تفسير سورة لقمان

التفسير المنير
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

وختمت السورة ببيان الأمر بالتقوى والخوف من عذاب يوم القيامة الذي لا بد من إتيانه، ولا أمل فيه بنصرة أحد، وعدم الاغترار بمتاع الدنيا وزخارفها، والتنبيه على مفاتيح الغيب الخمسة التي اختص الله بعلمها، وأن الله محيط علمه بالكائنات جميعها، خبير بكل ما يجري فيها.
خصائص القرآن وأوصاف المؤمنين به
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
الإعراب:
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ مبتدأ وخبر والإضافة بمعنى «من» وهُدىً وَرَحْمَةً بالنصب والرفع، فالنصب على الحال من آياتُ والعامل فيهما معنى الإشارة، ولا يجوز أن يكون منصوبا على الحال من الْكِتابِ لأنه مضاف إليه، ولا عامل يعمل في الحال، وفيه خلاف. والرفع:
إما خبر تِلْكَ وآياتُ: بدلا من تِلْكَ وإما خبر بعد خبر، كقولهم: هذا حلو حامض، وإما خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو هدى.
البلاغة:
هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ عبر بالمصدر عن اسم الفاعل للمبالغة.
تِلْكَ آياتُ إشارة بالبعيد عن القريب لبيان علو الرتبة وسمو القدر.
وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إطناب بتكرار الضمير هُمْ واسم الإشارة أُولئِكَ لزيادة الثناء عليهم وتكريمهم. وقوله هُمُ الْمُفْلِحُونَ يفيد الحصر، أي هم المفلحون لا غيرهم.
127
المفردات اللغوية:
الم يشبه افتتاح سورة البقرة المدنية، وجاء على وفق المعروف غالبا في السور المكية التي تبدأ بأحرف هجائية، للتنبيه على إعجاز القرآن، وللإشارة إلى أن هذه الأحرف «ألف، لام، ميم» ينطق بها العرب قاطبة، ولكنهم عاجزون عن معارضتها بالإتيان بمثل سورة أو عشر سور من القرآن، مما يدل على أنه تنزيل من حكيم حميد. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي هذه الآيات آيات القرآن المتصف بالحكمة.
هُدىً وَرَحْمَةً أي الآيات هادية راحمة الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بيان للمحسنين هُمْ يُوقِنُونَ هم الثانية للتأكيد وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون، لاستجماعهم العقيدة الحقة والعمل الصالح.
التفسير والبيان:
الم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ أي إن هذا القرآن مكوّن من الحروف ذاتها التي تنطقون بها، فهل تأتون بمثل آياته؟ فهذه آيات القرآن ذي الحكمة، الذي لا خلل فيه ولا عوج، ولا تناقض فيه ولا اختلاف، بل هو آيات بينات واضحات.
ثم ذكر تعالى الغاية من تنزيله فقال:
هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ أي هذه الآيات القرآنية هدى وشفاء من الضلال، ورحمة تنقذ المؤمنين بها من العقاب، وهم الذين أحسنوا العمل، واتبعوا الشريعة، فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وفي أوقاتها، مع نوافلها، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها، وصدقوا وأيقنوا بوجود الآخرة وبالجزاء العادل فيها، ورغبوا إلى الله في الثواب، دون مراءاة ولا جزاء ولا شكور من الناس.
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي هؤلاء الموصوفون بما ذكرهم في قمة الهداية والفلاح، فهم المهديون أي على بصيرة ونور ومنهج
128
واضح من الله، وهم الفائزون وحدهم في الدنيا والآخرة. وقوله: أُولئِكَ إشارة إلى علو المرتبة والتعظيم الذي يستحقونه، إذ لا فلاح إلا بإحسان العمل، ولا خير إلا في الإيمان.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما هو آت:
١- إن آيات القرآن العظيم محكمة لا خلل فيها ولا تناقض، ولا عيب فيها ولا تعارض، وهي دستور الهداية الربانية، وسبيل استحقاق الرحمة الإلهية، التي لا يستحقها إلا المحسنون. والمحسن: الذي يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه، فإنه يراه، أو هو الآتي بالإيمان، المتقي الشرك والعناد.
٢- إن من أخص صفات المحسنين إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإيمان باليوم الآخر.
٣- هؤلاء المحسنون استنارت قلوبهم وعقولهم بمنهج الله تعالى، فالتزموا أوامره، واجتنبوا نواهيه، ففازوا وحدهم بسعادة الدنيا والآخرة.
٤- إن وصف القرآن بالحكمة في قوله تعالى: الْكِتابِ الْحَكِيمِ مناسب لموضوع السورة في بيان الحكمة في قصة لقمان وما يؤيدها من آي السورة في تقرير التوحيد، وهدم الشرك وإثبات البعث والنبوة، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، والإيمان بعالم الغيب والشهادة، المنعم على عباده بالنعم الكثيرة الظاهرة والباطنة.
129
إعراض الكافرين عن القرآن وإقبال المؤمنين عليه
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٦ الى ٩]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)
الإعراب:
وَيَتَّخِذَها بالنصب عطفا على لِيُضِلَّ وبالرفع عطفا على يَشْتَرِي أو على الاستئناف. وهاء يَتَّخِذَها يعود على السبيل لأنها مؤنثة كما في قوله تعالى: قُلْ: هذِهِ سَبِيلِي [يوسف ١٢/ ١٠٨] وتذكّر كما في قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف ٧/ ١٤٦]. وباء بِغَيْرِ عِلْمٍ للحال، تقديره:
ليضل عن سبيل الله جاهلا.
وَلَّى مُسْتَكْبِراً حال من ضمير وَلَّى وكاف كَأَنْ لَمْ في موضع نصب على الحال، تقديره: ولّى مستكبرا مشبها من في أذنيه وقر، وقوله: كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ حال أخرى أو بيان للحال الأولى.
لَهُمْ جَنَّاتُ مرفوع بالجار والمجرور لوقوعه خبرا عن المبتدأ وخالِدِينَ منصوب على الحال من هاء وميم لَهُمْ.
البلاغة:
مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ استعارة تصريحية، شبه حاله بحال من يشتري سلعة وهو خاسر فيها، واستعار لفظ يَشْتَرِي لمعنى «يستبدل» بطريق الاستعارة.
كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً تشبيه مرسل مجمل، حذف منه وجه الشبه، وذكر فيه أداة التشبيه.
130
فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أسلوب تهكم لأن البشارة المستعملة في الخير استعملت في الشر تهكما وسخرية.
بِعَذابٍ أَلِيمٍ جَنَّاتُ النَّعِيمِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مراعاة الفواصل في الحرف الأخير، وهو السجع الحسن غير المتكلف.
المفردات اللغوية:
لَهْوَ الْحَدِيثِ ما يلهي منه عما يعني ويفيد من الحكايات والأساطير والمضاحك وفضول الكلام، وكتب الأعاجم، والجواري المغنيات. واللهو: كل باطل ألهى عن الحق والخير. وقد اشتريت تلك الملاهي بالفعل، والإضافة بيانية بمعنى «من» إن أراد بالحديث المنكر، وتبعيضية إن أراد به الأعم منه لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ليصرف الناس عن دين الله وهو طريق الإسلام، أو قراءة كتابه بِغَيْرِ عِلْمٍ غير عالم بحال ما يشتريه، أو بالتجارة، حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن وَيَتَّخِذَها هُزُواً ويتخذ السبيل سخرية مهزوءا بها لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ عذاب فيه غاية الإهانة لإهانتهم الحق باستئثار الباطل عليه.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا القرآن وَلَّى مُسْتَكْبِراً متكبرا لا يعبأ بها كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها مشابها حاله حال من لم يسمعها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً مشابها من في أذنيه صمم أو ثقل يمنع من السماع فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أعلمه بوقوعه في عذاب مؤلم لا محالة، وذكر البشارة تهكم به لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي لهم نعيم جنات، فعكس للمبالغة خالِدِينَ فِيها أي مقدرا خلودهم فيها إذا دخلوها وَعْدَ اللَّهِ، حَقًّا مصدران مؤكدان: الأول لنفسه، والثاني لغيره، أي وعدهم الله ذلك وحقه حقا لأن قوله لَهُمْ جَنَّاتُ وعد، وليس كل وعد حقا وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغلبه شيء، فيمنعه من إنجاز وعده ووعيده الْحَكِيمُ الذي لا يضع شيئا إلا في محله، ولا يفعل إلا ما تستدعيه حكمته.
سبب النزول: نزول الآية (٦) :
أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ قال: نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية. وأخرج جويبر عن ابن عباس قال: نزلت في النضر بن الحارث اشترى قينة (مغنية)
131
وكان لا يسمع بأحد يريد الإسلام، إلا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه، هذا خير مما يدعوك إليه محمّد من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه، فنزلت.
وقال مقاتل: نزلت في النضر بن الحارث، كان يخرج تاجرا إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم، فيرويها ويحدّث بها قريشا، ويقول لهم: إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم يحدثكم حديث عاد وثمود، وأنا أحدثكم حديث رستم وإسفنديار، وأخبار الأكاسرة، فيستملحون حديثه، ويتركون سماع القرآن.
المناسبة:
بعد بيان أن القرآن كتاب حكيم يشتمل على آيات حكيمة، وبعد بيان حال السعداء المهتدين بهديه، المنتفعين بسماعه، بيّن الله تعالى حال الكفار الأشقياء التاركين له المشتغلين بغيره، وأعقبه بوعيدهم بالعذاب المهين المؤلم، وعطف عليه وعد المؤمنين به المقبلين على تلاوته، الملتزمين حدوده من أوامر ونواه.
التفسير والبيان:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَيَتَّخِذَها هُزُواً، أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي وهناك فريق من الناس يستبدل بالنافع الضار، وبالقرآن الشافي ما يتلهى به من الحكايات والأساطير وفضول الكلام، والمضاحك، والاستماع إلى غناء الجواري، كالنضر بن الحارث الذي كان يشتري كتب الفرس ويحدّث بها الناس، ويقتني المغنيات لاجتذاب الشبان، وإغراء من أسلم حديثا، لحملة على ترك الإسلام، وإضلاله عن دين الله وهو دين الإسلام، والصد عنه، واتخاذه هزوا وسخرية، جهلا بخطورة ما يفعل من استبدال اللهو بقراءة القرآن، وأولئك وهم الموغلون في الكفر والضلال يحيق بهم عذاب بالغ الإهانة. وقوله عَذابٌ مُهِينٌ للتفرقة بين عذاب الكافر وعذاب
132
المؤمن، فإن عذاب المؤمن للتطهير، فهو غير مهين، وأما عذاب الكافر فهو في غاية الإهانة، فكما استهان بآيات الله وسبيله أهين يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر.
وقوله لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بضم الياء معناه لمخالفة الإسلام وأهله ومعاداتهم، واللام لام التعليل، أي ارتكب هذا الفعل من أجل الإضلال والصد عن سبيل الله. وعلى قراءة فتح الياء تكون اللام لام العاقبة، أي لتكون عاقبة أمره الإضلال، واتخاذ آيات الله هزوا وسخرية.
ثم وصف الله تعالى هؤلاء المضلين بالإمعان في الضلال والكفر، وازدياد الإعراض والنفور عن دين الله، فقال:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً، كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها، كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي إن من يشتري الحديث الباطل إذا تليت عليه آيات القرآن أدبر وأعرض عنها متكبرا، وتصامم عن سماعها، وإن لم يكن به صمم، كأنه ما سمعها، وكأن في أذنيه صمما وثقلا لأنه يتأذى بها، ولا ينتفع منها، ولا أرب له فيها، فبشر هذا المعرض بعذاب يؤلمه يوم القيامة، كما تألم بسماع كتاب الله وآياته.
وبعد بيان حال هؤلاء الأشقياء، ذكر الله تعالى مآل الأبرار السعداء في الدار الآخرة، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، خالِدِينَ فِيها، وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي إن الذين آمنوا بالله، وصدقوا المرسلين، وعملوا الأعمال الصالحة من الائتمار بالأوامر الشرعية، واجتناب المحظورات والمناهي، لهم جنات يتنعمون فيها بأنواع الملاذ والمسارّ من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والمراكب وغير ذلك من المتع مما لم يخطر لأحدهم ببال، وهم
133
فيها مقيمون دائما لا يظعنون، ولا يبغون عنها حولا.
وهذا كائن لا محالة لأنه وعد الله الذي لا يخلف وعده لأنه الكريم المنّان، الفعال لما يشاء، القادر على كل شيء.
وهو العزيز القوي الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء، فلا ينجو منه مشرك ولا غيره، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله، الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين. ونحو موضوع الآيتين السابقتين قوله تعالى: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت ٤١/ ٤٤] وقوله سبحانه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء ١٧/ ٨٢].
فقه الحياة أو الأحكام:
١- إن من أعظم الجرائم الإعراض عن سماع القرآن كلام الله، وشغل الناس بسماع غيره من أنواع الكلام غير المفيد من القصص والأساطير والمضاحيك ونحو ذلك من ألوان اللهو والعبث، بقصد الإضلال والصد عن دين الله تعالى، ويستحق المعرض المتولي تكبرا عن القرآن عذابا أليما.
٢- استدل ابن مسعود وابن عباس وغيرهما بقوله: لَهْوَ الْحَدِيثِ على منع استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب.
وهذه الآية إحدى الآيات الثلاث التي استدل بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه. والآية الثانية: قوله تعالى: وَأَنْتُمْ سامِدُونَ [النجم ٥٣/ ٦١] قال ابن عباس: هو الغناء، بالحميريّة اسمدي لنا، أي غنّي لنا. والآية الثالثة:
قوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء ١٧/ ٦٤] قال مجاهد: الغناء والمزامير.
134
روى الترمذي وغيره من حديث أنس وغيره عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما: صوت مزمار، ورنّة شيطان عند نغمة ومرح، ورنّة عند مصيبة لطم خدود، وشق جيوب»
وأخرج أبو طالب الغيلاني عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت بكسر المزامير»
وأخرج ابن بشران عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بعثت بهدم المزامير والطبل»
وروى ابن المبارك عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من جلس إلى قينة يسمع منها، صبّ في أذنه الآنك «١» يوم القيامة».
وبناء عليه، قال العلماء بتحريم الغناء.
حكم الغناء عند الفقهاء:
للفقهاء، ومنهم علماء المذاهب الأربعة على المعتمد لديهم تفصيل في حكم الغناء هو ما يأتي «٢» :
أ- الغناء الحرام: هو الذي يحرّك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل، والمجون، بكلام يشبّب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرّمات لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق. وإذا لم يجز فأخذ الأجرة عليه لا يجوز ب- الغناء المباح: هو ما سلم مما ذكر، فيجوز القليل منه في أوقات الفرح كالعرس والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق حول المدينة، وحدو أنجشة «٣».
(١) الآنك: الرصاص. إلا أن الحديث ضعيف.
(٢) تفسير القرطبي: ١٤/ ٥٤
(٣) أنجشة: هو عبد أسود كان يسوق إبل نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم عام حجة الوداع، وكان حسن الحداء، وكانت الإبل تزيد في الحركة بحدائه.
135
ج- أما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغاني بالآلات المطربة من الشبّابات «١» والطار والمعازف والأوتار فحرام. وفي اليراعة «٢» تردد، والدف مباح.
د- وأما طبل الحرب فلا حرج فيه لأنه يهيج النفوس، ويرهب العدو، فقد ضرب بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم دخل المدينة، فهمّ أبو بكر بالزجر،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعهن يا أبا بكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح»
فكنّ يضر بن ويقلن:
نحن جوار من بني النجار يا حبّذا محمد من جار
هـ- لا بأس من استعمال الدّفّ في حفلات الزفاف، وكذا الآلات المشهرة بالزواج والغناء بحسن الكلام الذي لا فحش فيه.
وسماع الغناء من المرأة التي ليست بمحرم لا يجوز. والاشتغال بالغناء على الدوام سفه ترد به الشهادة، فإن لم يدم لم تردّ.
ونقل عن أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل القول بكراهة الغناء. وقال الطبري: أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه.
٣- عادة القرآن مقابلة الأشياء بأضدادها لبيان الفرق والترغيب والترهيب، فبعد أن ذكر عذاب الكفار ذكر نعيم المؤمنين، وهو أن للمؤمنين الذي يعملون صالح الأعمال المأمور بها شرعا نعيم الجنان، دائمين فيها، ووعدهم الله هذا وعدا حقا لا خلف فيه، وهو وعد العزيز الذي لا يغلب ولا يعجزه شيء، الحكيم في صنعه وفعله.
(١) الشبّابة: قصبة الزمر.
(٢) اليراعة: مزمار الراعي. [.....]
136
الاستدلال بخلق السموات والأرض على وحدانية الله وإبطال الشرك
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١٠ الى ١١]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١)
الإعراب:
بِغَيْرِ عَمَدٍ الباء في موضع نصب على الحال من السَّماواتِ. وتَرَوْنَها جملة فعلية في موضع جر على الصفة ل عَمَدٍ أي بغير عمد مرئية، فالضمير راجع إلى العمد، والعمد:
قدرة الله وإرادته، أو أن الضمير راجع إلى السموات، أي ليست هي بعمد، وأنتم ترونها كذلك بغير عمد، وحينئذ تكون الجملة مستأنفة لا محل لها.
فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ.. الياء في فَأَرُونِي المفعول الأول، وفَأَرُونِي: معلق عن العمل وماذا خَلَقَ: سد مسد المفعول الثاني. وماذا: ما: استفهام إنكار: مبتدأ، وذا بمعنى الذي مع صلته: خبره.
البلاغة:
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ التفات من الغيبة إلى التكلم، تعظيما لشأن الرحمن، بعد قوله خَلْقُ وَأَلْقى وَبَثَّ.
هذا خَلْقُ اللَّهِ أي مخلوقه، من قبيل إطلاق المصدر على اسم المفعول مبالغة.
ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ الاستفهام للتوبيخ والتبكيت.
بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ الأصل أن يقال: بل هم، فوضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التوبيخ.
137
المفردات اللغوية:
خَلَقَ السَّماواتِ استئناف كلام جديد بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها العمد: جمع عماد: وهو الأسطوانة التي يعمد بها أي يسند به، وتَرَوْنَها إما صفة العمد أي بغير عمد مرئية، أو يعود الضمير إلى السَّماواتِ، أي لا عمد لها أصلا، وأنتم ترونها بلا عمد، فهو استشهاد برؤيتهم لها غير معمودة رَواسِيَ جبالا ثوابت مرتفعة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي لئلا تميد، أي تتحرك وتضطرب بكم وَبَثَّ نشر وفرق زَوْجٍ كَرِيمٍ صنف حسن، كثير المنافع. والآية دليل على عزة الله التي هي كمال القدرة، والحكمة التي هي كمال العلم، لتقرير أصل التوحيد.
هذا خَلْقُ اللَّهِ هذا الذي ذكر مخلوق الله فَأَرُونِي أخبروني يا أهل مكة وأمثالكم الكفار ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ماذا خلق الذين من غيره وهم آلهتكم التي أشركتموها بالله تعالى بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ بل: للانتقال والإضراب عن تبكيتهم إلى تسجيل الضلال عليهم، فهم في ضلال بيّن لا يخفى على ناظر، بإشراكهم. ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظالمون بإشراكهم.
المناسبة:
بعد قوله تعالى: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الدال على عزته وحكمته وكمال قدرته وعلمه وإتقان صنعه، ذكر الله تعالى الأدلة على قدرته العظيمة من خلق السموات والأرض وما فيهما وما بينهما، لتقرير وحدانيته، وإبطال الشرك، والتنبيه إلى وجوب اتباع الحق الذي جاءت به الرسل.
التفسير والبيان:
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها أي من أدلة قدرته تعالى العظيمة، وحكمته السديدة أنه خلق السموات بغير أعمدة، لا مرئية ولا غير مرئية، والسموات كالأرض في الظاهر مبسوطة، وفي الحقيقة مستديرة، لقوله تعالى:
كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء ٢١/ ٣٣] والفلك: اسم لشيء مستدير، وهي على أي حال مخلوقة بقدرة الله، لا بالطبيعة، وهي فضاء والفضاء لا نهاية له، ولا تزول إلا بقدرة الله تعالى.
138
وليس لها عمد أصلا، بدليل رؤية الناس لها غير معمودة. وقيل: إن لها عمدا غير مرئية، والله عمدها بعمد لا ترى، وهي إمساكها بقدرته.
والخلاصة: أنه تعالى خلق السموات بغير أعمدة تستند إليها، بل هي قائمة بقدرة الله تعالى.
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي وجعل في الأرض جبالا شوامخ ثوابت أرست الأرض وثقلتها لئلا تضطرب بأهلها، وتغمرها مياه البحار والمحيطات المحيطة بها، والتي تكوّن أكثر الكرة الأرضية.
وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ أي وذرأ فيها ونشر ووزع من أصناف الحيوان التي لا يحصي عددها، ولا يعلم أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها.
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ أي وأنزلنا من السحاب مطرا يكون سببا لإنبات كل صنف كريم، أي حسن المنظر، كثير المنفعة.
ثم وبخ الله تعالى أولئك المشركين الذين يتركون عبادة الخالق ويشتغلون بعبادة المخلوق، فقال:
هذا خَلْقُ اللَّهِ، فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي هذا الذي ذكر من المخلوقات هو من خلق الله وفعله وتقديره وحده لا شريك له في ذلك، والخلق بمعنى المخلوق، فأخبروني أيها الكفرة ماذا خلق الذين تعبدونهم من غيره من الأصنام والأنداد. وقوله: خَلْقُ واقع على هاء محذوفة، تقديره: فأروني أي شيء خلق الذين من دونه، أو أروني الأشياء التي خلقها الذين من دونه.
وبعد توبيخهم على شركهم، وصفهم تعالى بما يترتب عليه وهو الضلال، فهم
139
في شركهم وعبادتهم مع الله غيره في ضلال واضح، فقال: بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي بل هؤلاء المشركين بالله العابدون معه غيره في جهل وعمى وانحراف وكفر بيّن واضح ظاهر، لا خفاء به، ولا اشتباه فيه لمن تأمله، جعلهم في غاية الضلال الذي ليس بعده ضلال.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- الدليل على وجود الله وقدرته العظمى وحكمته البالغة: هو خلق السموات بغير أعمدة تستند إليها، وإنما أمسكها الله بقدرته وإرادته وخلق الأرض ذات الجبال الشوامخ الثوابت لئلا تضطرب بأهلها وجعلها ذات أنس بما وزّع فيها من أصناف الحيوان في البر والبحر والجو، ذوات الأشكال المختلفة، والمناظر البديعة، والأصوات المختلفة وإنزال الأمطار عليها لإنبات النباتات البهية المنظر، البديعة التكوين، الكثيرة المنافع، سواء بثمرها إن كانت مثمرة، أو بظلها المريح وخضرتها الممتعة للنظر والمفرحة للنفس، أو بجعلها أسبابا لزيادة المطر.
٢- أكد تعالى قدرته الخلاقة بأن هذا المذكور المعاين هو مخلوق الله من غير شريك، ثم تحدى ووبخ قائلا: أخبروني معاشر المشركين عما خلقت الآلهة المزعومة من الأصنام والأنداد، ثم وصفهم بالوصف الملازم لهم: وهو أن المشركين في خسران ظاهر.
140
قصة لقمان الحكيم ووصيته لابنه
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ١٢ الى ١٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (١٢) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٥) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦)
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩)
الإعراب:
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ إِذْ: ظرف متعلق بفعل مقدر، أي اذكر إذ قال لقمان.
ولُقْمانُ: ممنوع من الصرف للتعريف (العلمية) والألف والنون الزائدتين، كعثمان وعمران.
141
وَهْناً منصوب بحرف جر محذوف، تقديره: حملته أمه بوهن، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به فنصبه. أو حال من فاعل حَمَلَتْهُ على التأويل بالمشتق، أي حملته أمه حال كونها ذات وهن وعلى وهن أي ذات ضعف على ضعف متتابع.
أَنِ اشْكُرْ لِي منصوب بحرف جر محذوف، أي بأن اشكر، وقيل: أن: مفسرة بمعنى أي، كقوله تعالى: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا [ص ٣٨/ ٦] ولا موضع لها من الإعراب.
إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِثْقالَ خبر تكون الناقصة، أي إن تكن الخصلة الموزونة مثقال حبة. وعلى قراءة الرفع فاعل تكون التامة، وأنث فَتَكُنْ وإن كان المثقال مذكرا، لاكتساء المضاف التأنيث من المضاف إليه، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه، وكقوله تعالى:
يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [يوسف ١٢/ ١٠].
مَرَحاً مصدر منصوب في موضع الحال، كقولهم: جاء زيد ركضا.
البلاغة:
يَشْكُرْ وكَفَرَ بينهما طباق.
غَنِيٌّ حَمِيدٌ لَطِيفٌ خَبِيرٌ فَخُورٍ صيغة مبالغة على وزن فعيل وفعول، أي كثير الغنى والحمد والفخر.
بِوالِدَيْهِ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ ذكر الخاص بعد العام لزيادة العناية والاهتمام بالأم.
إِلَيَّ الْمَصِيرُ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فيه تقديم ما حقه التأخير لإفادة الحصر، أي إليّ لا إلى غيري.
إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ من باب التمثيل، مثل بذلك لبيان سعة علم الله ودقته وشموله جميع الأشياء حقيرها وجليلها.
فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ من باب التتميم، تمم خفاء الأشياء في نفسها بخفاء مكانها.
وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ مقابلة بين اللفظين.
إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ استعارة تمثيلية، شبه الرافعين أصواتهم برفع الحمير أصواتهم، ولم يذكر أداة التشبيه، وإنما أورده بطريق الاستعارة للمبالغة في الذم والتنفير عن رفع الصوت.
142
المفردات اللغوية:
لُقْمانَ هو كما ذكر البيضاوي لقمان بن باعورا من أولاد آزر، ابن أخت أيوب أو ابن خالته، أسود من سودان مصر من النوبة، وعاش حتى أدرك داود وأخذ منه العلم، آتاه الله الحكمة، أي العقل والفطنة والعلم والإصابة في القول، والجمهور على أنه كان حكيما، ولم يكن نبيا. من أقواله: «الصمت حكم وقليل فاعله» وقيل له: أي الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي إن رآه الناس مسيئا.
الْحِكْمَةَ هي في عرف العلماء: استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية، واكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة، على قدر طاقتها أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أي بأن اشكر، أو أي اشكر ما أعطاك من الحكمة، والشكر: الثناء على الله تعالى وطاعته فيما أمر به، واستعمال الأعضاء فيما خلقت له من الخير فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن نفعه وثواب شكره عائد له وهو دوام النعمة واستحقاق المزيد منها. غَنِيٌّ عن خلقه، لا يحتاج إلى الشكر حَمِيدٌ حقيق بالحمد، وإن لم يحمد، ومحمود في صنعه، نطق بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال.
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ أي واذكر، واسم ابنه: أنعم، أو أشكم، أو ماتان أو ثاران في قول السهيلي وَهُوَ يَعِظُهُ العظة: تذكير بالخير بأسلوب رقيق يرقّ له القلب يا بُنَيَّ التصغير للإشفاق والتحبب إِنَّ الشِّرْكَ بالله لَظُلْمٌ عَظِيمٌ الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وكون الشرك ظلما لأنه تسوية بين المنعم وحده وغير المنعم وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ أي أمرناه وألزمناه بِوالِدَيْهِ أي بأن يبرهما وَهْناً أي بوهن، أي ضعف عَلى وَهْنٍ أي تضعف ضعفا فوق ضعف، من الحمل، فالطّلق، فالولادة وَفِصالُهُ أي فطامه فِي عامَيْنِ في انقضاء عامين، وفيه دليل على أن أقصى مدة الرضاع حولان أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ تفسير لوصيّنا الْمَصِيرُ المرجع، فأحاسبك على الشكر أو الكفر.
ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ مطابق للواقع فَلا تُطِعْهُما في ذلك مَعْرُوفاً أي بالمعروف وهو البر والصلة، أو صحابا معروفا يرتضيه الشرع ويقتضيه الكرم.
وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ أي اتبع في الدين طريق من رجع إلي بالتوحيد والإخلاص في الطاعة. وأَنابَ رجع إلى ربه بالتوبة والاستغفار فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي أخبركم بأعمالكم، وأجازيكم على الإيمان والكفر. والآيتان: وَوَصَّيْنَا.. وَإِنْ جاهَداكَ..
معترضتان ضمن وصية لقمان، تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك، كأنه قال: وقد وصينا بمثل ما وصى به.
إِنَّها إِنْ تَكُ أي إن الخصلة السيئة أو الحسنة مِثْقالَ حَبَّةٍ وزن أصغر شيء مِنْ
143
خَرْدَلٍ
وزن حبة خردل فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ أي في أخفى مكان فيهما يَأْتِ بِهَا اللَّهُ فيحاسب عليها لَطِيفٌ باستخراجها، يصل علمه إلى كل خفي خَبِيرٌ بمكانها، عالم بكنه الأشياء وحقائقها وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد، وبسبب الأمر والنهي إِنَّ ذلِكَ المذكور من كل ما أمر به ونهى عنه مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ معزوماتها التي يعزم عليها لوجوبها، أو من الأمور المعزومة التي قطعها الله قطع إيجاب وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ لا تمله عنهم ولا تولّهم صفحة وجهك، كما يفعل المتكبرون، والأصعر: المعرض بوجهه كبرا، مأخوذ من الصّعر، وهو داء يعتري البعير فيلوي منه عنقه مَرَحاً خيلاء وبطرا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أي يعاقب كل متبختر في مشيه، فخور على الناس. وهو علة للنهي. والمختال: فاعل الخيلاء، وهي التبختر في المشي كبرا، والفخور من الفخر: وهو المباهاة بالمال والجاه ونحو ذلك.
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ توسط فيه غير مختال ولا مستضعف، وغير مسرع ولا مبطئ وفي الحديث الذي رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة وهو ضعيف: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» والمقصود بقول عائشة في عمر رضي الله عنهما: «كان إذا مشى أسرع» أنه يسير ما فوق دبيب المتماوت وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أي أنقص منه وأقصر أو اخفض إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أي أقبحها وأزعجها وأصعبها على السامع لَصَوْتُ الْحَمِيرِ أوله زفير وآخره شهيق.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى فساد اعتقاد المشركين وأن المشرك ظالم ضال، ذكر ما يدل على ضلالهم وظلمهم بمقتضى الحكمة والعلم المرشد إلى الإقرار بوحدانيته، وإن لم يكن هناك نبوة، فإن لقمان توصل إلى إثبات التوحيد وإطاعة الله والتزام مكارم الأخلاق دون نبي ولا رسول.
وهذا إشارة إلى أن اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم لازم فيما لا يعقل معناه، إظهارا للتعبد، ولازم من باب أولى فيما يدرك بالعقل معناه.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ، وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أي وتالله لقد أعطينا لقمان «١» الحكمة وهي التوفيق
(١)
روى ابو القاسم الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اتخذوا السودان، فإن
144
إلى العمل بالعلم والفهم، وشكر الله وحمده على نعمه وأفضاله، وحب الخير للناس، واستعمال الأعضاء فيما خلقت له من الخير والنفع.
وهذا دليل على أن لقمان الحكيم هداه الله إلى المعرفة الصحيحة، من غير طريق النبوة.
ومن يشكر الله على ما منحه وأعطاه ربه، فيطيعه ويؤدي فرضه، فإنما يحقق النفع والثواب لنفسه، وينقذها من العذاب، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت ٤١/ ٤٦] وقال عز وجل: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم ٣٠/ ٤٤].
ومن جحد نعمة الله عليه، فأشرك به غيره، وعصى أوامره، فإنه يسيء إلى نفسه، ولا يضر ربّه، فإن الله غني عن العباد وشكرهم، لا يتضرر بذلك، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، وهو المحمود في السماء والأرض بلسان الحال أو المقال، وإن لم يحمده أحد من الناس.
ثم ذكر تعالى وصية لقمان (وهو كما ذكر ابن كثير لقمان بن عنقاء بن سدون) لابنه (وهو ثاران في قول السهيلي والطبري والقتبي) فقال:
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ، وَهُوَ يَعِظُهُ: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ واذكر حين أوصى لقمان ابنه بوصية أو موعظة، حرصا عليه لأن الأب يحب ابنه وهو أشفق الناس عليه، فقال له: يا ولدي، اعبد الله ولا تشرك به شيئا، فإن الشرك أعظم الظلم، أما إنه ظلم فلكونه وضع الشيء في غير موضعه، وأما كونه أعظم الظلم فلتعلقه بأصل الاعتقاد وتسويته بين الخالق والمخلوق، وبين المنعم وحده وبين غير المنعم أصلا، وهي الأصنام والأوثان.
ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة: لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن»
قال الطبراني:
أراد الحبش (تفسير ابن كثير: ٣/ ٤٤٧).
145
والآية عطف على معنى ما سبق، وتقديره: ولقد آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرا في نفسه، وحين جعلناه واعظا لغيره.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت آية الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ، أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام ٦/ ٨٢] شقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنه ليس بذلك، ألا تسمع إلى قول لقمان: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».
ثم أمر الله تعالى ببرّ الوالدين، جريا على عادة القرآن، فإنه كثيرا ما يقرن الله تعالى في القرآن بين الأمر بعبادة الله واجتناب الشرك وبين الأمر ببرّ الوالدين، كما في قوله سبحانه: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الإسراء ١٧/ ٢٣]، فقال:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ، وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ أي وأمرنا الإنسان وألزمناه ببرّ والديه وطاعتهما، وأداء حقوقهما، ولا سيما برّ الأم التي حملته في ضعف فوق ضعف، من الحمل إلى الطلق إلى الولادة والنفاس، ثم الرضاع والفطام في مدة عامين والتربية ليلا ونهارا، كما قال تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة ٢/ ٢٣٣] وقد بيّن الحديث النبوي أحقية الأم بالبرّ، فأوصى بها ثلاث مرات، ثم أوصى بالأب في المرة الرابعة، فجعل له ربع المبرة.
لقد وصيناه، أي أمرناه وعهدنا إليه بالشكر لي أي لله على نعمتي عليك، وبالشكر للوالدين لأنهما سبب وجودك، ومصدر الإحسان إليك بعد الله تعالى. وقوله تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي لبيان علة الوصية أو وجوب امتثالها، والْإِنْسانَ هنا في رأي الزمخشري تفسيرية، والجملة بيان لفعل التوصية، إذ هو متضمن معنى القول، أي قلنا له: اشْكُرْ لِي.
146
وكذا علة الأمر بطاعة الله وطاعة الأبوين أو السبب فيه: هو أن المصير أو المرجع إلي، فسأجزيك على ذلك أوفر الجزاء في الآخرة. وهذا تهديد وتخويف من عاقبة المخالفة والعقوق والعصيان، كما هو وعد بالجزاء الحسن على امتثال أمر الله وطاعته وبرّ الوالدين وصلتهما.
وهذه الآية وما بعدها من كلام لقمان الذي وصى به ابنه، أخبر الله عنه بذلك، فلما بيّن لقمان لابنه أن الشرك ظلم ونهاه عنه، كان ذلك حثّا على طاعة الله، ثم بيّن أن الطاعة تكون للأبوين، وبيّن السبب في ذلك.
وقيل: هو من كلام الله قاله للقمان، أي قلنا له: اشْكُرْ، وقلنا له:
وَوَصَّيْنَا، وقيل: هذه الآية اعتراض بين وصية لقمان تؤكد النهي عن الشرك، قال القرطبي: والصحيح أن هذه الآية وآية العنكبوت السابقة:
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً [٨] نزلتا في شأن سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان بن أمية التي حلفت ألا تأكل حتى يرتد سعد، وعليه جماعة من المفسرين «١». والمختار عند المفسرين أن هذه الآية إلى آخر الآيتين بعدها كلام مستأنف من الله تعالى، جاء معترضا بين وصايا لقمان لابنه، تأكيدا للنهي عن الشرك.
ثم قيّد الله طاعة الأبوين مستثنيا حقوقه تعالى، فقال:
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، فَلا تُطِعْهُما أي وإن ألحّ والداك في الطلب، وحرصا عليك كل الحرص على أن تتابعهما في دينهما، وتشرك بي في عبادتي غيري مما لا تعلم أنه شريك لي، فلا تقبل منهما ذلك، ولا تطعهما فيما أمراك به من الشرك أو المعصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في
(١) تفسير القرطبي: ١٤/ ٦٣، البحر المحيط: ٧/ ١٨٦ وما بعدها.
147
معصية الخالق. والمراد بنفي العلم نفي الشريك، أي لتشرك بي ما ليس بشيء وهي الأصنام.
وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً، وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ، ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي لا يمنعك عدم طاعتك لأبويك في الشرك والمعصية من أن تصاحبهما في الدنيا بالمعروف، بأن تحسن إليهما، فتمدهما بالمال عند الحاجة، وتطعمهما وتكسوهما، وتعالجهما عند المرض، وتواريهما عند الموت في القبور، وتبرّ صديقهما، وتفي بعهدهما. وقوله مَعْرُوفاً أي صحابا معروفا على مقتضى الكرم والمروءة، أو مصاحبا حسا بخلق جميل، وحلم واحتمال، وبرّ وصلة.
وقوله: فِي الدُّنْيا تهوين شأن الصحبة، فهي لأيام محدودة، وسنوات معدودة، سريعة الزوال والانقضاء. والمعروف هنا: ما يعرفه الشرع ويرتضيه، وما يقتضي به الكرم والمروءة في إطعامهما وكسوتهما والإحسان إليهما في القول والفعل.
وإياك والمحاباة في شأن الدين، فالزم سبيل المؤمنين التائبين في دينك، ولا تتبع في كفرهما سبيلهما فيه، وإن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما في الدنيا.
ثم إليّ مرجعك ومرجعهما، فأجازيك على إيمانك، وأجازيهما على كفرهما، وأخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير أو شر. والجملة مقررة لما قبلها ومؤكدة لوجوب الإحسان إلى الوالدين وبرهما وطاعتهما في غير معصية.
ثم أخبر تعالى عن بقية وصايا لقمان الحكيم النافعة، ليمتثلها الناس ويقتدوا بها، فقال:
١- يا بُنَيَّ، إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، يَأْتِ بِهَا اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ أي يا ولدي، إن
148
الحسنة والسيئة أو المظلمة والخطيئة، لو كانت تساوي وزن أو مثقال حبة خردل، ولو كانت في أخفى مكان كجوف صخرة، أو في أعلى مكان كالسماوات، أو في أسفل موضع كباطن الأرض، لأحضرها الله يوم القيامة حين الحساب، ووزن الأعمال، والمجازاة عليها خيرا أو شرا، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء ٢١/ ٤٧] وقال سبحانه:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة ٩٩/ ٧- ٨]. وقوله: فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ يراد به المبالغة والانتهاء في التفهيم.
إن الله لطيف العلم، يصل علمه إلى كل شيء خفي، فلا تخفى عليه الأشياء، وإن دقت ولطفت وتضاءلت، خبير عالم بكنه الأشياء، يعلم ظواهر الأمور وبواطنها.
والمقصود من الآية بيان سعة علم الله، فهو يعلم الغيب والشهادة، ويطلع على جميع أعمال عباده، لموافاتهم بجزائها يوم القيامة.
٢- يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي بعد أن منعه من الشرك، وخوفه بعلم الله وقدرته، أمره بصالح الأعمال اللازمة للتوحيد وهي الصلاة أي العبادة لوجه الله مخلصا، وإقامتها أي أداؤها كاملة بحدودها وفروضها وأوقاتها، وهي عماد الدين، ودليل الإيمان واليقين، ووسيلة القربى إلى الله وتحقيق رضوانه، كما أنها تساعد على اجتناب الفحشاء والمنكر، وصفاء النفس.
والأمر بالمعروف أي أمر النفس والغير بما هو معروف شرعا وعقلا، كمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، مما يهذب النفس ويدعو إلى التحضر والتمدن، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس ٩١/ ٩- ١٠].
149
والنهي عن المنكر، أي منع النفس والآخرين من المعاصي والمنكرات المحرّمة شرعا والقبيحة عقلا، والتي تغضب الله، وتوجب عذاب جهنم.
والصبر على الأذى والشدائد والأوامر الإلهية، فإن الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكر يؤذى عادة، فطلب منه الصبر. وقد بدئت الوصايا بالصلاة لأنها عماد الدين وختمت بالصبر لأنه أساس المداومة على الطاعات، وعماد رضوان الله، كما قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة ٢/ ٤٥].
إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي إن ذلك المذكور مما أمر الله به ونهى عنه، ومنه الصبر على أذى الناس، لمن الأمور الواجبة المعزومة، أي المقطوعة قطع إيجاب وإلزام «١»، ويكون المصدر «عزم» بمعنى المفعول.
وبعد أمره بما يكمل نفسه وغيره، نهى عن أشياء وحذر من أشياء، فقال:
١- وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ أي لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلموك تكبرا واحتقارا، والمعنى: لا تتكبر فتحتقر عباد الله، ولا تتكلم وأنت معرض، بل كن متواضعا سهلا هينا لينا منبسط الوجه، مستهل البشر، كما
جاء في الحديث النبوي الذي رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري: «لا تحقرنّ من المعروف شيئا، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المخيلة، والمخيلة لا يحبها الله».
٢- وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ أي لا تسر في الأرض مختالا بطرا متبخترا، جبارا عنيدا، فإن تلك المشية يبغضها، والله يكره كل مختال معجب في نفسه، فخور على غيره، كما قال تعالى:
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا
(١)
ومنه الحديث: «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل»
أي لم يقطعه بالنية، ومنه
الحديث الآخر: «إن الله يحب أن يؤخذ برخصة، كما يحب أن يؤخذ بعزائمه».
150
[الإسراء ١٧/ ٣٧].
وقال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) عن ابن عمر: «من جرّ ثوبه خيلاء، لا ينظر الله إليه يوم القيامة». والفخور: هو الذي يعدد ما أعطي، ولا يشكر الله تعالى».
وروى ابن أبي الدنيا عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «طوبى للأتقياء الأثرياء الذين إذا احضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، أولئك مصابيح مجردون من كل فتنة غبراء مشتتة»
وروى أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ربّ ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره، لو قال: اللهم إني أسألك الجنة، لأعطاه الله الجنة، ولم يعطه من الدنيا شيئا».
وروى يحيى بن جابر الطائي عن غضيف بن الحارث قال: جلست إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، فسمعته يقول: إن القبر يكلم العبد إذا وضع فيه، فيقول: يا ابن آدم، ما غرّك بي! ألم تعلم أني بيت الوحدة! ألم تعلم أني بيت الظلمة! ألم تعلم أني بيت الحق! يا ابن آدم ما غرّك بي! لقد كنت تمشي حولي فدّادا (مختالا متكبرا).
٣- وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي امش مشيا متوسطا عدلا، ليس بالبطيء المتثبّط المتماوت الذي يظهر الضعف تزهدا، ولا بالسريع المفرط، الذي يثب وثب الشيطان،
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة، وهو ضعيف: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن»
، وأما قول عائشة في عمر رضي الله عنهما: «كان إذا مشى أسرع في مشيته» فالمراد السرعة التي تتجاوز دبيب المتماوتين. وقد رأى عمر رجلا متماوتا، فقال له: «لا تمت علينا ديننا، أماتك الله»، ورأى رجلا مطأطئا رأسه، فقال له: «ارفع رأسك، فإن الإسلام ليس بمريض».
٤- وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ، إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ أي لا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه، وأخفضه، فإن شدة الصوت تؤذي آلة السمع، وتدل على الغرور والاعتداد بالنفس وعدم الاكتراث بالغير، واعتدال الصوت أوقر
151
للمتكلم، وأقرب لاستيعاب الكلام ووعيه وفهمه، وقد علل النهى عن رفع الصوت بأنه يشبه صوت الحمير في علوه ورفعه، وإن أقبح الأصوات لصوت الحمير، وهو بغيض إلى الله تعالى، والسبب أن أوله زفير وآخره شهيق.
وفيه دلالة على ذمّ رفع الصوت من غير حاجة، لأن التشبيه بصوت الحمار يقتضي غاية الذمّ، وقد ورد في السّنة أيضا ما يدل على التنفير منه،
روى الجماعة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سمعتم صياح الديكة، فاسألوا الله من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير، فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانا».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن الشرك بالله أو اتخاذ عبد من عباده أو صنم من الأصنام شريكا في العبادة مع الله ظلم عظيم، بل هو أعظم الظلم، لما فيه من الافتئات على الخالق الرازق، وسخف هذا الاعتقاد، وخلوة من أي فائدة للمشرك. وقد حققت وصية لقمان لابنه هدفها، فقد ورد في التفسير أن ابنه كان مشركا، فوعظه وكرر الوعظ عليه حتى أسلم.
٢- برّ الوالدين وطاعتهما في معروف غير معصية فرض واجب على الإنسان، مقابلة للمعروف بمثله، ووفاء للإحسان، وتقدير الفضل، واحترام نظام الأسرة. وأمر الله بالإحسان إلى الوالدين عام في الوالدين المسلمين والكافرين، وأن طاعة الوالدين على أي دين كانا واجبة.
غير أن طاعة الأبوين غير مطلوبة، بل هي حرام في ارتكاب معصية كبيرة كالإشراك بالله، وترك فريضة عينية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وتلزم طاعتهما في المباحات، وتندب الطاعة في ترك المندوبات ومنها الجهاد
152
الكفائي، وإجابة الأم في الصلاة النافلة إذا شقّ عليها الانتظار أو خيف هلاكها.
وتختصّ الأم بزيادة البرّ والطاعة لمعاناتها في سبيل تربية أولادها، وبما أنها كما ذكرت الآية تعرضت لمراتب ثلاث من المشاق: الحمل، والرضاع، والوضع، جعل لها ثلاثة أرباع المبرّة، وللأب الربع،
قال صلّى الله عليه وسلّم لرجل سأله فيما رواه البخاري وغيره: «من أبرّ؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أمّك، قال: ثم من؟ قال: أبوك».
٣- أقصى مدة الرضاع في أحكام النفقات والتحريم بالرضاع عامان، وقصر مدة الرضاع الذي يتعلق به التحريم على عامين هو رأي العلماء غير أبي حنيفة.
ورأى أبو حنيفة أن مدة الرضاع المحرم ثلاثون شهرا لقوله تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً.
واستنبط العلماء أيضا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر من مجموع آيتين، قال تعالى في آية: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة ٢/ ٢٣٣]، وقال في آية أخرى: وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً [الأحقاف ٤٦/ ١٥].
٤- الشكر لله على نعمة الإيمان وغيرها من النعم الكثيرة التي لا تعدّ ولا تحصى، وللوالدين على نعمة التربية، قال سفيان بن عيينة: من صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله تعالى، ومن دعا لوالديه في أدبار الصلوات فقد شكرهما.
٥- آية وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً دليل على جواز صلة الأبوين الكافرين بما أمكن من المال إن كانا فقيرين، وإلانة القول والدعوة إلى الإسلام برفق. ويؤيده
أن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البخاري
153
ومسلم- وقد قدمت عليها أمها من الرضاعة، أو خالتها-: «يا رسول الله، إن أمي قدمت علي، وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: نعم»
قال ابن عطية: والظاهر عندي أنها راغبة في الصلة، وما كانت لتقدم على أسماء لولا حاجتها.
ووالدة أسماء: هي قتيلة بنت عبد العزّى بن عبد أسد. وأم عائشة وعبد الرحمن هي أم رومان قديمة الإسلام.
ودلّ قوله تعالى: وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً على أن الولد لا يستحق القصاص على أحد والديه، وأنه لا يحدّ له إذا قذفه، ولا يحبس له بدين عليه، وأن على الولد نفقة والديه عند الحاجة.
٦- قوله تعالى: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ المراد به العموم، كما هو ظاهر اسم الموصول، فهو وصية لجميع العالم، والمأمور الإنسان، وهي سبيل الأنبياء والمؤمنين الصالحين. وأناب معناه: مال ورجع إلى الشيء، والمراد هنا:
تاب من الشرك، ورجع إلى الإسلام، واتبع النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورجع إلى الله بالتوحيد والإخلاص بالطاعة، لا سبيل الوالدين اللذين يأمران بالشرك. وهذا الأمر باتباع السبيل دليل على صحة إجماع المسلمين، وأنه حجة لأمر الله تعالى إيانا باتباعهم، وهو مثل قوله تعالى: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء ٤/ ١١٥].
٧- قوله سبحانه: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ.. توعد من الله عزّ وجلّ ببعث من في القبور، والرجوع إليه للجزاء والاعلام بصغير الأعمال وكبيرها.
٨- قوله تعالى: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ.. قصد به إعلام قدرة الله تعالى، وتخويف منه ورجاء، فمهما تكن الحسنة أو الخطيئة أو الطاعات والمعاصي مثقال حبة خردل يأت بها الله، لأن الحسّ لا يدرك ثقلا للخردلة، إذ لا ترجّح ميزانا.
154
وفسّر القرطبي الآية بأنه لو كان للإنسان رزق مثقال حبة خردل في أي مكان في العالم العلوي (السموات) والسفلي (الأرض) جاء الله بها، حتى يسوقها إلى من هي رزقه أي لا تهتم للرزق حتى تشتغل به عن أداء الفرائض، وعن اتّباع سبيل من أناب إلي. ومن هذا المعنى
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن مسعود فيما رواه البيهقي في القدر، وهو ضعيف: «لا تكثر همّك، ما قدّر يكن، وما ترزق يأتك».
وقد نطقت هذه الآية بأن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا سبحانه لا شريك له.
٩- في الآية تعظيم الطاعات وهي الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا يشمل جميع الطاعات والفضائل، والحضّ على تغيير المنكر والصبر، وإن نال الإنسان ضرر، وفيه إشعار بأن المغيّر يؤذى أحيانا.
كما أن الصبر مندوب إليه عند التعرض لشدائد الدنيا كالأمراض وغيرها، وعلى الإنسان ألا يخرج من الجزع إلى معصية الله عزّ وجلّ، فإن من حقيقة الإيمان الصبر على المكاره.
وإن إقامة الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عزم الأمور، أي مما عزمه الله وأمر به، وجعله من الأمور الواجبة.
١٠- دلّ قوله تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ على تحريم التكبر، ومعنى الآية: ولا تمل خدك للناس تكبرا عليهم، وإعجابا بالنفس، واحتقارا لهم، وأقبل عليهم متواضعا مؤنسا مستأنسا، وإذا حدّثك أصغر الناس، فاصغ إليه حتى يكمل حديثه، كما كان يفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم.
والخلاصة: لا تدبر عن المتكلم، كما
روى مالك عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تباغضوا ولا تدابروا ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث»
فالتدابر والإعراض وترك
155
الكلام والسلام من المحظورات.
١١- يحرم على الإنسان أن يمشي في الأرض متبخترا متكبرا، بل يحرم التكبر في كل الحالات.
١٢- يندب للإنسان القصد أي التوسط في المشي، وهو ما بين الإسراع والبطء، فلا تدبّ دبيب المتماوتين، ولا تثب وثب الشيطان.
١٣- كما يندب إليه عدم التكلف في رفع الصوت، والتكلم حسب الحاجة والمعتاد، فإن الجهر بأكثر من الحاجة تكلّف يؤذي، والمراد بذلك كله التواضع.
وقد شبّه رفع الصوت الزائد عن الحاجة بصوت الحمير، والحمار ونهاقه مثل في الذمّ البليغ والشتيمة.
وفي الآية دليل على تعريف قبح رفع الصوت في المخاطبة بقبح أصوات الحمير، لأنها عالية.
والآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاونا بهم، أو بترك الصياح جملة، وقد نهى الله عنه، لأنه من أخلاق الجاهلية وعاداتها، فقد كانت العرب تفخر بجهارة الصوت الجهير وغير ذلك.
وتلك إشارة إلى التوسط في جميع الأفعال والأقوال.
والخلاصة: جمعت وصية لقمان بين فضائل الدين والآخرة ومكارم الأخلاق في الدنيا، واشتملت تسعة أوامر، وثلاثة نواه، وسبع علل أو أسباب:
أما الأوامر: فهي الأمر ببرّ الوالدين، والشكر لله وللوالدين، ومصاحبة الوالدين في الدنيا بالمعروف، واتباع سبيل الأنبياء والصالحين، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والاعتدال في المشي، وإخفاض الصوت.
156
وأما النواهي: فهي النهي عن الشرك، والنهي عن تصعير الخد (الإعراض عمن تكلم تكبرا) والنهي عن المشي مرحا (اختيالا وتبخترا).
والتعليلات أو الأسباب هي:
١- وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.
٢- إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.
٣- إِلَيَّ الْمَصِيرُ، إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
٤- إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ.
٥- إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.
٦- إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ.
٧- إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.
توبيخ المشركين على الشرك مع مشاهدة دلائل التوحيد
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٢٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١)
الإعراب:
نِعَمَهُ ظاهِرَةً أراد: نعم الله، جمع نعمة، وظاهِرَةً حال. وقرئ: نعمة، ونعمته.
157
البلاغة:
ظاهِرَةً وَباطِنَةً بينهما طباق.
أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إنكار وتوبيخ، مع الحذف، أي: أيتبعونهم ولو كان الشيطان. إلخ...
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ أي ألم تعلموا أيها المخاطبون أن الله ذلل لكم جميع ما في السموات من الشمس والقمر والنجوم والسحاب وغير ذلك، بأن جعله أسبابا محصلة لمنافعكم.
وَما فِي الْأَرْضِ بأن مكنكم من الانتفاع به، كالثمار والأنهار والدواب والمعادن وما لا يحصى.
وَأَسْبَغَ أكمل وأوسع وأتمّ. نِعَمَهُ جمع نعمة: وهي كل نفع قصد به الإحسان. ظاهِرَةً وَباطِنَةً محسوسة ومعقولة، ما تعرفونه وما لا تعرفونه، فالظاهرة: كل ما يعلم بالمشاهدة كحسن الصورة وتسوية الأعضاء، والباطنة: ما لا يعلم إلا بدليل، أو لا يعلم أصلا، فكم في بدن الإنسان من نعمة لا يعلمها، ولا يهتدي إلى العلم بها!! وَمِنَ النَّاسِ بعض الناس كأهل مكة في صدر الإسلام. مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ في توحيده وصفاته. بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل أو بغير حجة. وَلا هُدىً أي ولا هداية من رسول. وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أنزله، بل بالتقليد. بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي ما سار عليه الأسلاف، وهو منع صريح من التقليد في الأصول كالاعتقاد. أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ أي أيتبعونهم، ولو دعاهم الشيطان إلى موجبات عذاب جهنم، وهو الإشراك أو التقليد، وجواب لَوْ محذوف، أي لا تبعوه، والاستفهام للإنكار والتعجيب.
المناسبة:
بعد أن استدل الله تعالى بقوله: خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ على الوحدانية وذكر أن لقمان عرف ذلك بالحكمة، لا بالنبوة، عاد إلى توبيخ المشركين على إصرارهم على الشرك، مع مشاهدتهم دلائل التوحيد عيانا في عالم السموات والأرض، وتسخير ما فيها لمنافعهم، وإنعامه عليهم بالنعم المحسوسة والمعقولة، المعروفة لهم وغير المعروفة.
158
التفسير والبيان:
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً أي ألم تعلموا أيها الناس دلائل التوحيد الناطقة بوحدانية الله سبحانه في كل شيء، وإنعامه عليكم، فهو الذي ذلل لكم جميع ما في السموات من شمس وقمر ونجوم، تستضيئون بها في الليل والنهار، وما خلق فيها من سحاب ينزل منه المطر، لسقي الإنسان والحيوان والنبات، ويسر لكم جميع ما في الأرض من قرار ومعادن، وأنهار وبحار، وأشجار وزروع، وثمار، ونحو ذلك من المنافع الغذائية، وأكمل وأتم عليكم نعمه الظاهرة والباطنة أي المحسوسة والمعقولة، المعروفة وغير المعروفة، ومنها إنزال الكتب وإرسال الرسل، وإزالة الشّبه والعلل والأعذار.
وقيل: الظاهرة: الإسلام، والباطنة: الستر
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لابن عباس- وقد سأله عن هذه الآية-: «الظاهرة: الإسلام وما حسن من خلقك، والباطنة: ما ستر عليك من سيء عملك».
وقيل: الظاهرة: ما يرى بالأبصار من المال والجاه والجمال في الناس، وتوفيق الطاعات، والباطنة: ما يجده المرء في نفسه من العلم بالله، وحسن اليقين، وما يدفع عن العبد من الآفات.
ومع هذا كله، ما آمن الناس كلهم، فقال تعالى:
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلا هُدىً، وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ أي وبالرغم من ثبوت الألوهية بالخلق والإنعام، فهناك فريق من الناس يجادل في توحيد الله وصفاته وإرساله الرسل، كزعماء الوثنية في مكة وغيرها، بغير دليل معقول، ولا مستند أو حجة صحيحة على يد رسول، ولا كتاب مأثور صحيح ينير الطريق الحق.
159
فقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ معناه: لا من علم واضح، من هدى أتاه من هاد، ولا من كتاب مبين واضح.
وإنما حجتهم الوحيدة هو التقليد الأعمى، واتباع الهدى والشيطان، لذا تعالى:
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ، قالُوا: بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي وإذا قيل لهؤلاء المجادلين في توحيد الله: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الشرائع المطهرة، لم يكن لهم حجة إلا اتباع الآباء الأقدمين فيما اعتقدوه من دين. وهذا في غاية القبح، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى كلام الله الهادي إلى الحق والخير، وهم يأخذون بكلام آبائهم.
وهذا منع صريح من التقليد في أصول العقيدة، لذا وبخهم الله على سوء مقالتهم فقال:
أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ؟ أي أيتبعونهم بلا دليل، ولو كان اعتقادهم قائما على الهوى وتزيين الشيطان الذي يدعوهم إلى عذاب جهنم، والله يدعو إلى النجاة والثواب والسعادة؟! وهذا كقوله تعالى:
أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة ٢/ ١٧٠] أي ولو كان آباؤهم المحتجون بصنيعهم على ضلالة، فلا عقل عندهم ولا هداية معهم؟! وهم خلف فيما كانوا فيه.
وهذا استفهام على سبيل التعجب والإنكار، يتضمن التهكم عليهم، وتسفيه عقولهم، والسخرية من آرائهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
160
١- الدليل على وحدانية الله الخلق والإنعام، فإنه خلق السموات بما فيها من شمس وقمر ونجوم وملائكة، وذللها للناس، جالبة لهم المنافع، وخلق الأرض وما فيها من جبال وأشجار وثمار ومعادن وماء وهواء وبخار وذرة وما لا يحصى، وكلها لنفع الإنسان. وأكمل النعم وأتمها على بني آدم، سواء كانت ظاهرة مشاهدة محسوسة، كالصحة وكمال الخلقة والمال والجاه والجمال، وشرائع الإسلام، أو معقولة مجردة كالمعرفة والعقل وحسن اليقين بالله تعالى، وسواء كانت معروفة أو ستعرف علميا مع تطور الاكتشافات العلمية المتجددة في كل عصر.
٢- بالرغم من كثرة الأدلة الدالة على توحيد الله من الخلق والإنعام، فإن فريقا من الناس كالنّضر بن الحارث وأبيّ بن خلف يجادلون أو يخاصمون في التوحيد بغير حجة عقلية أو نقلية من سنة رسول أو بيان كتاب مضيء نيّر، وإنما الحجة هي الشيطان فيما يلقى إليهم، وإلا تقليد الأسلاف، كما قال تعالى:
وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ [الأنعام ٦/ ١٢١].
٣- إذا أمر المشركون باتباع ما أنزل الله على رسوله من الآيات البينات والشرائع المطهرة، لم يجدوا جوابا إلا التمسك بتقليد الآباء والأجداد، وبما يزين لهم الشيطان من الوساوس والأهواء، فإنهم يتبعونه على ضلال.
سلامة منهج المؤمن وسوء طريقة الكافر
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٢ الى ٢٤]
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤)
161
البلاغة:
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ مجاز مرسل في وَجْهَهُ من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل.
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ بينهما ما يسمى بالمقابلة.
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تشبيه تمثيلي، شبّه من تمسك بالإسلام بمن أراد الصعود إلى قمة جبل، فتمسك بأوثق حبل، وحذف أداة التشبيه للمبالغة.
وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ تقديم ما حقه التأخير لإفادة الحصر.
عَذابٍ غَلِيظٍ استعارة الغلظ للشدة لأنه إنما يكون للمادة الكثيفة، فاستعير للمعنى.
المفردات اللغوية:
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ أي يفوض أمره إليه، ويقبل على طاعته، ويخلص عبادته إليه. وَهُوَ مُحْسِنٌ متقن عمله. فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تعلق بأوثق وأمتن ما يتعلق به، وهو الطرف الأوثق الذي يؤمن انقطاعه، وهو تمثيل للمتوكل المشتغل بالطاعة بمن أراد أن يترقى شاهق جبل، فتمسك بأوثق عرا الحبل المتدلي منه. وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ مرجعها إذ الكل صائر إليه.
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ أي فلا يضرك في الدنيا والآخرة، ولا تهتم بكفره. إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي مصيرهم إلى الله في الدارين. فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا نجازيهم بأعمالهم بالإهلاك والتعذيب. عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بحديث النفس الكائن في الصدور كما أنه عليم بما في غيرها، فمجاز عليه. نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا نمتعهم في الدنيا أيام حياتهم تمتيعا قليلا أو زمانا قليلا، فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل. نَضْطَرُّهُمْ نلزمهم في الآخرة. إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ ثقيل عليهم، وهو عذاب النار، لا يجدون عنه محيصا.
المناسبة:
بعد بيان حال الكافر المجادل في الله جهلا وعنادا، أبان الله تعالى حال المسلم، وأخبر بأن منتهى الأمور صائرة إليه، ثم أردفه بتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ما يلقاه من إعراض المشركين عن دعوته عنادا، وهددهم بالعقاب الشديد في الدنيا والآخرة، مع التنبيه بأن عذاب الآخرة أشد وأثقل.
162
التفسير والبيان:
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ، وَهُوَ مُحْسِنٌ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى، وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي ومن يخلص العبادة والعمل إلى الله، وينقاد لأمره، ويتبع شرعه، مع إتقان عمله باتباع ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه وزجر، فقد تمسك بالحبال الواثقة، أي تعلق بأوثق الوسائل الموصلة إلى رضوان الله، وسيلقى الجزاء الحسن على عمله، لأن مصير المخلوقات كلهم إلى الله، فيجازي المتوكل عليه، المخلص عبادته إليه أحسن الجزاء، كما يعاقب المسيء بأشد العذاب.
ثم نصح الله رسوله بألا يهتم بكفر الكافرين، فقال:
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ، إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ، فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي لا تغتم ولا تجزع على كفر الكافرين الذين كفروا بالله ورسوله، ولا تهتم بهم، ولا تحزن عليهم، فإن مصيرهم إلينا يوم القيامة وفي الدنيا، فنجازيهم بالإهلاك والعذاب، ولا تخفى عليه خافية منهم، ولا يخفى عليه سرهم وعلانيتهم، فنخبرهم بما أضمرته صدورهم. وكلمة مَنْ تصلح للواحد والجمع، فلهذا قال: كُفْرُهُ ثم قال: مَرْجِعُهُمْ وما بعده على المعنى.
ثم بيّن مدى مقامهم في الدنيا، فقال:
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا، ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ أي نجعلهم يتمتعون في الدنيا بزخارفها تمتعا قليلا أو زمانا قليلا، ثم نلجئهم ونلزمهم بعذاب شاق ثقيل شديد عليهم. والغلظ يكون في الماديات، وأستعير للمعنى، والمراد الشدة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على أن الناس في الآخرة فريقان: فريق في الجنة، وفريق في
163
السعير، فمن أخلص عبادته وقصده إلى الله تعالى، وأتقن عمله، بأن عبد الله كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن ربّه يراه، فهو من الناجين الذين أخذوا موثقا متينا من الله أنه لا يعذبهم، ومنتهى الأمور كلها ومصيرها إلى الله تعالى.
ومن أنكر وجود الله أو أنكر وحدانيته فأشرك به غيره، فإن الله يجازيه، والله عليم بكل ما أسرّ العبد وأعلن.
وإن بقاء العالم في الدنيا قليل، فهم يتمتعون فيها مدة قليلة، ثم يساقون ويلجأون ويلزمون إلى عذاب شديد، هو عذاب جهنم.
إثبات وجود الله وسعة علمه وشمول قدرته على البعث وكل شيء
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٢٥ الى ٣٢]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٦) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٣٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣١) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)
164
الإعراب:
لَيَقُولُنَّ حذف منه نون الرفع لتوالي الأمثال، وحذف واو الضمير لالتقاء الساكنين.
وَالْبَحْرُ الواو واو الحال، والْبَحْرُ: مبتدأ، وخبره: يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ والجملة حالية، وعامل الحال ما في أَقْلامٌ من معنى الفعل لأن (أقلاما) قام مقام (كاتبات) فكأنه قال: كاتبات والبحر يمده. ومن قرأ بالنصب، فهو معطوف على ما أو منصوب بتقدير فعل يفسره يَمُدُّهُ وتقديره: يمد البحر يمده، مثل: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس ٣٦/ ٣٩] أي قدرنا القمر قدرناه.
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ خَلْقُكُمْ مبتدأ، وكاف كَنَفْسٍ في موضع رفع خبر المبتدأ، وتقديره: ما خلقكم ولا بعثكم إلا كبعث نفس واحدة، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ولا يجوز أن تعمل ما بسبب إِلَّا لأنها تشبه (ليس) في نفي الحال، وإِلَّا تبطل منها معنى النفي، وهو وجه الشبه الموجب للعمل، وإذا زال وجه الشبه الموجب للعمل بطل العمل.
البلاغة:
صَبَّارٍ شَكُورٍ خَتَّارٍ كَفُورٍ خَبِيرٌ سَمِيعٌ بَصِيرٌ صيغ مبالغة، وفيها ما يسمى توافق الفواصل أو السجع.
فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ فيه إيجاز بالحذف، والمعنى: فمنهم مقتصد ومنهم كافر، دل على المحذوف قوله تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ.
المفردات اللغوية:
وَلَئِنْ اللام لام القسم. لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غير
165
الله، بحيث اضطروا إلى الإقرار بوجوده. قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ على ظهور الحجة عليهم بثبوت التوحيد، وإلجائهم إلى الاعتراف بما يبطل اعتقادهم. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ يجهلون إلزامهم بتلك الحجة. لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا وعبيدا، فلا يستحق العبادة فيهما غيره. هُوَ الْغَنِيُّ عن خلقه. الْحَمِيدُ المستحق للحمد، المحمود في صنعه.
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ أي ولو صارت جميع الأشجار أقلاما. وإنما قال شَجَرَةٍ بالإفراد دون اسم الجنس الذي هو شجر، ليشمل كل شجرة على حدة، حتى لا يبقى من جنس الشجر، ولا واحدة، إلا قد بريت أقلاما. وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ أي والبحر المحيط يمده بسعته مدادا، فاكتفى بذكر يَمُدُّهُ عن ذكر المداد لأنه من مدّ الدواة وأمدها.
ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ أي معلوماته، بكتبها بتلك الأقلام بذلك المداد ولا بأكثر من ذلك لأن معلوماته تعالى غير متناهية. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شيء. حَكِيمٌ لا يخرج شيء عن علمه وحكمته.
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ خلقا وبعثا، أي كبعث نفس واحدة وخلقها، إذ لا يشغله شأن عن شأن، ولأنه يتم بكلمة كُنْ فَيَكُونُ. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع كل مسموع.
بَصِيرٌ يبصر كل مبصر، لا يشغله إدراك شيء عن شيء. أَلَمْ تَرَ تعلم أيها المخاطب.
يُولِجُ يدخل الليل في زمن النهار وبالعكس، أي يضيف أحدهما إلى الآخر، فالله يزيد في كل من الليل والنهار بما نقص من الآخر. كُلٌّ يَجْرِي كل من الشمس والقمر النيرين يجري في فلكه. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معلوم مقدر، إلى نهاية دورة الشمس السنوية، ودورة القمر الشهرية، أو إلى يوم القيامة. بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بكنهه.
ذلِكَ المذكور من سعة العلم وشمول القدرة وعجائب الصنع. بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ بسبب أنه الثابت في ذاته، الواجب من جميع جهاته، أو الثابت الألوهية. وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ أي وأن ما يعبدون من غيره هو المعدوم في حد ذاته الذي لا يوجد، والزائل، أو الباطل الألوهية. وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ المترفع على خلقه وعلى كل شيء بالقهر، والمتسلط عليه، وهو العظيم.
الْفُلْكَ السفن. تَجْرِي تسرع. بِنِعْمَتِ اللَّهِ بإحسانه في تهيئة أسبابه وأنها تحمل الطعام والمتاع ونحوهما، وهو استدلال آخر على باهر قدرته وكمال حكمته وشمول إنعامه.
لِيُرِيَكُمْ أيها المخاطبون بذلك. مِنْ آياتِهِ دلائله. لَآياتٍ علامات وعبرا. لِكُلِّ صَبَّارٍ كثير الصبر على المشاق وعن معاصي الله، فيتعب نفسه في التفكر في الآفاق والأنفس.
شَكُورٍ لنعمته، يعرف النعم، ويتعرف ما نحها، فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر.
166
غَشِيَهُمْ علاهم وغطاهم. كَالظُّلَلِ كالظلال التي تظل من تحتها، من جبال وسحاب وغيرها. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الدعاء بأن ينجيهم، أي لا يدعون معه غيره بسبب ما دهاهم من الخوف الشديد. مُقْتَصِدٌ متوسط بين الكفر والإيمان، أو مقيم على الطريق القصد الذي هو التوحيد لا يعدل عنه إلى غيره، ومنهم باق على كفره. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا ينكرها، ومنها الإنجاء من الموج. خَتَّارٍ غدار، فإنه نقض للعهد الفطري. كَفُورٍ شديد الجحود للنعم.
سبب النزول: نزول الآية (٢٧) :
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ:
أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الروح، فأنزل الله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء ١٧/ ٨٥] فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا، وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة ٢/ ٢٦٩]، فنزلت: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية.
واخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة:
وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا فلما هاجر إلى المدينة أتاه أحبار يهود، فقالوا: ألم يبلغنا عنك أنك تقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا إيانا تريد أم قومك؟ فقال: كلّا عنيت، قالوا: فإنك تتلو أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء،
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هي في علم الله قليل، فأنزل الله:
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ.
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري في كتاب العظمة وابن جرير عن قتادة قال: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، فنزل: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ الآية.
167
نزول الآية (٢٨) :
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ: نزلت الآية في أبيّ بن خلف وأبي بن الأسدين، ومنبّه ونبيه ابني الحجاج بن السباق، قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الله تعالى قد خلقنا أطوارا، نطفة ثم علقة ثم مضغة، ثم عظاما، ثم تقول: إنا نبعث خلقا جديدا جميعا في ساعة واحدة! فأنزل الله تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ.
المناسبة:
بعد إقامة الأدلة على وحدانية الله بخلق السموات بغير عمد، وبإمداد خلقه بنعمه الظاهرة والباطنة، أبان الله تعالى أن المشركين معترفون بوجود الله، وأنهم يتضرعون إليه وحده وقت الشدة، ثم يعودون إلى كفرهم بعد النجاة. ثم أثبت تعالى وحدانيته بملكه ما في السموات وما في الأرض، ثم أقام الدليل على سعة علمه، وشمول قدرته على كل شيء، ومنه خلق الناس وبعثهم، وتعاقب الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر في دورة محددة، وتسيير السفن في البحار بتيسيره وتهيئة أسبابه، علما بأن المشركين يعترفون بتلك الآيات.
التفسير والبيان:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ أي وتالله لئن سألت هؤلاء المشركين بالله من قومك: من الذي خلق السموات والأرض؟
لأجابوا: هو الله الخالق، فهم معترفون بأن الله خالق السموات والأرض، غير منكرين له، لوضوح الأمر، وعدم وجود البديل، بحيث اضطروا إلى إعلان هذا الاعتراف بالله، ومع هذا فهم يعبدون معه شركاء، يعترفون أنها مخلوقة لله، ومملوكة له.
168
قُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي قل أيها الرسول: الحمد لله على اعترافكم، إذ قامت الحجة عليكم بإلجائكم إليه، وأن دلائل التوحيد واضحة، لا يكاد ينكرها أحد، ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أنه ينبغي ألا يعبد مع الله غيره، وأن هذه الحجة تلزمهم، وتبين تناقضهم، وأنهم لم ينتبهوا مع وجود هذا التنبيه.
وبعد انتزاع هذا الاعتراف الصريح بوجود الله وتوحيده، استدل الله تعالى على ذلك بقوله:
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أي لله جميع ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصرفا، وليس ذلك لأحد سواه، فلا يستحق العبادة غيره، لأنه الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، وهم مملوكون له، محتاجون إليه، وهو المحمود في الأمور كلها، وعلى نعمه التي أنعم بها، وعلى ما خلق وشرع.
ومنعا لإيهام قوله تعالى: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تناهي ملكه بحصره في الموجود في السموات والأرض، أبان تعالى أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها، فقال:
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما، وجعل البحر مدادا (حبرا) وأمده سبعة أبحر معه، فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله، لتكسرت الأقلام، ونفد ماء البحر، ولو جاء أمثالها مددا، إن الله قوي لا يعجزه شيء، حكيم في صنعه، لا يخرج عن علمه وحكمته شيء، كامل القدرة، فيكون له مقدورات لا نهاية لها.
وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة، ولم يرد الحصر، كما لم يرد أن هناك
169
سبعة أبحر موجودة محيطة بالعالم، والعرب تذكر السبعة والسبعين والسبع مائة، وتريد بذلك الكثرة.
والخلاصة: أن الآية تخبر عن عظمة الله وكبريائه وجلاله وكلماته التامة ومعلوماته وأسراره التي لا يحيط بها أحد، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها، كما
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «سبحانك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»
فمعلوماته تعالى لا نهاية لها. ويكون المراد بكلمات الله:
معلوماته، وقيل: هي ما في المعدوم، دون ما خرج من العدم إلى الوجود «١».
ونظير الآية: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي، لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الكهف ١٨/ ١٠٩] وليس المراد بقوله: بِمِثْلِهِ آخر مثل فقط، بل بأمثاله، لأنه مفرد مضاف فيعم، كما أن كَلِماتُ وإن كانت جمع قلة، تفيد هنا الكثرة، لأن جموع القلة إذا تعرفت بالألف واللام غير العهدية، أو أضيفت، عمّت، وصارت لا تخص القليل، والعام مستغرق جميع أفراده.
ولما بيّن الله تعالى كمال قدرته وعلمه وأن كلماته ومعلوماته لا يحيط بها أحد، أوضح أن هذا الخلق غير المنحصر قد أحاط به علما، وأنه قادر على البعث والمحشر كما قدر على الخلق أول مرة، فقال:
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي ما خلق جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كسبة خلق نفس واحدة، الجميع هيّن عليه، كما قال: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس ٣٦/ ٨٢] وقال تعالى أيضا: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر ٥٤/ ٥٠] أي لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة، فيكون ذلك الشيء، لا يحتاج
(١) البحر المحيط: ٧/ ١٩٢
170
إلى تكرار الأمر وتوكيده، وقال سبحانه: فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [النازعات ٧٩/ ١٣- ١٤] فمن لا نفاد لكلماته يقول للموتى: كونوا، فيكونوا.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي كما أن الله سميع لأقوال عباده، بصير بأفعالهم، كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة، كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة.
وبعد بيان تسخيره تعالى ما في السموات وما في الأرض، ذكر هنا بعض ما فيهما على وجه الخصوص، بقوله: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ ثم ذكر بعض ما في السموات بقوله: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ثم أردفه ببعض ما في الأرض بقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ أي ألم تشاهد أن الله في شأن تعاقب الليل والنهار، يزيد في زمن الليل على حساب النهار في الشتاء، ويزيد في ساعات النهار على حساب الليل في الصيف، فيأخذ من هذا ويضيفه إلى ذاك، فيطول أحدهما ويقصر الآخر.
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي ذلّل النيرين لمصالح خلقه ومنافعهم، كل منهما يسير بسرعة إلى غاية محدودة، أو إلى يوم القيامة، وأن الله مطلع بدقة على جميع أعمالكم من خير وشر، ويجازيكم عليها، فهو الخالق العالم بجميع الأشياء.
ثم ذكر الله تعالى الهدف من بيان آياته فقال:
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ أي إنما يظهر الله لكم آياته، ويبين عجائب قدرته وحكمته، لتستدلوا بها على أنه الحق، أي الموجود الثابت المستحق للعبادة، وأن كل ما سواه
171
باطل زائل، فهو الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، لأن جميع ما في السموات والأرض خلقه وعبيده، ولا يقدر أحد منهم على تحريك ذرة إلا بإذنه وقدرته ومشيئته، وأن الله تعالى هو العلي الذي لا أعلى منه، المرتفع على كل شيء، الكبير الذي هو أكبر من كل شيء، العظيم السلطان، فكل شيء خاضع له.
وبعد ذكر الآيات السماوية الدالة على وجود الله تعالى وقدرته ووحدانيته، ذكر آية أرضية، فقال:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أي ألم تعلم أيها المخاطب أيضا أن الله سخر البحر لتجري فيه السفن بأمره، أي بلطفه وإحسانه وتهيئة الأسباب، ليرشدكم إلى معرفته، ويظهر لكم شيئا أو بعضا من قدرته، فإنه لولا ما جعل في الماء من قوة يحمل بها السفن، لما جرت.
إن فيما ذكر من الأدلة السماوية والأرضية لأدلة واضحة وعلامات نيّرة لكل صبّار (كثير الصبر) في الضراء، شكور في الرخاء، لأن المؤمن متذكر ربه، فيصبر إذا أصابته نقمة، ويشكر إذا أتته نعمة،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البيهقي عن أنس، وهو ضعيف: «الإيمان نصفان: فنصف في الصبر، ونصف في الشكر».
ثم ذكر الله تعالى تناقض المشركين واضطرابهم من اللجوء إليه حين الضراء، ونسيانه حال السراء، فقال:
وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ، فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ أي وإذا أحدقت بهم مخاطر الأمواج العالية التي تشبه الجبال والغمام، رجعوا إلى الفطرة، ودعوا الله دعاء حارّا، مخلصين له الطاعة، لا يشركون به غيره، مستغيثين به وحده، فلما رحمهم ونجوا بفضله من الأهوال المحدقة، ووصلوا إلى شاطئ البر والسلامة، فمنهم
172
مقتصد في الكفر، منزجر بعض الانزجار، متجه إلى توحيد الله، ومنهم غدّار ناقض للعهد، كافر بأنعم الله، وما يكفر بآياتنا الكونية والقرآنية إلا كل كثير الغدر، كفور بما أنعم الله عليه.
ونظير الآية: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ، ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء ١٧/ ٦٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
١- لا يجد المشركون بدا عند سؤالهم عن خالق السموات والأرض من الإجابة بأنه هو الله تعالى، فهم يعترفون بأن الله خالقهن، فلم يعبدون غيره؟! فالحمد لله على ما هدانا له من دينه، وليس الحمد لغيره، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا ينظرون ولا يتدبرون. هذا ما دلت عليه الآية الأولى، ودلت الآية الثانية التي تلتها على أن جميع ما في السموات، والأرض لله ملكا وخلقا، وأن الله هو الغني عن خلقه وعن عبادتهم، وإنما أمرهم بالعبادة لينفعهم، والله هو المحمود في صنعه.
٢- دلت الآية الأخيرة: وَإِذا غَشِيَهُمْ على اعتراف آخر من المشركين بوجود الله ووحدانيته، فإنهم إذا تعرضوا لمخاطر الغرق بسبب اضطراب البحر، وارتفاع الأمواج، لم يجدوا بديلا غير الله للجوء إليه، فيدعونه موحدين له، لا يدعون لخلاصهم سواه، فإذا ما نجوا من البحر، ووصلوا إلى البر والأمان، فمنهم مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة، موفّ بما عاهد عليه الله في البحر، ومنهم كافر، وقد دل على المحذوف قوله تعالى: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ أي لا ينكر دلائل الآيات على توحيد الله إلا كل غدّار مغرق في الكفر، جحود للنعم، لا يشكرها، بل يتناساها ولا يذكرها.
173
٣- إن معاني كلام الله سبحانه لا تنفد، وإنها لا نهاية لها، ولا يمكن حصرها ولا عدها، وقد دلنا على ذلك هذا البيان القرآني: وهو لو كانت الأشجار أقلاما، والبحار مدادا، فكتب بها عجائب صنع الله الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب، لأنه تعالى القديم الذي لا نهاية له ابتداء وانتهاء، أما المخلوق فلا بد له من بداية ومن نهاية، والمقصود من الكلمات:
الكلام القديم، والمراد بالآية الاعلام بكثرة معاني كلمات الله، هي غير متناهية في نفسها، وإنما قرّب الأمر بهذا المثال لأفهام البشر بما يتناهى، لأنه غاية ما يعهده البشر من الكثرة، لا أنها تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور.
وإذا كانت معاني كلام الله لا نهاية لها، فعلم الله بحقائق الأشياء لا يمكن حصره، وإنما هو واسع شامل.
والخلاصة: أن كلمات الله هي مقدوراته وعجائبه، أو معلوماته.
٤- ما ابتداء خلق جميع البشر إلا كخلق نفس واحدة، وما بعثهم يوم القيامة إلا كبعث نفس واحدة، لأن الله تعالى لا يصعب عليه ما يصعب على العباد، وخلقه للعالم كخلقه لنفس واحدة، وإن الله سميع لما يقولون، بصير بما يفعلون.
٥- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ، وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آية سماوية دالة على قدرة الله تعالى، وقوله:
وَسَخَّرَ.. أي ذلّلهما بالطلوع والأفول تقديرا للآجال، وإتماما للمنافع، وجعل الطلوع والغروب في وقت محدد لا يتجاوزه ولا يقصر عنه، وينتهي وجودهما بانتهاء السموات والأرض يوم القيامة.
ومن قدر على هذه الأشياء، فلا بدّ من أن يكون عالما بها، والعالم بها عالم بأعمالكم. وقد فعل الله تعالى ذلك (الزيادة والنقص في الليل والنهار وتسخير
174
النيرين) لتعلموا وتقرّوا بأن الله هو الإله الحق، وأن ما عداه باطل زائل لا وجود له ولا حقيقة له، وأن الله هو العلي في مكانته، الكبير في سلطانه.
٦- قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي آية أرضية دالة على قدرة الله تعالى، فهو الذي جعل الماء قادرا على حمل السفن، وسيّرها إما بالهواء، وإما بتعليم الإنسان وإلهامه الاستفادة من الطاقة البخارية أو النفطية أو الذرية أو الكهربائية لجريها السريع.
كل ذلك ليرينا الله تعالى بعض آياته، ويجعلنا نشاهد بعض مظاهر قدرته في البحار، وفي ذلك علامات وعبر وعظات لكل صبّار على قضاء الله، شكور على نعمائه،
قال صلّى الله عليه وسلّم في الحديث المتقدم تخريجه: «الإيمان نصفان: فنصف في الصبر، ونصف في الشكر».
وقال الشعبي: الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين: الإيمان كله، ألم تر إلى قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.
الأمر بتقوى الله وبيان مفاتح الغيب
[سورة لقمان (٣١) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)
الإعراب:
وَاخْشَوْا يَوْماً يَوْماً منصوب على أنه مفعول وَاخْشَوْا ولا يجوز أن يكون ظرفا، لأنه يصير الأمر بالخشية في يوم القيامة، ويوم القيامة ليس بيوم تكليف، وإنما هو يوم الجزاء.
175
وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ مرفوع معطوف على والِدٌ المرفوع الذي هو فاعل يَجْزِي وهُوَ تأكيد لما في مَوْلُودٌ من الضمير، ولا يجوز أن يكون هُوَ ضمير فصل، لأن الفصل لا يدخل بين النكرتين.
ماذا تَكْسِبُ غَداً ماذا منصوب ب تَكْسِبُ لا ب تَدْرِي لأن الاستفهام ينتصب بما بعده لا بما قبله، هذا إذا جعل (ما وذا) بمنزلة شيء واحد، فإن جعلا بمنزلة كلمتين، وجعلا بمنزلة (الذي) وجعل موضع ماذا مرفوعا، لم يجز نصبه ب تَدْرِي لما ذكر، وإنما نحكم على موضع الجملة بالنصب بدخوله عليها.
المفردات اللغوية:
اتَّقُوا رَبَّكُمْ خافوا عقابه. لا يَجْزِي لا يقضي فيه، أو لا يغني. وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ إن تغيير النظم بين يَجْزِي وجازٍ للدلالة على أن المولود أولى بألا يجزي، وقطع طمع من توقع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي وعده بالبعث وبالثواب والعقاب صدق لا يمكن إخلافه. فَلا تَغُرَّنَّكُمُ فلا تخدعنكم.
وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ في حلمه وإمهاله. الْغَرُورُ الشيطان وكل ما غرّ الإنسان من مال وجاه، والشيطان يرجّي بالتوبة والمغفرة، فيجسّر على المعاصي.
عِلْمُ السَّاعَةِ علم وقت قيام القيامة. وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ بوقت يعلمه. ما فِي الْأَرْحامِ من الذكورة والأنوثة، والتمام والنقص، والحياة والموت، وغير ذلك من خواص الجنين وأحواله وأعراضه. ماذا تَكْسِبُ غَداً من خير أو شر، وتنفيذ العزم على شيء وخلافه. بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي كما لا تدري في أي وقت تموت، والله يعلمه وحده. عَلِيمٌ بكل شيء، يعلم الأشياء كلها. خَبِيرٌ يعلم الباطن والظاهر.
سبب النزول: نزول الآية (٣٤) :
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: جاء رجل من أهل البادية هو الحارث بن عمرو «١»، فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني بما تلد، وبلادنا مجدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت؟ فأنزل الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية.
(١) في رواية قتادة: اسمه الوارث بن عمرو بن حارثة.
176
المناسبة:
بعد ذكر دلائل التوحيد من أول السورة إلى آخرها، أمر الله تعالى بتقوى الله والخوف منه، والخشية من يوم القيامة، لأنه تعالى لما كان واحدا أوجب التقوى البالغة، وأنذر الناس يوم المعاد، وأخبر بأنه حق كائن، ثم أردفه ختاما للسورة ببيان ما استأثر الله بعلمه، وهي مفاتح الغيب الخمسة، لأنه بعد هذا الإنذار كأن قائلا قال: فمتى يكون هذا اليوم؟ فأجيب بأن العلم بهذه الأمور لا يحصل لغير الله، ولكن يوم المعاد كائن لا بد منه، وإن لم يعلم الناس وقته، والله قادر عليه.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً أي يا أيها البشر من كفار ومؤمنين خافوا الله الذي خلقكم ورزقكم، وسخر لكم هذا الكون، واحذروا عقابه، واخشوا يوما شديد الهول هو يوم القيامة الذي لا يغني فيه والد عن ولده، فلو أراد أن يفديه بنفسه لما قبل منه، ولا مولود هو مغن عن والده أو نافع والده شيئا، فلو أراد فداء والده بنفسه، لم يقبل منه، إذ لا يستطيع أحد أن يشفع بأحد إلا بإذن الله، ولا جدوى عند الله إلا بالعمل الصالح الحاصل في الحياة الدنيا.
ثم أخبر الله تعالى عن حدوث هذا اليوم حتما، فقال:
إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي إن وعد الله بالبعث وبالثواب والعقاب أمر ثابت مؤكد حصوله، ولا شك فيه، ولا خلف لوعده.
ومقتضى التخويف الإعداد لهذا اليوم وترك التعلق بالدنيا، فقال تعالى:
فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ أي لا تخدعنكم زينة
177
الدنيا، فتطمئنوا فيها، وتميلوا إليها، تاركين الاستعداد للآخرة، ولا يخدعنكم الشيطان بحلم الله وإمهاله، فيعدكم بالمغفرة، ويحملكم على المعصية بتزيينها لكم، وينسيكم الآخرة، كما قال تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [النساء ٤/ ١٢٠].
وفي الآية دلالة واضحة على أن الدنيا غرّارة بزخارفها ومتاعها، وأن الشيطان بوساوسه يقوي هذا الغرور بالدنيا، لصرف الناس عن الآخرة والتزود لها بصالح الأعمال.
وقيل: الغرور: الدنيا، وقيل: تمني المغفرة في المعصية، والأماني الباطلة برحمة الله واعتماده على شفاعة شافع أو كونه مسلما محبا الله ورسوله بقلبه دون عمل، قال سعيد بن جبير رضي الله عنه: الغرة بالله: أن يتمادى الرجل في المعصية، ويتمنى على الله المغفرة. وقد ردّ القرآن على هذه التمنيات بقوله تعالى:
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ، وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [النساء ٤/ ١٢٣].
ثم ذكر الله تعالى مفاتح الغيب الخمسة التي استأثر الله بعلمها، فلا يعلمها أحد إلا بعد إعلام بها، فقال:
١- إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ أي إن علم وقت الساعة (أي القيامة) مختص بالله سبحانه، فلا يعلم أحد بوقته سواه، لا ملك مقرّب، ولا نبي مرسل، كما قال: لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الأعراف ٧/ ١٨٧].
٢- وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ أي ويختص تعالى أيضا بمعرفة وقت إنزال المطر ومكانه المعين، لا يعلمه إلا الله، فإن أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك، ومن يشاء الله من خلقه.
178
وأما نشرة الأرصاد الجوية في أيامنا فتعتمد على بعض الحسابات والأمارات، وما ترصده بعض الأجهزة المخصصة لمعرفة نسبة الرطوبة وسرعة الرياح، فليس ذلك غيبا، وإنما هو تخمين وظن، قد يحدث نقيضه، كما أن معرفته تكون قبل مدة قريبة، يلاحظ فيها اتجاهات الرياح والمنخفضات الآتية من الشمال أو من الغرب مثلا.
٣- وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أي لا يعلم أحد إلا الله ما في الأرحام من خواص الجنين وأحواله العارضة له من طبائع وصفات وذكورة وأنوثة، وتمام خلقة ونقصها، فإن توصل العلماء بسبب التحليل الكيميائي كون الجنين ذكرا أو أنثى، فلا يعني ذلك غيبا، وإنما بواسطة التجربة، وتظل أحوال أخرى كثيرة مجهولة للعلماء، لا تعلم إلا بعد الولادة. قال القرطبي: وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك «١».
٤- وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً أي لا تعلم نفس ماذا تكسب في الغد من خير أو شر في دنياها وأخراها.
٥- وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ أي وما تعلم نفس موضع موتها، في بلدها أو غيرها من بلاد الله، لا علم لأحد بذلك.
روي أن ملك الموت مرّ على سليمان، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه، يديم النظر إليه، فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت، فقال: كأنه يريدني، وسأل سليمان أن يحمله على الريح، ويلقيه ببلاد الهند، ففعل، ثم قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري إليه تعجبا منه، لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.
(١) تفسير القرطبي: ١٤/ ٨٢
179
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أي إن علم الله غير مختص بهذه الأمور الخمسة، بل هو عليم مطلقا بكل شيء، وليس علمه علما بظاهر الأشياء فحسب، بل خبير علمه، يعلم بواطن الأمور وظواهرها.
ويلاحظ أنه جعل العلم لله في قوله: عِلْمُ وَيَعْلَمُ والدراية للعبد في قوله: وَما تَدْرِي نَفْسٌ لما في الدراية من معنى الختل والحيلة والمعنى:
أنها لا تعرف وإن أعملت حيلها.
ونظير الآية: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام ٦/ ٥٩].
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ، وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً، وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».
ويلاحظ أن هذه الأمور الخمسة تشتمل على الدليلين المكررين في القرآن لإثبات البعث:
أحدهما- إحياء الأرض بعد موتها، حيث قال تعالى هنا: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وقال في موضع آخر: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى [الروم ٣٠/ ٥٠] وقال تعالى: وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها، وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ [الروم ٣٠/ ١٩].
والثاني- الخلق ابتداء، حيث قال هنا: وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وقال في موضع آخر: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم ٣٠/ ٢٧] وقال:
180
قُلْ: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ [العنكبوت ٢٩/ ٢٠].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- وجوب الخوف من الله تعالى وتوحيده، وخشية يوم المعاد الذي لا بد من حصوله.
٢- البعد عن الاغترار بزينة الحياة وزخارفها، والاتكال عليها والركون إليها، وترك العمل للآخرة.
٣- إن الدنيا غرارة، وإن الشيطان يغرّ الناس ويمنّيهم الدنيا ويلهيهم عن الآخرة، فيصبح الإنسان مغرورا يعمل بالمعصية ويتمنى بالمغفرة!! ٤- لا يعلم أحد إلا الله تعالى بأمور خمسة: هي وقت الساعة، ووقت إنزال الغيث ومكانه، وعلم ما في الأرحام من أحوال الجنين وأوصافه العارضة له، وأعمال المستقبل القريب والبعيد، ومكان وفاة الإنسان.
قال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرّب، ولا نبي مرسل فمن ادّعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن لأنه خالفه.
أما الأنبياء فيعلمون كثيرا من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم. وبذلك يبطل كون الكهنة والمنجمين ومن يستسقي بالأنواء «١» عالمين بالغيبيات.
(١) الأنواء: جمع نوء: وهو سقوط نجم في المنازل في المغرب مع الفجر، وطلوع آخر من المشرق يقابله في ساعته، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها.
181

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة السجدة
مكية، وهي ثلاثون آية.
تسميتها وفضلها:
سميت سورة السجدة لما فيها من وصف المؤمنين الذين يسجدون لله تعالى ويسبحونه عند سماع آيات القرآن العظيم: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [١٥].
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ في الفجر يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ السجدة، وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الإنسان ٧٦/ ١].
وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم لا ينام حتى يقرأ الم تَنْزِيلُ السجدة، وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك ٦٧/ ١].
مناسبتها لما قبلها:
تظهر صلة هذه السورة بما قبلها وهي سورة لقمان من ناحية اشتمال كل منهما على أدلة التوحيد وهو الأصل الأول للعقيدة، وبعد أن ذكر الله تعالى في السورة المتقدمة الأصل الثاني وهو الحشر أو المعاد، وختم تلك السورة بهذين الأصلين، بدأ هذه السورة ببيان الأصل الثالث وهو الرسالة أو النبوة، فقال تعالى:
الم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ...
182
كذلك تعد بعض آيات هذه السورة شرحا وتفصيلا للسورة السالفة، فقوله تعالى هنا: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [٥] توضيح لقوله تعالى في بيان مفاتح الغيب هناك: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [٣٤].
وقوله سبحانه هنا: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ [٢٧] تفصيل لقوله هناك: وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [٣٤].
وقوله هنا: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [٧] شرح لقوله هناك:
وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ [٣٤].
وقوله هنا: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ [٥] شرح لقوله هناك: وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً [٣٤].
وقوله هنا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ إلى قوله: قُلْ: يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [١٠- ١١] إيضاح لقوله:
وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [٣٤].
موضوعها:
موضوع هذه السورة كموضوع سائر السور المكية وهو إثبات أصول الاعتقاد: «الإيمان بالله واليوم الآخر والكتب والرسل والبعث والجزاء» ومحور الكلام إثبات (البعث) بعد الموت الذي أنكره المشركون والماديون، واتخذوه سببا لتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم.
مشتملاتها:
افتتحت السورة بتقرير كون القرآن العظيم بلا أدنى شك هو كتاب الله المنزل على رسوله صلّى الله عليه وسلّم، وإثبات رسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وإبطال مزاعم المشركين بأن
183
الرسول افترى هذا القرآن، وبيان أنه لم يأتهم رسول مثله قبله.
ثم أوردت السورة أدلة وحدانية الله وقدرته من تدبيره الكون، وخلقه الإنسان ورعايته له في أطواره التي يمر بها، ثم بعثه الخلق مرة أخرى ليوم مقداره ألف سنة مما تعدّون، بأسلوب يرد على إنكار المشركين البعث والنشور، لظنهم بسبب عجزهم أن التفتت إلى ذرّات مبعثرة مشتتة يحيل بعدئذ تجمعها وإعادتها إلى خلق جديد.
ثم وصفت السورة حال المجرمين الكافرين وحال المؤمنين الطائعين لله، فالأولون تلبسهم الذلة والمهانة، ويتمنون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا، ويذوقون العذاب الأليم. والمؤمنون لا تفارقهم في الدنيا الطاعة في الليل والنهار، ويدعون ربهم خوفا وطمعا، وينفقون أموالهم في مرضاة الله، ولهم في الآخرة جزاء عملهم الثواب الجزيل، والفضل العظيم الذي تقرّ به أعينهم، وجنات المأوى والاستقرار والخلود.
وعقّبت السورة على حال هذين الفريقين باستبعاد التسوية بينهما إذ لا يعقل مكافأة العصاة كمكافأة الطائعين.
ثم ختمت السورة بتقرير ما بدأت به، فذكرت الرسالة، وأبانت الهدف من إنزال التوراة على موسى عليه السلام، وهو هداية بني إسرائيل، تنبيها على وجه الشبه بين رسالة محمد ورسالة موسى عليهما الصلاة والسلام.
ثم ذكرت التوحيد والقدرة وأقامت البرهان عليهما بإهلاك الأمم الظالمة في الماضي، وأخيرا أكدت حدوث الحشر الذي استبعد الكفار حصوله.
فصار مطلع السورة ومضمونها وخاتمتها إثبات أصول العقيدة وهي كما ذكرت: التوحيد، والرسالة، والبعث.
184
Icon