ﰡ
[الجزء التاسع]
٢١- سورة الأنبياءنزولها: مكية.. بلا خلاف.
عدد آياتها: مائة واثنتا عشرة آية.
عدد كلماتها: ألف ومائة وثمان وستون كلمة.
عدد حروفها: أربعة آلاف وثمانمائة وسبعون حرفا.
وسميت سورة الأنبياء لكثرة من ذكر فيها من الأنبياء.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (١- ٩) [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١ الى ٩]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩)
مناسبة هذه السورة لما قبلها: ختمت سورة طه بالتنديد بالمشركين من أهل مكة، وبمشاقّتهم لرسول الله، وتأبّيهم على الهدى الذي يدعوهم إليه، ثم إنهم وقد بعث الله فيهم رسولا بلّغهم رسالة ربّه، فلا حجة لهم على الله، إذا أخذهم بعذابه، ولا سبيل لهم إلى أن يقولوا: «رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى».. ثم تختم السورة بهذا النذير المطلّ عليهم، وقد تركوا بمنقطع الطريق، بعيدين عن أن يضعوا أقدامهم على طريق الهدى:
«قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى».
وفى مفتتح هذه السورة- سورة الأنبياء- تطلّ على المشركين نذر هذا اليوم، وهم على موعد معه، وإن كانوا فى غفلة وذهول عنه.. «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ»..
قوله تعالى:
«اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ».
الناس هنا، هم هؤلاء المشركون، من أهل مكة، ثم يدخل معهم كلّ الناس، الذين غفلوا عن ذكر الله، وعن العمل ليوم الجزاء..
وفى النظم القرآنى «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» وفى الخروج به عن مألوف النظم، وهو: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ» - فى هذا توكيد لحسابهم، وشدّهم به شدّا وثيقا لا يفلتون منه.. وشتان بين النظمين: اقترب للناس حسابهم..
واقترب حساب الناس..!
والغفلة قد تكون لأمر عارض، بحيث إذا نبّه الإنسان تنبه، وإذا دعى أجاب.. ولكن غفلة هؤلاء القوم، غفلة مستولية عليهم، آخذة بكل حواسّهم ومدركاتهم: «وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً» حيث أنهم مع هذه الغفلة المستولية عليهم- بعيدون عن دعوات التنبيه، لا يلقونها إلا من وراء ظهورهم.. فهم عنها معرضون..
«ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ»..
هكذا شأن هؤلاء الغافلين.. تطرق أسماعهم دعوات متتابعة، مجدّدة، تجيئهم من كل جانب، وتطلع عليهم من كل أفق.. ومع هذا فهم على ما هم عليه، من غفلة، ولهو، وعبث..
والذّكر المحدث، هو ما يتنزل من آيات الله، حالا بعد حال، ويتجدّد زمنا بعد زمن.. وهؤلاء المشركون الغافلون على حال واحدة، مع كل ما ينزل من آيات الله يسمعونها بآذان لا تصغى إلى حق، وبقلوب لا تتفتح لقبول خير..
«وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ»..
النجوى: التناجي فيما بينهم..
وإسرار النجوى: مبالغتهم فى إخفاء ما تناجوا به من منكر القول، حتى يحكموا كيدهم، ويصلوا إلى رأى يجتمعون عليه، ثم يطلعون على الناس به.. إنهم
- وقوله تعالى: «الَّذِينَ ظَلَمُوا» هو بدل من الضمير فى «أَسَرُّوا».. أي أن هؤلاء الذين أسرّوا النجوى، هم ظالمون، قد ظلموا أنفسهم بعزلها عن موارد الهدى، وقطعها عن مناهل الخير..
- وقوله تعالى: «هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» هو بيان لما تناجى به القوم، وأتمروا فيما بينهم على اصطياده، من واردات أوهامهم، وضلالاتهم.. «هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» ؟ وإذا كان بشرا مثلنا فكيف يكون له هذا المكان الذي يطلّ عليكم منه، من هذا العالم العلوىّ؟
«أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ» ؟ وإذا فكيف نقبل على أنفسنا أن نجىء إلى هذا الخداع ونحن نراه رأى العين؟
وهل يليق بعاقل أن يرى من يدعوه إلى ختله، ولا يحتيال عليه، ثم يأتيه طائعا؟ هكذا يريدون هذا اللّغو، ويسمرون به! قوله تعالى:
«قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».
قرىء: «قل ربى يعلم القول فى السماء والأرض».
وعلى كلتا القراءتين، فإن الآية ردّ على ما تناجى به المشركون وأسرّوه..
حتى إذا أحكموا نسجه، أعلنوه فى هذا القول المنكر: «هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.. أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ».. وأن الله سبحانه يعلم ما أسروا وما أعلنوا، فهو سبحانه يعلم كل ما يقال فى السماء والأرض، وهو «السَّمِيعُ» الذي يسمع نجوى القلوب، «الْعَلِيمُ» الذي يعلم ما تكنّ الضمائر.. «وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ» (١٣: الملك).
«بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ.. بَلِ افْتَراهُ.. بَلْ هُوَ شاعِرٌ.. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ».
هو فضح لما تناجى به القوم، وكان مما جرى به الحديث بينهم.. فقالوا فيما قالوه عن القرآن الكريم: هو «أَضْغاثُ أَحْلامٍ» أي أخلاط أحلام، وهلوسة نائم، معتلّ المزاج، مخبول العقل.. وإذ لم يرتض بعضهم هذا القول ردّوه، وقالوا: «بَلْ هُوَ شاعِرٌ» أي من واردات الشعر، ومن نسج أخيلته..
وإذ لم يرض بعضهم هذا القول أو ذاك قالوا: «فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ» أي يدع محاجّته فى هذا الكلام الذي يلقيه علينا، ويقول عنه إنه معجزته التي يقدّمها بين يدى رسالته، وليأتنا بمعجزة غير كلامية، فإن مجال الكلام متّسع لكل قائل.. فإن كان رسولا من عند الله، كما يدّعى، فلم لم يأت بمعجزة نراها، كناقة صالح، وعصا موسى، ويد عيسى؟ عندئذ يمكن أن يكون له وجه يلقانا به على طريق دعوته، ويكون لنا يظر فيما يدّعيه..!
فانظر إلى كلمات الله، وقد أمسكت بالقوم وهم على مسرح الجريمة، ثم أخذت ما جرى على لسان كل ذى قول قاله فى هذا المجلس الآثم..
«قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ.. بَلِ افْتَراهُ.. بَلْ هُوَ شاعِرٌ.. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ».
لقد ذهب كل فريق منهم بقول من هذه الأقوال..!
وقد نسبت كل مقولة إليهم جميعا.. إذ كانوا كلهم شركاء فيما قيل..
فالمتكلم والسامع جميعا، شركاء فيه.
قوله تعالى:
«ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها.. أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ».
فهل آمن أهل القرى الذين جاءتهم تلك المعجزات؟ لقد كفروا بتلك الآيات، فأهلكهم الله.. وهل شأن هؤلاء المشركين غير شأن من سبقهم؟
إنهم لو جاءتهم آية كتلك الآيات لن يؤمنوا، ولن ينجوا من هذا المصير الذي صار إليه المكذبون قبلهم.. أفليس من الضلال إذن أن يستعجلوا ما فيه هلاكهم؟.
قوله تعالى:
«وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ.. فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ».
إنهم ينكرون أن يكون رسول الله بشرا مثلهم.. فعلى أيّة صورة يكون الرسول المبعوث من الله إليهم؟
ولم يكون رسولهم غير بشر، ورسل الله كلهم كانوا من البشر، ومن بين أقوامهم؟ إن لم يعلموا هذا فليسألوا أهل العلم، الذين لا تخفى عليهم هذه الحقيقة السافرة.
وقيل إن «أَهْلَ الذِّكْرِ» هنا، هم أهل الكتاب، من اليهود والنصارى.
والأولى أن يكون «أَهْلَ الذِّكْرِ» هم كلّ من عنده علم بهذا، سواء أكان من أهل الكتاب أم من غيرهم..
قوله تعالى:
«وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ».
فهم مثل سائر البشر، تحكمهم ضرورات البشرية.. يأكلون، ويشربون وينامون، ويفرحون، ويحزنون. ثم يموتون..
والجسد: هو المادة المتجسّدة. والرسل مادة متجسدة، وليسوا من عالم الملائكة النورانى الشفاف..
قوله تعالى:
«ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ».
ذلك ما لرسل الله عند الله.. إنهم على وعد الله لهم بالنصر، هم ومن اتبعهم من المؤمنين وقد صدقهم الله وعده، فأنجاهم وأنجى من آمن بالله من أقوامهم، ممن شاء الله لهم الهدى.. فمن شاء الله لهم الهدى اهتدوا، فلم يصبهم شىء مما يحلّ بالمكذبين الضالين من أقوامهم، من هلاك وعذاب..
الآيات: (١٠- ١٨) [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠ الى ١٨]
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤)
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨)
قوله تعالى:
«لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ».
فى هذه الآية تنويه بالأمة العربية، ورفع لقدرها، باختيارها من بين الأمم لتكون الوجه الذي تلتقى به رسالة الإسلام، والراية التي يجتمع عليها الداخلون فى دين الله، وليكون لسانها هو اللسان الذي يحمل كلمات الله، ويكتب له الخلود بخلودها.
وفى قوله تعالى: «لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً» إشارة إلى أن هذا الكتاب الذي أنزله الله على رسوله الكريم هو منزل كذلك على قومه العرب..
فالرسول منهم، والكتاب المنزل عليه هو كتابهم، ومنزل إليهم.. وإذ كان هذا هو الحال، فإن من الخسران لهم أن يتخلّوا عن هذا الخير الذي ساقه الله إليهم، واختصّهم به، وإنهم إذا لم يبادروا ويأخذوا حظهم من هذا الخير، أو شك أن يفلت من أيديهم، ويعدل عنهم إلى غيرهم، كما يقول سبحانه:
«وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ.. ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ» (٣٨: محمد) وفى تنكير الكتاب، تعظيم له، ورفع لقدره، وأنه أعرف من أن يعرّف بأداة تعريف.. فهو بهذا التنكير علم لا يشاركه غيره فى هذا الاسم.
وفى قوله تعالى: «فِيهِ ذِكْرُكُمْ» تحريض العرب على أن ينشدوا الهدى من هذا الكتاب، ويستظلوا بظله، ففى هذا عزّهم، ومجدهم، وخلود ذكرهم فى العالمين..
فالعرب- كما فى المأثور- هم: «مادّة الإسلام».. وبجهادهم فى سبيل الله امتدّ ظلّ الإسلام، واتسعت رقعته، ورفرفت أعلامه فى كل أفق من آفاق الدنيا..
وفى قوله تعالى: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» نخسة رقيقة، تدعو هؤلاء القوم، وتدفع بهم دفعا إلى أخذ حظهم من الكتاب المنزل إليهم.. إنها غمزة حبّ، وإغراء، ودفعة من يد كريمة رحيمة ودود!! قوله تعالى:
«وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ».
هو تعريض بأهل القرية «مكة»، وتهديد لهم بأن يسلكوا فى عداد القرى الظالمة التي قصمها الله، أي أهلكها، وقطع دابرها.. ثم أقام مكانهم «قَوْماً آخَرِينَ». والقصم: القطع الحاسم، وهو أشد من القضم.
قوله تعالى:
«فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ».
البأس: العذاب، والبلاء.
أي فلما أراد الله أن يأخذ الظالمين بظلمهم، ساق إليهم بأسه وعذابه..
فلما استشعروا وقوع العذاب بهم، بما طلع عليهم من مقدماته ونذره، ذعروا، وأخذوا يركضون، أي يجرون مسرعين فى فزع واضطراب، فرارا من تلك
قوله تعالى:
«لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ».
هذا هو صوت الحال ينادبهم: إلى أين؟ قفوا حيث أنتم، ولا تركضوا كركض الحمر المستنفرة.. إنكم لن تفلتوا من هذا البلاء النازل بكم..
ولمن تتركون دياركم وما حشدتم فيها من متاع، وما جلبتم إليها من متع؟.
وكيف تتركون هذا الذي أنتم فيه من ترف ونعيم؟ ارجعوا.. أفتذهبون وتتركون هذا الذي أذهبتم حياتكم، واستهلكتم أعماركم فى إعداده وجمعه؟
ارجعوا، ولو كان فى ذلك هلاككم.. إن السفينة لتغرق ويغرق معها كل شىء لكم.. فما حياتكم بعد هذا؟
وفى قوله تعالى: «وَمَساكِنِكُمْ» إشارة إلى ما للوطن، والسّكن، من مكان مكين فى قلب الإنسان.. وأنه شىء أحبّ وآثر من كل ما يحرص الإنسان عليه، وأن نعيم الإنسان لا يجتمع إلا فيه، ولا يتمّ إلا به.. وإن الغريب الذي لا وطن له ولا سكن، هو إنسان ضائع شقىّ، وإن طعم أطيب المطاعم، ولبس أفخر الملابس، ونزل أحسن المنازل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» (٦٦: النساء).
فجاء هنا الخروج من الديار، معادلا لقتل النفس! وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» استهزاء بهم، وسخرية من مشاعرهم
فهم مسئولون لا محالة عما كانوا فيه من ضلال، واستغراق فى الترف الذي أذهلهم عن النظر فى أنفسهم، وطلب النجاة قبل وقوع البلاء بهم.. وقد جاء الإخبار بسؤالهم فى صورة الرجاء، الذي يمكن أن يقع أو لا يقع، وذلك لتتحرك فى صدورهم مشاعر الأمل فى النجاة، ثم إذا هم تحت ضربات البلاء، وقد أحاط بهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم.. فيالخيبة الأمل! لقد برقت بوارقه، ثم انطفأت، فإذا هم فى ظلمات يعمهون.
قوله تعالى:
«قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ».
وهكذا أصبحوا وجها لوجه مع عذاب الله النازل بهم، لا يملكون معه إلا التّنادى بالويل، وإلا أن يندبوا حظهم المنكود، ويرجعوا على أنفسهم باللائمة والندم، ولات ساعة مندم! وهكذا تظل تتعالى صيحاتهم، ويتعاوى صراخهم، إلى أن تخمد أنفاسهم، ويصبحوا جثثا هامدة، كحصاد هشيم، تذروه الرياح.
قوله تعالى:
«وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ».
أي أن الله سبحانه وتعالى ما خلق شيئا عبثا ولهوا.. فالسماء والأرض وما بينهما من كائنات وعوالم، إنما خلقت لحكمة مرادة لله سبحانه وتعالى، ولقصد حكيم قصده من خلقها..
وكذلك الناس، لم يخلقوا عبثا، وإنما خلقوا ليعمروا الأرض، ويعبدوا
قوله تعالى:
«لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ».
هو توكيد، لما تضمنته الآية السّابقة، من أن خلق المخلوقات، علوها وسفلها، ناطقها، وصامتها، لم يكن للهو والعبث، وإنما كان خلقا قائما على ميزان الحكمة والتقدير.. وأنه سبحانه لو أراد أن يتخذ لهوا لا تخذه من لدنه أي من ذاته، أو لأقام له فى الملأ الأعلى مسرحا للهو، ولم يقمه على هذه الأرض.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
ويجوز أن تكون «أَنْ» هنا نافية بمعنى «ما» أي ما كنا فاعلين ذلك.. تعالت عن ذلك حكمتنا.
قوله تعالى:
«بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ.. وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ».
القذف: إلقاء الشيء، ورميه بقوة وشدة..
والدمغ: وسم الشيء بسمة تغيّر معالمه.. والزاهق: الهالك، والضائع.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يضرب الباطل بالحق، ويدمغه به، فإذا هو زاهق، أي ذاهب ومنهزم..
وهكذا آيات الله وما تحمل من حق، إنها تلتقى بما يختلقه المبطلون من ضلالات وأباطيل، فتدمغها، وتزهقها، وتخنق أنفاسها، وإذا تلك المفتريات والأباطيل، دخان وهباء، لا يمسك أصحابها منها بشىء.. والمثل المحسوس فى هذا، عصا موسى، وعصىّ السحرة.. إن العصا، حق من الحق،
الآيات: (١٩- ٢٩) [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٩ الى ٢٩]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨)
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩)
قوله تعالى:
«وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ».
لا يستحسرون: أي لا يملّون، ولا يكلّون..
لا يفترون: أي لا يتراخون، ولا ينقطعون عن العبادة، لحطة، أو فترة.
والآية والآيات التي بعدها، تكشف عن بعض سلطان الله، وتحدث عن بعض ما له من قدرة قادرة على كل شىء، ممسكة بكل شىء..
فهو- سبحانه- المالك لمن فى السموات والأرض، من عوالم.. من الذرة، وما دون الذرة، إلى الكواكب فى مساراتها، والنجوم فى أفلاكها.. إلى الملائكة الذين هم عنده، حافّين بالعرش.. وهو سبحانه المتصرف فى هذه الموجودات، الموجه لها، المقدّر لوضعها الذي تأخذه فى هذا الوجود.
وإذا كان هذا سلطان الله، وتلك قدرته الآخذة بناصية كل شىء، فإنه من غير المعقول أن يكون شىء من خلقه ذا سلطان معه، أو خارجا عن سلطانه..
والملائكة، الذين هم عند الله بهذا المكان الرفيع، لم تخرج بهم منزلتهم هذه عن أن يكونوا عبادا من عباد الله يدينون له بالولاء ويتقربون إليه بالعبادة:
«يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ».. إنهم فى عبادة دائمة متطلة، وذكر لله لا يفترون عنه! والسؤال هنا، هو: إذا كان الملائكة على هذا الصفاء النورانى الذي خلقوا منه، وعلى تلك العبادة الدائبة والطاعة الدائمة، فلم هذا الخوف؟ ولم
«إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ».. فالعلماء بالله، العارفون به، هم أكثر الناس خشية له، وولاء لذاته.. والملائكة يعلمون أكثر مما يعلم العالمون من جلال الله وسلطانه، وعظمته..
وقوله تعالى:
«أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ» هو تسفيه لعقول هؤلاء المشركين، الذين يعبدون مما على الأرض، من ناطق أو صامت، مثل أولئك الذين اتخذوا من البشر آلهة، أو من الأحجار أصناما ينحتونها ويعبدونها.. فهؤلاء أحمق عقولا، وأغلظ جهلا من أولئك الذين عبدوا الملائكة، وإن كان هؤلاء وأولئك جميعا فى ضلال مبين..
فلا الملائكة المقربون، ولا الجن، ولا البشر، ولا الأحجار، ولا أي شىء مما خلق الله، مما يصح فى عقل عاقل أن يجعل له إلى الله نسبا، فضلا عن أن يجعله إلها مع الله، يشاركه التصريف والتدبير.
وفى قوله تعالى: «مِنَ الْأَرْضِ» إشارة إلى مدى الانحطاط العقلي، الذي وصل إليه أولئك الذين يعبدون ما على هذه الأرض من مخلوقات.. فهى من معدن هذا التراب الذي تدوسه الأقدام، فكيف يكون هذا التراب المشكّل فى أي صورة من الصور، إلها يعبد من دون الله، ويرجى منه ما يرجو المؤمنون بالله، من الله رب العالمين؟.
ويمكن أن يكون جملة خبرية، هى صفة للآلهة، وتكون الآية كلها مبنية على الاستفهام الإنكارى، ويدخل فيها إنكار الجملة الخبرية، كذلك..
قوله تعالى:
«لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ».
هذه قضية، هى تعقيب على ما وجه به المشركون الذين يتخذون من عباد الله، فى السماء أو فى الأرض: آلهة، فإن ذلك سفه وجهل، وسوء تقدير لما ينبغى أن يكون للإله المعبود، من صفات الكمال والجلال المطلقين..
وإذا كان الإله الذي يستحق العبادة موصوفا بصفات الكمال المطلق، فإن هذه الصفات- فى إطلاقها- لا تكون إلا لإله واحد، لا يشاركه أحد فيها، إذ لو شاركه غيره فيها، أو كان له مثلها، لما كان له الكمال المطلق، ولما كان له التفرد بالألوهية.. إذ الكمال المطلق صفة واحدة، ولا يتصف بها إلا موصوف واحد، هو الله سبحانه..
ومن جهة أخرى.. فإن هذا الوجود، فى علوه وسفله، وفى سمائه وأرضه- لو قام عليه أكثر من ذى سلطان واحد مطلق، لما استقام أمره، ولما استقرّ نظامه، ولكان لكل ذى سلطان أن يتصرف فيما له سلطان عليه، ولذهب كل منهم مذهبا، فمضى ذا مشرّقا، ومضى ذاك مغرّبا.. وأخذ هذا يمينا، وأخذ ذاك يسارا.. فيتصادم هذا الوجود، وتتضارب الوجودات، وينفرط عقدها، وتتناثر أشلاؤها
وتصوّر أن يكون لإنسان عقلان.. ماذا يكون حاله؟ وكيف يكون مقامه فى عالم البشر؟ إن لكل عقل مدركات، وتصورات وتقديرات.. فبأى عقل يسير؟ وبأى عقل يحكم على الأشياء ويتعامل معها؟ إنه بهذين العقلين إنسانان لا إنسان واحد..
إنه ذو شخصية مزدوجة، تتصارع فيها العواطف والنوازع، وتقتتل فيها الآمال والرغبات، ثم لا يسكن هذا الصراع، ولا ينتهى هذا القتال، حتى يتحطم هذا الكائن العجيب، الإنسان.. له رأسان، أو عقلان..!
وقل مثل هذا فى القلبين، اللذين يفسد أحدهما عمل الآخر، وينقض أحدهما ما بناه صاحبه..
والله سبحانه وتعالى يقول: «ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» (٤: الأحزاب).
وقل مثل هذا فى الجماعات البشرية.. إن كل جماعة يجب أن يكون على رأسها رأس واحد.. وإلّا فالتنازع والتصادم، والفساد..!
وقوله تعالى: «فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ»..
هو تنزيه لله سبحانه عما يصفه به الواصفون، من صفات لا تخصّه بالكمال المطلق، بل تجعل له شريكا فيها، ويكون له بمقتضى ذلك سلطان مع سلطان الله، وعرش كعرش الله.. فالله سبحانه منزه عن أن يكون على تلك الصفة..
إنه سبحانه الإله المتفرد بالخلق والأمر..
«لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ»..
هو أيضا تنزيه لله سبحانه وتعالى عن أن يكون كهذه الآلهة التي يعبدها هؤلاء الضالون.. فهذه الآلهة، هى من مخلوقات الله، وهى خاضعة لمشيئته فيها، يصرّفها كيف يشاء، ويحاسب العاقل منها على ما كان منه.. أما هو سبحانه، فلا يسأل عما يفعل.. إذ لا يسأله إلا من هو فوقه، وهو- سبحانه- فوق كل ذى فوق.. «يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ.. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ» (٦٨: القصص).
قوله تعالى:
«أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً.. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ.. هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي.. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ»..
«أَمِ» هنا للإضراب، بمعنى بل..
والمعنى: أنه مع هذه البديهيّات التي تقع فى متناول كلّ عقل، والتي تقضى بما لا يدع مجالا للشك، بأنه لا يمكن أن يكون لهذا الوجود إلا إله واحد، يقوم عليه، ويدبّر أمره- مع هذا، فإن هؤلاء الضالين المشركين قد عموا عن هذه البديهيات، وقصرت أفهامهم عن إدراكها، وساغ لهم أن يعبدوا أكثر من إله، وأن يوزّعوا عقولهم وقلوبهم بين أرباب وأشباه أرباب، ولم يحاولوا أبدا أن يجيبوا على هذا السؤال: «أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ» (٣٩: يوسف).. كما لم يحاولوا أن يقيموا دليلا يقبله العقل، ويرتضيه المنطق لعبادة هذه الآلهة المتعددة! وفى قوله تعالى: «قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ» دعوة لهؤلاء المشركين أن يرجعوا إلى عقولهم، وأن يأتوا منها بالدليل والحجة على ما يعبدون من دون الله..
وقوله تعالى: «هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي».. هو إشارة إلى القرآن الكريم، الذي بين يدى الرسول، وهو برهانه على الإله الذي يعبده، ويدعو الناس إلى عبادته.. وهذا القرآن كما هو حجة وبرهان للرسول الكريم، هو حجة وبرهان لهؤلاء المشركين الذين يدعوهم الرسول إلى الإيمان بالله، كما أنه حجة وبرهان على أهل الكتاب.. «هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي».. فمن مع الرسول هم هؤلاء المشركون.. والذين من قبله هم أهل الكتاب.. والقرآن الكريم حجة على هؤلاء وأولئك جميعا..
وقوله تعالى: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ.. فَهُمْ مُعْرِضُونَ».. هو اعتذار لكثير من هؤلاء المشركين، الذين عموا عن طريق الحق، فركبوا رءوسهم، وأبوا أن يستمعوا لداعى الحقّ، وأن يستجيبوا له.. ومن ثمّ، فإن الرسول قائم فيهم، لا يتخلى عن مكانه بينهم، ولا يمسك عن دعوتهم، وكشف معالم الطريق لهم، حتى يبصروا من عمى، ويهتدوا من ضلال..
وقد كان.. فما زال الرسول يغادى هؤلاء المشركين، ويراوحهم، بالحكمة والموعظة الحسنة، على مدى ثلاث وعشرين سنة، حتى استنارت بصائرهم، وتفتحت قلوبهم، وما كادت تختم الرسالة، وتنزل آخر آية من آياتها، حتى آمن هؤلاء المشركون، ودخلوا فى دين الله أفواجا.. وكان مختتم الرسالة قوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً» (٣: المائدة).
قوله تعالى:
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ»
قوله تعالى:
«وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً.. سُبْحانَهُ.. بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ».
هو إشارة إلى أهل الكتاب، الذين أشار إليهم سبحانه وتعالى فى قوله:
«ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ» فأهل الكتاب هؤلاء، من اليهود والنصارى، قد جاءهم رسولان، كريمان، بشران، من عباد الله هما: موسى، وعيسى، عليهما السلام، فدعواهم إلى الإيمان بالله وحده، ولكنهم قلبوا وجه هذه الدعوة، فجعل النصارى المسيح ابنا الله، وجعل اليهود عزيرا ابن الله. كما اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وفى هذا يقول الله تعالى:
«وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ: «بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ» أي أن المسيح وعزيرا والأحبار والرهبان، هم من عباد الله، أكرم بعضهم واصطفاه لرسالته، كما أكرم واصطفى كثيرا من عباده ورسله بالنبوّة والرسالة، وكما أكرم كثيرا منهم بالإيمان.
قوله تعالى:
«يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ».
أي أن هؤلاء العباد المكرمين من رسل الله، لا يعلمون إلّا ما علمهم الله، ولا يملكون إلا ما يأذن الله لهم به.. وهو سبحانه يعلم من أمرهم ما لا يعلمون، فيعلم «ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» أي ما لم ينكشف لهم من مسيرة حياتهم بعد، ويعلم «ما خَلْفَهُمْ» أي ما انكشف لهم من ماضى حياتهم قبل أن يتلبسوا به..
«وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى» أي ولا يملكون الشفاعة لأحد، إلا لمن ارتضى الله سبحانه وتعالى لهم أن يشفعوا فيه، تكريما لهم، ومضاعفة لإحسانه إليهم. «وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ» أي وهم- مع هذا الإيمان، وهذا الولاء- على خشية وإشفاق من الله، ومن بأس الله وعذابه..
- وقوله تعالى: «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ.. كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ» - هو استبعاد لأن يكون من رسل الله قول كهذا القول الذي يقوله فيهم الضالون، الذين اتخذوهم آلهة.. ولو فرض- وهو فرض محال- أن يقول أحد منهم إنى إله من دون الله، فلا يعصمه قربه من الله، وإكرامه إياه، من أن يؤخذ بما يؤخذ به أي عبد من عباد الله، يقول هذا
فإذا كان هذا هو شأن المقربين إلى الله، فكيف يكون شأن غيرهم؟
إن ميزان العدل واحد للناس جميعا.. لا ترجح فيه كفة أحد على أحد إلا بالعمل الصالح..
«فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ» (٦: ١١: القارعة).
الآيات: (٣٠- ٣٥) [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٠ الى ٣٥]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤)
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥)
التفسير:
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ»..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآيات السابقة عليها قد كشفت عن وجوه
فجاءت هذه الآية تلفت هؤلاء الضالين إلى ما هم فيه من ضلال وشرود عن عن الله، الواحد، المتفرد بالألوهية والملك والسلطان..
وفى اختصاص الذين كفروا بالذكر هنا، لأنهم هم الذين عمّوا عن هذه الآيات فضلّوا وكفروا، أما المؤمنون فقد كان لهم نظر دائم إلى هذا الوجود، وتفكير متصل فى أسراره وعجائبه، فهم كما وصفهم الله سبحانه فى قوله:
«يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ» (١٩١: آل عمران)..
وفى قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما» إلفات إلى قدرة الله سبحانه وتعالى، وإلى ما أبدع وصور فى هذا الوجود..
فالسموات والأرض، كانتا شيئا واحدا، وكتلة متضخمة من المادة..
«كانَتا رَتْقاً» أي منضما بعضهما إلى بعض، فلا سماء، ولا أرض.. بل كون لا معلم فيه.. ثم كان من قدرة الله ومن علمه، وحكمته، أن أقام من هذا الكون المتضخم، هذا الوجود، فى سمائه وأرضه، وما فى سمائه من كواكب ونجوم، وما على أرضه من إنسان، وحيوان، ونبات، وجماد.. «كانَتا رَتْقاً
أي فصلنا بعضهما عن بعض.. فكانت السماء، وكانت الأرض.
ثم كانت من السموات ما فيهن من عوالم، وكان من الأرض ما فيها من مخلوقات..
كانت السموات والأرض كتلة، أشبه بالنطفة التي يتخلّق منها الجنين..
فمن هذه النطفة كان هذا الإنسان، بل هذا الكون الصغير، وكان هذا الخلق السوىّ الذي هو عليه..
وقوله تعالى: «وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» - إشارة إلى هذا العنصر العظيم من عناصر الحياة، وهو الماء.. فهو أصل كل حىّ، وبذرة كل حياة فى عالمنا هذا الذي نعيش فيه.. فالإنسان، والحيوان، والنبات، قوامها جميعا الماء، الذي به لبست ثوب الحياة، ومنه تستمد بقاءها، ووجودها.. فإذا افتقدت الماء عادت إلى عالم الموات..
وهذه الحقيقة قد أصبحت من مقررات العلم الحديث، الذي أثبت أن نشأة الحياة على هذه الأرض قد ظهرت أول ما ظهرت على شواطئ الأنهار..
فكانت أول أمرها ظلالا باهتة للحياة، وإشارة خافته إليها، ثم أخذت تنمو شيئا فى بوتقة الزمن على مدى ملايين السنين، حتى ملأت هذه الدنيا، فى صور متعددة، وأشكال مختلفة، لا تكاد تقع تحت حصر.
- وفى قوله تعالى: «أَفَلا يُؤْمِنُونَ» نخسة لهؤلاء الضالين، أن يتنبهوا، وأن يوقظوا عقولهم، ويفتحوا أبصارهم على هذا الوجود، وما أبدع فيه الخالق وصوّر..
فلو أنهم أداروا عقولهم على هذا الوجود، بقلوب سليمة، ومشاعر متفتحة لا نكشف لهم من أسراره ما يحدّثهم أبلغ الحديث عن قدرة الله، وعلمه، وحكمته، المبثوثة فى كل ذرة من ذرات هذا العالم.. وإذن لآمنوا بالله،
فالإيمان لا يقع من القلب موقع الاستقرار والاطمئنان، إلا إذا جاء عن علم بالله، وبما لله من صفات الجلال والكمال..
قوله تعالى:
«وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ».
هو إلفات إلى ما صنع الله سبحانه وتعالى بالأرض، بعد أن فصلها عن مادة الوجود، وصورها على تلك الصورة.. فقد جعل الله سبحانه وتعالى فيها جبالا راسية ثابتة، تشدّها، وتمسك بها أن تميد وتضطرب، وجعل فى هذه الجبال فجاجا، أي فجوات، وهى سبل يسلكها الناس فى انتقالهم من جهة إلى أخرى.
ويجعلون منها معالم يتعرفون منها إلى الأماكن والجهات، حتى لا يضلّوا فى أسفارهم..
قوله تعالى:
«وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ».
وكما أوجد الله سبحانه الأرض على هذه الصورة، وجعل فيها رواسى، وفجاجا سبلا، كذلك أقام السماء كما نرى، سقفا محفوظا بيد القدرة، فلا يقع علينا..
وفى قوله تعالى: «وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ» إشارة إلى ما فى السماء
وفى إضافة الآيات إلى السماء، إشارة إلى عظمة هذا العالم العلوي، وأن السماء كون عظيم، وأن كل ما لاح فى هذا الكون، هو آية من آيات هذا الكون العظيم..
وفيما كشف العلم عنه من هذا العالم العلوىّ، ما يبهر العقول، ويعجز الخيال.. وهو إلى جانب ما لم ينكشف أشبه بذرة من عالم الرمال، أو قطرة من عالم الماء فأين العقول التي تنظر؟ وأين البصائر التي تستبصر؟
قوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ».
هو عرض لبعض مظاهر قدرة الله، التي أشارت الآيات السابقة إلى بعض منها.. ومن مظاهر القدرة الإلهية خلق الليل والنهار، والشمس والقمر، وإجراء كل منها فى فلك خاص به، ومدار لا يتعداه..
وفى التعبير عن حركة الليل والنهار، بالخلق، إشارة إلى ما لهما من وجود ذاتىّ غير عارض، وأن وجودهما مقصود لذاته، حيث يأخذان من الوجود ويعطيان، شأنهما فى هذا شأن الإنسان المكلّف، المطلوب منه رسالة يؤديها فى الحياة..
وشأنهما كذلك شأن الشمس والقمر، فهما أي الليل والنهار، وإن كانا مظهرا من مظاهر حركة الأرض حول نفسها، إلا أنهما صاحبا سلطان على كل ما يقع
أما حين لا تراد هذه المخلوقات لذاتها، وإنما تراد آثارها، أو بعض آثارها، فإن التعبير القرآنى عن ذلك يجىء بلفظ «الجعل» لا «الخلق»..
مثل قوله تعالى: «وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً» (٩٦:
الأنعام) وقوله سبحانه: «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً» (١٢: الإسراء)..
وفى ضمير الجمع العاقل فى «يَسْبَحُونَ» إشارة إلى أنه وإن كان لكل مخلوق من هذه المخلوقات فلك يسبح فيه، فإنها جميعا ينتظمها فلك عام، هو فلك الوجود كله، الذي يحوى كل فلك! قوله تعالى:
«وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ».
كان المشركون يستثقلون مقام النبىّ الكريم فيهم، وقد ساقوا إليه من ضروب السّفه، وألوان الأذى، النفسي والمادي، فى نفسه، وفى أصحابه، ما لا يحتمله إلا أولو العزم من الرسل.. فلما ضاقوا به ذرعا، وأعيتهم الوسائل فى صده عن دعوته إلى الله- كان ممّا يعزّون به أنفسهم، ويمنّونها الأمانىّ فيه، أن ينتظروا به تلك الأيام أو السنين الباقية من عمره، وقد ذهب أكثره،
فجاء قوله تعالى: «وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ» مسفّها هذا المنطق السقيم، الذي جعلوه أداة من أدوات الغلب فى أيديهم.. فالموت حكم قائم على كل نفس.. فإذا مات النبىّ، فليس وحده هو الذي يصير إلى هذا المصير، وإنما الناس جميعا، صائرون إلى هذا المصير.. فكيف يكون الموت أداة من أدوات المعركة بينهم وبين النبي؟ وكيف يكون سلاحا عاملا فى أيديهم على حين يكون سلاحا مفلولا فى يده، إذا صحّ أن يكون من أسلحة المعركة؟
ولهذا ردّ الله عليهم بقوله: «أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟».. فما جوابهم على هذا؟ إنهم لن يخلّدوا فى هذه الدنيا، فما هذه الدنيا دار خلود لحىّ..
«إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ» (٣٠: الزّمر).. إن المعركة بين حق وباطل، فما سلاحهم الذي يحاربون به فى هذا الميدان؟ إنه الباطل، وإنه لمهزوم مخذول: «إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً» قوله تعالى:
«كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» هو جواب على هذا السؤال الذي جاء فى الآية السابقة: «أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ» ؟ وهو جواب ينطق به لسان الحال ويشهد له الواقع.
وفى قوله تعالى: «ذائِقَةُ الْمَوْتِ» إشارة إلى أن للموت طعما، تجده النفوس حين تفارق الأجساد..
وهذا الطعم يختلف بين نفس ونفس.. فالنفس المؤمنة تستعذب ورده،
أما النفس الضالة الآثمة، فإنما يحضرها عند الموت، حصاد ما عملت من آثام، وما ارتكبت من منكرات، وتشهد ما يلقاها من غضب الله وعذابه، فتكره الموت، وتجد فيه ريح جهنم التي تنتظرها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» (٩٣: الأنعام) وقوله سبحانه: «فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ» (٥٥: التوبة).
وفى قوله تعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ» إشارة إلى ما يقع للناس فى دنياهم مما يرونه شرا أو خيرا.. فذلك كله ابتلاء لهم، واختبار لما يكون منهم مع الشرّ من صبر أو جزع، ومع الخير من شكر أو كفر..
فما تستقبله النفوس مما يكره، هو ابتلاء لها على الرضا بقضاء الله، والتسليم له.. وما تستقبله مما يحبّ، هو امتحان لها كذلك، على الشكر والحمد لما آتاها الله من فضله وإحسانه..
فالنفوس المؤمنة، لا تجزع من المكروه، ولا تكفر أو تبطر بالمحبوب، لأن كلّا من عند الله، وما كان من عند الله فهو خير كله، محبوب جميعه.. هكذا تجده النفوس المؤمنة بالله، العارفة لجلاله، وعظمته، وحكمته..
أما النفوس الضالة عن الله، فإنها إن أصابها شىء من الضرّ، جزعت، وزادت كفرا وضلالا، وإن مسّها الخير، نفرت نفار الحيوان الشرس، واتخذت من نعمة الله سلاحا تحارب به الله، وتضرب فى وجوه عباد الله..
ونحبّ أن نقف هنا وقفة، مع قضية «الخير والشرّ».. نعالج فيها ما يدور فى بعض الرءوس من تساؤلات عن «الشرّ» وعن الحكمة فى أن يقع فى هذه الحياة، وعن ابتلاء الناس به، وعن نسبته إلى الله.. إلى غير ذلك مما سنعرضه مفصلا فى المبحث التالي:
[الخير.. والشر] التّلازم بين الخير والشر:
ينزع العقل دائما إلى المزاوجة بين الأشياء التي تعرض له، وتدور فى محيط تفكيره.. فلا يكاد أمر من الأمور يقع فى مجال النظر العقلي، حتى يستثير له العقل من عالم الواقع، أو عالم الخيال، كائنا آخر، يقف منه موقف التضادّ والعناد، ليرى فيه كل الصفات السلبية للأمر الذي بين يديه.. فإذا ذاق المرء طمعا حلوا، ذكر الطعم المرّ، وإذا لمس اللّبن استشعر الخشن، وإذا فكر فى الحق، تذكّر الباطل.. وهكذا تعيش الأشياء، من المعاني والمحسوسات، فى عالم الحسّ والفكر، مثنى.. مثنى.. الأمر وضدّه.
ومحال أن يعترف العقل فى عالم الواقع، بالوجود الفردىّ لشىء من الأشياء، أو معنى من المعاني.. حتى لكأن الأشياء والمعاني كائنات حيّة، لا يضمن بقاءها ووجودها، إلا هذه المزاوجة! التي تجمع بين الشيء ومقابله، كما تجمع فى عالم الأحياء بين الذكر والأنثى..!!
يقول الفيلسوف الأمريكى «وليم چيمس» :«إننا لا ندرك تمام الإدراك القضية الصادقة، حتى نعلم مضمون ما يناقضها من قضايا كاذبة.. فالغلط ضرورى ليظهر الحقيقة على أحسن منوال، كما أن ظلام الجانب الخلفى- فى آلة التصوير- ضرورى ليظهر صفاء الصورة ونضارتها».
ولعمر بن الخطاب- رضى الله عنه- كلمته المأثورة: «من لم يعرف الشرّ جدير بأن يقع فيه».
وعن طريق هذه الثنائية للأشياء، استطاع العقل أن يبعث الحياة فى الكائنات الجامدة، وأن يقيم من المعاني المجرّدة مشخصات، حين يجمع بين المتضادات، ويقابل بين المتناقضات، فتتعاند، وتتصادم، ويتولد من تعاندها وتصادمها واحتكاكها، شرارات المعرفة، التي تكشف للعقل عن حقيقتين فى وقت معا، عند معالجته لحقيقة واحدة.. هما: الشيء وضده، أو الشيء ومقابله.
وعن هذه الثنائية، نشأ هذا التلازم بين الخير والشر.. فإذا ذكر الخير، ذكر معه الشرّ، وظهرا معا فى مجال الفكر متقابلين، تقابل الصورة وسالبها فى عمل للصورة «الفتوغرافية».
والسؤال هنا هو: هل هذا التلازم بين الخير والشر أمر واقع فى الحياة؟
وسؤال آخر.. هل هناك خير؟ وإذا كان.. فما هو؟ وهل الشر قائم إلى جانب الخير أبدا؟ وإن كان.. فما هو؟ وما الصلة بينه وبين الخير؟
الخير والشر.. وواقع الحياة:
ولعلّ أكثر الكلمات دورانا على ألسنة الناس، كلمتا الخير والشر..
فما عرض لإنسان أمر، أو وقع له شىء، إلّا نظر إليه من جانبى الخير والشر، وإلّا أخذه بأحد الوصفين: الخير والشر.. إن هاتين الكلمتين، هما ميزان الحياة الذي يقدّر به الإنسان كلّ شىء يأخذه أو يدعه.. الخير فى كفة، والشرّ فى الكفة الأخرى.. هكذا تجرى حياة الناس، وهكذا تجىء تصرفاتهم وبقع سلوكهم، على حسب ما يشير إليه مؤشر الميزان، من رجحان إحدى الكفتين على الأخرى.. فإذا تعادلتا، توقف الإنسان ووقع فى حيرة بين ما يأخذ وما يدع! إننا جميعا نقول بالخير والشر.. نعرفهما، ونعمل ونتعامل فى حدودهما، ونزن حظوظنا من كلّ شىء بهما..
ومع هذا، فإن من بعض الفلاسفة والمفكرين من ينكر وجودهما، ولا يعترف بأن فى الحياة خيرا أو شرا..
فهل يقبل واقع الحياة هذا الرأى؟ وهل انطوت صفحات الخير والشر من هذا الوجود، إذعانا لهذا الرأى، ونزولا على حكمه؟
ولكن.. مهلا..
ما هو الخير؟ وما هو الشرّ؟
مع أن الواقع غير ذلك..
فمع اعتراف المعترفين بالخير والشرّ، فإن خلافا كبيرا قد وقع بينهم فى تحديد الصورة، التي يكون بها الخير خيرا والشرّ شرّا..
ما هى الضوابط التي تضبط معنى الخير؟ والتي إن تحققت فى أمر من الأمور عرف أنه خير؟ وإن تخلّف بعضها وتحقق بعضها عرفت نسبة الخير فيه؟
إنه بغير هذه الضوابط ستتفرق بالناس السّبل، حيث تعدد المفاهيم للخير والشرّ. على حسب تعدد الناس، وحسب ما يرون، وما يقدّرون. فلا يلتقون على طريق واحد فيما يأخذون أو يدعون، ولا فيما يحمدون أو يكرهون، ولا فيما يثيبون أو يعاقبون.
ما الخير إذن؟
يكاد يكون الخير أمرا بدهيا، لكثرة إلف الناس له، وإحساسهم به..
فهو لهذا لا يكاد يضبط أو يحصر داخل حدّ محدود.. إنه مشاع فى الناس، واقع فى إحساسهم.. كل يراه من الأفق الذي يعيش فيه.. فيبدو لبعض الناس فى صورة المتاع الجسدى من طعام وشراب، ولباس، وغير هذا مما هو من حظ الجسد، على حين يراه آخرون فى ألوان من الأدبيّات، التي تعلو بالروح، وتسمو بالوجدان.. وبين هذه الآفاق الصاعدة والآفاق النازلة، درجات لا تكاد تحصى، وتكاد تكون على تعداد الناس.. فردا فردا..
ولكن إذ قد اختلفت معابير الناس فى الخير- وهذا أمر طبيعى- لاختلاف رغباتهم، وتنوع مطالبهم، فليس معنى هذا ألا يكون هناك خير،
من أجل هذا كانت تلك الموجودات من حيوان أو نبات أو جماد، معبودات للإنسان الأول، حيث ظهرت له، فى صورة نافعة أو ضارة، وذلك ليرجو خيرها، ويدفع شرها..
ومن هنا كان تعدد الآلهة التي عبدها الإنسان فى خطواته الأولى فى الحياة.. فعبد كل شىء، إذ كان يرى مصيره مرتبطا به، فى مجال النفع والضر على السواء..
ثم حين خطا الإنسان خطوات إلى الحياة، وتعرف على وجوه الأشياء، وأخضعها لسلطانه- ترك عبادتها شيئا فشيئا، ثم ما زال بها يدفعها عن مقام التأليه والتقديس حتى انتهى به الأمر إلى جمعها جميعا تحت دائرتين: دائرة تسع كل ما هو خير، وأخرى تجمع كلّ ما هو شر..
فالخير جميعه يصدر عن قوة عليا، كما أن الشرّ كله يصدر عن جهة عليا كذلك، تناظر قوة الخير، وتقابلها..
وهكذا انتهى الإنسان فى مرحلة متأخرة من حياته إلى عبادة الخير، والشر، ولم يستسغ أن يجمع بين الخير والشر فى دائرة واحدة، فيجعلهما صادرين عن قوة واحدة عليا.. لأنه فهم أن الخير لا يلتقى أبدا مع الشر، وأن الذي يصنع الخير، لا يصنع الشر!
وقد اطمأن الإنسان إلى هذا المعتقد، واجتمعت له فيه، نفسه المشتتة، وعاد إليه فكرة اللاهث، الذي كان يجرى وراء كل هذه الآلهة التي لا حصر لها..
ومنذ هذا الوقت استطاع الإنسان أن يتأمل، وأن يطيل التأمل فى هذين الإلهين، اللذين احتويا جميع الآلهة، وانتزعا كل سلطان على هذا الوجود..
ولقد نشأ عن هذا التأمل الطويل العميق فى هذين الإلهين، فلسفة لها أسلوبها الذهني والمنطقي، ولها أحكامها القائمة على البرهان والاستدلال..
ولعلّ أقدم نظر لبس ثوب الفلسفة فى العقيدة «المثنوية» هو نظر حكماء الفرس، الذين انتهى بهم الرأى إلى القول بإلهين يحكمان العالم، ويتحكمان فى مصيره، وهما: إله الخير، وإله الشر.. وقد رمزوا لإله الخير بالنور «يزدان» ولإله الشرّ بالظلام «أهرمن».
وقد تفرقت بفلاسفة الفرس وحكمائها السبل حول النظر فى هذين الإلهين، وسلطان كل منهما فى هذا العالم، وفى الصدام والصراع الذي لا بد أن يقع بينهما، إذ كانت طبيعة كل منهما على خلاف حادّ مع طبيعة الآخر.
فذهب فريق منهم إلى أن «يزدان» - وهو النور- أزلىُّ قديم، وأما «أهرمن» - وهو الظلام- فحادث مخلوق..
وفى زمن متأخر جاء «زرادشت» بمذهب يخالف هذا المذهب، فقال: إن الله واحد قديم، لا شريك له ولا ضد ولا ندّ.. وهو الذي خلق النور والظلام، ولا يجوز أن ينسب إليه وجود الظلمة.. ولكن الخير والشرّ، والصلاح والفساد، والطهارة والخبث، إنما حدث بامتزاج النور والظلمة، ولو لم يمتزجا لما كان للعالم وجود!!
والبارئ تعالى هو الذي مزجهما وخلطهما لحكمة رآها فى التركيب.. ويرى «زرادشت» أن النور هو الأصل، وأن وجوده وجود حقيقى، وأمّا الظلمة فتبع له.. كالظل بالنسبة إلى الشخص.. ولما كان الباري يرى أنه موجود، وليس بموجود، فقد أبدع النور، وحصل الظلام تبعا.. لأن من ضرورة الوجود التضادّ» «١».
ونلاحظ هنا أن هذا الرأى يقارب كثيرا ما تقول به التوراة فى سفر التكوين.. فما تحدّث به التوراة يكاد يكون نقلا حرفيًّا له! كما يلاحظ أيضا أن قول «زرادشت» بأن الخير والشرّ، والصلاح والفساد، والطهارة والخبث، إنما حدثت من امتزاج النور والظلمة- يلاحظ أن هذا القول يتفق مع أحدث النظريات الفلسفية والأخلاقية التي تقول، بأن الخير والشر لا يوجدان خالصين.. فالخير ممتزج بالشر، والشرّ معه الخير..
«فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً»..
الخير والشر فى معابير الفلسفة الحديثة:
ولا بد لنا من نظرة إلى عصرنا هذا، وإلى نظرته إلى الخير والشر، عند العلماء، والفلاسفة، ورجال الدّين والأخلاق..
فلقد عنيت الفلسفة الحديثة بالسلوك الإنسانى، وجعلت الإنسان موضوعا بارزا من موضوعات الدراسة والنظر فى منهجها.
كان ما وراء الطبيعة فى الفلسفة القديمة، هو كل ما يشغل الفلاسفة، ويسيطر على تفكيرهم.. فجاءت نظرياتهم تخطيطا لصور من المثاليات القائمة على
وكانت دعوة «أرسطو» إلى النظر فى عالم الواقع والحسّ، فى كلمته المشهورة: «اعرف نفسك» - كانت هذه الدعوة جديرة بأن تؤتى ثمارها، لو أنها تناولت الإنسان من حيث هو كائن حىّ من كائنات الطبيعة.. ولكن هذه الدعوة نقلت الفلسفة من النظر فى السماء، إلى النظر فيما وراء المحسوس من الإنسان.. من روح، ونفس، وعقل، ولم توجّه النظر إلى المادة، ومظاهر الطبيعة التي يعيش الإنسان فيها، بل ويعيش منها وعليها..
أما فى هذا العصر، ومنذ مطلع القرن التاسع عشر الميلادى، فقد فتن الناس بالواقع التجربي، الذي يقوم على الاختيار الحسىّ، وأصبحت المعامل التجريبية لعلوم الطبيعة وظواهرها، ميدان الصراع العقلي بين العلماء..
فتلون التفكير الفلسفي بالصبغة العملية، وتغير منهج الفلسفة.. فبعد أن كانت مراحل التفكير الفلسفي تبدأ من السماء، ثم تنتهى أو لا تكاد تنتهى إلى الأرض- أصبحت الفلسفة تبدأ من الأرض، ثم تنتهى أو لا تنتهى إلى السماء..!
وطبيعى أن يظفر الإنسان بالنّصيب الأوفر من عناية الفلاسفة المعاصرين..
إذ كانت الطبيعة موضوع فلسفتهم، وكان الإنسان هو أعلى، وأعظم ظاهرة فيها..
ولما كان الخير والشرّ جانبين بارزين فى تكفير الإنسان، وفى سلوكه، فقد عنيت بهما الفلسفة، فيما عنيت به من شأن الإنسان، وحاولت الفلسفة جهدها أن تحدد «القيمة» لكل من الخير والشرّ، وأن تضع الموازين والضوابط لهما..
وقد تقول: إن كثيرا من الأمور يعرف الناس وجه الخير والشرّ فيها، ومع هذا، فإنهم يواقعون الشرّ وعيونهم مفتوحة له! فهناك شرّ صراح لا خفاء فيه، ومع هذا فإنه واقع فى سلوك الناس.. قد تقول هذا! ونحن نوافقك على هذا الاعتراض، ولكن على شرط أن تتفق معنا على أن مثل هذا الشرّ غير مصحوب «بالحتمية» التي تجعل وقوعه أمرا لازما، لا مفرّ منه، عند الذين يتلبّسون به على الأقل.. فإن هناك صورا من الاحتمالية تثور دائما فى وجه ما يبدو أنه شرّ محض! وهذه «الاحتمالية» هى الضباب الذي يخفى كثيرا من وجوه الشرّ، فيما هو شر، وهى السراب الخادع الذي يضلل الإنسان، ويغربه بفعل ما هو شر، وإن كان يراه رأى العين!! ولا شك أن رغباتنا، وعواطفنا، تلعبان دورا هاما، فى مجال العمليات الاحتمالية، فتقوبها أو تضعفها، على حسب ما عندنا من رغبات وعواطف نحو الشر الذي نقف إزاءه، وما عندنا من إرادة، وعزم، وثورة، على ضبط هذه الرغبات، وكبح جماح تلك العواطف!! ومع هذا، فإننا نقول: إنه من الخير أن يظلّ الخير والشرّ فى هذه السّحب التي تحجب الكثير من معالمها، فيكون «للاحتمالية» ومكانها فى الخير أن يكون شرا، وفى الشرّ أن يكون خيرا- وبذلك تقوم دواعى العمل، ويكون للحياة
إن معالجتنا للأمور، لا تظهر نتائجها إلا بعد أن نفرغ منها، ونخرج من أيدينا، ولو استدارت لنا عواقب الأمور، فرأيناها قبل أن نعالجها، لكان شأننا فى الحياة غير هذه الشأن، فما أخطأ مخطئ، ولا خسر خاسر، ولا أصيب مصاب.. وهكذا، مما يقع للناس، مما يسوؤهم.. ولكان شاعرا كاين الرومىّ على غير ما كان عليه، من الخوف، والتردد، والعجز، عن لقاء الحياة.. ولما قال هذا القول، مصورا به نفسه:
أقدّم رجلا رغبة فى رغيبة | وأمسك أخرى رهبة للمعاطب |
ألا من يرينى غايتى قبل مذهبى | ومن أين؟ والغايات بعد المذاهب! |
ومن هنا كان الحكم على الخير والشر- فى تقدير الفلسفة الحديثة- قائما على أساس فردى بحت، بمعنى أن الفرد- والفرد وحده- هو الذي له أن يحكم على هذا الأمر بأنه خير أو شر، ثم إنه ليس هذا بالذي يمنع من أن يجىء غيره فينقض عليه حكمه، فيرى ما رآه غيره خيرا، شرا، وما رآه شرا، هو عنده خير..
وعلى هذا، فهناك- عند الفلسفة الحديثة- خير وشر، ولكن لا ذاتية للخير أو الشرّ، بل هما أمران اعتباريّان، فالخير ما رآه الإنسان خيرا. والشر ما رآه شرا.. وإنه لا خير ولا شرّ فى حقيقة الأمر!! وفى هذا يقول الفيلسوف الأمريكى «وليم جيمس» :«إن الإنسان هو مصدر الخير والشرّ، والفضيلة والرذيلة.. إن الخير خير بالنسبة له، والشرّ شر بالقياس إليه.. إن الإنسان هو الخالق الوحيد للقيم فى ذلك العالم، وليس للأشياء من قيمة خلقية إلا باعتباره هو» !! ويمكن أن يكون هذا الرأى تلخيصا للفلسفة الحديثة، وإن دخلت عليه بعض الألوان والأصباغ، فإن اللون الغالب فيه هو هذا اللون الذي يجعل للإنسان وحده تقييم الأشياء، وتصنيفها، ووضع كل شىء منها فى موضعه من الخير والشر، والحسن والقبح..!
الخير والشرّ فى نظر الإسلام:
لا تحفل الشريعة الإسلامية بالنظر الفلسفي فى حقائق الأشياء، ولا تعنى بالجدل اللفظي حول ماهيتها، لأن غاية هذه الشريعة ليست تربية الملكات
ومن هنا، لا نجد فى الشريعة الإسلامية تلك التعريفات الجامعة المانعة- كما يقولون- للخير والشرّ، والحقّ والباطل، والحسن والقبيح، وغير ذلك من الصور التي عنى الفلاسفة والأخلاقيون، بتحليلها، والتعرف على عناصرها، وجمع الصفات المميزة لكل واحد منها..
فإذا قال الفلاسفة والأخلاقيون: «إن الحق هو كذا، والخير هو كذا، والحسن كذا- لم نجد فى كتاب الله ولا سنّة رسوله قولا عن الحق.. ما هو؟
والخير ما هو؟ والحسن ما هو؟ وإنما نجد دعوات إلى الحق، والخير، والإحسان، وإغراء بها، وتحريضا عليها، ورصدا للجزاء الحسن لمن استقام عليها.. كذلك نجد عكس هذا، إزاء كل ما هو باطل، وشر، وخبيث!.
ولم يكن إغفال الشريعة الإسلامية لرسم حدود الفضائل، وتقويم الأخلاق عن تهوين لشأنها، أو استصغار لخطرها.. وكيف وغاية الشريعة ومقصدها أولا وأخيرا، إنما هو تقويم الأخلاق، وتربيتها، وإقامتها على منهج سليم مستقيم! وكيف والنبىّ الكريم يجعل عنوان رسالته، ويحصر مهمة نبوته فى هذا المجال وحده: فيقول صلوات الله وسلامه عليه: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ؟
فليس عن تهوين إذن من شأن الأخلاق، ولا عن استصغار لخطرها، هذا الاتجاه الذي اتجهت إليه الشريعة فى إغفالها البحث عن «ماهية» الأخلاق.. إذ كان مقصد الشريعة وهدفها- كما قلنا- هو الجانب العملي
فالقرآن الكريم يحضّ على الأعمال الصالحة ويزكيها، ويرفع منازل أهلها، وبعدهم بجنات الله ورضوانه عليها..
يذكر القرآن الكريم «التقوى» فى مواضع كثيرة، مثل قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ».. (٧٠- ٧١: الأحزاب) فما هو العمل الصالح؟ وما هى التقوى؟ وما القول السديد؟.. كل ذلك لم يشأ القرآن الكريم أن يعرض له بالكشف عن «ماهيته» ورسم حدوده..
نعم، هناك أمور واضحة صريحة فى باب الخير، كما أن هناك أمورا واضحة صريحة فى باب الشر.. ولكنها على هذا الوضوح، ومع تلك الصراحة، لا تقع من النفوس موقعا واحدا.. فإذا اتفقت النفوس على أن العدل جميل.. فإنه فى نفس عمر بن الخطاب مثلا، غيره فى نفس كثير من الناس.. هو خير لا شك فيه.. تدعو إليه الشريعة وتأمر به، وتثيب عليه.. ولكنها لا تستطيع أن تضعه فى معادلة جبرية. أو تحلله تحليلا كيماويا.. إنه العدل، وكفى! وإنه الخير وكفى! «الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات» هكذا يقول الرسول الكريم.. وليست الشبهة فى الحلال فى ذاته، أو الحرام فى داته، وإنما تقع الشبهة فى الملابسات التي تلابس الحلال أو الحرام، وفى الوضع الذي يكون عليه الإنسان إزاء ما هو حلال وحرام..!
أتترك الأمور إذن بلا ضابط هكذا؟..
إن ربّان السفينة إذا أدار محركها أو فرد قلوعها، هو هالك لا محالة، إذا هو لم يعرف الوجهة التي يتجه إليها، وإذا لم يكن معه «بوصلة» أو ما يشبهها، ليستعين بها على معرفة الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وإذا لم يكن معه «بوصلة» أخرى أو ما يشبهها، يقيس بها الأعماق، أو يستدلّ بها على مهابّ الرياح! والإنسان هو سفينة فى محيط هذه الحياة.. ربّانه العقل، وقلوعه النفس، ونزعاته وأهواؤه، هى التي تملأ قلوعها وتدفعها..!
لا بد إذن من «بوصلة» تضبط سيره، وتحدد وجهته..
وما غفلت قدرة الحكيم العليم عن هذا.. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا..
وكيف، وهو الذي أعطى كلّ شىء خلقه.. ثم هدى» ؟
لقد أودع الخالق العظيم فى الإنسان أدقّ «بوصلة» وأضبطها.. إنها «القلب».. وحسبك بالقلب السليم «بوصلة» عاملة فى سفينة الحياة! لقد اعتمد الإسلام على القلب فى تقويم الأخلاق، وفى التعرف على الخير والشر، والحسن والقبيح.. ووكل إليه الفصل فى خير الأمور وشرها، وحسنها وقبيحها..
إن القلب فى نظر الإسلام، هو العين الباصرة، التي تكشف للإنسان مسالكه، وتحديد المستقيم والمعوجّ من طرقه..
وفى القرآن الكريم آيات كثيرة تتجه إلى القلب وتتحدث إليه.. فيقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ» (٣٧: ق) ويقول
والرسول الكريم، ينوّه بشأن القلب، ويكشف عن آثاره فى الإنسان، فيقول- صلوات الله وسلامه عليه- «ألا وإن فى الجسد مضغة، إذا صالحات صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه.. ألا وهى القلب»..
ويقول الرسول الكريم فى تعريف الخير والشر، وفى التعريف عليهما:
«البرّ ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك فى النفس، وتردّد فى الصدر.. استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك»..
الإسلام إذن، يعترف بالخير والشرّ.. لأنهما أمران واقعان فى الحياة، يعيشان فى الناس، ويعيش فيهما الناس.. وقد جاءت الشريعة الإسلامية آمرة بالخير، ناهية عن الشر.. وأشارت إلى أمور بذاتها عدّتها خيرا، وأخرى اعتبرتها شرّا.. ثم جمعت الخير كله فى دائرة واحدة هى «المعروف» وطوت الشر كله تحت حكم واحد، هو «المنكر» : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر».
فالخير هو «المعروف» أو وجه بارز من وجوه المعروف، والشر هو المنكر، أو وجه كالح من وجوه «المنكر».. والسؤال هنا- ونحن فى معرض البحث عن الخير والشر- إذا كان الخير أمرا محمودا، ودعوة من دعوات السماء إلى لقائه، والعمل به- فلم كان هذا الشرّ؟ وما حكمة وجوده؟
الشرّ موجود.. هذه حقيقة مسلّم بها، لا سبيل إلى إنكارها، أو تجاهلها! أمّا، لماذا وجد؟ وما حكمة وجوده؟ وهلّا محضت الحياة للخير، وخلصت الشرّ؟..
وقد تجنب الإسلام- منذ قام- إيقاظ هذه الفتنة، فلم يطرق بابها من أية جهة، ولم يشر إليها من قريب أو بعيد.. والحكمة فى هذا ظاهرة..
إذ لا جدوى من أن يقيم الإسلام لوجود الشرّ علة أو عللا.. إنه موجود..
وكفى.. «وحسبك من شرّ سماعه» !.. والحزم كل الحزم فى توقّيه، ودفعه، والخلاص منه..
إنه لمن السفاهة الغليظة، والخسران المبين، أن يرى الإنسان حيوانا يريد أن ينقضّ عليه ويفترسه، ثم لا يطلب النجاة لنفسه، بل يستغرق فى تأملات سخيفة ليجيب على هذا السؤال: ما هذا الحيوان المؤذى؟ ولم كان؟
لم يرد الإسلام أن يسوق أتباعه إلى هذه المواقف الخاسرة.. بل صرفهم عنها صرفا، وخلّى بينهم وبين الحياة بخيرها وشرها بعد أن أراهم منازل الخير وثمراته، وأطمعهم فيه، ودعاهم إليه، ثم أراهم مزالق الشرّ، ومغباته، وخوّفهم منه، وتوعدهم على الاتصال به..
أليس ذلك هو النهج القاصد، والطريق المستقيم فى تقديم الأخلاق وتربية النفوس؟
لقد كان ذلك هو طريق الإسلام، وكان ذلك هو موقفه حيال هذه القضية.. لم يوقد نارها، ولم يلق لها وقودا..
ولكن حين اتصل المسلمون بالأمم المجاورة، وعرفوا شيئا من فلسفة اليونان والهند، وشيئا من معتقدات الفرس، تحركت فى نفوسهم هذه الفتنة «الخالدة».. لماذا وجد الشر؟
وقد فتحت الإجابة على هذا السؤال باب فتنة، أخذ يتسع شيئا فشيئا،
والذي نحبّ أن نقرره هنا.. هو أن الإسلام يوجّه اهتمامه أولا وقبل كل شىء، إلى مجاهدة الشر الذي يعيش فى مجال الناس فعلا، وإلى محاولة التغلب عليه، والانتصار للخير، والانحياز إلى جانبه.. فذلك هو الجدير بالإنسان، من حيث هو إنسان، يحترم عقله، ويستهدى بقلبه، ومن حيث هو كائن اجتماعي، يعيش فى المجتمع الإنسانى.. ومن خيره وخير الجماعة أن يكون عضوا فى هذا المجتمع الكبير، يسعد بسعادته، ويشقى بشقائه..
إن الإسلام، لا يضع الشرّ فى مجال العدم بالنسبة للخير، بل يراه كيانا قائما بذاته إزاء الخير.. فللشر- فى نظر الإسلام- ذاتية قائمة فى الحياة، وعلى الناس أن يأخذوا حذرهم منه، وأن يعملوا له حسابا فى موازنة الأمور التي تعرض لهم.
لقد حاول كثير من مفكرى الإسلام، أن يهوّنوا من شأن الشرّ، وأن يجعلوا وجوده فى الحياة، شيئا عارضا، يجىء فى ثنايا الخير! وكأنهم أرادوا بهذا أن يبرّئوا صنع الله من هذا النقص، الذي يلحق بالوجود، إذا قيل إن الشرّ قد نجم فيه!! وهذا دفاع غير موفق.. إذ أنه ينكر أمرا واقعا يعيش فى الناس.. وهو الشرّ.. وكان خيرا من هذا الدفاع أن يعترفوا بالشر.. ولكنه شرّ لا يرتفع
يقول الجاحظ: «اعلم أن المصلحة فى ابتداء أمر الدنيا إلى انقضاء مدّتها، والكثرة بالقلّة.. ولو كان الشرّ صرفا، لهلك الخلق، أو كان الخير محضا لسقطت المحنة، وتعطلت أسباب الفكرة..
ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة، ومتى ذهب التخيير، ذهب التمييز، ولم يكن للعالم تثبت وتوقف وتعلم، ولم يكن علم، ولا يعرف باب التدبير، ولا دفع المضرّة، ولا اختلاف المنفعة، ولا صبر على مكروه، ولا شكر على محبوب، ولا تفاضل فى جانب، ولا تنافس فى درجة، وبطلت فرحة الظفر، وعزّة الغلبة.. ولم يكن على ظهرها (أي الدنيا) محقّ يجد عزّ الحقّ، ومبطل يجد ذلّ الباطل، وموفّق يجد برد اليقين.. ولم يكن للنفوس آمال، ولم تتشعّبها الأطماع «١» ».
فالجاحظ هنا يكشف عن الدور، الذي يؤديه التفاوت بين الأمور، فى امتداد مجال التنافس بين الناس..
إن الاختلاف بين الأشياء فى مجال الخير والشرّ، هو الذي يملأ كل فراغ فى الحياة، ويفسح لكل إنسان مكانا فى قافلة الحياة، حسب استعداده، ونزعانه.. وهكذا تتحرك الحياة كلها، فى آفاقها الصاعدة والنازلة، على السواء!.
والذي ينظر إلى الحياة نظرة فردية جانبية، يرى هذا التفاوت بين الناس
يقول الفيلسوف الأمريكى «بوردن باركرباون» :«إن أفراد الناس يؤثّر بعضهم فى بعض، وقد يعارض بعضهم بعضا.. لكن هذا التضادّ بينهم، وهذا الانفصال والتجزؤ، يذوب كله فى عنصر واحد يحويهم جميعا..
وما قد يبدو فى عالم الجزئيات تضادّا، إن هو فى حقيقة الأمر إلا اتساق، لو نظر إليه من أعلى نظرة ترى تفصيلات الوجود كلها واحدة فى كلّ واحد».
فهذا الفهم للحياة، لا ينكر وجود الشرّ وذاتيته فى واقع الحياة الإنسانية، ولكنه حين يرتفع بالنظر عن الحياة الإنسانية الفردية، وعن مستوى هذه الأرض، لا يرى إلا عالما مشرقا، يفيض بالحسن والجمال.
إن حواسّنا، ومشاعرنا، ومداركنا، مضبوطة على مستوى هذا الوجود الأرضى الذي نعيش فيه.. وهذا التناقض، والتضادّ، والتعاند، الذي نراه- هو مما يقتضيه وجودنا، وتولده حاجاتنا، وتحققه مدركاننا وحواسنا.
ويقول الجاحظ: «وأظنك ممن يرى الطاووس، أكرم على الله من الغراب، وأن الغزال أحبّ إلى الله من الذئب.. فإنما هذه أمور فرّقها الله الله تعالى فى عيون الناس، وميّزها فى طبائع العباد، فجعل بعضها أقرب بهم
وكذلك الدرّة والخرزة، والنمرة، والجمرة.. فلا تذهب إلى ما تريك العين، واذهب إلى ما يراك العقل..
«وللأمور حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول.. والعقل هو الحجة.. وقد علمنا أن خزنة النار من الملائكة، ليسوا بدون خزنة الجنة، وأن ملك الموت ليس دون ملك السحاب، وإن أتانا بالغيث، وجلب الحياة» «١».
والذي يعنينا من هذا الكلام، أن الموجودات إنما تأخذ كيفيتها على حسب مدركاتنا، أو بمعنى أصحّ، أننا نكيّف الموجودات حسب وقوعها على حواسنا ومدركاتنا..
وإذا كان الإسلام قد جعل معيار الأخلاق وتقويمها إلى بصيرة الإنسان، يحتكم فيها إلى قلبه، ويرجع فيها إلى ضميره- فإنه لم يغفل عن الجانب الضعيف فى الإنسان، ذلك الجانب الذي تهبّ من جهته الأهواء الذاتية، والشهوات الشخصية، فتثير الاضطراب فى كيان الإنسان، وتنذره بالهلاك الذي يتهدد سفينته الضاربة فى محيط الحياة.. ففى كيان الإنسان نفس أمّارة بالسوء، ورغبات نزّاعة إلى الهوى..
لهذا كانت تعاليم الإسلام، موجهة إلى تقوية هذا الجانب الضعيف فى الإنسان، ودعمه بكل ما يضمن للإنسان الأمن والسلام من هذا الجانب، لو أنه اتبع وصايا الشريعة، وعمل بها،
أولا: أنه جعل الخير خيرا فى ذاته، والشرّ شرّا فى ذاته، ولم يلتفت إلى تلك التصورات الذهنية الطبيعة الشر والخير، وإنما نظر إليهما على أنهما كائنان قائمان فى الحياة، يشعر بهما المرء، ويجد آثارهما فى نفسه..
فالنار إذ يستدفىء الإنسان بها خير، والنار إذ تحرقه، شر.. إنها خير وخير محض فى حال، وشر وشر محض فى حال.. هذا جانب الخير يراه الإنسان فى الأشياء حين يقيسها إلى نفسه، ويحكم عليها بما تقتضيه مصلحته.. ومثل هذا جانب الشر، الذي يراه الإنسان فى الأشياء، حين يأخذها بمعياره الشخصي الذاتىّ أيضا.
ولا تحسبنّ الإسلام يجعل الخير والشر محصورين فى دائرة الإنسان الذاتية، وفى الجانب الحسّىّ من هذه الدائرة.. أي جانب اللذة والألم..
وكلّا.. فهذا جانب وإن لم ينكره الإسلام فى تقويم الخير والشر، لأنه قائم فى الحياة، لا يستطيع الناس الانفصال عنه، إلا أن الإسلام- فوق هذا- يعلو بهذا الإحساس، فيرتفع، عن الجانب المادّى إلى الجانب الروحي، ومن جانب الذاتية الفردية فى الإنسان، إلى جانب المجتمع الإنسانى من أضيق حدوده إلى آخرها، امتدادا واتساعا.. ومن أجل هذا كانت دعوة الإسلام إلى التخفيف من متاع الدنيا، كما كانت دعوته إلى البذل، والإيثار، والتضحية، ثم كان وعده بالثواب والعقاب، والجنة والنار فى الآخرة.
وثانيا: كشف الإسلام للناس عن كثير من وجوه الخير والشرّ، إذ نصّ على كثير من الأمور اعتبرها خيرا، ودعا الناس إليها، وأمرهم بها، ووعدهم الجزاء الحسن عليها.. كالصدق، والصبر، وبرّ الوالدين، والإحسان إلى الناس، بالقول والعمل، والوفاء بالعهد وأداء الأمانات إلى أهلها، والحكم
وكما كشف الإسلام عن كثير من وجوه الخير، كشف كذلك عن كثير من وجوه الشرّ، كالقتل، والسرقة، والخمر، والميسر، والزنا، والربا، والكذب، وشهادة الزور، والغيبة، والنميمة، والنفاق، والغش، والظلم والبغي، والعدوان، وكثير غير هذا، مما جاء به القرآن، وبيّنته السنّة المطهرة..
ولا شك أن الإسلام إذ يكشف عن وجوه الخير والشر، فإنما ليؤكد ما استقرّ فى ضمير الناس، وما وقع لعقولهم وقلوبهم من هذه الوجوه كلها، وبهذا تلتقى فى قلب المسلم كلمة السماء، مع منطق العقل، وواقع الحياة.. فيقبل على الخير، ويعيش معه، وينأى عن الشرّ، ويحاذر الاتصال به! وإنه لا حجة لذى عقل على أن الله سبحانه هو الذي أوجد الشرّ، كما أوجد الإنسان الذي يتعامل معه، وإذن فلا يحاسب على لقاء شىء كتب عليه أن يلقاه- لا حجة لذى عقل على هذا، فإنه كما أوجد الله الشرّ، أوجد الخير، ثم دعا إلى الخير، وحذّر من الشرّ، وجعل للإنسان عقلا ينصرف به إلى الخير والشرّ. ثم جعل للخير أثرا طيبا فى عاجل الإنسان وآجله، وجعل للشر أثرا سيئا فى عاجله وآجله.. فإذا انصرف الإنسان عما ينفعه إلى ما يضرّه، وآثر ما يسوؤه على ما يسرّه، فهو الذي جلب على نفسه ما جلب من مكروه، لأنه هو الذي آثره، ورضى به! إن الحياة بخيرها وشرها، أشبه بمائدة ممدودة، عليها ألوان من الأطعمة، بعضها طيب، يفيد الجسم وينمّيه، وبعضها خبيث يعطب الجسم ويفسده. وعلى كل لون من ألوان الطعام لافتة تحدد صفته، وتكشف عن حقيقته، وأثره
(١٤:
القيامة).. «قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها» (١٠٤: الأنعام)..
إن الإسلام ليحترم الإنسان، ويرفع قدره، ويعلى منزلته، ويخرج به عن دائرة الطفولة إلى مجال الرشد، وحمل المسئولية.. وقد أمدّه الإسلام بأمداد الرعاية والهداية، بما بعث من رسول كريم، يحمل بين يديه آيات الله وكلماته وضيئة مشرقة، تجلو غياهب الرّيب، وتكشف وجوه المنكر، فالحلال بيّن والحرام بيّن.. وما على الإنسان إلا أن يجمع رأيه، ويحزم أمره على اختيار الطريق السوىّ.. طريق الخير، والحق، والإحسان.. واجتناب الطرق المليئة بالمعاثر والمهالك.. طرق الشر، والبغي، والعدوان..
أما التحكك بالمماحكات والسفسطات، فجدل عقيم لا يلد إلّا البوار والهلاك.. والعاقل من دان نفسه قبل أن يدان، وتوقّى الشرّ قبل أن يقع فيه.
الآيات: (٣٦- ٤٧) [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٣٦ الى ٤٧]
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧)
قوله تعالى:
«وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً، أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ»..
مما كان يلقى به المشركون النبيّ- صلوات الله وسلامه عليه- الاستهزاء به، والسخرية منه، ورميه بقوارص الكلم، وفحش القول.. فذلك هو سلاح من أسلحة الجاهلين، الذين لا يحسنون غير السفاهة والفحش، حين تقهرهم الحجة، ويخرسهم البرهان..
«إن» هنا بمعنى «ما» النافية، أي ما يتخذونك إلا هزوا.. وهذا تهديد لهؤلاء الكافرين، وفضح لما يدور فى رءوسهم، وتتلمظ به شفاههم، وتتغامز به عيونهم.. إنهم إذا رأوا النبىّ تحركت هذه الكلاب التي تنبح فى صدورهم، فأرسلوها نظرات حانقة، وأطلقوها كلمات محمومة مجنونة، ترمى النبىّ من بعيد ومن قريب.. فليست هناك كلمة طيبة تخرج من أفواههم، أو نظرة وادعة تطرف بها عيونهم..
- وقوله تعالى: «أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ».. هو بعض ما يجرى على ألسنتهم من سفاهة.. والاستفهام هنا للاستهزاء والاستنكار، واستصغار قدر النبىّ الذي يتطاول إلى هذه الآلهة، فيذكرها بما يذكر من سوء عابديها! - وقوله تعالى: «وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ» جملة حالية.. أي أنهم يقولون هذا القول فى النبىّ وينكرون عليه أن يذكر آلهتهم وأن يجترىء على مقامهم، فى حال هم فيها قائمون على جرم غليظ، إذ كفروا بالرحمن، الذي وسعتهم رحمته، فلم يجعل لهم العذاب، وأفاض عليهم من فضله وإحسانه، فلم يقطع أمداده عنهم.. فما لهم يغارون على آلهتهم الصماء الخرساء، ولا يغارون على مقام الله «الرحمن» وقد أجلوه من قلوبهم، وأخلوا مشاعرهم من كل توقير له؟
قوله تعالى:
«خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ».
الإنسان هنا، هو مطلق الإنسان.. فكل إنسان مفطور على حبّ العاجل يتعجّل كل شىء.. الخير والشرّ.. كما يقول الله تعالى: «وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا» (١١: الإسراء).
وفى هذا يقول سبحانه: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ» (٤٥: البقرة) ويقول: «وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» (سورة العصر).
فالصبر هو زاد المؤمنين، وهو عدّتهم فى مواجهة الحياة..
أما من تحففوا من هذا الزاد، فإنهم أبدا فى همّ وقلق، تمرّ الأيام بهم بطيئة ثقيلة.. يريدون أن يجتمع لهم فى يومهم كلّ ما يمكن أن تطوله أيديهم، وتمتد إليه آمالهم.. إنهم يريدون حياتهم يوما واحدا أو ليلة واحدة، كليلة جنود الحرب، يقضونها ليلة صاخبة لاهية، يفرغون فيها كلّ ما فى جيوبهم، ويلقون فى وقودها كل ما معهم من مال ومتاع.. أما الغد فلا نظر إليه، ولا حساب له..
والمشركون يستعجلون كل شىء.. حتى الهلاك، والبلاء الذي أنذروا به، ويقولون فى إلحاح ولجاج: متى هو؟
- وفى قوله تعالى: «سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ» هو الجواب على ما يستعجل به المشركون من عذاب الله، ومن الخزي الذي سيحل بهم يوم يجىء نصر الله والفتح.. وهو تهديد للمشركين، بما سيلقون على يد المؤمنين من هوان وذلة، يوم يرون آيات الله، ويوم تهزم الفئة القليلة الفئة الكثيرة! قوله تعالى:
«لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ»..
- وفى قوله تعالى: «وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ» إشارة إلى أنهم لن ينصروا فى هذه الدنيا، بل ستحلّ الهزيمة بهم، وأنهم لن يجدوا فى الآخرة من ينصرهم من بأس الله إذا جاءهم.
قوله تعالى:
«بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ».
الضمير فى «تَأْتِيهِمْ» يراد به السّاعة التي يكذبون بها، ويستعجلونها..
فالساعة لا تأتيهم حسب تقديرهم، وحسب موعد معلوم لهم.. بل ستأتيهم بغتة، أي مباغتة، ومفاجأة «فَتَبْهَتُهُمْ» أي تخزيهم، وتفضح معتقدهم فيها..
«فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها» أي دفعها ومنعها.. إنها بلاء واقع بهم، ليس لها دافع.. «وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ» أي لا ينتظر بهم فى الدنيا، حتى يصححوا معتقدهم، ويهيئوا أنفسهم للقاء هذا اليوم..
قوله تعالى:
«وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ»..
هو عزاء للنبىّ، وتسرية لما يلقى من قومه من أذى، وما يواجه به من استهزاء وسخرية.. فهو ليس وحده من بين رسل الله، الذي وقف منه قومه هذا الموقف اللئيم، بل إن كثيرا من رسل الله قد أعنتهم أقوامهم، وأغروا بهم السفهاء منهم..
قوله تعالى:
«قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ».
الكلأ، والكلاءة: الحفظ والرعاية، والحراسة.. يقال: كلأه الله:
أي حرسه وحفظه.. ومنه الكلأ، وهو العشب الذي ترعاه الماشية، والذي عليه قوام حياتها..
والمعنى: من يكلؤكم أيها المكذبون الضالون المشركون، ويحفظكم من الله إن أراد بكم سوءا، أو أخذكم بعذاب من عذابه بالليل أو بالنهار؟ أهناك من آلهتكم ومعبوداتكم من يدفع عنكم بأس الله إن جاءكم؟ انظروا إلى هذه الآلهة وماذا يمكن أن يكون لها من حول وطول أمام حول الله وطوله؟ إنه لا شىء إلا العجز والاستخزاء..
وفى الآية الكريمة إشارتان:
الأولى فى قوله تعالى: «يَكْلَؤُكُمْ» وقد جاءت بمعنى يمنعكم، ويحرسكم..
وفى التعبير عن هذا بالكلاءة إشارة إلى أن الإنسان- مهما ملك من جاه وقوة وسلطان- هو كائن عاجز ضعيف، محتاج إلى قوة عليا، ترعاه، وتمدّه بأسباب الحياة والبقاء.
والإشارة الثانية فى قوله تعالى: «مِنَ الرَّحْمنِ» وقد جاءت هذه الصفة الكريمة من صفات الله سبحانه وتعالى، لتشير إلى واسع رحمته، وعظيم فضله، وأنّ هؤلاء المشركين الضالين، قد بالغوا فى غيّهم، وضلالهم، ومحادّتهم لله
- وفى قوله تعالى: «بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ» - إشارة إلى أن هؤلاء المشركين، قد شغلوا بما هم فيه من لهو ومتاع، وأنهم لهذا لا يذكرون الله، وأنه إذا جاءهم من يذكّرهم بالله، ويعرض عليهم آياته وكلماته، أعرضوا، وسفهوا.. وذلك غاية فى الضلال والخسران.. إذ أنه قد يغفل الإنسان عن الخطر الذي يتهدده، وينسى أو يتناسى المكروه الذي يترصده، فإذا هلك فى هذا الوجه، كان له بعض العذر عند نفسه أو عند الناس، أما من ينبّه إلى الخطر فلا ينتبه، ويحذّر من البلاء فلا يرعوى، فإنه إذا لقى مصيره المشئوم، لم يجد من يعذره، أو يرثى له..
قوله تعالى:
«أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا؟ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ».
هو مطالبة لهؤلاء المشركين الذين لجّوا فى ضلالهم وطغيانهم، أن يأتوا بمن يمنعهم من دون الله، ويدفع عنهم يأسه إن جاءهم.. فليسأل المشركون أنفسهم هذا السؤال: ألهم آلهة تمنعهم من دون الله؟ فإن هم عموا عن حقيقة آلهتهم، وقالو: نعم، إن لنا آلهة نعبدها، ونرجو نصرها وعونها- إن هم قالوا هذا الضلال، وجدوا فى قوله تعالى: «لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» - ما يردّ عليهم هذا السّفه، ويبطل هذا الباطل.. فإن هذه الآلهة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، ولا ردّ السوء إذا وقع بها، فكيف تنصر غيرها، وتدفع السوء عنه؟.
- وفى قوله تعالى: «وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ» إشارة إلى أن هؤلاء المشركين،
إذ لا عمل يشفع لهم عند الله، ويردّ عنهم بأسه، فلا يصحبون من الله بعون أو نصر..
قوله تعالى:
«بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ».
أي أن هؤلاء المشركين قد مدّ الله لهم، فى ضلالهم، ولم يعجّل لهم العذاب بل متعهم، كما متّع آباءهم المشركين من قبلهم، حتى استوفوا آجالهم..
وقد حسبوا- لضلالهم- أن الله غافل عما يعمل الظالمون، وأنهم بمنجاة من بأس الله، لما فى أيديهم من مال ومتاع.. وذلك ظنهم بربّهم هو الذي أرداهم..
لقد جهلوا قدر الله، ولم يرجوا له وقارا، ولم يخشوا له بأسا.. ولو نظروا فيما بين أيديهم وما خلفهم لرأوا كيف تأتى غير الله، وكيف يقع بأسه بالظالمين فكم أهلك الله قبلهم من قرون؟ وكم أذلّ من جبابرة؟ وكم بدّل من أحوال وأوضاع؟ فهل بقي حال على حاله، أو ظل ذو سلطان فى سلطانه؟ أم أنهم هم القوة التي لا تغلب ولا تنزل بها الأحداث والغير؟ «أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها؟ أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟» والاستفهام الأول للأمر، والثاني للتهديد..
والمراد بالاستفهام الأمرى: إلفات المشركين إلى ما يقع من غير الله فى الناس، وأنه سبحانه القوى القهار، يذلّ الجبابرة، ويرغم أنوف المتكبرين، فإذا هم فى لباس الذلة بعد العزة، وفى دار الهوان بعد الكرامة، وفى ضنك العيش بعد النعمة والرفاهية. هذه سنة الله فى هذه الدنيا، فلا شىء فيها يبقى على حال، بل كل شىء إلى زوال: «أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ
؟ فالنقص لأطراف الأرض هو النقص فى النعم، من مال، ومتاع، وبنين، ومن قوة وصحة، ومن جاه وسلطان، يقابل ذلك زيادة فى هذه النعم، وذلك بما يقع من تبدل فى أحوال الناس.. حيث تنتقل هذه النعم من يد إلى يد، ومن جماعة إلى جماعة، ومن أمة إلى أمة، كما يقول سبحانه وتعالى:
«وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ».. فيلبس الفقير ثوب الغنى، كما يلبس الغنىّ ثوب الفقر، وهكذا الحال فى كل نعمة.. فالدنيا: حياة وموت، وغنى وفقر، وصحة ومرض.. إلى غير ذلك مما يتقلب فيه الناس من شئون..
وهذا هو السرّ فى التعبير القرآنى: «مِنْ أَطْرافِها» حيث أشار ذلك إلى أطراف من الأرض، أي جوانب منها. وهى الجوانب التي تمثل سلب النّعم، أما الجوانب الأخرى التي تساق إليها النعم، فهى مسكوت عنها فى هذا المقام، الذي هو مقام تهديد ووعيد لهؤلاء المشركين، الذين طال عليهم العهد وهم فى تلك النّعم التي أنستهم ذكر الله، والتي هى على وشك أن ترحل عنهم، وتفلت من أيديهم.. فإنهم لا يستطيعون دفع بلاء الله إذا نزل بهم: «أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟».
وقد ذهب أكثر المفسّرين إلى أن هذه الآية مدنية فى السورة المكية، وأقاموا معناها على أن نقصان الأرض من أطرافها، هو إشارة إلى ما يغلب عليه المسلمون من أرض المشركين والكافرين.. وأن المسلمين ينقصون الأرض التي فى أيدى الكافرين بالفتوحات الإسلامية، وبضمها إلى أيديهم..
وهذا المعنى بعيد فى نظرنا.. وذلك من وجوه:
أولا: أن فتح المسلمين للأرض، وضمها إلى حوزة الإسلام ليس نقصا للأرض، بل هو زيادة فيها، ونماء لها.. إذ كان ذلك الفتح مما يبارك على الأرض خيرها، وبضاعف ثمرها، بما ينشر فيها من عدل، وأمن، وسلام..
وثالثا: أن المقام مقام تهديد للمشركين، بهلاكهم، وتبديل أحوالهم..
إن لم يكن ذلك ببلاء عاجل يأخذهم الله به، كان ذلك بحكم الزّمن وبسنن الله الكونية التي أجراها على الناس.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ» (٤: ق).
ورابعا: السورة كلها مكية، ولا معنى لأن يقال إن هذه الآية وحدها هى الآية المدنية فيها، حيث أن سياق النظم يجعلها قطعة من هذه السورة، مرتبطة ارتباطا وثيقا بما بعدها وما قبلها.
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ».
هو تنبيه لهؤلاء المشركين الغافلين، الذين إذا ذكروا بآيات ربّهم أعرضوا عنها، ولم يلتفتوا إلى ما يدعون إليه من هدى وخير.. وقد أمر الله سبحانه وتعالى النبىّ الكريم أن ينخسهم بهذا الأسلوب الزاجر، وأن يقرعهم بتلك المقرعة الموجعة، حتى تتأثر لذلك قلوبهم القاسية، وتستشعر به مشاعرهم المتبلّده، وطباعهم الجافية الغليظة..
فهم يعرفون أن ما ينذرهم به النبىّ، هو وحي يوحى إليه من ربّه.. إذ هكذا يقول لهم، وهم لهذا يكذبونه، ويستكثرون عليه أن يكون على صلة بالسماء..
- وفى قوله تعالى: «أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ» - مع أن الأمر قائم بينهم وبين النبىّ على أن ما ينذرهم به هو الوحى- فى هذا التصريح بأن ما ينذرهم به هو الوحى تشنيع عليهم، وعلى الغفلة المطبقة عليهم، وعلى الظلام الكثيف المخيم على
«وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ».
فهؤلاء المشركون، الذين غرّهم بالله الغرور، فأمنوا مكره، واستخفوا ببأسه- هم على حال من الضعف والاستخزاء يكادون يكحونون بها مثلا فريدا فى الناس.. فهم إذا مسّتهم نفحة من عذاب الله جزعوا، وانحلّت قواهم، وأكثروا من الصياح والعويل، ونسوا ما كانوا عليه من تشامخ وتعال.. ولم يجدوا شيئا من العزاء والصبر، على نحو ما يجد المؤمنون حين يبتلون من الله بشىء من الضر.
والمسّ: دون اللّمس.. والنفحة من العذاب: أهون شىء فيه وأقله، وهو بالنسبة للعذاب أشبه بالرحمة، ولهذا عبّر عنه بالنفحة، التي يغلب استعمالها فى الخير..
فهذا العذاب الذي يمسهم الله به، هو أقل العذاب، وهو يعتبر نعمة ورحمة بالنسبة إلى العذاب! فكيف إذا وقع بهم العذاب نفسه، لا نفحة منه؟
قوله تعالى:
«وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ».
ووضع الموازين: إقامتها، ونصبها لتوزن أعمال الناس فيها.. وحبة الخردل: حبة ضئيلة لا تكاد تمسك بها الأصابع.. والآية الكريمة. نذير لأولئك المشركين، الذين أشركوا بالله، وأعرضوا عن ذكر الرحمن، وظنوا أنهم فى حمى من بأس الله، بجاههم ومتاعهم.. وهب أنهم قطعوا العمر فى لهو ولعب، ونعموا بما فى أيديهم من مال وبنين، فإنهم لا بدّ ميتون، ثم إنهم لمبعوثون، ومحاسبون على ما عملوا من سوء.. فهناك حساب وجزاء، حيث تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا..
وفى جمع الموازين، إشارة إلى أن لكل إنسان ميزانا توزن به أعماله، فلا ينتظر غيره حتى يفرغ من حسابه ووزن أعماله.. بل إن الإنسان الواحد، له موازين كثيرة، بعضها لسيئاته، وبعضها لحسناته.. ولكل عمل من أعماله السيئة أو الحسنة ميزان، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ» (٦- ٩ القارعة)..
- وفى قوله تعالى: «وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» إشارة إلى عدل الله سبحانه وتعالى وإلى ضبطه لأعمال الناس، ومحاسبتهم عليها، دون أن يفلت أحد من هذا الحساب، أو يقع فى حسابه خطأ، ولو كان مثقال حبة من خردل.. فسبحان من وسع كل شىء علما.
الآيات: (٤٨- ٧٣) [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٨ الى ٧٣]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢)
قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧)
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢)
قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧)
قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢)
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣)
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ»..
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد ذكّررت المشركين وما جاءهم به النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- من هدى ورحمة، فعموا وصموا، وأعرضوا.. وفى ذكر موسى وهرون، وما آتاهما الله من كتاب، يكشف عن أمرين:
أولهما: أن النبىّ ليس بدعا فيما جاء به قومه من هدى السماء، بل إن أنبياء كثيرين، ومنهم موسى وهرون، قد جاءوا إلى أقوامهم بآيات الله وكلماته..
وثانيهما: أن اليهود، على رغم ما جاءهم من آيات الله الحسية إلى جانب آيات الكتاب، لم يستقيموا على دعوة الحق، بل كان لهم مكر بآيات الله، وكفر بها.. وفى هذا تعريض باليهود، وبأنهم على ضلال، وأنهم مدعوون إلى أن يصححوا عقيدتهم على ضوء هذا الكتاب الذي بين يدى الناس، والذي سيلقاهم به النبىّ بعد قليل..
- وفى قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ» ما يحتاج إلى بيان:
فما الفرقان؟ وما الضياء؟ وما الذكر؟
أهى شيء واحد؟ وأن الفرقان هو الضياء، وهو الهدى، وهو الذكر؟
أم هى الفرقان، والضياء، والذكر؟
وذهب أكثرهم إلى أن «الْفُرْقانَ» هو الآيات الحسّية كالعصا واليد..
اللتين كانتا من آيات موسى.. وأن «الضياء» هو «التوراة» وكذلك «الذكر»..
وذهب بعضهم إلى أن ثلاثتها شىء واحد، هى «التوراة». فهى فرقان يفرق بين الحق والباطل، وهى ضياء يكشف معالم الطريق إلى الحق، والخير، والإحسان، وهى ذكر وموعظة، لمن يطلب الذكر والموعظة، ولمن كان فى قلبه إيمان وتقوى.. حيث يذكر فتنفعه الذكرى..
ونحن نميل إلى هذا الرأى، حيث أن الآيات المادية قد ذهبت آثارها، ولم يكن لها أثر إلا فيمن شهدوها، ورأوا آثارها بأعينهم..
ونسبة إتيان الفرقان لموسى وهرون، مع أن موسى هو الذي أوتى هذا الكتاب، لأن هرون كان مشاركا لموسى فى الدعوة إلى الله بهذا الكتاب كما قال الله تعالى: «قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى».
وفى قوله تعالى: «لِلْمُتَّقِينَ» تعريض باليهود، وبأنهم لا يتقون الله، ولهذا فهم لا ينتفعون بهذا الفرقان، والضياء والذكر، الذي فى أيديهم، ولا يوقرونه، بل لقد عبثوا به، وغيروا به وبدّلوا فيه..
- وفى قوله تعالى: «الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ» صفة للمتقين.. وفى هذا الوصف تعريض باليهود، وبأنهم ليسوا على هذه الصفة، وأنهم ماديّون، لا يتعاملون إلا بالحسيات، ولهذا فهم لا يؤمنون بالله إلا إيمانا طفيفا، قلقا، ولهذا أيضا فهم لا يعملون للآخرة، ولا يشفقون مما يلقاهم فيها من عذاب الله.. إذ كان عذابها غير حاضر بين أيديهم.. إنهم لا يؤمنون بالغيب، ولا يقيمون حياتهم على التعامل به..
«وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ».
الإشارة هنا إلى القرآن الكريم.. والإشارة إليه بهذا، الذي يدل على قرب المشار إليه، إشارة إلى قربه من الأفهام، ويسر تناوله، ولانتفاع به، والاهتداء بهديه..
والضمير فى قوله تعالى: «أَفَأَنْتُمْ» قد يكون خطابا للمشركين، وفيه تهديد لهم، وتعريض باليهود..
أي أفأنتم منكرون لهذا الذكر، غير آخذين بهديه، كما هو الشأن عند اليهود مع كتابهم؟
وقد يكون الخطاب لليهود، والمعنى أفأنتم منكرون لهذا الكتاب، كما ينكره هؤلاء المشركون، وقد عرفتم وجهه بما عندكم من كتاب الله الذي فى أيديكم؟..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ»..
ومناسبة ذكر إبراهيم هنا، لأنه صاحب دعوة ورسالة كموسى، وهرون، ومحمد، ولأنه أبو هؤلاء الأنبياء.. ومن جهة أخرى، فإن موقف إبراهيم من قومه، هو نفس الموقف الذي يقفه محمد من قومه، وما يعبدون من أصنام.
وإتيان الله سبحانه وتعالى إبراهيم رشده، أي منحه الإدراك السليم، والقلب النقىّ، الذي يأبى بطبيعته قبول الرجس والخبث.
والعكوف على الشيء: مداومة الاتصال به حالا بعد حال.
ويمضى الحوار بين إبراهيم وقومه... وكلما جاءهم بحجة دامغة، التووا عليه، وردوا المنطق بالسفاهة.. يقول لهم: «ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» ؟.
وكان جديرا بهم- لو عقلوا- أن ينظروا إلى هذه التماثيل، وأن يتعرفوا على حقيقتها، وعن الآثار التي تجنى منها لمن يعبدها.. إنها لا تسمع، ولا تعقل، ولا تملك ضرا ولا نفعا،. فكيف يعطيها إنسان ولاءه، وينفق عمره فى سبيلها؟
ولكنهم لا ينظرون فى شىء من هذا، بل يريدون عليه، بداهة:
- «قالُوا: وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ» !.
هذا هو كل ما عندهم.. إنهم أطفال صغار، لا حلوم لهم.. أو قرود تقلد ما ترى، فى غير إدراك. أو وعى لما تقلده!.
«قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ»..
إنه ليس حجة أن يضل إنسان لأن من قبله كان على ضلال.. وما جدوى أن يكون للإنسان عقل ينظر به فى الأمور، ويتعرف إلى ما هو حق أو باطل، وخير أو شر!؟ ولم إذن يستعمل الإنسان عينيه، ولا يستغنى عنهما فى التعرف
«قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ».
لقد أضرب إبراهيم عن سخفهم هذا، وقطع عليهم الطريق إلى هذا الهزل الذي أرادوا أن يسوقوه إليه، ومضى يقرر الحق الذي يدعوهم إليه: «رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ» هذا هو الربّ الذي يجب أن يعبد، وإن كان لا يرى، فإن آثاره تدل عليه، وتشهد على عظمته، وجلاله، وقدرته وعلمه، وقد آمن إبراهيم بهذا الإله، وشهد شهادة الحق له..
«وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ»..
لقد أسرّ إبراهيم ذلك فى نفسه، وأراد أن يريهم هذا القول فى صورة عملية، بعد أن لم يجد القول آذانا تسمع، أو قلوبا تعى.. فهذا هو الأسلوب الذي يمكن أن يعامل به الأطفال، وصغار العقول من الرجال..
وقد صدّر إبراهيم النية التي انتواها فى شأن الأصنام، بالقسم، حتى يؤكد هذه النية التي صح عليها رأيه فى هذا الموقف، وحتى لا يرجع عنها إذا هو زايل موقفه هذا، وبردت حرارة الموقف!.
والكيد للأصنام، هو إعمال الحيلة، وإحكام التدبير فيما يريده بها.
«فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ».
وهكذا كان إبراهيم وتدبيره.. لقد دخل على مرابض الأصنام فى غفلة من عابديها، ثم أعمل فيها يده تحطيما، وتكسيرا، حتى جعلها «جُذاذاً»
«فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ؟. ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ؟. فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ.» (الآيات: ٩١- ٩٣) «قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا.. إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ»..
وحين رأى القوم آلهتهم حطاما، وقد جاءوا إليها عابدين، أخذتهم الحيرة والدهشة، واستولت عليهم حال من الذهول والوجوم.. فلما زايلتهم تلك الحال، جعلوا يتساءلون: «مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا؟» يقولونها ولا يسألون أنفسهم:
كيف يفعل بآلهتهم هذا، ولا تستطيع أن تدفع عن نفسها ما يكاد لها به؟ أآلهة تحتاج إلى من يحرسها ويحميها؟ لم يلتفتوا إلى شىء من هذا، بل مضوا يبحثون عن الجاني الذي فعل تلك الفعلة.. «إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ» ! «قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ»..
والتفت القوم إلى من يحقر هذه الآلهة، ويبغض مقامها فيهم، فلم يجدوا غير إبراهيم، الذي أنكر عليهم عبادتها، وسخر من قبل بهم وبها! «قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ»..
وجاءوا بإبراهيم، ووضعوه موضع المساءلة والاتهام، على أعين الناس، وبمشهد من الجموع الحاشدة، التي هزّها هذا الحدث العظيم! «قالُوا: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ» ؟.
«قالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا.. فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ؟».
بهذا الأسلوب الساخر القاتل، يجيب إبراهيم على اتهام القوم له.
أنا لم أفعل هذا بتلك الأصنام، بل الذي فعله، هو كبيرهم هذا، الذي ترونه قائما على هذه الأشلاء! لقد قامت بينه وبين أتباعه معركة، وليس هذا ببعيد،
أما الجاني فقد ينكر جنايته، ولا يكشف عن فعلته.. وهذا هو السرّ فى أن طلب إبراهيم إليهم أن يسألوا المجنى عليهم لا الجاني..
هذا، وقد أكثر المفسرون فى الحديث عن اتهام إبراهيم للأصنام، ودفع التهمة عنه.. ودخلوا فى جدل طويل حول هذا الكذب، والمواطن التي يباح فيها للمرء أن يكذب، وعدّوا هذا الذي كان من إبراهيم من الكذب المباح المتجاوز عنه.. لأنه من قبيل التقيّة، التي يجوز المؤمن فيها أن ينطق بكلمة الكفر إذا تعرض للبلوى، ما دام قلبه مطمئنا بالإيمان..
والأمر لا يحتاج إلى شىء من هذا، فما قال إبراهيم هذا القول، وهو يقدّر أن القوم يصدقونه، أو يأخذون به.. وعندئذ يمكن أن يقال إن هذا كذب مباح ومعفوّ عنه.. وإنما قال إبراهيم ما قال، استهزاء بالقوم، وسخرية منهم، وكشفا لهم عن حقيقة هذه الأحجار.. ولهذا ردّوا عليه قوله: «لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ» ! أي إنك تقول هذا القول ساخرا مستهزئا، لأنك
أي إنه حين جابههم إبراهيم بهذا الجواب بهتوا، ووقع فى أنفسهم هذا القول الذي قاله، أنه حق، وأنهم على ضلال، وما كان لهم أن يعبدوا هذه الدّمى، وتلك الخشب المسندة.. إنها لحظة خاطفة أشرقت فيها أنفسهم بنور الحق، واستبان لهم على ضوء هذه اللمعة أنهم على ضلال، وأنهم قد ظلموا أنفسهم بهذا الضلال الذي هم فيه، ولو وجدت هذه الشرارة المنطلقة من أعماق فطرتهم، شيئا من العقل المستبصر، والبصيرة النافذة- لاشتعلت هذه الشرارة فى كيانهم، ولأضاءت عقولهم وقلوبهم، ولطردت هذا الظلام الكثيف المخيم عليهم.. ولكن ما أن كادت هذه الشرارة المضيئة تنطلق، حتى نفخ فيها الهوى، والضلال، فماتت فى مهدها، وخبت فى مكانها! «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ.. لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ»..
لقد صحّ وضع القوم فى الحياة، حين أوقفهم إبراهيم على أقدامهم، وأراهم من آلهتهم ما هى عليه من ذلّة وضعف واستسلام، فرأوا وجه الحق مشرقا مضيئا.. ولكن سرعان ما غلب عليهم ضلالهم، فعادوا إلى وضعهم الأول المنكوس، ونكسوا على رءوسهم، فرأوا الأشياء فى وضعها المقلوب، كما كانوا يرونها من قبل.. رأوا الحق باطلا، والباطل حقا.. وعادوا إلى إبراهيم يحاجّونه بهذا الضلال: «لَقَدْ عَلِمْتَ.. ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ؟» «قالَ: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. أَفَلا تَعْقِلُونَ» ؟
«أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. أَفَلا تَعْقِلُونَ» ؟ وربما قال إبراهيم هذا فيما بينه وبين نفسه، فبعد أن واجههم بهذا الإنكار: «أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ؟» رجع إلى نفسه، فأدار فيها هذا الحديث بينه وبينها..!
وكلمة «أُفٍّ» هنا، معناها: بعدا لكم ولما تعبدون من دون الله. فالتأفف من الشيء، يشير إلى التأذى منه، والضيق به.. وهو حكاية للصوت التي يحدثه الإنسان بأنفه وفمه، حين يشمّ ريحا خبيثة.. ثم أتبع ذلك بهذا الاستفهام الإنكارى: «أَفَلا تَعْقِلُونَ» ؟ أي أمالكم عقول كسائر الناس، حتى تستسيغوا هذا المنكر، وتسكنوا إليه؟.
«قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ».
هذا هو موقف العاجز، أمام حجة العقل والمنطق.. إنه لا يملك إلا أن يتحول إلى حيوان، ينطح بقرونه، وينهش بمخالبه وأنيابه! لقد اتهموا إبراهيم، وأدانوه، وأصدروا حكمهم عليه: «حَرِّقُوهُ» ! هكذا بكلمة واحدة يقضون قضاءهم فيه..
وفى قولهم: «وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ» تحريض على إمضاء هذا الحكم وإنفاذه، فهو انتصار لا لأشخاصهم، وإنما هو انتصار لآلهتهم.. فمن لم يقف معهم فى هذه الجبهة المدافعة عن الآلهة، ومن لم يضرب بيده فى وجه هذا المعتدى عليها، فلينتظر غضب الآلهة، وما يحلّ به من بلاء!! وفى قولهم: «إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ» تحريض بعد تحريض، على إنفاذ الحكم الذي حكموا به على إبراهيم..
أي إن كنتم منتصرين لآلهتكم، غير خاذلين لها، فحرقوا إبراهيم، وانصروا آلهتكم. أما إذا خذلتموها.. فهذا أمر آخر!! «قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ».
وهكذا أمضى القوم حكمهم فى إبراهيم، فأوقدوا نارا عظيمة، وألقوه فيها.. ولكنّ رحمة الله تداركته، وعنايته أحاطت به، فلم يخلص إليه من النار أذى، بل كانت بردا وسلاما عليه..
وفى قوله تعالى: «عَلى إِبْراهِيمَ».. بذكر إبراهيم، بدلا من الضمير- فى هذا تكريم لإبراهيم، ورفع لقدره، وتمجيد لاسمه! وانظر إلى قدرة الله.. النّار المتأججة الجاحمة، يلقى بإبراهيم فى لهيبها المتضرّم دون أن يجد لهذه النار أثرا من الحرارة.. بل لقد تحولت إلى برد يحتاج المرء معه إلى نار تدفئه! فكان قوله تعالى: «وَسَلاماً» هو الأمر الذي صدعت له النار فأعطت بردا لطيفا لا تقشعر منه الأبدان.. بل هو أشبه بنسائم العشىّ بعد نهار قائظ..
أي إنهم أرادوا أن يكيدوا لإبراهيم، وأن يقضوا عليه بهذه الميتة الشنعاء..
فنجاه الله منهم، وألبسهم ثوب الخسران فى الدنيا، إذ لم ينالوا من إبراهيم منالا، وأعدّ الله لهم فى الآخرة عذابا عظيما..
«وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ».
أي أن الله سبحانه وتعالى بعد أن خلص إبراهيم من النار، خلّصه كذلك من يد هؤلاء الضالين، فاعتزلهم، «وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ». وقد نجّى الله معه لوطا، لأن لوطا عليه السلام، هو وحده الذي استجاب له، وآمن به، كما يقول سبحانه: «فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (٢٦: العنكبوت).
«وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ».
أي أن الله سبحانه وتعالى بعد أن نجّى إبراهيم من قومه، أكرمه الله تعالى، وأقام له من نسله قوما، فوهب له إسحق، ثم وهب له لإسحق يعقوب، وبارك نسله وكثّره، فكان أمة.. وفى قوله تعالى: «نافِلَةً» - إشارة إلى أن يعقوب لم يولد لإبراهيم، وإنما ولد لابنه إسحق.. فهو ابن ابن له وليس ابنا.. فهو بهذا نافلة، أي زيادة على الولد الموهوب.
وفى قوله تعالى: «وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ» إشارة إلى أن إسحق ويعقوب لم يكونا مجرد ولدين، بل كانا ولدين صالحين، من عباد الله الصالحين، كما كان أبوهما إبراهيم، صالحا من الصالحين..
«وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ».
وفى قوله تعالى: «يَهْدُونَ بِأَمْرِنا» إشارة إلى أنهم كانوا رسلا، يوحى إليهم من عند الله. وبهذا الوحى يبشرون الناس وينذرونهم، ويدعونهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وعمل الصالحات.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ» أي أن ما أوحاه الله إليهم هو فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة..
وفى قوله تعالى: «وَكانُوا لَنا عابِدِينَ» إشارة إلى أن هؤلاء الرسل لم تلههم دعوة الناس إلى الهدى، عن ذكر، الله ولم يصرفهم ذلك عن أن يأخذوا حظهم كاملا من عبادة الله، وذكره فى كل لمحة وخاطرة.
الآيات: (٧٤- ٨٢) [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٤ الى ٨٢]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨)
فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)
قوله تعالى: «وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ»..
لما كان لوط- عليه السلام- هو الذي استجاب لإبراهيم من قومه، واتّبعه وآمن به، فقد كان من فضل الله سبحانه وتعالى عليه، أن اصطفاه للنبوة، وآتاه حكما وعلما، إذ كان هو النبتة الصالحة من بين هذا النبت الخبيث كله..
ثم نجاه الله سبحانه وتعالى من العذاب الذي أخذ به قومه وأهلك به قريته، التي كانت تعمل الخبائث، وتأتى المنكر جهارا.. وهكذا ينصر الله المتقين من عباده، ويفيض عليهم من كرمه وإحسانه، ويأخذ الظالمين المفسدين بالعذاب البئيس، جزاء بما كانوا يعملون..
قوله تعالى:
«وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ»..
«وَنُوحاً» معطوف على «لُوطاً» وهو عطف حدث على حدث، وقصة
ودعاء نوح على قومه، هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى فى قوله: «فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ» (١٠: القمر) وفى قوله سبحانه: «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» (٢٦: نوح).
وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لنوح، فأهلك قومه جميعا بالغرق، ونجاه هو ومن آمن معه، وما آمن معه إلا قليل..
و «الْكَرْبِ الْعَظِيمِ» : هو الطوفان..
وفى قوله تعالى: «وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» - جاء حرف الجرّ «من» بدلا من «على» الذي يقتضيه الفعل، فإن «نصر» يتعدّى بعلى لا بمن تقول نصرت فلانا على فلان.. وذلك لأن الفعل هنا تضمّن، معنى الانتقام والانتصاف لنوح من قومه، إذ كانوا هم الذين اعتدوا عليه، وبادءوه بالسفاهة، وتوعدوه بالسوء، وتهددوه بالرجم- فكان نصر الله له انتصافا لنوح منهم، وانتقاما له من عدوانهم عليه.. وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: «وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا» أي أخذنا له بحقه من القوم الذين كذبوا بآياتنا، واعتدوا على رسولنا، وانتصفنا له منهم.
ولو جاء النظم القرآنى على ما يقضى به مطلوب الفعل «نصر» فكان النظم هكذا «نَصَرْناهُ» على القوم الذين كذبوا بآياتنا، لما أعطى الفعل هذا المعنى الذي أفاد النصر، والانتقام معا، والذي دلّ على أن القوم كانوا معتدين، ظالمين.. ولوقف بمعنى النصر عند حدود هذا المعنى المجرد، الأمر الذي يمكن أن يفهم منه النصر على أنه نصر بين متخاصمين، لا يعرف منهما المحقّ من المبطل
قوله تعالى:
«وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً».
نفشت فيه غنم القوم: أي عاثت فيه فسادا، وانطلقت ترعى بغير ممسك يمسك بها على مكان معين من الحرث.. وأصل النفش: الانتشار، ومنه قوله تعالى: «كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ».. والحرث: هو الزرع، الذي هيئت له الأرض وحرثت، وبذر فيها الحب.. وليس هو الزرع الذي ينبت من غير جهد إنسانى.
وداود وسليمان، هما النبيان الكريمان، من ذرية إبراهيم، ومن أبناء يعقوب.. وداود هو الأب، وسليمان هو الابن.
وهذه الآية الكريمة تمسك بحدث من الأحداث التي وقعت لداود وسليمان.. وكان داود فى مجلس الحكم والفصل بين الناس، فيما يقع بينهم من خصومات.
وقد ذكر القرآن الكريم لداود قصة أخرى من قصص الفصل فى الخصومات وهى قصة الأخوين اللذين كان لأحدهما نعجة وللآخر تسع وتسعون نعجة..
وقد جاء فى أعقاب هذه القصة قوله تعالى: «يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» (٢٦: ص).
ففى قوله تعالى: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» إشارة إلى أن سليمان هو الذي عرف وجه الحق فى هذه القضية، ووقع على الرأى الصحيح فيها.. وذلك بفهم آتاه الله سبحانه وتعالى إياه.. كما يقول سبحانه: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» وقوله تعالى: «وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً» هو تعقيب على قوله تعالى «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» الذي قد يفهم منه أن سليمان قد أوتى فهما من الله وأن داود قد حرم هذا الفهم، فكان ذلك دافعا لهذا الوهم.. إذ أن كلّا من داود وسليمان، قد لبس من فضل الله ومن إحسانه حللا، وأن كلّا منهما قد أوتى من الله حكما وعلما.. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون أحدهما أكثر علما من الآخر، فالعلم درجات لا حدود لها والله سبحانه وتعالى يقول: «نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» (٧٦: يوسف).
والقرآن الكريم لم يكشف عن تفاصيل هذه القضية. ولم يتحدث عن الحكم الذي حكم به داود فيها، ولا عن وجهة نظر سليمان فيما حكم به أبوه..
ذلك أن كل هذا لا يقدّم شيئا فى تحقيق الغاية التي جاءت لها القصة، وهو أن الفصل فى الخصومات بين الناس أمر خطير، يحتاج إلى علم واسع، وبصيرة نافذة، ونفس تجردت من كل هوى، وإلا كان الخطأ والزلل، الذي من شأنه إن شاع أفسد حياة الناس، وأغرى بعضهم ببعض.. ومن جهة أخرى
ومن هنا كان على من يقوم للفصل فى الخصومات، أن يكون على حذر دائما، وألّا يعجل بالرأى الذي يظهر له لأول نظرة، بل يقلب وجوه النظر كلها، ويعرض بعضها على بعض.. فما كان منها أقرب إلى الحق والعدل أخذ به.. وفى هذا يقول النبي الكريم: «إنما أنا بشر وإنكم لتختصمون إلىّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما، هى قطعة من النار، فليأخذها أو يدعها..».
هذا- والله أعلم- هو المقصد الذي جاءت له هذه القصة.. وهى فى هذا النظم الذي جاءت عليه، مؤدية- فى أكمل أداء وأتم صورة، وأعجز إعجاز وإيجاز- المقصد الذي قصدت إليه.
أما القصة، فهى- كما جاءت فى روايات المفسرين وأصحاب السير- تتلخص فيما يلى، وهو مما يروى عن ابن عباس: كان لجماعة زرع، وقيل كرم تدلّت عنا قيده، وكان لآخرين غنم ترعى قريبا من هذا الزرع أو الكرم، فغفل عنها رعاتها، فانطلقت إلى الزرع، فانتشرت فيه، وعاثت فى أرجائه.
وجاء أصحاب الزرع يشكون أصحاب الغنم إلى داود، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث!.. فلما لقى سليمان أصحاب الغنم قال لهم: كيف قضى بينكم؟ فأخبروه، فقال: لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا، فلما علم داود بذلك دعاه، فقال: كيف تقضى بينهم؟ قال: أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث فيكون لهم أولادها وألبانها وصوفها ومنافعها، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم، فإذا بلغ الحرث الحدّ الذي كان عليه، أخذه أصحاب الحرث، وردوا الغنم إلى أصحابها. فقصى داود بهذا!!
قوله تعالى:
«وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ».
«صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ» : اللبوس هنا ما يلبس للحرب، من دروع وغيرها.
«لِتُحْصِنَكُمْ» أي تكون لكم حصنا ووقاية فى القتال.
«مِنْ بَأْسِكُمْ» : أي من عدوان بعضكم على بعض.. والبأس: الشدّة، والقوّة.
وهذه الآية هى تفصيل لمجمل قوله تعالى: «وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً»، وهى- من جهة أخرى- دفع لهذا الوهم الذي قد يتسرب لبعض العقول من قوله تعالى: «فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ» والذي قد يقع منه فى الفهم. انتقاص لقدر داود عليه السلام..
فداود عليه السلام. نبىّ كريم عند الله، محفوف بفضله وإحسانه..
ومن فضل الله عليه أنه سخّر معه الجبال والطير، تسبّح جميعها بحمد الله، وتشكر له.. فإذا سبّح بحمد الله، وجد الوجود كله من حوله، من جماد وحيوان، يسبّح معه، ويأتمّ به فى هذا التسبيح، فيكون من ذلك كلّه نشيد متناغم، يملأ أسماع الكون، فتفيض به مشاعر داود، ويرتوى منه قلبه، ويصبح كيانه كلّه نغما منطلقا بتمجيد الله، مترنّما بتقديسه وحمده.
وفى قوله تعالى: «وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ» إشارة إلى أن هذه الكائنات، من جبال وطير، مسخرات من الله، لتسبيحه وتمجيده، كما سخّر داود من الله لتسبيحه وتمجيده، وأنها قد انضمت مع داود وتجاوبت معه، وائتلفت به.. وهذا ما جعل لداود هذا الإحساس بها، حين أزيل الحجاب بينه وبينها،
«مَعَ داوُدَ» بدلا من «لداود».. فالجبال والطير هنا مسخرة معه للتسبيح والتمجيد، وليست مسخرة له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ» (١٠: سبأ).
وفى قوله تعالى: «وَكُنَّا فاعِلِينَ» - إشارة إلى أن هذا الفضل من الله سبحانه على داود، كان بتقديره، وبما أوجبه جلّ شأنه على نفسه من الإحسان إلى المحسنين من عباده.. وقد كان داود أحسن خلق الله صوتا.. وقد جعل «الزّبور» ترانيم، ذات نغم شجى، يسبح فيه بحمد الله.. فتتجاوب مع صوته الكائنات من جماد وحيوان..
قوله تعالى:
«وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.. فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ».
أي أن من فضل الله تعالى على داود، أن علمه صنعة الدروع. بعد أن ألان له الحديد، كما يقول سبحانه: «وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ» (١٠، ١١: سبأ).
وفى قوله تعالى: «لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ» إشارة إلى أن هذه الدروع، هى مما يدفع به الله بأس الناس، ويردّ به عدوان بعضهم على بعض.. وهى نعمة تستوجب من الناس الحمد والشكر لله رب العالمين.
كيف تكون هذه الدروع نعمة من نعم الله، تستوجب الحمد والشكر، وهى أداة من أدوات الحرب، وعدّة من عدده؟ ثم هى من جهة أخرى، قد تكون قوة من قوى البغي والعدوان، يفيد منها أهل البغي والعدوان أكثر مما يفيد منها أهل الاستقامة، والسلامة؟
والجواب على هذا، من وجوه:
أولا: أن هذه الدروع فيها حصانة، وصيانة لكثير من الدماء التي كان يمكن أن تراق، وللأرواح التي كان يمكن أن تزهق فى القتال الذي يلتحم بين الناس.. فهى- كما ترى- عامل مخفف من ويلات الحرب، ودافع لكثير من شرورها.. فلو قدّر أن يلتقى فى ميدان القتال أعداد من المتقاتلين بدروع وآخرون مثلهم بغير دروع، لكان حصيد الحرب، وحصيلتها من الدماء والأرواح فى الميدان الأول، أقلّ بكثير جدا مما يقع فى الميدان الآخر..
إذ كان الأولون يقاتلون وهم فى هذه الحصون من الدّروع، على حين يقاتل الآخرون وهم فى معرض الهلاك مع كل طعنة أو ضربة!:: فهذه الدروع نعمة تستوجب الشكر من الناس جميعا، أقويائهم وضعفائهم على السواء..
ولا يدفع هذا، بالقول بأن هذه الدروع فد تغرى الناس بعضهم ببعض، وتدفع بهم إلى القتال، إذ يجدون فى أيديهم ما يدفع عنهم خطر الحرب، ويبعد من احتمال الموت فيها..
فهذا القول، وإن بدا فى ظاهره شيئا مقبولا، إلا أنه فى حقيقته قائم على غير هذا الوجه..
ذلك أن كل قوّة مستجلبة غير القوى الجسدية الإنسان، هى متاحة للقوىّ والضعيف منهم، وأن الضعيف، يستطيع بهذه القوى المستجلبة أن يبطل
وننظر فى المجتمع الإنسانى اليوم، فنجد أن اختراع القنبلة الذرية، التي هى أشنع ما عرف من أدوات التدمير والإهلاك.. قد كانت فى أول أمرها يوم وقعت ليد أمة من الأمم، كانت مصدر خطر عظيم فى يد هذه الأمة، تكاد تهدد به العالم، ولكن سرعان ما سعت غيرها من الأمم إلى امتلاك هذه القوة الرهبية، وسرعان ما بطل مفعولها أو يكاد يبطل، حيث أنها نذير بالشرّ العظيم للأطراف المتحاربة بها جميعا.. وهنا نلمح إشارة مضيئة من قوله تعالى:
«وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» - تشير إلى قوله تعالى: «وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ.. فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ» فالقصاص إزهاق نفس، ولكن فيه حياة لنفوس، إذ أن القصاص يقتل فى نفوس، كثير من الناس ممن تحدثهم أنفسهم بالقتل- يقتل فيهم تلك النزعة الداعية إلى القتل، خوفا من أن يقتل القاتل بمن قتله.. وكذلك الدروع التي يلبسها المتحاربون، هى وقاية لكل منهما من عدوان الآخر عليه..
وليس هذا شأن الدروع وحدها، بل هو شأن كل وسائل القتال، والدفاع.
فهى وإن كانت أداة تدمير وهلاك، هى فى الوقت نفسه عامل ردع وزجر..
بل إنها دعوة إلى السلام، وإخماد نار الحروب، إذا توازنت القوى بين الأمم.
وقد كان من تدبير الله تعالى، أن وضع هذه الدروع أول ما وضعها فى يد نبىّ كريم، لا يكون منه بغى أو تسلط.. ثم أصبحت ملكا مشاعا فى الناس جميعا..
وثانيا: أن القرآن الكريم فى حديثه عن الدروع، وعن أنها نعمة تستوجب الشكر، إنما يتحدث إلى المجتمع الإنسانى، الذي من طبيعته البغي
وثالثا: هذه الدروع أو لبوس الحرب، لها دور سلبىّ لا إيجابى، بمعنى أنها- فى ذاتها- تدفع الشر، وتردّه، ولا ينطلق منها شر إلى أحد..
كما هو الحال فى السيوف، والحراب، والمدافع، وغيرها.. إنها أداة دفاع، وليست أداة هجوم.. إنها تتلقى الضربات، ولا تضرب، ولا يضرب بها.
قوله تعالى:
«وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ»..
هو معطوف على قوله تعالى: «وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ».. أي وكذلك سخّرنا لسليمان الريح عاصفة.. وقد بيّنا فى الآية السابقة السرّ فى تعدية الفعل «سَخَّرْنا» بأداة المعية «مع» وعدم تعديته بلام الملك «اللام» وقلنا إن الجبال والطير لم تكن مسخرة لداود، بل كانت مسخّرة لتسبّح بحمد الله معه.. فهى مصاحبة له، فى التسبيح.. وليست مسخّرة لخدمته..
أما هنا، فإن الريح مسخرة لسليمان، خاضعة لأمره، قد جعلها الله سبحانه وتعالى، مطية ذلولا له، تجرى بأمره رخاء حيث شاء..
وهذا ما ينبغى أن يفهم عليه قوله تعالى: «وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ» (١٢: سبأ) فقد تضاربت أقوال المفسّرين فى هذه الريح، وفى امتداد ملك سليمان بها، وأنها كانت تقطع به ملكه فى شهر ذاهبة، وشهر راجعة.. وهذا ما لا يتسع له ملك سليمان بحال أبدا..
والمعنى الذي تفهم عليه هذه الآية الكريمة، هو المعنى الذي يشعّ من قوله تعالى: «تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها» وهو أنها فى «غُدُوُّها» أي مسراها فى غدوة النهار، تقطع من المسافة ما يقطعه السائر على قدميه، أو على دابته فى شهر.. كذلك «رَواحُها» وهو رجوعها آخر النهار.. يقدّر بمسيرة شهر للراجل أو الراكب.. والغدوة قد تكون ساعة أو ساعتين، أو ثلاثا، أو أكثر، وكذلك الرّوحة.
قوله تعالى:
«وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ».
أي وسخرنا لسليمان «مِنَ الشَّياطِينِ» أي من بعض الشياطين لا كلّهم،
وفى قوله تعالى: «وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ» إشارة إلى أنهم محكومون بقدرة الله، وأن تلك القدرة هى الحافظة لهم، والممسكة بهم، على خدمة سليمان، وطاعة أمره.. ولولا هذا لتفلّتوا منه، وخرجوا عن طاعته، فليس سليمان هو الذي سخر هذه الشياطين، وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي سخرها له..
الآيات: (٨٣- ٩١) [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٨٣ الى ٩١]
وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)
[أولياء الله وما يبتلون به] قوله تعالى:
«وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ».
هو معطوف على قوله تعالى: «وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ» وهو عطف قصة على قصة. أي واذكر أيوب إذ نادى ربّه».
وذكر أيوب فى هذا المقام، هو ذكر له دلالته العظيمة، وذلك من وجوه:
أولا: أن أنبياء الله وأصفياءه يبتلون بالضرّ، كما يبتلى الناس، بل وكما يبتلى شرار الناس.. وأنه كما يبتلى الناس بالخير والشرّ، كذلك يبتلى الأنبياء بالخير والشر..
فأنبياء الله وأصفياؤه، يبتلون من الله فيزدادون إيمانا وقربا منه، وطمعا فى رحمته.. وأعداء الله يبتلون فيزدادون بعدا من الله، وكفرا به، ومحادّة له.
وثانيا: أن أنبياء الله وأصفياءه، إذا ابتلوا فى شىء من أنفسهم أو أموالهم ضروا إلى الله، وبسطوا إليه أكفهم وولّوا إليه وجوههم، وطرقوا أبواب رحمته بالدعاء والرجاء.. فباتوا على أمن من كل خوف، وعلى طمع ورجاء من كل خير..
وثالثا: أن الله سبحانه وتعالى، يتقبل من عباده المخلصين ما يدعونه به، فلا يقطع أمداد رحمته عنهم، ولا يخيّب رجاءهم فيه.
وانظر إلى هذا الأدب النبوي العظمى، فى مناجاة الخالق جلّ وعلا..
فأيوب- عليه السلام- مع هذا البلاء العظيم، الذي شمله فى نفسه وأهله وماله
فلما اشتد به الكرب، ورهقه البلاء، وأراد أن يذكر نفسه، ويشكو لربّه ما يجد، لم يزد على أن يقول بلسان رطب بالصبر، وبأنفاس نديّة بالإيمان:
«أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» وكان أن سمع الله دعاءه، واستجاب له..
«فَاسْتَجَبْنا لَهُ.. فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ.. رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ».
وهكذا يجزى الله المحسنين الصابرين.. كما يقول سبحانه: «إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ».. لقد كشف الله عن أيوب الضر الذي أصابه فى جسده، ورزقه من البنين والأموال ضعف الذي ذهب منه..
وقوله تعالى: «رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا» أي أن ذلك العطاء كان رحمة منّا، أصبنا بها عبدا من عبادنا المخلصين.
وقوله تعالى: «وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ» معطوف على «رحمة» أي وكان ذلك الذي فعلناه بعبدنا «أَيُّوبَ» تذكرة وموعظة «لِلْعابِدِينَ» أي الذين يعبدون الله، ويحسنون عبادته، ويصطبرون عليها..
فالعابدون بما لهم من صلة بالله، ربّما يقع فى نفوسهم أنهم بمنجاة من الابتلاء بالشر، إذ لا يكاد يقع فى تصوّر الناس أن من وثّق طلته بالله، وتقرب بالعبادات والطاعات إليه، هو فى مأمن مما يقع للناس من ضرّ وأذى، فى نفسه أو ولده أو ماله.. وإلّا فما ثمرة هذه الصلة، وما فضل الطائعين على العاصين، والأولياء على الأعداء؟
وقد كان أيوب- عليه السلام- من خير العابدين المقربين إلى الله، حين مسّه الضرّ، كما كان من خير الصابرين على البلاء، الطامعين فى رحمة الله، المطمئنين إلى قضائه فى عباده، الواثقين بحكمته وبعدله.. بعد أن لبسه الضرّ وعاش فيه.
وإذن فليس المؤمنون، العابدون، الساجدون، بمعزل عن الابتلاء بالضرّ والأذى، بل إنهم أكثر الناس تعرضا للبلوى، وذلك ليبتلى الله ما فى صدورهم، وليمحص ما فى قلوبهم.. والله سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً» (١٨٦: آل عمران) ويقول سبحانه: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ» (٢: العنكبوت).
فأولياء الله وأحباؤه هم أكثر عباد الله تعرضا للابتلاء، إذ كان ذلك هو الدواء المرّ، الذي تذهب الجرعة، منه بكثير من أمراض النفوس وعللها، وهو النار المحرقة، التي تنصهر فى حرارتها معادن الرجال، فتصفّى من الخبث وتنقّى من الغثاء والزّبد! وبهذا تظهر عظمة الإنسان، وتصفو موارده، ويصبح- على ما يبدو عليه من ضعف، وفقر- أقوى الأقوياء، وأغنى الأغنياء، ينظر إلى الدنيا، وحطامها، وما يتفاخر به الناس فيها من مال، وجاه، وسلطان- نظرته إلى أطفال يتلهون بلعبهم، ويزهون بالجديد من ثيابهم! ثم لعلك تسأل: أما كان غير هذا البلاء، أولى بهم، وهم أحباب الله وخلصاؤه؟ أو ما كان الإحسان إليهم بالخير أليق من التوجه إليهم بالمساءة
والجواب عن هذا كله:
أولا: أن الله سبحانه وتعالى كما ابتلى بالخير، ابتلى بالشر، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» (٣٥: الأنبياء).. وقد ابتلى الله- سبحانه- سليمان عليه السلام بالكثير الغدق من النعم، فسخّر له الريح والجنّ، وعلّمه لغة الحيوان والطير، وجعلها جنودا من جنده، ووضع بين يديه من القوى الظاهرة والخفية، ما جعل له ملكا وسلطانا لم يكن لأحد من بعده كما يقول الله سبحانه وتعالى: «قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ» (٣٥: ص) وقد أجاب الله سبحانه وتعالى ما طلب، فقال سبحانه: «فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ» (٣٦- ٣٩: ص) حتى إن سليمان نفسه ليستكثر هذا الإحسان الذي لا يكاد يتسع له وجوده، فيقول: «يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ» (١٦: النمل) وحتى إنه ليجد نفسه عاجزا عن الوفاء بشكر القليل من هذا الفضل العظيم، فيقول: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ» (١٩: النمل).
فالابتلاء بالإحسان والخير، عند من يعرف قدر الإحسان، وفضل المحسن وجلاله وعظمته- لا يقلّ مئونة وعبئا، عن الابتلاء بالمساءة والضر.. إنه ابتلاء!
وانظركم لقى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم- وهو صفوة خلق الله وخاتم رسله- كم لقى على مسيرة دعوته، وفى سبيل رسالته، من أذى؟ وكم احتمل من مساءة وضرّ؟
أفرأيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين خرج إلى ثقيف، يرجو عندهم من استجابة لله ورسوله، ما أبته عليه قريش، حتى إذا التقى بسادة ثقيف، وعرض عليهم الإيمان بالله، ردّوه أشنع رد، ثم أغروا به سفهاءهم، فرجموه حتى أدموه.. ثم أرأيت إلى رسول الله- صلوات الله وسلامه عليه- وقد أخذ طريقه إلى خارج ثقيف، وهو يحمل هذا الهمّ الثقيل، حتى إذا بلغ إلى حيث انقطع عنه صوت الكلاب البشرية التي كانت تنبحه، أسند ظهره إلى ظل شجرة هناك، ومولاه زيد يضمد جراحه.. ثم ما كادت نفسه تهدأ، وأنفاسه تنتظم، حتى رفع رأسه إلى السماء، وناجى ربه، بتلك الكلمات الضارعة المشرقة، التي تنبض حياة بمشاعر الإيمان، وأنفاس التسليم والرضا..
استمع إليها..
«إلهى.. أشكو إليك ضعف قوتى، وقلة حيلتى، وهوانى على الناس! «يا أرحم الراحمين.. أنت رب المستضعفين وأنت ربى.
«إلى من تكلنى؟.. إلى بعيد يتجهمنى؟ أو قريب ملّكته أمرى؟
«إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى.
«غير أن عافيتك هى أوسع لى!
«لك العتبى حتى ترضى..
«ولا حول ولا قوة إلا بك..»
إنها مناجاة، يتنفس فيها النبي أنفاس العافية، ويطعم منها طعم الرضا، ولهذا طالت تلك المناجاة، ومشت كلماتها الهوينا على شفتى رسول الله، كأنها تحمل أثقالا من الهموم التي ألمت به، وتنطلق بها فى قافلة طويلة ممتدة بين الأرض والسماء!! ثم انظر إلى رسول الله ﷺ يوم أحد، وقد أحاط به المشركون، وتعاورته سهامهم ورماحهم، وكادت تصل إليه سيوفهم، وقد شجّ صلوات الله وسلامه عليه، وكسرت ثنيتاه، واستشهد كثير من أصحابه، وأحبابه، ومن بينهم عمه، أسد الله، حمزة بن عبد المطلب. ومع هذا، فما قال النبي فى هذا المقام، إلا القولة التي لا يقولها إنسان غيره فى هذه الدنيا..
قال- صلوات الله وسلامه عليه: «اللهم اهد قومى، فإنهم لا يعلمون» !! وكما ابتلى الله سبحانه، أولياءه بالبأساء والضراء، ابتلى أعداءه بالنعماء والسراء، فكان ذلك بلاء عليهم، ونقمة من نقم الله بهم.. لقد زادتهم تلك النعم بعدا عن الله، وعمى عن الحق، وضلالا عن الهدى.
والقرآن الكريم يذكر لنا قارون، كمثل من أمثلة الابتلاء بالنعم، عند من لا يقدر على الوفاء بها، ولا يقدرها قدرها، فكان أن عجل الله له الهلاك فى الدنيا، ثم أعدّ له عذاب السعير فى الآخرة.. وكذلك فرعون، الذي بسط له فى السلطان، وأمدّه بموفور النعم، فما زاده ذلك إلا كفرا بالله، ومحادة له..
فمات تلك الميتة الشنعاء، وكان مثلا وعبرة لأولى الأبصار..
وثانيا: لا شك أنه سبحانه وتعالى قادر على أن يعفى أولياءه من البلاء وأن يجعل ابتلاءهم بالسراء لا بالضراء، وأن يجعلهم طبيعة قائمة على الحمد والشكر، وفطرة مفطورة على الاحتمال والصبر.
ولكن هذا وإن كان مما يفعله الله ببعض عباده وأحبابه، كما كان ذلك لسليمان- فإن هناك درجة فوق تلك الدرجة، وهى درجة الابتلاء بالضراء، حيث يجد الإنسان نفسه وكأنه فى صراع ضار مع الحياة وخطوبها، وحيث يرى نفسه وكأنه جبل راسخ شامخ تتحطم على صخوره الصلدة، الأمواج الصاخبة، وتتكسر تحت أقدامه القويّة، العواصف العاتية.. وحيث يرى آخر الأمر وقد انتهى هذا الصراع، وانجلى غبار المعركة، وإذا به وبين يديه راية النصر، وعلى جبينه تاج الفوز والظفر! لقد كسب المعركة بهذا الجهد الذاتي، وبهذا الثمن الغالي الذي قدمه من ذات نفسه، عرقا متصببا وأرقا متصلا، وعملا دائبا..
وهذا ما يجعل للنصر هذا الطعم الحلو، الذي لا يعرف مذاقه إلا من ابتلى وصبر، وجاهد وبذل، وحرم نفسه النوم فى ظل الراحة والرفاهة، وبات ليله ساهرا، ونهاره عاملا..
وإنه لفرق كبير بين من يجد بين يديه طعاما طيبا حاضرا عتيدا، لم يبذل فيه جهدا، ولم يتكلّف له عملا، وبين من فرغت يده من كل شىء، فيجدّ ويعمل فى غير وناء أو فتور، وهو على ما به من حرمان ومسغبة، حتى إذا اجتمع له من سعيه ما يهيء به لنفسه طعاما، كانت عنده كل لقمة من هذا الطعام، أشهى وأطيب من تلك المائدة الحافلة بطيب الطعام
ونجد هذا فى الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- فأصحاب الرسالات الكبرى منهم، هم الذين ابتلوا بالبأساء والضراء.. وعلى قدر ابتلائهم كانت منزلتهم عند ربهم.
إبراهيم عليه السلام، ابتلى بإلقائه فى النار.. وبالأمر يذبح ولده إسماعيل بيده، فكان خليل الرحمن وأبا الأنبياء..
وموسى عليه السلام، ابتلى من أول حياته، بإلقائه فى اليم رضيعا، ثم بقتله المصرىّ، وطلب فرعون له، وفراره إلى مدين.. ثم بلقاء فرعون، ومواجهته بالدعوة إلى الإيمان بالله.. ثم كان ابتلاؤه الأكبر فى حياته بين بنى إسرائيل، وفى خلافهم عليه، وشرودهم منه.. فكان كليم الله.
وعيسى- عليه السلام- نشأ فى حجر الابتلاء... تنعقد حوله، وحول أمه التهم والظنون، حتى إذا ظهر فى اليهود، كان بينه وبينهم هذا الصراع الطويل المرير، حتى لفّقوا له التهم، وقدموه للحاكم الرومانى، وطلبوا إليه أن يحكم عليه بالصلب، حسب شريعتهم، ولم يسترح لهم بال حتى حكم لهم بصلبه، وحتى شبّه لهم أنهم صلبوه.. وكان كلمة الله.
ومحمد- صلوات الله وسلامه عليه- قد لقى من قومه ألوان المساءة فى كل لحظة من لحظات تلك السنوات الثلاث عشرة التي قضاها فى مكة قبل الهجرة.. فلما هاجر كانت حياته قسما مشاعا بين الدعوة إلى الله، والجهاد
وهكذا نجد الابتلاء بالضراء أرجح كفة من الابتلاء بالسراء، فى ميزان الصياغة لمعادن الرجال، وصبّهم فى قوالب الكمال والإحسان.. ولهذا كان أولو العزم من الرسل، هم الذين ابتلوا وامتحنوا أشق امتحان، وأثقل ابتلاء..
وثالثا: الابتلاء بالشرّ ليس ضربة لازب لأولياء الله وأحبابه وأصفيائه، ولكنه الشأن الغالب عليهم، لأن ذلك أشكل بطبيعتهم، وأقرب إلى نفوسهم، لأنهم كلما ازدادوا من الله قربا انكشف لهم أمر الدنيا، ومتاعها الغرور، فنظروا إليها نظرة استخفاف واستصغار، لكل ما فيها ومن فيها، ثم إذا هم رأوا تكالب الناس وتزاحمهم على مواردها، زادهم ذلك إحقارا لها، وبعدا عنها.
فهذا الذي نرى فيه أولياء الله وأصفياءه، من فاقة، وضرّ، وحرمان، ونعدّه بلاء أو ابتلاء، هو- فى الواقع- مطلب لتلك النفوس العظيمة، ورغبة محببة لهذه القمم العالية من عباد الله..
إنهم يزهدون فيما تطلبه النفوس، راضين.. وإنهم ليجدون فى الحرمان، من الغبطة والرضا، ما لا يجده الواجدون من متع الحياة ومسراتها..
وهكذا تطلب كل نفس غذاءها الذي يهنئوها، ويطيب لها.. وشتان بين الكلاب والأسود.. حيث تتقاتل الكلاب على الجيف، على حين تموت الأسود جوعا ولا تدنو منها..
وأنهم إن صبروا اليوم على الضرّ والأذى، فإنهم لعلى موعد بلقاء غد ينجلى فيه الكرب، وتنقشع غمامات الضر.. «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» (١٥٥- ١٥٧: البقرة)..
وكما قيل، من أن الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، فكذلك كل نعمة من نعم الله، لا يذوق حلاوة طعمها، ولا يعرف جلال قدرها إلا من حرمها، وطال حرمانه وافتقاده لها، فإذا لقيها بعد هذا، عرف كيف فضل الله عليه، وكيف إحسانه إليه، ومن ثم يعرف كيف يؤدّى لله بعض ما يجب له، من حمد وشكران..
قوله تعالى:
«وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ»..
جاء ذكر إسماعيل، بعد ذكر أيوب، لأن كلا منهما قد ابتلى ابتلاء عظيما من الله، وكلّا منهما كان من الصابرين على ما ابتلى به.
فأيوب، قد كان فى عافية، وفى نعمة ظاهرة، ثم ابتلاء الله فى نفسه وماله وولده جميعا.. فصبر راضيا بحكم الله فيه، مطمئنا إلى مواقع الرحمة منه..
وإسماعيل.. قد رأى أبوه فى المنام أنه يذبحه بأمر من ربه، فلما أخبره بأمر الله، وطلب إليه رأيه، لم يتردد فى الجواب، وقال: «يا أَبَتِ افْعَلْ
..
وقدّم أيوب على إسماعيل، مع أنه فرع من إبراهيم، وإسماعيل أصل..
لأن أيوب طالت محنته، وطال انتظاره فى موقف البلاء سنين، وهو صابر ومصابر، ولم يضجر، ولم يتكثر من الأنين والشكوى. أما إسماعيل فقد كان ابتلاؤه لساعة من الزمن، ثم انجلى الكرب وزالت المحنة.. ومن جهة أخرى، فإن إسماعيل كان- فى مواجهة هذا الابتلاء ما يزال غلاما، لم يقع فى نفسه، وقوعا واضحا كاملا أثر هذا الفعل الذي هو مساق إليه.. ولهذا كانت البلوى، أو كان الجانب الأكبر منها واقعا على أبيه إبراهيم، ومن أجل هذا كان حسابها مضافا إلى إبراهيم، وإن كان لإسماعيل حسابه، وهو حساب وإن قلّ- بالإضافة إلى أبيه- هو شىء عظيم رائع، ترجح به موازينه فى الصابرين من عباد الله.. وذلك على حين كان أيوب فى دور الرجولة، وفى حال لبس فيها الشباب، والصحة، وذاق حلاوة الغنى، وعرف طعمها، فكان انتزاع هذا كله منه، أشدّ وقعا وأمرّ طعما مما لو وقع عليه ابتداء.
هذا وقد ذكر مع إسماعيل «إدريس» و «ذو الكفل».
أما إدريس فهو ممن ذكرهم الله من أنبيائه، كما يقول سبحانه: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا:» (٥٦: مريم).. ولم يذكر القرآن عن إدريس أكثر من أنه كان نبيا وكان من الصابرين.. فلم يكن له فى القرآن قصة كقصة، صالح، وهود، وإبراهيم، ولوط، وموسى، وغيرهم من رسل الله..
وأما «ذو الكفل» فلم يذكر إلا فى هذا الموضع، وقد اجتمع مع النبيين الكريمين: إسماعيل وإدريس، وشاركهما فى صفة الصبر.. كما يقول سبحانه «كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ»..
والرأى عندنا والله أعلم- أنه نبىّ، وأن أبرز صفة فى حياته كانت صفة الصبر.. أما رسالته، وأما قومه، فشأنه فى هذا شأن إدريس، الذي لم يذكر له القرآن رسالة ولا قوما.. كما أننا نرجح أنه زكريا- عليه السلام- لأنه هو الذي كفل مريم، كما يقول الله تعالى: «وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا» وتسأل: ما حكمة ذكر إدريس وذى الكفل، هذا الذكر الذي لا يحوى إلا اسميهما دون أن تلحق بما قصة تستملى منها العبرة والعظة؟
والجواب على هذا- والله أعلم- أن ذكرهما فى القرآن الكريم لم يكن مساقا للعبرة والعظة، ففيما حدث به القرآن من قصص الأنبياء أكثر من عبرة وعظة.. وإنما كان ذكرهما تكريما لهما، وحفظا لاسميهما الكريمين على الزمن، ونظمهما فى عباد الله المصطفين من أنبيائه ورسله..
وفى هذا تحقيق لأمرين:
أولهما: ما يجده الأحياء الذين يشهدون هذا الحديث، من إحسان الله سبحانه وتعالى إلى المحسنين من عباده، بعد أن يتركوا هذه الدنيا، وذلك برفع ذكرهم، وتخليد آثارهم، وفى هذا ما يغرى بالإحسان، وبتمجيد المحسنين..
وثانيهما: ألا يحرم هذان النبيان نصيبهما من دعاء المؤمنين على امتداد الأزمان، حيث يصلّى المصلون على أنبياء الله، وحيث يذكرهم الذاكرون واحدا واحدا.
قوله تعالى:
ذا النون: هو يونس- عليه السلام- والنون: هو الحوت، وجمعه نينان.. وقد نسب إليه يونس، لأنه عاش فى بطنه زمنا- كما سترى..
وقوله تعالى: «إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً» إشارة إلى أنه اختلف مع قومه، فتركهم وذهب بعيدا عنهم، مغاضبا لهم.
وفى قوله تعالى: «مُغاضِباً» إشارة إلى أنه استجلب المغاضبة، واستعجلها، وأنه وإن ظهر له من قومه ما يثير الغضب، ويدعو إلى القطيعة، إلا أنه كان جديرا به أن يصبر، ويصابر، وألّا يأخذ القوم بأول بادرة، فيتخلى عن مقامه فيهم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، مخاطبا النبىّ الكريم، صلوات الله وسلامه عليه: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ» (٤٨: ن).
ففى هذا تعريض بيونس- عليه السلام- وأنه لم يصبر الصبر المطلوب من الأنبياء..
وقوله تعالى: «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» أي ظن أن لن نقدر على محاسبته على هذا الموقف، وعقابه عليه..
ولم يكن من يونس عليه السلام هذا الظن بربه، وبقدرته، وإنما حاله التي كان عليها هى التي تعطى هذا الوصف له.. فهو قد فعل فعل من يظن أنه يفعل ما يفعل، ثم لا يجد محاسبا على ما فعل..
قوله تعالى: «فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ».
(١٣٩- ١٤٢: الصافات).
فحرف العطف «الفاء» يشير إلى هذه الآيات.. والمعنى أن يونس لما ذهب مغاضبا قومه، ظانّا أن لن نقدر عليه، أبق (أي هرب) «إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ»
أي الذي شحن وامتلئ بالناس والأمتعة، حتى فاض، وكاد يغوص فى الماء.. وإنقاذا للسفينة من الغرق رؤى أن يتخفف من أمتعتها، ثم من بعض الراكبين فيها، وقد ارتضى الركاب أن يقترعوا فيما بينهم على من يخلى السفينة، ويلقى بنفسه فى الماء، ولو كان فى ذلك هلاكه، إذ أن فى هلاكه نجاة كثيرين.
وقد وقعت القرعة على يونس فيمن وقعت عليهم، ليلقوا بأنفسهم فى البحر..
«فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ»
أي الساقطين، المخذولين.. وأرض دحض أي زلق، لا تمسك قدمى من يمشى عليها، وحجة داحجة: أي ساقطة، غير مقبولة..
فلما ألقى يونس بنفسه فى الماء، التقمه الحوت. «فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» والمراد بالنداء، الدعاء، والتسبيح لله.. كما يقول سبحانه: «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» و «الظُّلُماتِ» هى هذا الظلام الكثيف المشتمل عليه فى بطن الحوت، حيث لا ينفذ إليه شعاعة من ضوء.
وقد ذكر المفسّرون أن هذه الظلمات، هى ظلمة البحر، وظلمة بطن الحوت، وظلمة الليل..
ويونس لم يدع إلا بقوله: «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ».. فهو دعاء لم يطلب فيه نجاة أو خلاصا من هذا البلاء الذي هو فيه.. ففيم استجاب الله له؟
والجواب- والله أعلم- أنه دعا بأفضل دعاء يقتضيه حاله، ويطلبه موقفه.
إنه قد أتى من قبل نفسه، وإنّ نفسه هى التي أوقعته فى هذا البلاء، ودفعت به إلى هذا الموقف الذي هو فيه، فهو فى دعائه هذا يطلب البراءة من نفسه، والنجاة من شباكها، وذلك بإخلاص العبودية لله، والبراءة من كل شىء، حتى من نفسه هذه، والاستسلام لله الذي لا إله إلا هو..
وإنه إذا خلص من نفسه، وبرىء من أهوائها ونوازعها، فقد خلص من كل سوء، وأمن كل مكروه.. ومن هنا كان خلاصه من بطن الحوت، وكانت نجاته من هذا البلاء.. وهكذا كل من يضيف وجوده إلى الله،
قوله تعالى:
«وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ».
وزكريا- عليه السلام- كان مبتلى بالحرمان من الولد، وقد طال انتظاره له، وتطلعه إليه، حتى بلغ من الكبر عتيّا.. فلما بلغ الحدّ الذي يقع عنده اليأس، لم يكن من اليائسين من روح الله، فدعا ربّه، وناجاه فيما بينه وبين نفسه، فقال: «رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ».
- وفى قوله: «وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ» تعقيب على قوله: «لا تَذَرْنِي فَرْداً» أي إن لم تستجب لى، وتهب لى من يؤنسنى، ويرثنى من الولد، فتلك هى مشيئتك، وهى منّى بموضع الاستسلام والرضا، فإذا لم يكن لى الولد الذي يرثنى، فأنت خير الوارثين.. ترث الأرض ومن عليها..
- وفى قوله تعالى: «وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ» إشارة إلى ما كان فى امرأته من عقم، وأنها بهذا العقم لم تكن صالحة للحمل والولادة، فأصلحها الله سبحانه وتعالى، وجعل من المرأة العقيم امرأة ولودا..
- وقوله تعالى: «إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ».. الضمير فى «إِنَّهُمْ» يعود إلى زكريا، وزوجه، وولدهما يحيى.. فهم جميعا كانوا على حال متقاربة من الإيمان بالله، والطمع فى رحمته، والخوف من عذابه والخشوع لعظمته وجلاله..
والرّغب: الرغبة، والطمع.. والرّهب: الخوف، والخشية.
«وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ».
التي أحصنت فرجها، هى مريم ابنة عمران.. ولم تذكر باسمها لأنها لم تكن من الأنبياء، والمذكورون هنا جميعا أنبياء، ومنهم ذو الكفل- كما أشرنا إلى ذلك من قبل-.
وقد ابتليت مريم بهذا الابتلاء، الذي تكشّف عن نعمة سابغة، وفضل عظيم، لم يكن لأنثى غيرها..
لقد حملت بنفخة من روح الله، وجاءت بالمسيح عليه السلام.. وذلك بعد أن مرّت بهذا الامتحان القاسي، وواجهت من أهلها وقومها هذا الاتهام، الذي لم يكن ليدفعه عنها ما عرفت به فى قومها من طهر لا يحوم حوله شك، ومن عفة لا يطوف بها دنس.. ومع هذا فقد واجهت المحنة، واحتملتها فى صبر، مستسلمة لأمر الله، راضية بحكمه، وكان عاقبة أمرها أن كانت هى وابنها آية للعالمين، تتجلّى فيها قدرة الله، وما له فى عباده المخلصين من فضل وإحسان..
لقد كانت هى آية من آيات الله، إذ ولدت من غير أن تتصل برجل، وكان ابنها آية من آيات، الله إذ ولد بنفخة من روح الله، من غير أب.
الآيات: (٩٢- ١٠٤) [سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٩٢ الى ١٠٤]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١)
لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤)
قوله تعالى:
«إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ».
بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى أولئك المصطفين من رسله وأنبيائه وعباده الصالحين.. من نوح الذي يعدّ الأب الثاني للإنسانية بعد آدم، إلى إدريس، الذي يقال إنه كان من ذرية نوح الأقربين، إلى إبراهيم أبى الأنبياء.. إلى مريم أمّ آخر نبىّ فى بنى إسرائيل- بعد ذكر الله سبحانه وتعالى هؤلاء المكرمين من عباده، من ذكور وإناث، ومن بعيد عهده وقريبه- عقّب على ذلك بقوله تعالى: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ». إشارة إلى أن هذا هو المجتمع الإنسانى،
وقوله تعالى: «وَأَنَا رَبُّكُمْ.. فَاعْبُدُونِ» أي أنه سبحانه ربّ جميع الناس، وراعيهم وكالئهم، فكلهم خلقه وصنعة يده، وكلهم غذىّ نعمته وإحسانه.. تقلّهم أرضه، وتظلهم سماؤه، وتغاديهم وتراوحهم نعمه..
وإذا كان هذا صنبعه بهم، وشأنه فيهم، فهو المستحق للعبادة والطاعة والولاء..
فمن شرد عن الله، وبعد عن مكانه الذي ينبغى ان يأخذه بين عباده، وأبى أن يستمع لناصح، أو يستجيب لداع، أو يحفل بنذير، فقد سعى بنفسه إلى حتفه، وأزهق روحه بيده..
وانظر مرة أخرى فى قوله تعالى: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً.. وَأَنَا رَبُّكُمْ.. فَاعْبُدُونِ» تجد هذه المعادلة:
هذه أمتكم.. أمة واحدة.
وهذا أنا ربكم.. إله واحد.. لا ربّ لكم غيره.
«فَاعْبُدُونِ» إذ أنتم مربوبون، وأنا الرّبّ..
أنتم العباد، وأنا ربّ العباد..
أنتم العابدون.. وأنا المعبود..
قوله تعالى:
«وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ».
واو العطف هنا تشير إلى معطوف عليه محذوف.. وهذا المحذوف هو من تفريعات الأمر الذي أمر به الناس فى قوله تعالى: «فَاعْبُدُونِ».. وهو جواب عن سؤال مقدّر يقتضيه الحال وهو: ماذا كان من الناس إزاء هذا الأمر الذي أمروا به؟ فكان الجواب، لم يكونوا على طريق واحد، بل اختلفوا، وتقطعوا شيعا وأحزابا.. فكان منهم المطيع، وكان منهم العاصي. منهم المؤمن، ومنهم الكافر.. منهم عابد الرحمن، ومنهم عابد الشيطان.. «تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ».. وفى إضافة الأمر إليهم، إشارة إلى أنه الأمر الذي هو ملاك صلاحهم وفلاحهم، وهو الإيمان الله.
- وقوله تعالى: «كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ» أي أن كل فريق منهم راجع إلى الله، ومحاسب على ما كسب من خير أو شر..
قوله تعالى:
«فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ.. وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ».
هو بيان لما يكون عليه الناس عند رجوعهم إلى الله يوم القيامة.. فمن عمل
- وقوله تعالى: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» هو قيد لقبول الأعمال الصالحة، فلا يقبل من غير المؤمنين عمل وإن كان صالحا، إذ لم يزكّه الإيمان بالله، وكل عمل لا يزكّيه الإيمان بالله، هو باطل، لا وزن له.
قوله تعالى:
«وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ».
هو بيان للوجه المقابل للمؤمنين، وهو وجه الكافرين.. وقد جاء النظم القرآنى على هذا الأسلوب، ليكشف عن حال هؤلاء المجرمين فى الدنيا، والآخرة معا..
فهم فى الدنيا معرّضون للهلاك، الذي يعجّل للظالمين.. وهم فى الآخرة واقعون تحت عذاب الله، مسوقون إليه، يتمنّون أن يعودوا إلى الدنيا، ليصلحوا ما أفسدوا.. ولكن هيهات.. هيهات..
- وقوله تعالى: «وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ» أي ومحكوم على أية قرية هلكت ألا يرجع أهلها مرة أخرى إلى الدنيا، أو أن يفرّوا من هذا العذاب المعدّ لهم.
وفى التعبير عن الحكم بلفظ الحرام، تأكيد لهذا الحكم، وجعل عودتهم إلى الدنيا من المحرمات، التي إن ارتكبها المجرمون، فإنها لا تجىء من عند الله! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فكما كتب سبحانه على نفسه الرحمة، حرّم سبحانه على نفسه أن يرجع الموتى إلى الدنيا مرة أخرى، وإنما يبعثهم للحساب والجزاء.
«حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ»..
يأجوج ومأجوج، وهم من الجماعات المفسدة فى الأرض، وقد ذكرهم الله تعالى فى قصة ذى القرنين، وقد أقام ذو القرنين فى وجههم سدّا، حتى لا ينفذوا منه إلى مواطن العمران، ويعيثوا فى الأرض مفسدين..
وفى هذا يقول ذو القرنين عن السدّ: «هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي.. فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا» وفى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ» إشارة إلى انهيار هذا السدّ، وفتح الطريق ليأجوج ومأجوج إلى الأمم المجاورة لهم..
والحدب: المكان المرتفع، ومنه الأحدب، الذي برز ظهره، وعلا.
ثم انحنى.. ومنه الحدب، وهو الميل والعطف، وينسلون: أي يجيئون فى خفة وانطلاق.. كأنهم جراد منتشر..
هذا، وقد ربط القرآن خروج يأجوج ومأجوج بقرب الساعة..
والساعة قربت من يوم نزول القرآن، كما يقول تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» وكما يقول سبحانه: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ».
وعلى هذا، فليس بالمستبعد أن يكون يأجوج ومأجوج قد خرجوا من هذا السدّ، بعد أن تداعى وانهار.. ومن يدرى؟ فلعلهم التتار الذين طلعوا على الدولة الإسلامية، وأتوا على معالم الحضارة، فى عاصمتها بغداد، وفى كل ما وقع لأيديهم من كل عامر، حتى لقد قيل إنهم ألقوا بما حوت الخزائن من كتب فى نهر دجلة، وكان هذا شيئا كثيرا سدّ به النهر! وربما كانت أمة الصين، التي كانت تعيش فى شبه عزلة عن العالم، وها هى ذى اليوم تتجمع وراء
وقد تحدثنا عن يأجوج ومأجوج، وما قيل فيهم من مقولات، فى تفسير سورة الكهف.
قوله تعالى:
«وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ».
والوعد الحق.. هو يوم القيامة.. شاخصة أبصار الذين كفروا: أي جامدة، لا تطرف، من شدّة ما ترى من هول.
والآية معطوفة على محذوف، هو غاية «حتى» فى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ».
والتقدير: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون، وقع الفساد والاضطراب، واقترب الوعد الحق. حيث هذا النذير الذي يقوم بين يدى هذا اليوم، وهو ذلك الهول الذي تشخص له أبصار الذين كفروا يوم القيامة..
- وفى قوله تعالى: «فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا» إشارة إلى أن اقتراب الساعة، وظهور أماراتها، ومنها خروج يأجوج ومأجوج- يطلع منه على الكافرين ما تشخص به أبصارهم، فتظل الحدق معلقة فى الأعين، ثابتة لا تتحرك، للهول الذي يرونه.. إنهم فى طريقهم إلى الفزع الأكبر.. إلى جهنم، أعاذنا الله منها..
وقوله تعالى: «يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ»..
هو حكاية لما يتنادى به الكافرون يومئذ، وهم فى فزع القيامة، وبين يدى
قوله تعالى:
«إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ».
هو صوت الإغاثة الذي يغاث به الكافرون، وهم يولولون، ويندبون..
وإنه لصوت مفزع، يدخل عليهم بما يزيدهم كربا وجزعا: «إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ» أي إنكم الحصى الذي تحصب به جهنم، أي إنهم يلقون فيها هم وآلهتهم كما يلقى بالحصى فى حفرة، بلا وزن ولا حساب.
قوله تعالى:
«لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ».
أي لو كان هؤلاء الذين يعبدهم المشركون، آلهة ما وردوا جهنم، ولا دخلوها معهم.. إذ كيف يكون إلها من يلقى به فى جهنم؟ «وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ» أي كل من هذه الآلهة وعابديها، واردون جهنم وخالدون فيها..
وهؤلاء وأولئك جميعا يعانون من ألوان العذاب أهوالا، فأنفاسهم فى جهنم زفير متصل، مما يلفظونه من أجوافهم التي تغلى، وليس لهم فرصة يأخذون منها شهيقا وإن كان من لهب جهنم، وقد أصابهم الصمم من هذا الزفير المتلاحق، الذي لا يأذن لشىء يدخل إلى كيانهم.. والمعبودون هنا هم أولئك الضالّون المغرورون الذي دعوا الناس إلى عبادتهم وأقاموا أنفسهم آلهة عليهم.
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ
تعرض هذه الآيات الثلاث ما يلقى المؤمنون يوم القيامة من ربهم، من كرامة وتكريم.. وقد وصفوا بأنهم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، لأن إيمانهم بالله، وتوفيقهم للأعمال الصالحة، لم يكن إلا بما سبق من علم الله بهم، وإرادته فيهم، وأنهم كانوا فى علم الله، وبمقتضى إرادته من أصحاب اليمين..
هكذا خلقهم الله أزلا.. فلما جاءوا إلى هذه الدنيا، جروا على ما علم الله منهم، وعلى ما أراد لهم، فآمنوا، وعملوا الصالحات، وكانوا من عباد الله المكرمين..
فالإيمان والكفر، والهوى والضلال، وأصحاب الجنة وأصحاب النار..
كلّ ذلك فى علم الله القديم، وفى إرادته السابقة.. كما يقول سبحانه:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (٢: التغابن) وكما يقول جلّ شأنه: «فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ» (٧: الشورى).
وقد شرحنا هذه القضية فى مبحث خاص تحت هذا العنوان: «مشيئة الله.
ومشيئة العباد».
فهؤلاء الذين سبقت لهم من الله الحسنى، هم مبعدون عن تلك النّار التي يتقلب على جمرها، ولهيبها، الكافرون والضالون.. فلا يخلص إلى المؤمنين شىء من حرّها، ولا يصل إلى أسماعهم حسّ من زفيرها وشهيقها «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها» حتى لا تتأذى مشاعرهم بهذه الأصوات الرهيبة، المفزعة، «وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ» أي أنهم يلقون فى الجنة ما تشتهى أنفسهم، من نعيم دائم لا ينقطع أبدا.. «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» أي أنهم لا يجزعون ليوم القيامة ولا يفزعون منه، إذ ملأ الله قلوبهم طمأنينة وأمنا، بما أراهم من فضله، وبما استقبلتهم به الملائكة من بشريات بهذا الفضل، إذ الملائكة
قوله تعالى:
«يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ».
«يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ» ظرف متعلق بقوله تعالى: «لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» لا يحزن الذين لهم من الله الحسنى، الفزع الأكبر فى هذا اليوم، الذي نطوى فيه السماء كطىّ السجل للكتب، وهو يوم القيامة، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات.. ويصح أن يكون هذا الظرف «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ» متعلقا بقوله تعالى: «نُعِيدُهُ» أي نعيد الخلق كما بدأناه، وذلك يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب.
وطىّ الشيء، ضمه، ولفّه كما يلفّ البساط ويطوى.
وطى السماء، ضمها، ولفّها، فينكشف هذا السقف المعقود بها، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً».. فالسماء تطوى كما يطوى السّجلّ، بما كتب فيه، فهى تطوى بعوالمها كلها، من كواكب وشموس وأقمار..
والسجلّ: أصله الحجر، الذي يكتب عليه، ثم استعمل لكل ما يكتب عليه، من جلد وورق ونحوه.. وللكتب: أي على الكتب.. والكتب بمعنى المكتوبات.
وهذا التحول فى العوالم العلوية والسفلية، إنما هو تصوير لما يقع فى مفهوم
وهذا يعنى أن الإنسان بعد أن يفارق هذا الجسد، يعود إلى عالم الرّوح، فينطلق من أسر هذا الجسد المحدود، ويسبح فى عالم ماوراء المادة، وهناك يرى الأرض، والسماء غير السماء.. كما يقول سبحانه: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» (٤٨: إبراهيم).. فهذا التبدل هو تبدّل فيما يقع على تصورات الإنسان ومدركاته، بانتقاله من العالم المادي إلى العالم الروحي.. وإلا فإن العوالم ثابتة على ما أقامها الله سبحانه وتعالى، فى هذا النظام المحكم.
فالأمر إذن، ليس كما يتصور الذين أخذوا أوصاف يوم القيامة التي جاء بها القرآن، على هذا التصور الذي تذهب به معالم الوجود كلّه، وتنقلب أوضاع السموات والأرض..
وكلّا، فإن هذا الوجود العظيم، ليس للإنسان، ولا من أجل الإنسان، وإنما الإنسان ذرة من ذراته، وشىء من أشيائه.. وإن التغير والتبدل واقع عليه هو، فتتغير لذلك مدركاته، ويرى الوجود، والموجودات بعين غير التي يراها عليه، وهو فى هذا الكيان المادي.. وذلك يوم يكشف هذا العطاء المادىّ، الذي يحجب نظر الإنسان، ويحصره فى هذه الدائرة المحدودة الضيقة، وعندئذ يرى ما لم يكن ليراه فى عالمه المادىّ، كما يقول سبحانه: «فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» (٢٢: ق).
وإذا صحّ الحديث الذي يروى عن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «من مات فقد قامت قيامته» فهذا يعنى أن كل من مات وانتقل إلى العالم الآخر، يرى الوجود قائما على هذه الصورة التي يصوّر فيها القرآن مشاهد القيامة، وما يتبدل
- وفى قوله تعالى: «كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ» أي أننا نعيد الموتى وننشرهم كما خلقناهم ابتداء، فلا يصحّ للمشركين والكافرين، الذي يكذبون بيوم الدين، أن ينكروا هذا البعث، وأن يستبعدوه.. فهو أهون من الخلق ابتداء «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ».. «وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» (٧٨، ٧٩: يس) - وفى قوله تعالى: «أَوَّلَ خَلْقٍ» وفى تنكير «خَلْقٍ» ما يفيد الاستغراق والعموم، فهو بمعنى أول كل خلق.. كما يفيد أيضا أن كلّ مخلوق له خلق خاصّ به، وأن له من علم الله وقدرته وحكمته، نصيبه المقدور له.. وهذا خاصَّ به، وأن له من علم الله وقدرته وحكمته، نصيبه المقدور له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ» (٤٩: القمر).
- وقوله تعالى: «وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ» أي إن إعادة الموتى إلى الحياة مرة أخرى، للحساب والجزاء، هو أمر قضى الله به، ولا رادّ له..
وفى هذا يقول سبحانه: «ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ» (١٥- ١٦: المؤمنون) ويقول جل شأنه: «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» (٧: التغابن).
وهذا وعد من الله، ولن يخلف الله وعده وقد أكّده سبحانه بقوله:
«إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ».. وهو وعد لا يحتاج إلى توكيد، عند المؤمنين، وإنما التأكيد منظور فيه إلى الكافرين، الذين يكذبون بيوم الدين.
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩)
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ»..
المراد بالزّبور هنا- والله أعلم- الكتب السماوية، التي هى بعض الكتاب «الأم»، كتاب الله، وهو مستودع علمه الذي لا ينفد..
وأصل الزبور: القطعة من الشيء وجمعه زبر، كما يقول تعالى: «آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» والذكر: على هذا التقدير، هو أم الكتاب.
والمعنى، أن الله سبحانه وتعالى كتب وقضى فى الكتب المنزلة على رسله بعد أن كان ذلك مسطورا فى الكتاب الأمّ- «أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ»..
أما غير المؤمنين، فإنهم مهما ملكوا من هذه الدنيا، ومهما وقع لأيديهم منها من مال، وجاه، وسلطان- فلن يكون لهم من هذا شىء فى حياتهم الآخرة، بل سيكون عليهم وبالا وحسرة، على حين تمر بهم حياتهم الدنيا، وكأنها ضحوة يوم أو عشيته.. «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها». (٤٦: النازعات).
فالمراد بالميراث هنا، الميراث النافع، الذي يبقى لما بعد الموت، حيث يجده الإنسان، وكأنه فى حياته الثانية، قد ورث حياته الأولى.. أو كأنه هذا الحىّ فى الآخرة، الذي ورث هذا الميت الذي كان فى الدنيا.. وهذا هو بعض السرّ فى التعبير بكلمة «يَرِثُها»..
قوله تعالى:
«إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ»..
أي إن فى هذا الذي تحدّث به القرآن الكريم من قصص، وما فيه من عبر- لبلاغا، أي لبيانا كاشفا شافيا.. أو أن فى هذا الحكم الذي ضمّت عليه الآية الكريمة: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ..» - إن فى هذا لبيانا مبينا وحجة قاطعة، يتلقى منها العابدون العبرة والعظة.
والمراد بالعابدين، المؤمنون، وقد ذكروا بالصفة الغالبة عليهم، وهى التعبد لله، والولاء له.. فلا يكون المؤمن مؤمنا إلا إذا عبد الله، وذكره، ذكرا متصلا..
«وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ».
الخطاب للنبىّ صلوات الله وسلامه عليه، وأن الله سبحانه وتعالى إنما أرسله رحمة للناس جميعا.. كما يقول صلوات الله وسلامه عليه: «أنا رحمة مهداة»..
ويسأل سائل:
كيف يكون النبىّ صلوات الله وسلامه عليه رحمة للعالمين جميعا. الناس كلّهم أسودهم وأحمرهم، وما بين أسودهم وأحمرهم، وقليل من كثيرهم أولئك الذين آمنوا به واهتدوا بهديه، وانتفعوا برسالته؟ كيف هذا، وقوله تعالى «لِلْعالَمِينَ» يفيد العموم والشمول؟
والجواب على هذا- والله أعلم- من وجوه:
أولا: أن الهدى الذي جاء به- صلوات الله وسلامه عليه- هو خير ممدود للناس جميعا، وهو رحمة غير محجوزة عن أحد، بل إنها مبسوطة لكل إنسان، أيّا كان لونه وجنسه.. وفى هذا يقول الله تعالى لنبيه الكريم:
«قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ..» (١٥٨: الأعراف) فهو صلوات الله وسلامه عليه رحمة مهداة، يطرق بها باب كل إنسان، من غير أن يطلب لذلك أجرا، وليس على النبي- بعد هذا- أن يرغم المتأبّين عليه أن يقبلوا ما يقدمه هدية لهم.. إنه أشبه بالشمس، وهى رحمة عامة لكل حىّ.. ولكنّ كثيرا من الأحياء يعشون عن ضوئها، وكثير من الأحياء، إذا آذنهم
وثانيا: أن الذين آمنوا بهذا النبىّ، والذين يؤمنون به فى كل جيل من أجيال الناس، وفى كل أمة من الأمم، وفى كل جماعة من الجماعات، هم رحمة فى هذه الدنيا على أهلها جميعا، إذ كانوا- بما معهم من إيمان- عناصر خير، وخمائر رحمة، ومصابيح هدى.. وبهم تنكسر ضراوة الشر، وتخفّ وطأة الظلم، وترقّ كثافة الظلام.
وثالثا: هذا الكتاب الذي تلقّاه النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وحيا من ربّه، وهذه الآيات المضيئة التي نطق بها، والتي وعتها الآذان، وسلجتها الصحف.. كل هذا رحمة قائمة فى الناس جميعا، وميراث من النور والهدى، يستهدى به الناس، ويصيبون منه ما يسع جهدهم، وما تطول أيديهم من خير..
وعلى هذا، فالمراد بالعالمين، الناس جميعا، منذ مبعث النبىّ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «أَرْسَلْناكَ» الذي يفهم منه أن الرحمة كانت منذ إرساله ومبعثه، صلوات الله وسلامه عليه..
قوله تعالى:
«قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.. فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ».
هذه هى الرحمة التي يؤذّن بها النبىّ فى الناس، ويقدمها هدية لهم..
«أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ».. هذا هو مفتاح الرحمة، وذلك هو مفتاح الهدى.. فمن أمسك بقلبه هذا المفتاح، ثم أداره، فقد وضع يده على كنوز الخير كلها..
وهل يزورّ بها عقل؟ إن ذلك لا يكون إلا عن آفات تغتال فطرة الإنسان، وتفسد كيانه.
- وانظر فى قوله تعالى: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» ؟ لقد طلب منهم الإسلام أولا، وهو الإقرار باللسان، بهذه الكلمة السمحة السهلة.. ثم إنها بعد هذا كفيلة بأن تفعل فعلها فى كيان الإنسان، وتؤتى ثمراتها الطيبة المباركة كلّ حين.. إنها هى الكلمة الطيبة التي أشار إليها الله سبحانه وتعالى فى قوله:
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها» (٢٤، ٢٥ إبراهيم).
إنها كلمة «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
وأنت ترى فى هذا سماحة الإسلام، وأسلوبه الرائع المعجز فى دعوة الناس إلى الهدى.. إنه يلقاهم بأيسر السبل، وأخفّ الأمور.. حتى إذا ذاقوا حلاوة الإيمان، واطمأنت قلوبهم بكلمة التوحيد، وجدوا فى أنفسهم القدرة على احتمال التكاليف الشرعية، والوفاء بها.. إنها المدخل الذي يدخل منه الإنسان إلى الإيمان.. ثم يغرس ما شاء أن يغرس من خير، ويجنى ما قدر الله له أن يجنى من ثمر!! ففى سنن أبى داود عن جابر بن عبد الله قال: «اشترطت ثقيف على النبىّ
قوله تعالى:
«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ.. وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ» وهذا هو موقف النبي ودعوته، ممن لم يستمعوا له، ويستجيبوا لما يدعوهم إليه.. «فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ» أي أعلمتم بما أرسلت به إليكم..
والأمر بينى وبينكم الآن، وبعد أن توليتم قد عاد إلى ما كنّا عليه من قبل..
أنا على دينى، وأنتم على دينكم.. وأنا لى عملى، وأنتم لكم عملكم.. أنتم بريئون مما أعمل وأنا برىء مما تعملون، وستعلمون عاقبة ما أنذرتكم به..
أما متى يكون هذا؟ فعلمه عند ربى، وما أدرى أقريب هذا أم بعيد؟ إن ربى الذي يعلم كلّ شىء، لا يخفى عليه من أمركم شىء.. سواء منكم من أسرّ القول ومن جهر به!.
قوله تعالى:
«وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ».
إن هنا هي المخففة من إنّ الثقيلة، وليست نافية، كما جاءت فى الآية
والمعنى: إننى وإن كنت لا أدرى أقريب أم بعيد ما توعدون، فإننى أدرى هذا الذي أنتم فيه من شرود عن الله بما فى أيديكم من مال ومتاع..
لعله فتنة لكم، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً» وإنه «مَتاعٌ إِلى حِينٍ» أي متاع إلى أجل محدود لا تتجاوزونه.. فلستم خالدين فى هذه الدنيا، وليس فى أيديكم ضمان لهذا المتاع الذي معكم، فقد تصبحون وليس فى أيديكم شىء منه..
وقد جاء الخبر مصحوبا بلعلّ التي تفيد الرجاء، لأن ذلك الخبر ليس على سبيل القطع بالنسبة للمخاطبين جميعا.. فإن فيهم من يثوب إلى رشده، ويستجيب للدعوة، ويدخل فى دين الله..
قوله تعالى:
«قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ».
هو حكاية لقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه، الذي يعقّب به على هذا الموقف الذي بينه وبين المشركين، الذين يقفون منه هذا الموقف المنادي فيدعو ربّه أن يحكم بينه وبين هؤلاء المشركين، والضالين «بِالْحَقِّ» فيعطى كلّا حقّه.. ماله، وما عليه.
والله سبحانه وتعالى لا يحكم إلا «بِالْحَقِّ» وفى قول النبىّ «احْكُمْ بِالْحَقِّ» تطمين لهؤلاء المشركين الضالين، وهو أنه إذ يدعوهم إلى الاحتكام إلى الله، فإنما يدعوهم إلى من يحكم بالحقّ، وهو لا يطلب من الله سبحانه محاباة له، إذ كان مؤمنا بالله وهم أعداء لله.. إنه لا يريد غير الحق، من الحق جل وعلا وهذا شأن الواثق من الحق الذي فى يده..
وقوله تعالى: «وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ».
هو خاتمة هذه السورة...
وفى هذه الخاتمة ينهى النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- موقفه مع قومه، مع الضالين والمعاندين، بأن يتركهم لحكم الله فيهم، وقضائه بينه وبينهم، وهو حكم عدل، وقضاء حق..
أما ما يجد النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- من خلافهم عليه، واتّهامهم له، ورميهم إياه بتلك الرّميات الطائشة، كقولهم عنه: إنه شاعر، وإنه مجنون، وإنه ساحر- فذلك مما يستعين الله على حمله منهم، من غير أن يحمل لهم ضغينة، أو يخرج به ذلك على غير ما يريده من الله لهم، من هداية، إلى أن يدعو عليهم، كما دعا كثير من الأنبياء على أقوامهم، فأخذوا بعذاب الله، ووقع بهم البلاء وهم ينظرون.. فما جاء صلوات الله وسلامه عليه إلا رحمة للعالمين، وهو بهذه الرحمة حريص على أن ينال قومه وأهله حظّهم منها.. فإن لم ينل المعاندين والمنكرين شىء من هذه الرحمة، فلا أقلّ من ألا يصيبهم عذاب فى هذه الدنيا، كما أصيبت الأمم الأخرى.. أمّا فى الآخرة فأمرهم إلى الله، يحكم فيهم بما شاء، وهو أحكم الحاكمين..
ولقد مضى النبىّ فى طريق دعوته، صابرا، مصابرا، يلقى المساءة بالإحسان
فيا رسول الله، ويا خير خلقه، ويا صفوة أنبيائه، ويا خاتم رسله.. عليك صلوات الله وسلامه عليه ورحمته وبركاته..
ويا رسول الله، ويا رحمته المهداة للعالمين. عليك صلوات الله وملائكته والمؤمنين «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ.. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً».
نزولها: اختلف فيها، فقال بعضهم: إنها مكية إلّا آيات، وقال آخرون: إنها مدنية إلّا آيات.. ونحن نغلّب الرأى القائل بأنها مدنية إلا بعض آيات منها فمكية.. ويكفى أن تسمّى سورة الحجّ، والحجّ إنما فرض بعد الهجرة.
عدد آياتها: ثمان وسبعون آية.
عدد كلماته: ألفان ومائتان، وإحدى وتسعون كلمة.
عدد حروفها: خمسة آلاف وخمسة وسبعون حرفا.
مناسبتها للسورة التي قبلها
كانت سورة الأنبياء- السابقة على هذه السورة- حديثا متصلا عن أنبياء الله ورسله، وما ابتلاهم الله سبحانه وتعالى به من ضرّاء وسرّاء، ثم كانت عاقبتهم جميعا إلى العافية فى الدنيا، وإلى رضا الله ورضوانه فى الآخرة..
وقد بدئت هذه السورة- سورة الأنبياء- بهذا الخبر المثير: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ» ثم ختمت السورة بهذا البلاغ المبين، الذي جاء به قوله تعالى: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» ثم تلتها الآيات التي تحدث عن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- وأنه المبعوث رحمة للعالمين، وأنه لا يحمل الناس حملا على الهدى الذي بين يديه، فمن تولّى، فما على النبىّ من أمره شىء.. والموعد الآخرة، حيث يفصل الله بين العباد..
وقد جاءت سورة الحج فبدأت بهذا الإعلان، أو هذا النذير الصارخ: