تفسير سورة الزمر

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية إلا قوله :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا‏. . . ‏الآية ‏ ﴾ وتسمى سور الغرف وهي خمس وسبعون آية‏. ‏ وقيل‏ :‏ ثنتان وسبعون آية‏. ‏

سورة الزمر
مكية، إلا قوله قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا... الآية وتسمى سورة الغرف وهي خمس وسبعون آية. وقيل ثنتان وسبعون آية [نزلت بعد سورة سبإ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)
تَنْزِيلُ الْكِتابِ قرئ بالرفع على أنه مبتدأ أخبر عنه بالظرف. أو خبر مبتدإ محذوف والجار صلة التنزيل، كما تقول: نزل من عند الله. أو غير صلة، كقولك: هذا الكتاب من فلان إلى فلان، فهو على هذا خبر بعد خبر. أو خبر مبتدإ محذوف، تقديره:
هذا تنزيل الكتاب، هذا من الله، أو حال من التنزيل عمل فيها معنى الإشارة، وبالنصب على إضمار فعل، نحو: اقرأ، والزم. فإن قلت: ما المراد بالكتاب؟ قلت: الظاهر على الوجه الأول أنه القرآن، وعلى الثاني: أنه السورة مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ممحضا له الدين من الشرك والرياء بالتوحيد وتصفية السر. وقرئ: الدين، بالرفع. وحق من رفعه أن يقرأ مخلصا- بفتح اللام- كقوله تعالى وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ حتى يطابق قوله أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ والخالص والمخلص: واحد، إلا أن يصف الدين بصفة صاحبه على الإسناد المجازى، كقولهم:
110
شعر شاعر. وأما من جعل مُخْلِصاً حالا من العابد، ولَهُ الدِّينَ مبتدأ وخبرا، فقد جاء بإعراب رجع به الكلام إلى قولك: لله الدين أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أى: هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة من كل شائبة كدر، لاطلاعه على الغيوب والأسرار، ولأنه الحقيق بذلك، لخلوص نعمته عن استجرار المنفعة بها. وعن قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله. وعن الحسن: الإسلام وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا يحتمل المتخذين وهم الكفرة، والمتخذين وهم الملائكة وعيسى واللات والعزى: عن ابن عباس رضى الله عنهما، فالضمير في اتَّخَذُوا على الأوّل راجع إلى الذين، وعلى الثاني إلى المشركين، ولم يجر ذكرهم لكونه مفهوما، والراجع إلى الذين محذوف والمعنى: والذين اتخذهم المشركون أولياء، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا في موضع الرفع على الابتداء. فإن قلت: فالخبر ما هو؟ قلت: هو على الأوّل إما إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أو ما أضمر من القول قبل قوله ما نَعْبُدُهُمْ. وعلى الثاني: أن الله يحكم بينهم. فإن قلت: فإذا كان إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ الخبر، فما موضع القول المضمر؟ قلت: يجوز أن يكون في موضع الحال، أى:
قائلين ذلك. ويجوز أن يكون بدلا من الصلة فلا يكون له محل، كما أنّ المبدل منه كذلك. وقرأ ابن مسعود بإظهار القول قالوا ما نَعْبُدُهُمْ وفي قراءة أبىّ: ما نعبدكم إلا لتقربونا على الخطاب، حكاية لما خاطبوا به آلهتهم. وقرئ: نعبدهم، بضم النون اتباعا للعين كما تتبعها الهمزة في الأمر، والتنوين في عَذابٍ ارْكُضْ والضمير في بَيْنَهُمْ لهم ولأوليائهم. والمعنى: أن الله يحكم بينهم بأنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة، ويدخلهم النار مع الحجارة التي نحتوها وعبدوها من دون الله يعذبهم بها حيث يجعلهم وإياها حصب جهنم، واختلافهم: أن الذين يعبدون موحدون وهم مشركون، وأولئك يعادونهم ويلعنونهم، وهم يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله زلفى.
وقيل: كان المسلمون إذا قالوا لهم: من خلق السماوات والأرض، أقروا وقالوا: الله، فإذا قالوا لهم: فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فالضمير في بَيْنَهُمْ عائد إليهم وإلى المسلمين. والمعنى: أن الله يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين.
والمراد بمنع الهداية: منع اللطف تسجيلا عليهم بأن لا لطف لهم، وأنهم في علم الله من الهالكين «١». وقرئ: كذاب وكذوب. وكذبهم: قولهم في بعض من اتخذوا من دون الله أولياء: بنات الله، ولذلك عقبه محتجا عليهم بقوله لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ
(١). قال محمود: «المراد بمنع الهدآية منع اللطف تسجيلا عليهم بأن لا يلطف بهم، وأنه في علمه من الهالكين» قال أحمد: مذهب أهل السنة حمل هذه الآية وأمثالها على الظاهر، فان معتقدهم أن معنى هداية الله تعالى للمؤمن خلق الهدى فيه، ومعنى إضلاله للكافر إزاحته عن الهدى وخلق الكفر له، ومع ذلك فيجوز عند أهل السنة أن يخلق الله تعالى للكافر لطفا يؤمن عنده طائعا، خلافا للقدرية، وغرضنا التنبيه على مذهب أهل الحق لا غيره.
111
يعنى: لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصح، لكونه محالا، ولم يتأت إلا أن يصطفى من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم، كما يختص الرجل ولده ويقربه. وقد فعل ذلك بالملائكة فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم، فزعمتم أنهم أولاده، جهلا منكم به وبحقيقته المخالفة لحقائق الأجسام والأعراض، كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما يشاء من خلقه وهم الملائكة، إلا أنكم لجهلكم به حسبتم اصطفاءهم اتخاذهم أولادا، ثم تماديتم في جهلكم وسفهكم فجعلتموهم بنات، فكنتم كذابين كفارين متبالغين في الافتراء «١» على الله وملائكته، غالبين «٢» في الكفر، ثم قال سُبْحانَهُ فنزه ذاته عن أن يكون له أحد ما نسبوا إليه من الأولاد والأولياء. ودلّ على ذلك بما ينافيه، وهو أنه واحد، فلا يجوز أن يكون له صاحبة، لأنه لو كانت له صاحبة لكانت من جنسه ولا جنس له: وإذا لم يتأت أن يكون له صاحبة لم يتأت أن يكون له ولد، وهو معنى قوله أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ. وقهار غلاب لكل شيء، ومن الأشياء آلهتهم، فهو يغلبهم، فكيف يكونون له أولياء وشركاء؟
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٥]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥)
ثم دلّ بخلق السماوات والأرض، وتكوير كل واحد من الملوين على الآخر، وتسخير النيرين، وجريهما لأجل مسمى، وبث الناس على كثرة عددهم من نفس واحدة، وخلق الأنعام على أنه واحد لا يشارك، قهار لا يغالب. والتكوير: اللف واللىّ، يقال: كار العمامة على رأسه وكوّرها. وفيه أوجه، منها: أن الليل والنهار خلفة يذهب هذا ويغشى مكانه هذا، وإذا غشى مكانه فكأنما ألبسه والف عليه كما يلف اللباس على اللابس. ومنه قول ذى الرمة في وصف السراب:
تلوى الثّنايا بأحقيها حواشيه لىّ الملاء بأبواب التّفاريج «٣»
(١). قوله «متبالغين في الافتراء» لعله: مبالغين. (ع)
(٢). قوله «غالبين في الكفر» لعله: غالين. (ع)
(٣).
وراكد الشمس أجاج نصب له قواضب القوم بالمهرية العوج
إذا تنازع حالا مجهل قذف أطراف مطره بالخز منسوج
تلوى الثنايا بحقويها حواشيه لي الملاء بأبواب التفاريج
كأنه والرهاة الموت يركضه أعراف أزهر تحت الريخ منتوج
لذي الرمة يصف السراب. وراكد الشمس: ما يتساقط منها على الأرض. والأجاج: صفة مبالغة، أى: كثير الأجيج، يقال: أجت النار أجيجا: اشتعلت، والحر: اشتد. وأج الظليم أجا: أسرع وله حفيف. وأج الأمر:
اختلط. والأج: طير أبيض سريع الطيران يشبه النعام. ويرى السراب عند شدة الحر أبيض كأنه يسير، فيجوز أنه من الأولين. ويجوز أنه منسوب للأخير، لأنه يشبهه، وللام للتوقيت، وللقواضب: السيوف النواطع.
والمهرية: الخيل المنسوبة لمهر بن حيدان أبى قبيلة من اليمن، خيلها أنجب الخيل. والعوج: جمع عوجاء نوع جيد منها أيضا. والحالان: ارتفاع الأرض وانخفاضها. والمجهل: الموضع الذي يجهله المسافر. والقذف- كسبب-:
الذي يقذف ما فيه فلا أحد فيه. والمطرد: السراب المستوى، شبه بالخز المنسوج في الاستواء والبياض. والثنايا:
العقبات. والحقو: الخصر والإزار، وشده عليه استعارة لجانب العقبة، وحواشي السراب: جوانبه. والملاء بالضم والمد: اسم جمع ملاءة وهي الجلباب. والتفراج: الباب الصغير والثوب من الديباج. والرهاة- جمع رهو-:
المكان المرتفع، ويطلق على المنخفض أيضا. وقيل: اسم موضع. والموت: القفر. والركض: ضرب الدابة بالرجل والضرب مطلقا، وهو هنا مجاز على طريق التصريحية. والأعراف: جمع عرف. وعرف الديك والفرس:
أعلى شعر العنق وأعرف البحر والسيل: إذا تراكم موجه وارتفع كالأعراف، والأزهر: السحاب الأبيض والماء الأبيض، وهو الأنسب بكونه تحت الريح، لأن ظاهر الأول يخالف قوله تعالى أَقَلَّتْ سَحاباً والمنتوج: الذي تنتجه الريح وتسوقه حتى يقطر، يقول: ورب راكد من الشمس، يعنى السراب شديد الحر أو السير، نصبت مستقبلا لوقته سيوف قومي مع الخيل الجياد إذا تجاذب المنخفض والمرتفع من الأرض القفرة أطراف الآل وهو السراب، وشبه إحاطة جوانبه وتراكمه في جوانب العقبة بلىّ الجلباب في أبواب التفاريج، وتلوى: يحتمل أنه جواب ذا وأنه صفة لمطرد وجوابها، دل عليه ما قبلها وأسند اللى للثنايا لأنها سبب الالتواء، ولى الملا: مفعول مطلق، وأعراف: خبر كأنه، والرهاة: جملة حالية، وفاعل يركض إما ضمير الآل، أو ضمير الرهاة، لأنهما كأنهما يتضاربان. وروى: تطرده، وفاعله ضمير الرهاة جزما، لأن الآل هو المطرود، وبيت الكشاف: يلوى الثنايا بأحقيها. والحقو: جمعه أحق، وأصل وزنه: أفعل.
ومنها أنّ كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار. ومنها: أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على عقاب المصرين الْغَفَّارُ لذنوب التائبين «١». أو الغالب الذي يقدر على أن يعاجلهم بالعقوبة وهو يحلم عنهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى، فسمى الحلم عنهم: مغفرة.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦]
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)
فإن قلت: ما وجه قوله ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وما يعطيه من معنى التراخي؟ قلت: هما آيتان «٢» من جملة الآيات التي عدّدها دالا على وحدانيته وقدرته: تشعيب هذا الخلق الفائت
(١). قال محمود: «أى لذنوب التائبين» قال أحمد: الحق أنه تعالى غفار للتائبين ولمن يشاء من المصرين على ما دون الشرك وقنوطهم من رحمة الله تعالى. ولقد قيد الزمخشري الآية بما ترى.
(٢). قال محمود: «فان قلت: ما وجه العطف بثم في قوله ثُمَّ جَعَلَ وأجاب بأتهما آيتان... الخ» قال أحمد إنما منعه من حمل ثم على التراخي في الوجود أنها وقعت بين خلق الذرية من آدم، وخلق حواء منه، وهو متقدم على الذرية فضلا عن كونه متراخيا عن خلق الذرية، فلم يستقم حملها على تراخى الوجود لما جعلها في الوجه الآخر متعلقة بمعنى واحدة، على تقدير: خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها، يعنى: شفعها بزوجها، فكانت هاهنا على بابها لتراخى الوجود، والله سبحانه وتعالى أعلم. [.....]
للحصر من نفس آدم، وخلق حواء من قصيراه، إلا أن إحداهما جعلها الله عادة مستمرّة، والأخرى لم تجربها العادة، ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع، فعطفها بثم على الآية الأولى، للدلالة على مباينتها لها فضلا ومزية، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود. وقيل: ثم متعلق بمعنى واحدة، كأنه قيل: خلقكم من نفس وحدت، ثم شفعها الله بزوج. وقيل: أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء وَأَنْزَلَ لَكُمْ وقضى لكم وقسم، لأنّ قضاياه وقسمه موصوفة بالنزول «١» من السماء، حيث كتب في اللوح: كل كائن يكون. وقيل: لا تعيش الأنعام إلا بالنبات، والنبات لا يقوم إلا بالماء. وقد أنزل الماء، فكأنه أنزلها. وقيل: خلقها في الجنة ثم أنزلها. ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ذكرا وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز. والزوج: اسم لواحد معه آخر، فإذا انفرد فهو فرد ووتر. قال الله تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى. خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ حيوانا سويا، من بعد عظام مكسوة لحما، من بعد عظام عارية، من بعد مضغ، من بعد علق، من بعد نطف. والظلمات الثلاث: البطن والرحم والمشيمة. وقيل:
الصلب والرحم والبطن ذلِكُمُ الذي هذه أفعاله هو اللَّهُ رَبُّكُمْ...... فَأَنَّى تُصْرَفُونَ فكيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره؟
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧]
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ عن إيمانكم وإنكم المحتاجون إليه، لاسضراركم بالكفر واستنفاعكم بالإيمان وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ رحمة لهم، لأنه يوقعهم في الهلكة وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أى يرض الشكر لكم، لأنه سبب فوزكم وفلاحكم، فإذن ما كره كفركم ولا رضى شكركم
(١). قال محمود: «إنما جعلها منزلة لأن قضاياه تعالى وقسمه موصوفة بالنزول... الخ» قال أحمد: ومن هذا النمط بعينه قول الراجز:
أسنمة الآبال في سحابة.
114
إلا لكم ولصلاحكم «١»، لا لأنّ منفعة ترجع إليه، لأنه الغنى الذي لا يجوز عليه الحاجة. ولقد نمحل بعض الغواة ليثبت لله تعالى «٢» ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر فقال: هذا من العام الذي أريد به الخاص، وما أراد إلا عباده الذين عناهم في قوله إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ يريد المعصومين، كقوله تعالى عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ، تعالى الله عما يقول الظالمون وقرئ «برضه» بضم الهاء بوصل وبغير وصل، وبسكونها خَوَّلَهُ أعطاه. قال أبو النجم:
أعطى فلم يبخل ولم يبخّل كوم الذّرى من خول المخول «٣»
وفي حقيقته وجهان، أحدهما: جعله خائل مال، من قولهم: هو خائل مال، وخال مال: إذا كان متعهدا له حسن القيام به. ومنه: ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان
(١). حمل الزمخشري الرضا على الارادة، والعباد على العموم... الخ» قال أحمد: إن المصر على هذا المعتقد على قلبه رين، أو في ميزان عقله غين، أليس يدعى أو يدعى له أنه الخريت في مغاثر العبارات، وبديع الزمان في صناعة البديع، فكيف نبا عن جادة الا جادة فهما، وأعار منادى الحذاقة أذنا صما، اللهم إلا أن يكون الهوى إذا تمكن أرى الباطل حقا، وغطى سنى مكشوف العبارة فسحقا سحقا، أليس مقتضى العربية فضلا عن القوانين العقلية أن المشروط مرتب على الشرط، لا يتصور وجود المشروط قبل الشرط عقلا، ولا مضيه واستقبال الشرط لغة وعقلا، واستقر باتفاق الفريقين أهل السنة وشيعة البدعة: أن إرادة الله تعالى لشكر عباده مثلا مقدمة على وجود الشكر منهم، فحينئذ كيف ساغ حمل الرضا على الارادة، وقد جعل في الآية مشروطا وجزاء، وجعل وقوع الشكر شرطا ومجزيا، واللازم من ذلك عقلا: تقدم المراد وهو الشكر، على الارادة وهي الرضا، ولغة: تقدم المشروط على الشرط. والزمخشري أخص من قال: إن المشروط متى كان ماضيا محضا لزمته ألفا. وقد، كقولك: إن تكر منى فقد أكرمتك قبل، وقد عريت الآية عن الحرفين المذكورين، على أنه لا بد من تأويل يصحح الشرطية مع ذلك فإذا ثبت بطلان حمل الرضا على الارادة عقلا ونقلا، تعين التماس المحمل الصحيح له، وهو المجازاة على الشكر بما عهد أن يجازى به المرضى عنه من الثواب والكرامة، فيكون معنى الآية- والله أعلم-: وإن تشكروا يجازكم على شكركم جزاء المرضى عنه، ولا شك أن المجازاة مستقبلة بالنسبة إلى الشكر، فجرى الشرط والجزاء على مقتضاهما لغة، وانتظم ذلك بمقتضى الأدلة العقلية على بطلان تقدم المراد على الارادة عقلا، ومثل هذا يقدر في قوله وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ أى لا يجازى غير الكافر مجازاة المغضوب عليه من النكال والعقوبة.
(٢). قوله «لينبت لله تعالى... الخ» إنما يتم لو كان الرضاء بمعنى الارادة، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة: هو غيرها، فكفر الكافر مراد غير مرضى، وعند المعتزلة: غير مراد ولا مرضى. (ع)
(٣).
الحمد لله الوهوب المجزل أعطى فلم يبخل ولم يبخل
كوم الذرى من خول المخول
الوهوب: الوهاب. والمجزل: المكثر العطاء، وبينه بقوله: أعطى السائلين فلم يبخل عليهم، ولم يبخل: مشدد مبنى للمجهول، أى: لم يتهم بالبخل. وقيل: هو توكيد. ويروى بناؤه للفاعل، أى لم يجعل من أعطاهم بخلاء، بل جعلهم كرماء. وكوم الذرى: نصب بأعطى، أى: نوقا عظيمات السنام. والكوم: جمع كوماء. والذرى:
جمع ذروة. والمخول بالتشديد المعطي، وهو الله عز وجل.
115
يتخول أصحابه بالموعظة «١» والثاني: جعله يخول من خال يخول إذا اختال وافتخر، وفي معناه قول العرب:
إنّ الغنىّ طويل الذّيل ميّاس
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٨]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨)
ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ أى نسى الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه. وقيل: نسى ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه، وما بمعنى من، كقوله تعالى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وقرئ:
ليضل، بفتح الباء وضمها، بمعنى أنّ نتيجة جعله لله أندادا ضلاله عن سبيل الله أو إضلاله.
والنتيجة: قد تكون غرضا في الفعل، وقد تكون غير غرض. وقوله تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ من باب الخذلان والتخلية، كأنه قليل له: إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة، فمن حقك ألا تؤمر به بعد ذلك، وتؤمر بتركه: مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه. لأنه لا مبالغة في الخذلان، لأن أشدّ من أن يبعث على عكس ما أمر به. ونظيره في المعنى قوله مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٩]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)
قرئ. أمن هو قانت بالتخفيف على إدخال همزة الاستفهام على من، وبالتشديد على إدخال «أم» عليه. ومن مبتدأ خبره محذوف، تقديره: أمن هو قانت كغيره، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه، وهو جرى ذكر الكافر قبله. وقوله بعده قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وقيل: معناه أمن هو قانت أفضل أمن هو كافر. أو أهذا أفضل أمن هو قانت على الاستفهام المتصل. والقانت: القائم بما يجب عليه من الطاعة. ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «أفضل الصلاة طول القنوت» «٢» وهو القيام فيها. ومنه القنوت في الوتر، لأنه دعاء المصلى
(١). متفق عليه من حديث ابن مسعود وأتم منه.
(٢). أخرجه مسلم من طريق أبى الزبير عن جابر. ورواه الطحاوي من هذا الوجه بلفظ «طول القيام» وكذا هو في حديث عبد الله بن جعفر بلفظ «سئل أى الصلاة أفضل؟ قال: طول القيام».
قائما ساجِداً حال. وقرئ: ساجد وقائم، على أنه خبر بعد خبر، والواو للجمع بين الصفتين.
وقرئ: ويحذر عذاب الآخرة. وأراد بالذين يعلمون: العاملين من علماء الديانة، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم، ثم لا يقتنون ويفتنون، ثم يفتنون بالدنيا، فهم عند الله جهلة، حيث جعل القانتين هم العلماء، ويجوز أن يرد على سبيل التشبيه، أى: كما لا يستوي العالمون والجاهلون، كذلك لا يستوي القانتون والعاصون. وقيل نزلت في عمار بن ياسر رضى الله عنه وأبى حذيفة بن المغيرة المخزومي. وعن الحسن أنه سئل عن رجل يتمادى في المعاصي ويرجو «١»، فقال: هذا تمنّ، وإنما الرجاء قوله: وتلا هذه الاية.
وقرى: إنما يذكر، بالإدغام.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١٠]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠)
فِي هذِهِ الدُّنْيا متعلق بأحسنوا لا بحسنة، معناه: الذين أحسنوا في هذه الدنيا فلهم حسنة في الآخرة. وهي دخول الجنة، أى: حسنة غير مكتنهة بالوصف. وقد علقه السدى بحسنة، ففسر الحسنة بالصحة والعافية. فإن قلت: إذا علق الظرف بأحسنوا فإعرابه ظاهر، فما معنى تعليقه بحسنة؟ ولا يصح أن يقع صفة لها لتقدمه. قلت: هو صفة لها إذا تأخر، فإذا تقدم كان بيانا لمكانها فلم يخل التقدم بالتعلق، وإن لم يكن التعلق وصفا ومعنى وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ أن لا عذر للمفرطين في الإحسان البتة، حتى إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفر على الإحسان، وصرف الهمم إليه قيل لهم: فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة، فلا تجتمعوا مع العجز، وتحوّلوا إلى بلاد أخر، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم.
وقيل: هو الذين كانوا في بلد المشركين فأمروا بالمهاجرة عنه، كقوله تعالى أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها وقيل: هي أرض الجنة. والصَّابِرُونَ الذين صبروا على مفارقة
(١). قال محمود: «سئل الحسن عمن يتمادى على المعاصي ويرجو... الخ» قال أحمد: كلام الحسن رضى الله عنه صحيح غير منزل على كلام الزمخشري بقرينة حاله، فان الحسن أراد أن المتمادى على المعصية مصرا عليها غير تائب إذا غلب رجاؤه خوفه كان متمنيا، لأن اللائق بهذا أن يغلب خوفه رجاؤه، ولم يرد الحسن إقناط هذا من رحمة الله تعالى وحاشاه، وأما قرينة حال الزمخشري فإنها تم على ما أضمره من إيراد هذه المقالة، فان معتقده أن مثل هذا العاصي وإن كان موحدا يجب خلوده في نار جهنم، ولا معنى لرجائه، ولتنميته صحة هذا المعتقد أورد مقالة الحسن كالتزام إلى تتميم هذه النزعة، وعما قليل يقرع سمعه ما في أنباء هذه السورة.
أوطانهم وعشائرهم، وعلى غيرها. من تجرّع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وازدياد الخير بِغَيْرِ حِسابٍ لا يحاسبون عليه. وقيل: بغير مكيال وغير ميزان يغرف لهم غرفا، وهو تمثيل للتكثير. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: لا يهتدى إليه حساب الحساب ولا يعرف.
وعن النبىّ صلى الله عليه وسلم: «ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين. ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان، ويصب عليهم الأجر صبا، قال الله تعالى إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أنّ أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل» «١».
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١١ الى ١٥]
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ بإخلاص الدين وَأُمِرْتُ بذلك لأجل لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ أى مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة. ولمعنى: أنّ الإخلاص له السبقة في الدين، فمن أخلص كان سابقا. فإن قلت: كيف عطف أُمِرْتُ على أُمِرْتُ وهما واحد «٢» ؟ قلت: ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أنّ الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شيء، وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين
(١). أخرجه الثعلبي وابن مردويه، من حديث أنس رضى الله عنه. وإسناده ضعيف جدا. وأورده أبو نعيم في الحلية في ترجمة جابر بن زيد عن الطبراني. وهو في معجمه بإسناده إلى قتادة عن جابر بن زيد عن ابن عباس رضى الله عنهما مختصرا.
(٢). قال محمود: «فان قلت: كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد، وأجاب بأنه ليس بتكرير... الخ» قال أحمد: ولقد أحسن في تقوية هذا المعنى في هذه الآية بقوله فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دونه فان مقابلته بعدم الحصر توجب كونه للحصر، والله أعلم. وما أحسن ما بين وجوه المبالغة في وصف الله تعالى لفظاعة خسرانهم فقال:
استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه، ووسط الفصل بين المبتدإ والخبر، وعرف الخسران ونعته بالمبين، وبين في تسمية الشيطان طاغوتا وجوها ثلاثة من المبالغة، أحدها: تسمينه بالمصدر كأنه نفس الطغيان، الثاني: بناؤه على فعلوت وهي صيغة مبالغة كالرحموت، وهي الرحمة الواسعة والملكوت وشبهه. الثالث: تقديم لامه على عينه ليفيد اختصاص الشيطان بهذه التسمية.
ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت لأن أفعل، ولا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوّض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع، والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ وأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وفي معناه أوجه: أن أكون أوّل من أسلم في زماني ومن قومي، لأنه أول من خالف دين آبائه وخلع الأصنام وحطمها. وأن أكون أوّل الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما. وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره، لأكون مقتدى بى في قولي وفعلى جميعا، ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الأوّلية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب يعنى: أن الله أمرنى أن أخلص له الدين من الشرك والرياء وكلّ شوب، بدليل العقل والوحى.
فإن عصيت ربى بمخالفة الدليلين، استوجبت عذابه فلا أعصيه ولا أتابع أمركم، وذلك حين دعوه إلى دين آبائه. فإن قلت: ما معنى التكرير في قوله قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وقوله قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي قلت: ليس بتكرير، لأنّ الأوّل إخبار بأنه مأمور من جهة الله بإحداث العبادة والإخلاص. والثاني: إخبار بأنه يختص الله وحده دون غيره بعبادته مخلصا له دينه، ولدلالته على ذلك قدّم المعبود على فعل العبادة وأخره في الأوّل فالكلام أوّلا واقع في الفعل نفسه وإيجاده، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه قوله فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير: المبالغة في الخذلان والتخلية، على ما حققت فيه القول مرتين. قل إنّ الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه وأسبابه: هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لوقوعها في هلكة لا هلكة بعدها وَخسروا أَهْلِيهِمْ لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده إليهم. وقيل: وخسروهم «١» لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، يعنى: وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم لو آمنوا، ولقد وصف خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ حيث استأنف الجملة وصدرها بحرف التنبيه، ووسط الفصل بين المبتدأ والخبر، وعرف الخسران ونعته بالمبين.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١٦]
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦)
(١). قوله «وخسروهم» لعله «خسروهم» بدون واو. (ع)
وَمِنْ تَحْتِهِمْ أطباق من النار هي ظُلَلٌ لآخرين ذلِكَ العذاب هو الذي يتوعد الله بِهِ عِبادَهُ ويخوّفهم، ليجتنبوا ما يوقعهم فيه يا عِبادِ فَاتَّقُونِ ولا تتعرّضوا لما يوجب سخطى، وهذه عظة من الله تعالى ونصيحة بالغة. وقرئ: يا عبادي.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٧ الى ١٨]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨)
الطَّاغُوتَ فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت، إلا أن فيها قلبا بتقديم اللام على العين، أطلقت على الشيطان أو الشياطين، لكونها مصدرا وفيها مبالغات، وهي التسمية بالمصدر، كأن عين الشيطان طغيان، وأنّ البناء بناء مبالغة، فإنّ الرحموت: الرحمة الواسعة، والملكوت: الملك المبسوط، والقلب وهو للاختصاص، إذ لا تطلق على غير الشيطان، والمراد بها هاهنا الجمع. وقرئ: الطواغيت أَنْ يَعْبُدُوها بدل من الطاغوت بدل الاشتمال لَهُمُ الْبُشْرى هي البشارة بالثواب، كقوله تعالى هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
الله عزّ وجل يبشرهم بذلك في وحيه على ألسنة رسله، وتتلقاهم الملائكة عند حضور الموت مبشرين، وحين يحشرون. قال الله تعالى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ وأراد بعباده الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم، وإنما أراد بهم أن يكونوا مع الاجتناب والإنابة على هذه الصفة، فوضع الظاهر موضع الضمير، وأراد أن يكونوا نقادا في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران: واجب وندب، اختاروا الواجب، وكذلك المباح والندب، حرّاصا على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثوابا، ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها عند السبر «١»، وأبينها دليلا أو أمارة، وأن لا تكون في مذهبك، كما قال القائل:
ولا تكن مثل عير قيد فانقادا «٢»
(١). قال محمود: «يدخل تحت هذا المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها عند السبر... الخ» قال أحمد: لقد كنت أطمع لعله رجع عما ضمن هذا الكتاب من المذاهب الرديئة والمعتقدات الفاسدة، حتى حققت من كلامه هذا أن ذلك التصميم كان متمكنا من فؤاده الصميم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.
(٢).
شمر وكن في أمور الدين مجتهدا ولا تكن مثل عير قيد فانقادا
للزمخشري. تشمير الثياب عن الساعد: كناية عن ترك الكسل، ثم قال: واجتهد في أحكام الدين ولا تقلد غيرك، فتكون مثل حمار قاده الشخص فانقاد وطاوعه أينما يوجهه. ويحتمل أن المعنى: اجتهد في العمل ولا تطع الشيطان.
يريد المقلد، وقيل: يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن. وقيل: يستمعون أوامر الله فيتبعون أحسنها، نحو القصاص والعفو، والانتصار والإغضاء، والإبداء والإخفاء لقوله تعالى وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساو، فيحدّث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه. ومن الوقفة من يقف على: فبشر عبادي، ويبتدئ: الذين يستمعون، يرفعه على الابتداء، وخبره أُولئِكَ.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ١٩]
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)
أصل الكلام: أمّن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه، جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار والفاء فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أوّلها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب، تقديره:
أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه العذاب فأنت تنقذه، والهمزة الثانية هي الأولى، كرّرت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع مَنْ فِي النَّارِ موضع الضمير، فالآية على هذا جملة واحدة. ووجه آخر: وهو أن تكون الآية جملتين: أفمن حق عليه العذاب فأنت تخلصه؟ أفأنت تنقذ من في النار؟ وإنما جاز حذف: فأنت تخلصه، لأن أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ يدل عليه: نزل استحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار، حتى نزل اجتهاد رسول الله ﷺ وكدّه نفسه في دعائهم إلى الإيمان: منزلة إنقاذهم من النار. وقوله أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ يفيد أنّ الله تعالى هو الذي يقدر على الإنقاذ من النار وحده، لا يقدر على ذلك أحد غيره، فكما لا تقدر أنت أن تنقذ الداخل في النار من النار، لا تقدر أن تخلصه مما هو فيه من استحقاق العذاب بتحصيل الإيمان فيه.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٠]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)
غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ علالي بعضها فوق بعض. فإن قلت: ما معنى قوله مَبْنِيَّةٌ؟
قلت: معناه- والله أعلم-: أنها بنيت بناء المنازل التي على الأرض وسوّيت تسويتها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كما تجرى من تحت المنازل، من غير تفاوت بين العلوّ والسفل وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد، لأنّ قوله لهم غرف في معنى، وعدهم الله ذلك.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢١]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١)
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر. وقيل: كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة، ثم يقسمه الله فَسَلَكَهُ فأدخله ونظمه يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ عيونا ومسالك ومجارى كالعروق في الأجساد مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ هيئاته من خضرة وحمرة وصفرة وبياض وغير ذلك، وأصنافه من برّ وشعير وسمسم وغيرها يَهِيجُ يتم جفافه، عن الأصمعى، لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منابته ويذهب حُطاماً فتاتا ودرينا «١» إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لتذكيرا وتنبيها، على أنه لا بدّ من صانع حكيم، وأن ذلك كائن عن تقدير وتدبير، لا عن تعطيل وإهمال.
ويجوز أن يكون مثلا للدنيا، كقوله تعالى إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا. وقرئ: مصفارّا.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٢]
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢)
أَفَمَنْ عرف الله أنه من أهل اللطف فلطف به حتى انشرح صدره للإسلام ورغب فيه وقبله كمن لا لطف له فهو حرج الصدر قاسى القلب، ونور الله: هو لطفه، وقرأ رسول الله ﷺ هذه الآية فقيل يا رسول الله: كيف انشراح الصدر؟ قال «إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح «٢» فقيل: يا رسول الله، فما علامة ذلك؟ قال «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت» وهو نظير قوله: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ في حذف الخبر مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ من أجل ذكره، أى: إذا ذكر الله عندهم أو آياته اشمأزوا وازدادت قلوبهم قساوة، كقوله تعالى فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وقرئ: عن ذكر الله.
فإن قلت: ما الفرق بين من وعن في هذا؟ «قلت» : إذا قلت: قسا قلبه من ذكر الله، فالمعنى ما ذكرت، من أن القسوة من أجل الذكر وبسببه، وإذا قلت: عن ذكر الله، فالمعنى: غلظ عن قبول الذكر وجفا عنه. ونظيره: سقاه من العيمة، أى من أجل عطشه، وسقاه عن العيمة:
إذا أرواه حتى أبعده عن العطش.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٣]
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣)
(١). قوله «فتاتا ودرينا» في الصحاح «الدرين» : خطام المرعى إذا قدم، وهو ما يلي من الحشيش. (ع)
(٢). أخرجه الثعلبي والحاكم والبيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود. وفيه أبو فروة الرهاوي فيه كلام.
ورواه الترمذي الحكيم في النوادر في الأصل السادس والثمانين. وفي إسناده إبراهيم بن [بياض بالأصل.] وهو ضعيف. [.....]
122
عن ابن مسعود رضى الله عنه: أنّ أصحاب رسول الله ﷺ ملوا ملة، فقالوا له: حدثنا فنزلت، وإيقاع اسم الله مبتدأ وبناء نَزَّلَ عليه: فيه تفخيم لأحسن الحديث، ورفع منه، واستشهاد على حسنه، وتأكيد لاستناده إلى الله وأنه من عنده، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه، وتنبيه على أنه وحى معجز مباين لسائر الأحاديث. وكِتاباً بدل من أحسن الحديث. ويحتمل أن يكون حالا منه ومُتَشابِهاً مطلق في مشابهة بعضه بعضا، فكان متناولا لتشابه معانيه في الصحة والإحكام، والبناء على الحق والصدق ومنفعة الخلق، وتناسب ألفاظه وتناصفها في التخير والإصابة، وتجاوب نظمه وتأليفه في الإعجاز والتبكيت، ويجوز أن يكون مَثانِيَ بيانا لكونه متشابها، لأن القصص المكررة لا تكون إلا متشابهة. والمثاني جمع مثنى بمعنى مردّد ومكرّر، ولما ثنى من قصصه وأنبائه، وأحكامه، وأوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ومواعظه. وقيل: لأنه يثنى في التلاوة، فلا يمل كما جاء في وصفه لا يتفه ولا يتشان «١» ولا يخلق على كثرة الرّد. ويجوز أن يكون جمع مثنى مفعل، من التثنية بمعنى التكرير. والإعادة كما كان قوله تعالى ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ بمعنى كرّة بعد كرّة، وكذلك: لبيك وسعديك، وحنانيك. فإن قلت: كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت: إنما صحّ ذلك لأنّ الكتاب جملة ذات تفاصيل، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير. ألا تراك تقول: القرآن أسباع وأخماس، وسور وآيات، وكذلك تقول: أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات، ونظيره قولك: الإنسان عظام وعروق وأعصاب، إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة، وأصله: كتابا متشابها فصولا مثاني. ويجوز أن يكون كقولك: برمة أعشار، وثوب أخلاق. ويجوز أن لا يكون مثاني صفة، ويكون منتصبا على التمييز من متشابها، كما تقول: رأيت رجلا حسنا شمائل، والمعنى: متشابهة مثانيه. فإن قلت: ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت، النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة، فما لم يكرر عليها عودا عن بدء لم يرسخ فيها ولم يعمل عمله، ومن ثم كانت عادة رسول الله ﷺ أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات وسبعا، «٢» ليركزه في قلوبهم
(١). قوله «لا يتفه ولا يتشان» في الصحاح «التافه» : الحقير اليسير: وفيه تشانت القربة: أخلقت، وتشان الجلد: يبس وتشنج. (ع)
(٢). لم أجده. وفي البخاري عن أنس رضى الله عنه «كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا- الحديث» وزاد أحمد «وكان يستأذن ثلاثا».
123
ويغرسه في صدورهم. اقشعر الجلد: إذا تقبض تقبضا شديدا، وتركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس، مضموما إليها حرف رابع وهو الراء، ليكون رباعيا ودالا على معنى زائد. يقال: اقشعر جلده من الخوف وقف شعره، «١» وهو مثل في شدّة الخوف، فيجوز أن يريد به الله سبحانه التمثيل، تصويرا لإفراط خشيتهم، وأن يريد التحقيق. والمعنى: أنهم إذا سمعوا بالقرآن وبآيات وعيده: أصابتهم خشية تقشعر منها جلودهم، ثم إذا ذكروا الله ورحمته وجوده بالمغفرة: لانت جلودهم وقلوبهم وزال عنها ما كان بها من الخشية والقشعريرة.
فإن قلت: ما وجه تعدية «لان» بإلى؟ قلت: ضمن معنى فعل متعدّ بإلى، كأنه قيل: سكنت. أو اطمأنت إلى ذكر الله لينة غير متقبضة، راجية غير خاشية. فإن قلت: لم اقتصر على ذكر الله من غير ذكر الرحمة؟ قلت: لأنّ أصل أمره الرحمة والرأفة، ورحمته هي سابقة غصبه، فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال قبل كل شيء من صفاته إلا كونه رءوفا رحيما. فإن قلت: لم ذكرت الجلود وحدها أوّلا، ثم قرنت بها القلوب ثانيا؟ قلت: إذا ذكرت الخشية التي محلها القلوب، فقد ذكرت القلوب، فكأنه قيل: تقشعر جلودهم من آيات الوعيد، وتخشى قلوبهم في أوّل وهلة، فإذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والمرحمة: استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، وبالقشعريرة لينا في جلودهم ذلِكَ إشارة إلى الكتاب، وهو هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ يوفق به من يشاء، يعنى: عباده المتقين، حتى يخشوا تلك الخشية ويرجوا ذلك الرجاء، كما قال: هدى للمتقين وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ ومن يخذله من الفساق «٢» والفجرة فَما لَهُ مِنْ هادٍ أو ذلك الكائن من الخشية والرجاء هدى الله، أى: أثر هداه وهو لطفه، فسماه هدى لأنه حاصل بالهدى يَهْدِي بِهِ بهذا الأثر من يشاء من عباده، يعنى: من صحب أولئك ورءاهم خاشين راجين، فكان ذلك مرغبا لهم في الاقتداء بسيرتهم وسلوك طريقتهم وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ: ومن لم يؤثر فيه ألطافه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره، فَما لَهُ مِنْ هادٍ من مؤثر فيه بشيء قط.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦)
(١). قوله «وقف شعره» أى: قام من الفزع، كذا في الصحاح. (ع)
(٢). قوله «ومن يخذله من الفساق» تأويل الضلال بذلك مبنى على مذهب المعتزلة أن الله لا يخلق الشر. وعند أهل السنة: أنه يخلقه كالخير، فالاضلال: خلق الضلال في القلب. (ع)
يقال: اتقاه بدرقته: استقبله بها فوقى بها نفسه إياه واتقاه بيده. وتقديره: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ كمن أمن العذاب «١»، فحذف الخبر كما حذف في نظائره: وسوء العذاب:
شدّته. ومعناه: أن الإنسان إذا لقى مخوفا من المخاوف استقبله بيده، وطلب أن يقي بها وجهه، لأنه أعز أعضائه عليه والذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه، فلا يتهيأ له أن يتقى النار إلا بوجهه الذي كان يتقى المخاوف بغيره، وقاية له ومحاماة عليه. وقيل: المراد بالوجه الجملة، وقيل: نزلت في أبى جهل. وقال لهم خزنة النار ذُوقُوا وبال ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ......
مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من الجهة التي لا يحتسبون، ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها، بينا هم آمنون رافهون إذ فوجئوا من مأمنهم. والخزي: الذل والصغار، كالمسخ والخسف والقتل والجلاء، وما أشبه ذلك من نكال الله.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨)
قُرْآناً عَرَبِيًّا حال مؤكدة كقولك: جاءني زيد رجلا صالحا وإنسانا عاقلا. ويجوز أن ينتصب على المدح غَيْرَ ذِي عِوَجٍ مستقيما بريئا من التناقض والاختلاف. فإن قلت: فهلا قيل: مستقيما: أو غير معوج؟ قلت: فيه فائدتان، إحداهما: نفى أن يكون فيه عوج قط، كما قال: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً والثانية: أن لفظ العوج مختص بالمعاني دون الأعيان. وقيل:
المراد بالعوج: الشك واللبس. وأنشد:
وقد أتاك يقين غير ذى عوج من الإله وقول غير مكذوب «٢»
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٢٩]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩)
واضرب لقومك مثلا، وقل لهم: ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم
(١). قال محمود: «معناه كمن هو آمن، فحذف الخبر أسوة أمثله... الخ» قال أحمد: الملقى في النار والعياذ بالله، لم يقصد الاتقاء بوجهه، ولكنه لم يجد ما يتقى به النار غير وجهه، ولو وجد لفعل، فلما لقيها بوجهه كانت حاله حال المتقى بوجهه، فعبر عن ذلك بالاتقاء من باب المجاز التمثيلى، والله أعلم.
(٢). الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد باليقين والقول: القرآن. أو اليقين: الأسرار، والقول: القرآن. أو اليقين: القرآن، والقول: ما عداه من الأوامر والنواهي، و «من الاله» متعلق بأتاك. والمعنى:
أن ذاك من الشك واللبس، ومن الكذب، فالعوج: استعارة تصريحية.
اختلاف وتنازع: كل واحد منهم يدعى أنه عبده، فهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهن شتى ومشاده، وإذا عنت له حاجة تدافعوه، فهو متحير في أمره سادر، «١» قد تشعبت الهموم قلبه وتوزعت أفكاره، لا يدرى أيهم يرضى بخدمته؟ وعلى أيهم يعتمد في حاجاته. وفي آخر: قد سلم لمالك واحد وخلص له، فهو معتنق لما لزمه من خدمته، معتمد عليه فيما يصلحه، فهمه واحد وقلبه مجتمع، أى هذين العبدين أحسن حالا وأجمل شأنا؟ والمراد: تمثيل حال من يثبت آلهة شتى، وما يلزمه على قضية مذهبه من أن يدعى كل واحد منهم عبوديته، ويتشاكسوا في ذلك ويتغالبوا، كما قال تعالى وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ويبقى هو متحيرا ضائعا لا يدرى أيهم يعبد؟
وعلى ربوبية أيهم يعتمد؟ وممن يطلب رزقه؟ وممن يلتمس رفقه؟ فهمه شعاع، «٢» وقلبه أوزاع، وحال من لم يثبت إلا إلها واحدا، فهو قائم بما كلفه، عارف بما أرضاه وما أسخطه، متفضل عليه في عاجله، مؤمل للثواب في آجله. وفِيهِ صلة شركاء، كما تقول: اشتركوا فيه. والتشاكس والتشاخس: الاختلاف، تقول: تشاكست أحواله، وتشاخست أسنانه سَلَماً لِرَجُلٍ خالصا. وقرئ: سلما، بفتح الفاء والعين، وفتح الفاء وكسرها مع سكون العين، وهي مصادر سلم. والمعنى: ذا سلامة لرجل، أى: ذا خلوص له من الشركة، من قولهم: سلمت له الضيعة.
وقرئ بالرفع على الابتداء، أى: وهناك رجل سالم لرجل، وإنما جعله رجلا ليكون أفطن لما شقى به أو سعد، فإن المرأة والصبى قد يغفلان عن ذلك هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا هل يستويان:
صفة على التمييز. والمعنى: هل يستوي صفتاهما وحالاهما، وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس. وقرئ: مثلين، كقوله تعالى وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً مع قوله أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ويجوز فيمن قرأ: مثلين، أن يكون الضمير في يَسْتَوِيانِ للمثلين، لأن التقدير: مثل رجل ومثل رجل. والمعنى: هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية، كما تقول: كفى بهما رجلين الْحَمْدُ لِلَّهِ الواحد الذي لا شريك له دون كل معبود سواه، أى: يجب أن يكون الحمد متوجها إليه وحده والعبادة، فقد ثبت أنه لا إله إلا هو بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فيشركون به غيره.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣)
(١). قوله «في أمره سادر» في الصحاح «السادر» : المتحير. (ع)
(٢). قوله «فهمه شعاع... الخ» بالفتح أى متفرق. وقولهم: بها أوزاع من الناس، أى: جماعات كذا في الصحاح. (ع)
126
كانوا يتربصون برسول الله ﷺ موته، فأخبر أن الموت يعمهم، فلا معنى للتربص، وشماتة الباقي بالفاني. وعن قتادة: نعى إلى نبيه نفسه، ونعى إليكم أنفسكم: «١» وقرئ: مائت ومائتون «٢». والفرق بين الميت والمائت: أن الميت صفة لازمة كالسيد.
وأما المائت، فصفة حادثة. تقول: زيد مائت غدا، كما تقول: سائد غدا، أى سيموت وسيسود.
وإذا قلت: زيد ميت، فكما تقول: حى في نقيضه، فيما يرجع إلى اللزوم والثبوت. والمعنى في قوله إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ إنك وإياهم، وإن كنتم أحياء فأنتم في عداد الموتى، لأن ما هو كائن فكأن قد كان ثُمَّ إِنَّكُمْ ثم إنك وإياهم، فغلب ضمير المخاطب على ضمير الغيب تَخْتَصِمُونَ فتحتج أنت عليهم بأنك بلغت فكذبوا، فاجتهدت في الدعوة فلجوا في العناد، ويعتذرون بما لا طائل تحته، تقول الأتباع: أطعنا سادتنا وكبراءنا، وتقول السادات:
أغوتنا الشياطين وآباؤنا الأقدمون، وقد حمل على اختصام الجميع وأن الكفار يخاصم بعضهم بعضا، حتى يقال لهم: لا تختصموا لدىّ، والمؤمنون الكافرين يبكتونهم بالحجج، وأهل القبلة يكون بينهم الخصام. قال عبد الله بن عمر: لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية أنزلت فينا وفي أهل الكتاب؟ قلنا: كيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد وكتابنا واحد؟
حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها نزلت فينا «٣» وقال أبو سعيد الخدري: كنا نقول: ربنا واحد ونبينا واحد وديننا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشدّ بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم هو هذا «٤». وعن إبراهيم النخعي قالت الصحابة: ما خصومتنا ونحن إخوان؟ فلما قتل عثمان رضى الله عنه قالوا: هذه خصومتنا «٥».
وعن أبى العالية: نزلت في أهل القبلة. والوجه الذي يدل عليه كلام الله هو ما قدمت أولا.
ألا ترى إلى قوله تعالى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وقوله تعالى وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ وما هو إلا بيان وتفسير للذين يكون بينهم الخصومة كَذَبَ عَلَى اللَّهِ افترى عليه بإضافة
(١). قوله «ونعى إليكم أنفسكم» لعله: إليهم أنفسهم. (ع)
(٢). قال محمود: «قرئ: إنك ميت ومائت... الخ» قال أحمد: فاستعمال ميت مجاز، إذ الخطاب مع الأحياء واستعمال مائت حقيقة إذ لا يعطى اسم الفاعل وجود الفعل حال الخطاب. ونظيره قوله تعالى اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها يعنى: توفى الموت وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أى يتوفاها حين المنام، تشبيها للنوم بالموت، كقوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ فيمسك الأنفس التي قضى عليها الموت الحقيقي، أى: لا يردها في وقتها حية وَيُرْسِلُ الْأُخْرى أى النائمة إلى الأجل الذي سماه، أى قدره لموتها الحقيقي. هذا أوضح ما قيل في تفسير الآية، والله أعلم.
(٣). أخرجه الحاكم من رواية القاسم بن عوف عن ابن عمر رضى الله عنهما.
(٤). ذكره الثعلبي. قال: وروى خلف بن خليفة عن أبى هاشم عن الخدري.
(٥). أخرجه عبد الرزاق والطبري والثعلبي من رواية عبد الله بن عوف عن إبراهيم بهذا.
127
الولد والشريك إليه وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ بالأمر الذي هو الصدق بعينه، وهو ما جاء به محمد ﷺ إِذْ جاءَهُ فاجأه بالتكذيب لما سمع به من غير وقفة، لإعمال روية واهتمام بتمييز بين حق وباطل، كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أى لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق، واللام في لِلْكافِرِينَ إشارة إليهم.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥)
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاء بالصدق وآمن به، وأراد به إياه ومن تبعه، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ فلذلك قال أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ إلا أن هذا في الصفة وذاك في الاسم. ويجوز أن يريد: والفوج أو الفريق الذي جاء بالصدق وصدق به، وهم الرسول الذي جاء بالصدق، وصحابته الذين صدقوا به. وفي قراءة ابن مسعود: والذين جاءوا بالصدق وصدقوا به. وقرئ:
وصدق به. بالتخفيف، أى: صدق به الناس ولم بكذبهم به، يعنى: أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف. وقيل: صار صادقا به، أى: بسببه، لأنّ القرآن معجزة، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يده، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق، فيصير لذلك صادقا بالمعجزة، وقرئ: وصدّق به. فإن قلت: ما معنى إضافة الأسوإ والأحسن إلى الذي عملوا، وما معنى التفضيل فيهما؟ قلت: أما الإضافة فما هي من إضافة أفعل إلى الجملة التي يفضل عليها، ولكن من إضافة الشيء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل، كقولك: الأشج أعدل بنى مروان. وأما التفضيل فإيذان بأن السيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة، هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية، والحسن الذي يعملونه هو عند الله الأحسن، لحسن إخلاصهم فيه، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوإ وحسنهم بالأحسن. وقرئ: أسواء الذي عملوا جمع سوء.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ أدخلت همزة الإنكار على كلمة النفي، فأفيد معنى إثبات الكفاية وتقريرها. وقرئ: بكاف عبده، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبكاف عباده وهم الأنبياء، وذلك أن قريشا قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا، وإنا نخشى عليك معرّتها «١» لعيبك إياها. ويروى: أنه بعث خالدا إلى العزى ليكسرها، فقال له سادنها: أحذركها يا خالد، إن لها لشدّة لا يقوم لها شيء، فعمد خالد إليها فهشم أنفها. فقال الله عز وجل: أليس الله بكاف نبيه أن يعصمه من كل سوء ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف. وفي هذا تهكم بهم، لأنهم خوّفوه ما لا يقدر على نفع ولا ضر. أو أليس الله بكاف أنبياءه ولقد قالت أممهم نحو ذلك، فكفاهم الله وذلك قول قوم هود إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ويجوز أن يريد: العبد والعباد على الإطلاق، لأنه كافيهم في الشدائد وكافل مصالحهم. وقرئ: بكافى عباده، على الإضافة. ويكافي عباده، ويكافي: يحتمل أن يكون غير مهموز مفاعلة من الكفاية، كقولك: يجازى في يجزى، وهو أبلغ من كفى، لبنائه على لفظ المبالغة. والمباراة: أن يكون مهموزا، من المكافأة وهي المجازاة، لما تقدم من قوله وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ، بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ أراد: الأوثان التي اتخذوها آلهة من دونه بِعَزِيزٍ بغالب منيع ذِي انْتِقامٍ ينتقم من أعدائه، وفيه وعيد لقريش ووعد للمؤمنين بأنه ينتقم لهم منهم، وينصرهم عليهم.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٣٨]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨)
قرئ: كاشفات ضرّه، وممسكات رحمته بالتنوين على الأصل، وبالإضافة للتخفيف.
فإن قلت: لم فرض المسألة في نفسه دونهم؟ قلت: لأنهم خوّفوه معرّة الأوثان وتخبيلها، فأمر بأن يقرّرهم أوّلا بأنّ خالق العالم هو الله وحده. ثم يقول لهم بعد التقرير: فإذا أرادنى خالق العالم الذي أقررتم به بضرّ من مرض أو فقر أو غير ذلك من النوازل. أو برحمة من صحة أو غنى أو نحوهما، هل هؤلاء اللاتي خوّفتمونى إياهن كاشفات عنى ضره أو ممسكات رحمته، حتى إذا ألقمهم الحجر وقطعهم حتى لا يحيروا ببنت شفة قال حَسْبِيَ اللَّهُ كافيا لمعرّة أوثانكم عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ وفيه تهكم. ويروى أنّ النبي ﷺ سألهم فسكتوا، فنزل قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ
(١). قوله «معرتها» أى: إثمها. أفاده الصحاح. (ع) [.....]
فإن قلت. لم قيل: كاشفات، وممسكات، على التأنيث بعد قوله تعالى وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؟ قلت: أنثهن وكن إناثا وهن اللات والعزى ومناة. قال الله تعالى أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ليضعفها ويعجزها زيادة تضعيف وتعجيز عما طالبهم به من كشف الضر وإمساك الرحمة، لأنّ الأنوثة من باب للين والرخاوة، كما أنّ الذكورة من باب الشدّة والصلابة، كأنه قال: الإناث اللاتي هنّ اللات والعزى ومناة أضعف مما تدعون لهنّ وأعجز. وفيه تهكم أيضا.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠)
عَلى مَكانَتِكُمْ على حالكم التي أنتم عليها وجهتكم من العداوة التي تمكنتم منها. والمكانة بمعنى المكان، فاستعيرت عن العين للمعنى كما يستعار هنا. وحيث للزمان، وهما للمكان. فإن قلت: حق الكلام: فإنى عامل على مكانتى. فلم حذف؟ قلت: للاختصار، ولما فيه من زيادة الوعيد، والإيذان بأنّ حاله لا تقف، وتزداد كل يوم قوّة وشدّة، لأنّ الله ناصره ومعينه ومظهره على الدين كله. ألا ترى إلى قوله فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ كيف توعدهم بكونه منصورا عليهم غالبا عليهم في الدنيا والآخرة، لأنهم إذا أتاهم الخزي والعذاب فذاك عزه وغلبته، من حيث أن الغلبة تتم له بعز عزيز من أوليائه، وبذل ذليل من أعدائه يُخْزِيهِ مثل مقيم في وقوعه صفة للعذاب، أى: عذاب مخز له، وهو يوم بدر، وعذاب دائم وهو عذاب النار. وقرئ: مكاناتكم.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤١]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)
لِلنَّاسِ لأجلهم ولأجل حاجتهم إليه، ليبشروا وينذروا، فتقوى دواعيهم إلى اختيار الطاعة على المعصية. ولا حاجة لي إلى ذلك فأنا الغنى، فمن اختار الهدى فقد نفع نفسه، ومن اختار الضلالة فقد ضرها. وما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى، فإنّ التكليف مبنى على الاختيار دون الإجبار.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٢]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢)
الْأَنْفُسَ الجمل كما هي. وتوفيها: إماتتها، وهو أن يسلب ما هي به حية حساسة درّاكة:
من صحة أجزائها وسلامتها، لأنها عند سلب الصحة كأن ذاتها قد سلبت وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها يريد ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، أى: يتوفاها حين تنام، تشبيها للنائمين بالموتى.
ومنه قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أنّ الموتى كذلك فَيُمْسِكُ الأنفس الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ الحقيقي، أى: لا يردّها في وقتها حية وَيُرْسِلُ الْأُخْرى النائمة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى وقت ضربه لموتها. وقيل: يتوفى الأنفس يستوفيها ويقضيها، وهي الأنفس التي تكون معها الحياة والحركة، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وهي أنفس التمييز. قالوا: فالتي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة، لأنّ نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس، والنائم يتنفس. ورووا عن ابن عباس رضى الله عنهما في ابن آدم «نفس وروح» بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل والتمييز والروح التي بها النفس والتحرك، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه» «١» والصحيح ما ذكرت أوّلا، لأنّ الله عز وعلا علق التوفي والموت والمنام جميعا بالأنفس، وما عنوا بنفس الحياة والحركة ونفس العقل والتمييز غير متصف بالموت والنوم، وإنما الجملة هي التي تموت وهي التي تنام إِنَّ فِي ذلِكَ إن في توفى الأنفس مائتة ونائمة وإمساكها وإرسالها إلى أجل لآيات على قدرة الله وعلمه، لقوم يجيلون فيه أفكارهم ويعتبرون. وقرئ: قضى عليها الموت، على البناء للمفعول.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤)
أَمِ اتَّخَذُوا بل اتخذ قريش، والهمزة للإنكار مِنْ دُونِ اللَّهِ من دون إذنه شُفَعاءَ حين قالوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. ألا ترى إلى قوله تعالى قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً أى هو مالكها، فلا يستطيع أحد شفاعة إلا بشرطين: أن يكون المشفوع له مرتضى، وأن يكون الشفيع مأذونا له. وهاهنا الشرطان مفقودان جميعا أَوَلَوْ كانُوا معناه: أيشفعون ولو كانوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ أى: ولو كانوا على هذه الصفة لا يملكون شيأ قط، حتى يملكوا الشفاعة ولا عقل لهم لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
(١). لم أجده.
تقرير لقوله تعالى لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لأنه إذا كان له الملك كله والشفاعة من الملك، كان مالكا لها. فإن قلت: بم يتصل قوله ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ قلت: بما يليه، معناه: له ملك السماوات والأرض اليوم ثم إليه ترجعون يوم القيامة، فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلا له. فله ملك الدنيا والآخرة.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٥]
وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥)
مدار المعنى على قوله وحده، أى: إذا أفرد الله بالذكر ولم يذكر معه آلهتهم اشمأزوا، أى:
نفروا وانقبضوا وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وهم آلهتهم ذكر الله معهم أو لم يذكر استبشروا، لافتتانهم بها ونسيانهم حق الله إلى هو أهم فيها. وقيل: إذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له نفروا، لأن فيه نفيا لآلهتهم. وقيل: أراد استبشارهم بما سبق إليه لسان رسول الله ﷺ من ذكر آلهتهم حين قرأ «والنجم» عند باب الكعبة، فسجدوا معه لفرحهم، ولقد تقابل الاستبشار والاشمئزاز، إذ كل واحد منهما غاية في بابه، لأنّ الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه ويتهلل. والاشمئزاز: أن يمتلئ غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه. فإن قلت: ما العامل في إِذا ذُكِرَ؟ قلت: العامل في إذا المفاجأة، تقديره وقت ذكر الذين من دونه، فاجئوا وقت الاستبشار.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٦]
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦)
بعل «١» رسول الله ﷺ بهم، وبشدّة شكيمتهم في الكفر والعناد، فقيل له:
ادع الله بأسمائه العظمى، وقل: أنت وحدك تقدر على الحكم بيني وبينهم، ولا حيلة لغيرك فيهم. وفيه وصف لحالهم وإعذار لرسول الله ﷺ وتسلية له ووعيد لهم. وعن الربيع بن خثيم «٢» وكان قليل الكلام. أنه أخبر بقتل الحسين- رضى الله عنه، وسخط على قاتله- وقالوا: الآن يتكلم، فما زاد على أن قال: آه أوقد فعلوا؟ وقرأ هذه الآية. وروى أنه قال على أثره: قتل من كان رسول الله ﷺ يجلسه في حجره ويضع فاه على فيه.
(١). قوله «بعل رسول الله» في الصحاح: «بعل الرجل» بالكسر، أى: دهش. (ع)
(٢). قوله «وعن الربيع بن خثيم» في النسفي: خيثم. (ع)

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]

وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨)
وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ وعيد لهم لا كنه لفظاعته وشدّته، وهو نظير قوله تعالى في الوعد فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ والمعنى: وظهر لهم من سخط الله وعذابه ما لم يكن قط في حسابهم ولم يحدءوا به نفوسهم. وقيل: عملوا أعمالا حسبوها حسنات، فإذا هي سيئات. وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء. وجزع محمد بن المنكدر عند موته فقيل له، فقال: أخشى آية من كتاب الله، وتلاها، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أحتسبه وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا أى سيئات أعمالهم التي كسبوها. أو سيئات كسبهم، حين تعرض صحائفهم، وكانت خافية عليهم، كقوله تعالى أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ أو أراد بالسيآت:
أنواع العذاب التي يجازون بها على ما كسبوا، فسماها سيئات، كما قال وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها.
وَحاقَ بِهِمْ ونزل بهم وأحاط جزاء هزئهم.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٤٩]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩)
التخويل: مختص بالتفضل. يقال: خولني، إذا أعطاك على غير جزاء عَلى عِلْمٍ أى على علم منى أنى سأعطاه، لما فىّ من فضل واستحقاق. أو على علم من الله بى وباستحقاقى «١» أو على علم منى بوجوه الكسب، كما قال قارون عَلى عِلْمٍ عِنْدِي. فإن قلت: لم ذكر الضمير في أُوتِيتُهُ وهو للنعمة؟ قلت: ذهابا به إلى المعنى، لأنّ قوله نِعْمَةً مِنَّا شيئا من النعم وقسما منها. ويحتمل أن تكون «ما» في إنما موصولة لا كافة، فيرجع إليها الضمير. على معنى: أن الذي أوتيته على علم بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ إنكار لقوله كأنه قال: ما خوّلناك ما خولناك من النعمة لما تقول،
(١). قال محمود: «معناه على علم من الله بى وباستحقاقى... الخ» قال أحمد: كذلك يقول على قدرى تمنى على الله أن يثيبه في الآخرة: أن الفرق بين حمد الدنيا وحمد الآخرة أن حمد الدنيا واجب على العبد، لأنه على نعمة متفضل بها، وحمد الآخرة ليس بواجب عليه، لأنه على نعمة واجبة على الله عز وجل، ولقد صدق الله إذ يقول: وهي فتنة إنما سلم منها أهل السنة، إذ يعتقدون أن الثواب بفضل الله وبرحمته لا باستحقاق، ويتبعون في ذلك قول سيد البشر صلى الله عليه وسلم: لا يدخل أحد الجنة بعمله. قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته، فما أحمق من منى نفسه وركب رأسه، وطمع أنه يستحق على الله الجنة.
133
بل هي فتنة، أى: ابتلاء وامتحان لك، أتشكر أم تكفر؟ فإن قلت: كيف ذكر الضمير ثم أنثه؟ قلت: حملا على المعنى أوّلا، وعلى اللفظ آخرا، ولأن الخبر لما كان مؤنثا أعنى فِتْنَةٌ ساغ تأنيث المبتدإ لأجله لأنه في معناه، كقولهم: ما جاءت حاجتك. وقرئ: بل هو فتنة على وفق إِنَّما أُوتِيتُهُ. فإن قلت: ما السبب في عطف هذه الآية بالفاء وعطف مثلها في أوّل السورة بالواو؟ قلت:
السبب في ذلك أنّ هذه وقعت مسببة عن قوله وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ «١» وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ على معنى أنهم يشمئزون عن ذكر الله ويستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مس أحدهم ضر دعا من اشمأزّ من ذكره، دون من استبشر بذكره، وما بينهما من الاى اعتراض. فإن قلت: حق الاعتراض أن يؤكد المعترض بينه وبينه «٢». قلت: ما في الاعتراض من دعاء رسول الله ﷺ ربه بأمر منه وقوله أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ ثم ما عقبه من الوعيد العظيم: تأكيد لإنكار اشمئزازهم واستبشارهم ورجوعهم إلى الله في الشدائد دون آلهتهم، كأنه قيل: قل يا رب لا يحكم بيني وبين هؤلاء الذين يجترءون عليك مثل هذه الجرأة، ويرتكبون مثل هذا المنكر إلا أنت. وقوله وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا متناول لهم ولكل ظالم إن جعل مطلقا. أو إياهم خاصة إن عنيتهم به، كأنه قيل: ولو أنّ لهؤلاء الظالمين ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به. حين أحكم عليهم بسوء العذاب، وهذه الأسرار والنكت لا يبرزها إلا علم النظم، وإلا بقيت محتجبة في أكمامها. وأما الآية الأولى فلم تقع مسببة وما هي إلا جملة ناسبت جملة قبلها فعطفت عليها بالواو، كقولك: قام زيد وقعد عمرو. فإن قلت: من أى وجه وقعت مسببة؟ والاشمئزاز عن ذكر الله ليس بمقتض لالتجائهم إليه، بل هو مقتض لصدوفهم «٣» عنه. قلت: في هذا التسبيب لطف، وبيانه أنك تقول: زيد مؤمن بالله، فإذا مسه ضر التجأ إليه، فهذا تسبيب ظاهر لا لبس فيه، ثم تقول: زيد كافر بالله، فإذا مسه ضر التجأ إليه، فتجيء بالفاء مجيئك به ثمة، كأنّ الكافر حين التجأ إلى الله التجاء المؤمن إليه، مقيم كفره مقام الإيمان، ومجريه مجراه في جعله سببا في الالتجاء، فأنت تحكى ما عكس فيه الكافر. ألا ترى أنك تقصد بهذا الكلام الإنكار والتعجب من فعله؟
(١). قال محمود: «فان قلت: لم عطفت هذه الآية على التي قبلها بالفاء، والآية التي قبلها في أول السورة بالواو؟ وأجاب بأن هذه الآية مسببة عن قوله وإذا ذكر الله... الخ» قال أحمد: كلام جليل فافهمه، فضلا عن مشبه قليل.
(٢). قوله «المعترض بينه وبينه» لعل قوله «وبينه» مزيد من بعض الناسخين. (ع)
(٣). قوله «لصدوفهم عنه» أى: إعراضهم. أفاده الصحاح. (ع)
134

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٠ الى ٥٢]

قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)
الضمير في قالَهَا راجع إلى قوله إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ لأنها كلمة أو جملة من القول.
وقرئ: قد قاله على معنى القول والكلام، وذلك والذين من قبلهم: هم قارون وقومه، حيث قال: إنما أوتيته على علم عندي وقومه راضون بها، فكأنهم قالوها. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من متاع الدنيا ويجمعون منه مِنْ هؤُلاءِ من مشركي قومك سَيُصِيبُهُمْ مثل ما أصاب أولئك، فقتل صناديدهم ببدر، وحبس عنهم الرزق، فقحطوا سبع سنين، ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين، فقيل لهم أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أنه لا قابض ولا باسط إلا الله عزّ وجلّ.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٥٣]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣)
أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ جنوا عليها بالإسراف في المعاصي والغلوّ فيها لا تَقْنَطُوا قرئ بفتح النون وكسرها وضمها إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً يعنى بشرط التوبة، «١» وقد تكرّر ذكر هذا الشرط في القرآن، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكرا له فيما لم يذكر فيه، لأنّ القرآن في حكم كلام واحد، ولا يجوز فيه التناقض. وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود: يغفر الذنوب جميعا لمن يشاء، والمراد بمن يشاء: من تاب، لأنّ مشيئة الله تابعة لحكمته وعدله، لا لملكه وجبروته. وقيل في قراءة النبىّ ﷺ وفاطمة رضى الله عنها: يغفر الذنوب جميعا ولا يبالى. ونظير نفى المبالاة نفى الخوف في قوله تعالى وَلا يَخافُ عُقْباها وقيل: قال أهل مكة: يزعم محمد أنّ من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرّم الله لم يغفر له، فكيف ولم نهاجر وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرّم الله فنزلت. وروى أنه أسلم عياش بن أبى ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما، ثم فتنوا وعذبوا، فافتتنوا، فكنا نقول: لا يقبل الله لهم صرفا ولا عدلا أبدا، فنزلت. فكتب بها عمر رضى الله عنه إليهم، فأسلموا وهاجروا. وقيل نزلت في وحشى قاتل حمزة رضى الله عنه. وعن رسول الله ﷺ «ما أحب أنّ لي
(١). قوله «يعنى بشرط التوبة» عند التوبة فالعموم شامل للشرك، وعند عدمها فلا غفران للكبائر عند المعتزلة. ويجوز بالشفاعة وبمجرد الفضل عند أهل السنة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ كما تقرر في علم التوحيد: فارجع إليه. (ع)
الدنيا وما فيها بهذه الآية» فقال رجل: يا رسول الله، ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال: «ألا ومن أشرك» «١» ثلاث مرّات.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٥٤ الى ٥٩]
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩)
وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وتوبوا إليه وَأَسْلِمُوا لَهُ وأخلصوا له العمل، وإنما ذكر الإنابة على أثر المغفرة لئلا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، وللدلالة على أنها شرط فيها لازم لا تحصل بدونه وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مثل قوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أى يفجؤكم وأنتم غافلون، كأنكم لا تخشون شيئا لفرط غفلتكم وسهوكم أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ كراهة أن تقوّل. فإن قلت: لم نكرت؟ قلت: لأنّ المراد بها بعض الأنفس، وهي نفس الكافر. ويجوز أن يراد: نفس متميزة من الأنفس: إما بلجاج في الكفر شديد. أو بعذاب عظيم. ويجوز أن يراد التكسير، كما قال الأعشى:
وربّ بقيع لو هتفت بحوه أتانى كريم ينفض الرّأس مغضبا «٢»
(١). أخرجه الطبري والطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب في السابع والأربعين من حديث ثوبان. وفيه ابن لهيعة عن أبى قبيل وهما ضعيفان.
(٢).
دعا قومه حولي فجاءوا لنصره وناديت قوما بالمسناة غيبا
ورب بقيع لو هتفت بحوه أتانى كريم ينفض الرأس مغضبا
للأعشى وقيل: لأبى عمرو بن العلاء، يصف قومه بالجبن حتى كأنهم أموات مقبورون، صارت الأحجار مسناة فوقهم. وسنيت الشيء سهلته، أى: منعمة مملسة. أو بالية مفتتة. ويجوز أن أصله مسننة، فقلبت النون الثانية ألفا. وسننت الحجر حددته وملسته. وفي وصف القبور بذلك مبالغة في وصف قومه بالجبن، بل هم دون تلك الأموات، فرب بقيع: أى موضع فيه أروم الشجر من ضروب شتى، والمراد مقبرة، لا بقيع الغرقد بالغين وهو مقبرة المدينة بعينها، لو هتفت بحوه، أى: ناديت شجاعهم لجاءنى كريم ينفض رأسه من تراب القبر. أو من الغضب لما نالني من المكروه، وليس المراد كريما واحدا، بل كرماء كثيرة بمعونة المقام. والحو- بالمهملة-: الشجاع، وبالمعجمة: العسل، وبالجيم: ما غلظ وارتفع من الأرض.
136
وهو بريد: أفواجا من الكرام ينصرونه، لا كريما واحدا. ونظيره: ربّ بلد قطعت، ورب بطل قارعت. وقد اختلس الطعنة ولا يقصد إلا التكسير. وقرئ: يا حسرتى، على الأصل.
ويا حسرتاى، على الجمع بين العوض والمعوّض منه. والجنب: الجانب، يقال: أنا في جنب فلان وجانبه وناحيته، وفلان لين الجنب والجانب، ثم قالوا: فرّط في جنبه وفي جانبه، يريدون في حقه. قال سابق البربري:
أما تتّقين الله في جنب وامق له كبد حرّى عليك تقطّع «١»
وهذا من باب الكناية، لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه، فقد أثبته فيه. ألا ترى إلى قوله:
إنّ السّماحة والمروءة والنّدى في قبّة ضربت على ابن الحشرج «٢»
ومنه قول الناس: لمكانك فعلت كذا، يريدون: لأجلك. وفي الحديث: «من الشرك الخفىّ أن يصلى الرجل لمكان الرجل» «٣» وكذلك: فعلت هذا من جهتك. فمن حيث لم يبق فرق فيما يرجع إلى أداء الغرض بين ذكر المكان وتركه: قيل فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ على معنى:
فرطت في ذات الله. فإن قلت: فمرجع كلامك إلى أن ذكر الجنب كلا ذكر سوى ما يعطى من حسن الكناية وبلاغتها، فكأنه قيل: فرّطت في الله. فما معنى فرّطت في الله؟ قلت: لا بدّ من تقدير مضاف محذوف، سواء ذكر الجنب أو لم يذكر: والمعنى: فرّطت في طاعة الله
(١).
أما تتقين الله في جنب وامق له كبد حرى عليك تقطع
غريب مشوق مولع بادكاركم وكل غريب الدار بالشوق مولع
لجميل بن معمر يستعطف صاحبته بثينة ويتوجع إليها مما نابه فيها، أى: أما تخافين الله في جنب وامق، أى: في حقه الواجب عليك، فالجنب: كناية عن ذلك. والوامق: الشديد المحبة، يعنى نفسه. وحرى: أى ذات حر واحتراق.
وتقطع: أصله تتقطع، والادكار: أصله الاذتكار، قلبت تاؤه دالا مهملة، وأدغمت الذال المعجمة فيها، وخاطبها خطاب جمع المذكر تعظيما. وفي البيت رد العجز على الصدر، وهو من بديع الكلام.
(٢). لزيادة الأعجم يمدح عبد الله بن الحشرج أمير نيسابور، وهو من باب الكناية التي قصد بها النسبة، يعنى أنه مختص بهذه الصفات لا توجد في غيره، ولا خيمة هناك ولا ضرب أصلا.
(٣). أخرجه أحمد وإسحاق والبزار والحاكم والبيهقي. من رواية ربيح بن عبد الرحمن بن أبى سعيد عن أبيه عن جده قال» خرج علينا رسول الله ﷺ يوما. ونحن نتذاكر الدجال. فقال غير الدجال أخوف عليكم:
الشرك الخفي: أن يعمل الرجل لمكان الرجل» لفظ الحاكم.
137
وعبادة الله، وما أشبه ذلك. وفي حرف عبد الله وحفصة: في ذكر الله. وما في ما فرّطت مصدرية مثلها في بِما رَحُبَتْ، وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها، ومحل وَإِنْ كُنْتُ النصب على الحال، كأنه قال: فرّطت وأنا ساخر، أى:
فرّطت في حال سخريتي. وروى أنه كان في بنى إسرائيل عالم ترك علمه وفسق. وأتاه إبليس وقال له: تمتع من الدنيا ثم تب، فأطاعه، وكان له مال فأنفقه في الفجور، فأتاه ملك الموت في ألذ ما كان فقال: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، ذهب عمرى في طاعة الشيطان، وأسخطت ربى فندم حين لم ينفعه الندم، فأنزل الله خبره في القرآن لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لا يخلو: إما أن يريد الهداية «١» بالإلجاء أو بالألطاف أو بالوحي، فالإلجاء خارج عن الحكمة، ولم يكن من أهل الألطاف فيلطف به. وأما الوحى فقد كان، ولكنه عرض ولم يتبعه حتى يهتدى، وإنما يقول هذا تحيرا في أمره وتعللا بما لا يجدى عليه، كما حكى عنهم التعلل بإغواء الرؤساء والشياطين ونحو ذلك ونحوه لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ وقوله بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي ردّ من الله عليه، معناه: بلى قد هديت بالوحي فكذبت به واستكبرت عن قبوله، وآثرت الكفر على الإيمان، والضلالة على الهدى.
وقرئ بكسر التاء «٢» على مخاطبة النفس. فإن قلت: هلا قرن الجواب بما هو جواب له، وهو قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي ولم يفصل بينهما بآية؟ قلت: لأنه لا يخلو: إما أن يقدّم على أخرى القرائن الثلاث فيفرق بينهن. وإما أن تؤخر القرينة الوسطى، فلم يحسن الأوّل لما فيه من تبتير النظم بالجمع بين القرائن. وأما الثاني فلما فيه من نقص الترتيب وهو التحسر على التفريط في الطاعة، ثم التعلل بفقد الهداية، تم تمنى الرجعة فكان الصواب ما جاء عليه، وهو أنه حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها، ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب. فإن قلت: كيف صح أن تقع بلى جوابا لغير منفي؟ قلت: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي فيه معنى: ما هديت.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٠]
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠)
كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وصفوه بما لا يجوز عليه تعالى، وهو متعال «٣» عنه، فأضافوا إليه
(١). قوله «لا يخلو إما أن يريد به الهداية» تمحل لتطبيق الآية على مذهب المعتزلة، ولكن خلق الهداية لا يصل إلى حد الإلجاء، لأنه لا يسلب الاختيار عند أهل السنة، كخلق التقوى والطاعة وغيرها من الأفعال الاختيارية، لما أثبتوه للعبد من الكسب فيها وإن كان فاعلها في الحقيقة هو الله تعالى، كما تقرر في علم التوحيد. (ع) [.....]
(٢). قوله «وقرئ بكسر التاء» لعل من كسرها كسر الكاف أيضا. (ع)
(٣). قال محمود: «يعنى الذين وصفوه تعالى بما لا يجوز عليه وهو متعال عنه... الخ» قال أحمد: قد عدا طور التفسير لمرض في قلبه لا دواء له إلا التوفيق الذي حرمه، ولا يعافيه منه إلا الذي قدر عليه هذا الضلال وحتمه، وسنقيم عليه حد الرد، لأنه قد أبدى صفحته، ولولا شرط الكتاب لأضربنا عنه صفحا ولوينا عن الالتفات إليه كشحا، وبالله التوفيق فنقول: أما تعريضه بأن أهل السنة يعتقدون أن القبائح من فعل الله تعالى، فيرجمه باعتقادهم المشار إليه قوله تعالى بعد آيات من هذه السورة اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أما الزمخشري وإخوانه القدرية، فيغيرون وجه هذه الآية ويقولون: ليس خالق كل شيء، لأن القبائح أشياء وليست مخلوقة له.
فاعتقدوا أنهم نزهوا، وإنما أشركوا. وأما تعريضه لهم في أنهم يجوزون أن يخلق خلقا لا لغرض، فذلك لأن أفعاله تعالى لا تعلل، لأنه الفعال لما يشاء. وعند القدرية ليس فعالا لما يشاء لأن الفعل إما منطو على حكمة ومصلحة، فيجب عليه أن يفعله عندهم، وإما عار عنها فيجب عليه أن لا يفعله فأين أثر المشيئة إذا. وأما اعتقاده أن في تكليف مالا يطاق تظليما لله تعالى، فاعتقاد باطل، لأن ذلك إنما ثبت لازما لاعتقادهم أن الله تعالى خالق أفعال عبيده، فالتكليف بها تكليف بما ليس مخلوقا لهم، والقاعدة الأولى حق، ولازم الحق حق، ولا معنى للظلم إلا التصرف في ملك الغير بغير إذنه، والعباد ملك الله تعالى، فكيف يتصور حقيقة الظلم منه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وأما تعريضه بأنهم يجوزون أن يؤلم لا لعوض، فيقال له: ما قولك أيها الظنين في إيلام البهائم والأطفال، ولا أعواض لها، وليس مرتبا على استحقاق سابق خلافا للقدرية إذ يقولون: لا بد في الألم من استحقاق سابق أو عوض. وأما اعتقاده أن تجويز رؤية الله تعالى يستلزم اعتقاد الجسمية، فانه اغترار في اعتقاده بأدلة العقل المجوزة لذلك، مع البراءة من اعتقاد الجسمية، ولم يشعر أنه يقابل بهداية قول نبى الهدى عليه الصلاة والسلام: «إنكم سترون ربكم كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» فهذا النص الذي ينبو عن التأويل ولا يردع المتمسك به شيء من التهويل. وأما قوله إنهم يتسترون بالبلكفة، فيعنى به قولهم «بلا كيف» أجل إنها لستر لا تهتكه يد الباطل البتراء، ولا تبعد عن الهدى عين الضلال العوراء. وأما تعريضه بأنهم يجعلون لله أندادا باثباتهم معه قدماء، فنفى لاثباتهم صفات الكمال، كلا والله، إنما جعل لله أندادا القدرية إذ جعلوا أنفسهم يخلقون ما يريدون ويشتهون على خلاف مراد ربهم. حتى قالوا: إن ما شاءوه كان وما شاء الله لا يكون. وأما أهل السنة فلم يزيدوا على أن اعتقدوا أن لله تعالى علما وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا وكلاما وحياة، حسبما دل عليه العقل وورد به الشرع وأى مخلص للقدرى إذا سمع قوله تعالى وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً إلا اعتقاد أن لله تعالى علما أو جحد آيات الله وإطفاء نوره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وأما قوله: إنهم يثبتون لله تعالى يدا وقدما ووجها، فذلك فرية ما فيها مرية، ولم يقل بذلك أحد من أهل السنة. وإنما أثبت القاضي أبو بكر صفات سمعية وردت في القرآن: اليدان والعينان والوجه، ولم يتجاوز في إثباتها ما وردت عليه في كتاب الله العزيز، على أن غيره من أهل السنة حمل اليدين على القدرة والنعمة، والوجه على الذات، وقد مر ذلك في مواضع من الكتاب، فقد اتصف في هذه المباحثة بحال من بحث بظلفه على حتفه، وتعريضه معتقده الفاسد لهتك ستره وكشفه، وإنما حملني على إغلاظ مخاطبته الغضب لله تعالى ولرسوله ﷺ وأهل سنته، فانه قد أسناء عليهم الأدب، ونسيهم بكذبه إلى الكذب، والله الموفق.
138
الولد والشريك، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا، وقالوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ، وقالوا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها ولا يبعد عنهم قوم يسفهونه بفعل القبائح «١»، وتجويز أن يخلق خلقا لا لغرض، ويؤلم
(١). قوله «قوم يسفهونه بفعل القبائح» يريد بهم أهل السنة، حيث ذهبوا إلى أنه تعالى هو الخالق لأفعال العباد ولو معاصى، وأن فعله لا لغرض بل لحكمة، وإيلام الأطفال لا يستوجب عليه عوضا، وتظليمه نسبته إلى الظلم بتجويز تكليف المحال كما في علم الأصول، وجوزوا عليه الرؤية وهي غير مختصة بالأجسام عندهم، وجوز السلف أن يكون له يد ونحوها، لكن لا كالأيدى. وأراد بالقدماء صفات المعاني: كالقدرة والارادة، حيث قال أهل السنة: إنها موجودة بوجودات زائدة على وجود الذات، وتحقيق ذلك في التوحيد والأصول، فانظره. والبلكفة:
قولهم «بلا كيف». (ع)
139
لا لعوض، ويظلمونه بتكليف ما لا يطاق، ويجسمونه بكونه مرئيا معاينا مدركا بالحاسة، ويثبتون له يدا وقدما وجنبا متسترين بالبلكفة، ويجعلون له أندادا بإثباتهم معه قدماء وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ جملة في موضع الحال إن كان ترى من رؤية البصر، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦١]
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)
قرئ: ينجى وينجى بِمَفازَتِهِمْ بفلاحهم، يقال: فاز بكذا إذا أفلح به وظفر بمراده منه. وتفسير المفازة قوله لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ كأنه قيل: ما مفازتهم؟ فقيل:
لا يمسهم السوء، أى ينجيهم بنفي السوء والحزن عنهم. أو بسبب منجاتهم، من قوله تعالى فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ أى بمنجاة منه، لأنّ النجاة من أعظم الفلاح، وسبب منجاتهم العمل الصالح ولهذا فسر ابن عباس رضى الله عنهما المفازة بالأعمال الحسنة، ويجوز: بسبب فلاحهم، لأنّ العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة. ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه: مفازة، لأنه سببها. وقرئ: بمفازاتهم، على أن لكل متق مفازة. فإن قلت: لا يَمَسُّهُمُ ما محله من الإعراب على التفسيرين؟ قلت: أما على التفسير الأوّل فلا محل له، لأنه كلام مستأنف. وأما على الثاني فمحله النصب على الحال.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣)
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أى هو مالك أمرها وحافظها، وهو من باب الكناية، لأنّ حافظ الخزائن ومدبر أمرها هو الذي يملك مقاليدها، ومنه قولهم: فلان ألقيت إليه مقاليد الملك وهي مفاتيح، ولا واحد لها من لفظها. وقيل: مقليد. ويقال: إقليد، وأقاليد، والكلمة أصلها فارسية. فإن قلت. ما للكتاب العربي المبين وللفارسية؟ قلت: التعريب أحالها عربية، كما أخرج الاستعمال المهمل من كونه مهملا. فإن قلت: بما اتصل قوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا قلت: بقوله وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا أى ينجى الله المتقين بمفازتهم، والذين كفروا هم الخاسرون.
واعترض بينهما بأنه خالق الأشياء كلها، وهو مهيمن عليها، فلا بخفي عليه شيء من أعمال المكلفين فيها وما يستحقون عليها من الجزاء، وقد جعل متصلا بما يليه على أن كل شيء في السماوات والأرض فالله خالقه وفاتح بابه والذين كفروا وجحدوا أن يكون الأمر كذلك أولئك هم الخاسرون وقيل: سأل عثمان رضى الله عنه رسول الله ﷺ عن تفسير قوله تعالى لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فقال: «يا عثمان» ما سألنى عنها أحد قبلك، تفسيرها: لا إله إلا الله والله
أكبر، وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله، هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير» «١» وتأويله على هذا، أن لله هذه الكلمات يوحد بها ويمجد، وهي مفاتيح خير السماوات والأرض: من تكلم بها من المتقين أصابه، والذين كفروا بآيات الله وكلمات توحيده وتمجيده، أولئك هم الخاسرون.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٤]
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ منصوب بأعبد. وتَأْمُرُونِّي اعتراض. ومعناه، أفغير الله أعبد بأمركم، وذلك حين قال له المشركون: استلم بعض آلهتنا ونؤمن بإلهك. أو ينصب بما يدل عليه جملة قوله تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ لأنه في معنى تعبدوننى وتقولون لي: اعبد، والأصل: تأمروننى أن أعبد، فحذف «أن» ورفع الفعل، كما في قوله:
ألا أيهذا الزّاجرى أحضر الوغى «٢»
ألا تراك تقول: أفغير الله تقولون لي اعبده، وأ فغير الله تقولون لي أعبد، فكذلك أفغير الله تأمروننى أن أعبده. وأ فغير الله تأمروننى أن أعبد، والدليل على صحة هذا الوجه: قراءة من قرأ أَعْبُدُ بالنصب. وقرئ: تأمروننى، على الأصل. وتأمرونى، على إدغام النون أو حذفها.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
قرئ: ليحبطنّ عملك، وليحبطنّ: على البناء للمفعول. ولنحبطنّ، بالنون والياء، أى:
ليحبطنّ الله. أو الشرك. فإن قلت: الموحى إليهم جماعة، فكيف قال لَئِنْ أَشْرَكْتَ على التوحيد؟ قلت: معناه أوحى إليك لئن أشركت ليحبطنّ عملك، وإلى الذين من قبلك مثله، أو أوحى إليك وإلى كل واحد منهم: لئن أشركت كما تقول كسانا حلة، أى: كل واحد منا:
فإن قلت: ما الفرق بين اللامين؟ قلت: الأولى موطئة للقسم المحذوف، والثانية لام الجواب، وهذا الجواب سادّ مسدّ الجوابين، أعنى: جوابي القسم والشرط. فإن قلت: كيف صح هذا
(١). أخرجه أبو يعلى وابن أبى حاتم والعقيلي والبيهقي في الأسماء والطبراني في الدعاء كلهم من رواية أغلب بنى تميم حدثنا مخلد أبو الهذيل عن عبد الرحيم. وعبد الرحمن بن عدى عن عبد الله بن عمر به، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات من هذا الوجه. وله وجه آخر عند ابن مردويه. من طريق كلب بن وائل عن عمر ورواه ابن مردويه عن الطبراني بإسناد آخر إلى ابن عباس «أن عثمان- فذكره» وفيه سلام بن وهب الجندي عن أبيه ولا أعرفهما.
(٢). تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الأول صفحة ١٥٩ فراجعه إن شئت اه مصححه.
الكلام مع علم الله تعالى أنّ رسله لا يشركون ولا تحبط أعمالهم؟ قلت: هو على سبيل الفرض، والمحالات يصح فرضها لأغراض، فكيف بما ليس بمحال. ألا ترى إلى قوله وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً يعنى على سبيل الإلجاء، ولن يكون ذلك لامتناع الداعي إليه ووجود الصارف عنه. فإن قلت: ما معنى قوله وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ؟ قلت: يحتمل ولتكونن من الخاسرين بسبب حبوط العمل. ويحتمل: ولتكونن في الآخرة من جملة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم إن مت على الردة. ويجوز أن يكون غضب الله على الرسول أشدّ، فلا يمهله بعد الردة: ألا ترى إلى قوله تعالى إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ رد لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم، كأنه قال: لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت عاقلا فاعبد الله، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا منه «١» وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على ما أنعم به عليك، من أن جعلك سيد ولد آدم. وجوّز الفراء نصبه بفعل مضمر هذا معطوف عليه، تقديره: بل الله أعبد فاعبد.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٧]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)
لما كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حق معرفته وقدره في نفسه حق تقديره عظمه حق تعظيمه قيل وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وقرئ بالتشديد على معنى: وما عظموه كنه تعظيمه، ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريقة التخييل فقال وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ والغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته ومجموعه تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين «٢»
(١). قال محمود: «أصل الكلام: إن كنت عابدا فاعبد الله، فحذف الشرط وجعل تقديم المفعول عوضا منه.
اه كلامه»
قال أحمد: مقتضى كلام سيبويه في أمثال هذه الآية: أن الأصل فيه فاعبد الله، ثم حذفوا الفعل الأول اختصارا، فلما وقعت الفاء أولا استنكروا الابتداء بها، ومن شأنها التوسط بين المعطوف والمعطوف عليه، فقدموا المفعول وصارت متوسطة لفظا ودالة على أن ثم محذوفا اقتضى وجودها، ولتعطف عليه ما بعدها وينضاف إلى هذه الغاية في التقديم فائدة الحصر، كما تقدم من إشعار التقديم بالاختصاص.
(٢). قال محمود: «الغرض من هذا الكلام تصوير عظمته تعالى والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة ولا باليمين إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز، وكذلك حكم ما يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن حبرا جاء إليه فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، فضحك رسول الله ﷺ وتعجب مما قال الحبر ثم قرأ هذه الآية تصديقا له، فإنما ضحك أفصح العرب لأنه لم يفهم منه إلا ما فهمه علماء البيان من غير تصوير إمساك ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة التي لا يوصل السامع إلى الوقوف عليها إلا إجراء العبارة على مثل هذه الطريقة من التخييل، ثم قال: وأكثر كلام الأنبياء والكتب السماوية وعليتها تخييل قد زلت فيه الأقدام قديما. اه كلامه» قال أحمد: إنما عنى بما أجراه هاهنا من لفظ التخييل التمثيل، وإنما العبارة موهمة منكرة في هذا المقام لا تليق به بوجه من الوجوه، والله أعلم.
142
إلى جهة حقيقة أو جهة مجاز، وكذلك حكم ما يروى أن جبريل «١» جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع والأرضين على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهنّ فيقول أنا الملك «٢» فضحك رسول الله ﷺ تعجبا مما قال ثم قرأ تصديقا له وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ... الآية وإنما ضحك أفصح العرب ﷺ وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصوّر إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من ذلك، ولكن فهمه وقع أوّل شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي تتحير فيها الأفهام والأذهان ولا تكتنهها الأوهام هينة عليه هوانا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه، إلا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل، ولا ترى بابا في علم البيان أدق ولا أرق ولا ألطف من هذا الباب، ولا أنفع وأعون على تعاطى تأويل المشتبهات من كلام الله تعالى في القرآن وسائر الكتب السماوية وكلام الأنبياء، فإنّ أكثره وعليته «٣» تخييلات قد زلت فيها الأقدام قديما، وما أتى الزالون «٤» إلا من قلة عنايتهم بالبحث والتنقير، حتى يعلموا أن في عداد العلوم الدقيقة علما لو قدروه حق قدره، لما خفى عليهم أنّ العلوم كلها مفتقرة إليه وعيال عليه، إذ لا يحل عقدها الموربة ولا يفك قيودها المكربة إلا هو، وكم آية من آيات التنزيل وحديث من أحاديث الرسول، قد ضيم وسيم الخسف بالتأويلات الغثة «٥» والوجوه الرثة، لأنّ من تأول ليس من هذا العلم في عير ولا نفير، ولا يعرف قبيلا منه من دبير «٦». والمراد بالأرض: الأرضون السبع، يشهد لذلك شاهدان: قوله جَمِيعاً وقوله
(١). قوله «أن جبريل جاء إلى رسول الله» قيل: الصواب أنه حبر من أحبار اليهود لا جبريل. ويدل عليه ما في البخاري ومسلم والترمذي، كذا بهامش. ويؤيده أن «يا أبا القاسم» عادة اليهود في ندائه صلى الله عليه وسلم. (ع)
(٢). متفق عليه من حديث ابن مسعود. «تنبيه» وقع عنده أن جبريل وهو تصحيف. والذي في الصحيح «جاء حبر من اليهود» وفي رواية «أن يهوديا» وفي رواية «أن رجلا من أهل الكتاب».
(٣). قوله «وعليته» أى معظمه. (ع)
(٤). قوله «وما أتى الزالون» أى أجيبوا (ع)
(٥). قوله «بالتأويلات الغثة» في الصحاح «الغث» نبت يختبز حبه ويؤكل في الجوع، وتكون خبزته غليظة شبيهة يخبز الملة. (ع)
(٦). قوله «قبيلا منه من دبير» في الصحاح «القبيل» : ما تقبل به المرأة من غزلها حين تفتله. وفيه «الدبير» :
ما تدبره به المرأة من غزلها حين تفتله. ومنه قيل: فلان ما يعرف قبيلا من دبير. (ع)
143
وَالسَّماواتُ ولأنّ الموضع موضع تفخيم وتعظيم، فهو مقتض للمبالغة، ومع القصد إلى الجمع وتأكيده بالجميع أتبع الجميع مؤكدة قبل مجيء الخبر، ليعلم أوّل الأمر أن الخبر الذي يرد لا يقع عن أرض واحدة، ولكن عن الأراضى كلهن. والقبضة: المرة من القبض فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ والقبضة- بالضم-: المقدار المقبوض بالكف، ويقال أيضا: أعطنى قبضة من كذا: تريد معنى القبضة تسمية بالمصدر، كما روى: «١» أنه نهى عن خطفة السبع، «٢» وكلا المعنيين محتمل. والمعنى: والأرضون جميعا قبضته، أى: ذوات قبضته يقبضهن قبضة واحدة، يعنى أنّ الأرضين مع عظمهن وبسطتهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته، كأنه يقبضها قبضة بكف واحدة، كما تقول: الجزور أكلة لقمان، والقلة جرعته، أى: ذات أكلته وذات جرعته، تريد: أنهما لا يفيان إلا بأكلة فذة من أكلاته، وجرعة فردة من جرعاته.
وإذا أريد معنى القبضة فظاهر، لأن المعنى: أن الأرضين بجملتها مقدار ما يقبضه بكف واحدة.
فإن قلت. ما وجه قراءة من قرأ قَبْضَتُهُ بالنصب؟ قلت: جعلها ظرفا مشبها للمؤقت بالمبهم:
مَطْوِيَّاتٌ من الطى الذي هو ضدّ النشر، كما قال تعالى يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ وعادة طاوى السجل أن يطويه بيمينه. وقيل: قبضته: ملكه بلا مدافع ولا منازع، وبيمينه:
بقدرته. وقيل: مطويات بيمينه مفنيات بقسمه، لأنه أقسم أن يفنيها، ومن اشتم رائحة من علمنا هذا فليعرض عليه هذا التأويل ليتلهى بالتعجب منه ومن قائله، ثم يبكى حمية لكلام الله المعجز بفصاحته، وما منى «٣» به من أمثاله، وأثقل منه على الروح، وأصدع للكبد تدوين العلماء قوله، واستحسانهم له، وحكايته على فروع المنابر، واستجلاب الاهتزاز به من السامعين. وقرئ:
مطويات على نظم السماوات في حكم الأرض، ودخولها تحت القبضة، ونصب مطويات على الحال سُبْحانَهُ وَتَعالى ما أبعد من هذه قدرته وعظمته، وما أعلاه عما يضاف إليه من الشركاء.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٦٨]
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨)
(١). لم أجده هكذا. وروى أحمد وإسحاق وأبو يعلى من رواية سهل عن عبد الله بن يزيد عن شيخ لقيه سعيد ابن المسيب أنه سمع أبا الدرداء يقول «نهى رسول الله ﷺ عن أكل كل خطفة ونهبة والمجثمة وكل ذى ناب من السباع» ورواه أبو يعلى من رواية الإفريقي ورواه الدارمي والطبراني والنسائي في الكنى من رواية أبى أوس عن الزهري عن أبى إدريس عن أبى ثعلبة، بلفظ «نهي عن الخطفة والمجثمة والنهبة، وكل ذى ناب من السباع». [.....]
(٢). قوله «نهى عن خطفة السبع» أى: والمراد مخطوفه. (ع)
(٣). قوله «وما منى به» أى ابتلى. (ع)
فإن قلت: أُخْرى ما محلها من الإعراب؟ قلت: يحتمل الرفع والنصب: أما الرفع فعلى قوله فَإِذا نُفِخَ «١» فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ وأما النصب فعلى قراءة من قرأ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ والمعنى: ونفخ في الصور نفخة واحدة، ثم نفخ فيه أخرى. وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها، ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان. وقرئ: قياما ينظرون: يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب. وقيل: ينظرون ماذا يفعل بهم. ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجمود في مكان لتحيرهم.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠)
قد استعار الله عز وجل النور للحق والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل، وهذا من ذاك. والمعنى وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بما يقيمه فيها من الحق والعدل، ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات، وينادى عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه، لأنه هو الحق العدل. وإضافة اسمه إلى الأرض، لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله، وينصب فيها موازين قسطه، ويحكم بالحق بين أهلها، ولا ترى أزين للبقاع من العدل، ولا أعمر لها منه. وفي هذه الإضافة أن ربها وخالقها هو الذي يعدل فيها، وإنما يجوز فيها غير ربها، ثم ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق وهو النور المذكور. وترى الناس يقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعدلك، وأضاءت الدنيا بقسطك، كما تقول: أظلمت البلاد بجور فلان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الظلم ظلمات يوم القيامة» «٢» وكما فتح الآية بإثبات العدل، ختمها بنفي الظلم. وقرئ: وأشرقت على البناء للمفعول، من شرقت بالضوء تشرق: إذا امتلأت به واغتصت. وأشرقها الله، كما تقول: ملأ الأرض عدلا وطبقها عدلا.
والْكِتابُ صحائف الأعمال، ولكنه اكتفى باسم الجنس، وقيل: اللوح المحفوظ الشُّهَداءِ الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخيار. وقيل: المستشهدون في سبيل الله
(١). قوله «أما الرفع فعلى قوله فإذا نفخ» أى في الحافة. وقوله «من قرأ» أى: هناك. وقوله «حذفت» أى هنا. (ع)
(٢). متفق عليه من حديث ابن عمر. ولمسلم عن جابر والنسائي وأبى داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص

[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٧١ الى ٧٢]

وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢)
الزمر: الأفواج المتفرقة بعضها في أثر بعض، وقد تزمروا «١» : قال:
حتّي احزألّت زمر بعد زمر «٢»
وقيل في زمر الذين اتقوا: هي الطبقات المختلفة: الشهداء، والزهاد، والعلماء، والقرّاء وغيرهم وقرئ: نذر منكم. فإن قلت: لم أضيف إليهم اليوم؟ قلت: أرادوا لقاء وقتكم هذا، وهو وقت دخولهم النار لا يوم القيامة. وقد جاء استعمال اليوم والأيام مستفيضا في أوقات الشدّة قالُوا بَلى أتونا وتلوا علينا، ولكن وجبت علينا كلمة الله لأملأنّ جهنم، لسوء أعمالنا، كما قالوا: غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين. فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب وهو الكفر والضلال. واللام في المتكبرين للجنس، لأنّ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ فاعل بئس، وبئس فاعلها: اسم معرف بلام الجنس. أو مضاف إلى مثله، والمخصوص بالذم محذوف، تقديره:
فبئس مثوى المتكبرين جهنم.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤)
(١). قوله «وقد تزمروا» وفي نسخة أخرى: تزامروا. وفي الصحاح: احزألت الإبل في السير: ارتفعت. (ع)
(٢).
إن العفاة بالسيوب قد غمر حتى احزألت زمر بعد زمر
«السيوب» في الأصل: السيول، استعيرت للعطايا الكثيرة على طريق التصريحية. والغمر: ترشيح، أى: أن طلاب الرزق قد عمهم الممدوح بالعطايا. واحزألت: ارتفعت سائرة من عنده «زمر» : أى أفواج بعد أفواج.
ويروى: زمرا، على الحال، أى: احزألت العفاة حال كونها أفواجا متتابعة. وعلى الأول ففيه إظهار في موضع الإضمار، دلالة على التكثير.
حَتَّى هي التي تحكى بعدها الجمل والجملة المحكية بعدها هي الشرطية، إلا أنّ جزاءها محذوف، وإنما حذف لأنه صفة ثواب أهل الجنة، فدل بحذفه على أنه شيء لا يحيط به الوصف، وحق موقعه ما بعد خالدين. وقيل: حتى إذا جاؤها، جاؤها وفتحت أبوابها، أى مع فتح أبوابها.
وقيل: أبواب جهنم لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها. وأما أبواب الجنة فمتقدّم فتحها، بدليل قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ فلذلك جيء بالواو، كأنه قيل: حتى إذا جاؤها وقد فتحت أبوابها. فإن قلت: كيف عبر عن الذهاب بالفريقين جميعا بلفظ السوق؟ قلت: المراد بسوق أهل النار: طردهم إليها بالهوان والعنف، كما يفعل بالأسارى والخارجين على السلطان إذا سيقوا إلى حبس أو قتل. والمراد بسوق أهل الجنة: سوق مراكبهم، لأنه لا يذهب بهم إلا راكبين، وحثها إسراعا بهم إلى دار الكرامة والرضوان، كما يفعل بمن يشرف ويكرّم من الوافدين على بعض الملوك، فشتان ما بين السوقين طِبْتُمْ من دنس المعاصي، وطهرتم من خبث الخطايا فَادْخُلُوها جعل دخول الجنة مسببا عن الطيب والطهارة، فما هي إلا دار الطيبين ومثوى الطاهرين، لأنها دار طهرها الله من كل دنس، وطيبها من كل قذر، فلا يدخلها إلا مناسب لها موصوف بصفتها، فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة، وما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة، إلا أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحا، تنقى أنفسنا من درن الذنوب، وتميط وضر هذه القلوب خالِدِينَ مقدرين الخلود الْأَرْضَ عبارة عن المكان الذي أقاموا فيه واتخذوه مقرا ومتبوّأ، وقد أورثوها: أى ملكوها وجعلوا ملوكها، وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤن، تشبيها بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه واتساعه فيه، وذهابه في إنفاقه طولا وعرضا. فإن قلت: ما معنى قوله حَيْثُ نَشاءُ وهل يتبوأ أحدهم مكان غيره؟ قلت:
يكون لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة، فيتبوأ من جنته حيث يشاء ولا يحتاج إلى جنة غيره.
[سورة الزمر (٣٩) : آية ٧٥]
وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
حَافِّينَ محدقين من حوله يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ يقولون: سبحان الله والحمد لله، متلذذين لا متعبدين. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في قوله بَيْنَهُمْ؟ قلت: يجوز أن يرجع إلى العباد كلهم، وأن إدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة لا يكون إلا قضاء بينهم بالحق والعدل، وأن يرجع إلى الملائكة، على أن ثوابهم- وإن كانوا معصومين جميعا- لا يكون على سنن واحد، ولكن يفاضل بين مراتبهم على حسب تفاضلهم في أعمالهم، فهو القضاء بينهم بالحق. فإن قلت:
Icon