ] فأخبر سبحانه أن من ابتلاه بقرينه من الشياطين وضلاله به إنما كان بسبب إعراضه وعشوه عن ذكره الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم. فكان عقوبة هذا الإعراض أن قيض له شيطانا يقارنه، فيصده عن سبيل ربه، وطريق فلاحه. وهو يحسب انه مهتد، حتى إذا وافى ربه يوم القيامة مع قرينه، وعاين هلاكه وإفلاسه.
قال تعالى :﴿ يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين ﴾ [ الزخرف : ٣٨ ] وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة.
فإن قيل : فهل لهذا عذر في ضلالة ؟ إذا كان يحسب انه على هدى، كما قال تعالى :﴿ ويحسبون أنهم مهتدون ﴾ [ الأعراف : ٣٠ ].
قيل : لا عذر لهذا ولا لأمثاله من الضلال الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به صلى الله عليه وسلم. ولو ظن أنه مهتد. فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أتى من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها. فذاك له حكم آخر. والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول.
وأما الثاني : فإن الله لا يعذب أحدا إلا بعد إقامة الحجة عليه، كما قال تعالى :﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ﴾ [ الإسراء : ١٥ ] وقال تعالى :﴿ رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ﴾ [ النساء : ١٦٥ ] وقال تعالى في أهل النار :﴿ وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ﴾ [ الزخرف : ٧٦ ] وقال تعالى :﴿ أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين * أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين * أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين * بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين ﴾ [ الزمر : ٥٦. ٥٩ ] وهذا كثير في القرآن.
فصل
اختلف فيه : هل هو من عمي البصيرة، أو من عمي البصر ؟ والذين قالوا : هو من عمي البصيرة إنما حملهم على ذلك قوله ﴿ اسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ﴾ [ مريم : ٣٨ ] وقوله :﴿ لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ﴾ [ ق : ٢٢ ] وقوله :﴿ يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ﴾ [ الفرقان : ٢٢ ] وقوله :﴿ لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين ﴾ [ التكاثر : ٦. ٧ ] ونظائر هذا مما أثبت لهم الرؤية في الآخرة. كقوله تعالى :﴿ وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي ﴾ [ الشورى : ٤٥ ] وقوله :﴿ يوم يدعون إلى نار جهنم دعا * هذه النار التي كنتم بها تكذبون * أفسحر هذا أم انتم لا تبصرون ﴾ [ الطور : ١٣. ١٥ ] وقوله :﴿ ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ﴾ [ الكهف : ٥٣ ].
والذين رجحوا أنه من عمى البصر قالوا : السياق لا يدل إلا عليه. لقوله تعالى :﴿ قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا ﴾ [ طه : ١٢٥ ] وهو لم يكن بصيرا في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ انه كان في الدنيا في عمى عن الحق، فكيف يقول : وقد كنت بصيرا ؟
وكيف يجاب بقوله :﴿ كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ﴾ [ طه : ١٢٦ ] بل هذا الجواب فيه تنبيه على انه من عمي البصر، وانه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وعميت عنه بصيرته : أعمى الله بصره يوم القيامة. وتركه في العذاب، كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمي بصيرته عمي بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره تركه في العذاب. وقال تعالى :﴿ ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ].
وقد قيل في هذه الآية أيضا : إنهم عمي وبكم وصم عن الهدى، كما قيل في قوله :﴿ ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾، قالوا : لأنهم يتكلمون يومئذ ويسمعون ويبصرون.
ومن نصر أنه العمى والبكم والصمم المضاد للبصر والسمع والنطق قال بعضهم : هو عمى وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهم عمي عن رؤية ما يسرهم وسماعه. ولهذا قد روى ابن عباس رضي الله عنهما : قال :«لا يرون شيئا يسرهم ».
وقال آخرون : هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة يخرجون من الدنيا كذلك فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروى عن الحسن رحمه الله.
وقال آخرون : هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها سلبوا الأسماع والأبصار والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى :﴿ اخسئوا فيها ولا تكلمون ﴾ [ المؤمنون : ١٠٨ ]، فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم، فيصيرون بأجماعهم عميا بكما صما لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون، ولا يسمع منهم إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل.
والذين قالوا : المراد به العمى عن الحجة إنما مرادهم : أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم حجة هم عُمي عنها، بل هم عمي عن الهدى، كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه.
وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمي البصر. فإن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عيانا، ويقر بما كان يجحده في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ.
وفصل الخطاب : أن الحشر هو الضم والجمع، ويراد به تارة : الحشر إلى موقف القيامة. كقول النبي صلى الله عليه وسلم :«إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا » وكقوله تعالى :﴿ وإذا الوحوش حشرت ﴾ [ التكوير : ٥ ] وكقوله تعالى :﴿ وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ﴾ [ الكهف : ٤٧ ] ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر. فحشر المتقين : جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين : جمعهم وضمهم إلى النار، قال تعالى :﴿ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ﴾ [ مريم : ٨٥ ] وقال تعالى :﴿ احشروا الذين ظلموا أزواجهم وما كانوا يعبدون * من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم ﴾ [ الصافات : ٢٢. ٢٣ ] فهذا الحشر هو بعد حشرهم إلى الموقف، وهو حشرهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا :﴿ يا ويلنا هذا يوم الدين * هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون ﴾ [ الصافات : ٢٠. ٢١ ] ثم قال تعالى :﴿ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ﴾ [ الصافات : ٢٢ ] وهذا الحشر الثاني.
وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف، والحشر الثاني من الموقف إلى النار، فعند الحشر الأول : يسمعون ويبصرون، ويجادلون، ويتكلمون وعند الحشر الثاني : يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما. فلكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى، وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضا كقوله تعالى :﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾ [ النساء : ٨٦ ].