ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ بسم الله اسم عزيز قصده العاصي لطلب التخفيف فصار وزره مغفورا، اسم كريم قصده العابد لطلب التضعيف فصار أجره موفورا، اسم جليل أمّه الوليّ لطلب التشريف فصار سعيه مشكورا، اسم عزيز إن تعرّض الفقير لوجوده محقته العزّة، وطوّحته السّطوة، فصار كأن لم يكن شيئا مذكورا.
جلّت الأحدية.. فأنّى بالوصول! وتقدّست الصمدية.. فمن ذا الذي عليها يقف «١» ؟.
«كَلَّا.. إِنَّها تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ» «٢» :
وكم باسطين إلى وصلنا | أكفّهمو.. لم ينالوا نصيبا! |
[سورة النمل (٢٧) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١)بطهارة قدسى وسناء عزّى لا أخيّب أمل من أمّل لطفى.
بوجود برّى تطيب قلوب أوليائى، وبشهود وجهى تغيب أسرار أصفيائى-.
طلب القاصدين مقابل بلطفي، وسعى العاملين مشكور بعطفى «٣».
(٢) آية ٥٤ سورة المدثر.
(٣) غير خاف على القارئ أن يلحط تردد حرفى الطاء والسين في كلمات الأسطر الثلاثة، كأنما القشيري يريدنا أن نتفهم دقائق (طس) من بعيد.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٢]
هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
هذه الآيات وهذا الكتاب بيان وشفاء، ونور وضياء، وبشرى ودليل لمن حققنا لهم الإيمان، وأكّدنا لهم الضمان، وكفلنا لهم الإحسان.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٣]
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣)
يديمون المواصلات، ويستقيمون في آداب المناجاة ويؤدون عن أموالهم وأحوالهم وحركاتهم وسكناتهم الزكاة، بما يقومون في حقوق المسلمين أحسن مقام، وينوبون عن ضعفائهم أحسن مناب.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٤]
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤)
أغشيناهم فهم لا يبصرون، وعمّينا عليهم المسالك فهم عن الطريقة المثلى يعدلون، أولئك الذين في ضلالتهم يعمهون، وفي حيرتهم يتردّون.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٥]
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥)
«سُوءُ الْعَذابِ» أن يجد الآلام ولا يجد التسلّى بمعرفة المسلّى، ويحمل البلاء ولا يحمل عنه ثقله وعذابه شهود المبلى.. وذلك للكفار، فأمّا المؤمنون فيخفّف عنهم العذاب في الآخرة حسن رجائهم في الله، ثم تضرّعهم إلى الله، ثم فضل الله معهم بالتخفيف في حال البلاء ثم ما وقع عليهم من الغشي والإفاقة- كما في الخبر- إلى وقت إخراجهم من النار.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦]
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٧]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧)
سار موسى بأهله من مدين شعيب متوجها إلى مصر، ودجا عليه الليل، وأخذ امرأته الطّلق وهبّت الرياح الباردة، ولم يور الزّند، وضاق على موسى الأمر، واستبهم الوقت، وتشتتت به الهمة، واستولى على قلبه الشغل. ثم رأى نارا من بعيد، فقال لأهله: امكثوا إنّى أبصرت نارا. وفي القصة: إنه تشتت أغنامه، وكانت له بقور وثيران تحمل متاعه فشردت، فقالت امرأته:
كيف تتركنا وتمضى والوادي مسبع؟!.
فقال: امكثوا.. فإنى لأجلكم أمضى وأتعرف أمر هذه النار، لعلّى آتيكم منها إمّا بقبس أو شعلة، أو بخبر عن قوم نزول عليها تكون لنا بهم استعانة، ومن جهتهم انتفاع. وبدت لعينه تلك النار قريبة، فكان يمشى نحوها، وهي تتباعد حتى قرب منها، فرأى شجرة رطبة خضراء تشتعل كلّها من أولها إلى آخرها، وهي نار مضيئة، فجمع خشيبات وأراد أن يقتبس منها، فعند ذلك سمع النداء من الله لا من الشجرة كما توهّم المخالفون من أهل البدع. وحصل الإجماع أنّ موسى سمع تلك الليلة كلام الله، ولو كان النداء في الشجرة لكان المتكلم به الشجرة، ولأجل الإجماع قلنا: لم يكن النداء في الشجرة «١». وإلا فنحن نجوّز أن يخلق الله نداء فى الشجرة ويكون تعريفا، ولكن حينئذ يكون المتكلم بذلك الشجرة.
وهذا هو نفس الرأى بالنسبة للقرآن، وهذا هو الجواب الذي دحض به السلف زعم الجهمية حينما أرادوا أن يثبتوا أن القرآن مخلوق، لأن القرآن شىء، «والله خالق كل شىء» (انظر مدارج السالكين لابن القيم ج ١ ص ٢٢٢) فيكون النداء الذي سمع من الشجرة كالكلام الذي بين دفتى المصحف.. كلاهما كلام الله- على الحقيقة، ولكن من حيث التجوز في التعبير يقال (فى الشجرة) و (فى المصحف).
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨]
فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨)
أي بورك من هو في طلب النار ومن هو حول النار «١».
ومعنى بورك أي لحقته البركة أو أصابته البركة.. والبركة الزيادة والنّماء في الخير.
والدعاء من القديم- سبحانه- بهذا يكون تحقيقا له وتيسيرا به.
قوله جل ذكره
[سورة النمل (٢٧) : آية ٩]
يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)
الذي يخاطبك «أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ» فى استحقاق جلالى، «الْحَكِيمُ» فى جميع أفعالى.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٠]
وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠)
في آية أخرى بيّن أنه سأله، وقال له على وجه التقرير: «وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟» وأجابه بقوله: «هِيَ عَصايَ» وذكر بعض ما له فيها من المآرب والمنافع، فقال الله: «وَأَلْقِ عَصاكَ»، وذلك لأنه أراد أن يريه فيها من عظيم البرهان ما يجعل له كمال اليقين.
وألقاها موسى فقلبها الله ثعبانا، أولا حية صغيرة ثم صارت حية كبيرة، فأوجس في نفسه موسى خيفة وولّى مدبرا هاربا، وكان خوفه من أن يسلّطها عليه لمّا كان عارفا بأن الله يعذّب من يشاء بما يشاء، فقال له الحقّ:
«يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ».
أي لا ينبغى لهم أن يخافوا.
[سورة النمل (٢٧) : آية ١١]
إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)وهذا يدلّ على جواز الذّنب على الأنبياء عليهم السلام فيما لا يتعلق بتبليغ الرسالة بشرط ترك الإصرار. فأمّا من لا يجيز عليهم الذنوب فيحمل هذا على ما قبل النبوة «١».
فلمّا رأى موسى انقلاب العصا علم أنّ الحقّ هو الذي يكاشفه بذلك.
ويقال: كيف علم موسى- عليه السلام- أنّ الذي سمعه كلام الله؟.
والجواب أنه بتعريف منه إياه، ويجوز أن يكون ذلك العلم ضروريا فيه، ويجوز أن يكون كسبيا، ويكون الدليل له الذي به علم صدقه في قوله: «إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ» هو ما ظهر على يده- فى الوقت- من المعجزة، من قلب العصا، وإخراج يده بيضاء «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٢]
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢)
من غير سوء أي برص. وفي القصة أن موسى عليه السلام ذكر اشتغال قلبه بحديث امرأته، وما أصابه تلك الليلة من الأحوال التي أوجبت انزعاجه، وقصده في طلب النار، فقال الله تعالى: إنا قد كفيناك ذلك الأمر، ووكلنا بامرأتك وأسبابك، فجمعنا أغنامك وثيرانك، وسلمت لك المرأة.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٣]
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣).
والنبي- على الوجوب- معصوم، والولىّ محفوظ أي قد تقع منه هنات أو زلات ولكنه لا يصر على ما فعل (الرسالة ص ١٧٥).
(٢) أي أن الأصل في المعجزة أنها دليل صدق النبي، فقد يستطيع السحرة والكهنة عمل أشياء عجيبة ولكنها لا تخرج عن كونها دليل مهارة أو ذكاء أو قدرة على الإيهام والانبهار.
والنبي مأمور بإظهار المعجزة أما الولي فمأمور بإخفاء الكرامة (الرسالة ص ١٧٤).
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٤]
وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
وكما يحصل من الكافر الجحد «١» تحصل للعاصى عند الإلمام ببعض الذنوب حالة يعلم فيها- بالقطع- أن ما يفعله غير جائز، وتتوالى على قلبه الخواطر الزاجرة الداعية له عن فعلها من غير أن يكون متغافلا عنها أو ناسيا لها، ثم يقدم على ذلك غير محتفل بها موافقة لشهوته. وهذا الجنس من المعاصي أكثرها شؤما، وأشدّها في العقوبة، وأبعدها عن الغفران.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٥]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥)
يقتضى حكم هذا الخطاب أنه أفردهما بجنس من العلم لم يشاركهما فيه أحد لأنه ذكره على وجه تخصيصهما به، ولا شكّ أنه كان من العلوم الدينية ويحتمل أنه كان بزيادة بيان لهما أغناهما عن إقامة البرهان عليه وتصحيحه بالاستدلال الذي هو معرّض للشك فيه «٢».
(٢) نعلم من مذهب القشيري أن البيان أرقى في المعراج العرفانى من البرهان، ونجد هنا سبب تفوق البيان على البرهان.
ويحتمل أن يكون قوله: «عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ».
ويحتمل أن يكون علمهما بالله على وجه زيادة لهما في البيان.
وفي الآية دليل على أن التفضيل الذي يحصل بالعلم لا يحصل بغيره من الصفات، فأخبر بأنهما شكرا الله على عظيم ما أنعم به عليهما «١».
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٦]
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦)
ورث أباه في النبوة، وورثه في أن أقامه مقامه.
قوله: «عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ» : وكان ذلك معجزة له، أظهرها لقومه ليعلموا بها صدق إخباره عن نبوته. ومن كان صاحب بصيرة وحضور قلب بالله يشهد الأشياء كلّها بالله ومن الله. ويكون مكاشفا بها من حيث التفهيم، فكأنه يسمع من كل شيء تعريفات الحقّ- سبحانه- للعبد مما لا نهاية له، وذلك موجود فيهم محكيّ عنهم. وكما أنّ ضرب الطّبل مثلا دليل يعرف- بالمواضعة- عند سماعه وقت الرحيل والنزول فالحقّ- سبحانه- يخصّ أهل الحضور بفنون التعريفات، من سماع الأصوات وشهود أحوال المرئيات في اختلافها، كما قيل:
إذا المرء كانت له فكرة... ففى كل شىء له عبرة
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٧]
وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧).
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٨]
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨)
قيل إن سليمان استحضر أمير النمل الذي قال لقومه: «ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ» وقال له:
أما علمت أنّى معصوم، وأنّى لن أمكّن عسكرى من أن يطئوكم؟ فأخبره أمير النمل أنّه لا يعلم ذلك لأنه ليس بواجب أن يكون النمل عالما بعصمة سليمان. ولو قال: لعلكم أبيح لكم ذلك.. لكان هذا أيضا جائزا.
وقيل إن ذلك النمل قال لسليمان: إنى أحمل قومى على الزهد في الدنيا، وخشيت إن يروكم في ملككم أن يرغبوا فيها «١»، فأمرتهم بدخول مساكنهم لئلا يتشوّش عليهم زهدهم.
ولئن صحّ هذا ففيه دليل على وجوب سياسة الكبار لمن هو في رعيتهم. وفي الآية دليل على حسن الاحتراز ممّا يخشى وقوعه، وأنّ ذلك مما تقتضيه عادة النّفس وما فطروا عليه من التمييز.
ويقال إن ذلك النمل قال لسليمان: ما الذي أعطاك الله من الكرامة؟.
فقال: سخّر لى الريح.
فقال: أما علمت أنّ الإشارة فيه أنه ليس بيدك مما أعطيت إلا الريح؟ «٢».
وهكذا بيّنه الكبير على لسان الصغير!.
قوله جلّ ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٩]
فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩).
(٢) أي أنه عطاء زائل لا مكث له ولا قرار.
وفي القصة أنه استعرض جنده ليراهم كم هم، فعرضهم عليه، وكانوا يأتون فوجا فوجا، حتى مضى شهر وسليمان واقف ينظر إليهم معتبرا فلم ينتهوا، ومرّ سليمان عليه السلام.
وفي القصة: أن عظيم النمل كان مثل البغل في عظم الجثة، وله خرطوم. والله أعلم.
قوله جل ذكره: «رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ».
في ذلك دليل على أن نظره إليهم كان نظر اعتبار، وأنه رأى تعريف الله إياه ذلك، وتنبيهه عليه من جملة نعمه التي يجب عليها الشكر.
وفي قوله: «وَعَلى والِدَيَّ» دليل على أنّ شكر الشاكر لله لا يختص بما أنعم به عليه على الخصوص، بل يجب على العبد أن يشكر الله على ما خصّ وعمّ من نعمه.
قوله جلّ ذكره: «وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ».
سأل حسن العاقبة لأنّ الصالح من عباده من هو مختوم له بالسعادة.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٢٠]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠)
تطلّبه فلمّا لم يره تعرّف ما سبب تأخره وغيبته.
ودلّ ذلك على تيقظ سليمان في مملكته، وحسن قيامه وتكفله بأمور أمته ورعيته، حيث لم تخف عليه غيبة طير هو من أصغر الطيور لم يحضر ساعة واحدة.. وهذا أحسن ما قيل.
ثم تهدّده إن لم يكن له عذر بعذاب شديد، وذلك يدلّ على كمال سياسته وعدله فى مملكته.
وروى أن ابن عباس سئل عن ذلك، وأنه قيل له: إن كان الهدهد يرى الماء تحت التراب ويعرفه فكيف لا يرى الفخّ مخفيّا تحت التراب؟.
فقال: إذا جاء القضاء عمى البصر.
ويقال: إن الطير كانت تقف فوق رأس سليمان مصطفة، وكانت تستر انبساط الشمس وشعاعها بأجنحتها، فوقع شعاع الشمس على الأرض، فنظر سليمان فرأى موضع الهدهد خاليا منه، فعرف بذلك غيبته.. وهذا أيضا ممكن، ويدل على كمال تفقّده، وكمال تيقّظه- كما ذكرنا.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٢١]
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١)
فى هذه الآية دليل على مقدار الجرم، وأنه لا عبرة بصغر الجثة وعظمها. وفيه دليل على أن الطير في زمانه كانت في جملة التكليف، ولا يبعد الآن أن يكون عليها شرع، وأنّ لهم من الله إلهاما وإعلاما وإن كان لا يعرف ذلك على وجه القطع.
وتعيين «١» ذلك العذاب الشديد غير ممكن قطعا، إلا تجويزا واحتمالا.
وعلى هذه الطريقة يحتمل كلّ ما قيل فيه.
ويمكن أن يقال فإن وجد في شىء نقل فهو متّبع.
وقد قيل هو نتف ريشه وإلقاؤه في الشمس.
وواضح كذلك مدى استغلاله لهذا الموقف في توجيه كلامه للمريدين والطالبين بطريق غير مباشر. [.....]
وقيل يشتّت عليه وقته.
وقيل يلزمه خدمة أقرانه.
والأولى في هذا أن يقال من العذاب الشديد كيت وكيت، وألا يقطع بشىء دون غيره على وجه القطع.
فمن العذاب الشديد أن يمنع حلاوة الخدمة فيجد ألم المشقة. ومن ذلك أن يقطع عنه حسن التولي لشأنه ويوكل إلى حوله ونفسه، ومن ذلك أن يمتحن بالحرص في الطلب ثم يحال بينه وبين مقصوده ومطلوبه. ومن العذاب الشديد الطمع في اسم العذر ثم لا يرتفع «١».
ومن ذلك سلب القناعة، ومنه عدم الرضا بما يجرى. ومن ذلك توهم الحدثان وحسبان شىء من الخلق.
ومن ذلك الحاجة إلى الأخسّة من الناس. ومن ذلك ذلّ السؤال مع الغفلة عن شهود التقدير ومن ذلك صحبة الأضداد والابتلاء بمعاشرتهم. ومن ذلك ضعف اليقين وقلة الصبر.
ومن ذلك التباس طريق الرّشد. ومنه حسبان الباطل بصفة الحق، والتباس الحقّ في صورة الباطل. ومنه أن يطالب بما لا تتسع له ذات يده. ومنه الفقر في الغربة.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣)
فلم يلبث الهدهد أن جاء، وعلم أن سليمان قد تهدّده، فقال: أحطت علما بما هو عليك خاف، «وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ» ثم ذكر حديث بلقيس، وأنها ملكتهم، وأن لها من المال والملك والسرير العظيم
[سورة النمل (٢٧) : آية ٢٤]
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)
فعند ذلك غاظ هذا سليمان، وغضب في الله، و:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٢٧]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧)
وفي هذا دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم فيجب التوقف فيه على حدّ التجويز، وفيه دلالة على أنه لا يطرح بل يجب أن بتعرّف: هل هو صدق أم كذب؟ «١» ولمّا عرف سليمان هذا العذر ترك عقوبته وما توعّده به.. وكذلك سبيل الوالي فإنّ عدله يمنعه من الحيف على رعيته، ويقبل عذر من وجده في صورة المجرمين إذا صدق في اعتذاره.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٢٨]
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (٢٨)
فى الآية إشارة إلى أنه لا ينبغى للإنسان أن يذكر بين يدى الملوك كلّ كلمة، فإنه يجرّ العناء بذلك إلى نفسه وقد كان لسليمان من الخدم والحشم ومن يأتمر بأمره الكثير، ولكنه لم يستعمل واحدا في هذا التكليف إلا الهدهد لأنه هو الذي قال ما قال، فلزمه الخروج من عهدة ما قال.
ويقال لمّا صدق فيما أخبر لملكه عوّض عليه فأهّل للسفارة والرسالة- على ضعف صورته «٢».
(٢) هنا إشارة بعيدة إلى الرسل والأولياء، ودحض لما يقال عنهم من التهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١)
«كِتابٌ كَرِيمٌ» الكرم نفى الدناءة، وقيل لأنه كان مختوما «١»، وقيل لأنّ الرسول كان طيرا فعلمت أنّ من تكون الطير مسخّرة له لا بدّ أنه عظيم الشأن. وقيل:
لأنه كان مصدّرا ببسم الله الرّحمن الرّحيم. وقيل لأنه كتب فيه اسم نفسه أولا ولم يقل:
إنه من سليمان إلى فلانة. ويقال لم يكن في الكتاب ذكر الطمع في الملك بل كان دعاء إلى الله: «أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ».
ويقال أخذ الكتاب بمجامع قلبها، وقهرها فلم يكن لها جواب، فقالت: «إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ» فلمّا عرفت قدر الكتاب وصلت باحترامها إلى بقاء ملكها، ورزقت الإسلام وصحبة سليمان.
ويقال إذا كان الكتاب كريما لما فيه من آية التسمية فالكريم من الصلاة ما لا يتجرّد عن التسمية، وإذا تجرّدت كان الأمر فيها بالعكس.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٣٢]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢)
«٢».
(٢) (حتى تشهدون) بكسر النون، أما الفتح فلحن لأن النون إنما تفتح في موضع الرفع وهذا في موضع النصب لأن ما سبق «حتى» أسلوب طلبى، فالفعل ينصب بعدها بأن مضمرة. وأصله «تشهدونى» فحذفت النون الأولى للنصب، والياء لدلالة الكسرة.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٣٣]
قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (٣٣)
أجابوا على شرط الأدب، وقالوا: ليس منا إلّا بذل الوسع، وليس لنا إلّا إظهار النّصح، وما علينا إلا متابعة الأمر- وتمشية الأمر وإمضاؤه.. إليك.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٣٤]
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤)
ويقال إنّ: «وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ» من قولها.
ويقال: تغيير الملوك «٢» إذا دخلوا قرية- عن صفتها- معلوم، ثم ينظر.. فإن كان الداخل عادلا أزال سنّة الجور، وأثبت سنّة العدل، وإن كان الداخل جائرا أزال الحسن وأثبت الباطل. هذا معلوم فإنّ خراب البلاد بولاة السّوء، حيث يستولى أسافل الناس وأسقاطهم على الأعزة منهم، وكما قيل:
يا دولة ليس فيها... من المعالي شظيه
زولى فما أنت إلّا... على الكرام بليه
وعمارة الدنيا بولاة الرّشد، يكسرون رقاب الغاغة، ويخلّصون الكرام من أسر السّفلة، (ويأخذ القوس باريها) «٣»، وتطلع شمس العدل من برج شرفها.. كذلك المعرفة
(٢) كأنما القشيري ينفس عن نفسه مما قاساه في عهد السلطان طغرل ووزيره الكندري وكأنما يمجد ما ناله من الخير في عهد السلطان ألب أرسلان. ووزيره العظيم نظام الملك (انظر مدخل هذا الكتاب: المجلد الأول)
(٣) هكذا في م وهي في ص (فتأخذ النفوس بأزمتها).
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٣٥]
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥)
جاء في القصة أنها بعثت إلى سليمان بهدايا، ومن جملتها لبنة مصنوعة من الفضة وأخرى من الذهب. وأن الله أخبر سليمان بذلك، وأوحى إليه في معناه. وأمر سليمان الشياطين حتى بنوا بساحة منزله ميدانا، وأمرهم أن يفرشوا الميدان بهيئة اللّبن المصنوع من الذهب والفضة من أوله إلى آخره. وأمر بأن توقف الدوابّ على ذلك وألا تنظّف آثارها من روث وغيره، وأن يترك موضعان للبنتين خاليين في ممرّ الدخول. وأقبل رسلها، وكانت معهم اللبنتان ملفوفتين، فلمّا رأوا الأمر، ووقعت أبصارهم على طريقهم، صغر في أعينهم ما كان معهم، وخجلوا من تقديم ذلك إلى سليمان ووقعوا في الفكرة.. كيف يتخلصون مما معهم؟.
فلمّا رأوا موضع اللّبنتين فارغا ظنّوا أن ذلك سرق من بينها، فقالوا لو أظهرنا هذا نسبنا إلى أنّا سرقناهما من هذا الموضع، فطرحاهما في الموضع الخالي، ودخلا على سليمان:
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٣٦]
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦)
أتهدوننى مالا؟! وهل مثلى يستمال بمثل هذه الأفعال؟ إنكم وأمثالكم تعاملون بمثل ما عوملتم «١» ! إرجع إليهم: -
[سورة النمل (٢٧) : آية ٣٧]
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧)فلمّا رجعوا إلى بلقيس، وأخبروها بما شاهدوا وسمعوا علمت أنه لا وجه لها سوى الاستسلام والطاعة، فعزمت على المسير إلى خدمته، وأوحى الله إلى سليمان بذلك، وأنها خرجت مستسلمة، فقال: أيكم يأتينى بعرشها؟.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠)
بسط الله- سبحانه- ملك سليمان، وكان في ملكه الجنّ والإنس والشياطين الجنّ على جهة التسخير، والإنس على حكم الطوع، والشياطين وكانوا على أقسام.
ولمّا قال: «أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها؟» قال عفريت من الجن- وكان أقواهم- «أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ»، فلم يرغب سليمان في قوله لأنه بنى القول فيه على دعوى قوّته «١».
قوله جل ذكره: «قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ».
ومعلوم أنه لا يكون في وسع البشر الإتيان بالعرش بهذه السرعة، وأن ذلك لا يحصل إلا بخصائص قدرة الله تعالى. وقطع المسافة البعيدة في لحظة لا يصح تقديره في الجواز إلا بأحد وجهين: إمّا بأن يقدّم «٢» الله المسافة بين (العرش وبين منزل سليمان) «٣»، وإمّا بأن يعدم العرش ثم يعيده في الوقت الثاني بحضرة سليمان. وأيّ واحد من القسمين كان- لم يكن إلّا من قبل الله، فالذى كان عنده علم من الكتاب دعا الله- سبحانه- واستجاب له في ذلك، وأحضر العرش، وأمر سليمان حتى غيّر صورته فجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه، وأثبته على تركيب آخر غير ما كان عليه.
ولمّا رأى سليمان ذلك أخذ في الشكر لله- سبحانه- والاعتراف بعظم نعمه، والاستحياء، والتواضع له، وقال: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي» لا باستحقاق منى، ولا باستطاعة من غيرى، بل أحمد النعمة لربّى حيث جعل في قومى ومن أمتى من له الجاه عنده فاستجاب دعاءه.
وحقيقة الشكر- على لسان العلماء- الاعتراف بنعمة المنعم على جهة الخضوع والأحسن أن يقال الشكر هو الثناء على المحسن بذكر إحسانه، فيدخل في هذا شكر الله للعبد لأنه ثناء منه على العبد بذكر إحسان العبد، وشكر العبد ثناء على الله بذكر إحسانه..
إلّا إنّ إحسان الحقّ هو إنعامه، وإحسان العبد طاعته وخدمته لله، وما هو الحميد من أفعاله.
فأمّا على طريق أهل المعاملة وبيان الإشارة: فالشكر صرف النعمة في وجه الخدمة.
(٢) فى م (يعدم) بالعين، وإعدام المسافة أي جعلها في حكم العدم مقبول في المعنى، وينسجم مع جعل العرش في حكم العدم وإعادة خلقه من جديد.. وكذلك تقديم المسافة (بالقاف) مقبول حتى يصبح نقله من مكان إلى مكان قريب ميسورا، فالإعدام أو التقديم كلاهما مقبول لأن القدرة الإلهية تشملهما.
(٣) هكذا في م ولكنها في ص (بين القريتين) أي قرية سليمان وقرية بلقيس.
ويقال الشكر شهود المنعم من غير مساكنة إلى النعمة.
ويقال الشكر رؤية العجز عن الشكر.
ويقال أعظم الشكر الشكر على توفيق الشكر.
ويقال الشكر على قسمين: شكر العوام على شهود المزيد، قال تعالى: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ «١» »، وشكر الخواص يكون مجردا عن طلب المزيد، غير متعرض لمنال العوض.
ويقال حقيقة الشكر قيد النعم وارتباطها لأنّ بالشكر بقاءها ودوامها.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)
أراد سليمان أن يمتحنها وأن يختبر عقلها، فأمر بتغيير عرشها، فلمّا رأته: - «قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ: كَأَنَّهُ هُوَ» فاستدلّ بذلك على كمال عقلها، وكان ذلك أمرا ناقضا للعادة، فصار لها آية وعلامة على صحة نبوة سليمان- عليه السلام- وأسلمت: - «وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» كان ذلك امتحانا آخر لها. فقد أمر سليمان الشياطين أن يصنعوا من الزجاج شبه
ولمّا توهّمت أنها تخوض الماء كشفت عن ساقيها، فرأى سليمان رجليها صحيحين. وقيل لها: ِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ»
: فصار ذلك أيضا سببا وموجبا ليقينها. وآمنت وتزوج بها سليمان عليه السلام.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٤٥]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥)
ذكر قصة ثمود، وقصة نبيّهم صالح عليه السلام، وما جرى بينه وبينهم من التكذيب، وطلبهم منه معجزة، وحديث الناقة وعقرها، وتبرمهم بالناقة بعد أن رأوا فيها من الفعل الذي كانت لهم فيه أعظم آية.. إلى قوله:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٥٠]
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠)
ومكرهم ما أظهروا في الظاهر من موافقة صالح، وعقرهم الناقة خفية، وتوريك الذّنب على غير جارمه «١»، والتبرّى من اختيارهم ذلك.
وأمّا مكر الله فهو جزاؤهم على مكرهم بإخفاء ما أراد بهم من العقوبة عنهم، ثم إحلالها بهم بغتة. فالمكر من الله تخليته إياهم مع مكرهم بحيث لا يعصمهم، وتزيين ذلك في أعينهم، وتحبيب ذلك إليهم.. ولو شاء لعصمهم. ومن أليم مكره انتشار الصيت بالصلاح، والعمل في السّرّ بخلاف ما يتوهم بهم من الصلاح، وفي الآخرة لا يجوز في سوقها هذا النّقد! «٢».
(٢) جميل من القشيري تعبيره عن أسلوب (التعامل) بين الخلق والمخلوق مكرا بمكر بلفظة (النقد).. وفي لآخرة لا يسرى هذا النقد، فلا يجدى مكرهم فتيلا لأن التعامل فى (سوق) الآخرة يكون على نحو آخر.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢)
أهلكهم ولم يغادر منهم أحدا: - «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» وفي الخبر: «لو كان الظلم بيتا في الجنة لسلّط الله عليه الخراب» فالنفوس إذا ظلمت بزلاتها خربت بلحوقها شؤم الذّلة حتى يتعود صاحبها الكسل، ويستوطن مركب الفشل، ويحرم التوفيق، ويتوالى عليه الخذلان وقسوة القلب وجحود العين «١» وانتفاء تعظيم الشريعة من القلب. وأصحاب القلوب إذا ظلموها بالغفلة ولم يحاولوا طردها عن قلوبهم.. خربت قلوبهم حتى تقسو بعد الرأفة، وتجف بعد الصفوة.
فخراب النفوس باستيلاء الشهوة والهفوة، وخراب القلوب باستيلاء الغفلة والقسوة، وخراب الأرواح باستيلاء الحجبة والوقفة، وخراب الأسرار باستيلاء الغيبة والوحشة «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥)
ذكر قصة لوط وأمته، وما أصرّوا عليه من الفاحشة، وما أحلّ الله بهم من العقوبة، وإحلال العقوبة بامرأته التي كانت تطابق القوم، وتخليص الحقّ لوطا من بينهم، وما كان من أمر الملائكة الذين بعثوا لإهلاكهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٥٩]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩).
(٢) هذه إشارة هامة توضح آفات الطريق في مراحله المختلفة.
ويقال اصطفاهم، ثم هداهم، ثم آواهم، وسلّم عليهم قبل أن خلقهم وأبداهم، وبعد أن سلّم عليهم بودّه لقّاهم.
ويقال: اصطفاهم بنور اليقين وحلّة الوصل وكمال العيش.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٠]
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠)
فثمرات الظاهر غذاء النفوس، وثمرات الباطن والأسرار ضياء القلوب، وكما لا تبقى في وقت الربيع من وحشة الشتاء بقية فلا يبقى في قلوبهم وأوقاتهم من الغيبة والحجبة والنفرة والتهمة شظيّة.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦١]
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١)
نفوس العابدين قرار طاعتهم، وقلوب العارفين قرار معرفتهم، وأرواح الواجدين قرار
«وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ» من الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة.
ويقال «جَعَلَ لَها رَواسِيَ» اليقين والتوكل.
ويقال الرواسي في الأرض الأبدال والأولياء والأوتاد «٢» بهم يديم إمساك الأرض، وببركاتهم يدفع عن أهلها البلاء.
ويقال الرواسي هم الأئمة الذين يهدون المسترشدين إلى الله.
قوله جل ذكره: «وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ».
«جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً» بين القلب والنفس لئلا يغلب أحدهما صاحبه.
ويقال بين العبودية وأحكامها، والحقيقة وأحكامها، فلو غلبت العبودية كانت جحدا للحقيقة، ولو غلبت الحقيقة العبودية كانت طيّا للشريعة.
ويقال: ألسنة المريدين مقرّ ذكره، وأسماعهم محلّ الإدراك الموصّل إلى الفهم، والعيون مقر الاعتبار.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٢]
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢)
فصل بين الإجابة وبين كشف السوء فالإجابة بالقول والكشف بالطّول، الإجابة بالكلام والكشف بالإنعام. ودعاء المضطر لا حجاب له، وكذلك دعاء المظلوم» ولكن لكلّ أجل كتاب».
(٢) جاء في حلية الأولياء (ح ٨ ص ٣٦٧) حديث عن النبي (ص) :«خيار أمتى في كل قرن خمسمائة والأبدال أربعون فلا الخمسمائة ينقصون ولا الأبدال، كلما مات رجل أبدل الله عز وجل من الخمسمائة مكانه وأدخل من الأربعين مكانهم).
ويرى الجرجاني: أن الأبدال سبعة (التعريفات ص ٣٧ ط مصر سنة ١٩٣٨) ويرى ابن عساكر: أنهم ٢٢ بالشام ١٨ بالعراق (تاريخ دمشق لابن عساكر ح ١ ص ٢٧٨).
ويرى الهجويرى: أن الأوتاد أربعة يطوفون العالم بجملته كل ليلة (كشف المحجوب ص ٢٦٩).
ومادام العبد يتوهم من نفسه شيئا من الحول والحيلة، ويرى لنفسه شيئا من الأسباب يعتمد عليه أو يستند إليه- فليس بمضطر، فالمضطرّ يرى نفسه كالغريق في البحر، أو الضّالّ فى المتاهة، وهو يرى عنانه بيد سيّده، وزمامه في قبضته، فهو كالميت بين يدى غاسله، وهو لا يرى لنفسه استحقاقا للنجاة لاعتقاده في نفسه أنه من أهل السخط، ولا يقرأ اسمه إلا من ديوان الشقاوة «١».
ولا ينبغى للمضطر أن يستعين بأحد في أن يدعو له لأنّ الله وعد الإجابة له..
لا لمن يدعو له.
ثم كما وعد المضطرّ الإجابة وكشف السوء وعده بقوله: - «... وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ».
فإنّ مع العسر يسرا، ولم يقل: للعسر إزالة، ولكن قال: مع العسر يسر فنهار اليسر حاصل بعد ظلام العسر.
ثم قال: «أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ» لأنّ العبد إذا زال عسره، وكشف عنه ضرّه نسى ما كان فيه، وكما قال القائل:
كأنّ الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى... ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلا
وفي ذلك يقول أبو يعقوب السوسي: متى شهدوا في إخلاصهم الإخلاص احتاج إخلاصهم إلى إخلاص. ويرى أبو عثمان المغربي: أن إخلاص الخواص: هو ما يجرى عليهم لا بهم فتبدو منهم الطاعات وهم عنها بمعزل، ولا يقع لهم عليها رؤية، ولا بها اعتداد.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٣]
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣)
إذا أظلم الوقت على صاحبه في متعارض الخواطر عند استبهام وجه الصواب، وضاق الأمر بسبب وحشة التدبير وظلمات أحوال التجويز، والتحيّر عند طلب ترجيح بعض الخواطر على بعض بشواهد العقل.. فمن الذي يرشدكم لوجه الصواب بترك التدبير، وللاستسلام لحكم التقدير، وللخروج من ظلمات مجوّزات العقول إلى قضايا شهود التقدير، وتفويض الأمر إلى اختيار الحق، والاستسلام لما جرت به الأقسام، وسبقت به الأقدار؟.
«.. وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ».
من الذي يرسل رياح فضله بين يدى أنوار اختياره فيمحو آثار اختيار نفسك، ويعجّل بحسن الكفاية لك؟.
ويقال: يرسل رياح التوكل فيطهّر القلوب من آثار الاختيار وأوضار التدبير، ثم يطلع شموس الرضا فيحصل برد الكفاية فوق المأمول في حال سكينة القلب.. أإله مع الله؟
«تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» : من إحالة المقادير على الأسباب.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٤]
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤)
يظهر ما يظهر بقدرته على مقتضى سابق حكمه، ويخصص ما تعلقت به مشيئته وحقّ فيه قوله، وسبق به قضاؤه وقدره. فإذا زال وانتفى وانعدم بعض ما يظهر ويخصص.. فمن الذي يعيده مثلما بدأه؟ ومن الذي يضيّق الرزق ويوسّعه؟ ومن الذي يقبض في بعض الأوقات على
هل في قدرة أحد غير الله ذلك؟.
إن توهمتم شيئا من ذلك فأوضحوا عنه حجّتكم. وإذ قد عجزتم.. فهلّا صدّقتم؟
وبالتوحيد أقررتم؟.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٥]
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥)
«الْغَيْبَ» : ما لا يطّلع عليه أحد، وليس عليه للخلق دليل، وهو الذي يستأثر بعلمه الحقّ «١»، وعلوم الخلق عنه متقاصرة، ثم ما يريد الله أن يخصّ قوما بعلمه أفردهم به.
«وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» : فإنه أخفى علم الساعة عن كل أحد.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٨ الى ٦٦]
«٢» فهم في الجملة يشكّون فيه فلا ينفونه ولا بالقطع يجحدونه.. وهكذا حكم كلّ مريض القلب، فلا حياة له في الحقيقة، ولا راحة له من يأسه إذ هو من البعث في شكّ، ومن الحياة الثانية في استبعاد: - «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ».
(٢) يرى القرطبي أن القراءة هكذا والقراءة على (بل أدرك) معناهما واحد لأن أصل (ادّارك) تدارك وأدغمت الدال في التاء وجىء بألف الوصل (الجامع لأحكام القرآن ج ١٣ ص ٢٢٦).
[سورة النمل (٢٧) : آية ٧١]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١)
فقال الحقّ: إنه عن قريب سيحل بهم ميقاته: - «قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ «١» لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ».
ثم قال جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٧٣]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣)
لأنهم لا يميّزون بين محنهم ومنحهم. وعزيز من يعرف الفرق بين ما هو نعمة من الله له وبين ما هو محنة فإذا تقاصر علم العبد عمّا فيه صلاحه، فعسى أن يحب شيئا ويظنّه خيرا وبلاؤه فيه، وربّ شىء يظنّه العبد نعمة فيشكر عليها ويستديمها، وهي محنة له يجب الصبر عليها والتضرع إلى الله في صرّفها! وبعكس هذا كم من شىء يظنه الإنسان بخلاف ما هو به!.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٧٤]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤)
لا تلتبس على الله أحوالهم فصادق يستوى ظاهره وباطنه يعلمه، ومنافق يخالف باطنه ظاهره يلبّس على الناس حاله.. وهو- سبحانه- يعلمه، وكافر يستوى في الجحد سرّه وعلنه يعلمه، وهو يجازى كلّا على ما علمه.. كيف لا.. وهو قدّره، وعلى ما عليه قضاه وقسمه؟:.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٧٥]
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥)
ما من شىء إلّا مثبت في اللوح المحفوظ حكمه، ماضية فيه مشيئته، متعلّق به علمه قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٦ الى ٧٨]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨)
وهم يخفون بعضا، وبعضا يظهرون، ومع ما يهوون يدورون.
وفي هذه الآية تخصيص لهذه الأمة بأن حفظ الله كتابهم، وعصم من التغيير والتبديل ما به يدينون. وهذه نعمة عظيمة قليل منهم من عليهم يشكرون فالقرآن هدى ورحمة للمؤمنين، وليس ككتابهم الذي أخبر الصادق أنهم له محرّفون مبدّلون.
«إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ» هو «الْعَزِيزُ» المعزّ للمؤمنين، «الْعَلِيمُ» بما يستحقه كلّ أحد من الثواب العظيم والعذاب الأليم.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٩ الى ٨١]
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)
أي اجتهد في أداء فرضه، وثق بصدق وعده في نصره ورزقه، وكفايته وعونه.
ولا يهولنّك ما يجرى على ظواهرهم من أذى يتصل منهم بك، فإنما ذلك كلّه بتسليطنا إن كان محذورا، وبتقييضنا وتسهيلنا إن كان محبوبا. وإنك لعلى حقّ وضياء صدق، وهم على شكّ وظلمة شرك.
قوله جل ذكره: «إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ».
«وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ» أنت تهديهم من حيث الدعاء والدلالة، ولكنك لا تهدى أحدا من حيث إزالة الباطل من القلب وإمالته إلى العرفان، إذ ليست بقدرتك الإزالة أو الإمالة.
أنت لا تسمع إلّا من يؤمن بآياتنا، فلا يسمع منك إلّا من أسعدناه من حيث التوفيق والإرشاد إلى الطريق.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨٢]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢)
إذا حقّ الوعد بإقامة القيامة أوضحنا أشراطها في كلام الدّابة المخرجة من الأرض «١».
وغير ذلك من الآيات.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨٣]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣)
وعند ذلك لا ينفع الإيمان ولا يقبل العذر: -
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)ثم كرّر ذكر الليل والنهار واختلافهما: - «أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» أي ليكون الليل وقت سكونهم، والنهار وقت طلب معاشهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨٧]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧)
أخبر أن اليوم الذي ينفخ فيه في الصور هو يوم إزهاق الأرواح، وإخراجها عن الأجساد فمن روح ترقى إلى علّيين، ومن روح تذهب إلى سجّين. أولئك في حواصل طير تسرح فى الجنة تأوى بالليل إلى قناديل معلقة من تحت العرش صفتها التسبيح والرّوح والراحة، ولبعضها الشهود والرؤية... على مقادير استحقاقهم لما كانوا عليه في دنياهم.
وأمّا أرواح الكفار ففى النار تعذّب على مقادير أجرامهم.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨٨]
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨)
وكثير من الناس اليوم من أصحاب التمكين، هم ساكنون بنفوسهم «١» سائحون في الملكوت بأسرارهم.. قيل: إن الإشارة اليوم إليهم. كما قالوا: العارف كائن بائن كائن مع الناس بظاهره، بائن عن جميع الخلق بسرائره.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٩ الى ٩٠]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)
يحتمل أن يكون «خَيْرٌ» هاهنا للمبالغة لأن الذي له في الآخرة من الثواب خير ممّا منه من القرب: ويحتمل فله نصيب خير أو عاقبة خير أو ثواب خير منها. وهم آمنون من فزع القيامة. ومن جاء بالسيئة: فكما أن حالهم اليوم من المطيعين بالعكس فحكمهم غدا فى الآخرة بالضدّ.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢)
أخبر أنه أمره بالدين الحنيفىّ، والتبرّى من الشّرك الجلىّ منه والخفىّ، وبملازمة الطريق السّويّ. وأخبر أنّ من اتبعه وصدّقه أوجب الحقّ ذمامه وحقّه.
قوله جل ذكره:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٩٣]
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)
سيريكم- عن قريب- آياته، فطوبى لمن رجع قبل وفاته، والويل على من رجع بعد ذهاب الوقت وفواته!.