تفسير سورة غافر

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة غافر من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
وردت تسمية هذه السورة في السنة حم المؤمن روى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله وسلم من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما الحديث. وبذلك اشتهرت في مصاحف المشرق، وبذلك ترجمها البخاري في صحيحه والترمذي في الجامع. ووجه التسمية أنها ذكرت فيها قصة مؤمن آل فرعون ولم تذكر في سورة أخرى بوجه صريح.
والوجه في إعراب هذا الاسم حكاية كلمة ﴿ حم ﴾ ساكنة الميم بلفظها الذي يقرأ. وبإضافته إلى لفظ المؤمن بتقدير : سورة حم ذكر المؤمن أو لفظ المؤمن وتسمى أيضا سورة الطول لقوله تعالى في أولها ﴿ ذي الطول ﴾ وقد تنوسي هذا الاسم. وتسمى سورة غافر لذكر وصفه تعالى غافر الذنب في أولها. وبهذا الاسم اشتهرت في مصاحف المغرب.
وهي مكية بالاتفاق وعن الحسن استثناء قوله تعالى ﴿ وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار ﴾، لأنه كان يرى أنها نزلت في فرض الصلوات الخمس وأوقاتها. ويرى أن فرض صلوات خمس وأوقاتها ما وقع إلا في المدينة وإنما كان المفروض بمكة ركعتين كل يوم من غير توقيت، وهو من بناء ضعيف على ضعيف فأن الجمهور على أن الصلوات الخمس فرضت بمكة في أوقاتها على أنه لا يتعين أن يكون المراد بالتسبيح في تلك الآية الصلوات بل يحمل على ظاهر لفظه من كل قول ينزه به الله تعالى.
وأشذ منه ما روي عن أبي العالية أن قوله تعالى ﴿ إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم أن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه ﴾ نزلت في يهود من المدينة جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدجال وزعموا أنه منهم. وقد جاء في أول السورة ﴿ ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفرو ﴾. والمراد بهم : المشركون.
وهذه السورة جعلت الستين في عداد ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة الزمر وقبل سورة فصلت وهي أول سور آل حم نزولا.
وقد كانت هذه السورة مقروءة عقب وفاة أبي طالب، أي سنة ثلاث قبل الهجرة لما سيأتي أن أبا بكر قرأ آية ﴿ أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ﴾ حين آذى نفر من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حول الكعبة، وإنما اشتد أذى قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب.
والسور المفتتحة بكلمة ﴿ حم ﴾ سبع سور مرتبة في المصاحف على ترتيبها في النزول ويدعى مجموعها آل حم جعلوا لها اسم آل لتآخيها في فواتحها. فكأنها أسرة واحدة وكلمة آل تضاف إلى ذي شرف ويقال لغير المقصود تشريفه أهل فلان قال الكميت :
قرأنا لكم في آل حاميم آية *** تأولها منا فقيه ومعـرب يريد قول الله تعالى في سورة ﴿ حم عسق ﴾ ﴿ قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ﴾ على تأويل غير ابن عباس فلذلك عززه بقوله : تأولها منا فقيه ومعرب.
وربما جمعت السور المفتتحة بكلمة ﴿ حم ﴾ فقيل ألحوا ميم جمع تكسير على زنة فعاليل لأن مفرده على وزن فاعيل وزنا عرض له من تركيب اسمي الحرفين : حا، ميم فصار كالأوزان العجمية مثل قابيل و راحيل وما هو بعجمي لأنه وزن عارض لا يعتد به. وجمع التكسير على فعاليل يطرد في مثله.
وقد ثبت أنهم جمعوا ﴿ حم ﴾ على حواميم في أخبار كثيرة عن ابن مسعود، وابن عباس، وسمرة بن جندب، ونسب في بعض الأخبار إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت بسند صحيح. ومثله السور المفتتحة بكلمة طس أو طسم جمعوها على طواسين بالنون تغليبا. وأنشد أبو عبيدة أبياتا لم يسم قائلها :
حلفت بالسبع الألى قد طولت وبمئين بعدهـا قـد أمـئت
وبثمـان ثـنـيت وكـررت وبالطواسين اللواتي ثلثـت
وبالحواميم اللواتي سبـعـت وبالمفصل التي قد فصلـت
وعن أبي عبيدة والفراء أن قول العامة الحواميم ليس من كلام العرب وتبعهما أبو منصور الجواليقي.
وقد عدت آيها أربعا وثمانين في عد أهل المدينة وأهل مكة، وخمسا وثمانين في عد أهل الشام والكوفة، واثنتين وثمانين في عد أهل البصرة.
أغراض هذه السورة
تضمنت هذه السورة أغراضا من أصول الدعوة إلى الإيمان، فابتدئت بما يقتضي تحدي المعاندين في صدق القرآن كما اقتضاه الحرفان المقطعان في فاتحتهما كما تقدم في أول سورة البقرة.
وأجري على اسم الله تعالى من صفاته ما فيه تعريض بدعوتهم إلى الإقلاع عما هم فيه، فكانت فاتحة السور مثل ديباجة الخطبة مشيرة إلى الغرض من تنزيل هذه السورة.
وعقب ذلك بأن دلائل تنزيل هذا الكتاب من الله بينة لا يجحدها إلا الكافرون من الاعتراف بها حسدا، وأن جدالهم تشغيب وقد تكرر ذكر المجادلين في آيات الله خمس مرات في هذه السورة، وتمثيل حالهم بحال الأمم التي كذبت رسل الله بذكرهم إجمالا، ثم التنبيه على آثار استئصالهم وضرب المثل بقوم فرعون.
وموعظة مؤمن آل فرعون قومه بمواعظ تشبه دعوة محمد صلى الله عليه وسلم قومه.
والتنبيه على دلائل تفرد الله تعالى بالإلهية إجمالا.
وإبطال عبادة ما يعبدون من دون الله.
والتذكير بنعم الله على الناس ليشكره الذين أعرضوا عن شكره.
والاستدلال على إمكان البعث.
وإنذارهم بما يلقون من هوله وما يترقبهم من العذاب، وتوعدهم بأن لا نصير لهم يومئذ وبأن كبراءهم يتبرؤون منهم.
وتثبيت الله رسوله ص بتحقيق نصر هذا الدين في حياته وبعد وفاته.
وتخلل ذلك الثناء على المؤمنين ووصف كرامتهم وثناء الملائكة عليهم.
وورد في فضل هذه السورة الحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله من قرأ حم المؤمن إلى ﴿ إليه المصير ﴾ وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح.

وَالتَّنْبِيهُ عَلَى دَلَائِلِ تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ إِجْمَالًا.
وَإِبْطَالُ عِبَادَةِ مَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَالتَّذْكِيرُ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ لِيَشْكُرَهُ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْ شُكْرِهِ. وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ. وَإِنْذَارُهُمْ بِمَا يَلْقَوْنَ مِنْ هَوْلِهِ وَمَا يَتَرَقَّبُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَتَوَعُّدُهُمْ بِأَنْ لَا نَصِيرَ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَبِأَن كبراءهم يتبرؤون مِنْهُمْ. وَتَثْبِيتُ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْقِيقِ نَصْرِ هَذَا الدِّينِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ. وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَوَصْفُ كَرَامَتِهِمْ وَثَنَاءُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ.
وَوَرَدَ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْحَدِيثُ الَّذِي
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ حم الْمُؤْمِنِ إِلَى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غَافِر: ١، ٣] وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يُمْسِيَ، وَمَنْ قَرَأَهُمَا حِينَ يُمْسِي حُفِظَ بِهِمَا حَتَّى يصبح»
. [١]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١)
الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظَائِرِهِ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَأَنَّ مُعْظَمَهَا وَقَعَ بَعْدَهُ ذِكْرُ الْقُرْآنِ وَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ لِتَحَدِّي الْمُنْكِرِينَ بِالْعَجْزِ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ أَنَّ الْحُرُوفَ الَّتِي أَسْمَاؤُهَا مَمْدُودَةُ الْآخِرِ يُنْطَقُ بِهَا فِي هَذِهِ الْفَوَاتِحِ مَقْصُورَةً بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ تَخْفِيفًا لِأَنَّهَا فِي حَالَةِ الْوَقْفِ مِثْلُ اسْمِ (حَا) فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَاسْمِ (رَا) فِي (الر) وَاسْمِ (يَا) فِي (يس).
[٢]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٢]
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢)
الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الزُّمَرِ. وَيُزَادُ هُنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِتَوْجِيهِ هَذَا الْخَبَرِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُنْكِرُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. فَتَجْرِيدُ الْخَبَرِ عَنِ
الْمُؤَكِّدِ إِخْرَاجٌ لَهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِجَعْلِ الْمُنْكِرِ كَغَيْرِ الْمُنْكِرِ لِأَنَّهُ يَحُفُّ بِهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا إِنْ تَأَمَّلَهُ ارْتَدَعَ عَنْ إِنْكَارِهِ فَمَا كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُنكر ذَلِك.
[٣]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٣]
غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣)
أُجْرِيَتْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ سِتَّةُ نُعُوتٍ مَعَارِفُ، بَعْضُهَا بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ وَبَعْضُهَا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مُعَرَّفٍ بِالْحَرْفِ.
وَوَصْفُ اللَّهِ بِوَصْفَيِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غَافِر: ٢] هُنَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مُنْكِرِي تَنْزِيلِ الْكِتَابِ مِنْهُ مَغْلُوبُونَ مَقْهُورُونَ، وَبِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّهُ نُفُوسُهُمْ فَهُوَ مُحَاسِبُهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَرَمْزٌ إِلَى أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فَلَا يَقْدِرُ غَيْرُ اللَّهِ عَلَى مِثْلِهِ وَلَا يَعْلَمُ غَيْرُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ.
وَهَذَا وَجْهُ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظِيرَتِهَا مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الزُّمَرِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا وَصْفُ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [الزمر: ١] عَلَى أَنَّهُ يَتَأَتَّى فِي الْوَصْفِ بِالْعِلْمِ مَا تَأَتَّى فِي بَعْضِ احْتِمَالَاتِ وَصْفِ الْحَكِيمِ فِي سُورَةِ الزُّمَرِ. وَيَتَأَتَّى فِي الْوَصْفَيْنِ أَيْضًا مَا تَأَتَّى هُنَالك من طريقي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ. وَفِي ذِكْرِهِمَا رَمَزٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ وَأَنَّهُ لَا يُجَارِي أَهْوَاءَ النَّاسِ فِيمَنْ يُرَشِّحُونَهُ لِذَلِكَ مِنْ كُبَرَائِهِمْ وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١].
وَفِي إِتْبَاعِ الْوَصْفَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ بِأَوْصَافِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ تَرْشِيحٌ لِذَلِكَ التَّعْرِيضِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ كُنْتُمْ أَذْنَبْتُمْ بِالْكُفْرِ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ تَدَارُكَ ذَنْبِكُمْ فِي مَكِنَتِكُمْ لِأَنَّ اللَّهَ مُقَرَّرٌ اتِّصَافُهُ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ وَبِغُفْرَانِ الذَّنْبِ فَكَمَا غَفَرَ لِمَنْ تَابُوا مِنَ الْأُمَمِ فَقَبِلَ إِيمَانَهَمْ يَغْفِرُ لِمَنْ يَتُوبُ مِنْكُمْ.
وَتَقْدِيمُ غافِرِ عَلَى قابِلِ التَّوْبِ مَعَ أَنَّهُ مُرَتَّبٌ عَلَيْهِ فِي الْحُصُولِ لِلِاهْتِمَامِ
79
بِتَعْجِيلِ الْإِعْلَامِ بِهِ لِمَنِ اسْتَعَدَّ لِتَدَارُكِ أَمْرِهِ فَوَصْفُ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ تَعْرِيضٌ بِالتَّرْغِيبِ، وَصِفَتَا شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ تَعْرِيضٌ بِالتَّرْهِيبِ. وَالتَّوْبُ: مَصْدَرُ تَابَ،
وَالتَّوْبُ بِالْمُثَنَّاةِ وَالثَّوْبُ بِالْمُثَلَّثَةِ وَالْأَوْبُ كُلُّهَا بِمَعْنَى الرُّجُوعِ، أَيِ الرُّجُوعِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ وَامْتِثَالِهِ بَعْدَ الِابْتِعَادِ عَنْهُ. وَإِنَّمَا عُطِفَتْ صِفَةُ وَقابِلِ التَّوْبِ بِالْوَاوِ عَلَى صِفَةِ غافِرِ الذَّنْبِ وَلَمْ تُفْصَلْ كَمَا فُصِلَتْ صِفَتَا الْعَلِيمِ [غَافِر: ٢] غافِرِ الذَّنْبِ وَصِفَةُ شَدِيدِ الْعِقابِ إِشَارَةٌ إِلَى نُكْتَةٍ جَلِيلَةٍ وَهِيَ إِفَادَةُ أَنْ يَجْمَعَ لِلْمُذْنِبِ التَّائِبِ بَيْنَ رَحْمَتَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَقْبَلَ تَوْبَتَهُ فَيَجْعَلَهَا لَهُ طَاعَةً، وَبَيْنَ أَنْ يَمْحُوَ عَنْهُ بِهَا الذُّنُوبَ الَّتِي تَابَ مِنْهَا وَنَدِمَ عَلَى فِعْلِهَا، فَيُصْبِحَ كَأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهَا. وَهَذَا فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: شَدِيدِ الْعِقابِ إِفْضَاءٌ بِصَرِيحِ الْوَعِيدِ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ مَجِيئَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ [غَافِر: ٢] يُفِيدُ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ بِوَاسِطَةِ دَلَالَةِ مُسْتَتْبِعَاتِ التَّرَاكِيبِ.
وَالْمُرَادُ بِ غافِرِ وقابِلِ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِمَدْلُولَيْهِمَا فِيمَا مَضَى إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ سَيَغْفِرُ وَسَيَقْبَلُ، فَاسْمُ الْفَاعِلِ فِيهِمَا مَقْطُوعٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْفِعْلِ، وَهُوَ غَيْرُ عَامِلٍ عَمَلَ الْفِعْلِ، فَلِذَلِكَ يَكْتَسِبُ التَّعْرِيفَ بِالْإِضَافَةِ الَّتِي تَزِيدُ تَقْرِيبَهُ مِنَ الْأَسْمَاءِ، وَهُوَ الْمَحْمَلُ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ غَيْرَهُ هُنَا.
وشَدِيدِ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مُضَافَةٌ لِفَاعِلِهَا، وَقَدْ وَقَعَتْ نَعْتًا لِاسْمِ الْجَلَالَةِ اعْتِدَادًا بِأَنَّ التَّعْرِيفَ الدَّاخِلَ عَلَى فَاعِلِ الصِّفَةِ يَقُومُ مَقَامَ تَعْرِيفِ الصِّفَةِ فَلَمْ يُخَالِفْ مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْكَلَامِ مِنَ اتِّحَادِ النَّعْتِ وَالْمَنْعُوتِ فِي التَّعْرِيفِ وَاكْتِسَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ التَّعْرِيفَ بِالْإِضَافَةِ هُوَ قَوْلُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ طَرْدًا لِبَابِ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ، وَسِيبَوَيْهِ يُجَوِّزُ اكْتِسَابَ الصِّفَاتِ الْمُضَافَةِ التَّعْرِيفَ بِالْإِضَافَةِ إِلَّا الصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ لِأَنَّ إِضَافَتَهَا إِنَّمَا هِيَ لِفَاعِلِهَا فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ أَصْلَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ أَنَّهُ كَانَ فَاعِلًا فَكَانَتْ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ مُجَرَّدَ تَخْفِيفٍ لَفْظِيٍّ وَالْخَطْبُ سَهُلٌ.
وَالطَّوْلُ يُطْلَقُ عَلَى سَعَةِ الْفَضْلِ وَسَعَةِ الْمَالِ، وَيُطلق على مُطلق الْقُدْرَةِ كَمَا فِي «الْقَامُوسِ»، وَظَاهِرُهُ الْإِطْلَاقُ وَأَقَرَّهُ فِي «تَاجِ الْعَرُوسِ» وَجَعَلَهُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ،
80
وَوُقُوعُهُ مَعَ شَدِيدِ الْعِقابِ وَمُزَاوَجَتُهَا بِوَصْفَيْ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ لِيُشِيرَ إِلَى التَّخْوِيفِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ مِنْ وَصْفِ شَدِيدِ الْعِقابِ، وَبِعَذَابِ الدُّنْيَا مِنْ وَصْفِ ذِي الطَّوْلِ كَقَوْلِهِ: أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف: ٤٢]، وَقَوْلُهُ:
قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً [الْأَنْعَام: ٣٧]. وَأَعْقَبَ ذَلِكَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَبِأَنَّ الْمَصِيرَ، أَيِ الْمَرْجِعَ إِلَيْهِ تَسْجِيلًا لِبُطْلَانِ الشِّرْكِ وَإِفْسَادًا لِإِحَالَتِهِمُ الْبَعْثَ.
فَجُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِجُمْلَةِ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ إِنْذَارًا
بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا أُجْرِيَتْ صِفَاتُ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ أُثِيرَ فِي الْكَلَامِ الْإِطْمَاعُ وَالتَّخْوِيفُ فَكَانَ حَقِيقًا بِأَنْ يَشْعُرُوا بِأَنَّ الْمَصِيرَ إِمَّا إِلَى ثَوَابِهِ وَإِمَّا إِلَى عِقَابِهِ فَلْيَزِنُوا أَنْفُسَهُمْ لِيَضَعُوهَا حَيْثُ يَلُوحُ مِنْ حَالِهِمْ.
وَتَقْدِيُمُ الْمَجْرُورِ فِي إِلَيْهِ الْمَصِيرُ لِلِاهْتِمَامِ وَلِلرِّعَايَةِ عَلَى الْفَاصِلَةِ بِحَرْفَيْنِ: حَرْفِ لِينٍ، وَحَرْفٍ صَحِيحٍ مِثْلَ: الْعَلِيمِ، وَالْبِلَادِ، وَعِقَابِ.
وَقَدِ اشْتَمَلَتْ فَاتِحَةُ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى مَا يُشِيرُ إِلَى جَوَامِعِ أَغْرَاضِهَا وَيُنَاسِبُ الْخَوْضَ فِي تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ بِالْقُرْآنِ وَيُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ قَدْ اعْتَزُّوا بِقُوَّتِهِمْ وَمَكَانَتِهِمْ وَأَنَّ ذَلِكَ زَائِلٌ عَنْهُمْ كَمَا زَالَ عَنْ أُمَمٍ أَشَدَّ مِنْهُمْ، فَاسْتَوْفَتْ هَذِهِ الْفَاتِحَةُ كَمَالَ مَا يُطْلَبُ فِي فَوَاتِحِ الْأَغْرَاضِ مِمَّا يُسَمَّى بَرَاعَةَ الْمَطْلَعِ أَوْ براعة الاستهلال.
[٤]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٤]
مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ نَشَأَ مِنْ قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غَافِر: ٢] الْمُقْتَضِي أَنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَمْرٌ لَا رَيْبَ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ، فَيَنْشَأُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ أَنْ يَقُولُوا: فَمَا بَالُ هَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ فِي صِدْقِ نِسْبَةِ الْقُرْآنِ إِلَى اللَّهِ لَمْ تُقْنِعْهُمْ دَلَائِلُ نُزُولِ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّهِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّهُ مَا يُجَادِلُ فِي صِدْقِ الْقُرْآنِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَإِذْ قَدْ كَانَ كُفْرُ الْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ أَمْرًا مَعْلُومًا كَانَ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ
81
بِأَنَّهُمْ كَافِرُونَ غَيْرَ مَقْصُودٍ مِنْهُ إِفَادَةَ اتِّصَافِهِمْ بِالْكُفْرِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ غَيْرَ مُسْتَعْمَلٍ فِي فَائِدَةِ الْخَبَرِ لَا بِمَنْطُوقِهِ وَلَا بِمَفْهُومِهِ، فَإِنَّ مَفْهُومَ الْحَصْرُ وَهُوَ: أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا لَا يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ كَذَلِكَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ مُقَرَّرٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا نَفْسَ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِكُفْرِهِمْ كُفْرُهُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ بِسَبَبِ إِشْرَاكِهِمْ، فَالْمَعْنَى: لَا عَجَبَ فِي جِدَالِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ أَتَوْا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْله تَعَالَى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [النِّسَاء: ١٥٣].
وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا جَمِيعَ الْكَافِرِينَ بِاللَّهِ مِنَ السَّابِقِينَ وَالْحَاضِرِينَ، أَيْ مَا الْجَدَلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا مِنْ شَأْنِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالْإِشْرَاكِ، وَمُجَادَلَةُ مُشْرِكِي مَكَّةَ شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ مُجَادَلَةِ كُلِّ الْكَافِرِينَ، فَيَكُونُ اسْتِدْلَالًا بِالْأَعَمِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ تُرِكَ عَطْفُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا.
وَالْمُرَادُ بِالْمُجَادَلَةِ هُنَا الْمُجَادَلَةُ بِالْبَاطِلِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ فَمَعْنَى فِي آياتِ اللَّهِ فِي
صِدْقِ آيَاتِ اللَّهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [غَافِر: ٢] فَتَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ كَمَا دَلَّ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٤]، عَلَى تَقْدِيرِ: فِي إِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ، فَصِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْفِعْلِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لِإِفَادَةِ التَّكَرُّرِ مِثْلَ: سَافَرَ وَعَافَاهُ اللَّهُ، وَهُمْ يَتَلَوَّنُونَ فِي الِاخْتِلَاقِ وَيُعَاوِدُونَ التَّكْذِيبَ وَالْقَوْلَ الزُّورَ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِمْ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: ٢٥]، سِحْرٌ مُبِينٌ [الْمَائِدَة: ١١٠]، بِقَوْلِ كاهِنٍ [الحاقة: ٤٢]، بِقَوْلِ شاعِرٍ [الحاقة:
٤١] لَا يَنْفَكُّونَ عَنْ ذَلِكَ. وَمِنَ الْمُجَادَلَةِ تَوَرُّكُهُمْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُؤَالِهِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَاتٍ كَمَا يَقْتَرِحُونَ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاء:
٩٠] الْآيَاتِ وَقَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الْفرْقَان: ٧] الْآيَاتِ.
وَقَدْ كَانَ لِتَعَلُّقِ فِي الظَّرْفِيَّةِ بِالْجِدَالِ، وَلِدُخُولِهِ عَلَى نَفْسِ الْآيَاتِ دُونَ أَحْوَالِهَا فِي قَوْلِهِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ تَحْوِي جَمِيعَ أَصْنَافِ الْجِدَالِ، وَجُعِلَ مَجْرُورُ الْحَرْفِ نَفْسَ الْآيَاتِ دُونَ تَعْيِينِ نَحْوِ صِدْقِهَا أَوْ وُقُوعِهَا أَوْ صِنْفِهَا، فَكَانَ قَوْلُهُ: فِي آياتِ اللَّهِ جَامِعًا لِلْجَدَلِ بِأَنْوَاعِهِ
82
وَلِمُتَعَلِّقِ الْجَدَلِ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ وَالْمُرَادُ الْجِدَالُ بِالْبَاطِلِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَنْظِيرُ حَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ قَالَ فِيهِمْ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ [غَافِر: ٥] فَإِذَا أُرِيدَ الْجِدَالُ بِالْحَقِّ يُقَيَّدُ فِعْلُ الْجِدَالِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَعَجَزُوا، وَإِنَّمَا هُوَ تَلْفِيقٌ وَتَسَتُّرٌ عَنْ عَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ وَاعْتِصَامٌ بالمكابرة فمجادلتهم بعد مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّحَدِّي دَالَّةٌ عَلَى تَمَكُّنِ الْكُفْرِ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ مُعَانِدُونَ وَبِذَلِكَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ فَائِدَةِ هَذَا وَإِلَّا فَكَوْنُهُمْ كُفَّارًا مَعْلُومٌ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فِي آيَاتِهِ، لِتَفْظِيعِ أَمْرِهَا بِالصَّرِيحِ لِأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ الْجَلَالَةِ مُؤْذِنٌ بِتَفْظِيعِ جِدَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَلِلتَّصْرِيحِ بِزِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِالْقُرْآنِ.
وَفُرِّعَ قَوْلُهُ: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ عَلَى مَضْمُونِ مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا لِمَا عَلِمْتَ مِنْ أَنَّ مُقْتَضَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ أَنَّ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ هُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ، وَذَلِكَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُثِيرَ فِي نَفْسِ مَنْ يَرَاهُمْ فِي مُتْعَةٍ وَنِعْمَةٍ أَنْ يَتَسَاءَلَ فِي نَفْسِهِ كَيْفَ يَتْرُكُهُمُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَظُنُّ أَنَّهُمْ أَمِنُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، فَفَرَّعَ عَلَيْهِ الْجَوَابَ فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أَيْ إِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاجٌ وَمِقْدَارٌ مِنْ حِلْمِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ وَقْتًا مَا،
أَوْ أَنَّ مَعْنَاهُ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا إِصْرَارًا عَلَى الْكُفْرِ فَلَا يُوهِمُكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ أَنَّا لَا نُؤَاخِذُهُمْ بِذَلِكَ.
وَالْغُرُورُ: ظَنُّ أَحَدٍ شَيْئًا حَسَنًا وَهُوَ بِضِدِّهِ يُقَالُ: غَرَّكَ، إِذَا جعلك تظن السيّء حَسَنًا. وَيَكُونُ التَّغْرِيرُ بِالْقَوْلِ أَوْ بِتَحْسِينِ صُورَةِ الْقَبِيحِ.
وَالتَّقَلُّبُ: اخْتِلَافُ الْأَحْوَالِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ تَنَاوُلِ مَحْبُوبٍ وَمَرْغُوبٍ. والْبِلادِ الْأَرْضُ، وَأُرِيدَ بِهَا هُنَا الدُّنْيَا كِنَايَةً عَنِ الْحَيَاةِ.
وَالْمُخَاطَبُ بِالنَّهْيِ فِي قَوْلِهِ: فَلا يَغْرُرْكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَيَعُمَّ كُلَّ مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَغُرَّهُ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ النَّهْيُ جَارِيًا
83
عَلَى حَقِيقَةِ بَابِهِ، أَيْ مُوَجَّهًا إِلَى مَنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْغُرُورُ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
فَلَا يُغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ إِنَّ الْأَمَانِيَّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ مُوَجَّهًا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ النَّهْيِ تَمْثِيلِيَّةً بِتَمْثِيلِ حَالِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اسْتِبْطَائِهِ عِقَابَ الْكَافِرِينَ بِحَالِ مَنْ غَرَّهُ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ سَالِمين، كَقَوْلِه تَعَالَى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الْحجر: ٣].
وَالْمَعْنَى: لَا يُوهِمَنَّكَ تَنَاوُلُهُمْ مُخْتَلَفَ النَّعْمَاءِ وَاللَّذَّاتِ فِي حَيَاتِهِمْ أَنَّنَا غَيْرُ مُؤَاخِذِينَهُمْ عَلَى جِدَالِهِمْ فِي آيَاتِنَا، أَوْ لَا يُوهِمَنَّكَ ذَلِكَ أَنَّنَا لَا نَعْلَمُ مَا هُمْ عَلَيْهِ فَلَمْ نُؤَاخِذْهُمْ بِهِ تَنْزِيلًا لِلْعَالِمِ مَنْزِلَةَ الْجَاهِلِ فِي شِدَّةِ حُزْنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دَوَامِ كُفْرِهِمْ وَمُعَاوَدَةِ أَذَاهُمْ كَقَوْلِهِ: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إِبْرَاهِيم: ٤٢]، وَفِي مَعْنَى هَذِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ وَتَقَدَّمَتْ فِي آل عمرَان [١٩٦، ١٩٧].
[٥]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٥]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٥)
جُمْلَةُ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَمَا بَعْدَهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِر: ٤] بِاعْتِبَارِ التَّفْرِيعِ الْوَاقِعِ عَقِبَ هَاتِهِ الْجُمَلِ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ، فَالْمَعْنَى: سَبَقَتْهُمْ أُمَمٌ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ كَمَا كَذَّبُوكَ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ رُسُلَهُمْ كَمَا جَادَلَكَ هَؤُلَاءِ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ رَأَيْتَ عِقَابِي إِيَّاهُمْ كَذَلِكَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ فِي إِمْهَالِهِمْ إِلَى أَنْ آخُذَهُمْ.
وَالْأَحْزَابُ: جَمْعُ حِزْبٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ وَهُوَ اسْمٌ لِلْجَمَاعَةِ الَّذِينَ هُمْ سَوَاءٌ فِي شَأْنٍ: مِنِ اعْتِقَادٍ أَوْ عَمَلٍ أَوْ عَادَةٍ. وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْأُمَمُ الَّذِينَ
84
كَانَتْ كُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ مُتَّفِقَةً فِي الدِّينِ، فَكُلُّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ حِزْبٌ فِيمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ.
وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ قَوْمَ نُوحٍ كَانُوا حِزْبًا أَيْضًا فَكَانُوا يَدِينُونَ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ: يَغُوثَ، وَيَعُوقَ، وَنَسْرٍ، وَوُدٍّ، وَسُوَاعٍ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ كُلُّ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي كَذَّبَتِ الرُّسُلَ حِزْبًا مُتَّفِقِينَ فِي الدِّينِ، فَعَادٌ حِزْبٌ، وَثَمُودُ حِزْبٌ، وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ حزب، وَقوم فِرْعَوْن حِزْبٌ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جَمِيعًا اشْتَرَكُوا فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَإِنْ تَخَالَفَ بَعْضُ الْأُمَمِ مَعَ بَعْضِهَا فِي الْأَدْيَانِ. وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ قَبْلَهُمْ ومِنْ بَعْدِهِمْ مُحَسِّنُ الطِّبَاقِ فِي الْكَلَامِ.
وَالْهَمُّ: الْعَزْمُ. وَحَقُّهُ أَنْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ إِلَى الْمَعَانِي لِأَنَّ الْعَزْمَ فِعْلٌ نَفْسَانِيٌّ لَا يَتَعَلَّقُ إِلَّا بِالْمَعَانِي. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا [التَّوْبَة: ٧٤]، وَلَا يَتَعَدَّى إِلَى الذَّوَاتِ، فَإِذَا عُدِّيَ إِلَى اسْمِ ذَاتٍ تَعَيَّنَ تَقْدِيرُ مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي تُلَابِسُ الذَّاتَ يَدُلُّ عَلَيْهَا الْمَقَامُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ [يُوسُف: ٢٤] أَيْ هَمَّتْ بِمُضَاجَعَتِهِ.
وَقَدْ يُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الذَّاتِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَهُمُّ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِهِ هُنَا: لِيَأْخُذُوهُ إِن الْهَمَّ بِأَخْذِهِ، وَارْتِكَابُ هَذَا الْأُسْلُوبِ لِقَصْدِ الْإِجْمَالِ الَّذِي يُعْقُبُهُ التَّفْصِيلُ، وَمِثْلُهُ تَعَلُّقُ أَفْعَالِ الْقُلُوبِ بِالْأَسْمَاءِ فِي ظَنَنْتُكَ جَائِيًا، أَيْ ظَنَنْتُ مَجِيئَكَ.
وَالْأَخْذُ يُسْتَعْمَلُ مَجَازًا بِمَعْنَى التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ بِالْعِقَابِ وَالتَّعْذِيبِ وَالْقَتْلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ التَّنْكِيلِ، قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [الحاقة: ١٠] وَيُقَالُ لِلْأَسِيرِ:
أَخِيذٌ، وَلِلْقَتِيلِ: أَخِيذٌ.
وَاخْتِيرَ هَذَا الْفِعْلُ هُنَا لِيَشْمَلَ مُخْتَلَفَ مَا هَمَّتْ بِهِ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهَا مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الْأَنْفَال: ٣٠].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ مِنَ الْكَفَرَةِ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ بَلْ تَجَاوَزُوا ذَلِك إِلَى غَايَة الْأَذَى مِنَ الْهَمِّ بِالْقَتْلِ كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْ ثَمُودَ: قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ [النَّمْل: ٤٩]. وَقَدْ تَآمَرَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ دَارِ النَّدْوَةِ لِيَقْتُلُوهُ أَنْ يَتَجَمَّعَ نَفَرٌ مِنْ جَمِيعِ عَشَائِرِهِمْ فَيَضْرِبُوهُ بِالسُّيُوفِ ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ كَيْلَا يَسْتَطِيعَ
85
أَوْلِيَاؤُهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ الْأَخْذَ بِثَأْرِهِ، فَأَخَذَ اللَّهُ الْأُمَمَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى هَمِّهِمْ بِرُسُلِهِمْ فَأَهْلَكَهُمْ وَاسْتَأْصَلَهُمْ.
وَيُفْهَمُ مِنْ تَفْرِيعِ قَوْلِهِ: فَأَخَذْتُهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ إِنْذَارُ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ هَمَّهُمْ بِقَتْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مُنْتَهَى أَمَدِ الْإِمْهَالِ لَهُمْ، فَإِذَا صَمَّمُوا الْعَزْمَ عَلَى ذَلِكَ أَخَذَهُمُ اللَّهُ كَمَا أَخَذَ الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ قَبْلَهُمْ حِينَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ فَإِنَّ قُرَيْشًا لَمَّا هَمُّوا بِقَتْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْجَاهُ اللَّهُ مِنْهُمْ بِالْهِجْرَةِ ثُمَّ أَمْكَنَهُ مِنْ نَوَاصِيهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْمُرَادُ بِ كُلُّ أُمَّةٍ كُلُّ أُمَّةٍ مِنَ الْأَحْزَابِ الْمَذْكُورِينَ.
وَضَمِيرُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ عَائِدٌ عَلَى كُلُّ أُمَّةٍ. وَالْمَقْصُودُ: مِنْ تَعْدَادِ جَرَائِمِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنْ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالْهَمِّ بِقَتْلِهِمْ وَالْجِدَالِ بِالْبَاطِلِ تَنْظِيرُ حَالِ الْمُشْرِكِينَ النَّازِلِ فِيهِمْ قَوْلُهُ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: ٤] بِحَالِ الْأُمَمِ السَّابِقِينَ سَوَاءً، لِيَنْطَبِقَ الْوَعِيدُ عَلَى حَالِهِمْ أَكْمَلَ انْطِبَاقٍ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِالْباطِلِ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ جَادَلُوا مُلَابِسِينَ لِلْبَاطِلِ فَالْمَجْرُورُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ، أَوِ الْبَاءُ لِلْآلَةِ بِتَنْزِيلِ الْبَاطِلِ مَنْزِلَةَ الْآلَةِ لِجِدَالِهِمْ فَيَكُونُ الظَّرْفُ لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ جادَلُوا. وَتَقْيِيدُ جادَلُوا هَذَا بِقَيْدِ كَوْنِهِ بِالْباطِلِ يَقْتَضِي تَقْيِيدَ مَا أُطْلِقَ فِي قَوْلِهِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا.
وَالْإِدْحَاضُ: إِبْطَالُ الْحُجَّةِ، قَالَ تَعَالَى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الشورى:
١٦]. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ زَوَّرُوا الْبَاطِلَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ وَرَوَّجُوهُ بِالسِّفَسْطَةِ فِي صُورَةِ الْحُجَّةِ لِيُبْطِلُوا حُجَجَ الْحَقِّ وَكَفَى بِذَلِكَ تَشْنِيعًا لِكُفْرِهِمْ.
وَفَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ: فَأَخَذْتُهُمْ قَوْلَهُ: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ كَمَا فَرَّعَ قَوْلَهُ: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِر: ٤] عَلَى جُمْلَةِ مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: ٤]
86
فَيَجْرِي تَوْجِيهُ الِاسْتِفْهَامِ هُنَا عَلَى نَحْوِ مَا جَرَى مِنْ تَوْجِيهِ الْخِطَابِ هُنَاكَ.
وَالْأَخْذُ هُنَا: الْغَلَبُ. وَالِاسْتِفْهَامُ بِ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيبِ مِنْ حَالَةِ الْعِقَابِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالِاسْتِفْهَامِ قَدْ شَاهَدَ ذَلِكَ الْأَخْذَ وَالْعِقَابَ وَإِنَّمَا بُنِيَ ذَلِكَ عَلَى مُشَاهَدَةِ آثَارِ ذَلِكَ الْأَخْذِ فِي مُرُورِ الْكَثِيرِ عَلَى دِيَارِهِمْ فِي الْأَسْفَارِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ [الْحجر: ٧٦] وَنَحْوُهُ، وَفِي سَمَاعِ الْأَخْبَارِ عَنْ نُزُولِ الْعِقَابِ بِهِمْ وَتَوْصِيفِهِمْ، فَنَزَّلَ جَمِيعَ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ شَاهَدَ نُزُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ، فَفِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ تَحْقِيقٌ وَتَثْبِيتٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ فَأَخَذْتُهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مَعْنَى التَّقْرِيرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَأَخَذْتُهُمْ التَّعْرِيضُ بِتَهْدِيدِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ
بِتَنْبِيهِهِمْ عَلَى مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ قَبْلَهُمْ لِأَنَّهُمْ أَمْثَالُهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ وَالتَّكْذِيبِ فَلِذَلِكَ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ عَمَّا حَلَّ بِنُظَرَائِهِمْ تَقْرِيرِيًّا لَهُمْ بِذَلِكَ.
وَحُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ عِقابِ تَخْفِيفًا مَعَ دَلَالَةِ الكسرة عَلَيْهَا.
[٦]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٦]
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦)
الْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ [غَافِر: ٥]، أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْحَقِّ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ فَالْمُشَارُ إِلَيْهِ الْمَصْدَرُ الْمَأْخُوذُ مِنْ قَوْلِهِ: حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَلَى نَحْوِ مَا قُرِّرَ غَيْرَ مَرَّةٍ، أُولَاهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣]، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ الْمُشَبَّهَ بَلَغَ الْغَايَةَ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يُشَبِّهَهُ لَمْ يُشَبِّهْهُ إِلَّا بِنَفْسِهِ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ الْأَخْذَ الْمَأْخُوذَ مِنْ قَوْله: فَأَخَذْتُهُمْ [غَافِر: ٥]، أَيْ وَمِثْلُ ذَلِكَ الْأَخْذِ الَّذِي أَخَذَ اللَّهُ بِهِ قَوْمَ نُوحٍ وَالْأَحْزَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ حَقَّتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَعُلِمَ مِنْ تَشْبِيهِ تَحَقُّقِ كَلِمَاتِ اللَّهِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِذَلِكَ
87
الْأَخْذِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَخْذَ كَانَ تَحْقِيقًا لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، أَيْ تَصْدِيقًا لِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ، فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا جَمِيعُ الْكَافِرِينَ، فَالْكَلَامُ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ فَهُوَ تَذْيِيلٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْزَابِ الْأُمَمُ الْمَعْهُودَةُ الَّتِي ذُكِرَتْ قِصَصُهَا فَيَكُونُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعَمَّ. وَبِذَلِكَ يَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ:
وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ جَارِيًا عَلَى أَصْلِ التَّشْبِيهِ مِنَ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣] وَنَظَائِرِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا عَيْنَ الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ آنِفًا: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: ٤] أَيْ مِثْلَ أَخْذِ قَوْمِ نُوحٍ وَالْأَحْزَابِ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَلَى كُفَّارِ قَوْمِكَ، أَيْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَاتُ الْوَعِيدِ إِذَا لَمْ يُقْلِعُوا عَنْ كُفْرِهِمْ.
وَ (كَلِمَاتُ اللَّهِ) هِيَ أَقْوَالُهُ الَّتِي أَوْحَى بِهَا إِلَى الرُّسُلِ بِوَعِيدِ الْمُكَذِّبِينَ، وعَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَعَلَّقُ بِ حَقَّتْ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلا من كَلِمَةُ رَبِّكَ بَدَلًا مُطَابِقًا فَيَكُونُ ضمير أَنَّهُمْ عَائِد إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَكُونُوا أَصْحَابَ النَّارِ، وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ غَيْرُ مُعَاقِبِ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِالِاسْتِئْصَالِ لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْهُمْ ذُرِّيَّةً مُؤْمِنِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةً عَلَى طَرِيقَةِ كَثْرَةِ حَذْفِهَا قَبْلَ (أَنْ).
وَالْمَعْنَى: لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ أَنَّهُمْ عَائِدًا إِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ وَالْأَحْزَابِ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَلِمَةُ رَبِّكَ بِالْإِفْرَادِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، وَالْإِفْرَادُ هُنَا مُسَاوٍ لِلْجَمْعِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ بِقَرِينَةِ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ بِ (عَلَى) تَعَلَّقَ بِفِعْلِ حَقَّتْ وَهُوَ ضَمِيرُ جَمْعٍ فَلَا جَرَمَ أَنْ تَكُونَ الْكَلِمَةُ جِنْسًا صَادِقًا بِالْمُتَعَدِّدِ بِحَسَبِ تَعَدُّدِ أَزْمَانِ كَلِمَاتِ الْوَعِيدِ وَتَعَدُّدِ الْأُمَم المتوعّدة.
88

[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٧]

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ اقْتَضَاهُ الِانْتِقَالُ مِنْ ذِكْرِ الْوَعِيدِ الْمُؤْذِنِ بِذَمِّ الَّذِينَ كفرُوا إِلَى ذكر الثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الْكَلَامَ الْجَارِيَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَلَائِكَةِ مِثْلُ الْكَلَامِ الْجَارِي عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ إِذِ الْجَمِيعُ مِنْ وَحْيِ اللَّهِ، وَالْمُنَاسَبَةُ الْمُضَادَّةُ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَالْمَقَالَيْنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ وَعِيدِ الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنْ يَسْأَلَ سَائِلٌ عَنْ حَالِ الَّذِينَ لَا يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ فَآمَنُوا بِهَا.
وَخَصَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ طَائِفَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَوْصُوفَةً بِأَوْصَافٍ تَقْتَضِي رِفْعَةَ شَأْنِهِمْ تَذَرُّعًا مِنْ ذَلِكَ إِلَى التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الشَّرِيفَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَسْنَدَ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ لِعُمُومِ الْمَلَائِكَةِ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الشُّورَى [٥] وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ فِيهَا بَعْدَهُ: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ [الشورى: ٦].
والَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ هُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِرَفْعِ الْعَرْشِ الْمُحِيطِ بِالسَّمَاوَاتِ وَهُوَ أَعْظَمُ السَّمَاوَاتِ، وَلِذَلِكَ أُضِيفَ إِلَى اللَّهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة: ١٧].
ومَنْ حَوْلَهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَحُفُّ بِالْعَرْشِ تَحْقِيقًا لِعَظَمَتِهِ قَالَ تَعَالَى: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزمر: ٧٥]، وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْخَوْضِ فِي عَدَدِهِمْ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: ٣١].
وَالْإِخْبَارُ عَنْ صِنْفَيِ الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ تَوْطِئَةٌ وَتَمْهِيدٌ لِلْإِخْبَارِ عَنْهُمْ
بِأَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينِ آمَنُوا فَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ، فَقَدَّمَ لَهُ مَا فِيهِ
89
تَحْقِيقُ اسْتِجَابَةِ اسْتِغْفَارِهِمْ لِصُدُورِهِ مِمَّنْ دَأْبُهُمُ التَّسْبِيحُ وَصِفَتُهُمُ الْإِيمَانُ.
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يُسَبِّحُونَ ويُؤْمِنُونَ ويَسْتَغْفِرُونَ مُفِيدَةٌ لِتَجَدُّدِ ذَلِكَ وَتَكَرُّرِهِ، وَذَلِكَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا كَمَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِقَوْلِهِ:
فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَقَوْلِهِ: وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ [غَافِر: ٨] وَقَوْلِهِ:
وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ [غَافِر: ٩] إِلَخْ وَقَدْ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: ٥] أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمَعْنَى تُجَدُّدِ الْإِيمَانِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ وَيُؤْمِنُونَ تَجَدُّدُ مُلَاحَظَتِهِ فِي نُفُوسِ الْمَلَائِكَةِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْإِيمَانَ عَقْدٌ ثَابِتٌ فِي النُّفُوسِ وَإِنَّمَا تُجَدُّدُهُ بِتَجَدُّدِ دَلَائِلِهِ وَآثَارِهِ. وَفَائِدَةُ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ مَعَ كَوْنِهِ مَعْلُومًا فِي جَانِبِ الْمَلَائِكَةِ التَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْإِيمَانِ بِأَنَّهُ حَالُ الْمَلَائِكَةِ، وَالتَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ أَنْ لَمْ يَكُونُوا مِثْلَ أَشْرَفِ أَجْنَاسِ الْمَخْلُوقَاتِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: ١٦١].
وَجُمْلَةُ رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً مُبَيِّنَةٌ لِ يَسْتَغْفِرُونَ، وَفِيهَا قَوْلٌ مَحْذُوفٌ دَلَّتْ عَلَيْهِ طَرِيقَةُ التَّكَلُّمِ فِي قَوْلِهِمْ: رَبَّنا.
وَالْبَاءُ فِي بِحَمْدِ رَبِّهِمْ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ يُسَبِّحُونَ اللَّهَ تَسْبِيحًا مُصَاحِبًا لِلْحَمْدِ، فَحَذَفَ مَفْعُولَ يُسَبِّحُونَ لِدَلَالَةِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ عَلَيْهِ.
وَالْمرَاد ب لِلَّذِينَ آمَنُوا الْمُؤْمِنُونَ الْمَعْهُودُونَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِكُلِّ الْمُؤْمِنِينَ.
وَافْتُتِحَ دُعَاءُ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي التَّضَرُّعِ وَأَرْجَى لِلْإِجَابَةِ، وَتَوَجَّهُوا إِلَى اللَّهِ بِالثَّنَاءِ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَعِلْمِهِ لِأَنَّ سَعَةَ الرَّحْمَةِ مِمَّا يُطْمِعُ بِاسْتِجَابَةِ الْغُفْرَانِ، وَسَعَةَ الْعِلْمِ تَتَعَلَّقُ بِثُبُوتِ إِيمَانِ الَّذِينَ آمَنُوا.
وَمَعْنَى السَّعَةِ فِي الصِّفَتَيْنِ كَثْرَةُ تَعَلُّقَاتِهِمَا، وَذِكْرُ سَعَةِ الْعِلْمِ كِنَايَةٌ عَنْ يَقِينِهِمْ بِصِدْقِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ، أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِكَ وَوَحَّدُوكَ.
90
وَجِيءَ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى بِالرَّحْمَةِ الْوَاسِعَةِ وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ بِأُسْلُوبِ التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ عَنِ النِّسْبَةِ لِمَا فِي تَرْكِيبِهِ مِنَ الْمُبَالَغَةِ بِإِسْنَادِ السَّعَةِ إِلَى الذَّاتِ ظَاهِرًا حَتَّى كَأَنَّ ذَاتَهُ هِيَ الَّتِي وَسِعَتْ، فَذَلِكَ إِجْمَالٌ يَسْتَشْرِفُ بِهِ السَّامِعُ إِلَى مَا يَرِدُ بَعْدَهُ فَيَجِيءُ بَعْدَهُ التَّمْيِيزُ الْمُبَيِّنُ لِنِسْبَةِ السَّعَةِ أَنَّهَا مِنْ جَانِبِ الرَّحْمَةِ وَجَانِبِ الْعِلْمِ، وَهِيَ فَائِدَةُ تَمْيِيزِ النِّسْبَةِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ
لِلتَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ تَمْكِينًا لِلصِّفَةِ فِي النَّفْسِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مَرْيَم: ٤]. وَالْمُرَادُ أَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْعِلْمَ وَسِعَا كُلَّ مَوْجُودٍ، الْآنَ، أَيْ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ هُوَ سِيَاقُ الدُّعَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، فَمَا مِنْ مَوْجُودٍ فِي الدُّنْيَا إِلَّا وَقَدْ نَالَتْهُ قِسْمَةٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْإِنْسَانُ وَالْحَيَوَانُ.
وكُلَّ شَيْءٍ كُلَّ مَوْجُودٍ، وَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِالْعَقْلِ بِالنِّسْبَةِ لِلرَّحْمَةِ، أَيْ كُلُّ شَيْءٍ مُحْتَاجٌ إِلَى الرَّحْمَةِ، وَتِلْكَ هِيَ الْمَوْجُودَاتُ الَّتِي لَهَا إِدْرَاكٌ تُدْرِكُ بِهِ الْمُلَائِمَ وَالْمُنَافِرَ وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ، مِنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي تَعَلُّقِ الرَّحْمَةِ بِالْحَجَرِ وَالشَّجَرِ وَنَحْوِهِمَا. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِلْمِ فَالْعُمُومُ عَلَى بَابِهِ قَالَ تَعَالَى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الْملك: ١٤].
وَلَمَّا كَانَ سِيَاقُ هَذَا الدُّعَاءِ أَنَّهُ وَاقِعٌ فِي الدُّنْيَا كَمَا تَقَدَّمَ انْدَفَعَ مَا عَسَى أَنْ يُقَالَ إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ لَا تَسَعُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ هُمْ فِي عَذَابٍ خَالِدٍ فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ كُلِّ شَيْءٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى سَعَةِ الرَّحْمَةِ بِمُخَصَّصَاتِ الْأَدِلَّةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْقَاضِيَةِ بِعَدَمِ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ لِلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ الْحِسَابِ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى هَذِهِ التَّوْطِئَةِ بِمُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا هُوَ الْمُتَوَسَّلُ إِلَيْهِ مِنْهَا وَهُوَ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ لِلَّذِينِ تَابُوا لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ عَلِمَ صِدْقَ تَوْبَةِ مَنْ تَابَ مِنْهُمْ وَكَانَتْ رَحْمَتُهُ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدِ اسْتَحَقُّوا أَنْ تَشْمَلَهُمْ رَحْمَتُهُ لِأَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِهَا.
وَمَفْعُولُ فَاغْفِرْ مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ، أَيِ اغْفِرْ لَهُمْ مَا تَابُوا مِنْهُ، أَيْ ذُنُوبَ الَّذِينَ تَابُوا. وَالْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ: الْإِقْلَاعُ عَنِ الْمَعَاصِي وَأَعْظَمُهَا الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ.
91
وَاتِّبَاعُ سَبِيلِ اللَّهِ هُوَ الْعَمَلُ بِمَا أَمَرَهُمْ وَاجْتِنَابُ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ، فَالْإِرْشَادُ يُشْبِهُ الطَّرِيقَ الَّذِي رَسَمَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ فَإِذَا عَمِلُوا بِهِ فَكَأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا السَّبِيلَ فَمَشَوْا فِيهِ فَوَصَلُوا إِلَى الْمَقْصُودِ.
وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ عَطْفٌ عَلَى فَاغْفِرْ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ التَّفْرِيعِ فَإِنَّ الْغُفْرَانَ يَقْتَضِي هَذِهِ الْوِقَايَةَ لِأَنَّ غُفْرَانَ الذَّنْبِ هُوَ عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ. وَعَذَابُ الْجَحِيمِ جَعَلَهُ اللَّهُ لِجَزَاءِ الْمُذْنِبِينَ، إِلَّا أَنَّهُمْ عَضَّدُوا دَلَالَةَ الِالْتِزَامِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ إِظْهَارًا لِلْحِرْصِ عَلَى الْمَطْلُوبِ. وَالْجَحِيمُ: شِدَّةُ الالتهاب، وَسميت بِهِ جَهَنَّمُ دَارَ الْجَزَاءِ على الذُّنُوب.
[٨- ٩]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
إِعَادَةُ النِّدَاءِ فِي خِلَالِ جُمَلِ الدُّعَاءِ اعْتِرَاضٌ لِلتَّأْكِيدِ بِزِيَادَةِ التَّضَرُّعِ، وَهَذَا ارْتِقَاءٌ مِنْ طَلَبِ وِقَايَتِهِمُ الْعَذَابَ إِلَى طَلَبِ إِدْخَالِهِمْ مَكَانَ النَّعِيمِ.
وَالْعَدْنُ: الْإِقَامَةُ، أَيِ الْخُلُودُ. وَالدُّعَاءُ لَهُمْ بِذَلِكَ مَعَ تَحَقُّقِهِمْ أَنَّهُمْ مَوْعُودُونَ بِهِ تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٤] قَوْلُهُ:
رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: وَأَدْخِلْهُمْ عَجِّلْ لَهُمْ بِالدُّخُولِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِمْ: وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ فَإِنَّ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مَوْعُودِينَ بِهِ صَرِيحًا. ومَنْ صَلَحَ عَطْفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي أَدْخِلْهُمْ.
92
وَالْمَعْنَى دُعَاءٌ بِأَنْ يَجْعَلَهُمُ اللَّهُ مَعَهُمْ فِي مَسَاكِنَ مُتَقَارِبَةٍ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ فِي سُورَةِ يس [٥٦]، وَقَوْلِهِ: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فِي سُورَةِ الطُّورِ [٢١].
وَرُتِّبَتِ الْقَرَابَاتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَرْتِيبِهَا الطَّبِيعِيِّ فَإِنَّ الْآبَاءَ أَسْبَقُ عَلَاقَةً بِالْأَبْنَاءِ ثُمَّ الْأَزْوَاجَ ثُمَّ الذُّرِّيَّاتِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الدَّعَوَاتِ اسْتِقْصَاءً لِلرَّغْبَةِ فِي الْإِجَابَةِ بِدَاعِي مَحَبَّةِ الْمَلَائِكَةِ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ لِمَا بَيْنَ نُفُوسِهِمْ وَالنُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ مِنَ التَّنَاسُبِ. وَاقْتِرَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَا. وَ (إِنَّ) فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ تُغْنِي غِنَاءَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ، أَيْ فَعِزَّتُكَ وَحِكْمَتُكَ هُمَا اللَّتَانِ جَرَّأَتَانَا عَلَى سُؤَالِ ذَلِكَ مِنْ جَلَالِكَ، فَالْعِزَّةُ تَقْتَضِي الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَشْيَاءِ النَّفِيسَةِ فَلَمَّا وَعَدَ الصَّالِحِينَ الْجَنَّةَ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ مَا يَضِنُّهُ بِذَلِكَ فَلَا يَصْدُرُ مِنْهُ مَطْلٌ، وَالْحِكْمَةُ تَقْتَضِي مُعَامَلَةَ الْمُحْسِنِ بِالْإِحْسَانِ.
وَأَعْقَبُوا بِسُؤَالِ النَّجَاةِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّعِيمَ بِدَارِ الثَّوَابِ بِدُعَاءٍ بِالسَّلَامَةِ مِنْ عُمُومِ كُلِّ مَا يَسُوءُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِمْ: وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَهُوَ دُعَاءٌ جَامِعٌ إِذِ السَّيِّئَاتُ هُنَا جَمْعُ سَيِّئَةٍ وَهِيَ الْحَالَةُ أَوْ الْفِعْلَةُ الَّتِي تَسُوءُ مَنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ مِثْلَ مَا فِي قَوْلِهِ: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا [غَافِر: ٤٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ
[الْأَعْرَاف: ١٣١] صِيغَتْ عَلَى وَزْنِ فَيْعَلَةٍ لِلْمُبَالَغَةِ فِي قِيَامِ الْوَصْفِ بِالْمَوْصُوفِ مِثْلَ قَيِّمٍ وَسَيِّدٍ وَصَيْقَلٍ، فَالْمَعْنَى: وَقِهِمْ مِنْ كُلِّ مَا يَسُوءُهُمْ.
فَالتَّعْرِيفُ فِي السَّيِّئاتِ لِلْجِنْسِ وَهُوَ صَالِحٌ لِإِفَادَةِ الِاسْتِغْرَاقِ، فَوُقُوعُهُ فِي سِيَاقِ مَا هُوَ كَالنَّفْيِ وَهُوَ فِعْلُ الْوِقَايَةِ يُفِيدُ عُمُومَ الْجِنْسِ، عَلَى أَنَّ بِسَاطَ الدُّعَاءِ يَقْتَضِي عُمُومَ الْجِنْسِ وَلَوْ بِدُونِ لَامِ نَفْيٍ كَقَوْلِ الْحَرِيرِيُّ:
يَا أَهْلَ ذَا الْمَغْنَى وقيتم ضرا و
93
فِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَمُمْسِكًا تَلَفًا»
أَيْ كُلَّ مُنْفِقٍ وَمُمْسِكٍ.
وَالْمُرَادُ: إِبْلَاغُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الرِّضَى وَالْقَبُولِ يَوْمَ الْجَزَاءِ بِحَيْثُ لَا يَنَالُهُمُ الْعَذَابُ وَيَكُونُونَ فِي بُحْبُوحَةِ النَّعِيمِ وَلَا يَعْتَرِيهِمْ مَا يُكَدِّرُهُمْ مِنْ نَحْوِ التَّوْبِيخِ وَالْفَضِيحَةِ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ [الْإِنْسَان: ١١].
وَجُمْلَةُ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ تَذْيِيلٌ، أَيْ وَكُلُّ مَنْ وُقِيَ السَّيِّئَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَدْ نَالَتْهُ رَحْمَةُ اللَّهِ، أَيْ نَالَتْهُ الرَّحْمَةُ كَامِلَةً فَفِعْلُ رَحِمْتَهُ مُرَادٌ بِهِ تَعْظِيمُ مَصْدَرِهِ.
وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا الْمُرَادِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْله: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إِذْ أُشِيرَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ وِقَايَةِ السَّيِّئَاتِ إِشَارَةً لِلتَّنْوِيهِ وَالتَّعْظِيمِ. وَوُصِفَ الْفَوْزُ بِالْعَظِيمِ لِأَنَّهُ فَوْزٌ بِالنَّعِيمِ خَالِصًا مِنَ الْكُدْرَاتِ الَّتِي تُنْقِصُ حَلَاوَةَ النِّعْمَةِ.
وَتَنْوِينُ يَوْمَئِذٍ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ يَوْمَ إِذْ تُدْخِلُهُمْ جنَّات عدن.
[١٠]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠)
مُقَابَلَةُ سُؤَالِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّعِيمِ الْخَالِصِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا يُخَاطَبُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَئِذٍ مِنَ التَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ وَمَا يُرَاجَعُونَ بِهِ مِنْ طَلَبِ الْعَفْوِ مُؤْذِنَةٌ بِتَقْدِيرِ مَعْنَى الْوَعْدِ بِاسْتِجَابَةِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَطَيُّ ذِكْرِ ذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِيجَازِ.
وَالِانْتِقَالُ مِنْهُ إِلَى بَيَانِ مَا سَيَحِلُّ بِالْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ ضَرْبٌ مِنَ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ الْآيَاتِ مُسْتَأْنَفٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا كَأَنَّ سَائِلًا
94
سَأَلَ عَنْ تَقَبُّلِ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ فَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَهَمَّ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ ضِدِّ ذَلِكَ، وَفِي هَذَا الْأُسْلُوبِ
إِيمَاءٌ وَرَمْزٌ إِلَى أَنَّ الْمُهِمَّ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ كُلِّهَا هُوَ مَوْعِظَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ رُجُوعًا إِلَى قَوْلِهِ:
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ [غَافِر: ٦] وَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا هُنَا مُشْرِكُو أَهِلِ مَكَّةَ، فَإِنَّهُمُ الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غَافِر: ٧].
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُنَادِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ تَبْلِيغًا عَنْ رَبِّ الْعِزَّةِ، قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت: ٤٤] وَهُوَ بُعْدٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الْجَلَالِ، أَيْ يُنَادَوْنَ وَهُمْ فِي جَهَنَّمَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غَافِر: ١١].
وَاللَّامُ فِي لَمَقْتُ اللَّهِ لَامُ الْقَسَمِ. وَالْمَقْتُ: شِدَّةُ الْبُغْضِ. وإِذْ تُدْعَوْنَ ظَرْفٌ لِ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ.
وإِذْ ظَرْفٌ لِلزَّمَنِ الْمَاضِي، أَيْ حِينَ كُنْتُمْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا بِقَرِينَةِ تُدْعَوْنَ وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي تُدْعَوْنَ وفَتَكْفُرُونَ
لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَكَرُّرِ دَعْوَتِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَكَرُّرَ كُفْرِهِمْ، أَيْ تجدده.
وَمعنى: مقتهم أنفسهم حِينَئِذٍ أَنَّهُمْ فَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا يُشْبِهُ الْمَقْتَ إِذْ حَرَمُوهَا مِنْ فَضِيلَةِ الْإِيمَانِ وَمَحَاسِنِ شَرَائِعِهِ وَرَضُوا لِأَنْفُسِهِمْ دِينَ الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أُوقِظُوا عَلَى مَا فِيهِ مِنْ ضَلَالٍ وَمَغَبَّةِ سُوءٍ، فَكَانَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ شَبِيهًا بِفِعْلِ الْمَرْءِ لِبَغِيضِهِ مِنَ الضُّرِّ وَالْكَيْدِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ عَدُوُّ نَفْسِهِ. وَفِي حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنْ عُمَرَ قَالَ لِنِسَاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَكْثِرْنَ، فَلَمَّا دَخَلَ عُمَرُ ابْتَدَرْنَ الْحِجَابَ فَقَالَ لَهُنَّ: «يَا عَدُوَّاتِ أَنْفُسِهِنَّ أَتَهَبْنَنِي وَلَا تَهَبْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
فَالْمَقْتُ مُسْتَعَارٌ لِقِلَّةِ التَّدَبُّرِ فِيمَا يَضُرُّ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى وَجْهِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ قَوْلُهُ: إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ فَمَنَاطُ الْكَلَامِ هُوَ فَتَكْفُرُونَ وَفِي ذِكْرِ يُنادَوْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى كَلَامٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَمْقَتُهُمُ اللَّهُ وَيُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ إِلَخْ.
95
وَمَعْنَى مَقْتُ اللَّهِ: بُغْضُهُ إِيَّاهُمْ وَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ أُطْلِقَ عَلَى الْمُعَامَلَةِ بِآثَارِ الْبُغْضِ مِنَ التَّحْقِيرِ وَالْعِقَابِ فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى حَقِيقَةِ الْبُغْضِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَثَرُهُ وَهُوَ الْمُعَامَلَةُ بِالنَّكَالِ، وَهُوَ شَائِعٌ شُيُوعَ نَظَائِرِهِ مِمَّا يُضَافُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا تَسْتَحِيلُ حَقِيقَتُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ.
وأَكْبَرُ بِمَعْنَى أَشَدَّ وَأَخْطَرَ أَثَرًا، فَإِطْلَاقُ الْكِبَرِ عَلَيْهِ مَجَازٌ لِأَنَّ الْكِبَرَ مِنْ أَوْصَافِ
الْأَجْسَامِ لَكِنَّهُ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْقُوَّةِ فِي الْمَعَانِي. وَلَمَّا كَانَ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ حَرَمَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ النَّجَاةِ وَالصَّلَاحِ وَكَانَ غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَوْقَعَهُمْ فِي الْعَذَابِ كَانَ مَقْتُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ أَشَدَّ وَأَنْكَى مِنْ مَقْتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ لِأَنَّ شِدَّةَ الْإِيلَامِ أَقْوَى مِنَ الْحِرْمَانِ مِنَ الْخَيْرِ. وَالْمَقْتُ الْأَوَّلُ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ [الْبَقَرَة: ١٦]، وَالْمَقْتُ الثَّانِي قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً [فاطر: ٣٩] وَهُوَ مَقْتُ الْعَذَابِ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمُلَاقِي لِتَنَاسُقِ نَظْمِهَا، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهَا وُجُوهٌ أُخَرُ تَدْنُو وَتَبْعُدُ مِمَّا ذَكَرْنَا فَاسْتَعْرِضْهَا وَاحْكُمْ فِيهَا.
وأَنْفُسَكُمْ يتنازعه لَمَقْتُ اللَّهِ، ومَقْتِكُمْ فَهُوَ مَفْعُولُ الْمَصْدَرَيْنِ الْمُضَافَيْنِ إِلَى فَاعِلَيْهِمَا.
وَبُنِيَ فِعْلُ تُدْعَوْنَ إِلَى النَّائِبِ لِلْعِلْمِ بِالْفَاعِلِ لِظُهُورِ أَنَّ الدَّاعِيَ هُوَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَتَفْرِيعُ فَتَكْفُرُونَ بِالْفَاءِ عَلَى تُدْعَوْنَ يُفِيدُ أَنَّهُمْ أَعْقَبُوا الدَّعْوَةَ بِالْكُفْرِ، أَيْ بِتَجْدِيدِ كُفْرِهِمُ السَّابِقِ وَبِإِعْلَانِهِ أَيْ دُونَ أَنْ يَتَمَهَّلُوا مُهْلَةَ النَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ فِيمَا دعوا إِلَيْهِ.
96

[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ١١]

قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١)
جَوَابٌ عَنِ النِّدَاءِ الَّذِي نُودُوا بِهِ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَحَكَى مَقَالَهُمْ عَلَى طَرِيقَةِ حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ بِحَذْفِ حَرْفِ الْعَطْفِ، طَمَعُوا أَنْ يَكُونَ اعْتِرَافُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَسِيلَةً إِلَى مَنْحِهِمْ خُرُوجًا مِنَ الْعَذَابِ خُرُوجًا مَا لِيَسْتَرِيحُوا مِنْهُ وَلَوْ بَعْضَ الزَّمَنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النِّدَاءَ الْمُوَجَّهَ إِلَيْهِمْ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ أَوْهَمَهُمْ أَنَّ فِيهِ إِقْبَالًا عَلَيْهِمْ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاعْتِرَافِ هُوَ اعْتِرَافُهُمْ بِالْحَيَاةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكِرُونَهَا وَأَمَّا الْمَوْتَتَانِ وَالْحَيَاةُ الْأُولَى فَإِنَّمَا ذُكِرْنَ إِدْمَاجًا لِلِاسْتِدْلَالِ فِي صُلْبِ الِاعْتِرَافِ تَزَلُّفًا مِنْهُمْ، أَيْ أَيْقَنَّا أَنَّ الْحَيَاةَ الثَّانِيَةَ حَقٌّ وَذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ إِقْرَارَهُمْ صِدْقٌ لَا مُوَارَبَةَ فِيهِ وَلَا تَصَنُّعَ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ عَنْ دَلِيلٍ، وَلِذَلِكَ جُعِلَ مُسَبَّبًا عَلَى هَذَا الْكَلَامِ بِعَطْفِهِ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ:
فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا.
وَالْمُرَادُ بِإِحْدَى الْمَوْتَتَيْنِ: الْحَالَةُ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْجَنِينُ لَحْمًا لَا حَيَاةَ فِيهِ فِي أَوَّلِ
تَكْوِينِهِ قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ، وَإِطْلَاقُ الْمَوْتِ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ مَجَازٌ وَهُوَ مُخْتَارُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَالسَّكَّاكِيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَوْتِ انْعِدَامُ الْحَيَاةِ مِنَ الْحَيِّ بَعْدَ أَنِ اتَّصَفَ بِالْحَيَاةِ، فإطلاقه على حَالَة انْعِدَامِ الْحَيَاةِ قَبْلَ حُصُولِهَا فِيهِ اسْتِعَارَةٌ، إِلَّا أَنَّهَا شَائِعَةٌ فِي الْقُرْآنِ حَتَّى سَاوَتِ الْحَقِيقَةَ فَلَا إِشْكَالَ فِي اسْتِعْمَالِ أَمَتَّنَا فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، فَفِي ذَلِكَ الْفِعْلِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ تَبَعًا لِجَرَيَانِ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْمَصْدَرِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَاقِعٌ وَوَارِدٌ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ كَاسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، وَالَّذِينَ لَا يَرَوْنَ تَقْيِيدَ مَدْلُولِ الْمَوْتِ بِأَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بَعْدَ الْحَيَاةِ يَكُونُ إِطْلَاقُ الْمَوْتِ عَلَى حَالَةِ مَا قَبْلَ الِاتِّصَافِ بِالْحَيَاةِ عِنْدَهُمْ وَاضِحًا، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨]، عَلَى أَنَّ إِطْلَاقَ الْمَوْتِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَسْوَغُ لِأَنَّ فِيهِ تَغْلِيبًا لِلْمَوْتَةِ الثَّانِيَةِ. وَأَمَّا الْمَوْتَةُ الثَّانِيَةُ فَهِيَ الْمَوْتَةُ الْمُتَعَارَفَةُ عِنْدَ انْتِهَاءِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ.
وَالْمُرَادُ بِالْإِحْيَاءَتَيْنِ: الْإِحْيَاءَةُ الْأُولَى عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِي الْجَسَدِ بَعْدَ مَبْدَأِ تَكْوِينِهِ،
97
وَالْإِحْيَاءَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الْبَقَرَة: ٢٨].
وَانْتَصَبَ اثْنَتَيْنِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَى الصِّفَةِ لِمَفْعُولٍ مُطْلَقٍ مَحْذُوفٍ. وَالتَّقْدِيرُ:
مَوْتَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ وَإِحْيَاءَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ فَيَجِيءُ فِي تَقْدِيرِ مَوْتَتَيْنِ تَغْلِيبُ الِاسْمِ الْحَقِيقِيِّ عَلَى الِاسْمِ الْمَجَازِيِّ عِنْدَ مَنْ يُقَيِّدُ مَعْنَى الْمَوْتِ.
وَقَدْ أَوْرَدَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِشْكَالَ أَنَّ هُنَالِكَ حَيَاةً ثَالِثَةً لَمْ تُذْكَرْ هُنَا وَهِيَ الْحَيَاةُ فِي الْقَبْرِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا حَدِيثُ سُؤَالِ الْقَبْرِ وَهُوَ حَدِيثٌ اشْتُهِرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَهْدِ السَّلَفِ، وَفِي كَوْنِ سُؤَالِ الْقَبْرِ يَقْتَضِي حَيَاةَ الْجِسْمِ حَيَاةً كَامِلَةً احْتِمَالٌ، وَقَدْ يُتَأَوَّلُ بِسُؤَالِ رُوحِ الْمَيِّتِ عِنْدَ جَسَدِهِ أَوْ بِحُصُولِ حَيَاةِ بَعْضِ الْجَسَدِ أَو لِأَنَّهَا لما كَانَت حَيَاةٌ مُؤَقَّتَةٌ بِمِقْدَارِ السُّؤَالِ لَيْسَ لِلْمُتَّصِفِ بِهَا تَصَرُّفُ الْأَحْيَاءِ فِي هَذَا الْعَالَمِ، لَمْ يُعْتَدْ بِهَا لَا سِيَّمَا وَالْكَلَامُ مُرَادٌ مِنْهُ التَّوْطِئَةُ لِسُؤَالِ خُرُوجِهِمْ مِنْ جَهَنَّمَ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ بِمَعْزِلٍ عَنْ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِهَا لِثُبُوتِ الْحَيَاةِ عِنْدَ السُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ.
وَتَفَرَّعَ قَوْلُهُمْ: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا عَلَى قَوْلِهِمْ: وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ اعْتِبَارُ أَنَّ إِحْدَى الْإِحْيَاءَتَيْنِ كَانَتِ السَّبَبَ فِي تَحَقُّقِ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي مِنْ أُصُولِهَا إِنْكَارُهُمُ الْبَعْثَ فَلَمَّا رَأَوُا الْبَعْثَ رَأْيَ الْعَيْنِ أَيْقَنُوا بِأَنَّهُمْ مُذْنِبُونَ إِذْ أَنْكَرُوهُ وَمُذْنِبُونَ بِمَا اسْتَكْثَرُوهُ مِنَ الذُّنُوبِ لِاغْتِرَارِهِمْ بِالْأَمْنِ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْحَيَاةِ الْعَاجِلَةِ.
فَجُمْلَةُ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا إِنْشَاءُ إِقْرَارٍ بِالذُّنُوبِ وَلِذَلِكَ جِيءَ فِيهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي كَمَا هُوَ غَالِبُ صِيَغِ الْخَبَرِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْإِنْشَاءِ مِثْلَ صِيَغِ الْعُقُودِ نَحْوَ: بِعْتُ. وَالْمَعْنَى: نَعْتَرِفُ بِذُنُوبِنَا.
وَجَعَلُوا هَذَا الِاعْتِرَافَ ضَرْبًا مِنَ التَّوْبَةِ تَوَهُّمًا مِنْهُمْ أَنَّ التَّوْبَةَ تَنْفَعُ يَوْمَئِذٍ، فَلِذَلِكَ فَرَّعُوا عَلَيْهِ: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ، فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْعَرْضِ وَالِاسْتِعْطَافِ كُلِّيًّا لِرَفْعِ الْعَذَابِ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ حِكَايَةُ سُؤَالِ أَهْلِ النَّارِ الْخُرُوجَ أَوِ التَّخْفِيفَ وَلَوْ يَوْمًا.
98
وَالِاسْتِفْهَامُ بِحَرْفِ هَلْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الِاسْتِعْطَافِ. وَحَرْفُ مِنْ زَائِدٌ لِتَوْكِيدِ الْعُمُومِ الَّذِي فِي النَّكِرَةِ لِيُفِيدَ تَطَلُّبَهُمْ كُلَّ سَبِيلٍ لِلْخُرُوجِ وَشَأْنُ زِيَادَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي النَّفْي وَمَا فِي مَعْنَاهُ دُونَ الْإِثْبَاتِ. وَقَدْ عدّ الِاسْتِفْهَام بهل خَاصَّةً مِنْ مَوَاقِعِ زِيَادَةِ مِنْ لِتَوْكِيدِ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق: ٣٠]، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٥٣]، وَأَنَّ وَجْهَ اخْتِصَاصِ هَلْ بِوُقُوعِ مِنْ الزَّائِدَةِ فِي الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ بِهَا أَنَّهُ كَثُرَ اسْتِعْمَالُ الِاسْتِفْهَامِ بِهَا فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَزِيَادَةُ مِنْ حِينَئِذٍ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَتَنْصِيصِ عُمُومِ النَّفْيِ، فَخَفَّ وُقُوعُهَا بَعْدَ هَلْ عَلَى أَلْسُنِ أَهْلِ الِاسْتِعْمَالِ.
وَتَنْكِيرُ خُرُوجٍ لِلنَّوْعِيَّةِ تَلَطُّفًا فِي السُّؤَالِ، أَيْ إِلَى شَيْءٍ مِنَ الْخُرُوجِ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ لِأَنَّ كُلَّ خُرُوجٍ يَنْتَفِعُونَ بِهِ رَاحَةٌ مِنَ الْعَذَابِ كَقَوْلِهِمُ: ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ [غَافِر: ٤٩].
وَالسَّبِيلُ: الطَّرِيقُ وَاسْتُعِيرَ إِلَى الْوَسِيلَةِ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْأَمْرُ الْمَرْغُوبُ، وَكَثُرَ تَصَرُّفُ الِاسْتِعْمَالِ فِي إِطْلَاقَاتِ السَّبِيلِ وَالطَّرِيقِ وَالْمَسْلَكِ وَالْبُلُوغِ عَلَى الْوَسِيلَةِ وَبِحُصُولِ الْمَقْصُودِ.
وَتَنْكِيرُ سَبِيلٍ كَتَنْكِيرِ خُرُوجٍ أَيْ مِنْ وَسِيلَةٍ كَيْفَ كَانَتْ بِحَقٍّ أَوْ بِعَفْوٍ بِتَخْفِيفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» «وَهَذَا كَلَامُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْيَأْسُ وَالْقُنُوطُ» يُرِيدُ أَنَّ فِي اقْتِنَاعِهِمْ بِخُرُوجٍ مَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْتَبْعِدُونَ حُصُول الْخُرُوج.
[١٢]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ١٢]
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢)
عَدَلَ عَنْ جَوَابِهِمْ بِالْحِرْمَانِ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى ذِكْرِ سَبَبِ وُقُوعِهِمْ فِي الْعَذَابِ، وَإِذْ قَدْ كَانُوا عَالمين بِهِ حِين قَالُوا: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا [غَافِر: ١١]، كَانَتْ إِعَادَةُ التَّوْقِيفِ عَلَيْهِ
99
بَعْدَ سُؤَالِ الصَّفْحِ عَنْهُ كِنَايَةً عَنِ اسْتِدَامَتِهِ وَعَدَمِ اسْتِجَابَةِ سُؤَالِهِمُ الْخُرُوجَ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ يُشْعِرُ بِتَحْقِيرِهِمْ. وَزِيدَ ذَلِكَ تَحْقِيقًا بِقَوْلِهِ: فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.
فَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي أَنْبَأَ بِهِ قَوْلُهُ: يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [غَافِر: ١٠] وَمَا عَقَّبَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غَافِر: ١١].
وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ بِسَبَبِ كُفْرِكُمْ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ. وَضَمِيرُ بِأَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَهُوَ مُفَسَّرٌ بِمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، فَالسَّبَبُ هُوَ مَضْمُونُ الْقِصَّةِ الَّذِي حَاصِلُ سَبْكِهِ: بِكُفْرِكُمْ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَإِيمَانِكُمْ بِالشِّرْكِ.
وإِذا مُسْتَعْمَلَةٌ هُنَا فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي لِأَنَّ دُعَاءَ اللَّهِ وَاقِعٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ كُفْرُهُمْ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، فَالدُّعَاءُ الَّذِي مَضَى مَعَ كُفْرِهِمْ بِهِ كَانَ سَبَبَ وُقُوعِهِمْ فِي الْعَذَابِ.
وَمَجِيءُ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي الْفِعْلَيْنِ مُؤَوَّلٌ بِالْمَاضِي بِقَرِينَةِ مَا قَبْلَهُ، وَإِيثَارُ صِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي الْفِعْلَيْنِ لِدَلَالَتِهِمَا عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَإِنَّ لِتَكَرُّرِهِ أَثَرًا فِي مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ لَهُمْ.
وَالدُّعَاءُ: النِّدَاءُ، وَالتَّوَجُّهُ بِالْخِطَابِ. وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الدُّعَاءُ وَيُطْلَقُ الدُّعَاءُ عَلَى الْعِبَادَةِ، كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٦٠]، فَالْمَعْنَى إِذَا نُودِيَ اللَّهُ بِمَسْمَعِكُمْ نِدَاءً دَالًّا عَلَى أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ مِثْلُ آيَاتِ الْقُرْآنِ الدَّالَّةِ عَلَى نِدَاءِ اللَّهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، فَالدُّعَاءُ هُنَا الْإِعْلَانُ وَالذِّكْرُ، وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِقَوْلِهِ: كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا، وَالدُّعَاءُ بِهَذَا الْمَعْنَى أَعَمُّ مِنَ الدُّعَاءِ بِمَعْنَى سُؤَالِ الْحَاجَاتِ وَلَكِنَّهُ يَشْمَلُهُ، أَوْ إِذَا عُبِدَ اللَّهُ وَحْدَهُ.
100
وَمَعْنَى كَفَرْتُمْ جَدَّدْتُمُ الْكُفْرَ، وَذَلِكَ إِمَّا بِصُدُورِ أَقْوَالٍ مِنْهُمْ يُنْكِرُونَ فِيهَا انْفِرَادَ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وإمّا بملاحظة الْكفْر مُلَاحظَة جَدِيدَةٍ وَتَذَكُّرِ آلِهَتِهِمْ. وَمَعْنَى: وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا إِنْ يَصْدُرْ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ مِنْ أَقْوَالِ زُعَمَائِهِمْ وَرِفَاقِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ أَوْ إِذَا أُشْرِكَ بِهِ فِي الْعِبَادَةِ تُؤْمِنُوا، أَيْ تُجَدِّدُوا الْإِيمَانَ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ فِي قُلُوبِكُمْ أَوْ تُؤَيِّدُوا ذَلِكَ بِأَقْوَالِ التَّأْيِيدِ وَالزِّيَادَةِ. وَمُتَعَلِّقُ كَفَرْتُمْ وتُؤْمِنُوا مَحْذُوفَانِ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُمَا. وَالتَّقْدِيرُ: كَفَرْتُمْ بِتَوْحِيدِهِ وَتُؤْمِنُوا بِالشُّرَكَاءِ.
وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ الْأَوَّلِ بِ إِذا الَّتِي الْغَالِبُ فِي شَرْطِهَا تَحَقُّقُ وُقُوعِهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ دُعَاءَ اللَّهِ وَحْدَهُ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَخْلُو عَنْهُ أَيَّامُهُمْ وَلَا مَجَامِعُهُمْ، مَعَ مَا تُفِيدُ إِذا مِنَ الرَّغْبَةِ فِي حُصُولِ مَضْمُونِ شَرْطِهَا.
وَجِيءَ فِي الشَّرْطِ الثَّانِي بِحَرْفِ إِنْ الَّتِي أَصْلُهَا عَدَمُ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ شَرْطِهَا، أَوْ أَنَّ شَرْطَهَا أَمْرٌ مَفْرُوضٌ، مَعَ أَنَّ الْإِشْرَاكَ مُحَقَّقٌ تَنْزِيلًا لِلْمُحَقَّقِ مُنْزِلَةَ الْمَشْكُوكِ الْمَفْرُوضِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ دَلَائِلَ بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَاضِحَةٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ وَتَدَبُّرٍ فَنَزَّلَ إِشْرَاكَهُمُ الْمُحَقَّقَ مَنْزِلَةَ الْمَفْرُوضِ لِأَنَّ الْمَقَامَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا يَقْلَعُ مَضْمُونَ الشَّرْطِ مِنْ أَصْلِهِ فَلَا يَصْلُحُ إِلَّا لِفَرْضِهِ عَلَى نَحْوِ مَا يفْرض الْمَعْدُوم مَوْجُودًا أَوِ الْمُحَالُ مُمْكِنًا.
وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي الْحُكْمِ لِلْجِنْسِ. وَاللَّامُ فِي لِلَّهِ لِلْمِلْكِ أَيْ جِنْسُ الْحُكْمِ مِلْكٌ لِلَّهِ، وَهَذَا يُفِيدُ قَصْرَ هَذَا الْجِنْسِ عَلَى الْكَوْنِ لِلَّهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ [٢] وَهُوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ إِذْ لَا حُكْمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَبِهَذِهِ الْآيَةِ تَمَسَّكَ الْحَرُورِيَّةُ يَوْمَ حَرُورَاءَ حِينَ تَدَاعَى جَيْشُ الْكُوفَةِ وَجَيْشُ الشَّامِ إِلَى التَّحْكِيمِ فَثَارَتِ الْحَرُورِيَّةُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَقَالُوا: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ (جَعَلُوا التَّعْرِيفَ لِلْجِنْسِ وَالصِّيغَةَ لِلْقَصْرِ) وَحَدَّقُوا إِلَى هَذِه الْآيَة وأغضوا عَنْ آيَاتٍ جَمَّةٍ،
فَقَالَ عَلِيٌّ لَمَّا سَمِعَهَا: «كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ»
اضْطَرَبَ النَّاسُ وَلَمْ يَتِمَّ التَّحْكِيمُ.
101
وَإِيثَارُ صِفَتَيِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ بِالذِّكْرِ هُنَا لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا مُنَاسِبٌ لِحِرْمَانِهِمْ مِنَ الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ، أَيْ لِعَدَمِ نَقْضِ حُكْمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ، لِأَنَّ الْعُلُوَّ فِي وَصْفِهِ تَعَالَى عُلُوٌّ مَجَازِيٌّ اعْتِبَارِيٌّ بِمَعْنَى شَرَفِ الْقَدْرِ وَكَمَالِهِ، فَهُوَ الْعَلِيُّ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالَاتِ كُلِّهَا بِالذَّاتِ، وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَقْتَضِيهِ ذَلِك تَمام الْعلم وَتَمام الْعَدْلِ، فَلِذَلِكَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ.
وَوَصْفُ الْكَبِيرِ كَذَلِكَ هُوَ كِبَرٌ مَجَازِيٌّ، وَهُوَ قُوَّةُ صِفَاتِ كَمَالِهِ، فَإِنَّ الْكَبِيرَ قَوِيٌّ وَهُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ، وَكِلَا الْوَصْفَيْنِ صِيغَ عَلَى مِثَالِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاتِّصَافِ الذَّاتِيِّ الْمَكِينِ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ حُكْمُ النَّقْضِ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا لِعَدَمِ جَرْيِهِ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ سَبَبِ الْحُكْمِ وَهُوَ النَّقْضُ لِأَجْلِ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ وَهَذَا يُنَافِيهِ وَصْفُ الْعَلِيِّ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ جَوْرٌ وَمُجَاوِزٌ لِلْحَدِّ، وَهَذَا يُنَافِيهِ وَصْفُ الْكَبِيرِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْغِنَى عَن الْجور.
[١٣]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ١٣]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣)
هَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ إِقْبَالٌ عَلَى خِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنِ انْقَضَى وَصْفُ مَا يُلَاقِي الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْعَذَابِ، وَمَا يَدْعُونَ مِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْتَجَابُ، وَقَرِينَةُ ذَلِكَ قَوْلُهُ:
وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [غَافِر: ١٤].
وَمُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ هِيَ وَصْفَا الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غَافِر: ١٢] لِأَنَّ جُمْلَةَ يُرِيكُمْ آياتِهِ تُنَاسِبُ وَصْفَ الْعُلُوِّ، وَجُمْلَةَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً تُنَاسِبُ وَصْفَ الْكَبِيرِ بِمَعْنَى الْغَنِيِّ الْمُطْلَقِ.
وَالْآيَاتُ: دَلَائِلُ وُجُودِهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ. وَهِيَ الْمَظَاهِرُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي تَبْدُو لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْعَالَمِ كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً [الرَّعْد: ١٢] وَقَوْلِهُ: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمرَان: ١٩٠].
وَتَنْزِيلُ الرِّزْقِ مِنَ السَّمَاءِ هُوَ نُزُولُ الْمَطَرِ لِأَنَّ الْمَطَرَ سَبَبُ الرِّزْقِ وَهُوَ فِي نَفْسِهِ آيَةٌ
102
أُدْمِجَ مَعَهَا امْتِنَانٌ، وَلِذَلِكَ عُقِّبَ الْأَمْرَانِ بِقَوْلِهِ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ.
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يُرِيكُمْ ويُنَزِّلُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ إِرَاءَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ وَتَنْزِيلٌ مُتَجَدِّدٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْخِطَابَ مُسْتَأْنَفٌ مُرَادٌ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَيْسَ مِنْ بَقِيَّةِ خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ فِي جَهَنَّمَ، وَيَزِيدُ ذَلِكَ تَأْيِيدًا قَوْلُهُ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [غَافِر: ١٤].
وَعُدِّيَ فِعْلَا (يُرِي) ويُنَزِّلُ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِالْآيَاتِ فَآمَنُوا وَانْتَفَعُوا بِالرِّزْقِ فَشَكَرُوا بِالْعَمَلِ بِالطَّاعَاتِ فَجُعِلَ غَيْرُهُمْ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ الْمَقْصُودِينَ بِالْآيَاتِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣] فَجَعَلَ غَيْرَ الْعَالِمِينَ كَمَنْ لَا يَعْقِلُ وَلَا يَفْقَهُ.
وَلِذَلِكَ ذُيِّلَتْ إِرَاءَةُ الْآيَاتِ وَإِنْزَالُ الرِّزْقِ لَهُمْ بِقَوْلِهِ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أَيْ مَنْ آمَنَ وَنَبَذَ الشِّرْكَ لِأَنَّ الشِّرْكَ يَصُدُّ أَهْلَهُ عَنِ الْإِنْصَافِ وَإِعْمَالِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ.
وَالْإِنَابَةُ: التَّوْبَةُ، وَفِي صِيغَةِ الْمُضَارِعِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنَابَةَ الْمُحَصِّلَةَ لِلْمَطْلُوبِ هِيَ الْإِنَابَةُ الْمُتَجَدِّدَةُ الْمُتَكَرِّرَةُ، وَإِذْ قَدْ كَانَ الْمُخَاطَبُونَ مُنِيبِينَ إِلَى اللَّهِ كَانَ قَوْلُهُ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ دَالًّا بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا الْآيَات واطمأنوا بِهَا وَأَنَّهُمْ عَرَفُوا قَدْرَ النِّعْمَةِ وَشَكَرُوهَا فَكَانَ بَيْنَ الْإِنَابَةِ وَبَيْنَ التَّذَكُّرِ تَلَازُمٌ عَادِيٌّ، وَلِذَلِكَ فَجُمْلَةُ وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ تَذْيِيلٌ.
وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى مَفْعُولِ يُنَزِّلُ وَهُوَ رِزْقاً لِكَمَالِ الِامْتِنَانِ بِأَنْ جُعِلَ تَنْزِيلُ الرِّزْقِ لِأَجْلِ النَّاسِ وَلَوْ أُخِّرَ الْمَجْرُورُ لَصَارَ صِفَةً لِ رِزْقاً فَلَا يُفِيدُ أَنَّ التَّنْزِيلَ لِأَجْلِ الْمُخَاطَبِينَ بَلْ يُفِيدُ أَنَّ الرِّزْقَ صَالِحٌ لِلْمُخَاطَبِينَ وَبَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ بَوْنٌ بَعِيدٌ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي التَّرْتِيبِ عَلَى مَفْعُولِ الْفِعْلِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّ حَقَّ الْمَفْعُولِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ مُتَعَلَّقَاتِ الْفِعْلِ وَإِنَّمَا خُولِفَ الظَّاهِرُ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ.
103
وَجُعِلَ تَنْزِيلُ الرِّزْقِ لِأَجْلِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ كَرَامَتَهُمُ ابْتِدَاءً وَأَنَّ انْتِفَاعَ غَيْرِهِمْ بِالرِّزْقِ انْتِفَاعٌ بِالتَّبَعِ لَهُمْ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ بِمَحَلِّ الرِّضَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَتُثَارُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَسْأَلَةُ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ مَعَ الْمَاتُرِيدِيِّ وَمَعَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْكَافِرَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ أَوْ لَا؟ فَعَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الدِّينِ وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ وَالْمَاتُرِيدِيُّ: هُوَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ نِعْمَةً دُنْيَوِيَّةً، لَا دِينِيَّةً وَلَا أُخْرَوِيَّةً، وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: هم مُنْعَمٌ عَلَيْهِ نِعْمَةً دُنْيَوِيَّةً وَدِينِيَّةً لَا أُخْرَوِيَّةً، فَأَمَّا الْأَشْعَرِيُّ فَلَمْ يَعْتَبِرْ بِظَاهِرِ الْمَلَاذِّ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْكَافِرِ فِي الْحَيَاةِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ إِمْلَاءٌ وَاسْتِدْرَاجٌ لِأَنَّ مَآلَهَا الْعَذَابُ الْمُؤْلِمُ فَلَا تَسْتَحِقُّ اسْمَ النِّعْمَةِ.
وَأَنَا أَقُولُ: لَوِ اسْتَدَلَّ لَهُ بِأَنَّهَا حَاصِلَةٌ لَهُمْ تَبَعًا فَهِيَ لَذَائِذُ وَلَيْسَتْ نِعَمًا لِأَنَّ النِّعْمَةَ لَذَّةٌ أُرِيدَ مِنْهَا نَفْعُ مَنْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ آنِفًا.
وَأَمَّا الْبَاقِلَّانِيُّ فَرَاعَى ظَاهِرَ الْمَلَاذِّ فَلَمْ يَمْنَعْ أَنْ تَكُونَ نِعَمًا وَإِنْ كَانَتْ عَوَاقِبُهَا آلَامًا، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ شَاهِدَةٌ لِقَوْلِهِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَزَادُوا فَزَعَمُوا أَنَّ الْكَافِرَ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ دِينًا، وَأَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ مَكَّنَ الْكَافِرَ مِنْ نِعْمَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى النَّظَرِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَوَاجِبِ صِفَاتِهِ. وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ لِأَنَّهُ غَيْرُ نَاظِرٍ إِلَى حَقِيقَةِ حَالَةِ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَإِنَّمَا نَظَرَ كُلُّ شِقٍّ مِنْ أَهْلِ الْخِلَافِ إِلَى مَا حَفَّ بِأَحْوَالِ الْكَافِرِ فِي تِلْكَ النِّعْمَةِ فَرَجَعَ إِلَى الْخِلَافِ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهَا ومدلولاتها لَا فِي حَقَائِقِ الْمَقْصُود مِنْهَا.
[١٤]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ١٤]
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤)
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا شَاهَدُوا مِنَ الْآيَاتِ وَمَا أُفِيضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الرِّزْقِ، وعَلى أَنهم المرجون للتذكر، أَيْ إِذْ كُنْتُمْ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ، فَفِي الْفَاءِ مَعْنَى الْفَصِيحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ [غَافِر: ١٣].
104
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَرَاكُمْ آيَاتِهِ وَأَنْزَلَ لَكُمُ الرِّزْقَ وَمَا يتَذَكَّر بذلك إِلَّا الْمُنِيبُونَ وَأَنْتُمْ مِنْهُمْ فَادْعُوا الله مُخلصين لتوفر دَوَاعِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ.
وَالدُّعَاءُ هُنَا الْإِعْلَانُ وَذِكْرُ اللَّهِ وَنِدَاؤُهُ وَيَشْمَلُ الدُّعَاءَ بِمَعْنَى سُؤَالِ الْحَاجَةِ شُمُولَ الْأَعَمِّ لِلْأَخَصِّ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا أَنَّ الدُّعَاءَ يُطْلَقُ عَلَى الْعِبَادَةِ. وَالْأَمْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ، فَالْمَقْصُودُ: دُومُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، لِأَنَّ كَرَاهِيَةَ الْكَافِرِينَ ذَلِكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تَكُونُ سَبَبًا لِمُحَاوَلَتِهِمْ صَرْفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ يَجِدُونَ إِلَيْهَا سَبِيلًا فَيُخْشَى ذَلِكَ أَنْ يَفْتِنَ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَالْكَرَاهِيَةُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُقَاوَمَةِ وَالصَّدِّ لِأَنَّهُمَا لَازِمَانِ لِلْكَرَاهِيَةِ لِأَنَّ شَأْنَ الْكَارِهِ أَنْ لَا يَصْبِرَ عَلَى دَوَامِ مَا يَكْرَهُهُ، فَالْأَمْرُ بِقَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لي نَحْوِ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: ١٣٦].
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ لِأَنَّ الْكَلَامَ تَفْرِيعٌ لِاسْتِجْدَادِ غَرَضٍ آخَرَ فَجُعِلَ مُسْتَقِلًّا عَمَّا قَبْلَهُ.
وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَوَّلَ سُورَةِ الزُّمَرِ [٢].
وَجُمْلَةُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من فَاعل فَادْعُوا.
ولَوْ وَصْلِيَّةٌ تُفِيدُ أَنَّ شَرْطَهَا أَقْصَى مَا يَكُونُ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي يُرَادُ تَقْيِيدُ عَامِلِ الْحَالِ بِهَا، أَيِ اعْبُدُوهُ فِي كُلِّ حَالٍ حَتَّى فِي حَالِ كَرَاهِيَةِ الْكَافِرِينَ ذَلِكَ لِأَنَّ كَرَاهِيَةَ الْكَافِرِينَ ذَلِكَ وَالْمُؤْمِنُونَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ وَفِي بِلَاد فِيهِ سُلْطَانِ الْكَافِرِينَ مَظِنَّةٌ لِأَنْ يَصُدَّهُمْ ذَلِكَ عَنْ دُعَاءِ اللَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الْحجر: ٩٤] وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ (لَوْ) هَذِهِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ
105

[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ١٥ الى ١٦]

رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦)
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ.
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ [غَافِر: ١٤] وَلَيْسَ خَبَرًا ثَانِيًا بَعْدَ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ [غَافِر: ١٣] لِأَنَّ الْكَلَامَ هُنَا فِي غَرَضٍ مُسْتَجَدٍّ، وَحَذْفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي مِثْلِهِ حَذْفُ اتِّبَاعٍ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي حَذْفِ مِثْلِهِ، كَذَا سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ بَعْدَ أَنْ يَجْرِيَ مِنْ قِبَلِ الْجُمْلَةِ حَدِيثٌ عَنِ الْمَحْذُوفِ كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَوْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْعَبَّاسِ الصُّولِيِّ أَوْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْكَاتِبِ:
سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي أَيَادِيَ لَمْ تُمْنَنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ
فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صديقه وَلَا مظْهرا للشكوى إِذَا النَّعْلُ زَلَّتِ
ورَفِيعُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً مُشَبَّهَةً. وَالتَّعْرِيفُ فِي الدَّرَجاتِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: رَفِيعَةٌ دَرَجَاتُهُ، فَلَمَّا حُوِّلَ وَصْفُ مَا هُوَ من شؤونه إِلَى أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِذَاتِهِ سُلِكَ طَرِيقُ الْإِضَافَةِ وَجُعِلَتِ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ وَجُعِلَ فَاعِلُ الصِّفَةِ مُضَافًا إِلَيْهِ، وَذَلِكَ مِنْ حَالَاتِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ يُقَالُ: فُلَانٌ حَسَنٌ فعله، وَيُقَال: فلَان حَسَنُ الْفِعْلِ، فَيُؤَوَّلُ قَوْلُهُ: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ إِلَى صِفَةِ ذَاتِهِ.
والدَّرَجاتِ مُسْتَعَارَةٌ لِلْمَجْدِ وَالْعَظَمَةِ، وَجَمْعُهَا إِيذَانٌ بِكَثْرَةِ الْعَظَمَاتِ بِاعْتِبَارِ صِفَاتِ مَجْدِ اللَّهِ الَّتِي لَا تُحْصَرُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ حَقِيقٌ بِإِخْلَاصِ الدُّعَاءِ إِلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفِيعُ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمُبَالَغَةِ، أَيْ كَثِيرُ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ لِمَنْ يَشَاءُ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [يُوسُف: ٧٦]. وَإِضَافَتُهُ إِلَى الدَّرَجاتِ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى الْمَفْعُولِ فَيَكُونُ رَاجِعًا إِلَى صِفَاتِ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْمَقْصُودُ: تَثْبِيتُهُمْ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ بِالتَّرْغِيبِ بِالتَّعَرُّضِ إِلَى
106
رَفْعِ اللَّهِ دَرَجَاتِهِمْ كَقَوْلِهِ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ [١١].
وذُو الْعَرْشِ خَبَرٌ ثَانٍ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ رَفْعَ الدَّرَجَاتِ مِنْهُ مُتَفَاوِتٌ.
كَمَا أَنَّ مَخْلُوقَاتِهِ الْعُلْيَا مُتَفَاوِتَةٌ فِي الْعِظَمِ وَالشَّرَفِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إِلَى الْعَرْشِ وَهُوَ أَعْلَى الْمَخْلُوقَاتِ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ وَرَفَعَ الْعَرْشَ مَاذَا تُقَدِّرُونَ رَفْعَهُ دَرَجَاتِ عَابِدِيهِ عَلَى مَرَاتِبِ عِبَادَتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ.
وَجُمْلَةُ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ خَبَرٌ ثَالِثٌ، أَوْ بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ جُمْلَةِ رَفِيعُ الدَّرَجاتِ فَإِنَّ مِنْ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ أَنْ يَرْفَعَ بَعْضَ عِبَادِهِ إِلَى دَرَجَةِ النُّبُوءَةِ وَذَلِكَ أَعْظَمُ رَفْعِ الدَّرَجَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِبَادِهِ، فَبَدَلُ الْبَعْضِ هُوَ هُنَا أَهَمُّ أَفْرَادِ الْمُبَدَلِ مِنْهُ.
وَالْإِلْقَاءُ: حَقِيقَتُهُ رَمْيُ الشَّيْءِ مِنَ الْيَدِ إِلَى الْأَرْضِ، وَيُسْتَعَارُ لِلْإِعْطَاءِ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَرَقَّبٍ، وَكَثُرَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ، قَالَ: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ [النَّحْل: ٨٦، ٨٧]. وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْوَحْيِ لِأَنَّهُ يَجِيءُ فَجْأَةً عَلَى غَيْرِ تَرَقُّبٍ كَإِلْقَاءِ الشَّيْءِ إِلَى الْأَرْضِ.
وَالرُّوحُ: الشَّرِيعَةُ، وَحَقِيقَةُ الرُّوحِ: مَا بِهِ حَيَاةُ الْحَيِّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَيُسْتَعَارُ لِلنَّفِيسِ مِنَ الْأُمُورِ وَلِلْوَحْيِ لِأَنَّهُ بِهِ حَيَاةُ النَّاسِ الْمَعْنَوِيَّةُ وَهِيَ كَمَالُهُمْ وَانْتِظَامُ أُمُورِهِمْ، فَكَمَا تُسْتَعَارُ الْحَيَاةُ لِلْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، كَذَلِكَ يُسْتَعَارُ الرُّوحُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْحَيَاةِ لِكَمَالِ النُّفُوسِ وَسَلَامَتِهَا مِنَ الطَّوَايَا السَّيِّئَةِ، وَيُطْلَقُ الرُّوحُ عَلَى الْمَلَكِ قَالَ: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
[مَرْيَم: ١٧].
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ فِي مِنْ أَمْرِهِ أَيْ بِأَمْرِهِ، فَالْأَمْرُ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَبْعِيضِيَّةً ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا صِفَةَ الرُّوحَ أَي بعض شؤونه الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى فَيَكُونُ الْأَمْرُ بِمَعْنَى الشَّأْن، أَي الشؤون الْعَجِيبَةِ، وَقِيلَ: مِنْ بَيَانِيَّةٌ وَأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ الرُّوحُ وَهَذَا بِعِيدٌ.
وَهَذَهِ الْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ النُّبُوءَةَ غَيْرُ مُكْتَسَبَةٍ لِأَنَّهَا ابْتُدِئَتْ بِقَوْلِهِ:
107
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غَافِر: ١٤] ثُمَّ أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ فَأَشَارَ إِلَى عِبَادَةَ اللَّهِ بِإِخْلَاصٍ سَبَبٌ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، ثُمَّ أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ فَجِيءَ بِفِعْلِ الْإِلْقَاءِ وَبِكَوْنِ الرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ وَبِصِلَةِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، فَآذَنَ بِأَنَّ ذَلِكَ بِمَحْضِ اخْتِيَارِهِ وَعِلْمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رسالاته [الْأَنْعَام: ١٢٤]. وَهَذَا يَرْتَبِطُ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ [٢] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ فَأَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِخْلَاصِ فِي الْعِبَادَةِ مُفَرِّعًا عَلَى إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ، وَجَاءَ فِي شَأْنِ النَّاسِ بِقَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ [غَافِر: ١٤] ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ.
وَقَدْ ضَرَبَ لَهُمُ الْعَرْشَ وَالْأَنْبِيَاءَ مَثَلَيْنِ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ فِي الْعَوَالِمِ وَالْعُقَلَاءِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بتسفيه الْمُشْركين فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ [الْقَمَر: ٢٤]، وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] وقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٢٤].
وَتَخْلُصُ مِنْ ذِكْرِ النُّبُوءَةِ إِلَى النِّذَارَةِ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ لِيَعُودَ وَصْفُ يَوْمِ الْجَزَاءِ الَّذِي انْقَطَعَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [غَافِر: ١٢] إِلَخْ.
وَالْإِنْذَارُ: إِخْبَارٌ فِيهِ تَحْذِيرٌ مِمَّا يسوء، وَهُوَ ضد التَّبْشِيرِ إِذْ هُوَ إِخْبَارٌ بِمَا فِيهِ مَسَرَّةٌ.
وَفِعْلُهُ الْمُجَرَّدُ: نَذِرَ كَعَلِمَ، يُقَالُ: نَذِرَ بِالْعَدُوِّ فَحَذِرَهُ. وَالْهَمْزَةُ فِي أَنْذَرَ لِلتَّعْدِيَةِ فَحَقُّهُ أَنْ لَا يَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ إِلَّا إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ فَاعِلَ الْفِعْلِ الْمُجَرَّدِ، وَأَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الْأَمْرِ الْمُخْبَرِ بِهِ بِالْبَاءِ، يُقَالُ: أَنْذَرْتُهُمْ بِالْعَدُوِّ، غَيْرَ أَنَّهُ غَلَبَ فِي الِاسْتِعْمَالِ تَضْمِينُهُ مَعْنَى التَّحْذِيرِ فَعَدُّوهُ إِلَى مَفْعُولٍ ثَانٍ وَهُوَ اسْتِعْمَالُ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ الْأَعْرَافِ [٢] لِتُنْذِرَ بِهِ فَالْبَاءُ فِيهِ لِلسَّبَبِيَّةِ أَوِ الْآلَةِ الْمَجَازِيَّةِ وَلَيْسَتْ لِلتَّعْدِيَةِ. وَضمير بِهِ عَائِدًا إِلَى الْكِتَابِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي لِيُنْذِرَ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ [غَافِر: ١٤]، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مِنْ الْمَوْصُولَةِ لِيُنْذِرَ مَنْ أَلْقَى عَلَيْهِ الرُّوحَ قَوْمَهُ، وَلِأَنَّ
108
فِيهِ تَخَلُّصًا إِلَى ذِكْرِ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِ الْإِنْذَارِ دُونَ الرُّسُلِ الَّذِينَ سَبَقُوا إِذْ لَا تُلَائِمُهُمْ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ وَلِأَنَّهُ مُرَجِّحٌ لِإِظْهَارِ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ كَمَا سَيَأْتِي.
ويَوْمَ التَّلاقِ هُوَ يَوْمُ الْحَشْرِ، وَسُمِّيَ يَوْمَ التَّلَاقِي لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يَلْتَقُونَ فِيهِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ لِقَاءً مَجَازِيًّا، أَيْ يَقِفُونَ فِي حَضْرَتِهِ وَأَمَامَ أَمْرِهِ مُبَاشَرَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا [يُونُس: ٧] أَيْ لَا يَرْجُونَ يَوْمَ الْحَشْرِ. وانتصب يَوْمَ التَّلاقِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَان لِيُنْذِرَ، وَحُذِفَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِظُهُورِهِ، أَيْ لِيُنْذِرَ النَّاس. وَبَين التَّلاقِ ويُلْقِي جناس.
وَكتب التَّلاقِ فِي الْمُصْحَفِ بِدُونِ يَاءٍ. وَقَرَأَهُ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِكَسْرَةٍ بِدُونِ يَاءٍ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي الْوَصْلِ لَا فِي الْوَقْفِ فَلَا مُوجِبَ لِطَرْحِ الْيَاءِ إِلَّا مُعَامَلَةُ الْوَصْلِ مُعَامَلَةَ الْوَقْفِ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي النَّثْرِ فَيَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى السَّمَاعِ. وَكَفَى بِرِوَايَةِ نَافِعٍ وَأَبِي عَمْرٍو سَمَاعًا.
ويَوْمَ هُمْ بارِزُونَ بَدَلٌ من يَوْمَ التَّلاقِ. وهُمْ بارِزُونَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَالْمُضَافُ ظَرْفٌ مُسْتَقْبَلٌ وَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَى الْأَرْجَحِ بِدُونِ تَقْدِيرٍ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ عَائِدٌ إِلَى الْكافِرُونَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [غَافِر: ١٤].
وَجُمْلَةُ لَا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ هُمْ بارِزُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَاضِحَةٌ ظَوَاهِرُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ فَإِنَّ ذَلِك مُقْتَضى قَوْلهم: مِنْهُمْ شَيْءٌ.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ إِظْهَارَهُ أَصْرَحُ لِبُعْدِ مَعَادِهِ بِمَا عَقِبَهُ مِنْ قَوْلِهِ: عَلى مَنْ
يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ
، وَلِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ ضَمِيرَ لِيُنْذِرَ عَائِدٌ إِلَى مَنْ يَشاءُ.
وَمَعْنَى مِنْهُمْ مِنْ مَجْمُوعِهِمْ، أَيْ مِنْ مَجْمُوع أَحْوَالهم وشؤونهم، وَلِهَذَا أُوثِرَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِجْمَالِ الصَّالِحِ لِتَقْدِيرِ مُضَافٍ مُنَاسِبٍ لِلْمَقَامِ، وَأُوثِرَ أَيْضًا لَفْظُ شَيْءٌ لِتَوَغُّلِهِ فِي الْعُمُومِ، وَلَمْ يَقُلْ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ
109
أَحَدٌ، أَوْ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ أَحَدٍ شَيْءٌ، أَيْ مِنْ أَجْزَاءِ جِسْمِهِ، فَالْمَعْنَى: لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا.
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.
مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، وَحُذِفَ الْقَوْلُ مِنْ حَدِيثِ الْبَحْرِ. وَالتَّقْدِيرُ: يَقُولُ اللَّهُ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، فَفِعْلُ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا عَنْ سُؤال سَائل عَمَّا ذَا يَقَعُ بَعْدَ بُرُوزِهِمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِمَّا تَقْرِيرِيٌّ لِيَشْهَدَ الطُّغَاةُ مِنْ أَهْلِ الْمَحْشَرِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُخْطِئِينَ فِيمَا يَزْعُمُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ مُلْكٍ لِأَصْنَامِهِمْ حِينَ يُضِيفُونَ إِلَيْهَا التَّصَرُّفَ فِي مَمَالِكَ مِنَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، مِثْلَ قَوْلِ الْيُونَانِ بِإِلَهِ الْبَحْرِ وَإِلَهِ الْحَرْبِ وَإِلَهِ الْحِكْمَةِ، وَقَوْلِ أَقْبَاطِ مِصْرَ بِإِلَهِ الشَّمْسِ وَإِلَهِ الْمَوْتِ وَإِلَهِ الْحِكْمَةِ، وَقَوْلِ الْعَرَبِ بِاخْتِصَاصِ بَعْضِ الْأَصْنَامِ بِبَعْضِ الْقَبَائِلِ مِثْلِ اللَّاتِ لِثَقِيفٍ، وَذِي الْخَلَصَةِ لِدَوْسٍ، وَمَنَاةَ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. وَكَذَلِكَ مَا يَزْعُمُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ عَلَى النَّاسِ لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ كَقَوْلِ فِرْعَوْنَ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَص: ٣٨] وَقَوْلِهِ: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف: ٥١]، وَتَلْقِيبِ أَكَاسِرَةِ الْفُرْسِ أَنْفُسَهُمْ بِلَقَبِ: مَلِكِ الْمُلُوكِ (شَاهِنْشَاهْ)، وَتَلْقِيبِ مُلُوكِ الْهِنْدِ أَنْفُسَهُمْ بِلَقَبِ مَلِكِ الدُّنْيَا (شَاهٍ جَهَانِ). وَيُفَسِّرُ هَذَا الْمَعْنَى مَا
فِي الْحَدِيثِ فِي صِفَةِ يَوْمِ الْحَشْرِ «ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الْأَرْضِ»
اسْتِفْهَامًا مُرَادًا مِنْهُ تَخْوِيفُهُمْ مِنَ الظُّهُورِ يَوْمَئِذٍ، أَيْ أَيْنَ هم الْيَوْم لماذَا لَمْ يَظْهَرُوا بِعَظَمَتِهِمْ وَخُيَلَائِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ كِنَايَةً عَنِ التَّشْوِيقِ إِلَى مَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الْجَوَابِ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنَّ الَّذِي يَسْمَعُ اسْتِفْهَامًا يَتَرَقَّبُ جَوَابَهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ نَفْسِهِ الْجَوَابُ عِنْدَ سَمَاعِهِ فَضْلَ تَمَكُّنٍ، عَلَى أَنَّ حُصُولَ التَّشْوِيقِ لَا يَفُوتُ عَلَى اعْتِبَارِ الِاسْتِفْهَامِ لِلتَّقْرِيرِ، وَقَرِيبٌ مِنْهُ:
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الْبَقَرَة: ١٨٦].
110
وَ (الْيَوْمَ) الْمُعَرَّفُ بِاللَّامِ هُوَ الْيَوْمُ الْحَاضِرُ، وَحُضُورُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ أَنَّهُ يُقَالُ فِيهِ، أَيِ الْيَوْمُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ هَذَا الْقَوْلُ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ الظُّرُوفِ إِذَا
عُرِّفَتْ بِاللَّامِ.
وَجُمْلَةُ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ بَقِيَّةِ الْقَوْلِ الْمُقَدَّرِ الصَّادِرِ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يَصْدُرَ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ اسْتِفْهَامٌ وَيَصْدُرَ مِنْهُ جَوَابُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّقْرِيرِ أَوِ التَّشْوِيقِ كَانَ مِنَ الشَّأْنِ أَنْ يَتَوَلَّى النَّاطِقُ بِهِ الْجَوَابَ عَنْهُ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَأِ: ١، ٢]. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَقُولَ قَوْلٍ آخَرَ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَيَقُولُ الْمَسْئُولُونَ: لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ إِقْرَارًا مِنْهُمْ بِذَلِكَ، وَالتَّقْدِيرُ:
فَيَقُولُ الْبَارِزُونَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، فَتَكُونُ مُعْتَرِضَةً.
وَذِكْرُ الصِّفَتَيْنِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ دُونَ غَيْرِهِمَا مِنَ الصِّفَاتِ الْعُلَى لِأَنَّ لِمَعْنَيَيْهِمَا مَزِيدَ مُنَاسَبَةٍ بِقَوْلِهِ: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ حَيْثُ شُوهِدَتْ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ لله وقهره جَمِيع الطغاة والجبارين.
[١٧]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ١٧]
الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧)
لَا رَيْبَ فِي أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ الثَّلَاثَ مُتَّصِلَةٌ بِالْمَقُولِ الصَّادِرِ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ كَانَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ مَقُولًا وَاحِدًا أَمْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا مِنْ مَقُولِ أَهَلِ الْمَحْشَرِ. وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْجُمَلِ الْخَمْسِ هُوَ أَنَّهُ لَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُلْكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَجْمُوعِ الْجُمْلَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، عُدِّدَتْ آثَارُ التَّصَرُّفِ بِذَلِكَ الْمُلْكِ وَهِيَ الْحُكْمُ عَلَى الْعِبَادِ بِنَتَائِجِ أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّهُ حُكْمٌ عَادِلٌ لَا يَشُوبُهُ ظُلْمٌ، وَأَنَّهُ عَاجل لَا يبطىء لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَشْغَلُهُ عَنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ شَاغِلٌ وَلَا هُوَ بِحَاجَةٍ إِلَى التَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي طُرُقِ قَضَائِهِ، وَعَلَى هَذِهِ النَّتَائِجِ جَاءَ تَرْتِيبُ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، ثُمَّ
111
لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ، وَأَمَّا مَوَاقِعُ هَاتِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ فَإِنَّ جُمْلَةَ الْيَوْمَ تُجْزى إِلَخْ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْبَيَانِ لِمَا فِي جُمْلَةِ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غَافِر: ١٦] وَجَوَابِهَا مِنْ إِجْمَالٍ، وَجُمْلَةُ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ أَيْ جَزَاءً عَادِلًا لَا ظُلْمَ فِيهِ، أَيْ لَيْسَ فِيهِ أَقَلُّ شَوْبٍ مِنَ الظُّلْمِ حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ وُقُوعُ النَّكِرَةِ بَعْدَ لَا النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ.
وَتَعْرِيفُ الْيَوْمَ فِي قَوْلِهِ: الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ وَقَوْلِهِ: لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ نَظِيَرُ تَعْرِيفِ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غَافِر: ١٦]، وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ
التَّعْلِيلِ لِوُقُوعِ الْجَزَاءِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلِانْتِفَاءِ الظُّلْمِ عَنْ ذَلِكَ الْجَزَاءِ. وَتَأْخِيرُهَا عَنْ تَيْنِكَ الْجُمْلَتَيْنِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّهَا عِلَّةٌ لَهُمَا، فَحَرْفُ التَّوْكِيدِ وَاقِعٌ مَوْقِعَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ كَمَا هُوَ شَأْنُ إِنَّ إِذَا جَاءَتْ فِي غَيْرِ مَقَامِ رَدِّ الْإِنْكَارِ، فَسُرْعَةُ الْحِسَابِ تَقْتَضِي سُرْعَةَ الْحُكْمِ. وَسُرْعَةُ الْحُكْمِ تَقْتَضِي تَمَلُّؤَ الْحَاكِمِ مِنَ الْعِلْمِ بِالْحَقِّ، وَمِنْ تَقْدِيرِ جَزَاءِ كُلِّ عَامِلٍ عَلَى عَمَلِهِ دُونَ تَرَدُّدٍ وَلَا بَحْثٍ لِأَنَّ الْحَاكِمَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَكَانَ قَوْلُهُ: سَرِيعُ الْحِسابِ عِلَّةً لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَهُ فِي هَذَا الْغَرَضِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ مُحَاسِبُهُمْ حِسَابًا سَرِيعًا لِأَنَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ.
وَالْحِسَابُ مَصْدَرُ حَاسَبَ غَيْرَهُ إِذَا حَسِبَ لَهُ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ بِإِعْدَادِهِ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ تَخْتَلِفُ فَتَارَةً يَكُونُ الْحِسَابُ لِقَصْدِ اسْتِحْضَارِ أَشْيَاءَ كَيْلَا يَضِيعَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَتَارَةً يَكُونُ لِقَصْدِ تَوْقِيفِ مَنْ يَتَعَيَّنُ تَوْقِيفُهُ عَلَيْهَا، وَتَارَةً يَكُونُ لِقَصْدِ مُجَازَاةِ كُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا بِعَدْلِهِ، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا وَلِأَجْلِهِ سُمِّيَ يَوْمُ الْجَزَاءِ يَوْمَ الْحِسَابِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشُّعَرَاء: ١١٣]. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِما كَسَبَتْ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ تُجْزَى بِسَبَبِ مَا كَسَبَتْ، أَيْ جَزَاءً مُنَاسِبًا لِمَا كَسَبَتْ، أَيْ عَمِلَتْ.
وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ تَأْخِيرَ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ بَعْدَ تَبَيُّنِهِ لِلْقَاضِي بِدُونِ عُذْرٍ ضرب من ضروب الْجَوْرِ لِأَنَّ الْحَقَّ إِنْ كَانَ حَقَّ الْعِبَادِ فَتَأْخِيرُ الْحُكْمِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ إِبْقَاءٌ لِحَقِّهِ بِيَدِ غَيْرِهِ، فَفِيهِ تَعْطِيلُ انْتِفَاعِهِ بِحَقِّهِ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَانِ وَذَلِكَ ظُلْمٌ، وَلَعَلَّ صَاحِبَ الْحَقِّ فِي حَاجَةٍ إِلَى تَعْجِيلِ حَقِّهِ لِنَفْعٍ مُعَطَّلٍ أَوْ لِدَفْعِ ضُرٍّ جَاثِمٍ، وَلَعَلَّهُ أَنْ
112
يَهْلَكَ فِي مُدَّةِ تَأْخِيرِ حَقِّهِ فَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ، أَوْ لَعَلَّ الشَّيْءَ الْمَحْكُومَ بِهِ يَتْلَفُ بِعَارِضٍ أَوْ قَصْدٍ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ صَاحِبُهُ بَعْدُ. وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ حَقَّ اللَّهِ كَانَ تَأْخِيرُ الْقَضَاءِ فِيهِ إِقْرَارًا لِلْمُنْكِرِ. فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ أَبَا مُوسَى عَلَى الْيَمَنِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فَلَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ عَلَى أَبِي مُوسَى أَلْقَى إِلَيْهِ أَبُو مُوسَى وِسَادَةً وَقَالَ لَهُ: انْزِلْ، وَإِذَا رَجُلٌ مُوَثَّقٌ عِنْدَ أَبِي مُوسَى، قَالَ مُعَاذٌ: مَا هَذَا؟ قَالَ: كَانَ يَهُودِيًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ. قَالَ مُعَاذٌ: لَا أَجْلِسُ حَتَّى يُقْتَلَ، قَضَاءُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَأَمَرَ بِهِ أَبُو مُوسَى فَقتل».
[١٨]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ١٨]
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (١٨)
الْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَأَنْذِرْهُمْ وَمَا بَعْدَهُ مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [غَافِر: ١٧] وَجُمْلَةِ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ [غَافِر: ١٩] عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْآتِيَيْنِ فِي مَوْقِعِ جُمْلَةِ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ، فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَالْمُنَاسَبَةُ أَنَّ ذِكْرَ الْحِسَابِ بِهِ يَقْتَضِي
التَّذْكِيرَ بِالِاسْتِعْدَادِ لِيَوْمِ الْحِسَابِ وَهُوَ يَوْمُ الْآزِفَةِ.
وَيَوْمُ الْآزِفَةِ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَصْلُ الْآزِفَةِ اسْمُ فَاعِلٍ مُؤَنَّثٌ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِ أَزِفَ الْأَمْرُ، إِذَا قَرُبَ، فَالْآزِفَةُ صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: السَّاعَةُ الْآزِفَةُ، أَوِ الْقِيَامَةُ الْآزِفَةُ، مِثْلُ الصَّاخَّةِ، فَتَكُونُ إِضَافَةُ يَوْمَ إِلَى الْآزِفَةِ، حَقِيقِيَّةٌ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَعْدِيَةِ الْإِنْذَارِ إِلَى (الْيَوْمِ) فِي قَوْله: لتنذر يَوْمَ التَّلاقِ [غَافِر: ١٥].
وإِذِ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ فَهُوَ اسْمُ زَمَانٍ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، مُضَافٌ إِلَى جُمْلَةِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ وأل فِي الْقُلُوبُ والْحَناجِرِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.
وَأَصْلُهُ: إِذْ قُلُوبُهُمْ لَدَى حَنَاجِرِهِمْ، فَبِوَاسِطَةِ (أَلْ) عُوِّضَ تَعْرِيفُ الْإِضَافَةِ بِتَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَهُوَ رَأْيُ نُحَاةِ الْكُوفَةِ، وَالْبَصْرِيُّونَ يُقَدِّرُونَ: إِذِ الْقُلُوبُ مِنْهُمْ وَالْحَنَاجِرُ
113
مِنْهُمْ وَالْمَعْنَى: إِذْ قُلُوبُ الَّذِينَ تُنْذِرُهُمْ، يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، فَأَمَّا قُلُوبُ الصَّالِحِينَ يَوْمَئِذٍ فَمُطْمَئِنَّةٌ.
وَالْقُلُوبُ: الْبَضْعَاتُ الصُّنُوبَرِيَّةُ الَّتِي تَتَحَرَّكُ حَرَكَةً مُسْتَمِرَّةً مَا دَامَ الْجِسْمُ حَيًّا فَتَدْفَعُ الدَّمَ إِلَيَّ الشَّرَايِينِ الَّتِي بِهَا حَيَاةُ الْجِسْمِ.
وَالْحَنَاجِرُ: جَمْعُ حَنْجَرَةٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ وَهِيَ الْحُلْقُومُ. وَمَعْنَى الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ: أَنَّ الْقُلُوبَ يَشْتَدُّ اضْطِرَابُ حَرَكَتِهَا مِنْ فَرْطِ الْجزع مِمَّا يُشَاهِدهُ أَهْلُهَا مِنْ بَوَارِقِ الْأَهْوَالِ حَتَّى تَتَجَاوَزَ الْقُلُوبُ مَوَاضِعَهَا صَاعِدَةً إِلَى الْحَنَاجِرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي ذِكْرِ يَوْمِ الْأَحْزَابِ: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الْأَحْزَاب: ١٠].
وَكَاظِمٌ: اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ كَظَمَ كُظُومًا، إِذَا احْتَبَسَ نَفَسُهُ (بِفَتْحِ الْفَاءِ). فَمَعْنَى كاظِمِينَ: اكنين لَا يَسْتَطِيعُونَ كَلَامًا. فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يُقَدَّرُ لِ كاظِمِينَ مَفْعُولٌ لِأَنَّهُ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْفِعْلِ اللَّازِمِ. وَيُقَالُ: كَظَمَ كَظْمًا، إِذا سدّ شَيْئا مَجْرَى مَاءٍ أَوْ بَابًا أَوْ طَرِيقًا فَهُوَ كَاظِمٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمَفْعُولُ مُقَدَّرًا. وَالتَّقْدِيرُ: كَاظِمِينَهَا، أَيْ كَاظِمِينَ حَنَاجِرَهُمْ إِشْفَاقًا مِنْ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا قُلُوبُهُمْ مِنْ شِدَّةِ الِاضْطِرَابِ. وَانْتَصَبَ كاظِمِينَ عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: أَنْذِرْهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَالَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الْقُلُوبِ عَلَى الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ بِإِسْنَادِ الْكَاظِمِ إِلَى الْقُلُوبِ وَإِنَّمَا الْكَاظِمُ أَصْحَابُ الْقُلُوبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ [الْبَقَرَة: ٧٩] وَإِنَّمَا الْكَاتِبُونَ هُمْ بِأَيْدِيهِمْ.
وَجُمْلَةُ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ فِي مَوْضِعِ بَدَلِ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ تَقْتَضِي أَنْ يَسْتَشْرِفُوا إِلَى شَفَاعَةِ مَنِ اتَّخَذُوهُمْ
لِيَشْفَعُوا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ فَلَا يَلْفَوْنَ صَدِيقًا وَلَا شَفِيعًا. وَالْحَمِيمُ: الْمُحِبُّ الْمُشْفِقُ.
والتعريف فِي لِلظَّالِمِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ لِيَعُمَّ كُلَّ ظَالِمٍ، أَيْ مُشْرِكٍ فَيَشْمَلُ الظَّالِمِينَ الْمُنْذَرِينَ، وَمَنْ مَضَى مِنْ أَمْثَالِهِمْ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ وَلِذَلِكَ فَلَيْسَ ذِكْرُ الظَّالِمِينَ مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ.
114
وَوَصْفُ: شَفِيعٍ بِجُمْلَةِ يُطاعُ وَصْفٌ كَاشِفٌ إِذْ لَيْسَ أَنَّ الْمُرَادَ لَهُمْ شُفَعَاءُ لَا تُطَاعُ شَفَاعَتُهُمْ لِظُهُورِ قِلَّةِ جَدْوَى ذَلِكَ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ شَأْنُ مَنْ يَتَعَرَّضُ لِلشَّفَاعَةِ أَنْ يَثِقَ بِطَاعَةِ الْمَشْفُوعِ عِنْدَهُ لَهُ. وَأَتْبَعَ شَفِيعٍ بِوَصْفِ يُطاعُ لِتَلَازُمِهِمَا عُرْفًا فَهُوَ مِنْ إِيرَادِ نَفْيِ الصِّفَةِ اللَّازِمَةِ لِلْمَوْصُوفِ. وَالْمَقْصُودُ: نَفِيُ الْمَوْصُوفِ بِضَرْبٍ مِنِ الْكِنَايَةِ التَّلْمِيحِيَّةِ كَقَوْلِ ابْنِ أَحْمَرَ:
وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ (١) أَيْ لَا ضَبَّ فِيهَا فَيَنْجَحِرُ، وَذَلِكَ يُفِيدُ مُفَادَ التَّأْكِيدِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّفِيعَ إِذَا لَمْ يُطِعْ فَلَيْسَ بِشَفِيعٍ. وَالله لَا يجترىء أَحَدٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ إِلَّا إِذَا أَذِنَ لَهُ فَلَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا من يطاع.
[١٩]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ١٩]
يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (١٩)
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ خَبَرًا عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ هُوَ ضَمِيرٌ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [غَافِر: ١٧] عَلَى نَحْوِ مَا قُرِّرَ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: رَفِيعُ الدَّرَجاتِ [غَافِر: ١٥]. وَمَجْمُوعُ الظَّاهِرِ وَالْمُقَدَّرِ اسْتِئْنَافٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْإِنْذَارِ لِأَنَّهُمْ إِذَا ذُكِّرُوا بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْخَفَايَا كَانَ إِنْذَارًا بَالِغًا يَقْتَضِي الْحَذَرَ مِنْ كُلِّ اعْتِقَادٍ أَوْ عَمَلٍ نَهَاهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، فَبَعْدَ أَنْ أيأسهم من شَفِيع يسْعَى لَهُم فِي عدم الْمُؤَاخَذَة بِذُنُوبِهِمْ أَيْأَسَهُمْ مِنْ أَنْ يَتَوَهَّمُوا أَنَّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ إِخْفَاءَ شَيْءٍ مِنْ نَوَايَاهُمْ أَوْ أَدْنَى حَرَكَاتِ أَعْمَالِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنِ اسْمِ إِنَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [غَافِر: ١٧]، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ كَمَا مَرَّ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ.
_________
(١) أَوله: لَا تفزع الأرنب أهوالها.
يصف مفازة قاحلة لَا ضَب فِيهَا وَلَا أرنب.
115
وَ (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى فَاعِلِهِ فَالْخَائِنَةُ مَصْدَرٌ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِثْلُ الْعَافِيَةِ لِلْمُعَافَاةِ، وَالْعَاقِبَةِ، وَالْكَاذِبَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَة:
٢] وَيَجُوزُ إِبْقَاءُ خائِنَةَ عَلَى ظَاهِرِ اسْمِ الْفَاعِلِ فَيَكُونُ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْأَعْيُنِ، أَيْ يَعْلَمُ نَظْرَةَ الْأَعْيُنِ الْخَائِنَةِ.
وَحَقِيقَةُ الْخِيَانَةِ: عَمَلُ مَنِ اؤْتُمِنَ عَلَى شَيْءٍ بِضِدِّ مَا اؤْتُمِنَ لِأَجْلِهِ بِدُونِ عِلْمِ صَاحِبِ الْأَمَانَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ نَقْضُ الْعَهْدِ بِدُونِ إِعْلَانٍ بِنَبْذِهِ. وَمَعْنَى: خائِنَةَ الْأَعْيُنِ خِيَانَةَ النَّظَرِ، أَيْ مُسَارَقَةَ النَّظَرِ لِشَيْءٍ بِحَضْرَةِ مَنْ لَا يُحِبُّ النَّظَرَ إِلَيْهِ. فَإِضَافَةُ خائِنَةَ إِلَى الْأَعْيُنِ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى آلَتِهِ كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبَ السَّيْفَ.
وَالْمُرَادُ بِ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ النظرة الْمَقْصُود مِنْهَا إِشْعَارُ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ بِمَا يسوء غَيرهَا الْحَاضِرِ اسْتِهْزَاءً بِهِ أَوْ إِغْرَاءً بِهِ. وَإِطْلَاقُ الْخَائِنَةِ بِمَعْنَى الْخِيَانَةِ عَلَى هَذِهِ النَّظْرَةِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، شَبَّهَ الْجَلِيسَ بِالْحَلِيفِ فِي أَنَّهُ لَمَّا جَلَسَ إِلَيْكَ أَوْ جَلَسْتَ إِلَيْهِ فَكَأَنَّهُ عَاهَدَكَ عَلَى السَّلَامَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُجَالَسَةَ يَتَقَدَّمُهَا السَّلَامُ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ إِنْبَاءٌ بِالْمُسَالَمَةِ فَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى آخَرَ غَيْرِكُمَا نَظَرًا خَفِيًّا لِإِشَارَةٍ إِلَى مَا لَا يُرْضِي الْجَلِيسَ مِنِ اسْتِهْزَاءٍ أَوْ إِغْرَاءٍ فَكَأَنَّكَ نَقَضْتَ الْعَهْدَ الْمَدْخُولَ عَلَيْهِ بَيْنَكُمَا، فَإِطْلَاقُ الْخِيَانَةِ عَلَى ذَلِكَ تَفْظِيعٌ لَهُ، وَيَتَفَاوَتُ قُرْبُ التَّشْبِيهِ بِمِقْدَارِ تَفَاوُتِ مَا وَقَعَتِ النَّظْرَةُ لِأَجْلِهِ فِي الْإِسَاءَةِ وَآثَارِ الْمَضَرَّةِ. وَلِذَلِكَ
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا يكون لنَبِيّ أَنْ تَكُونَ لَهُ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ»
، أَيْ لَا تَصْدُرُ مِنْهُ.
ووَ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ النَّوَايَا وَالْعَزَائِمُ الَّتِي يُضْمِرُهَا صَاحِبُهَا فِي نَفْسِهِ، فَأُطْلِقَ الصَّدْرُ عَلَى مَا يُكِنُّ الْأَعْضَاءُ الرَّئِيسِيَّةُ عَلَى حَسَبِ اصْطِلَاحِ أَصْحَاب اللُّغَة.
116

[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٢٠]

وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٢٠)
كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُؤْتَى بِجُمْلَةِ يَقْضِي بِالْحَقِّ مَعْطُوفَةً بِالْوَاوِ عَلَى جُمْلَةِ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ [غَافِر: ١٩] فَيُقَالُ: وَيَقْضِي بِالْحَقِّ وَلَكِنْ عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِي الِاسْمِ الْعَلَمِ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الْإِشْعَارِ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْمُسَمَّى بِهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي مِنْهَا الْعَدْلُ فِي الْقَضَاءِ، وَنَظِيرُهُ فِي الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ
[الرَّعْد: ٤١]. وَلِيَحْصُلَ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ تَقَوِّي الْمَعْنَى، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ
[الْأَنْفَال: ٣٦] أُعِيدَ الْمَوْصُولُ وَلَمْ يُؤْتَ بِضَمِيرِ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُفِيدَ تَقْدِيمُ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ تَقَوِّي الْحُكْمِ.
وَالْجُمْلَةُ مِنْ تَمَامِ الْغَرَضِ الَّذِي سِيقَتْ إِلَيْهِ جُمْلَةُ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ [غَافِر: ١٩] كَمَا تَقَدَّمَ، وَكِلْتَاهُمَا نَاظِرَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ [غَافِر: ١٨] أَيْ أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ.
وَأَمَّا جُمْلَةُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ فَنَاظِرَةٌ إِلَى جُمْلَةِ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ [غَافِر: ١٨] فَبَعْدَ أَنْ نُفِيَ عَنْ أَصْنَامِهِمُ الشَّفَاعَةُ، نُفِيَ عَنْهَا الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ مَا بِالْحَقِّ أَوْ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ إِظْهَارٌ لِعَجْزِهَا. وَلَا تَحْسَبَّنَ جُمْلَةَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ مَسُوقَةً ضَمِيمَةً إِلَى جُمْلَةِ: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ لِيُفِيدَ مَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ قَصْرَ الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَصْرَ قَلْبٍ، أَيْ دُونَ الْأَصْنَامِ، كَمَا أُفِيدَ الْقَصْرُ مِنْ ضَمِّ الْجُمْلَتَيْنِ فِي قَول السموأل أَوْ عَبْدِ الْمَلِكِ الْحَارِثِيِّ:
تَسِيلُ عَلَى حَدِّ الظُّبَاتِ نُفُوسُنَا وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاتِ تَسِيلُ
لِأَنَّ الْمَنْفِيَّ عَنْ آلِهَتِهِمْ أَعَمُّ مِنَ الْمُثْبَتِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ مِثْلُ ذَلِكَ مِمَّا يُضَادُّ صِيغَة الْقصر لكفى فِي إِفَادَتِهِ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ بِحَمْلِهِ عَلَى إِرَادَةِ
117
الِاخْتِصَاصِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ. فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ التَّذْكِيرُ بِعَجْزِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ وَأَنَّهُمْ غَيْرُ أَهْلٍ لِلْإِلَهِيَّةِ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ فِي إِثْبَاتِ صِفَةٍ لِمَوْصُوفٍ ثُمَّ تَعْقِيبُ ذَلِكَ بِإِظْهَارِ نَقِيضِهِ فِيمَا يُعَدُّ مُسَاوِيًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ شيبا بِمَاء فَصَارَ فِيمَا بَعْدُ أَبْوَالًا
وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِعَطْفِ قَوْلِهِ: لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ، مُنَاسَبَةً.
وَالدُّعَاءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى النِّدَاءِ وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْعِبَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ مُقَرِّرَةٌ لِجُمَلِ يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ إِلَى قَوْلِهِ: لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ [غَافِر: ١٩، ٢٠]. فتوسيط ضَمِيرِ الْفَصْلِ مُفِيدٌ لِلْقَصْرِ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَسْمَعُ وَلَا تُبْصِرُ فَكَيْفَ يَنْسُبُونَ إِلَيْهَا الْإِلَهِيَّةَ، وَإِثَبَاتُ الْمُبَالَغَةِ فِي السَّمْعِ وَالْبَصَرِ لِلَّهِ تَعَالَى يُقَرِّرُ مَعْنَى يَقْضِي بِالْحَقِّ لِأَنَّ الْعَالِمَ بِكُلِّ شَيْءٍ تَتَعَلَّقُ حِكْمَتُهُ بِإِرَادَةِ الْبَاطِل وَلَا تخطىء أَحْكَامُهُ بِالْعِثَارِ فِي الْبَاطِلِ. وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِحَرْفِ
التَّأْكِيدِ تَحْقِيقٌ لِلْقَصْرِ. وَقَدْ ذَكَرَ التَّفْتَازَانِيُّ فِي «شَرْحِ الْمِفْتَاحِ» فِي مَبْحَثِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ أَنَّ الْقَصْرَ يُؤَكِّدُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَهُشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ تَدْعُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغِيبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِقَرْعِ أَسْمَاعِ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ على الظَّاهِر.
118

[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٢١ إِلَى ٢٢]

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (٢١) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٢)
انْتِقَالٌ مِنْ إِنْذَارِهِمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ إِلَى مَوْعِظَتِهِمْ وَتَحْذِيرِهِمْ مِنْ أَنْ يَحِلَّ بهم عَذَاب الدُّنْيَا قبل عَذَابُ الْآخِرَةِ كَمَا حَلَّ بِأُمَمٍ أَمْثَالِهِمْ.
فَالْوَاوُ عاطفة جملَة أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ عَلَى جُمْلَةِ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [غَافِر: ١٨] إِلَخْ. وَالِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيٌّ عَلَى مَا هُوَ الشَّائِعُ فِي مِثْلِهِ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الدَّاخِلِ عَلَى نَفْيٍ فِي الْمَاضِي بِحَرْفِ (لَمْ)، وَالتَّقْرِيرُ مُوَجَّهٌ لِلَّذِينِ سَارُوا مِنْ قُرَيْشٍ وَنَظَرُوا آثَارَ الْأُمَمِ الَّذِينَ أَبَادَهُمُ اللَّهُ جَزَاءَ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، فَهُمْ شَاهَدُوا ذَلِكَ فِي رِحْلَتَيْهِمْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَرِحْلَةِ الصَّيْفِ وَإِنَّهُمْ حَدَّثُوا بِمَا شَاهَدُوهُ مَنْ تَضُمُّهُمْ نَوَادِيهِمْ وَمَجَالِسُهُمْ فَقَدْ صَارَ مَعْلُومًا لِلْجَمِيعِ، فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ أُسْنِدَ الْفِعْلُ الْمُقَرَّرُ بِهِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمْعِ عَلَى الْجُمْلَةِ.
وَالْمُضَارِعُ الْوَاقِعُ بَعْدَ (لَمْ) وَالْمُضَارِعُ الْوَاقِعُ فِي جَوَابِهِ مُنْقَلِبَانِ إِلَى الْمُضِيِّ بِوَاسِطَةِ (لَمْ). وَتَقَدَّمَ شَبِيهُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي آخِرِ سُورَةِ فَاطِرٍ وَفِي سُورَةِ الرُّومِ.
وَالضَّمِيرُ الْمُنْفَصِلُ فِي قَوْلِهِ: كانُوا هُمْ ضَمِيرُ فَصْلٍ عَائِد إِلَى لِلظَّالِمِينَ [غَافِر: ١٨] وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ الَّذِينَ أُرِيدُوا بقوله: وَأَنْذِرْهُمْ [غَافِر: ١٨]، وَضَمِيرُ الْفَصْلِ لِمُجَرَّدِ تَوْكِيدِ الْحُكْمِ وَتَقْوِيَتِهِ وَلَيْسَ مُرَادًا بِهِ قَصْرُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، أَيْ قَصْرُ الْأَشَدِّيَّةِ عَلَى ضَمِيرِ: كانُوا إِذْ لَيْسَ لِلْقَصْرِ مَعْنًى هُنَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ فِي سُورَةِ طه [١٤] وَهَذَا ضَابِطُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ ضَمِيرِ الْفَصْلِ الَّذِي يُفِيدُ الْقَصْرَ وَبَيْنَ الَّذِي يُفِيدُ
119
مُجَرَّدَ التَّأْكِيدِ. وَاقْتِصَارُ الْقَزْوِينِيُّ فِي «تَلْخِيصِ الْمِفْتَاحِ» عَلَى إِفَادَةِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ الِاخْتِصَاصَ تَقْصِيرٌ تَبِعَ فِيهِ كَلَامَ «الْمِفْتَاحِ» وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ سَعْدُ الدِّينِ فِي «شَرْحِهِ عَلَى التَّلْخِيصِ».
وَالْمُرَادُ بِالْقُوَّةِ الْقُوَّةُ الْمَعْنَوِيَّةُ وَهِيَ كَثْرَةُ الْأُمَّةِ وَوَفْرَةُ وَسَائِلِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنِ الْغَيْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت: ١٥].
وَجُمْلَةُ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً إِلَخْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِتَفْصِيلِ الْإِجْمَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالتَّفْرِيعِ بَعْدَهَا بِقَوْلِهِ:
فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ بِضَمِيرِ الْغَائِبِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ مِنْكُمْ بِضَمِيرِ خِطَابِ الْجَمَاعَةِ وَكَذَلِكَ رُسِمَتْ فِي مُصْحَفِ الشَّامِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ جَارِيَةٌ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ.
وَالْآثَارُ: جَمَعُ أَثَرٍ، وَهُوَ شَيْء أَوْ شَكْلٌ يَرْسِمُهُ فِعْلُ شَيْءٍ آخَرَ، مِثْلُ أَثَرِ الْمَاشِي فِي الرَّمْلِ قَالَ تَعَالَى: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ [طه: ٩٦] وَمِثْلُ الْعُشْبِ إِثْرَ الْمَطَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الرّوم: ٥٠]، وَيُسْتَعَارُ الْأَثَرُ لِمَا يَقَعُ بَعْدَ شَيْءٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ [الْكَهْف: ٦].
وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ: أَرْضُ أُمَّتِهِمْ.
وَالْفَاءُ فِي فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ لِتَفْرِيعِ الْأَخْذِ عَلَى كَوْنِهِمْ أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ قُرَيْشٍ لِأَنَّ الْقُوَّةَ أُرِيدَ بِهَا هُنَا الْكِنَايَةُ عَنِ الْإِبَاءِ مِنَ الْحَقِّ وَالنُّفُورِ مِنَ الدَّعْوَةِ، فَالتَّقْدِيرُ: فأعرضوا، أَو فَكَفرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ.
وَالْأَخْذُ: الِاسْتِئْصَالُ وَالْإِهْلَاكُ كُنِّيَ عَنِ الْعِقَابِ بِالْأَخْذِ، أَوِ اسْتُعْمِلَ الْأَخْذُ مَجَازًا فِي الْعِقَابِ.
وَالذُّنُوبُ: جَمَعُ ذَنْبٍ وَهُوَ الْمَعْصِيَةُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْإِشْرَاكُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ،
120
وَذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ ذُنُوبًا جَمَّةً، وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا بِقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ.
وَمَعْنَى: وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ عِقَابِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِمْ، فَالْوَاقِي: هُوَ الْمُدَافِعُ النَّاصِرُ.
ومِنْ الْأَوْلَى مُتَعَلِّقَةٌ بِ واقٍ، وَقُدِّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمَجْرُورِ، ومِنْ الثَّانِيَةُ زَائِدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ بِحَرْفِ (مَا) وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَذْكُورِ وَهُوَ أَخْذُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ.
وَالْبَاءُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ ذَلِكَ الْأَخْذُ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا
بِهِمْ، وَفِي هَذَا تَفْصِيلٌ لِلْإِجْمَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ. فَالتَّقْدِيرُ: ذَلِكَ بِسَبَبِ تَحَقُّقِ مَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ فَكُفْرِهِمْ بِهِمْ.
وَأَفَادَ الْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ: تَأْتِيهِمْ تَجَدُّدَ الْإِتْيَانِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِمَجْمُوعِ تِلْكَ الْأُمَم، أَي يَأْتِي لِكُلِّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ رَسُولٌ، فَجَمْعُ الضَّمِيرِ فِي تَأْتِيهِمْ ورُسُلُهُمْ وَجَمْعُ الرُّسُلِ فِي قَوْلِهِ:
رُسُلُهُمْ مِنْ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْهُمْ أَتَاهَا رَسُولٌ. وَلَمْ يُؤْتَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: فَكَفَرُوا لِأَنَّ كُفْرَ أُولَئِكَ الْأُمَمِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِشْرَاكُ وَتَكْذِيبُ الرُّسُلِ.
وَكُرِّرَ قَوْلُهُ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِلَخْ إِطْنَابًا لِتَقْرِيرِ أَخْذِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِرُسُلِهِمْ، وَتَهْوِيلًا عَلَى الْمُنْذِرِينَ بِهِمْ أَنْ يُسَاوُوهُمْ فِي عَاقِبَتِهِمْ كَمَا سَاوُوهُمْ فِي أَسْبَابِهَا.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ تَعْلِيلٌ وَتَبْيِينٌ لِأَخْذِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَكَيْفِيَّتِهِ وَسُرْعَةِ أَخْذِهِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ فَاءِ التَّعْقِيبِ، فَالْقَوِيُّ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فَلَا يُعَطِّلُ مُرَادَهُ وَلَا يَتَرَيَّثُ، وشَدِيدُ الْعِقابِ بَيَانٌ لِذَلِكَ الْأَخْذِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [الْقَمَر: ٤٢].
121

[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٢٣ إِلَى ٢٤]

وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢٣) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٢٤)
هَذَا ذِكْرُ فَرِيقٍ آخَرَ مِنَ الْأُمَمِ لَمْ يَشْهَدِ الْعَرَبُ آثَارَهُمْ وَهُمْ قَوْمُ فِرْعَوْنَ أَقْبَاطُ مِصْرَ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَاخِرِ سُورَةِ هُودٍ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ هَامَانَ وَهُوَ لَقَبُ وَزِيرِ فِرْعَوْنَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ. وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ أَنَّهَا تَزِيدُ عَلَى مَا أُجْمِلَ مِنْ قِصَصِ أُمَمٍ أُخْرَى أَنَّ فِيهَا عِبْرَتَيْنِ: عِبْرَةٌ بِكَيْدِ الْمُكَذِّبِينَ وَعِنَادِهِمْ ثُمَّ هَلَاكِهِمْ، وَعِبْرَةٌ بِصَبْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَثَبَاتِهِمْ ثُمَّ نَصْرِهِمْ، وَفِي كِلْتَا الْعِبْرَتَيْنِ وَعِيدٌ وَوَعْدٌ.
وَجُمْلَةُ: فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى وَبَيْنَ جُمْلَةِ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ [غَافِر: ٢٥].
وَقَارُونُ هُوَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَذَّبَ مُوسَى، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْقِصَصِ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ كَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى فِرْعَوْنَ وَخَادِمًا لَهُ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ كَانَ فِي زُمْرَةِ مَنْ خَرَجَ مَعَ مُوسَى، أَيْ فَاشْتَرَكَ أُولَئِكَ فِي رَمْيِ رَسُولِهِمْ بِالْكَذِبِ وَالسِّحْرِ كَمَا فعلت قُرَيْش.
[٢٥]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٢٥]
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٢٥)
أَيْ رَمَوْهُ ابْتِدَاءً بِأَنَّهُ سَاحِرٌ كَذَّابٌ تَوَهُّمًا أَنَّهُمْ يُلْقِمُونَهُ حَجَرَ الْإِحْجَامِ فَلَمَّا اسْتَمَرَّ عَلَى دَعْوَتِهِ وَجَاءَهُمْ بِالْحَقِّ، أَيْ أَظْهَرَ لَهُمُ الْآيَاتِ الْحَقَّ، أَيِ الْوَاضِحَةَ، فَأَطْلَقَ جاءَهُمْ عَلَى ظُهُورِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ [الْإِسْرَاء: ٨١].
ومِنْ عِنْدِنا وَصْفٌ لِلْحَقِّ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ حُقٌّ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ تَسْخِيرِ اللَّهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَهُوَ آيَاتُ نُبُوَّتِهِ التِّسْعُ.
وَوَجْهُ وُقُوعِ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا بَعْدَ قَوْلِهِ: أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا [غَافِر: ٢٣]
122
مَعَ اتِّحَادِ مُفَادِ الْجُمْلَتَيْنِ فَإِنَّ مُفَادَ جُمْلَةِ جاءَهُمْ مُسَاوٍ لِمُفَادِ جُمْلَةِ أَرْسَلْنا وَمُفَادُ قَوْلِهِ: بِالْحَقِ
مُسَاوٍ لِمُفَادِ قَوْلِهِ: بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ [غَافِر: ٢٣] أَنَّ الْأَوَّلَ لِلتَّنْوِيهِ بِرِسَالَةِ مُوسَى وَعَظَمَةِ مَوْقِفِهِ أَمَامَ أَعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ فَهُوَ بَيَانٌ لِدَعْوَتِهِ إِيَّاهُمْ وَمَا نَشَأَ عَنْهَا، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ، فَسُلِكَتْ فِي هَذَا النَّظْمِ طَرِيقَةُ الْإِطْنَابِ لِلتَّنْوِيهِ وَالتَّشْرِيفِ.
وَجُمْلَةُ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ مُعْتَرِضَةٌ. وَأَرَادُوا بِقَوْلِهِمُ اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ مَعَهُ أَنْ يُرْهِبُوا أَتْبَاعَهُ حَتَّى يَنْفَضُّوا عَنْهُ فَلَا يَجِدُ أَنْصَارًا وَيَبْقَى بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي خِدْمَةِ الْمِصْرِيِّينَ.
وَضَمِيرُ جاءَهُمْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ لِأَنَّهُ ضَمِيرُ جَمْعٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وَهُمْ أَهْلُ مَجْلِسِ فِرْعَوْنَ الَّذِينَ لَا يَخْلُو عَنْهُمْ مَجْلِسُ الْمَلِكِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَوَادِثِ الْعَظِيمَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هامانُ عَلَى الطِّينِ [الْقَصَص: ٣٨] الْآيَةَ. وَلَيْسَ عَائِدًا إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ، لِأَنَّ قَارُونَ لَمْ يَكُنْ مَعَ فِرْعَوْنَ حِينَ دَعَاهُ مُوسَى وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ لِمُوسَى فِي وَقْتِ حُضُورِهِ لَدَى فِرْعَوْن وَلكنه طغا بَعْدَ خُرُوجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ وَبَلَغَ بِهِ طُغْيَانُهُ إِلَى الْكُفْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّتِهِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِمُ: اقْتُلُوا مُخَاطَبٌ بِهِ فِرْعَوْنُ خِطَابَ تَعْظِيمٍ مِثْلَ رَبِّ ارْجِعُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٩]. وَإِنَّمَا أُبْهِمَ الْقَائِلُونَ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِعِلْمِهِ، فَفِعْلُ قالُوا بِمَنْزِلَةِ الْمَبْنِيِّ لِلنَّائِبِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ: قَالَ قَائِلٌ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ
إِلَّا فِي ضَلالٍ
. وَهُوَ مَحَلُّ الِاعْتِبَارِ لِقُرَيْشٍ بِأَنَّ كَيْدَ أمثالهم كَانَ مضاعا فَكَذَلِكَ يَكُونُ كَيْدُهُمْ. وَهَذَا الْقَتْلُ غَيْرُ الْقَتْلِ الَّذِي فَعَلَهُ فِرْعَوْنُ الَّذِي وُلِدَ مُوسَى فِي زَمَنِهِ.
وَسُمِّيَ هَذَا الرَّأْيُ كَيْدًا لِأَنَّهُمْ تَشَاوَرُوا فِيهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ أَنْ يَعْلَمَ بِذَلِكَ مُوسَى
123
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَأَنَّهُمْ أَضْمَرُوهُ وَلَمْ يُعْلِنُوهُ ثُمَّ شَغَلَهُمْ عَنْ إِنْفَاذِهِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٠] : وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ الْآيَةَ، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ [الْأَعْرَاف: ١٣٣] الْآيَةَ.
وَالضَّلَالُ: الضَّيَاعُ وَالِاضْمِحْلَالُ كَقَوْلِهِ: قالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: ١٠] أَيْ هَذَا الْكَيْدُ الَّذِي دَبَّرُوهُ قَدْ أَخَذَ اللَّهُ عَلَى أَيْدِيهِمْ فَلم يَجدوا لانقاذه سَبِيلا.
[٢٦]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٢٦]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (٢٦)
عَطْفٌ وَقالَ بِالْوَاوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ وَلَمْ يَكُنْ جَوَابًا لِقَوْلِهِمُ: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [غَافِر: ٢٥]، وَفِي هَذَا الْأُسْلُوبِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِرْعَوْنَ لَمْ يَعْمَلْ بِإِشَارَةِ الَّذِينَ قَالُوا: اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَأَنَّهُ سَكَتَ وَلَمْ يُرَاجِعْهُمْ بِتَأْيِيدٍ وَلَا إِعْرَاضٍ، ثُمَّ رَأَى أَنَّ الْأَجْدَرَ قَتْلُ مُوسَى دُونَ أَنْ يَقْتُلَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ لِأَنَّ قَتْلَهُ أَقْطَعُ لِفِتْنَتِهِمْ.
وَمَعْنَى: ذَرُونِي إِعْلَامُهُمْ بِعَزْمِهِ بِضَرْبٍ مِنْ إِظْهَارِ مَيْلِهِ لِذَلِكَ وَانْتِظَارِهِ الْمُوَافَقَةَ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يُمَثِّلُ حَالَهُ وَحَالَ الْمُخَاطَبِينَ بِحَالِ مَنْ يُرِيدُ فِعْلَ شَيْءٍ فَيَصُدُّ عَنْهُ، فَلِرَغْبَتِهِ فِيهِ يَقُولُ لِمَنْ يَصُدُّهُ: دَعْنِي أَفْعَلْ كَذَا، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّرْكِيبَ مِمَّا يُخَاطَبُ بِهِ الْمُمَانِعُ وَالْمُلَائِمُ وَنَحْوُهُمَا، قَالَ طَرَفَةُ:
فَإِنْ كنت لَا تَسْتَطِيع دَفْعَ مَنِيَّتِي فَدَعْنِي أُبَادِرْهَا بِمَا مَلَكَتْ يَدِي
ثُمَّ اسْتُعْمِلَ هَذَا فِي التَّعْبِيرُ عَنِ الرَّغْبَةِ وَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ مُعَارِضٌ أَوْ مُمَانِعٌ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ شَائِعٌ فِي هَذَا وَمَا يُرَادِفُهُ مِثْلَ: دَعْنِي وَخَلَّنِي، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: ١١] وَقَوْلِهِ: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ [المزمل: ١١]، وَقَول أبي الْقَاسِم السُّهَيْلِيِّ:
124
دَعْنِي عَلَى حُكْمِ الْهَوَى أَتَضَرَّعُ فَعَسَى يَلِينُ لِيَ الْحَبِيبُ وَيَخْشَعُ
وَذَلِكَ يُسْتَتْبَعُ كِنَايَةً عَنْ خَطَرِ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَصُعُوبَةِ تَحْصِيلِهِ لِأَنَّ مِثْلَهُ مِمَّا يَمْنَعُ الْمُسْتَشَارُ مُسْتَشِيرَهُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ: وَلْيَدْعُ رَبَّهُ لِأَنَّ مُوسَى خَوَّفَهُمْ عَذَابَ اللَّهِ وَتَحَدَّاهُمْ بِالْآيَاتِ التِّسْعِ. وَلَامُ الْأَمْرِ فِي وَلْيَدْعُ رَبَّهُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّسْوِيَةِ وَعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ. وَجُمْلَةُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ تَعْلِيلٌ لِلْعَزْمِ عَلَى قَتْلِ مُوسَى.
وَالْخَوْفُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِشْفَاقِ، أَيْ أَظُنُّ ظَنًّا قَوِيًّا أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ. وَحُذِفَتْ (مِنَ) الَّتِي يَتَعَدَّى بِهَا فِعْلُ أَخافُ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ (أَنْ).
وَالتَّبْدِيلُ: تَعْوِيضُ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ. وَتَوَسَّمَ فِرْعَوْنُ ذَلِكَ مِنْ إِنْكَارِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ زَعَمَهُ أَنَّهُ إِلَهٌ لِقَوْمِهِ فَإِنَّ تَبْدِيلَ الْأُصُولِ يَقْتَضِي تَبْدِيلَ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا.
وَالْإِضَافَةُ فِي قَوْلِهِ: دِينَكُمْ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالذَّبِّ عَنِ الدِّينِ وَإِنْ كَانَ هُوَ دِينُهُ أَيْضًا لَكِنَّهُ تَجَرَّدَ فِي مُشَاوَرَتِهِمْ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مُرَاعَاةٌ لِحَظِّ نَفْسِهِ كَمَا قَالُوا هُمْ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الْأَعْرَاف: ١٢٧] وَذَلِكَ كُلُّهُ إِلْهَابٌ وَتَحْضِيضٌ.
وَالْأَرْضُ: هِيَ الْمَعْهُودَةُ عِنْدَهُمْ وَهِيَ مَمْلَكَةُ فِرْعَوْنَ.
وَمَعْنَى إِظْهَارِ مُوسَى الْفَسَادَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَتَسَبَّبُ فِي ظُهُورِهِ بِدَعْوَتِهِ إِلَى تَغْيِيرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّيَانَةِ وَالْعَوَائِدِ. وَأُطْلِقَ الْإِظْهَارُ عَلَى الْفُشُوِّ وَالِانْتِشَارِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ. وَقَدْ حَمَلَهُ غُرُورُهُ وَقِلَّةُ تَدَبُّرِهِ فِي الْأُمُورِ عَلَى ظَنِّ أَنَّ مَا خَالَفَ دِينَهُمْ يُعَدُّ فَسَادًا إِذْ لَيْسَتْ لَهُمْ حُجَّةٌ لِدِينِهِمْ غَيْرُ الْإِلْفِ وَالِانْتِفَاعِ الْعَاجِلِ.
125
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامر وَأَبُو عَمْرو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَنْ بِوَاوِ الْعَطْفِ. وَقَرَأَ غَيْرُهُمْ أَوْ أَنْ بِ (أَوِ) الَّتِي لِلتَّرْدِيدِ، أَيْ لَا يَخْلُو سَعْيُ مُوسَى عَنْ حُصُول أحد هاذين.
وَقَرَأَ نَافِع وَأَبُو عَمْرو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِضَمِّ يَاءِ يُظْهِرَ وَنَصْبِ الْفَسادَ أَي يُبدل دينكُمْ وَيَكُونُ سَبَبًا فِي ظُهُورِ الْفَسَادِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصُ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَبِرَفْعِ الْفَسَادُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْفَسَادَ يَظْهَرُ بِسَبَبِ ظُهُورِ أَتْبَاعِ مُوسَى، أَو بِأَن يجترىء غَيْرُهُ عَلَى مِثْلِ دَعْوَاهُ بِأَنْ تَزُولَ حُرْمَةُ الدَّوْلَةِ، لِأَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الْخَوْفِ عَنْ عَمَلٍ أَنْ يَنْقَلِبَ جُبْنُهُمْ شَجَاعَةً إِذَا رَأَوْا نَجَاحَ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي يُرِيدُونَ مثله.
[٢٧]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٢٧]
وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (٢٧)
هَذَا حِكَايَةُ كَلَامٍ صَدَرَ مِنْ مُوسَى فِي غَيْرِ حَضْرَةِ فِرْعَوْنَ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّ مُوسَى لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَضُمُّهُ مَلَأُ اسْتِشَارَةِ فِرْعَوْنَ حِينَ قَالَ لِقَوْمِهِ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى [غَافِر: ٢٦] وَلَكِنَّ مُوسَى لَمَّا بَلَغَهُ مَا قَالَهُ فِرْعَوْن فِي ملائه قَالَ مُوسَى فِي قَوْمِهِ: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ، وَلِذَلِكَ حُكِيَ فِعْلُ قَوْلِهِ مَعْطُوفًا بِالْوَاوِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ لَمْ يَقَعْ فِي مُحَاوَرَةٍ مَعَ مَقَالِ فِرْعَوْنَ بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ الْمَحْكِيَّةِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ [١٨- ٣١] مِنْ قَوْلِهِ: قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً إِلَى قَوْلِهِ: قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
وَقَوْلُهُ: عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ خِطَابٌ لِقَوْمِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَطْمِينًا لَهُمْ وَتَسْكِينًا لِإِشْفَاقِهِمْ عَلَيْهِ مِنْ بَطْشِ فِرْعَوْنَ. وَالْمَعْنَى: إِنِّي أَعْدَدْتُ الْعُدَّةَ لِدَفْعِ بَطْشِ فِرْعَوْنَ الْعَوْذَ بِاللَّهِ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ وَفِي مُقَدِّمَةِ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَبِّرِينَ فِرْعَوْنُ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ مُوسَى عَلِمَ أَنَّهُ سَيَجِدُ مُنَاوِينَ مُتَكَبِّرِينَ يَكْرَهُونَ مَا أَرْسَلَهُ اللَّهُ بِهِ إِلَيْهِمْ، فَدَعَا رَبَّهُ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُ الْحِفْظَ وَكَفَاهُ ضَيْرَ كُلِّ مُعَانِدٍ، وَذَلِكَ مَا حُكِيَ فِي سُورَةِ طه [٤٥، ٤٦] : قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى
فَأَخْبَرَ مُوسَى قَوْمَهُ بِأَنَّ رَبَّهُ حَافِظٌ لَهُ لِيَثِقُوا بِاللَّهِ كَمَا كَانَ مقَام النبيء لَا حِينَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ تَحْرُسُهُ أَصْحَابُهُ فِي اللَّيْلِ فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الْحجر: ٩٤، ٩٥] الْآيَةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَنْ يَتَخَلُّوا عَنْ حِرَاسَتِهِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (إِنَّ) مُتَوَجِّهٌ إِلَى لَازِمِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ لَهُ السَّلَامَةَ وَأَكَّدَ ذَلِكَ لِتَنْزِيلِ بَعْضِ قَوْمِهِ أَوْ جُلِّهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْ إِشْفَاقِهِمْ عَلَيْهِ.
وَالْعَوْذُ: الِالْتِجَاءُ إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي يَسْتَعْصِمُ بِهِ الْعَائِذُ فَيَدْفَعُ عَنْهُ مَنْ يَرُومُ ضُرَّهُ، يُقَالُ: عَاذَ بِالْجَبَلِ، وَعَاذَ بِالْجَيْشِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: ٩٨].
وَعَبَّرَ عَنِ الْجَلَالَةِ بِصِفَةِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ لِأَنَّ فِي صِفَةِ الرَّبِّ إِيمَاءً إِلَى تَوْجِيهِ الْعَوْذِ بِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعُوذُ بِمَوْلَاهُ. وَزِيَادَةُ وَصْفِهِ بِرَبِّ الْمُخَاطَبِينَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ
عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَجْزَعُوا مِنْ مُنَاوَاةِ فِرْعَوْنَ لَهُمْ وَأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعُوذُوا بِاللَّهِ مِنْ كُلِّ مَا يُفْظِعُهُمْ.
وَجُعِلَتْ صِفَةُ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ مُغْنِيَةً عَنْ صِفَةِ الْكُفْرِ أَوِ الْإِشْرَاكِ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْإِشْرَاكَ وَزِيَادَةً، لِأَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَرْءِ التَّجَبُّرُ وَالتَّكْذِيبُ بِالْجَزَاءِ قَلَّتْ مُبَالَاتُهُ بِعَوَاقِبِ أَعْمَالِهِ فَكَمُلَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الْقَسْوَةِ وَالْجُرْأَةِ على النَّاس.
[٢٨]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٢٨]
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨)
عَطْفُ قَوْلِ هَذَا الرَّجُلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَالَ قَوْلَهُ هَذَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ شُورَى
127
فِرْعَوْنَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ جَارِيًا مَجْرَى الْمُحَاوَرَةِ مَعَ فِرْعَوْنَ فِي مَجْلِسِ اسْتِشَارَتِهِ، أَوْ كَانَ أَجَابَ بِهِ عَنْ قَوْلِ فِرْعَوْنَ: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى [غَافِر: ٢٦] لَكَانَتْ حِكَايَةُ قَوْلِهِ بِدُونِ عَطْفٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَاتِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ اللَّهَ أَلْهَمَ هَذَا الرَّجُلَ بِأَنْ يَقُولَ مَقَالَتَهُ إِلْهَامًا كَانَ أَوَّلَ مَظْهَرٍ مِنْ تَحْقِيقِ اللَّهِ لِاسْتِعَاذَةِ مُوسَى بِاللَّهِ، فَلَمَّا شَاعَ تَوَعُّدُ فِرْعَوْنَ بِقَتْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جَاءَ هَذَا الرَّجُلُ إِلَى فِرْعَوْنَ نَاصِحًا وَلَمْ يَكُنْ يَتَّهِمُهُ فِرْعَوْنُ لِأَنَّهُ مِنْ آلِهِ.
وَخِطَابُهُ بِقَوْلِهِ: أَتَقْتُلُونَ مُوَجَّهٌ إِلَى فِرْعَوْنَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ هُوَ الَّذِي يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْقَتْلُ لِأَنَّهُ الْآمِرُ بِهِ، وَلِحِكَايَةِ كَلَامِ فِرْعَوْنَ عَقِبَ كَلَامِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ بِدُونِ عَطْفٍ بِالْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى [غَافِر: ٢٩].
وَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مِنَ الْقِبْطِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا [غَافِر: ٢٩] فَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مُلْكٌ هُنَالِكَ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ قَرَابَةِ فِرْعَوْنَ وَخَاصَّتِهِ لِمَا يَقْتَضِيهِ لَفْظُ آلِ مِنْ ذَلِكَ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَمُؤْمِنٌ بِصِدْقِ مُوسَى، وَمَا كَانَ إِيمَانُهُ هَذَا إِلَّا لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا اهْتَدَى إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ إِمَّا بِالنَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ فصدّق مُوسَى عِنْد مَا سَمِعَ دَعْوَتَهُ كَمَا اهْتَدَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى تَصْدِيقِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِينِ سَمَاعِ دَعْوَتِهِ فَقَالَ لَهُ: «صَدَقْتَ». وَكَانَ كَتْمُهُ الْإِيمَانَ مُتَجَدِّدًا مُسْتَمِرًّا تَقِيَّةً مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِذْ عَلِمَ أَنَّ إِظْهَارَهُ الْإِيمَانَ يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُ غَيْرَهُ كَمَا كَانَ (سُقْرَاطُ) يَكْتُمُ إِيمَانَهُ بِاللَّهِ فِي بِلَادِ الْيُونَانِ خَشْيَةَ أَنْ يَقْتُلُوهُ انْتِصَارًا لِآلِهَتِهِمْ.
وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا إِلَى آخِرِهِ أَنْ يَسْعَى لِحِفْظِ مُوسَى مِنَ الْقَتْلِ بِفَتْحِ بَابِ الْمُجَادَلَةِ فِي شَأْنِهِ لِتَشْكِيكِ فِرْعَوْنَ فِي تَكْذِيبِهِ بِمُوسَى، وَهَذَا الرَّجُلُ هُوَ غَيْرُ
128
الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٢٠] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى فَإِنَّ تِلْكَ الْقِصَّةَ كَانَتْ قُبَيْلَ خُرُوجِ مُوسَى مِنْ مِصْرَ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِي مَبْدَأِ دُخُولِهِ مِصْرَ. وَلَمْ يُوصَفْ هُنَالِكَ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَلَا بِأَنَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ بَلْ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا هُوَ صَرِيحُ سِفْرِ الْخُرُوجِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ هُنَا كَانَ رَجُلًا صَالِحًا نَظَّارًا فِي أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ سَمِعَ دَعْوَةَ مُوسَى، وَإِنَّ اللَّهَ يُقَيِّضُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ حُمَاةً عِنْدَ الشَّدَائِدِ.
قِيلَ اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ حَبِيبٌ النَّجَّارُ وَقِيلَ سَمْعَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ (يس) أَنَّ حَبِيبًا النَّجَّارَ مِنْ رُسُلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِصَّةُ هَذَا الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي «التَّوْرَاةِ» بِالصَّرِيحِ وَلَكِنَّهَا مَذْكُورَةٌ إِجْمَالًا فِي الْفِقْرَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ «فَقَالَ عَبِيدُ فِرْعَوْنَ إِلَى مَتَى يَكُونُ لَنَا هَذَا (أَيْ مُوسَى) فَخًّا أَطْلِقِ الرِّجَالَ لِيَعْبُدُوا الرَّبَّ إِلَهَهُمْ».
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَقْتُلُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ يَقْبُحُ بِكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا نَفْسًا لِأَنَّهُ يَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ، أَيْ وَلَمْ يَجْبِرْكُمْ عَلَى أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَلَكِنَّهُ قَالَ لَكُمْ قَوْلًا فَاقْبَلُوهُ أَوِ ارْفُضُوهُ، فَهَذَا مَحْمَلُ قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَوْنِ هَذَا الرَّجُلِ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ.
وأَنْ يَقُولَ. مَجْرُورٌ بِلَامِ التَّعْلِيلِ الْمُقَدَّرَةِ لِأَنَّهَا تُحْذَفُ مَعَ (أَنْ) كَثِيرًا. وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَسْمَاءِ آلِهَةِ الْقِبْطِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ فَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الْحِجَاجِ بَعْدَ أَنِ اسْتَأْنَسَ فِي خِطَابِ قَوْمِهِ بِالْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ فَارْتَقَى إِلَى التَّصْرِيحِ بِتَصْدِيقِ مُوسَى بِعِلَّةِ أَنَّهُ جَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ، أَيِ الْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ بِصِدْقِهِ، وَإِلَى التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ هُوَ رَبُّ الْمُخَاطَبِينَ فَقَالَ: مِنْ رَبِّكُمْ. فَجُمْلَةُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: رَجُلًا وَالْبَاءُ فِي بِالْبَيِّناتِ لِلْمُصَاحَبَةِ.
129
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ رُجُوعٌ إِلَى ضَرْبٍ مِنْ إِيهَامِ الشَّكِّ فِي صِدْقِ مُوسَى لِيَكُونَ كَلَامُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى احْتِمَالَيْ تَصْدِيقٍ وَتَكْذِيبٍ يَتَدَاوَلُهُمَا فِي كَلَامِهِ فَلَا يُؤْخَذُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمُوسَى بَلْ يُخَيِّلُ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ فِي حَالَةِ نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ لِيَسُوقَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ إِلَى أَدِلَّةِ صِدْقِ مُوسَى بِوَجْهٍ لَا يُثِيرُ نُفُورَهُمْ، فَالْجُمْلَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ فَتَكُونُ حَالًا.
وَقَدَّمَ احْتِمَالَ كَذِبِهِ عَلَى احْتِمَالِ صِدْقِهِ زِيَادَةً فِي التَّبَاعُدِ عَنْ ظَنِّهِمْ بِهِ الِانْتِصَارَ لِمُوسَى فَأَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ فِي مَظْهَرِ الْمُهْتَمِّ بِأَمْرِ قَوْمِهِ ابْتِدَاءً.
وَمَعْنَى: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ اسْتِنْزَالُهُمْ لِلنَّظَرِ، أَيْ فَعَلَيْكُمْ بِالنَّظَرِ فِي آيَاتِهِ وَلَا تَعْجَلُوا بِقَتْلِهِ وَلَا بِاتِّبَاعِهِ فَإِنْ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَذِبُهُ فِيمَا تَحَدَّاكُمْ بِهِ وَمَا أَنْذَرَكُمْ بِهِ مِنْ مَصَائِبَ فَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّكُمْ ذَلِكَ شَيْئًا وَعَادَ كَذِبُهُ عَلَيْهِ بِأَنْ يُوسَمَ بِالْكَاذِبِ، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَكُمْ صِدْقُهُ يُصِبْكُمْ بَعْضُ مَا تَوَعَّدَكُمْ بِهِ، أَيْ تُصِبْكُمْ بَوَارِقُهُ فَتَعْلَمُوا صِدْقَهُ فَتَتَّبِعُوهُ، وَهَذَا وَجْهُ التَّعْبِيرِ بِ بَعْضُ دُونَ أَنْ يَقُولَ: يُصِبْكُمُ الَّذِي يَعِدُكُمْ بِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْوَعْدِ هُنَا الْوَعْدُ بِالسُّوءِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْوَعِيدِ. أَيْ فَإِنِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى الْعِنَادِ يُصِبْكُمْ جَمِيعُ مَا تَوَعَّدَكُمْ بِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى.
وَقَدْ شَابَهَ مَقَامُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ مَقَامَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ إِذْ آمَنَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ دَعْوَتَهُ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ آلِهِ، وَيَوْمَ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ) يَخْنُقُهُ بِثَوْبِهِ فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِمَنْكِبِ عَقَبِةِ وَدَفَعَهُ وَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: «وَاللَّهِ لَيَوْمُ أَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، إِنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ رَجُلٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُظْهِرُ إِيمَانَهُ وَبَذَلَ مَالَهُ وَدَمَهُ»
. وَأَقُولُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَقْوَى يَقِينًا مِنْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ كَتَمَ إِيمَانَهُ وَأَبُو بَكْرٍ أَظْهَرَ إِيمَانَهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ يَجُوزُ أَنَّهَا مِنْ قَوْلِ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا تَعْلِيلُ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّهُ عَلَى كَذِبِهِ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا عَلَى
130
اللَّهِ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَفْتَضِحَ أَمْرُهُ أَوْ يُهْلِكَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: ٤٤- ٤٦] لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُمْهِلُ الْكَاذِبَ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا جَاءَكُمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ فَقَدْ تَبَيَّنَ صِدْقُهُ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَخْرُقُ الْعَادَةَ بَعْدَ تَحَدِّي الْمُتَحَدِّي بِهَا إِلَّا لِيَجْعَلَهَا أَمَارَةً عَلَى أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنْهُ لِأَنَّ تَصْدِيقَ الْكَاذِبِ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَمَعْنَى: يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ أَيْ مِمَّا تَوَعَّدَكُمْ بِوُقُوعِهِ فِي الدُّنْيَا، أَوْ فِي الْآخِرَةِ وَكَيْفَ إِذَا كَانَتِ الْبَيِّنَةُ نَفْسُهَا مَصَائِبَ تَحُلُّ بِهِمْ مِثْلَ الطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَبَقِيَّةِ التِّسْعِ الْآيَاتِ.
وَالْمُسْرِفُ: مُتَجَاوِزُ الْمَعْرُوفِ فِي شَيْءٍ، فَالْمُرَادُ هُنَا مُسْرِفٌ فِي الْكَذِبِ لِأَنَّ أَعْظَمَ الْكَذِبِ أَنْ يَكُونَ عَلَى اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ [الْأَنْعَام: ٩٣].
وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْإِسْرَافُ فِي الْكَذِبِ تَعَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: كَذَّابٌ عَطْفُ بَيَانٍ وَلَيْسَ خَبَرًا ثَانِيًا إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ إِسْرَافٌ هُنَا غَيْرُ إِسْرَافِ الْكَذِبِ، وَفِي هَذَا اعْتِرَافٌ مِنْ هَذَا الْمُؤْمِنِ بِاللَّهِ الَّذِي أَنْكَرَهُ فِرْعَوْنُ، رَمَاهُ بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي إِلَى آخِرِهَا جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً بَيْنَ كَلَامَيْ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ لَيْسَتْ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِهِ وَإِنَّمَا هِيَ قَوْلٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ فِي قُرْآنِهِ يُقْصَدُ مِنْهَا تَزْكِيَةُ هَذَا الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ إِذْ هَدَاهُ اللَّهُ لِلْحَقِّ، وَأَنَّهُ تَقِيٌّ صَادِقٌ، فَيَكُونُ نَفْيُ الْهِدَايَةِ عَنِ الْمُسْرِفِ الْكَذَّابِ كِنَايَةً عَنْ تَقْوَى هَذَا الرَّجُلِ وَصِدْقِهِ لِأَنَّهُ نَطَقَ عَنْ هُدًى وَاللَّهُ لَا يُعْطِي الْهُدَى مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ.
[٢٩]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٢٩]
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (٢٩)
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا.
لَمَّا تَوَسَّمَ نُهُوضَ حُجَّتِهِ بَيْنَهُمْ وَأَنَّهَا دَاخَلَتْ نُفُوسَهُمْ، أَمِنَ بَأْسَهُمْ، وَانْتَهَزَ فُرْصَةَ انْكِسَارِ قُلُوبِهِمْ، فَصَارَحَهُمْ بِمَقْصُودِهِ مِنِ الْإِيمَانِ بِمُوسَى عَلَى سُنَنِ الْخُطَبَاءِ
131
وَأَهْلِ الْجَدَلِ بَعْدَ تَقْرِيرِ الْمُقْدِمَاتِ وَالْحُجَجِ أَنْ يَهْجُمُوا عَلَى الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ، فَوَعَظَهُمْ بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ.
وَأَدْخَلَ قَوْمَهُ فِي الْخِطَابِ فَنَادَاهُمْ لِيَسْتَهْوِيَهُمْ إِلَى تَعْضِيدِهِ أَمَامَ فِرْعَوْنَ فَلَا يَجِدُ فِرْعَوْنُ بُدًّا مِنَ الِانْصِيَاعِ إِلَى اتِّفَاقِهِمْ وَتَظَاهُرِهِمْ، وَأَيْضًا فَإِنَّ تَشْرِيكَ قَوْمِهِ فِي الْمَوْعِظَةِ أَدْخَلُ فِي بَابِ النَّصِيحَةِ فَابْتَدَأَ بِنُصْحِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّهُ الَّذِي بِيَدِهِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، وَثَنَّى بِنَصِيحَةِ الْحَاضِرِينَ مِنْ قَوْمِهِ تَحْذِيرًا لَهُمْ مِنْ مَصَائِبَ تُصِيبُهُمْ مِنْ جَرَّاءِ امْتِثَالِهِمْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ بِقَتْلِ مُوسَى فَإِنَّ ذَلِكَ يُهِمُّهُمْ كَمَا يُهِمُّ فِرْعَوْنَ. وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي إِسْدَاءِ النَّصِيحَةِ نَظِيرُ التَّرْتِيبِ
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»
(١). وَلَا يَخْفَى مَا فِي نِدَائِهِمْ بِعُنْوَانِ أَنَّهُمْ قَوَّمُهُ مِنَ الِاسْتِصْغَاءِ لِنُصْحِهِ وَتَرْقِيقِ قُلُوبِهِمْ لِقَوْلِهِ.
وَابْتِدَاءُ الْمَوْعِظَةِ بِقَوْلِهِ: لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَتَمْهِيدٌ لِتَخْوِيفِهِمْ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، يَعْنِي: لَا تَغُرَّنَّكُمْ عَظَمَتُكُمْ وَمُلْكُكُمْ فَإِنَّهُمَا
مُعَرَّضَانِ لِلزَّوَالِ إِنْ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ.
وَالْمَقْصُودُ: تَخْوِيفُ فِرْعَوْنَ مِنْ زَوَالِ مُلْكِهِ، وَلَكِنَّهُ جَعَلَ الْمُلْكَ لِقَوْمِهِ لِتَجَنُّبِ مُوَاجَهَةِ فِرْعَوْنَ بِفَرْضِ زَوَالِ مُلْكِهِ.
وَالْأَرْضُ: أَرْضُ مِصْرَ، أَيْ نَافِذًا حُكْمُكُمْ فِي هَذَا الصُّقْعِ.
وَفَرَّعَ عَلَى هَذَا التَّمْهِيدِ: فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا، وَ (مَنْ) لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ عَنْ كُلِّ نَاصِرٍ، فَالْمَعْنَى: فَلَا نَصْرَ لَنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ. وَأَدْمَجَ نَفْسَهُ مَعَ قَوْمِهِ فِي يَنْصُرُنا وجاءَنا، لِيُرِيَهُمْ أَنَّهُ يَأْبَى لِقَوْمِهِ مَا يَأْبَاهُ لِنَفْسِهِ وَأَنَّ الْمُصِيبَةَ إِنْ حَلَّتْ لَا تُصِيبُ بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ.
وَمَعْنَى ظاهِرِينَ غَالِبِينَ، وَتَقَدَّمَ آنِفًا، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ قَادِرِينَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى فَاللَّهُ قَادِرٌ عَلَى هَلَاكِكُمْ.
_________
(١) بعض حَدِيث أَوله:
الدَّين النَّصِيحَة قَالُوا لمن يَا رَسُول الله قَالَ لله وَلِرَسُولِهِ
إِلَخ.
132
وَالْبَأْسُ: الْقُوَّةُ عَلَى الْعَدْوِ وَالْمُعَانِدِ، فَهُوَ الْقُوَّةُ عَلَى الضُّرِّ.
قالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ تَفَطَّنُ فِرْعَوْنُ إِلَى أَنَّهُ الْمُعَرَّضُ بِهِ فِي خِطَابِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ قَوْمَهُ فَقَاطَعَهُ كَلَامَهُ وَبَيَّنَ سَبَبَ عَزْمِهِ عَلَى قَتْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّهُ لَا يَرَى نَفْعًا إِلَّا فِي قَتْلِ مُوسَى وَلَا يَسْتَصْوِبُ غَيْرَ ذَلِكَ وَيَرَى ذَلِكَ هُوَ سَبِيلُ الرَّشَادِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ لَا يَتْرُكَ لِنَصِيحَةِ مُؤْمِنِهِمْ مَدْخَلًا إِلَى نُفُوسٍ مَلَئِهِ خِيفَةَ أَنْ يَتَأَثَّرُوا بِنُصْحِهِ فَلَا يُسَاعِدُوا فِرْعَوْنَ عَلَى قَتْلِ مُوسَى. وَلِكَوْنِ كَلَامِ فِرْعَوْنَ صَدَرَ مَصْدَرَ الْمُقَاطَعَةِ لِكَلَامِ الْمُؤْمِنِ جَاءَ فِعْلُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ مَفْصُولًا غَيْرَ مَعْطُوفٍ وَهِيَ طَرِيقَةُ حِكَايَةِ الْمُقَاوَلَاتِ وَالْمُحَاوَرَةِ.
وَمَعْنَى: مَا أُرِيكُمْ: مَا أَجْعَلُكُمْ رَائِينَ إِلَّا مَا أَرَاهُ لِنَفْسِي، أَيْ مَا أُشِيرُ عَلَيْكُمْ بِأَنْ تَعْتَقِدُوا إِلَّا مَا أَعْتَقِدُهُ، فَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، أَيْ لَا أُشِيرُ إِلَّا بِمَا هُوَ مُعْتَقَدِي.
وَالسَّبِيلُ: مُسْتَعَارٌ لِلْعَمَلِ، وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّشَادِ قَرِينَةٌ، أَيْ مَا أَهْدِيكُمْ وَأُشِيرُ عَلَيْكُمْ إِلَّا بِعَمَلٍ فِيهِ رَشَادٌ. وَكَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِأَنَّ كَلَامَ مُؤْمِنِهِمْ سَفَاهَةُ رَأْيٍ. وَالْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنَ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ الْمَعْنَى الْحَاصِلِ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى كَمَا هُوَ بَيِّنٌ وَكَمَا هُوَ مُقْتَضى الْعَطف.
[٣٠- ٣١]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٣٠ إِلَى ٣١]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (٣٠) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١)
لَمَّا كَانَ هَذَا تَكْمِلَةٌ لِكَلَامِ الَّذِي آمَنَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ تَعْرِيجٌ عَلَى مُحَاوَرَةِ فِرْعَوْنَ عَلَى قَوْلِهِ: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرى [غَافِر: ٢٩] إِلَخْ وَكَانَ الَّذِي آمَنَ قَدْ جَعَلَ كَلَامَ فِرْعَوْنَ فِي الْبَيْنِ
133
وَاسْتَرْسَلَ يُكْمِلُ مَقَالَتَهُ عَطَفَ فِعْلَ قَوْلِهِ بِالْوَاوِ لِيَتَّصِلَ كَلَامُهُ بِالْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَلِئَلَّا يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ مُرَاجَعَةَ فِرْعَوْنَ وَلَكِنَّهُ قَصَدَ إِكْمَالَ خِطَابِهِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالَّذِي آمَنَ لِأَنَّهُ قَدْ عُرِفَ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ. وَإِعَادَتُهُ نِدَاءَ قَوْمِهِ تَأْكِيدٌ لِمَا قَصَدَهُ مِنَ النِّدَاءِ الْأَوَّلِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ.
وَجُعِلَ الْخَوْفُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَخُوفِ مِنْهُ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْمَخُوفِ عَلَيْهِ بِحَرْفِ (عَلَى) قَالَ لَبِيدٌ يَرْثِي أَخَاهُ أَرْبَدَ:
أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفَ وَلَا أَخْشَى عَلَيْهِ الرِّيَاحَ وَالْمَطَرَا
ويَوْمِ الْأَحْزابِ مُرَادٌ بِهِ، الْجِنْسُ لَا (يَوْمٌ) مُعَيَّنٌ بِقَرِينَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى جَمْعٍ أَزْمَانُهُمْ مُتَبَاعِدَةٌ. فَالتَّقْدِيرُ: مِثْلَ أَيَّامِ الْأَحْزَابِ، فَإِفْرَادُ يَوْمِ لِلْإِيجَازِ، مِثْلَ بَطْنٍ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِالْفَاعِلِ:
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعِفُّوا فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصٌ
وَالْمُرَادُ بِأَيَّامِ الْأَحْزَابِ أَيَّامَ إِهْلَاكِهِمْ وَالْعَرَبُ يُطْلِقُونَ الْيَوْمَ عَلَى يَوْمِ الْغَالِبِ وَيَوْمِ الْمَغْلُوبِ. وَالْأَحْزَابُ الْأُمَمُ لِأَنَّ كُلَّ أُمَّةٍ حِزْبٌ تَجْمَعُهُمْ أَحْوَالٌ وَاحِدَةٌ وَتَنَاصُرٌ بَيْنَهُمْ فَلِذَلِكَ تُسَمَّى الْأُمَّةُ حِزْبًا، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فِي سُورَة الْمُؤمنِينَ [٥٣].
وَالدَّأْبُ: الْعَادَةُ وَالْعَمَلُ الَّذِي يَدْأَبُ عَلَيْهِ عَامِلُهُ، أَيْ يُلَازِمُهُ وَيُكَرِّرُهُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ فِي أَوَّلِ آلِ عِمْرَانَ [١١].
وانتصب مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ عَلَى عَطْفِ الْبَيَانِ مِنْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ وَلَمَّا كَانَ بَيَانًا لَهُ كَانَ مَا يُضَافَانِ إِلَيْهِ مُتَّحِدًا لَا مَحَالَةَ فَصَارَ الْأَحْزَاب و (الدأب) فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ مُتَحَدٍّ فِيهِمَا، فَالتَّقْدِيرُ: مِثْلَ يَوْمِ جَزَاءِ الْأَحْزَابِ. مِثْلَ يَوْمِ جَزَاءِ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، أَيْ جَزَاءِ عَمَلِهِمْ. وَدَأْبُهُمُ الَّذِي اشْتَرَكُوا فِيهِ هُوَ الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ.
134
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْقِبْطَ كَانُوا عَلَى عِلْمٍ بِمَا حَلَّ بِقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، فَأَمَّا قَوْمُ نُوحٍ فَكَّانِ طُوفَانُهُمْ مَشْهُورًا، وَأُمًّا عَادٌ وَثَمُودُ فَلِقُرْبِ بِلَادِهِمْ مَنْ الْبِلَادُ الْمِصْرِيَّةِ وَكَانَ عَظِيمًا لَا
يَخْفَى عَلَى مُجَاوِرِيهِمْ.
وَجُمْلَةُ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَهِيَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ كَلَامَيْهِ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، أَيْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ جَزَاءً عَادِلًا مِنَ اللَّهِ وَهُوَ جَزَاءُ الْإِشْرَاكِ.
وَالظُّلْمُ يُطْلَقُ عَلَى الشِّرْكِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لُقْمَان: ١٣]، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُعَامَلَةِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَدْ جَمَعَ قَوْلُهُ: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ نَفِيَ الظُّلْمِ بِمَعْنَيَيْهِ عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرِكِ فِي مَعْنَيَيْهِ. وَكَذَلِكَ فِعْلُ يُرِيدُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى الْمَشِيئَةِ كَقَوْلِهِ: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [الْمَائِدَة: ٦] وَيُطْلَقُ بِمَعْنَى الْمَحَبَّةِ كَقَوْلِهِ: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ [الذاريات: ٥٧]، فَلَمَّا وَقَعَ فِعْلُ الْإِرَادَةِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ اقْتَضَى عُمُومَ نَفِيِ الْإِرَادَةِ بِمَعْنَيَيْهَا عَلَى طَرِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، فَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ صُدُورَ ظُلْمٍ مِنْ عِبَادِهِ وَلَا يَشَاءُ أَنْ يَظْلِمَ عِبَادَهُ. وَأَوَّلُ الْمَعْنَيَيْنَ فِي الْإِرَادَةِ وَفِي الظُّلْمِ أَعْلَقُ بِمَقَامُ الْإِنْذَارَ، وَالْمَعْنَى الثَّانِيَ تَابِعٌ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَتْرُكُ عِقَابَ أَهْلِ الشِّرْكِ لِأَنَّهُ عَدْلٌ، لِأَنَّ التَّوَعُّدَ بِالْعِقَابِ عَلَى الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي إِقْلَاعِ النَّاسِ عَنْهُ، وَصِدْقُ الْوَعِيدِ مِنْ مُتَمِّمَاتِ ذَلِكَ مَعَ كَوْنِهِ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ لِإِقَامَةِ الْعَدْلِ.
وَتَقْدِيمُ اسْمِ اللَّهُ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ قَصْرِ مَدْلُولِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ، وَإِذْ كَانَ الْمُسْنَدُ وَاقِعًا فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَانَ الْمَعْنَى: قَصْرُ نَفْيِ إِرَادَةِ الظُّلْمِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى قَصْرَ قَلْبٍ، أَيِ اللَّهُ لَا يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ بَلْ غَيْرُهُ يُرِيدُونَهُ لَهُمْ وَهُمْ قَادَةُ الشِّرْكِ وَأَيِمَّتُهُ إِذْ يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَاف: ٢٨].
هَذَا عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ لِلظُّلْمِ، وَأَمَّا عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي فَالْمَعْنَى: مَا اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ
135
يَظْلِمَ عِبَادَهُ وَلَكِنَّهُمْ يَظْلِمُونَ أنفسهم بِاتِّبَاع أئمتهم عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يُونُس: ٤٤] وبظلمهم دعاتهم وأئمتهم كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: ١٠١]، فَلَمْ يَخْرُجْ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ مَهْيَعِ اسْتِعْمَالِهِ فِي إِفَادَةِ قَصْرِ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَتَأَمّله.
[٣٢- ٣٣]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٣٢ إِلَى ٣٣]
وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (٣٢) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣)
أَعْقَبَ تَخْوِيفَهُمْ بِعِقَابِ الدُّنْيَا الَّذِي حَلَّ مَثَلُهُ بِقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ بِأَنْ خَوَّفَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ عَذَابَ الْآخِرَةِ عَاطِفًا جُمْلَتَهُ عَلَى جُمْلَةِ عَذَابِ الدُّنْيَا.
وَأَقْحَمَ بَيْنَ حَرْفِ الْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفِ نِدَاءَ قَوْمِهِ لِلْغَرَضِ الَّذِي تَقَدَّمَ آنِفًا.
ويَوْمَ التَّنادِ هُوَ يَوْمَ الْحِسَابِ وَالْحَشْرِ، سُمِّيَ يَوْمَ التَّنادِ لِأَنَّ الْخَلْقَ يَتَنَادُونَ يَوْمَئِذٍ: فَمِنْ مُسْتَشْفِعٍ وَمِنْ مُتَضَرِّعٍ وَمن مسلّم ومهنّىء وَمِنْ مُوَبِّخٍ وَمِنْ مُعْتَذِرٍ وَمِنْ آمِرٍ وَمِنْ مُعْلِنٍ بِالطَّاعَةِ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يُنادِيهِمْ [فصلت: ٤٧]، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت:
٤٤]، وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ [الْأَعْرَاف: ٤٤]، وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ [الْأَعْرَاف: ٥٠]، يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الْإِسْرَاء: ٧١]، دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الْفرْقَان: ١٣]، يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ [الْقَمَر: ٦] وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَمِنْ بَدِيعِ الْبَلَاغَةِ ذِكْرُ هَذَا الْوَصْفِ لِلْيَوْمِ فِي هَذَا الْمَقَامِ لِيُذَكِّرَهُمْ أَنَّهُ فِي مَوْقِفِهِ بَيْنَهُمْ يُنَادِيهِمْ بِ (يَا قَوْمِ) نَاصِحًا وَمُرِيدًا خَلَاصَهُمْ مِنْ كُلِّ نِدَاءٍ مُفْزِعٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتَأْهِيلَهُمْ لِكُلِّ نِدَاءٍ سَارٍّ فِيهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَوْمَ التَّنادِ بِدُونِ يَاءٍ فِي الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ وَهُوَ غَيْرُ مُنَوَّنٍ وَلَكِنْ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْمَنُونِ لِقَصْدِ الرِّعَايَةِ عَلَى الْفَوَاصِلِ، كَقَوْلِ التَّاسِعَةِ مِنْ نِسَاءِ
136
حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ:
«زَوْجِي رَفِيعُ الْعِمَادِ، طَوِيلُ النِّجَادِ، كَثِيرُ الرَّمَادِ، قَرِيبُ الْبَيْتِ مِنَ النَّادِ» فَحَذَفَتِ الْيَاءَ مِنْ كَلِمَةِ (النَّادِ) وَهِيَ مَعْرِفَةٌ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ يَوْمَ التَّنَادِي بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ اعْتِبَارًا بِأَنَّ الْفَاصِلَةَ هِيَ قَوْلُهُ: فَما لَهُ مِنْ هادٍ.
ويَوْمَ تُوَلُّونَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ التَّنادِ، وَالتَّوَلِّي: الرُّجُوعُ، وَالْإِدْبَارُ: أَنْ يُرْجِعَ مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي وَرَاءَهُ، أَيْ مِنْ حَيْثُ أَتَى هَرَبًا مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي وَرَدَ إِلَيْهَا لِأَنَّهُ وَجَدَ فِيهَا مَا يَكْرَهُ، أَيْ يَوْمَ تَفِرُّونَ مِنْ هَوْلِ مَا تَجِدُونَهُ. ومُدْبِرِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِعَامِلِهَا وَهُوَ تُوَلُّونَ.
وَجُمْلَةُ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالْمَعْنَى: حَالَةَ لَا يَنْفَعُكُمُ التَّوَلِّي.
وَالْعَاصِمُ: الْمَانِعُ وَالْحَافِظُ. ومِنَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ عاصِمٍ، ومِنَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ لِلِابْتِدَاءِ، تَقُولُ: عَصَمَهُ مِنَ الظَّالِمِ، أَيْ جَعَلَهُ فِي مَنَعَةٍ مُبْتَدَأَةٍ مِنَ الظَّالِمِ. وَضُمِّنَ فِعْلُ (عَصَمَ) مَعْنَى: أَنْقَذَ وَانْتَزَعَ، وَمَعْنَى: مِنَ اللَّهِ مِنْ عَذَابِهِ وَعِقَابِهِ لِأَنَّ الْمَنْعَ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَعَانِي لَا الذَّوَاتُ. ومِنَ الدَّاخِلَةُ عَلَى عاصِمٍ مَزِيدَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ.
وَأَغْنَى الْكَلَامُ عَلَى تَعْدِيَةِ فِعْلِ: أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ [غَافِر: ٣٠] عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ لِتَضَمُّنِهَا معنى: إِنِّي أرشدتكم إِلَى الْحَذَرِ مِنْ يَوْمِ التَّنَادِي.
وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازٌ بِحَذْفِ جُمَلٍ تَدُلُّ عَلَيْهَا الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ. وَالتَّقْدِيرُ: هَذَا إِرْشَادٌ لَكُمْ فَإِنَّ هَدَاكُمُ اللَّهُ عَمِلْتُمْ بِهِ وَإِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنْهُ فَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ أَضَلَّكُمْ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ، وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعْنَى التَّذْيِيلُ.
وَمَعْنَى إِسْنَادُ الْإِضْلَالِ وَالْإِغْوَاءِ وَنَحْوِهِمَا إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ قَدْ خَلَقَ نَفْسَ
137
الشَّخْصِ وَعَقْلَهُ خَلْقًا غَيْرَ قَابِلٍ لِمَعَانِي الْحَقِّ وَالصَّوَابِ، وَلَا يَنْفَعِلُ لِدَلَائِلِ الِاعْتِقَادِ الصَّحِيحِ.
وَأَرَادَ مِنْ هَذِهِ الصِّلَةِ الْعُمُومَ الشَّامِلَ لِكُلِّ مَنْ حَرَمَهُ اللَّهُ التَّوْفِيقَ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِتَوَقُّعِهِ أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ مِنْ جُمْلَةِ هَذَا الْعُمُومِ، وَآثَرَ لَهُمْ هَذَا دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ [الزمر: ٣٧] لِأَنَّهُ أَحَسَّ مِنْهُمُ الْإِعْرَاضَ وَلَمْ يَتَوَسَّمْ فِيهِمْ مَخَائِلَ الِانْتِفَاعِ بِنُصْحِهِ وَمَوْعِظَتِهِ.
[٣٤- ٣٥]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٣٤ الى ٣٥]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (٣٤) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (٣٥)
وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا.
تَوَسُّمَ فِيهِمْ قِلَّةَ جَدْوَى النُّصْحِ لَهُمْ وَأَنَّهُمْ مُصَمِّمُونَ عَلَى تَكْذِيبِ مُوسَى فَارْتَقَى فِي مَوْعِظَتِهِمْ إِلَى اللَّوْمِ عَلَى مَا مَضَى، وَلِتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ كَذَّبُوا يُوسُفَ لَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَتَكْذِيبُ الْمُرْشِدِينَ إِلَى الْحَقِّ شَنْشَنَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي أَسْلَافِهِمْ فَتَكُونُ سَجِيَّةً فِيهِمْ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (قَدْ) وَلَامِ الْقِسْمِ لِتَحْقِيقِهِ لِأَنَّهُمْ مَظِنَّةٌ أَنْ يُنْكِرُوهُ لِبُعْدِ عَهْدِهِمْ بِهِ.
فَالْمَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: جاءَكُمْ مُسْتَعَارٌ لِلْحُصُولِ وَالظُّهُورِ وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ وَلَقَدْ ظَهَرَ لَكُمْ يُوسُفُ بِبَيِّنَاتٍ. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ إِظْهَارُ الْبَيِّنَاتِ مُقَارِنًا دَعْوَةً إِلَى شَرْعٍ لِأَنَّهُ لَمَّا
أَظْهَرَ الْبَيِّنَاتِ وَتَحَقَّقُوا مَكَانَتَهُ كَانَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ الْعَقْلِ السَّلِيمِ أَنْ يَتَبَيَّنُوا آيَاتِهِ وَيَسْتَهْدُوا طَرِيقَ الْهُدَى وَالنَّجَاةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ يُوسُفَ بِأَنْ يَدْعُوَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، لِحِكْمَةٍ لَعَلَّهَا هِيَ انْتِظَارُ الْوَقْتِ وَالْحَالِ الْمُنَاسِبِ الَّذِي ادَّخَرَهُ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْبَيِّنَاتُ: الدَّلَائِلُ الْبَيِّنَةُ الْمُظْهِرَةُ أَنَّهُ مُصْطَفَى مِنَ اللَّهِ لِلْإِرْشَادِ إِلَى الْخَيْرِ، فَكَانَ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَتَّبِعَ خُطَاهُ وَيَتَرَسَّمَ آثَارَهُ وَيَسْأَلَهُ عَمَّا وَرَاءَ هَذَا الْعَالَمِ
138
الْمَادِّيِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَاجِبَةٌ فِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ: إِمَّا بِالْعَقْلِ، أَوْ بِمَا تَوَاتَرَ بَيْنَ الْبَشَرِ مِنْ تَعَالِيمِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.
وَالْبَيِّنَاتُ: إِخْبَارُهُ بِمَا هُوَ مَغِيبٌ عَنْهُمْ مِنْ أَحْوَالِهِمْ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤَى، وَكَذَلِكَ آيَةُ الْعِصْمَةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مِنْ بَيْنِهِمْ وَشَهِدَتْ لَهُ بِهَا امْرَأَةُ الْعَزِيزِ وَشَاهِدُ أَهْلِهَا حَتَّى قَالَ الْمَلِكُ: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [يُوسُف: ٥٤]، فَكَانَتْ دَلَائِلُ نُبُوءَةِ يُوسُفَ وَاضِحَةً وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَخْلِصُوا مِنْهَا اسْتِدْلَالًا يَقْتَفُونَ بِهِ أَثَرَهُ فِي صَلَاحِ آخِرَتِهِمْ، وَحَرَصُوا عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ دُنْيَاهُمْ فَأَوْدَعُوهُ خَزَائِنَ أَمْوَالِهِمْ وَتَدْبِيرَ مَمْلَكَتِهِمْ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ [يُوسُف: ٥٤]. وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَنْ يَسْتَرْشِدُوا بِهِ فِي سُلُوكِهِمُ الدِّينِيِّ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الِاسْتِرْشَادِ بِيُوسُفَ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَأَلْهَاهُمُ الِاعْتِنَاءُ بِتَدْبِيرِ الدُّنْيَا عَنْ تَدْبِير الدَّين فَلَمَّا ذَا لَمْ يَدْعُهُمْ يُوسُفُ إِلَى الِاعْتِقَادِ بِالْحَقِّ وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنْ سَأَلَ مِنَ الْمَلِكِ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يُوسُف: ٥٥].
قُلْتُ: لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالدَّعْوَةِ لِلْإِرْشَادِ إِلَّا إِذَا سُئِلَ مِنْهُ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، فَأَقَامَهُ اللَّهُ مَقَامَ الْمُفْتِي وَالْمُرْشِدِ لِمَنِ اسْتَرْشَدَ لَا مَقَامَ الْمُحْتَسِبِ الْمُغَيِّرِ لِلْمُنْكَرِ، واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رسالاته [الْأَنْعَام: ١٢٤]، فَلَمَّا أَقَامَهُ اللَّهُ كَذَلِكَ وَعَلِمَ يُوسُفُ مِنْ قَوْلِ الْمَلِكِ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ [يُوسُف: ٥٤] أَنَّ الْمَلِكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا تَدْبِيرَ مَمْلَكَتِهِ وَأَمْوَالِهِ، لَمْ يَسْأَلْهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَفِي لَهُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا وُجُوبُ طَلَبِهِمُ الْمَعْرِفَةَ وَالِاسْتِرْشَادَ مِنْهُ فَذَلِكَ حَقٌّ عَلَيْهِمْ، فَمَعْنَى: فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ الْإِنْحَاءُ عَلَى أَسْلَافِهِمْ فِي قِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِالْبَحْثِ عَنِ الْكَمَالِ الْأَعْلَى وَهُوَ الْكَمَالُ النَّفْسَانِيُّ بِاتِّبَاعِ الدِّينِ الْقَوِيمِ، أَيْ فَمَا زَالَ أَسْلَافُكُمْ يَشْعُرُونَ بِأَنْ يُوسُفَ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنَ الْهُدَى غَيْرِ مَأْلُوفٍ لَهُمْ وَيُهْرَعُونَ إِلَيْهِ فِي مُهِمَّاتِهِمْ ثُمَّ لَا تَعْزِمُ نُفُوسُهُمْ عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ الْإِرْشَادَ فِي أُمُورِ الدِّينِ. فَهُمْ مِنْ أَمْرِهِ فِي حَالَةِ شَكٍّ، أَيْ كَانَ حَاصِلُ مَا بَلَغُوا إِلَيْهِ فِي شَأْنِهِ أَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا يَكْشِفُ لَهُمْ
عَنْ وَاجِبِهِمْ نَحْوَهُ فَانْقَضَتْ مُدَّةُ حَيَاةِ يُوسُفَ بَيْنَهُمْ وَهُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْأَمْرِ.
139
فَالْمَلَامُ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِمْ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي طَلَبِ مَا يُنْجِيهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها [الْإِسْرَاء: ١٨] الْآيَتَيْنِ.
وحَتَّى لِلْغَايَةِ وَغَايَتُهَا هُوَ مَضْمُونُ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ جُمْلَةُ: إِذا هَلَكَ، وإِذا هُنَا اسْمٌ لِزَمَانِ الْمُضِيِّ مَجْرُورَةٌ بِ (حَتَّى) وَلَيْسَتْ بِظَرْفٍ، أَيْ حَتَّى زَمَنِ هَلَاكِ يُوسُفَ قُلْتُمْ: لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا، أَيْ قَالَ أَسْلَافُكُمْ فِي وَقْتِ وَفَاةِ يُوسُفَ: لَا يَبْعَثُ اللَّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَبَدًا رَسُولًا بَعْدَ يُوسُفَ، يَعَنُونَ: أَنَّا كُنَّا مُتَرَدِّدِينَ فِي الْإِيمَانِ بِيُوسُفَ فَقَدِ اسْتَرَحْنَا مِنَ التَّرَدُّدِ فَإِنَّهُ لَا يَجِيءُ مَنْ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ عَنِ اللَّهِ مِنْ بَعْدِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ جَرَى مِنْهُمْ عَلَى عَادَةِ الْمُعَانِدِينَ وَالْمُقَاوِمِينَ لِأَهْلِ الْإِصْلَاحِ وَالْفَضْلِ أَنْ يَعْتَرِفُوا بِفَضْلِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ تَنَدُّمًا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنْ خَيْرٍ كَانُوا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ.
وَفِيهِ ضَرْبٌ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْكَمَالِ فِي عَصْرِهِ كَمَا يُقَالُ: خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ، وَبَقِيَّةُ الصَّالِحِينَ، وَمَنْ لَا يَأْتِي الزَّمَانُ بِمِثْلِهِ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ بَعْثَةِ رَسُولٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّهُمْ أَيْقَنُوا أَنَّ مَنْ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ بَعْدَهُ كَاذِبٌ فَلِذَلِكَ كَذَّبُوا مُوسَى.
وَمَقَالَتُهُمْ هَذِهِ لَا تَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ رَسُولٌ ضَرُورَةَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مِنْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَرَادُوا بِهَا قَطْعَ هَذَا الِاحْتِمَالِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَكَشْفِ الشَّكِّ عَنْ نُفُوسِهِمْ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُوسُفَ كَانَ رَسُولًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا أَن رَسُولا محَال مِنْ ضَمِيرِ مِنْ بَعْدِهِ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: رَسُولًا مَفْعُولَ يَبْعَثَ وَأَنَّهُ لَا يَقْتَضِي وَصْفَ يُوسُفَ بِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَخْبَارِ عَدُّهُ فِي الرُّسُلِ وَلَا أَنَّهُ دَعَا إِلَى دِينٍ فِي مِصْرَ وَكَيْفَ وَاللَّهِ يَقُولُ: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [يُوسُف: ٧٦] وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ نَبِيءٌ إِذَا وَجَدَ مَسَاغًا لِلْإِرْشَادِ أَظْهَرُهُ كَقَوْلِهِ: يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [يُوسُف: ٣٩، ٤٠] وَقَوْلُهُ: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يُوسُف: ٣٧، ٣٨].
140
وَعُدِّيَ فِعْلُ جاءَكُمْ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ. وَأُسْنِدَ فَما زِلْتُمْ وقُلْتُمْ إِلَى ضميرهم أَيْضا، وهم مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ حِينَئِذٍ قَصْدًا لِحَمْلِ تَبِعَةِ أَسْلَافِهِمْ عَلَيْهِمْ وَتَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ بِأَنَّ التَّكْذِيبَ لِلنَّاصِحِينَ وَاضْطِرَابَ عُقُولِهِمْ فِي الِانْتِفَاعِ بِدَلَائِلِ الصِّدْقِ قَدْ وَرِثُوهُ عَنْ
أَسْلَافِهِمْ فِي جِبِلَّتِهِمْ وَتَقَرَّرَ فِي نُفُوسِهِمْ فَانْتِقَالُهُ إِلَيْهِمْ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي خِطَابِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٩] : وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ وَنَحْوِهُ.
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ جَرَى أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْجُمَلَ حِكَايَةً لِبَقِيَّةِ كَلَامِ الْمُؤْمِنِ وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ بَعْضَهَا مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ الْمُؤْمِنِ وَبَعْضَهَا كَلَامًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ مِنْ تَجْوِيزِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يُجادِلُونَ إِلَخْ بَدَلًا أَوْ مُبْتَدَأً، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ مُقْتَصِرًا عَلَى بَيَانِ الْمَعْنَى دُونَ تَصَدٍّ لِبَيَانِ اتِّصَالِهَا بِمَا قَبْلَهَا.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ إِلَى قَوْلِهِ:
جَبَّارٍ. كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَرِضٌ بَيْنَ كَلَامِ الْمُؤْمِنِ وَكَلَامٍ فِرْعَوْنَ فَإِنَّ هَذَا مِنَ الْمَعَانِي الْإِسْلَامِيَّةِ قُصِدَ مِنْهُ الْعِبْرَةُ بِحَالِ الْمُكَذِّبِينَ بِمُوسَى تَعْرِيضًا بِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، أَيْ كَضَلَالِ قَوْمِ فِرْعَوْنِ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ أَمْثَالَكُمْ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ جَزَاؤُكُمْ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قَوْلُهُ فِي آخِرِهَا: وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مُؤْمِنٌ بِمُوسَى وَهَارُونَ غَيْرُهُ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَذَّكُّرِ الشَّيْء بضده، وَمِمَّا يَزِيدُ يَقِينًا بِهَذَا أَنَّ وَصْفَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ تَكَرَّرَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ من أول هَذِه السُّورَةِ، ثُمَّ كَانَ هُنَا وَسَطًا فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ [غَافِر: ٥٦]، ثُمَّ كَانَ خَاتِمَةً فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ [غَافِر: ٦٩].
141
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ كَذَلِكَ: إِلَى الضَّلَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: يُضِلُّ اللَّهُ أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ الضَّلَالِ يَضِلُّ اللَّهُ الْمُسْرِفِينَ الْمُرْتَابِينَ، أَيْ أَنَّ ضَلَالَ الْمُشْرِكِينَ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ضَلَالِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ فِي تَكْذِيبِهِمْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْخِطَابُ بِالْكَافِ الْمُقْتَرِنَةِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَالْمُسْرِفُ: الْمُفْرِطُ فِي فِعْلٍ لَا خَيْرَ فِيهِ. والمرتاب: الشَّديد الرَّيْبِ، أَيِ الشَّكِّ.
وَإِسْنَادُ الْإِضْلَالِ إِلَى اللَّهِ كَإِسْنَادِ نَفْيِ الْهِدَايَةِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غَافِر: ٢٨]، وَتَقَدَّمَ آنِفًا.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ كَبُرَ مَقْتاً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ فبيّن أَن مَا صدق (مَنْ) جَمَاعَةٌ لَا وَاحِدٌ، فَرُوعِيَ فِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ لَفَظُ (مَنْ) فَأُخْبِرَ عَنْهُ بِالْإِفْرَادِ، وَرُوعِيَ فِي الْبَدَلِ مَعْنَى (مَنْ) فَأُبْدِلَ مِنْهُ مَوْصُولُ الْجَمْعِ. وَصِلَةُ الَّذِينَ عرف بهَا الْمُشْركُونَ من قُرَيْش قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا [فصلت:
٤٠] وَقَالَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٤] : مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ.
وَاخْتِيَارُ الْمُضَارِعِ فِي يُجادِلُونَ لِإِفَادَةِ تَجَدُّدِ مُجَادَلَتِهِمْ وَتَكَرُّرِهَا وَأَنَّهُمْ لَا يَنْفَكُّونَ عَنْهَا. وَهَذَا صَرِيحٌ فِي ذَمِّهِمْ وَكِنَايَةٌ عَنْ ذَمِّ جِدَالِهِمْ الَّذِي أَوْجَبَ ضَلَالَهُمْ.
وَفِي الْمَوْصُولِيَّةِ إِيمَاءٌ إِلَى عِلَّةِ إِضْلَالِهِمْ، أَيْ سَبَبُ خَلْقِ الضَّلَالِ فِي قُلُوبِهِمِ الْإِسْرَافُ بِالْبَاطِلِ تكَرر مُجَادَلَتِهُمْ قَصْدًا لِلْبَاطِلِ. وَالْمُجَادَلَةُ: تَكْرِيرُ الِاحْتِجَاجِ لِإِثْبَاتِ مَطْلُوبِ الْمُجَادِلِ وَإِبْطَالِ مَطْلُوبِ مَنْ يُخَالِفُهُ قَالَ تَعَالَى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النَّحْل: ١٢٥]، فَمِنَ الْمُجَادَلَةِ فِي آيَاتِ اللَّهِ الْمُحَاجَّةُ لِإِبْطَالِ دَلَالَتِهَا، وَمِنْهَا الْمُكَابَرَةُ فِيهَا كَمَا قَالُوا:
142
قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: ٥]، وَمِنْهَا قَطْعُ الِاسْتِمَاعِ لَهَا، كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بن سَلُولٍ فِي وَقْتِ صَرَاحَةِ كُفْرِهِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ جَاءَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا فِيهِ ابْنُ سَلُولٍ فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن سَلُولٍ لَا أُحْسِنُ مِمَّا تَقُولُ أَيُّهَا الْمَرْءُ وَلَا تَغُشُّنَا بِهِ فِي مجالسنا وَاجْلِسْ فِي رَحَّلَكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْرَأْ عَلَيْهِ.
وبِغَيْرِ سُلْطانٍ مُتَعَلِّقٌ بِ يُجادِلُونَ، وَالْبَاءُ لِلِاسْتِعَانَةِ، وَالسُّلْطَانِ: الْحُجَّةُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُجَادِلُونَ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَلَكِنْ بِاللَّجَاجِ وَالِاسْتِهْزَاءِ. وأَتاهُمْ صِفَةٌ لِ سُلْطانٍ. وَالْإِتْيَانُ مُسْتَعَارٌ لِلظُّهُورِ وَالْحُصُولِ.
وَحُصُولُ الْحُجَّةِ هُوَ اعْتِقَادُهَا وَلَوْحُهَا فِي الْعَقْلِ، أَيْ يُجَادِلُونَ جَدَلًا لَيْسَ مِمَّا تُثِيرُهُ الْعُقُولُ وَالنَّظَرُ الْفِكْرِيُّ وَلَكِنَّهُ تَمْوِيهٌ وَإِسْكَاتٌ.
وَجُمْلَةُ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ خَبَرُ إِنَّ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ بِالْإِنْشَاءِ، وَهِيَ إِنْشَاءُ ذَمِّ جِدَالِهِمُ الْمَقْصُودِ مِنْهُ كَمُّ فَمِ الْحَقِّ، أَيْ كَبُرَ جِدَالُهُمْ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ، فَفَاعِلُ كَبُرَ ضَمِيرُ الْجِدَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْ يُجادِلُونَ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة:
٨].
ومَقْتاً تَمْيِيزٌ لِلْكِبَرِ وَهُوَ تَمْيِيزُ نِسْبَةٍ مُحَوَّلٌ عَنِ الْفَاعِلِ، وَالتَّقْدِيرُ: كَبُرَ مَقْتُ جِدَالِهِمْ.
وَفِعْلُ كَبُرَ هُنَا مُلْحَقٌ بِأَفْعَالِ الذَّمِّ مِثْلِ: سَاءَ، لِأَنَّ وَزْنَ فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ يَجِيءُ بِمَعْنَى: نِعْمَ وَبِئْسَ، وَلَوْ كَانَتْ ضَمَّةُ عَيْنِهِ أَصْلِيَّةً وَبِهَذَا تَفْظِيعٌ بِالصَّرَاحَةِ بَعْدَ أَنِ اسْتُفِيدَ مِنْ صِلَةِ الْمَوْصُولِ أَنَّ جِدَالَهُمْ هُوَ سَبَبُ إِضْلَالِهِمْ ذَلِكَ الْإِضْلَالَ الْمَكِينَ، فَحَصَلَ بِهَذَا الِاسْتِئْنَافِ تَقْرِيرُ فَظَاعَةِ جِدَالِهِمْ بِطَرِيقَيِ الْكِنَايَةِ وَالتَّصْرِيحِ.
وَالْكِبْرُ: مُسْتَعَارٌ لِلشِّدَّةِ، أَيْ مَقَتَ جِدَالَهَمْ مَقْتًا شَدِيدًا. وَالْمَقْتُ: شِدَّةُ الْبُغْضِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ شِدَّةِ الْعِقَابِ عَلَى ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ. وَكَوْنُهُ مَقْتًا عِنْدَ الله تشنيع لَهُم وَتَفْظِيعٌ.
143
أَمَّا عَطْفُ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا فَلَمْ أَرَ فِي التَّفَاسِيرِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي بَيْنَ يَدِيَّ مَنْ عَرَّجَ عَلَى فَائِدَةِ عَطْفِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا مَا عدا الْمَهَائِمِيَّ فِي «تبصرة الرحمان» إِذْ قَالَ: كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْإِضْلَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَبُرَ مَقْتًا أَنَّهُ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَهُمْ الْمَظَاهِرُ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا ظُهُورُ الْحَقِّ اهـ. وَكَلِمَةُ الْمَهَائِمِيِّ كَلِمَةٌ حَسَنَةٌ يَعْنِي أَنَّ كَوْنَهُ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ لَا يَحْصُلُ فِي عِلْمِ النَّاسِ إِلَّا بِالْخَبَرِ فَزِيدَ الْخَبَرُ تَأْيِيدًا بِالْمُشَاهَدَةِ فَإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى قِلَّتِهِمْ يَوْمَئِذٍ يَظْهَرُ بَيْنَهُمْ بُغْضُ مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ.
وَعِنْدِي: أَنَّ أَظْهَرَ مِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ التَّنْوِيهَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يَرِدْ إِقْنَاعَ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْبَأُونَ بِبُغْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُصَدِّقُونَ بِبُغْضِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، فَالْمَقْصُودُ الثَّنَاءُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الْبَاطِلَ، كَمَا قَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التَّوْبَة: ٧١] مَعَ الْإِشَارَةِ إِلَى تَبْجِيلِ مَكَانَتِهِمْ بِأَنْ ضُمَّتْ عِنْدِيَّتُهُمْ إِلَى عِنْدِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمرَان: ١٨] وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ٦٤] وَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْفَال: ٦٢] وَنَحْوِ
قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا ذَكَرَ حَدِيثَ كَلَامِ الذِّئْبِ فَتَعَجَّبَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ فَقَالَ: «آمَنَتْ بِذَلِكَ وَأَبُو بَكْرٍ»
وَلَمْ يَكُنْ أَبُو بَكْرٍ فِي الْمَجْلِسِ.
وَفِي إِسْنَادِ كَرَاهِيَةِ الْجِدَالِ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ لِلْمُؤْمِنِينَ تَلْقِينٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى نَحْوِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ [الْقَصَص: ٥٥]، وَقَوْلِهِ: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الْفرْقَان: ٦٣] وَقَوْلِهِ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: ٧٢].
وَالْقَوْلُ فِي كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ كَالْقَوْلِ فِي كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ.
وَالطَّبْعُ: الْخَتْمُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٧].
وَالْخَتْمُ وَالطَّبْعُ وَالْأَكِنَّةُ: خَلْقُ الضَّلَالَةِ فِي الْقَلْبِ، أَيِ النَّفْسِ. وَالْمُتَكَبِّرُ: ذُو الْكِبْرِ الْمُبَالَغِ فِيهِ وَلِذَلِكَ اسْتُعِيرَتْ صِيغَةُ التَّكَلُّفِ.
144
وَالْجَبَّارُ: مِثَالُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الْجَبْرِ، وَهُوَ الْإِكْرَاهُ، فَالْجَبَّارُ: الَّذِي يُكْرِهُ النَّاسَ عَلَى مَا لَا يُحِبُّونَ عَمَلَهُ لِظُلْمِهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ بِإِضَافَةِ قَلْبِ إِلَى مُتَكَبِّرٍ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ وَابْنُ ذكْوَان عَن ابْن عَامِرٍ بِتَنْوِينِ قَلْبِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُتَكَبِّرٍ وجَبَّارٍ صِفَتَيْنِ لِ قَلْبِ، وَوَصْفُ الْقَلْبِ بِالتَّكَبُّرِ وَالْجَبْرِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَالْمَقْصُودُ وَصْفُ صَاحِبِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [الْبَقَرَة: ٢٨٣] لِأَنَّهُ سَبَبُ الْإِثْمِ كَمَا يُقَالُ: رَأَتْ عَيْنِي وَسَمِعَتْ أُذُنِي.
[٣٦- ٣٧]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٣٦ الى ٣٧]
وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (٣٧)
وَقالَ فِرْعَوْنُ يَا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (٣٦) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً
هَذِهِ مَقَالَةٌ أُخْرَى لِفِرْعَوْنَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ غَيْرِ الْمَجْلِسِ الَّذِي حَاجَّهُ فِيهِ مُوسَى وَلِذَلِكَ عَطَفَ قَوْلَهُ بِالْوَاوِ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِيمَا عَطَفَ مِنَ الْأَقْوَالِ السَّابِقَةِ آنِفًا، وَكَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ هُنَالِكَ مُسْتَوْفَى عَلَى نَظِيرِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حَسَبِ ظَاهِرِهَا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ (هَامَانَ) وَالصَّرْحِ هُنَالِكَ.
وَقَدْ لَاحَ لِي هُنَا مَحْمَلٌ آخَرُ أَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْآيَةِ يَنْتَظِمُ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ فِي الْغَايَةِ وَيُخَالِفُهُ فِي الدَّلَالَةِ، وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِرْعَوْنُ أَمَرَ بِبِنَاءِ صَرْحِ لَا لِقَصْدِ الِارْتِقَاءِ إِلَى السَّمَاوَاتِ بَلْ لِيَخْلُوَ بِنَفْسِهِ رِيَاضَةً لِيَسْتَمِدَّ الْوَحْيَ مِنَ الرَّبِّ الَّذِي ادَّعَى مُوسَى أَنَّهُ أَوْحَى إِلَيْهِ إِذْ قَالَ: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه: ٤٨]
فَإِنَّ الِارْتِيَاضَ فِي مَكَانٍ مُنْعَزِلٍ عَنِ النَّاسِ كَانَ مِنْ شِعَارِ الِاسْتِيحَاءِ الْكَهْنُوتِيِّ عِنْدَهُمْ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ يَحْسَبُ نَفْسَهُ أَهْلًا لِذَلِكَ لِزَعْمِهِ أَنَّهُ ابْنُ الْآلِهَةِ وَحَامِي الْكَهَنَةِ وَالْهَيَاكِلِ. وَإِنَّمَا كَانَ يَشْغَلُهُ تَدْبِيرُ أَمْرِ الْمَمْلَكَةِ فَكَانَ يكل شؤون الدِّيَانَةِ إِلَى الْكَهَنَةِ فِي مَعَابِدِهِمْ، فَأَرَادَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَةِ الْجَدَلِيَّةِ أَنْ يَتَصَدَّى لِذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِيَكُونَ قَوْلُهُ الْفَصْلَ فِي نَفْيِ وُجُودِ إِلَهٍ آخَرَ تَضْلِيلًا لِدَهْمَاءَ أُمَّتِهِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ التَّوْطِئَةَ لِلْإِخْبَارِ بِنَفْيِ إِلَهٍ آخَرَ غَيْرِ آلِهَتِهِمْ فَأَرَادَ أَنْ يَتَوَلَّى وَسَائِلَ النَّفْيِ بِنَفْسِهِ كَمَا
145
كَانَتْ لِلْيَهُودِ مَحَارِيبٌ لِلْخَلْوَةِ لِلْعِبَادَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ [مَرْيَم: ١١] وَقَوْلِهِ: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ [آل عمرَان: ٣٧] وَمِنِ اتِّخَاذِ الرُّهْبَانِ النَّصَارَى صَوَامِعَ فِي أَعَالِي الْجِبَالِ لِلْخِلْوَةِ لِلتَّعَبُّدِ، وَوُجُودُهَا عِنْدَ هَذِهِ الْأُمَمِ يدل على أَنه مَوْجُودَةٌ عِنْدَ الْأُمَمِ الْمُعَاصِرَةِ لَهُمْ وَالسَّابِقَةِ عَلَيْهِمْ.
وَالْأَسْبَابُ: جَمْعُ سَبَبٍ، وَالسَّبَبُ مَا يُوصِّلُ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَيُطْلَقُ السَّبَبُ عَلَى الطَّرِيقِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْحَبْلِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَصَّلُونَ بِهِ إِلَى أَعْلَى النَّخِيلِ. وَالْمُرَادُ هُنَا: طُرُقُ السَّمَاوَاتِ، كَمَا فِي قَوْلِ زُهَيْرٍ:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَإِنْ يَرِقْ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وَانْتَصَبَ أَسْبابَ السَّماواتِ عَلَى الْبَدَلِ الْمُطَابِقِ لِقَوْلِهِ: الْأَسْبابَ. وَجِيءَ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ مِنَ الْإِجْمَالِ ثُمَّ التَّفْصِيلِ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى الْمُرَادِ بِالْأَسْبَابِ تَفْخِيمًا لِشَأْنِهَا وَشَأْنِ عَمَلِهِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ عَجِيبٌ لِيُورِدَ عَلَى نَفْسِ مُتَشَوِّقِةِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ وَهِيَ نَفْسُ (هَامَانَ).
وَالِاطِّلَاعُ بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ مُبَالَغَةٌ فِي الطُّلُوعِ، وَالطُّلُوعُ: الظُّهُورُ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ ظُهُورًا مِنِ ارْتِفَاعٍ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ أَوْ عَدَمُهُ بِتَعْدِيَةِ الْفِعْلِ فَإِنْ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) فَهُوَ الظُّهُورُ مِنِ ارْتِفَاعٍ، وَإِنْ عُدِّيَ بِحَرْفِ (إِلَى) فَهُوَ ظُهُورٌ مُطْلَقٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَطَّلِعَ بِالرَّفْعِ تَفْرِيعًا عَلَى أَبْلُغُ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَبْلَغُ ثُمَّ أَطْلَعُ، وَقَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى جَوَابَ التَّرَجِّي لِمُعَامَلَةِ التَّرَجِّي مُعَامَلَةَ التَّمَنِّي وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرُ مَشْهُورٍ، وَالْبَصْرِيُّونَ يُنْكِرُونَهُ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَتَى بَلَغْتُ اطَّلَعْتُ، وَقَدْ تَكُونُ لَهُ هَاهُنَا نُكْتَةٌ وَهِيَ اسْتِعَارَةُ حَرْفِ الرَّجَاءِ إِلَى مَعْنَى التَّمَنِّي عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ التَّبَعِيَّةِ إِشَارَةً إِلَى بُعْدِ مَا تَرَجَّاهُ، وَجَعَلَ نَصْبَ الْفِعْلِ بَعْدَهُ قَرِينَةً عَلَى الِاسْتِعَارَةِ.
وَبَيْنَ إِلى وإِلهِ الْجِنَاسُ النَّاقِصُ بِحَرْفٍ كَمَا وَرَدَ مَرَّتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي تَمَّامٍ:
146
وَجُمْلَةُ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً مُعْتَرِضَةٌ لِلِاحْتِرَاسِ مِنْ أَنْ يَظُنَّ (هَامَانُ) وَقَوْمُهُ أَنَّ دَعْوَةَ مُوسَى أَوْهَنَتْ مِنْهُ يَقِينَهُ بِدِينِهِ وَآلِهَتِهِ وَأَنَّهُ يَرُومُ أَنْ يَبْحَثَ بَحْثَ مُتَأَمِّلٍ نَاظِرٍ فِي أَدِلَّةِ الْمَعْرِفَةِ فَحَقَّقَ لَهُمْ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِذَلِكَ إِلَّا نَفِيَ مَا ادَّعَاهُ مُوسَى بِدَلِيلِ الْحِسِّ. وَجِيءَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ الْمُعَزَّزِ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ لِيَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ اتِّهَامَ وَزِيرِهِ إِيَّاهُ بِتَزَلْزُلِ اعْتِقَادِهِ فِي دِينِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنِّي أَفْعَلُ ذَلِكَ لِيَظْهَرَ كَذِبُ مُوسَى.
وَالظَّنُّ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْيَقِينِ وَالْقَطْعِ، وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ عَزْمَهُ هَذَا كَيْدًا فِي قَوْلِهِ: وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ.
وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ جُمْلَةُ وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ عَطَفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ فِرْعَوْنُ لِبَيَانِ حَالِ اعْتِقَادِهِ وَعَمَلِهِ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ حَالَ أَقْوَالِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ قَالَ قَوْلًا مُنْبَعِثًا عَنْ ضَلَالِ اعْتِقَاد ومغريا بِفساد الْأَعْمَالِ. وَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ اعْتِبَارُ جَمِيعِ أَحْوَالِ فِرْعَوْنَ لَمْ تُفْصَلْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا إِذْ لَمْ يُقْصَدْ بِهَا ابْتِدَاءُ قِصَّةٍ أُخْرَى، وَهَذَا مِمَّا سَمَّوْهُ بِالتَّوَسُّطِ بَيْنَ كَمَالِيِّ الِاتِّصَالِ وَالِانْقِطَاعِ فِي بَابِ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ مِنْ عِلْمِ الْمَعَانِي. وَافْتِتَاحُهَا بِ كَذلِكَ كَافْتِتَاحِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣]، أَيْ مِثْلَ ذَلِكَ التَّزْيِينِ أَي تَزْيِين عَمَلِ فِرْعَوْنَ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ مُبَالَغَةً فِي أَنَّ تَزْيِينَ عَمَلِهِ لَهُ بَلَغَ مِنَ الْقُوَّةِ فِي نَوْعِهِ مَا لَا يُوجَدُ لَهُ شِبْهٌ يُشَبَّهُ بِهِ فَمَنْ أَرَادَ تَشْبِيهَهُ فَلْيُشَبِّهْهُ بِعَيْنِهِ.
وَبُنِيَ فِعْلُ زُيِّنَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ مَفْعُولِ التَّزْيِينِ لَا مَعْرِفَةُ فَاعِلِهِ، أَيْ حَصَلَ لَهُ تَزْيِينُ سُوءِ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ فَحَسِبُ الْبَاطِلَ حَقًّا وَالضَّلَالَ اهْتِدَاءً.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَصُدَّ بِفَتْحِ الصَّادِ وَهُوَ يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ قَاصِرًا الَّذِي مُضَارِعُهُ يَصِدُّ بِكَسْرِ الصَّادِ، وَيَجُوزُ اعْتِبَارُهُ مُتَعَدِّيًا الَّذِي مُضَارِعُهُ يَصُدُّ بِضَمِّ الصَّادِ، أَيْ
147
أَعْرَضَ عَنِ السَّبِيلِ وَمَنَعَ قَوْمَهَ اتِّبَاعَ السَّبِيلِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَعَاصِمٌ بِضَمِّ الصَّادِ.
وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي: زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ.
وَتَعْرِيفُ السَّبِيلِ لِلْعَهْدِ، أَيْ سَبِيلُ اللَّهِ، أَوْ سَبِيلُ الْخَيْرِ، أَوْ سَبِيلُ الْهُدَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّعْرِيفُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْكَمَالِ فِي النَّوْعِ، أَيْ صَدٌّ عَنِ السَّبِيلِ الْكَامِلِ الصَّالِحِ.
وَجُمْلَةُ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ، وَالْمُرَادُ بِكَيْدِهِ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ بِنَاءِ الصَّرْحِ وَالْغَايَةِ مِنْهُ، وَسُمِّيَ كَيْدًا لِأَنَّهُ عَمَلٌ
لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ بَلْ أُرِيدُ بِهِ الْإِفْضَاءُ إِلَى إِيهَامِ قَوْمِهِ كَذِبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالتِّبَابُ: الْخُسْرَانُ وَالْهَلَاكُ، وَمِنْهُ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: ١]، وَحَرَّفُ الظَّرْفِيَّةِ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِمَعْنَى شِدَّةِ الْمُلَابَسَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: «وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْن إلّا بتباب شَدِيدٍ». وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أَحْوَال مقدرَة.
[٣٨- ٤٠]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٣٨ إِلَى ٤٠]
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (٣٨) يَا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (٤٠)
هَذَا مَقَالٌ فِي مَقَامٍ آخَرَ قَالَهُ مُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ، فَهَذِهِ الْمَقَالَاتُ الْمَعْطُوفَةُ بِالْوَاوِ مَقَالَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ. فَابْتَدَأَ مَوْعِظَتَهُ بِنِدَائِهِمْ لِيَلْفِتَ إِلَيْهِ أَذْهَانَهُمْ وَيَسْتَصْغِيَ أَسْمَاعَهُمْ، وَبِعُنْوَانِ أَنَّهُمْ قَوْمُهُ لِتُصْغِيَ إِلَيْهِ أَفْئِدَتُهُمْ.
148
وَرَتَّبَ خُطْبَتَهُ عَلَى أُسْلُوبِ تَقْدِيمِ الْإِجْمَالِ ثُمَّ تَعْقِيبِهِ بِالتَّفْصِيلِ، فَابْتَدَأَ بِقَوْلِهِ: اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ، وَسَبِيلُ الرَّشَادِ مُجْمَلٌ وَهُوَ عَلَى إِجْمَالِهِ مِمَّا تَتُوقُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ، فَرَبَطَ حُصُولَهُ بِاتِّبَاعِهِمْ إِيَّاهُ مِمَّا يُقْبِلُ بِهِمْ عَلَى تَلَقِّي مَا يُفَسِّرُ هَذَا السَّبِيلُ، وَيَسْتَرْعِي أَسْمَاعَهُمْ إِلَى مَا يَقُولُهُ إِذْ لَعَلَّهُ سَيَأْتِيهِمْ بِمَا تَرْغَبُهُ أَنْفُسُهُمْ إِذْ قَدْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ نَقَّحَ رَأْيَهُ وَنَخَلَ مَقَالَهُ وَأَنَّهُ سَيَأْتِي بِمَا هُوَ الْحَقُّ الْمُلَائِمُ لَهُمْ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ سَبِيلَ الرَّشادِ آنِفًا.
وَأَعَادَ النِّدَاءَ تَأْكِيدًا لِإِقْبَالِهِمْ إِذْ لَاحَتْ بَوَارِقُهُ فَأَكْمَلَ مُقَدِّمَتَهُ بِتَفْصِيلِ مَا أَجْمَلَهُ يُذَكِّرُهُمْ بِأَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا مَحْدُودَةٌ بِأَجَلٍ غَيْرِ طَوِيلٍ، وَأَنَّ وَرَاءَهَا حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ أَشَدَّ دِفَاعِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ مُنْبَعِثٌ عَنْ مَحَبَّةِ السِّيَادَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ، وَذَلِكَ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا الزَّائِلِ وَأَنَّ الْخَيْرَ لَهُمْ هُوَ الْعَمَلُ لِلسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ. وَقَدْ بَنَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ مَعْرِفَةِ أَنَّ وَرَاءَ هَذِهِ الْحَيَاةِ حَيَاةً أَبَدِيَّةً فِيهَا حَقِيقَةُ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاءِ، وَفِيهَا الْجَزَاءُ عَلَى الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ بِالنَّعِيمِ أَوِ الْعَذَابِ، إِذْ كَانَتْ دِيَانَتُهُمْ تُثْبِتُ حَيَاةَ أُخْرَى بَعْدَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَكِنَّهَا حَرَّفَتْ مُعْظَمَ وَسَائِلِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، فَهَذِهِ حَقَائِقٌ مَسَلَّمَةٌ عِنْدَهُمْ عَلَى إِجْمَالِهَا وَهِيَ مِنْ نَوْعِ الْأُصُولِ الْمَوْضُوعَةِ فِي صِنَاعَةِ الْجَدَلِ، وَبِذَلِكَ تَمَّتْ مُقَدِّمَةُ خُطْبَتِهِ وَتَهَيَّأَتْ نُفُوسُهُمْ لِبَيَانِ مَقْصِدِهِ الْمُفَسَّرِ لِإِجْمَالِ مُقَدِّمَتِهِ.
فَجُمْلَةُ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ. وَالْمَتَاعُ:
مَا يُنْتَفَعُ بِهِ انْتِفَاعًا مُؤَجَّلًا. وَالْقَرَارُ: الدَّوَامُ فِي الْمَكَانِ. وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ قَصْرٌ مَوْصُوفٌ عَلَى صِفَةٍ، أَيْ لَا صِفَةَ لِلدُّنْيَا إِلَّا أَنَّهَا نفع موقت، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ لِتَنْزِيلِ قَوْمِهِ فِي تَهَالُكِهِمْ على مَنَافِع الدُّنْيَا مَنْزِلَةَ مَنْ يَحْسَبُهَا مَنَافِعَ خَالِدَةً.
وَجُمْلَتَا مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً إِلَى آخِرِهِمَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ قَصَّرُ قَلْبٍ نَظِيرُ الْقَصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ، وَهُوَ مُؤَكِّدٌ لِلْقَصْرِ فِي
149
قَوْلِهِ: إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ مِنْ تَأْكِيدِ إِثْبَاتِ ضِدِّ الْحُكْمِ لِضِدِّ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، وَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ، أَيْ لَا الدُّنْيَا. (وَمن) مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً شَرْطِيَّةٌ. وَمَعْنَى إِلَّا مِثْلَها الْمُمَاثِلَةُ فِي الْوَصْفِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ اسْمُ السَّيِّئَةِ وَهُوَ الْجَزَاء السّيّء، أَيْ لَا يَجْزِي عَنْ عَمَلِ السُّوءِ بِجَزَاءِ الْخَيْرِ، أَيْ لَا يطمعوا أَن يعلمُوا السَّيِّئَاتِ وَأَنَّهُمْ يُجَازُونَ عَلَيْهَا جَزَاءَ خَيْرٍ. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَكَانَ كَثِيرَ الْوَعْظِ لِلنَّاسِ فَقِيلَ لَهُ، إِنَّكَ بِوَعْظِكَ تُقْنِطُ النَّاسَ فَقَالَ: «أَأَنًّا أَقْدِرُ أَنْ أُقْنِطَ النَّاسَ وَاللَّهُ يَقُولُ: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: ٥٣] وَلَكِنَّكُمْ تُحِبُّونَ أَنْ تُبَشَّرُوا بِالْجَنَّةِ عَلَى مُسَاوِي أَعْمَالِكُمْ». وَكَأَنَّ الْمُؤْمِنَ خَصَّ الْجَزَاءَ بِالْأَعْمَالِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُتَهَاوِنِينَ بِالْأَعْمَالِ وَكَانَ قُصَارَى مَا يَهْتَمُّونَ بِهِ هُوَ حُسْنُ الِاعْتِقَادِ فِي الْآلِهَةِ، وَلِذَلِكَ تُوجَدُ عَلَى جُدُرِ الْمَعَابِدِ الْمِصْرِيَّةِ صُورَةُ الْحِسَابِ فِي هَيْئَةِ وَضْعِ قَلْبِ الْمَيِّتِ فِي الْمِيزَانِ لِيَكُونَ جَزَاؤُهُ على مَا يُفَسر عَنْهُ مِيزَانُ قَلْبِهِ.
وَلِذَلِكَ تَرَى مُؤْمِنَ آلِ فِرْعَوْنَ لَمْ يُهْمِلْ ذِكْرَ الْإِيمَانِ بَعْدَ أَنِ اهْتَمَّ بِتَقْدِيمِ الْأَعْمَالِ فَتَرَاهُ يَقُولُ: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَالْإِيمَانُ هُوَ أُسُّ هَيْكَلِ النَّجَاةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْكُفْرُ أُسَّ الشَّقَاءِ الْأَبَدِيِّ فَإِنَّ كُلَّ عَمَلٍ سَيِّءٍ فَإِنَّ سُوءَهُ وَفَسَادَهُ جُزْئِيٌّ مُنْقَضٍ فَكَانَ الْعِقَابُ عَلَيْهِ غَيْرَ أَبَدِيٍّ، وَأَمَّا الْكُفْرُ فَهُوَ سَيِّئَةٌ دَائِمَةٌ مَعَ صَاحِبِهَا لِأَنَّ مَقَرَّهَا قَلْبُهُ وَاعْتِقَادُهُ وَهُوَ مُلَازِمٌ لَهُ فَلِذَلِكَ كَانَ عِقَابُهُ أَبَدِيًّا، لِأَنَّ الْحِكْمَةَ تَقْتَضِي الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْأَسْبَابِ وَآثَارِهَا فَدَلَّ قَوْلُهُ: فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها أَنَّ جَزَاءَ الْكُفْرِ شقاء أبدي لِأَن مِثْلُ الْكُفْرِ فِي كَوْنِهِ مُلَازِمًا لِلْكَافِرِ إِنْ مَاتَ كَافِرًا.
وَبِهَذَا الْبَيَانِ أَبْطَلْنَا قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ بِمُسَاوَاةِ مُرْتَكِبِ الْكَبَائِرِ لِلْكَافِرِ فِي الْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ، بِأَنَّهُ قَوْلٌ يُفْضِي إِلَى إِزَالَة مِزْيَةِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ تُنَافِيهِ أَدِلَّةُ الشَّرِيعَةِ الْبَالِغَةِ مَبْلَغَ الْقَطْعِ، وَنَظِيرُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا
مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
[الْبَلَد: ١٣- ١٧].
وَتَرْتِيبُهُ دُخُولَ الْجَنَّةِ عَلَى عَمَلِ الصَّالِحَاتِ مَعْنَاهُ: مَنْ عَمِلَ صَالَحَا وَلَمْ يَعْمَلْ سَيِّئَةً
150
بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها، فَإِنَّ خَلْطَ الْمُؤْمِنِ عَمَلًا صَالِحًا وَسَيِّئًا فَالْمُقَاصَّةُ، وَبَيَانُهُ فِي تَفَاصِيلِ الشَّرِيعَةِ.
وَقَوْلُهُ: بِغَيْرِ حِسابٍ كِنَايَةٌ عَلَى سَعَةِ الرِّزْقِ وَوَفْرَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٣٧].
ومَنْ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً إِلَخْ شَرْطِيَّةٌ، وَجَوَابُهَا فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ. وَجِيءَ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمُشَارَ إِلَيْهِ يَسْتَحِقُّ مَا سَيُذْكَرُ بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنْ أَجْلِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِنَ الْأَوْصَافِ، وَهِيَ عَمَلُ الصَّالِحَاتِ مَعَ الْإِيمَانِ زِيَادَةٌ عَلَى اسْتِفَادَةِ ذَلِكَ مِنْ تَعْلِيقِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي جُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ إِنْ مُتُّمْ عَلَى الشّرك وَالْعَمَل السيّء لَا تَدْخُلُونَهَا.
وَقَوْلُهُ: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَيَانٌ لِمَا فِي مَنْ مِنَ الْإِبْهَامِ مِنْ جَانِبِ احْتِمَالِ التَّعْمِيمِ فَلَفَظُ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى مُرَادٌ بِهِ عُمُومَ النَّاسِ بِذِكْرِ صِنْفَيْهِمْ تَنْصِيصًا عَلَى إِرَادَةِ الْعُمُومِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ إِفَادَةَ مُسَاوَاةِ الْأُنْثَى لِلذَّكَرِ فِي الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ إِذْ لَا مُنَاسَبَةَ لَهُ فِي هَذَا الْمقَام، وتعريضا بِفِرْعَوْنَ وَخَاصَّتِهِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُفْلِتِينِ مِنَ الْجَزَاءِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِفَتْحِ الْيَاءِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّهَا وَفَتْحِ الْخَاءِ، وَالْمعْنَى وَاحِد.
[٤١- ٤٣]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٣]
وَيا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (٤١) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (٤٢) لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٤٣)
أَعَادَ نِدَاءَهُمْ وَعُطِفَتْ حِكَايَتُهُ بِوَاوِ الْعَطْفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ نِدَاءَهُ اشْتَمَلَ عَلَى مَا
151
يَقْتَضِي فِي لُغَتِهِمْ أَنَّ الْكَلَامَ قَدْ تَخَطَّى مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ وَأَنَّهُ سَيَطْرُقُ مَا يُغَايِرُ أَوَّلَ كَلَامِهِ مُغَايِرَةَ مَا تُشْبِهُ مُغَايِرَةَ الْمُتَعَاطِفَيْنَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَأَنَّهُ سَيَرْتَقِي بِاسْتِدْرَاجِهِمْ فِي دَرَجِ
الِاسْتِدْلَالِ إِلَى الْمَقْصُودِ بَعْدَ الْمُقْدِمَاتِ، فَانْتَقَلَ هُنَا إِلَى أَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا جَرَى مِنْهُمْ نَحْوَهُ وَهُوَ أَنَّهُمْ أَعْقَبُوا مَوْعِظَتَهُ إِيَّاهُمْ بِدَعْوَتِهِ لِلْإِقْلَاعِ عَنْ ذَلِكَ وَأَنْ يَتَمَسَّكَ بِدِينِهِمْ وَهَذَا شَيْءٌ مَطْوِيٌّ فِي خِلَالِ الْقِصَّةِ دَلَّتْ عَلَيْهِ حِكَايَةُ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ كَلَامُ آيِسٍ مِنِ اسْتِجَابَتِهِمْ لِقَوْلِهِ فِيهِ: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ [غَافِر: ٤٤]، وَمُتَوَقِّعٌ أَذَاهُمْ لِقَوْلِهِ:
وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ [غَافِر: ٤٤]، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى آخِرَ الْقِصَّةِ: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا [غَافِر: ٤٥] فَصَرَّحَ هُنَا وَبَيْنَ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَدْعُوهُمْ إِلَى اتِّبَاعِ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى وَفِي اتِّبَاعِهِ النَّجَاةُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى النَّجَاةِ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ إِطْلَاقُ النَّجَاةِ عَلَى مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ بِمَجَازٍ مُرْسَلٍ بَلْ يَدْعُوهُمْ إِلَى حَقِيقَةِ النَّجَاةِ بِوَسَائِطَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ اسْتِفْهَامٌ تَعَجُّبِيُّ بِاعْتِبَارِ تَقْيِيدِهِ بِجُمْلَةِ الْحَالِ وَهِيَ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ فَجُمْلَةُ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِتَقْدِيرِ مُبْتَدَأٍ، أَيْ وَأَنْتُمْ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ وَلَيْسَتْ بِعَطْفٍ لِأَنَّ أَصْلَ اسْتِعْمَالِ: مَا لِي أَفْعَلُ، وَمَا لِي لَا أَفْعَلُ وَنَحْوِهُ، أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا عَنْ فِعْلٍ أَوْ حَالٍ ثَبَتَ لِلْمَجْرُورِ بِاللَّامِ (وَهِيَ لَامُ الِاخْتِصَاصِ)، وَمَعْنَى لَامِ الِاخْتِصَاصِ يُكْسِبُ مَدْخُولَهَا حَالَةً خَفِيًّا سَبَبُهَا الَّذِي عُلِّقَ بِمَدْخُولِ اللَّامِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [التَّوْبَة: ٣٨] مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ [النَّمْل: ٢٠] وَقَوْلِكَ لِمَنْ يَسْتَوْقِفُكَ: مَا لَكَ؟ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ الَّتِي بَعُدَ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ وَخَبَرِهِ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً.
وَتَرْكِيبُ: مَا لِي وَنَحْوِهُ، هُوَ كَتَرْكِيبِ: هَلْ لَكَ وَنَحْوِهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: ١٨] وَقَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
يَمُدُّونَ مِنْ أَيْدٍ عَوَاصٍ عَوَاصِمٍ تَصُولُ بِأَسْيَافٍ قَوَاضٍ قَوَاضِبٍ
أَلَا بَلِّغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً فَهَلْ لَكَ فِيمَا قُلْتُ وَيْحَكَ هَلْ لَكَ
فَإِذَا قَامَتِ الْقَرِينَةُ عَلَى انْتِفَاءِ إِرَادَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْحَقِيقِيِّ انْصَرَفَ ذَلِكَ إِلَى التَّعَجُّبِ مِنَ الْحَالَةِ، أَوْ إِلَى الْإِنْكَارِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. فَالْمَعْنَى هُنَا عَلَى التَّعَجُّبِ يَعْنِي
152
أَنَّهُ يُعْجَبُ مِنْ دَعْوَتِهِمْ إِيَّاهُ لِدِينِهِمْ مَعَ مَا رَأَوْا مِنْ حِرْصِهِ عَلَى نُصْحِهِمْ وَدَعْوَتِهِمْ إِلَى النَّجَاةِ وَمَا أَتَاهُمْ بِهِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَتِهِ وَبُطْلَانِ دَعْوَتِهِمْ.
وَجُمْلَةُ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى النَّارِ أَمْرٌ مُجْمَلٌ مُسْتَغْرَبٌ فَبَيَّنَهُ بِبَيَانِ أَنَّهُمْ يَدْعُونَهُ إِلَى التَّلَبُّسِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ عَذَابَ النَّارِ. وَالْمَعْنَى: تَدْعُونَنِي لِلْكُفْرِ بِاللَّهِ وَإِشْرَاكِ مَا لَا أَعْلَمُ مَعَ اللَّهِ فِي الْإِلَهِيَّةِ.
وَمَعْنَى مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ مَا لَيْسَ لِي بِصِحَّتِهِ أَوْ بِوُجُودِهِ عِلْمٌ، وَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ آلِهَةً بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ بِنَفْيِ اللَّازِمِ عَنْ نَفْيِ الْمَلْزُومِ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ فَكَانَ بَيَانًا لِمُجْمَلِ جُمْلَةِ أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ. وَإِبْرَازُ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَا أَدْعُوكُمْ لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْخَبَرِ بِتَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى خَبَرِهِ الْفِعْلِيِّ.
وَفِعْلُ الدَّعْوَةِ إِذَا رُبِطَ بِمُتَعَلِّقٍ غَيْرِ مَفْعُولِهِ يُعَدَّى تَارَةً بِاللَّامِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي الْكَلَامِ، وَيُعَدَّى بِحَرْفِ (إِلَى) وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِي الْقُرْآنِ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِبَارَاتِ وَلِذَلِكَ عُلِّقَ بِهِ مَعْمُولُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِ (إِلَى) وَمَرَّةً بِاللَّامِ مَعَ مَا فِي رَبْطِ فِعْلِ الدَّعْوَةِ بِمُتَعَلِّقِهِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْمَعْنَوِيَّاتِ مِنْ مُنَاسَبَةِ لَامِ التَّعْلِيلِ مِثْلَ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ، وَرَبْطُهُ بِمَا هُوَ ذَاتٌ بِحَرْفِ (إِلَى) فِي قَوْلِهِ: أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ فَإِنَّ النَّجَاةَ هِيَ نَجَاةٌ مِنَ النَّارِ فَهِيَ نَجَاةٌ مِنْ أَمْرٍ مَحْسُوسٍ، وَقَوْلِهِ: وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ وَقَوْلِهِ: وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا إِلَخْ، لِأَنَّ حَرْفَ (إِلَى) دَالٌ عَلَى الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ الَّذِي يَدْعُو أَحَدًا إِلَى شَيْءٍ إِنَّمَا يَدْعُوهُ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَيْهِ، فَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ الدُّعَاءُ إِلَى تَوْحِيدِهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ فَشُبِّهَ بِشَيْءٍ مَحْسُوسِ تَشْبِيهَ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، وَشُبِّهَ اعْتِقَادُهُ صِحَّتَهُ بِالْوُصُولِ إِلَى الشَّيْءِ الْمَسْعِيِّ إِلَيْهِ، وَشُبِّهَتِ الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ بِالدَّلَالَةِ عَلَى الشَّيْءِ الْمَرْغُوبِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ فَكَانَتْ فِي حَرْفِ (إِلَى) اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً وَتَخْيِيلِيَّةً وَتَبَعِيَّةً، وَفِي الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ، وَفِي أَدْعُوكُمْ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ وَتَخْيِيلِيَّةٌ.
153
وَعَدَلَ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ إِلَى الصِّفَتَيْنِ الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لِإِدْمَاجِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْإِفْرَادَ بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِبَادَةِ، بِوَصْفِهِ الْعَزِيزِ لِأَنَّهُ لَا تَنَالُهُ النَّاسُ بِخِلَافِ أَصْنَامِهِمْ فَإِنَّهَا ذَلِيلَةٌ تُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَلْتَصِقُ بِهَا الْقَتَامُ وَتُلَوِّثُهَا الطُّيُورُ بِذَرَقِهَا، وَلِإِدْمَاجِ تَرْغِيبِهِمْ فِي الْإِقْلَاعِ عَنِ الشِّرْكِ بِأَنَّ الْمُوَحَّدَ بِالْإِلَهِيَّةِ يَغْفِرُ لَهُمْ مَا سَلَفَ من شركهم بِهِ حَتَّى لَا يَيْأَسُوا مِنْ عَفْوِهِ بعد أَن أساءوا إِلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي بَيَانٌ لِجُمْلَةِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ. وَكَلِمَةُ لَا جَرَمَ بِفَتْحَتَيْنِ فِي الْأَفْصَحِ مِنْ لُغَاتٍ ثَلَاثٍ فِيهَا، كَلِمَةٌ يُرَادُ بِهَا مَعْنَى لَا يَثْبُتُ أَوْ لَا بُدَّ، فَمَعْنَى ثُبُوتِهِ لِأَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ هُوَ بَاقٍ وَكُلُّ ذَلِكَ يُؤَوَّلُ إِلَى مَعْنَى حَقَّ وَقَدْ يَقُولُونَ: لَا ذَا جَرَمَ، وَلَا أَنْ ذَا جَرَمَ، وَلَا عَنْ ذَا جَرَمَ، وَلَا جَرَ بِدُونِ مِيمٍ تَرْخِيمًا لِلتَّخْفِيفِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ جَرَمَ اسْمٌ لَا فِعْلٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِعْلًا لَكَانَ مَاضِيًا بِحَسَبَ صِيغَتِهِ فَيَكُونُ دُخُولُ لَا عَلَيْهِ مِنْ خَصَائِصِ اسْتِعْمَالِ الْفِعْلِ فِي الدُّعَاءِ.
وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَقَعَ بَعْدَهَا (أَنِ) الْمَفْتُوحَةُ الْمُشَدَّدَةُ فَيُقَدَّرُ مَعَهَا حَرْفُ (فِي) مُلْتَزَمًا حَذْفُهُ غَالِبًا. وَالتَّقْدِيرُ: لَا شَكَّ فِي أَنَّ مَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ مَعْنَى لَا جَرَمَ وَأَنَّ جَرَمَ فِعْلٌ أَوْ اسْمٌ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ فِي سُورَةِ هود [٢٢].
وَمَا صدق مَا الْأَصْنَامُ، وَأُعِيدَ الضَّمِيرُ عَلَيْهَا مُفْرَدًا فِي قَوْلِهِ: لَيْسَ لَهُ مُرَاعَاةً لِإِفْرَادِ لَفْظِ (مَا).
وَقَوْلُهُ: لَا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ إِلَى قَوْلِهِ: أَصْحابُ النَّارِ وَاقِعٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَتَيْ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ لِأَنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ أَنْ لَا دَعْوَةَ لِلْأَصْنَامِ فِي الدُّنْيَا بِدَلِيلِ الْمُشَاهَدَةِ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى، فَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّهَا لَا تُنْجِي أَتْبَاعَهَا فِي الدُّنْيَا وَلَا يُفِيدُهُمْ دُعَاؤُهَا وَلَا نِدَاؤُهَا. وَتَحَقَّقَ إِذَنْ أَنَّ الْمَرْجُوَّ لِلْإِنْعَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ هُوَ الرَّبُّ الَّذِي يَدْعُوهُمْ هُوَ إِلَيْهِ. وَهَذَا دَلِيلٌ إِقْنَاعِيٌّ غَيْرُ قَاطِعٍ لِلْمُنَازِعِ فِي إِلَهِيَّةِ رَبِّ هَذَا الْمُؤْمِنِ وَلَكِنَّهُ أَرَادَ إِقْنَاعَهُمْ
154
وَاسْتَحْفَظَهُمْ دَلِيلَهُ لِأَنَّهُمْ سَيَظْهَرُ لَهُمْ قَرِيبًا أَنَّ رَبَّ مُوسَى لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا ثِقَةً مِنْهُ بِأَنَّهُمْ سَيَرَوْنَ انْتِصَارَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَيَرَوْنَ صَرْفَ فِرْعَوْنَ عَنْ قَتْلِ مُوسَى بَعْدَ عَزْمِهِ عَلَيْهِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ مُوسَى هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الدُّنْيَا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي الْآخِرَةِ.
وَمَعْنَى لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ انْتِفَاءُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ أَوْ الِالْتِجَاءِ نَافِعًا لَا نَفْيَ وُقُوعِ الدَّعْوَةِ لِأَنَّ وُقُوعَهَا مَشَاهِدٌ. فَهَذَا مِنْ بَابِ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» وَقَوْلُهُمْ: لَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، أَيْ بِشَيْءٍ نَافِعٍ، وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ دَعْوَةٌ مَصْدَرٌ مُتَحَمِّلٌ مَعْنَى ضَمِيرِ فَاعِلٍ، أَيْ لَيْسَتْ دَعْوَةُ دَاعٍ، وَأَنَّ ضَمِيرَ لَهُ عَائِدٌ إِلَى (مَا) الْمَوْصُولَةُ، أَيْ لَا يَمْلِكُ دَعْوَةَ الدَّاعِينَ، أَيْ لَا يَمْلِكُ إِجَابَتَهُمْ.
وَعُطِفَتْ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ جُمْلَةُ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ عَطْفَ اللَّازِمِ عَلَى ملزومه لِأَنَّهُ إِذا تَبَيَّنَ أَنَّ رَبَّ مُوسَى الْمُسَمَّى (اللَّهَ) هُوَ الَّذِي لَهُ الدَّعْوَةُ، تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَرَدَّ أَيْ الْمَصِيرَ إِلَى اللَّهِ فِي الدُّنْيَا بِالِالْتِجَاءِ وَالِاسْتِنْصَارِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالْحُكْمِ وَالْجَزَاءِ. وَلَوْ عُطِفَ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْفَاءِ الْمُفِيدَةِ لِلتَّفْرِيعِ لَكَانَتْ حَقِيقَةٌ بِهَا، وَلَكِنْ عُدِلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى عَطْفِهَا بِالْوَاوِ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهَا لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةَ الدَّلَالَةِ بِنَفْسِهَا غَيْرَ بَاحِثٍ سَامِعُهَا عَلَى مَا تَرْتَبِطُ بِهِ، لِأَنَّ
الشَّيْءَ الْمُتَفَرِّعَ عَلَى شَيْءٍ يُعْتَبَرُ تَابِعًا لَهُ، كَمَا قَالَ الْأُصُولِيُّونَ فِي أَنَّ جَوَابَ السَّائِلِ غَيْرِ الْمُسْتَقِلِّ بِنَفْسِهِ تَابِعٌ لِعُمُومِ السُّؤَالِ.
وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَفَرُّعِ مَضْمُونِهَا عَلَى مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ كَانَ الْحُكْمُ وَالْجَزَاءُ بَيْنَ الصَّائِرِينَ إِلَيْهِ مِنْ مُثَابٍ وَمُعَاقَبٍ فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْمُعَاقَبَ هُمْ الْكَافِرُونَ بِاللَّهِ.
فَالْإِسْرَافُ هُنَا: إِفْرَاطُ الْكُفْرِ، وَيَشْمَلُ مَا قِيلَ: إِنَّهُ أُرِيدُ هُنَا سَفْكُ الدَّمِ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيَصْرِفَ فِرْعَوْنَ عَنْ قَتْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْوَجْهُ أَنْ يَعُمَّ أَصْحَابَ الْجَرَائِمِ وَالْآثَامِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِيهِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينِ يُخَاطِبُهُمْ إِذْ هُمْ مُسْرِفُونَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُمْ مُسْرِفُونَ فِي إِفْرَاطِ كُفْرِهِمْ
155
بِالرَّبِّ الَّذِي دَعَا إِلَيْهِ مُوسَى، وَمُسْرِفُونَ فِيمَا يَسْتَتْبِعُهُ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْجَرَائِمِ فَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: هُمْ أَصْحابُ النَّارِ يُفِيدُ قَصْرًا ادِّعَائِيًّا لِأَنَّهُمُ الْمُتَنَاهُونَ فِي صُحْبَةِ النَّارِ بِسَبَبِ الْخُلُودِ بِخِلَافِ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا لِحَمْلِ كَلَامِ الْمُؤْمِنِ عَلَى مُوَافَقَةِ الْوَاقِعِ لِأَنَّ الْمَظْنُونَ بِهِ أَنه نَبِي أَوْ مُلْهَمٌ وَإِلَّا فَإِنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تَمْيِيزِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَلَيْسَ مَقَامَ تَفْصِيلِ دَرَجَاتِ الْجَزَاءِ فِي الْآخِرَة.
[٤٤]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٤٤]
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٤٤)
هَذَا الْكَلَامُ مُتَارَكَةٌ لِقَوْمِهِ وَتَنْهِيَةٌ لِخِطَابِهِ إِيَّاهُمْ وَلَعَلَّهُ اسْتَشْعَرَ مِنْ مَلَامِحِهِمْ أَوْ مِنْ مُقَاطَعَتِهِمْ كَلَامَهُ بِعِبَارَاتِ الْإِنْكَارِ، مَا أَيْأَسَهُ مِنْ تَأَثُّرِهِمْ بِكَلَامِهِ، فَتَحَدَّاهُمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الِانْتِصَاحِ لِنُصْحِهِ سَيَنْدَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ إِمَّا فِي الدُّنْيَا كَمَا اقْتَضَاهُ تهديده لَهُم بقوله: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ [غَافِر: ٣٠]، أَو فِي الْآخِرَة كَمَا اقْتَضَاهُ قَوْله: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ [غَافِر: ٣٢]، فَالْفَاءُ تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ [غَافِر: ٤١].
وَفَعَلُ سَتَذْكُرُونَ مُشْتَقٌّ مِنَ الذِّكْرِ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ ضِدُّ النِّسْيَانِ، أَيْ سَتَذْكُرُونَ فِي عُقُولِكُمْ، أَيْ مَا أَقُولُ لَكُمُ الْأَنَ يَحْضُرُ نَصْبَ بَصَائِرِكُمْ يَوْمَ تَحَقُّقِهُ، فَشَبَّهَ الْإِعْرَاضَ بِالنِّسْيَانِ وَرَمْزَ إِلَى النِّسْيَانِ بِمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ فِي الْعَقْلِ مُلَازِمَةَ الضِّدِّ لِضِدِّهِ وَهُوَ التَّذَكُّرُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ وَفِي قَرِينَتِهَا اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى سَيَحِلُّ بِكُمْ مِنَ الْعَذَابِ مَا يُذَكِّرُكُمْ مَا أَقُولُهُ: إِنَّهُ سَيَحِلُّ بِكُمْ.
وَجُمْلَةُ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ، وَمَسَاقُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَسَاقُ الِانْتِصَافِ مِنْهُمْ لِمَا أَظْهَرُوهُ لَهُ مِنَ الشَّرِّ، يَعْنِي: أَنِّي أَكِلُ شَأْنِي وَشَأْنَكُمْ مَعِي إِلَى اللَّهِ فَهُوَ يَجْزِي كُلَّ فَاعِلٍ بِمَا فَعَلَ، وَهَذَا كَلَامُ مُنْصِفٍ فَالْمُرَادُ بِ أَمْرِي شَأْنِي وَمُهِمِّي.
وَيَدُلُّ لِمَعْنَى الِانْتِصَافِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ مُعَلِّلًا تَفْوِيضَ أَمْرِهِ مَعَهُمْ إِلَى اللَّهِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ جَمِيعِ الْعِبَادِ فَعُمُومُ الْعِبَادِ شَمِلَهُ وَشَمِلَ خُصُومَهُ.
وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ لأَنهم توعدوه اهـ. يَعْنِي أَنَّ فِيهِ إِشْعَارًا بِذَلِكَ بِمَعُونَةِ مَا بعده.
وبِالْعِبادِ النَّاسُ يُطْلَقُ عَلَى جَمَاعَتِهِمُ اسْمُ الْعِبَادِ، وَلَمْ أَرَ إِطْلَاقَ الْعَبْدِ عَلَى الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ وَلَا إِطْلَاقَ الْعَبِيدِ عَلَى النَّاسِ.
وَالْبَصِيرُ: الْمُطَّلِعُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ. وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ [الْقَصَص: ١١]، فَإِذَا أَرَادُوا تَعْدِيَةَ فِعْلِ الْبَصَرِ بِنَفْسِهِ قَالُوا:
أبصره.
[٤٥- ٤٦]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٤٥ إِلَى ٤٦]
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)
تَفْرِيعُ فَوَقاهُ اللَّهُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ أَضْمَرُوا مَكْرًا بِهِ. وَتَسْمِيَتُهُ مَكْرًا مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُشْعِرُوهُ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ بِوِقَايَتِهِ لِأَنَّهُ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: فَأَنْجَاهُ اللَّهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَجَا مَعَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَرَجَ مَعَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون فرّ من فِرْعَوْنَ وَلَمْ يَعْثُرُوا عَلَيْهِ.
وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: سَيِّئَاتُ مَكْرِهِمْ. وَإِضَافَةُ سَيِّئاتِ إِلَى (مَكْرِ) إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ، وَهِيَ هُنَا فِي قُوَّةِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ لِأَنَّ الْمَكْرَ سَيْءٌ. وَإِنَّمَا جَمَعَ السَّيِّئَاتِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَنْوَاعِ مَكْرِهِمُ الَّتِي بَيَّتُوهَا.
وَحَاقَ: أَحَاطَ. وَالْعَذَابُ: الْغَرَقُ. وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ لِأَنَّهُ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ. وَتَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ فِي السُّوَرِ النَّازِلَةِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ.
157
وَمُنَاسَبَةُ فِعْلِ حاقَ لِذَلِكَ الْعَذَابِ أَنَّهُ مِمَّا يَحِيقُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْغَرَقُ سُوءَ عَذَابٍ لِأَنَّ الْغَرِيقَ يُعَذَّبُ بِاحْتِبَاسِ النَّفْسِ مُدَّةً وَهُوَ يَطْفُو عَلَى الْمَاءِ وَيَغُوصُ فِيهِ وَيُرْعِبُهُ هَوْلُ الْأَمْوَاجِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِالْهَلَاكِ ثُمَّ يَكُونُ عُرْضَةً لِأَكْلِ الْحِيتَانِ حَيًّا وَمَيِّتًا وَذَلِكَ أَلَمٌ فِي الْحَيَاةِ وَخِزْيٌ بَعْدَ الْمَمَاتِ يُذْكَرُونَ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَقَوْلُهُ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً وَقَعَتْ بَدَلًا مِنْ جُمْلَةِ وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ، فَيَجْعَلُ النَّارُ مُبْتَدَأً وَيَجْعَلُ جُمْلَةَ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خَبَّرًا عَنْهُ وَيَكُونُ مَجْمُوعُ الْجُمْلَةِ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ لِأَنَّ سُوءَ الْعَذَابِ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْغَرَقُ كَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى مَوْتِهِمْ وَمَوْتُهُمْ يَشْتَمِلُ عَلَى عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ غُدُوًّا وَعَشِيًّا، فَالْمَذْكُورُ عَذَابَانِ: عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَاب الْغَرَقِ وَمَا يَلْحَقُ بِهِ مِنْ عَذَابٍ قَبْلَ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّارُ بَدَلًا مُفْرَدًا مِنْ سُوءُ الْعَذابِ بَدَلًا مُطَابِقًا وَجُمْلَةُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها حَالًا مِنَ النَّارُ فَيَكُونُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَذَابًا وَاحِدًا وَلَمْ يُذْكَرْ عَذَابُ الْغَرَقِ. وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عَذَابٌ قَبْلَ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ بَعْدَهُ بُقُولِهِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ.
وَالْعَرْضُ حَقِيقَتُهُ: إِظْهَارُ شَيْءٍ لِمَنْ يَرَاهُ لترغيب أَو لتحذير وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى الشَّيْءِ الْمُظْهَرِ بِنَفْسِهِ وَإِلَى مَنْ يُظْهَرُ لِأَجْلِهِ بِحَرْفِ (عَلَى)، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْرُوضَ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَنْ يَعْقِلُ ومنزّلا مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ، وَقَدْ يُقْلَبُ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِ الْعَرَبِ «عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ»، وَحَقُّهُ: عَرَضْتُ الْحَوْضَ عَلَى النَّاقَةِ، وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [٢٠] وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ. وَقَدْ عَدَّ عُلَمَاءُ الْمَعَانِي الْقَلْبَ مِنْ أَنْوَاعِ تَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَمَثَّلُوا لَهُ بِقَوْلِ الْعَرَبِ:
عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ. وَاخْتَلَفُوا فِي عَدِّهِ مِنْ أَفَانِينِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ فَعَدَّهُ مِنْهَا أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْفَارِسِيُّ وَالسَّكَّاكِيُّ وَلَمْ يَقْبَلْهُ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ الْقَزْوِينِيُّ: إِنَّ تَضَمَّنَ اعْتِبَارًا لَطِيفًا قُبِلَ وَإِلَّا رُدَّ.
158
وَعِنْدِي أَنَّ الِاسْتِعْمَالَيْنِ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ وَأَنَّ الْعَرْضَ قَدْ كَثُرَ فِي مَعْنَى الْإِمْرَارِ دُونَ قَصْدِ التَّرْغِيبِ كَمَا يُقَالُ: عُرِضَ الْجَيْشُ عَلَى أَمِيرِهِ وَاسْتَعْرَضَهُ الْأَمِيرُ. وَلَعَلَّ أَصْلَهُ مَجَازٌ سَاوَى الْحَقِيقَةَ فَلَيْسَ فِي الْآيَتَيْنِ قَلْبٌ وَلَا فِي قَوْلِ الْعَرَبِ: عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الْحَوْضِ، قَلْبٌ، وَيُقَالُ: عُرِضَ بَنُو فُلَانٍ عَلَى السَّيْفِ، إِذَا قُتِلُوا بِهِ. وَخَرَجَ فِي «الْكَشْفِ» آيَةُ الْأَحْقَافِ عَلَى قَوْلِهِمْ: عُرِضَ عَلَى السَّيْفِ.
وَمَعْنَى عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ أَنَّ أَرْوَاحَهُمْ تُشَاهِدُ الْمَوَاضِعَ الَّتِي أُعِدَّتْ لَهَا فِي جَهَنَّمَ، وَهُوَ مَا يُبَيِّنُهُ
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي «الصَّحِيحِ» قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
. وَقَوْلُهُ: غُدُوًّا وَعَشِيًّا كِنَايَةٌ عَنِ الدَّوَامِ لِأَنَّ الزَّمَانَ لَا يَخْلُو عَن هاذين الْوَقْتَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ هَذَا ذِكْرُ عَذَابِ الْآخِرَةِ الْخَالِدِ، أَيْ يُقَالُ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَعُلِمَ مِنْ عَذَابِ آلِ فِرْعَوْنَ أَنَّ فِرْعَوْنَ دَاخِلٌ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ بِدَلَالَةِ الْفَحْوَى.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ أَدْخِلُوا بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَكَسْرِ الْخَاءِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ وَضَمِّ الْخَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْقَوْلَ مُوَجَّهٌ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ وَأَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ مُنَادَى بِحَذْف الْحَرْف.
[٤٧- ٤٨]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٤٧ إِلَى ٤٨]
وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (٤٧) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (٤٨)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِذْ مَعْمُولًا لِ (اذْكُرْ) مَحْذُوفٍ فَيَكُونُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى
159
الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ [غَافِر: ٣٥] وَمَا بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ اعْتِرَاضٌ وَاسْتِطْرَادٌ لِأَنَّهَا قُصِدُ مِنْهَا عِظَةُ الْمُشْرِكِينَ بِمَنْ سَبَقَهُمْ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ فَلَمَّا اسْتُوفِيَ ذَلِكَ عَادَ الْكَلَامُ إِلَيْهِمْ. وَيُفِيدُ ذَلِكَ صَرِيحَ الْوَعِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ أَنْ ضُرِبَتْ لَهُمُ الْأَمْثَالُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [مُحَمَّد: ١٠]، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ مَوْعِظَةُ الْمُشْرِكِينَ بِمِثْلِ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٦]، وَقَوله: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٣٨].
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَإِذْ يَتَحاجُّونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غَافِر: ٤٦] لِأَنَّ (إِذْ) وَ (يَوْمَ) كِلَيْهِمَا ظَرْفٌ بِمَعْنَى (حِينَ)، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَحِينَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقَالُ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ، وَحِينَ يَتَحَاجُّ أَهْلُ النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ إِلَخْ.
وَقَرَنَ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ بِالْفَاءِ لِإِفَادَةِ كَوْنَ هَذَا الْقَوْلِ نَاشِئًا عَنْ تَحَاجِّهِمْ فِي النَّارِ مَعَ كَوْنِ ذَلِكَ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ فِي مَعْنًى مُتَعَلِّقِ إِذْ، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ الْفَاءِ الَّتِي يُسَمِّيهَا النُّحَاةُ زَائِدَةً، وَأَثْبَتَ زِيَادَتَهَا جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ وَالْأَعْلَمُ وَابْنُ بُرْهَانٍ، وَحَكَاهُ عَنْ أَصْحَابِهِ الْبَصْرِيِّينَ. وَضَمِيرُ يَتَحاجُّونَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَائِدٌ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ.
ويفيد مَعَ ذَلِك تعريضا بوعيد الْمُشْركين كَمَا هُوَ مُقْتَضى الْمُمَاثلَة المسوقة وَضمير يَتَحاجُّونَ غير عَائِد إِلَى آل فِرْعَوْنَ [غَافِر: ٤٦] لِأَنَّ ذَلِكَ يَأْبَاهُ قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ [غَافِر: ٤٩] وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ [غَافِر: ٥٠] وَلَمْ يَأْتِ آلَ فِرْعَوْنَ إِلَّا رَسُولٌ وَاحِدٌ هُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَعُودُ ضَمِيرُ يَتَحاجُّونَ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ.
وَالْتَحَاجُّ: الِاحْتِجَاجُ مِنْ جَانِبَيْنِ فَأَكْثَرَ، أَيْ إِقَامَةُ كُلِّ فَرِيقٍ حُجَّتَهُ وَهُوَ يَقْتَضِي وُقُوعَ خِلَافٍ بَيْنِ الْمُتَحَاجِّينَ إِذِ الْحجَّة تأييد لدعوى لِدَفْعِ الشَّكِّ فِي صِحَّتِهَا.
وَالضُّعَفَاءُ: عَامَّةُ النَّاسِ الَّذِينَ لَا تَصَرُّفَ لَهُمْ فِي أُمُورِ الْأُمَّةِ. وَالَّذِينَ
160
اسْتَكْبَرُوا:
سَادَةُ الْقَوْمِ، أَيِ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا كِبَرًا شَدِيدًا، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ. وَقَوْلُ الضُّعَفَاءِ لِلْكُبَرَاءِ هَذَا الْكَلَامَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَى حَقِيقَته فَهُوَ ناشىء عَمَّا اعْتَادُوهُ مِنَ اللَّجَأِ إِلَيْهِمْ فِي مُهِمِّهِمْ حِينَ كَانُوا فِي الدُّنْيَا فَخَالُوا أَنَّهُمْ يَتَوَلَّوْنَ تَدْبِيرَ أُمُورِهِمْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَلِهَذَا أَجَابَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بِمَا يُفِيدُ أَنَّهُمُ الْيَوْمَ سَوَاءٌ فِي الْعَجْزِ وَعَدَمِ الْحِيلَةِ فَقَالُوا: إِنَّا كُلٌّ فِيها أَيْ لَوْ أَغْنَيْنَا عَنْكُمْ لَأَغْنَيْنَا عَنْ أَنْفُسِنَا.
وَتَقْدِيمُ قَوْلِهِمْ: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً عَلَى طَلَبِ التَّخْفِيفِ عَنْهُمْ مِنَ النَّارِ، مُقَدِّمَةٌ لِلطَّلَبِ لِقَصْدِ تَوْجِيهِهِ وَتَعْلِيلِهِ وَتَذْكِيرِهِمْ بِالْوَلَاءِ الَّذِي بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا، يُلْهِمُهُمُ اللَّهُ هَذَا الْقَوْلَ لِافْتِضَاحِ عَجْزِ الْمُسْتَكْبِرِينَ أَنْ يَنْفَعُوا أَتْبَاعَهُمْ تَحْقِيرًا لَهُمْ جَزَاءً عَلَى تَعَاظُمِهِمُ الَّذِي كَانُوا يَتَعَاظَمُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ قَوْلَ الضُّعَفَاءِ لَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَةِ الْحَثِّ عَلَى التَّخْفِيفِ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّوْبِيخِ، أَيْ كُنْتُمْ تَدْعُونَنَا إِلَى دِينِ الشِّرْكِ فَكَانَتْ عَاقِبَةُ ذَلِك أَنا صِرْنَا فِي هَذَا الْعَذَابِ فَهَلْ تَسْتَطِيعُونَ الدَّفْعَ عَنَّا. وَتَأْكِيدُ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَلَيْسَ لِرَدِّ إِنْكَارٍ.
وَالتَّبَعُ: اسْمٌ لِمَنْ يَتْبَعُ غَيْرَهُ، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَهُوَ مِثْلُ خَدَمٍ وَحَشَمٍ لِأَنَّ أَصْلَهُ مَصْدَرٌ، فَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ، وَقِيلَ التَّبَعُ: جَمْعٌ لَا يَجْرِي عَلَى الْوَاحِدِ، فَهُوَ إِذَنْ مِنَ الْجُمُوعِ النَّادِرَةِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحَثِّ وَاللَّوْمِ عَلَى خِذْلَانِهِمْ وَتُرْكِ الِاهْتِمَامِ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ عَذَابٍ.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الثَّبَاتِ، أَيْ هَلْ مِنْ شَأْنِكُمْ أَنَّكُمْ مُغْنُونَ عَنَّا.
ومُغْنُونَ اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ أَغْنَى غَنَاءً بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالْمَدِّ، أَيْ فَائِدَةٌ وَإِجْزَاءٌ.
وَالنَّصِيبُ: الْحَظُّ وَالْحِصَّةُ مِنَ الشَّيْءِ، قَالَ تَعَالَى:
161
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ إِلَى قَوْلِهِ: نَصِيباً مَفْرُوضاً [النِّسَاء: ٧].
وَقَدْ ضُمِّنَ مُغْنُونَ مَعْنَى دَافِعُونَ وَرَادُّونَ، فَلِذَلِكَ عُدِّيَ إِلَى مَفْعُولٍ وَهُوَ نَصِيباً أَيْ جُزْءًا مِنْ حَرِّ النَّارِ غَيْرَ مُحَدَّدِ الْمِقْدَارِ مِنْ قُوَّتِهَا، ومِنَ النَّارِ بَيَانٌ لِ نَصِيباً كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [إِبْرَاهِيم: ٢١] فَهُمْ قَانِعُونَ بِكُلِّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ مِنْ شِدَّةِ حَرِّ النَّارِ وَغَيْرُ طَامِعِينَ فِي الْخُرُوجِ مِنْهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُغْنُونَ عَلَى مَعْنَاهُ دُونَ تَضْمِينٍ وَيَكُونَ نَصِيباً مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُول الْمُطلق لمغنون وَالتَّقْدِيرُ غَنَّاءً نَصِيبًا، أَيْ غِنَاءً مَا وَلَوْ قَلِيلًا. ومِنَ النَّارِ مُتَعَلِّقًا بِ مُغْنُونَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [يُوسُف: ٦٧]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّصِيبُ الْجُزْءَ مِنْ أَزْمِنَةِ الْعَذَابِ فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: مِنْ مُدَّةِ النَّارِ.
وَلَمَّا كَانَ جَوَابُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينِ اسْتُضْعِفُوا جَارِيًا فِي مَجْرَى الْمُحَاوَرَةِ جُرِّدَ فَعَلُ قالَ مِنْ حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: إِنَّا كُلٌّ فِيها نَحْنُ وَأَنْتُمْ مُسْتَوُونَ فِي الْكَوْنِ فِي النَّارِ فَكَيْفَ تَطْمَعُونَ أَنْ نَدْفَعَ عَنْكُمْ شَيْئًا مِنَ الْعَذَابِ. وَعَلَى وَجْهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ الضُّعَفَاءِ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً إِلَى آخِرِهِ تَوْبِيخًا وَلَوْمًا لِزُعَمَائِهِمْ يَكُونُ قَوْلُ الزُّعَمَاءِ إِنَّا كُلٌّ فِيها اعْتِرَافًا بِالْغَلَطِ، أَيْ دَعُوا لَوْمَنَا وَتَوْبِيخَنَا فَقَدْ كَفَانَا أَنَا مَعَكُمْ فِي النَّارِ وَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِتَحْقِيقِهِ أَوْ لِتَنْزِيلِ مَنْ طَالَبُوهُمْ بِالْغَنَاءِ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ مَعَ مُشَاهَدَتِهِمْ أَنَّهُمْ فِي الْعَذَابِ مِثْلُهُمْ، مَنْزِلَةَ مَنْ يَحْسَبُهُمْ غَيْرَ وَاقِعِينَ فِي النَّارِ، وَفِي هَذَا التَّنْزِيلِ ضَرْبٌ مِنَ التَّوْبِيخِ يَقُولُونَ: أَلَسْتُمْ تَرَوْنَنَا فِي النَّارِ مَثَلَكُمْ فَكَيْفَ نُغْنِي عَنْكُمْ. وكُلٌّ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فِيها وَالْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ خَبَرُ (إِنَّ) وَتَنْوِينُ (كُلٌّ) تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: إِنَّا كُلُّنَا فِي النَّارِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ تَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ مِنْ جُمْلَةِ
162
إِنَّا كُلٌّ
فِيها
فَكِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ جَوَابٌ لَهُمْ مُؤْيِسٌ مِنْ حُصُولِ التَّخْفِيفِ عَنْهُمْ. وَالْمَعْنَى: نَحْنُ مُسْتَوُونَ فِي الْعَذَابِ وَهُوَ حُكْمُ اللَّهِ فَلَا مطمع فِي التَّقَصِّي مِنْ حُكْمِهِ فَقَدْ جُوزِيَ كُلُّ فَرِيقٍ بِمَا يَسْتَحِقُّ.
وَمَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ عُمُومِ تَعَلُّقِ فِعْلِ الْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ مَا يُجْعَلُ هَذَا الْبَدَلَ بِمَنْزِلَةِ التَّذْيِيلِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ كُلِّهِمْ بِجَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ فَكَانَ قِسْطُنَا مِنَ الْحُكْمِ هَذَا الْعَذَابَ. فَكَلِمَةُ بَيْنَ هُنَا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَاهَا الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُتَوَسِّطُ، أَيْ وَقَعَ حُكْمُهُ وَقَضَاؤُهُ فِي مَجْمَعِهِمُ الَّذِي حَضَرَهُ مَنْ حُكِمَ عَلَيْهِ وَمَنْ حُكِمَ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْحُكُومَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكَرَامَةِ بِالْجَنَّةِ، فَلَيْسَتْ كَلِمَةُ (بَيْنَ) هُنَا بِمَنْزِلَةِ (بَيْنَ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الْمَائِدَة: ٤٨] فَإِنَّهَا فِي ذَلِكَ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمُحِقِّ وَالْمُبْطِلِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ عِبْرَةٌ لِزُعَمَاءِ الْأُمَمِ وَقَادَتِهِمْ أَنْ يَحْذَرُوا الِارْتِمَاءَ بِأَنْفُسِهِمْ فِي مَهَاوِي الْخُسْرَانِ فَيُوقِعُوا الْمُقْتَدِينَ بِهِمْ فِي تِلْكَ الْمَهَاوِي فَإِنْ كَانَ إِقْدَامُهُمْ وَمُغَامَرَتُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَأُمَمِهِمْ عَلَى عِلْمٍ بِعَوَاقِبَ ذَلِكَ كَانُوا أَحْرِيَاءَ بِالْمَذَمَّةِ وَالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا وَمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، إِذْ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يُغْرَوْا بِأَقْوَامٍ وَكَّلُوا أُمُورَهُمْ بِقَادَتِهِمْ عَنْ حُسْنِ ظَنٍّ فِيهِمْ، أَنْ يَخُونُوا أَمَانَتَهُمْ فِيهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: ١٣]، وَإِنْ كَانَ قَحْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ فِي مَضَائِقِ الزَّعَامَةِ عَنْ جَهْلٍ بِعَوَاقِبِ قُصُورِهِمْ وَتَقْصِيرِهِمْ فَإِنَّهُمْ مَلُومُونَ على عدم التَّوَثُّق مِنْ كَفَاءَتِهِمْ لِتَدْبِيرِ الْأُمَّةِ فَيَخْبِطُوا بِهَا خَبْطَ عَشْوَاءٍ حَتَّى يَزِلُّوا بِهَا فَيَهْوُوا بِهَا مِنْ شَوَاهِقَ بَعِيدَةٍ فَيَصِيرُوا رَمِيمًا، وَيَلْقُوا فِي الْآخِرَة جحيما.
[٤٩- ٥٠]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٤٩ إِلَى ٥٠]
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (٤٩) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (٥٠)
لَمَّا لَمْ يَجِدُوا مَسَاغًا لِلتَّخْفِيفِ مِنَ الْعَذَابِ فِي جَانِبِ كُبَرَائِهِمْ، وَتَنَصَّلَ كُبَرَاؤُهُمْ
163
مِنْ ذَلِكَ أَوِ اعْتَرَفُوا بِغَلَطِهِمْ وَتَوْرِيطِهِمْ قَوْمَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ تَمَالَأَ الْجَمِيعُ عَلَى مُحَاوَلَةِ طَلَبِ تَخْفِيفِ الْعَذَابِ بِدَعْوَةٍ مِنْ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ، فَلِذَلِكَ أُسْنِدَ الْقَوْلُ إِلَى الَّذِينَ فِي النَّارِ، أَيْ جَمِيعِهِمْ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَالَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا.
وَخَزَنَةٌ: جَمْعُ خَازِنٍ، وَهُوَ الْحَافِظُ لِمَا فِي الْمَكَانِ مِنْ مَالٍ أَو عرُوض. ولِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِمَا تَحْوِيهِ مِنَ النَّارِ وَوَقُودِهَا وَالْمُعَذَّبِينَ فِيهَا وَمُوَكَّلُونَ بِتَسْيِيرِ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ دَارُ الْعَذَابِ وَأَهْلِهَا وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُمْ: خَزَنَةُ النَّارِ، لِأَنَّ الْخَزْنَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّارِ بَلْ بِمَا يَحْوِيهَا فَلَيْسَ قَوْلُهُ هُنَا: جَهَنَّمَ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ إِذْ لَا يَحْسُنُ إِضَافَةُ خَزَنَةٍ إِلَى النَّارِ وَلَوْ تَقَدَّمَ لَفْظُ جَهَنَّمُ لَقَالَ: لِخَزَنَتِهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ [٦- ٨] وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ (جَهَنَّمَ) وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِلَى قَوْلِهِ: سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها فَإِنَّ الضَّمِيرَ لِ جَهَنَّمَ لَا لِ النَّارِ.
وَفِي «الْكَشَّافِ» إِنَّهُ مِنِ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارُ لِلتَّهْوِيلِ بِلَفْظِ جَهَنَّمَ، وَالْمَسْلَكُ الَّذِي سَلَكْنَاهُ أَوْضَحُ.
وَفِي إِضَافَةِ (رَبِّ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ ضَرْبٌ مِنَ الْإِغْرَاءِ بِالدُّعَاءِ، أَيْ لِأَنَّكُمْ أَقْرَبُ إِلَى اسْتِجَابَتِهِ لَكُمْ. وَلِمَا ظَنُّوهُمْ أَرْجَى لِلِاسْتِجَابَةِ سَأَلُوا التَّخْفِيفَ يَوْمًا مِنْ أَزْمِنَةِ الْعَذَابِ وَهُوَ أَنْفَعُ لَهُمْ مِنْ تَخْفِيفِ قُوَّةِ النَّارِ الَّذِي سَأَلُوهُ مِنْ مُسْتَكْبِرِيهِمْ.
وَجُزِمَ يُخَفِّفْ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ، وَلَعَلَّهُ بِتَقْدِيرِ لَامِ الْأَمْرِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَمِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مَنْ يَجْعَلُهُ جَزَمَا فِي جَوَابِ الطَّلَبِ لِتَحْقِيقِ التَّسَبُّبِ. فَيَكُونُ فِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ الَّذِينَ فِي النَّارِ وَاثِقُونَ بِأَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ إِذَا دَعَوُا اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُمْ. وَهَذَا الْجَزْمُ شَائِعٌ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْقَوْلِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ لِهَذِهِ النُّكْتَةِ وَحَقُّهُ الرَّفْعُ أَوْ إِظْهَارُ لَامِ الْأَمْرِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ [٣١].
وَضُمِّنَ يُخَفِّفْ مَعْنَى يُنْقِصُ فَنَصَبَ يَوْماً، أَوْ هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ عَذَابَ يَوْمٍ، أَيْ مِقْدَارَ يَوْمٍ، وَانْتَصَبَ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِ يُخَفِّفْ.
164
وَالْيَوْمُ كِنَايَةٌ عَنِ الْقِلَّةِ، أَيْ يُخَفِّفُ عَنَّا وَلَوْ زَمَنًا قَلِيلًا. ومِنَ الْعَذابِ بَيَانٌ لِ يَوْماً لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْمِقْدَارُ فَاحْتَاجَ إِلَى الْبَيَانِ عَلَى نَحْوِ التَّمْيِيزِ. وَيَجُوزُ تَعَلُّقُهُ بِ يُخَفِّفْ.
وَجَوَابُ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ لَهُمْ بِطَرِيقِ الِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ الْمُرَادِ بِهِ: إِظْهَارُ سُوءِ صَنِيعِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ إِذْ لَمْ يَتَّبِعُوا الرُّسُلَ حَتَّى وَقَعُوا فِي هَذَا الْعَذَابِ، وَتَنْدِيمُهُمْ عَلَى مَا أَضَاعُوهُ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا مِنْ وَسَائِلِ النَّجَاةِ مِنَ الْعِقَابِ. وَهُوَ كَلَامٌ جَامِعٌ يَتَضَمَّنُ التَّوْبِيخَ، وَالتَّنْدِيمَ، وَالتَّحْسِيرَ، وَبَيَانِ سَبَبِ تَجَنُّبِ الدُّعَاءِ لَهُمْ، وَتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّ الرُّسُلَ كَانَتْ تُحَذِّرُهُمْ مِنَ الْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ.
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ لَمْ يُعَرِّجِ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى مَوْقِعِهَا. وَهِيَ وَاوُ الْعَطْفِ عَطَفَ بِهَا (خَزَنَةُ جَهَنَّمَ) كَلَامَهُمْ عَلَى كَلَامِ الَّذِينَ فِي النَّارِ مِنْ قَبِيلِ طَرِيقَةِ عَطْفِ الْمُتَكَلِّمِ كَلَامًا عَلَى كَلَامٍ صَدَرَ مِنَ الْمُخَاطَبِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ حَقَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلَامِهِ وَأَنْ لَا يُغْفِلَهُ، وَهُوَ مَا يُلَقَّبُ بِعَطْفِ التَّلْقِينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: ١٢٤] فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ إِذَا تَذَكَّرُوا ذَلِكَ عَلِمُوا وَجَاهَةَ تَنَصُّلِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ مِنَ الشَّفَاعَةِ لَهُمْ، وَتَفْرِيعُ فَادْعُوا عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرٌ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ.
وَهَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ مُقَدَّمَةٌ مِنَ التَّأْخِيرِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، لِوُجُوبِ صَدَارَتِهَا.
وَجُمْلَةُ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ خَزَنَةِ جَهَنَّمَ تَذْيِيلًا لِكَلَامِهِمْ يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْلَهُمْ: فَادْعُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْخَطَأِ، أَيْ دُعَاؤُكُمْ لَمْ يَنْفَعْكُمْ لِأَنَّ دُعَاءَ الْكَافِرِينَ فِي ضَلَالٍ وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى تَذْيِيلًا وَاعْتِرَاضًا.
وَالْبَيِّنَاتُ: الْحُجَجُ الْوَاضِحَةُ وَالدَّعَوَاتُ الصَّرِيحَةُ إِلَى اتِّبَاعِ الْهُدَى. فَلَمْ يَسَعُهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا: بَلَى فَرَدَّ عَلَيْهِمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ بِالتَّنَصُّلِ مِنْ أَنْ يَدْعُوَا اللَّهَ بِذَلِكَ، إِلَى إِيكَالِ أَمْرِهِمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ بِقَوْلِهِمْ: فَادْعُوا تَفْرِيعًا عَلَى اعْتِرَافِهِمْ بِمَجِيءِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ.
165
وَمَعْنَى تَفْرِيعِهِ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَاهُ الْكِنَائِيِّ الَّذِي هُوَ التَّنَصُّلُ مِنْ أَنْ يَدْعُوَا لَهُمْ، أَيْ كَمَا تَوَلَّيْتُمُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الرُّسُلِ اسْتِبْدَادًا بِآرَائِكُمْ فَتَوَلُّوا الْيَوْمَ أَمْرَ أَنْفُسِكُمْ فَادْعُوا أَنْتُمْ، فَإِنَّ «مَنْ تَوَلَّى قُرَّهَا يَتَوَلَّى حَرَّهَا»، فَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: فَادْعُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِبَاحَةِ أَوْ فِي التَّسْوِيَةِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى خَطَأِ السَّائِلِينَ فِي سُؤَالِهِمْ.
وَزِيَادَةُ فِعْلِ الْكَوْنِ فِي أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَجِيءَ الرُّسُلِ إِلَى الْأُمَمِ أَمْرٌ مُتَقَرِّرٌ مُحَقَّقٌ، لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ الْكَوْنِ مِنَ الْوُجُودِ بِمَعْنَى التَّحَقُّقِ، وَأَمَّا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْإِتْيَانِ كَانَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي فَهُوَ مُسْتَفَادٌ مَنْ (لَمِ) النَّافِيَةِ فِي الْمَاضِي.
وَالضَّلَالُ: الضَّيَاعُ، وَأَصْلُهُ: خَطَّأُ الطَّرِيقِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: ١٠].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ دُعَاءَهُمْ لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَسَوَاءٌ كَانَ قَوْلُهُ: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ مُقْتَضٍ عُمُومَ دُعَائِهِمْ
لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُضَافَ مَنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَيَقْتَضِي أَنَّ دُعَاءَ الْكَافِرِينَ غَيْرُ مُتَقَبَّلٍ فِي الْآخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا لِأَنَّ عُمُومَ الذَّوَاتِ يَسْتَلْزِمُ عُمُومَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ.
وَأَمَّا مَا يُوهِمُ اسْتِجَابَةَ دُعَاءِ الْكَافِرِينَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها [الْأَنْعَام: ٦٣، ٦٤] وَقَوْلِهِ: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [يُونُس: ٢٢، ٢٣]، فَظَاهِرٌ أَنَّ هَذِهِ لَا تَدُلُّ عَلَى اسْتِجَابَةِ كَرَامَةٍ وَلَكِنَّهَا لِتَسْجِيلِ كَفْرِهِمْ وَنُكْرَانِهِمْ، وَقَدْ يُتَوَهَّمُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَنْ يَدْعُوَ الْكَافِرُ فَيَقَعُ مَا طَلَبَهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمُصَادَفَةِ دُعَائِهِ وَقْتَ إِجَابَةِ دُعَاءِ غَيْرِهِ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَكَيْفَ يُسْتَجَابُ دُعَاءُ الْكَافِرِ وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِبْعَادُ اسْتِجَابَةِ دُعَاءِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَأْكُلُ الْحَرَامَ وَيَلْبَسُ الْحَرَامَ
فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ
166
بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ»
. وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ اللَّهُ: فَلَمَّا اسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ، أَيْ لِأَنَّهُ قَدَّرَ نَجَاتَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَدْعُوا أَوْ لِأَنَّ دُعَاءَهُمْ صَادَفَ دُعَاءَ بعض الْمُؤمنِينَ.
[٥١- ٥٢]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٥١ إِلَى ٥٢]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢)
كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَهُوَ اسْتِخْلَاصٌ لِلْعِبْرَةِ مِنِ الْقِصَصِ الْمَاضِيَةِ مَسُوقٌ لِتَسْلِيَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْدِهُ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ، وَتَسْلِيَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَعْدِهِمْ بِالنَّصْرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ مِنِ ابْتِدَاءِ السُّورَةِ كَانَ بِذِكْرِ مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: ٤] وَأَوْمَأَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَن شيعهم آئلة إِلَى خَسَارٍ بِقَوْلِهِ: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِر: ٤]، وَامْتَدَّ الْكَلَامُ فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُجَادِلِينَ وَتَمْثِيلِ حَالِهِمْ بِحَالِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي آلَ أَمْرُهَا إِلَى خَيْبَةٍ وَاضْمِحْلَالٍ فِي الدُّنْيَا وَإِلَى عَذَابٍ دَائِمٍ فِي الْآخِرَةِ وَلَمَّا اسْتَوْفَى الْغَرَضُ مُقْتَضَاهُ مِنْ إِطْنَابِ الْبَيَانِ بَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِبَهُ أَنَّهُ يَنْصُرُ رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الدُّنْيَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْكَلَامِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [غَافِر: ٧٧].
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ فِعْلِ النَّصْرِ أَنَّ هُنَالِكَ فَرِيقًا مَنْصُورًا عَلَيْهِمُ الرُّسُلُ وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ، وَمِنَ الْمُتَعَيَّنِ أَنَّهُمُ الْفَرِيقُ الْمُعَانِدُ لِلرُّسُلِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَنَصْرُ الرُّسُلِ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا بِإِظْهَارِهِمْ عَلَيْهِمْ وَإِبَادَتِهِمْ، وَفِي الْآخِرَةِ بِنَعِيمِ الْجَنَّةِ لَهُمْ وَعَذَابِ النَّارِ لِأَعْدَائِهِمْ.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: لَنَنْصُرُ لِمَا فِيهِ مِنِ اسْتِحْضَارِ حَالَاتِ النَّصْرِ الْعَجِيبَةِ الَّتِي وُصِفَ بَعْضهَا فِي هَذِه السُّورَةِ وَوُصِفَ بَعْضٌ آخَرُ فِي سُوَرٍ أُخْرَى تَقَدَّمَ نُزُولُهَا، وَإِلَّا فَإِنَّ نَصْرَ الرُّسُلِ الَّذِينَ سَبَقُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَضَى وَنَصْرُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَرَقَّبٌ غَيْرُ حَاصِلٍ حِينَ نُزُولِ الْآيَةِ.
167
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنْ) وَبِجَعْلِ الْمُسْنَدِ فِعْلِيًا فِي قَوْلِهِ: لَنَنْصُرُ مُرَاعًى فِيهِ حَالُ الْمُعَرَّضِ بِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ رُسُلَهُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ الْمُشْرِكُونَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ.
وَهَذَا وَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُمْ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بِأَنْ يُوقِعَ الظَّالِمَ فِي سُوءِ عَاقِبَةٍ أَوْ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِ مَنْ يَنْتَقِمُ مِنْهُ بِنَحْوٍ أَوْ أَشَدَّ مِمَّا ظَلَمَ بِهِ مُؤْمِنًا.
وَالْأَشْهَادُ: جَمْعُ شَاهِدٍ. وَالْقِيَامُ: الْوُقُوفُ فِي الْمَوْقِفِ. وَالْأَشْهَادُ: الرُّسُلُ، وَالْمَلَائِكَةُ الْحَفَظَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [الْبَقَرَة: ١٤٣]، وَذَلِكَ الْيَوْمُ هُوَ يَوْمُ الْحَشْرِ، وَشَهَادَةُ الرُّسُلِ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ نَصْرِهِمْ عَلَيْهِمْ وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْمُؤْمِنِينَ.
ويَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنَ الظَّرْفِ. وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ: الْمُشْرِكُونَ. وَالْمَعْذِرَةُ اسْمُ مَصْدَرِ اعْتَذَرَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٦٤].
وَظَاهِرُ إِضَافَةِ الْمَعْذِرَةِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ أَنَّهُمْ تَصْدُرُ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ مَعْذِرَةٌ يَعْتَذِرُونَ بِهَا عَنِ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُمُ الْعَذَابَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا [الْأَعْرَاف: ٣٨] وَهَذَا لَا يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: ٣٦] الَّذِي هُوَ فِي انْتِفَاءِ الِاعْتِذَارُ مِنْ أَصْلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الِاعْتِذَارَ هُوَ الِاعْتِذَارُ الْمَأْذُونُ فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ فِي سُورَةِ الرُّومِ [٥٧].
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ لَا يَنْفَعُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ وَهُوَ «مَعْذِرَةُ» غَيْرُ حَقِيقِيُّ التَّأْنِيثِ وَلِلْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ بِالْمَفْعُولِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى اعْتِبَارِ التَّأْنِيثِ اللَّفْظِيِّ.
ولَهُمُ اللَّعْنَةُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ أَيْ وَيَوْمَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ.
168
وَاللَّعْنَةُ: الْبُعْدُ وَالطَّرْدُ، أَيْ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ هِيَ جَهَنَّمُ. وَتَقْدِيمُ (لَهُمْ) فِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ لِلِاهْتِمَامِ بالانتقام مِنْهُم.
[٥٣- ٥٤]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٥٣ إِلَى ٥٤]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤)
هَذَا مِنْ أَوْضَحِ مَثَلِ نَصْرِ اللَّهِ رُسُلَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ وَهُوَ أَشْبَهُ الْأَمْثَالِ بِالنَّصْرِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤمنِينَ فَإِنَّ نَصْرَ مُوسَى عَلَى قَوْمِ فِرْعَوْنَ كَوَّنَ اللَّهُ بِهِ أُمَّةً عَظِيمَةً لَمْ تَكُنْ يُؤْبَهُ بِهَا وَأُوتِيَتْ شَرِيعَةً عَظِيمَةً وَمُلْكًا عَظِيمًا، وَكَذَلِكَ كَانَ نَصْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَكَانَ أَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ وَأَكْمَلَ وَأَشْرَفَ.
فَجُمْلَةُ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى إِلَخْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غَافِر:
٥١] وَبَيْنَ التَّفْرِيعِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [غَافِر: ٥٥]، وَأَيُّ نَصْرٍ أَعْظَمُ مِنَ الْخَلَاصِ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَالْقِلَّةِ وَالتَّبَعِ لِأُمَّةٍ أُخْرَى فِي أَحْكَامٍ تُلَائِمُ أَحْوَالَ الْأُمَّةِ التَّابِعَةِ، إِلَى مَصِيرِ الْأُمَّةِ مَالِكَةِ أَمْرِ نَفْسِهَا ذَاتِ شَرِيعَةٍ مُلَائِمَةٍ لِأَحْوَالِهَا وَمَصَالِحِهَا وَسِيَادَةٍ عَلَى أُمَمٍ أُخْرَى، وَذَلِكَ مِثْلُ الْمُسْلِمِينَ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعْدَهُ وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى الْوَعْدِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ الَّذِي كَذَّبَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ بَاقٍ مَوْرُوثٌ فِي الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَالْهُدَى الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى هُوَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى الدِّينِ الْحَقِّ، أَيِ الرِّسَالَةِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَهِيَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ، أَيِ التَّوْرَاةِ، وَهُوَ الَّذِي أَوْرَثَهُ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَيْ جَعَلَهُ بَاقِيًا فِيهِمْ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُمْ وَرِثُوهُ عَنْ مُوسَى، أَيْ أَخَذُوهُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ وَأَبْقَاهُ اللَّهُ لَهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَإِطْلَاقُ الْإِيرَاثِ اسْتِعَارَةٌ. وَفِي ذَلِكَ إِيذَانٌ بِأَنَّ الْكِتَابَ مِنْ جُمْلَةِ الْهُدَى الَّذِي أُوتِيَهُ مُوسَى، قَالَ تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: ٤٤]، فَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ تَقْدِيرُهُ: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَالْكِتَابَ وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ، فَإِنَّ مُوسَى أُوتِيَ مِنَ الْهُدَى مَا لَمْ يَرِثْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُوَ الرِّسَالَةُ وَأُوتِيَ مِنَ الْهُدَى مَا أُورِثَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ.
وهُدىً وذِكْرى حَالَانِ مِنَ الْكِتابَ، أَيْ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَذِكْرَى
لَهُمْ، فَفِيهِ عِلْمُ مَا لَمْ يَعْلَمْهُ الْمُتَعَلِّمُونَ، وَفِيهِ ذِكْرَى لِمَا عَلِمَهُ أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْهُمْ، وَتَشْمَلُ الذِّكْرَى اسْتِنْبَاطَ الْأَحْكَامِ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَهُوَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِالْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ
وَقُضَاتِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ، فَيَكُونُ لِأُولِي الْأَلْبابِ مُتَعَلقا ب ذِكْرى.
وَأولُوا الْأَلْبَابِ: أولو الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ الْقَادِرَةِ على الاستنباط.
[٥٥]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٥٥]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غَافِر: ٥١] أَيْ فَاعْلَمْ أَنَّا نَاصِرُوكَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاصْبِرْ عَلَى مَا تُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِكَ وَلَا تَهِنْ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ. وإِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ وَهِيَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ تُغْنِي غَنَاءَ فَاءِ التَّعْلِيلِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَوَعْدُ اللَّهِ حَقٌّ وَيُفَادُ بِأَنَّ التَّأْكِيدَ الَّذِي هُوَ لِلِاهْتِمَامِ وَالتَّحْقِيقِ.
وَوَعْدُ اللَّهِ هُوَ وَعْدُ رَسُولِهِ بِالنَّصْرِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَفِي غَيْرِ مَا آيَةٍ. وَالْمعْنَى لَا تستبطىء النَّصْرَ فَإِنَّهُ وَاقِعٌ، وَذَلِكَ مَا نُصِرَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيَّامِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ الْفَتْحِ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ وَفِي أَيَّامِ الْغَزَوَاتِ الْأُخْرَى. وَمَا عَرَضَ مِنَ الْهَزِيمَةِ يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ امْتِحَانًا وَتَنْبِيهًا عَلَى سُوءِ مَغَبَّةِ عَدَمِ الْحِفَاظِ عَلَى وَصِيَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يَبْرَحُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ثُمَّ كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَعُطِفَ عَلَى الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ الْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ فَكَانَا دَاخِلَيْنِ فِي سِيَاقِ التَّفْرِيعِ عَلَى الْوَعْد بالنصر رمز إِلَى تَحْقِيقِ الْوَعْدِ لِأَنَّهُ أَمَرَ عَقِبَهُ بِمَا هُوَ مِنْ آثَارِ الشُّكْرِ كِنَايَةً عَنْ كَوْنِ نِعْمَةِ النَّصْرِ حَاصِلَةً لَا مَحَالَةَ، وَهَذِهِ كِنَايَةٌ رَمْزِيَّةٌ.
وَالْأَمْرُ بِالِاسْتِغْفَارِ أَمْرٌ بِأَنْ يَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الْمَغْفِرَةَ الَّتِي اقْتَضَتْهَا النُّبُوءَةُ،
170
أَيِ اسْأَلِ اللَّهَ دَوَامَ الْعِصْمَةِ لِتَدُومَ الْمَغْفِرَةُ، وَهَذَا مَقَامُ التَّخْلِيَةِ عَنِ الْأَكْدَارِ النَّفْسِيَّةِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ أُمَّتَهُ مَطْلُوبُونَ بِذَلِكَ بِالْأَحْرَى كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: ٦٥] وَأَيْضًا فَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِالِاسْتِغْفَارِ تَعَبُّدًا وَتَأَدُّبًا. وَأُمِرَ بِتَسْبِيحِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ، أَيِ الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا فَاقْتَصَرَ عَلَى طَرَفَيْ أَوْقَاتِ الْعَمَلِ.
وَالْعَشِيُّ: آخِرُ النَّهَارِ إِلَى ابْتِدَاءِ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ طَعَامُ اللَّيْلِ عَشَاءً، وَسُمِّيَتِ الصَّلَاةُ الْأَخِيرَةُ بِاللَّيْلِ عِشَاءً. وَالْإِبْكَارُ: اسْمٌ لِبُكْرَةِ النَّهَارِ كَالْإِصْبَاحِ اسْمٌ
لِلصَّبَاحِ، وَالْبُكْرَةُ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ: أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [١١]. وَتَقَدَّمَ الْعَشِيُّ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٢]. وَهَذَا مَقَامُ التَّحَلِّي بِالْكَمَالَاتِ النَّفْسِيَّةِ وَبِذَلِكَ يَتِمُّ الشُّكْرُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَجُعِلَ الْأَمْرَانِ مَعْطُوفَيْنِ عَلَى الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ لِأَنَّ الصَّبْرَ هُنَا لِانْتِظَارِ النَّصْرِ الْمَوْعُودِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْمَرْ بِالصَّبْرِ لَمَّا حَصَلَ النَّصْرُ فِي قَوْلِهِ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْر: ١- ٣] فَإِنَّ ذَلِكَ مَقَامُ مَحْضِ الشُّكْرِ دُونَ الصَّبْرِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ كَمَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَتْحِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ أَمْرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ فِي سُورَةِ غَافِرٍ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِذَلِكَ، لِطَلَبِ دَوَامِ الْمَغْفِرَةِ، وَكَانَ أَمْرُهُ بِهِ فِي سُورَةِ النَّصْرِ بَعْدَ أَنْ أَخْبَرَهُ بِغُفْرَانِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، لِلْإِرْشَادِ إِلَى شُكْرِ نِعْمَةِ النَّصْرِ، وَقَدْ
قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ عِبَادَتِهِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَقَالَ «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»
. وَكَانَ يُكْثِرُ أَنْ
يَقُولَ فِي سُجُودِهِ «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي»
. بَعْدَ نُزُولِ سُورَةِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ [النَّصْر: ١] قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنُ. وَبِحُكْمِ السِّيَاقِ تَعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِفَرْضِ الصَّلَاةِ وَلَا بِأَوْقَاتِهَا وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ فِي سُورَةِ النَّصْرِ
171

[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٥٦]

إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦)
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ.
جَرَى الْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا فِي مَيْدَانِ الرَّدِّ عَلَى مُجَادَلَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَدَحْضِ شُبَهِهِمْ وَتَوَعُّدِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ لَهُمْ بِأَمْثَالِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِنَادِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: ٤] وَقَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ [غَافِر: ٢١]، كَمَا ذُكِرَتْ أَمْثَالُ أَضْدَادِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ وَمَنْ غَبَرَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ [هود: ٩٦، ٩٧] ثُمَّ قَوْلِهِ: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ
آلِ فِرْعَوْنَ
[غَافِر: ٢٨]، وَخَتَمَ ذَلِكَ بِوَعْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ كَمَا نصر النبيئون مِنْ قَبْلِهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ، وَأَمَرَ بِالصَّبْرِ عَلَى عِنَادِ قَوْمِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، فَكَانَ ذِكْرُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ عَقِبَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْمَثَلِ الْمَشْهُورِ: «الشَّيْءُ بِالشَّيْءِ يُذْكَرُ».
وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ انْتَقَلَ هُنَا إِلَى كَشْفِ مَا تُكِنُّهُ صُدُورُ الْمُجَادِلِينَ مِنْ أَسْبَابِ جِدَالِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، لِيَعْلَمَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخِيلَتَهُمْ فَلَا يَحْسَبُ أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَهُ تَنَقُّصًا لَهُ وَلَا تَجْوِيزًا لِلْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَدْفَعُهُمْ إِلَى التَّكْذِيبِ هُوَ التَّكَبُّرُ عَنْ أَنْ يَكُونُوا تَبَعًا لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَرَاءَ الَّذِينَ سَبَقُوهُمْ بِالْإِيمَانِ مِمَّنْ كَانُوا لَا يعبأون بِهِمْ. وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الْأَنْعَام: ٣٣].
فَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ الْآيَةَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَهُوَ كَالتَّكْرِيرِ لِجُمْلَةِ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ [غَافِر: ٣٥] تَكْرِيرُ تِعْدَادٍ لِلتَّوْبِيخِ عِنْدَ تَنْهِيَةِ غَرَضِ الِاسْتِدْلَالِ كَمَا يُوقَفُ الْمُوَبَّخُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ.
والَّذِينَ يُجادِلُونَ هُمْ مُشْرِكُو أَهْلِ مَكَّةَ وَهُمُ الْمُخْبَرُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ أَوَّلَ السُّورَةِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِر: ٤]. وَمَعْنَى الْمُجَادَلَةِ فِي آيَاتِ الله تقدم هُنَالك.
172
وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: بِغَيْرِ سُلْطانٍ بِ يُجادِلُونَ. وَالْبَاءُ لِلْمُصَاحَبَةِ، أَيْ مُصَاحِبٌ لَهُمْ غَيْرَ سُلْطَانٍ، أَيْ غَيْرَ حُجَّةٍ، أَيْ أَنَّهُمْ يُجَادِلُونَ مُجَادَلَةَ عِنَادٍ وَغَصْبٍ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْقَيْدِ تَشْنِيعُ مُجَادَلَتِهِمْ وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُجَادَلَةَ فِي آيَاتِ اللَّهِ لَا تَكُونُ إِلَّا بِغَيْرِ سُلْطَانٍ لِأَنَّ آيَاتِ اللَّهِ لَا تَكُونُ مُخَالِفَةً لِلْوَاقِعِ فَهَذَا الْقَيْدُ نَظِيرُ الْقَيْدِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَص: ٥٠]، وَكَذَلِكَ وُصِفَ سُلْطانٍ بِجُمْلَةِ أَتاهُمْ لِزِيَادَةِ تَفْظِيعِ مُجَادَلَتِهِمْ بِأَنَّهَا عَرِيَّةٌ عَنْ حُجَّةٍ لَدَيْهِمْ فَهُمْ يُجَادِلُونَ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ أَوَّلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَثْنَاءِ قِصَّةِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ.
وإِنَّ فِي قَوْلِهِ: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ نَافِيَةٌ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وكِبْرٌ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ يُجادِلُونَ. وَأَطْلَقَ الصُّدُورَ عَلَى الْقُلُوبِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْحُلُولِ، وَالْمُرَادُ ضَمَائِرُ أَنْفُسِهِمْ، وَالْعَرَبُ يُطْلِقُونَ الْقَلْبَ عَلَى الْعَقْلِ لِأَنَّ الْقَلْبَ هُوَ الَّذِي يُحِسُّ الْإِنْسَانُ بِحَرَكَتِهِ عِنْدَ الِانْفِعَالَاتِ النَّفْسِيَّةِ مِنَ الْفَرَحِ وَضِدِّهِ وَالِاهْتِمَامِ بِالشَّيْءِ. وَالْكِبْرُ مِنَ الِانْفِعَالَاتِ النَّفْسِيَّةِ، وَهُوَ: إِدْرَاكُ الْإِنْسَانِ
خَوَاطِرَ تُشْعِرُهُ بِأَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا يَرْضَى بِمُسَاوَاتِهِ بَلْهَ مُتَابَعَتِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٤].
وَالْمَعْنَى: مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْمُجَادَلَةِ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الْكِبْرُ عَلَى الَّذِي جَاءَهُمْ بِهَا وَلَيْسَتْ مُجَادَلَتُهُمْ لِدَلِيلٍ لَاحَ لَهُمْ. وَقَدْ أَثْبَتَ لَهُمُ الْكِبْرَ الْبَاعِثَ عَلَى الْمُجَادَلَةِ بِطَرِيقِ الْقَصْرِ لِيَنْفِيَ أَنْ يَكُونَ دَاعِيَهُمْ إِلَى الْمُجَادَلَةِ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهٍ مُؤَكَّدٍ، فَإِنَّ الْقَصْرَ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ إِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِوَجْهٍ مَخْصُوصٍ مُؤَكَّدٍ، وَمِنْ نَفْيِ مَا عَدَاهُ فَتَضَمَّنَ جُمْلَتَيْنِ.
وَجُمْلَةُ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ
173
الصِّفَةِ لِ كِبْرٌ. وَحَقِيقَةُ الْبُلُوغِ: الْوُصُولُ، قَالَ تَعَالَى: إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النَّحْل: ٧] وَيُطْلَقُ عَلَى نَوَالِ الشَّيْءِ وَتَحْصِيلِهِ مَجَازًا مُرْسَلًا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَا بَلَغُوا مِعْشارَ مَا آتَيْناهُمْ [سبأ: ٤٥] وَهُوَ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى الْمَجَازِيِّ لَا مَحَالَةَ، أَيْ مَا هُمْ بِبَالِغِي الْكِبْرِ.
وَإِذْ قَدْ كَانَ الْكِبْرُ مُثْبَتًا حُصُولُهُ فِي نُفُوسِهِمْ إِثْبَاتًا مُؤَكَّدًا بِقَوْلِهِ: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ، تَعَيَّنَ أَنَّ نَفْيَ بُلُوغِهِمُ الْكِبْرَ مُنْصَرِفٌ إِلَى حَالَاتِ الْكِبْرِ: فَإِمَّا أَنْ يُرَادَ نَفْيُ أَهْلِيَّتِهِمْ لِلْكِبْرِ إِذْ هُمْ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْكِبْرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المُنَافِقُونَ: ٨] أَيْ لَا عِزَّةَ حَقًّا لَهُمْ، فَالْمَعْنَى هُنَا: كِبْرُ زَيْفٍ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ نَفْيُ نَوَالِهِمْ شَيْئًا مِنْ آثَارِ كِبْرِهِمْ مِثْلَ تَحْقِيرِ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ عَلَيْهِمْ مِثْلَ احْتِقَارِ الْمُتَكَبِّرِ عَلَيْهِمْ وَمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُمْ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ فَضْلًا عَنِ الِانْتِظَامِ فِي سِلْكِ أَتْبَاعِهِمْ، وَإِذْلَالِهِمْ، وَإِفْحَامِ حُجَّتِهِمْ، فَالْمَعْنَى: مَا هُمْ بِبَالِغِينَ مُرَادَهُمُ الَّذِي يَأْمُلُونَهُ مِنْكَ فِي نُفُوسِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ أَقْوَالُهُمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: ٣٠] وَقَوْلِهِمْ: لَا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت: ٢٦] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمُ الْكَاشِفَةِ لِآمَالِهِمْ.
فَتَنْكِيرُ: كِبْرٌ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ كِبْرٌ شَدِيدٌ بِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهِ، وَتَمَكُّنِهِ مِنْ نُفُوسِهِمْ، فَالضَّمِيرُ الْبَارِزُ فِي بِبالِغِيهِ عَائِدٌ إِلَى الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ بِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ أَوِ الْمُسَبَّبِيَّةِ، وَالدَّاعِي إِلَى هَذَا الْمَجَازِ طَلَبُ الْإِيجَازِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ نَفْيِ الْبُلُوغِ بِاسْمِ ذَاتِ الْكِبْرِ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْأَحْوَالِ الَّتِي يُثِيرُهَا الْكِبْرُ، وَهَذَا مِنْ مَقَاصِدِ إِسْنَادِ الْأَحْكَامِ إِلَى الذَّوَاتِ إِنْ لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ [الزخرف: ٣٢] أَيْ
جَمِيعَ أَحْوَالِ مَعِيشَتِهِمْ. فَشِمَلَ قَوْلُهُ: مَا هُمْ بِبالِغِيهِ عَدَمَ بُلُوغِهِمْ شَيْئًا مِمَّا يَنْطَوِي عَلَيْهِ كِبْرُهُمْ، فَمَا بَلَغُوا الْفَضْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ حَتَّى يَتَكَبَّرُوا، وَلَا مَطْمَعَ لَهُمْ فِي حُصُولِ آثَارِ كِبْرِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الْفرْقَان: ٢١].
وَقَدْ نُفِيَ أَنْ يَبْلُغُوا مُرَادَهُمْ بِصَوْغِهِ فِي قَالَبِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِإِفَادَتِهَا ثَبَاتَ مَدْلُولِهَا وَدَوَامِهِ، فَالْمَعْنَى، أَنَّهُمْ مَحْرُومُونَ مِنْ بُلُوغِهِ حِرْمَانًا مُسْتَمِرًّا، فَاشْتَمَلَ تَشْوِيهُ حَالِهِمْ إِثْبَاتًا وَنَفْيًا عَلَى خُصُوصِيَّاتٍ بَلَاغِيَّةٍ كَثِيرَةٍ.
174
وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ من جعل مَا صدق: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ هُنَا الْيَهُودَ، وَجَعَلَهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النِّسَاء: ٥٤]، وَارْتَقَى بِذَلِكَ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ أُلْحِقَتْ بِالسُّورَةِ الْمَكِّيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ، وَأَيَّدُوا تَفْسِيرَهُمْ هَذَا بِآثَارٍ لَوْ صَحَّتْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ صُلُوحِيَّةِ الْآيَةِ لَأَنْ تُضْرَبَ مَثَلًا لِكُلِّ فَرِيقٍ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ جدالا يدفعهم إِلَيْهِم الْكِبْرُ.
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَمَّا ضَمِنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَهُ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ يَحْدُوهُمْ إِلَى الْجِدَالِ كِبْرُهُمُ الْمُنْطَوِي عَلَى كَيْدِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يبلغون من أَضْمَرُوهُ وَمَا يُضْمِرُونَهُ، فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَجْعَلَ اللَّهَ مَعَاذَهُ مِنْهُمْ، أَيْ لَا يَعْبَأُ بِمَا يُبَيِّتُونَهُ، أَيْ قَدِّمْ عَلَى طَلَبِ الْعَوْذِ بِاللَّهِ.
وَحَذَفَ مُتَعَلِّقَ (اسْتَعِذْ) لِقَصْدِ تَعْمِيمِ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُخَافُ مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالدَّوَامِ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ، أَيْ لِأَنَّهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَأَنْتَ لَا تُحِيطُ عِلْمًا بِتَصَارِيفِ مَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ.
وَالتَّوْكِيدُ بِحَرْفِ (إِنَّ)، وَالْحَصْرِ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ مُرَاعًى فِيهِ التَّعْرِيضُ بِالْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى إِبْطَالِ مَا يَصْنَعُونَهُ لَا أَنْتَ فَكَيْفَ يَتِمُّ لَهُمْ مَا أضمروه لَك.
[٥٧]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٥٧]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٥٧)
مُنَاسَبَةُ اتِّصَالِ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ أَنَّ أَهَمَّ مَا جَادَلُوا فِيهِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ هِيَ الْآيَاتُ الْمُثْبِتَةُ لِلْبَعْثِ وَجِدَالُهُمْ فِي إِثْبَاتِ الْبَعْثِ هُوَ أَكْبَرُ شُبْهَةٍ لَهُمْ ضَلَّلَتْ أَنْفُسَهُمْ
175
وَرَوَّجُوهَا فِي
عامّتهم فَقَالُوا: أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرَّعْد: ٥]. فَكَانُوا يَسْخَرُونَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: ٧، ٨]، وَلَمَّا كَانُوا مُقِرِّينَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أُقِيمَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ عَلَى إِثْبَاتِ الْبَعْثِ بِأَنَّ بَعْثَ الْأَمْوَاتِ لَا يبلغ أمره مِقْدَار أَمر خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْكَلَامُ مُؤْذِنٌ بِقَسَمٍ مُقَدَّرٍ لِأَنَّ اللَّامَ لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ، وَالْمَقْصُودُ: تَأْكِيدُ الْخَبَرِ.
وَمَعْنَى أَكْبَرُ أَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَهَمُّ وَأَكْثَرُ مُتَعَلَّقَاتِ قُدْرَةٍ بِالْقَادِرِ عَلَيْهِ لَا يَعْجِزُ عَنْ خَلْقِ نَاسٍ يَبْعَثُهُمْ لِلْحِسَابِ.
فَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ خَلْقِ النَّاسِ الَّذِينَ يُعِيدُ اللَّهُ خِلْقَتَهُمْ كَمَا بَدَأَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَيُودِعُ فِيهِمْ أَرْوَاحَهُمْ كَمَا أَوْدَعَهَا فِيهِمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ مَعْنَاهُ لِأَنَّ كَوْنَ خَلْقِهَا أَكْبَرَ هُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ وَإِنَّمَا أُرِيدَ التَّذْكِيرُ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُوجِبِ عِلْمِهِمْ بِهِ.
وَمُوقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مَا اقْتَضَاهُ التَّوْكِيدُ بِالْقِسْمِ مِنَ اتِّضَاحِ أَنَّ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ حُجَّةَ إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَاضِحَةٌ وَلَكِنَّ الَّذِينَ يُنْكِرُونَهَا لَا يَعْلَمُونَ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ الدَّلِيلَ لِأَنَّهُمْ مُتَلَاهُونَ عَنِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ مُقْتَنِعُونَ بِبَادِئِ الْخَوَاطِرِ الَّتِي تَبْدُو لَهُمْ فَيَتَّخِذُونَهَا عَقِيدَةً دُونَ بَحْثٍ عَنْ مُعَارِضِهَا، فَلَمَّا جَرَوْا عَلَى حَالَةِ انْتِقَاءِ الْعِلْمِ نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُمْ فَلِذَلِكَ نَزَلَ فِعْلُ يَعْلَمُونَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ وَلَمْ يُذْكَرْ لَهُ مَفْعُولٌ.
فَالْمُرَادُ بِ أَكْثَرَ النَّاسِ هُمُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ الْبَعْثِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ عَلِمُوا ذَلِكَ فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ أَقَلُّ مِنْهُمْ عَدَدًا. وَإِظْهَارُ لَفْظِ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ:
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مَعَ أَنَّ
176
مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِضْمَارُ، لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِالدَّلَالَةِ فَتَصْلُحُ لِأَنْ تَسِيرَ مَسِيرَ الْأَمْثَالِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ لِاسْتِبْعَادِهِمْ خَلْقَ الْأَجْسَامِ مَعَ أَنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَا لَا يَبْقَى مَعَهُ اسْتِبْعَادٌ مثل ذَلِك.
[٥٨]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٥٨]
وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ (٥٨)
لَمَّا نَزَّلَهُمْ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْلَمُ ضَرَبَ مَثَلًا لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَمَثَلُ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ مَعَ وُضُوحِ إِمْكَانِهِ مَثَلُ الْأَعْمَى، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ حَالَ الْبَصِيرِ، وَقَدْ عُلِمَ حَالُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ مَفْهُومِ صِفَةِ أَكْثَرَ النَّاسِ لِأَنَّ الْأَكْثَرِينَ مِنَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ يُقَابِلُهُمْ أَقَلُّونَ يَعْلَمُونَ. وَالْمَعْنَى: لَا يَسْتَوِي الَّذِينَ اهْتَدَوْا وَالَّذِينَ هُمْ فِي ضَلَالٍ، فَإِطْلَاقُ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ اسْتِعَارَة لِلْفَرِيقَيْنِ الَّذين تَضَمَّنَهُمَا قَوْلُهُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِر: ٥٧].
وَنَفْيُ الِاسْتِوَاءِ بَيْنَهُمَا يَقْتَضِي تَفْضِيلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٥]، وَمِنَ الْمُتَبَادَرِ أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ صَاحِبُ الْحَالِ الْأَفْضَلِ وَهُوَ الْبَصِيرُ إِذْ لَا يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي أَنَّ الْبَصَرَ أَشْرَفُ مِنَ الْعَمَى فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَنَفْيُ الِاسْتِوَاءِ بِدُونِ مُتَعَلِّقٍ يَقْتَضِي الْعُمُومَ فِي مُتَعَلِّقَاتِهِ، لَكِنَّهُ يُخَصُّ بِالْمُتَعَلِّقَاتِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا سِيَاقُ الْكَلَامِ وَهِيَ آيَاتُ اللَّهِ وَدَلَائِلُ صِفَاتِهِ، وَيُسَمَّى مِثْلُ هَذَا الْعُمُومِ الْعُمُومَ الْعُرْفِيَّ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهَا فِي سُورَةِ فَاطِرٍ [١٩].
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ زِيَادَةُ بَيَانٍ لِفَضِيلَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِذِكْرِ فَضِيلَتِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ فَضْلِهِمْ فِي إِدْرَاكِ أَدِلَّةِ إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَدِلَّةِ الْإِيمَانِ. وَالْمَعْنَى: وَمَا يَسْتَوِي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَالْمُسِيئُونَ، أَيْ فِي أَعْمَالِهِمْ كَمَا يُؤْذِنُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى
177
اخْتِلَافِ جَزَاء الْفَرِيقَيْنِ وَهَذَا الْإِيمَاءُ إِدْمَاجٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ آمَنُوا عَاطِفَةٌ الْجُمْلَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ بِتَقْدِيرِ: وَمَا يَسْتَوِي الَّذِينَ آمَنُوا.
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا الْمُسِيءُ عَاطِفَةٌ الْمُسِيءُ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا عَطَفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ، فَالْعَطْفُ الْأَوَّلُ عَطْفُ الْمَجْمُوعِ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ [الْحَدِيد: ٣].
وَإِنَّمَا قَدَّمَ ذِكْرَ الْأَعْمَى عَلَى ذِكْرِ الْبَصِيرِ مَعَ أَنَّ الْبَصَرَ أَشْرَفُ مِنَ الْعَمَى بِالنِّسْبَةِ لِذَاتٍ وَاحِدَةٍ، وَالْمُشَبَّهَ بِالْبَصِيرِ أَشْرَفُ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِالْأَعْمَى إِذِ الْمُشَبَّهُ بالبصير الْمُؤْمِنُونَ، فَقدم ذَكَرَ تَشْبِيهَ الْكَافِرِينَ مُرَاعَاةً لِكَوْنِ الْأَهَمِّ فِي الْمَقَامِ بَيَانَ حَالِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي الْآيَاتِ إِذْ هُمُ الْمَقْصُودُ بِالْمَوْعِظَةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ فَإِنَّمَا رَتَّبَ فِيهِ ذِكْرَ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى عَكْسِ تَرْتِيبِهِ فِي التَّشْبِيهِ بِالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ اهْتِمَامًا بِشَرَفِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَأُعِيدَتْ (لَا) النَّافِيَةُ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ عَلَى النَّفْيِ، وَكَانَ الْعَطْفُ مُغْنِيًا عَنْهَا فإعادتها لإِفَادَة تَأْكِيدَ نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ وَمَقَامُ التَّوْبِيخِ يَقْتَضِي الْإِطْنَابَ، وَلِذَلِكَ تُعَدُّ (لَا) فِي مِثْلِهِ زَائِدَةً كَمَا فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ»، وَكَانَ الظَّاهِرُ أَنْ تَقَعَ (لَا) قَبْلَ (الَّذِينَ آمَنُوا)، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ عَدَمُ مُسَاوَاةِ الْمُسِيءِ لِمَنْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ، وَأَنَّ ذِكْرَ الَّذِينَ آمَنُوا قَبْلَ الْمُسِيءِ لِلِاهْتِمَامِ بِالَّذِينَ آمَنُوا وَلَا مُقْتَضِيَ لِلْعُدُولِ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ قُضِيَ حَقُّ الاهتمام بالذين سبق الْكَلَامُ لِأَجْلِ تَمْثِيلِهِمْ، فَحَصَلَ فِي الْكَلَامِ اهْتِمَامَانِ.
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا فِي سُورَةِ فَاطِرٍ فِي أَرْبَعِ جُمَلٍ: اثْنَتَيْنِ قُدِّمَ فِيهِمَا جَانِبُ تَشْبِيهِ الْكَافِرِينَ، وَاثْنَتَيْنِ قُدِّمَ فِيهِمَا تَشْبِيهُ جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ [فاطر: ١٩- ٢٢].
وقَلِيلًا حَالٌ مِنْ أَكْثَرَ النَّاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى قَبْلَهُ:
178
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، و (مَا) فِي قَوْله: مَا تَتَذَكَّرُونَ مَصْدَرِيَّةٌ وَهِيَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ.
وَهَذَا مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّ قلَّة التَّذَكُّر تؤول إِلَى عَدَمِ الْعِلْمِ، وَالْقِلَّةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْعَدَمِ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ [الْبَقَرَة: ٨٨]، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى صَرِيحِ مَعْنَاهَا وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْقِلَّةِ عَدَمَ التَّمَامِ، أَيْ لَا يَعْلَمُونَ فَإِذَا تَذَكَّرُوا تذكرا لَا يتممونه فَيَنْقَطِعُونَ فِي أَثْنَائِهِ عَنِ التَّعَمُّقِ إِلَى اسْتِنْبَاطِ الدَّلَالَةِ مِنْهُ فَهُوَ كَالْعَدَمِ فِي عَدَمِ تَرَتُّبِ أَثَرِهِ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَتَذَكَّرُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ جَرْيًا عَلَى مُقْتَضَى ظَاهِرِ الْكَلَامِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ تَتَذَكَّرُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ عَلَى الِالْتِفَاتِ، وَالْخِطَابُ لِلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ.
وَكَوْنُ الْخِطَابِ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ مِنْ مُؤْمِنِينَ وَمُشْرِكِينَ وَأَنَّ التَّذَكُّرَ الْقَلِيلَ هُوَ تَذَكُّرُ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِعَدَمِ تَذَكُّرِ الْمُشْرِكِينَ بَعِيدٌ عَنْ سِيَاقِ الرَّدِّ وَلَا يلاقي الِالْتِفَات.
[٥٩]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٥٩]
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (٥٩)
لَمَّا أُعْطِيَ إِثْبَاتُ الْبَعْثِ مَا يَحِقُّ مِنَ الْحِجَاجِ وَالِاسْتِدْلَالِ، تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِاسْتِخْلَاصِ تَحْقِيقِهِ كَمَا تُسْتَخْلَصُ النَّتِيجَةُ مِنَ الْقِيَاسِ، فَأُعْلِنَ بِتَحْقِيقِ مَجِيءِ السَّاعَةَ وَهِيَ سَاعَةُ الْبَعْثِ إِذِ السَّاعَةَ فِي اصْطِلَاحِ الْإِسْلَامِ عِلْمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى سَاعَةِ الْبَعْثِ، فَالسَّاعَةُ وَالْبَعْثُ
مُتَرَادِفَانِ فِي الْمَآلِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي جَادَلَ فِيهِ الْمُجَادِلُونَ سَيَقَعُ لَا مَحَالَةَ إِذِ انْكَشَفَتْ عَنْهُ شُبَهُ الضَّالِّينَ وَتَمْوِيهَاتُهُمْ فَصَارَ بَيِّنًا لَا رَيْبَ فِيهِ.
وتأكيد الْخَبَر ب (إنّ) وَلَامِ الِابْتِدَاءِ لِزِيَادَةِ التَّحْقِيقِ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الْخَبَرَ تَحَقَّقَ بِالْأَدِلَّةِ السَّابِقَةِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَامَ مُوَجَّهٌ لِلَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَلِهَذَا لَمْ
يُؤْتَ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ طه [١٥] إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَجِيءَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فِي آتِيَةٌ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ، لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّهَا لَمَّا تَحَقَّقَتْ فَقَدْ صَارَتْ كَالشَّيْءِ الْحَاضِرِ الْمُشَاهَدِ. وَالْمُرَادُ تَحْقِيقُ وُقُوعِهَا لَا الْإِخْبَارُ عَنْ وُقُوعِهَا.
وَجُمْلَةُ لَا رَيْبَ فِيها مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ، وَنَفْيُ الرَّيْبِ عَنْ نَفْسِ السَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ نَفْيُهُ عَنْ إِتْيَانِهَا لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: آتِيَةٌ عَلَى ذَلِكَ.
وَمَعْنَى نَفْيِ الرَّيْبِ فِي وُقُوعِهَا: أَنَّ دَلَائِلَهَا وَاضِحَةٌ بِحَيْثُ لَا يُعْتَدُّ بِرَيْبِ الْمُرْتَابِينَ فِيهَا لِأَنَّهُمُ ارْتَابُوا فِيهَا لِعَدَمِ الرَّوِيَّةِ وَالتَّفَكُّرِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ [الْبَقَرَة: ٢].
فَمَوْقِعُ الِاسْتِدْرَاكِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ هُوَ مَا يُثِيرُهُ نَفْيُ الرَّيْبِ عَنْ وُقُوعِهَا مِنْ أَنْ يَتَسَاءَلَ مُتَسَائِلٌ كَيْفَ يَنْفِي الرَّيْبَ عَنْهَا وَالرَّيْبُ حَاصِلٌ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَكَانَ الِاسْتِدْرَاكُ بِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ جَوَابًا لِذَلِكَ السُّؤَالِ.
وَالْمَعْنَى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَمُرُّونَ بِالْأَدِلَّةِ وَالْآيَاتِ وَهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ دَلَالَتِهَا فَيَبْقَوْنَ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِمَدْلُولَاتِهَا وَلَوْ تَأَمَّلُوا وَاسْتَنْبَطُوا بِعُقُولِهِمْ لَظَهَرَ لَهُمْ مِنَ الْأَدِلَّةِ مَا يُؤْمِنُونَ بَعْدَهُ، فَلِذَلِكَ نُفِيَ عَنْهُمْ هُنَا وَصْفُ الْإِيمَانِ.
وَهَذَا الِاسْتِدْرَاكُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، وَلَوْلَا أَنَّ (لَكِنَّ) يَكْثُرُ أَنْ تَقَعَ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ لَكَانَتِ الْجُمْلَةُ جَدِيرَةً بِالْفَصْلِ دُونَ عَطْفٍ، فَهَذَا الْعَطْفُ تَحْلِيَةٌ لَفْظِيَّةٌ.
وأَكْثَرَ النَّاسِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَكْثَرُ مِنَ الْمُؤمنِينَ جدا.
[٦٠]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٦٠]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠)
لَمَّا كَانَتِ الْمُجَادَلَةُ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَشْمَلُ مُجَادَلَتَهُمْ فِي وَحْدَانِيَّةِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
180
قَوْلُهُ الْآتِي، ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ
نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً
[غَافِر: ٧٣، ٧٤]، فَجَعَلَ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا نَقِيضَ مَا قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ، وَتَشْمَلُ الْمُجَادَلَةُ فِي وُقُوعِ الْبَعْثِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَ هَذِهِ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ إِلَى قَوْلِهِ: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: ٦٩- ٧١] الْآيَةَ، أَعْقَبَ ذِكْرَ الْمُجَادَلَةِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِر: ٥٧] وَذَلِكَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ الْآيَةَ تَحْذِيرًا مِنَ الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَأَيْضًا لَمَّا ذُكِرَ أَمْرُ اللَّهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُعَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ أَمْرًا مُفَرَّعًا عَلَى تَوْبِيخِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ:
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [غَافِر: ١٢] وَعَلَى قَوْلِهِ عَقِبَ ذَلِكَ: وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ [غَافِر: ١٣] وَانْتَقَلَ الْكَلَامُ إِثْرَ ذَلِكَ إِلَى الأهمّ وَهُوَ الْأَمر بإنذار الْمُشْركين بقوله: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [غَافِر: ١٨] إِلَخْ، وَتَتَابَعَتِ الْأَغْرَاضُ حَتَّى اسْتَوْفَتْ مُقْتَضَاهَا، عَادَ الْكَلَامُ الْآنَ إِلَى مَا يَشْمَلُ عِبَادَةَ الْمُؤْمِنِينَ الْخَالِصَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَيْضًا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غَافِر: ٥٠]. فَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الدُّعَاءِ بِمَعْنَيَيْهِ: مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَمَعْنَى سُؤَالِ الْمَطْلُوبِ، أَرْدَفَ بِهَذَا الْأَمْرِ الْجَامِعِ لِكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ.
وَالْقَوْلُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِفِعْلِ: قالَ رَبُّكُمُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ النَّفْسِيُّ، أَيْ مَا تَعَلَّقَتْ إِرَادَةُ اللَّهِ تَعَلُّقًا صَلَاحِيًّا، بِأَنْ يَقُولَهُ عِنْدَ إِرَادَةِ تَكْوِينِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْقَوْلُ اللَّفْظِيُّ وَيَكُونَ التَّعْبِيرُ بِ (قَالَ) الْمَاضِي إِخْبَارًا عَنْ أَقْوَالٍ مَضَتْ فِي آيَاتٍ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غَافِر: ١٤] بِخِلَافِ قَوْلِهِ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الْبَقَرَة: ١٨٦] فَإِنَّهُ نَزَلَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَاضِي مُسْتَعْمَلًا فِي الْحَالِ مَجَازًا، أَيْ يَقُولُ رَبُّكُمُ: ادْعُونِي.
وَالدُّعَاءُ يُطْلَقُ بِمَعْنَى النِّدَاءِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلِاعْتِرَافِ بِالْمُنَادَى، وَيُطْلَقُ عَلَى الطَّلَبِ وَقَدْ جَاءَ مِنْ كَلَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِيهِ صَلَاحِيَةُ مَعْنَى الدُّعَاءِ الَّذِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا يُلَائِمُ الْمَعْنَيَيْنِ
فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَإِنَّ
قَوْلَهُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»
يَقْتَضِي اتِّحَادَ الْحَقِيقَتَيْنِ
181
فَإِذَا كَانَ الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةَ كَانَتِ الْعِبَادَةُ هِيَ الدُّعَاءَ لَا مَحَالَةَ.
فَالدُّعَاءُ يُطْلَقُ عَلَى سُؤَالِ الْعَبْدِ مِنَ اللَّهِ حَاجته وَهُوَ ظَاهر مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَخْلُو مِنْ دُعَاءِ الْمَعْبُودِ بِنِدَاءِ تَعْظِيمِهِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِ،
وَهَذَا إِطْلَاقٌ أَقَلُّ شُيُوعًا مِنَ الْأَوَّلِ، وَيُرَادُ بِالْعِبَادَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ إِفْرَادُ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، أَيِ الِاعْتِرَافُ بِوَحْدَانِيَّتِهِ.
وَالِاسْتِجَابَةُ تُطْلَقُ عَلَى إِعْطَاءِ الْمَسْئُولِ لِمَنْ سَأَلَهُ وَهُوَ أَشْهَرُ إِطْلَاقِهَا وَتُطْلَقُ عَلَى أَثَرِ قَبُولِ الْعِبَادَةِ بِمَغْفِرَةِ الشِّرْكِ السَّابِقِ وَبِحُصُولِ الثَّوَابِ عَلَى أَعْمَالِ الْإِيمَانِ فَإِفَادَةُ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى طَلَبِ الْحَاجَةِ مِنَ اللَّهِ يُنَاسِبُ تَرَتُّبَ الِاسْتِجَابَةِ عَلَى ذَلِكَ الطَّلَبِ مُعَلَّقًا عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ أَوْ عَلَى اسْتِيفَاءِ شُرُوطِ قَبُولِ الطَّلَبِ، وَإِعْطَاءِ خَيْرٍ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا، أَوْ إِعْطَاءِ عِوَضٍ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ. وَإِفَادَتِهَا عَلَى مَعْنَى إِفْرَادِ اللَّهِ بِالْعِبَادَةِ، أَيْ بِأَنْ يَتُوبُوا عَنِ الشِّرْكِ، فَتَرَتُّبُ الِاسْتِجَابَةِ هُوَ قَبُولُ ذَلِكَ، فَإِنَّ قَبُولَ التَّوْبَةِ مِنَ الشِّرْكِ مَقْطُوعٌ بِهِ.
فَلَمَّا جَمَعَتِ الْآيَةُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ عَلَى تَفَاوُتٍ بَيْنَ شُيُوعِ الْإِطْلَاقِ فِي كِلَيْهِمَا عَلِمْنَا أَنَّ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ مَا يُشْبِهُ الِاحْتِبَاكَ بِأَنْ صَرَّحَ بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ، فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ ثُمَّ أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الدُّعَاءُ وَالْعِبَادَةُ، وَأَنَّ الِاسْتِجَابَةَ أُرِيدَ بِهَا قَبُولُ الدُّعَاءِ وَحُصُولُ أَثَرِ الْعِبَادَةِ. فَفِعْلُ ادْعُونِي مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيْهِ بِطَرِيقَةِ عُمُومِ الْمُشْتَرَكِ.
وَفِعْلُ أَسْتَجِبْ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَالْقَرِينَةُ مَا عَلِمْتَ، وَذَلِكَ مِنَ الْإِيجَازِ وَالْكَلَامِ الْجَامِعِ.
وَتَعْرِيفُ اللَّهِ بِوَصْفِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِمَا فِي هَذَا الْوَصْفِ وَإِضَافَتِهِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وُجُوبِ امْتِثَالِ أَمْرِهِ لِأَنَّ مِنْ حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ امْتِثَالَ مَا يَأْمُرُ بِهِ مَوْصُوفُهَا لِأَنَّ الْمَرْبُوبَ مَحْقُوقٌ بِالطَّاعَةِ لِرَبِّهِ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَرِّجْ مَعَ هَذَا الْوَصْفِ عَلَى تَذْكِيرٍ بِنِعْمَتِهِ وَلَا إِشَارَةٍ إِلَى كَمَالَاتِ ذَاتِهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ
182
بِالدُّعَاءِ تَعْلِيلًا يُفِيدُ التَّحْذِيرَ مِنْ إِبَايَةِ دُعَاءِ اللَّهِ حِينَ الْإِقْبَالِ عَلَى دُعَاءِ الْأَصْنَامِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا [غَافِر: ١٢] وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ لَا يَضْرَعُونَ إِلَى اللَّهِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَتَوَسَّمُوا اسْتِجَابَةَ شُرَكَائِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [الْإِسْرَاء: ٦٧]. وَمَعْنَى التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالدُّعَاءِ بِهَذَا التَّحْذِيرِ: أَنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ لِعِبَادِهِ مَا يُفْضِي بِهِمْ إِلَى الْعَذَابِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:
٧] فَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى طَلَبِ اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَدْعُوَهُ فِي حَاجَاتِهِمْ.
وَمَشْرُوعِيَّةُ الدُّعَاءِ لَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَنْفَعُ فِي رَدِّ
الْقَدَرِ أَوْ لَا؟ وَهُوَ خِلَافٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ. وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ تَأَوَّلُوا مَعْنَى أَسْتَجِبْ لَكُمْ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٨٦]، وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْمَوْصُولِ إِيمَاءٌ إِلَى التَّعْلِيلِ.
وداخِرِينَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ سَيَدْخُلُونَ أَيْ أَذِلَّةً، دَخَرَ كَمَنَعَ وَفَرِحَ: صَغُرَ وَذَلَّ، وَتَقَدَّمَ قَوْلُهُ: سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٤٨].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَيَدْخُلُونَ بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَضَمِّ الْخَاءِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِضَمِّ التَّحْتِيَّةِ وَفَتْحِ الْخَاءِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلنَّائِبِ، أَيْ سَيُدْخِلُهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَاب جَهَنَّم.
[٦١]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٦١]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (٦١)
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بَدَلًا مِنْ رَبُّكُمُ فِي وَقالَ رَبُّكُمُ [غَافِر: ٦٠] أَتْبَعَ رَبُّكُمُ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ لِيُقْضَى بِذَلِكَ حَقَّانِ: حَقُّ اسْتِحْقَاقِهِ أَنْ يُطَاعَ بِمُقْتَضَى الرُّبُوبِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ، وَحَقُّ اسْتِحْقَاقِهِ الطَّاعَةَ لِصِفَاتِ كَمَالِهِ الَّتِي يَجْمَعُهَا اسْمُ الذَّاتِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤْتَ مَعَ وَصْفِ الرَّبِّ الْمُتَقَدِّمِ بِشَيْءٍ مِنْ ذِكْرِ نِعَمِهِ وَلَا كَمَالَاتِهِ اجْتِزَاءً بِمُقْتَضَى حَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ، وَذَكَرَ مَعَ الِاسْمِ الْعَلَمِ بَعْضَ إِنْعَامِهِ وَإِفْضَالِهِ ثُمَّ وَصَفَ الِاسْمَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ إِشَارَةً إِلَى بَعْضِ صِفَاتِهِ، وَإِيمَاءً إِلَى وَجْهِ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ، وَتَكون الْجُمْلَة استنئافا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ تَقْوِيَةِ الْأَمْرِ بِدُعَائِهِ.
183
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأً وَالْمَوْصُولُ صِفَةً لَهُ وَيَكُونَ الْخَبَرُ قَوْلَهُ:
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [غَافِر: ٦٤] وَيَكُونَ جُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ مُعْتَرِضَةً، أَوْ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْجَلَالَةِ مُبْتَدَأً وَالْمَوْصُولُ خَبَرًا.
وَاعْتِبَارُ الْجُمْلَةِ مُسْتَأْنَفَةً أَحْسَنُ مِنِ اعْتِبَارِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بَدَلًا لِأَنَّهُ أَنْسَبُ بِالتَّوْقِيفِ عَلَى سُوءِ شُكْرِهِمْ، وَبِمَقَامِ تَعْدَادِ الدَّلَائِلِ وَأَسْعَدُ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً [غَافِر: ٦٤]، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةً مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غَافِر: ٦٠]، أَيْ تَسَبَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ الْعِقَابِ لِأَنَّهُمْ كَفَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِذْ جَعَلَ لَهُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَعَلَى هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتِ كُلِّهَا فَقَدْ سَجَّلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّاسِ تَقْسِيمَهُمْ إِلَى: شَاكِرِ نِعْمَةٍ، وَكَفُورِهَا، كَمَا سَجَّلَتْ عَلَيْهِمُ الْآيَةُ السَّابِقَةُ تَقْسِيمَهُمْ إِلَى: مُؤْمِنٍ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ، وَكَافِرٍ بِهَا.
وَهَذِهِ الْآيَةُ لِلتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخَلْقِ كَمَا اقْتَضَاهُ لَامُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ:
لَكُمُ وَاقْتَضَاهُ التَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ. وَأُدْمِجَ فِي التَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ بِالْخَلْقِ، وَالتَّدْبِيرِ الَّذِي هُوَ مُلَازِمٌ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ.
وَابْتُدِئَ الِاسْتِدْلَالُ بِدَلَائِلِ الْأَكْوَانِ الْعُلْوِيَّةِ وَآثَارِهَا الْوَاصِلَةِ إِلَى الْأَكْوَانِ السُّفْلِيَّةِ، وَهِيَ مَظْهَرُ النِّعْمَةِ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَهُمَا تَكْوِينَانِ عَظِيمَانِ دَالَّانِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ مُكَوِّنِهِمَا وَمُنَظِّمِهِمَا وَجَاعِلِهِمَا مُتَعَاقِبَيْنِ، فَنِيطَتْ بِهِمَا أَكْثَرُ مَصَالِحِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَصَالِحِ أَهْلِهِ، فَمِنْ مَصَالِحِ الْعَالَمِ حُصُولُ التَّعَادُلِ بَيْنَ الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ، وَالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ لِتَكُونَ الْأَرْضُ لَائِقَةً بِمَصَالِحِ مَنْ عَلَيْهَا فَتُنْبِتُ الْكَلَأَ وَتُنْضِجُ الثِّمَارَ، وَمِنْ مَصَالِحِ سُكَّانِ الْعَالَمِ سُكُونُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ فِي اللَّيْلِ لِاسْتِرْدَادِ النَّشَاطِ الْعَصَبِيِّ الَّذِي يُعْيِيهِ عَمَلُ الْحَوَاسِّ وَالْجَسَدِ فِي النَّهَارِ، فَيَعُودُ النَّشَاطُ إِلَى الْمَجْمُوعِ الْعَصَبِيِّ فِي الْجَسَدِ كُلِّهِ وَإِلَى الْحَوَاسِّ، وَلَوْلَا ظُلْمَةُ اللَّيْلِ لَكَانَ النَّوْمُ غَيْرَ
184
كَامِلٍ فَكَانَ عَوْدُ النَّشَاطِ بَطِيئًا وَوَاهِنًا وَلَعَادَ عَلَى الْقُوَّةِ الْعَصَبِيَّةِ بِالِانْحِطَاطِ وَالِاضْمِحْلَالِ فِي أَقْرَبِ وَقْتٍ فَلَمْ يَتَمَتَّعِ الْإِنْسَانُ بِعُمُرٍ طَوِيلٍ. وَمِنْهَا انْتِشَارُ النَّاسِ وَالْحَيَوَانِ فِي النَّهَارِ وَتَبَيُّنُ الذَّوَاتِ بِالضِّيَاءِ، وَبِذَلِكَ تَتِمُّ الْمَسَاعِي لِلنَّاسِ فِي أَعْمَالِهِمُ الَّتِي بِهَا انْتِظَامُ أَمْرِ الْمُجْتَمَعِ مِنَ الْمُدُنِ وَالْبَوَادِي، وَالْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مَدَنِيٌّ بِالطَّبْعِ، وَكَادِحٌ لِلْعَمَلِ وَالِاكْتِسَابِ، فَحَاجَتُهُ لِلضِّيَاءِ ضَرُورِيَّةٌ وَلَوْلَا الضِّيَاءُ لَكَانَتْ تَصَرُّفَاتُ النَّاسِ مُضْطَرِبَةً مُخْتَبِطَةً.
وَلِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ إِبْصَارِ النَّاسِ فِي الضِّيَاءِ وَكَثْرَةِ الْفَوَائِدِ الْحَاصِلَةِ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَسْنَدَ الْإِبْصَارَ إِلَى النَّهَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِقُوَّةِ الْمُلَابَسَةِ بَيْنَ الْأَفْعَالِ وَزَمَانِهَا، فَأَسْنَدَ إِبْصَارَ النَّاسِ إِلَى نَفْسِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ سَبَبُ بَعْضِهِ وَسَبَبُ كَمَالِ بَعْضٍ آخَرَ. فَأَمَّا نِعْمَةُ السُّكُونِ فِي اللَّيْلِ فَهِيَ نِعْمَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ رُجُوعُ النَّشَاطِ.
وَفِي ذكر اللَّيْل وَالنَّهَار تَذْكِيرٌ بِآيَةٍ عَظِيمَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ وَهِيَ الشَّمْسُ الَّتِي يَنْشَأُ اللَّيْلُ مِنِ احْتِجَابِ أَشِعَّتِهَا عَنْ نِصْفِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَيَنْشَأُ النَّهَارُ مِنِ انْتِشَارِ شُعَاعِهَا عَلَى النِّصْفِ الْمُقَابِلِ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الِامْتِنَانَ ذَكَرَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ دُونَ الشَّمْسِ، وَقَدْ ذُكِرَتِ الشَّمْسُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى كَانَ الْغَرَضُ الْأَهَمُّ مِنْهَا الدَّلَالَةَ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَالْوَحْدَانِيَّةِ كَقَوْلِهِ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [الْأَنْعَام: ٩٦].
وَدَلَّتْ مُقَابَلَةُ تَعْلِيلِ إِيجَادِ اللَّيْلِ بِعِلَّةِ سُكُونِ النَّاسِ فِيهِ، بِإِسْنَادِ الْإِبْصَارِ إِلَى ذَاتِ
النَّهَارِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ وَإِنَّمَا الْمُبْصِرُونَ النَّاسُ فِي النَّهَارِ، عَلَى احْتِبَاكٍ إِذْ يُفْهَمُ مِنْ كِلَيْهِمَا أَنَّ اللَّيْلَ سَاكِنٌ أَيْضًا، وَأَنَّ النَّهَارَ خُلِقَ لِيُبْصِرَ النَّاسُ فِيهِ إِذِ الْمِنَّةُ بِهِمَا سَوَاءٌ، فَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الْإِيجَازِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَفَنُّنِ أُسْلُوبَيِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. وَلَمْ يُعْكَسْ فَيُقَلْ: جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ سَاكِنًا وَالنَّهَارَ لِتُبْصِرُوا فِيهِ، لِئَلَّا تَفُوتَ صَرَاحَةُ الْمُرَادِ مِنَ السُّكُونِ كَيْلَا يُتَوَهَّمَ أَنَّ سُكُونَ اللَّيْلِ هُوَ شِدَّةُ الظَّلَامِ فِيهِ كَمَا يُقَالُ: لَيْلٌ سَاجٍ، لِقِلَّةِ الْأَصْوَاتِ فِيهِ.
185
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَفِي مَوَاضِعَ أُخْرَى.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ اعْتِرَاض هُوَ كالتذييل لِجُمْلَةِ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ لِأَنَّ الْفَضْلَ يَشْمَلُ جَعْلَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ، وَلِأَنَّ النَّاسِ يَعُمُّ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: جَعَلَ لَكُمُ وَغَيْرَهُمْ مِنَ النَّاسِ.
وَتَنْكِيرُ فَضْلٍ لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَظِيمَةٌ جَلِيلَةٌ وَلِذَلِكَ قَالَ: لَذُو فَضْلٍ وَلَمْ يَقُلْ: لَمُتَفَضِّلٌ، وَلَا لَمُفَضَّلٌ، فَعُدِلَ إِلَى إِضَافَةِ (ذُو) إِلَى فَضْلٍ لِتَأَتِّي التَّنْكِيرِ الْمُشْعِرِ بِالتَّعْظِيمِ. وَعُدِلَ عَنْ نَحْوِ: لَهُ فَضْلٌ، إِلَى لَذُو فَضْلٍ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ (ذُو) مِنْ شَرَفِ مَا يُضَافُ هُوَ إِلَيْهِ.
وَالِاسْتِدْرَاكُ ب لكِنَّ ناشىء عَن لَازم لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ لِأَنَّ الشَّأْنَ أَنْ يَشْكُرَ النَّاسُ رَبَّهُمْ عَلَى فَضْلِهِ فَكَانَ أَكْثَرُهُمْ كَافِرًا بِنِعَمِهِ، وَأَيُّ كُفْرٍ لِلنِّعْمَةِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَتْرُكُوا عِبَادَةَ خَالِقِهِمُ الْمُتَفَضِّلِ عَلَيْهِمْ وَيَعْبُدُوا مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا.
وَخَرَجَ بِ أَكْثَرَ النَّاسِ الْأَقَلُّ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّهُمْ أَقَلُّ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [الْمَائِدَة: ١٠٠]. وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ (النَّاسِ) فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِيَتَكَرَّرَ لَفْظُ النَّاسِ عِنْدَ ذِكْرِ عَدَمِ الشُّكْرِ كَمَا ذُكِرَ عِنْدَ التَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ فَيُسَجِّلُ عَلَيْهِمُ الْكُفْرَانَ بِوَجْهٍ أَصْرَحَ.
وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ وَجْهَ اخْتِلَافِ الْمَنْفِيَّاتِ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [غَافِر: ٥٧] وَقَوْلِهِ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ [غَافِر: ٥٩] وَقَوْلِهِ:
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ، فَقَدْ أَتْبَعَ كُلَّ غَرَضٍ أُرِيدَ إِثْبَاتُهُ بِمَا يُنَاسِبُ حَال منكريه.
186

[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٦٢]

ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢)
اتَّصَلَ الْكَلَامُ عَلَى دَلَائِلِ التَّفَرُّدِ بِالْإِلَهِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
إِلَى قَوْلِهِ: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غَافِر: ٦٢- ٦٥] اتِّصَالَ الْأَدِلَّةِ بِالْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [غَافِر: ٦١]. وَعَدَلَ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ تَعَالَى مَعْلُومٌ مُتَمَيِّزٌ بِأَفْعَالِهِ الْمُنْفَرِدِ بِهَا بِحَيْثُ إِذَا ذُكِرَتْ أَفْعَالُهُ تَمَيَّزَ عَمَّا سِوَاهُ فَصَارَ كَالْمُشَاهَدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ تَلْتَبِسُ إِلَهِيَّتُهُ بِإِلَهِيَّةٍ مَزْعُومَةٍ لِلْأَصْنَامِ فَلَيْسَتْ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا بِهِ شُبْهَةٌ تُلَبِّسُ عَلَيْهِمْ مَا لَا يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ، أَيْ ذَلِكُمْ رَبُّكُمْ لَا غَيْرُهُ وَفِي اسْمِ الْإِشَارَةِ هَذَا تَعْرِيضٌ بِغَبَاوَةِ الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِمْ حَقِيقَةُ إِلَهِيَّتِهِ.
وَقَوْلُهُ: اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ أَخْبَارٌ أَرْبَعَةٌ عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ، ابْتُدِئَ فِيهَا بِالِاسْمِ الْجَامِعِ لِصِفَاتِ الْإِلَهِيَّةِ إِجْمَالًا، وَأَرْدَفَ بِ رَبُّكُمْ أَيِ الَّذِي دَبَّرَ خَلْقَ النَّاسِ وَهَيَّأَ لَهُمْ مَا بِهِ قِوَامُ حَيَاتِهِمْ. وَلَمَّا كَانَ فِي مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ مِنْ مَعْنَى الْخَلْقِ مَا هُوَ خَلْقٌ خَاصٌّ بِالْبَشَرِ بِأَنَّهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا كَمَا خَلَقَهُمْ، وَأَرْدَفَ بِنَفْيِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْ غَيْرِهِ فَجَاءَتْ مَضَامِينُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْأَرْبَعَةِ مُتَرَتِّبَةً بِطَرِيقَةِ التَّرَقِّي، وَكَانَ رَابِعُهَا نَتِيجَةً لَهَا، ثُمَّ فُرِّعَ عَلَيْهَا اسْتِفْهَامٌ تَعْجِيبِيٌّ مِنِ انْصِرَافِهِمْ عَنْ عِبَادَتِهِ إِلَى جَانِبِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ مَعَ وُضُوحِ فَسَادِ إِعْرَاضِهِمْ عَن عِبَادَته.
وفَأَنَّى اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْكَيْفِيَّةِ، وَأَصْلُهُ اسْتِفْهَامٌ عَنِ الْمَكَانِ فَإِذَا جَعَلُوا الْحَالَةَ فِي مَعْنَى الْجَانِبِ وَمَثَارِ الشَّيْءِ اسْتَفْهَمُوا بِ (أَنَّى) عَنِ الْحَالَةِ وَيُشْعِرُ بِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠١].
وتُؤْفَكُونَ تُصْرَفُونَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٣٠]، وَبِنَاؤُهُ لِلْمَجْهُولِ لِإِجْمَالٍ بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِمْ إِذْ سَيُبَيَّنُ بِحَاصِلِ الْجُمْلَة بعده.

[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٦٣]

كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيلِ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهُوَ التَّعْجِيبُ مِنِ انْصِرَافِهِمْ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِمْ خَالِقِهِمْ وَخَالِقِ كُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ مَا يُبَيِّنُ سَبَبَ التَّعْجِيبِ، فَجِيءَ فِي جَانِبِ الْمَأْفُوكِينَ بِالْمَوْصُولِ لِأَن الصِّلَة تومىء إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَعِلَّتِهِ، أَيْ أَنَّ اسْتِمْرَارَهُمْ عَلَى الْجَحْدِ بِآيَاتِ اللَّهِ دُونَ تَأَمُّلٍ وَلَا تَدَبُّرٍ فِي مَعَانِيهَا وَدَلَائِلِهَا يَطْبَعُ نُفُوسَهُمْ عَلَى الِانْصِرَافِ عَنِ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الْوَحْدَانِيَّةِ لَهُ تَعَالَى. فَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْإِفْكِ الْمَأْخُوذِ مِنْ فعل تُؤْفَكُونَ [غَافِر: ٦٢] أَيْ مِثْلُ إِفْكِكُمْ ذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ الْمُخَاطَبِينَ بِقَوْلِهِ:
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ [غَافِر: ٦٢]، وَيَكُونُ الْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ، وَالْمَعْنَى: كَذَلِكَ تُؤْفَكُونَ، أَيْ مِثْلُ إِفْكِكُمْ تُؤْفَكُونَ، وَيَكُونُ التَّشْبِيهُ مُبَالَغَةً فِي أَنَّ إِفْكَهُمْ بَلَغَ فِي كُنْهِ الْإِفْكِ النِّهَايَةَ بِحَيْثُ لَوْ أَرَادَ الْمُقَرِّبُ أَنْ يُقَرِّبَهُ لِلسَّامِعِينَ بِشَبِيهٍ لَهُ لَمْ يَجِدْ شَبِيهًا لَهُ أَوْضَحَ مِنْهُ وَأَجْلَى فِي مَاهِيَّتِهِ فَلَا يَسَعُهُ إِلَّا أَنْ يُشَبِّهَهُ بِنَفْسِهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَأْلُوفَةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣]، وَبِذَلِكَ تَكُونُ صِلَةُ الْمَوْصُولِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ إِيمَاءً إِلَى عِلَّةِ إِفْكِهِمْ تَعْلِيلًا صَرِيحًا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ كُلَّ مَنْ جَحَدَ بِآيَاتِ اللَّهِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ فَيَصِيرُ التَّعْلِيلُ الْمُومَى إِلَيْهِ بِالصِّلَةِ تَعْلِيلًا تَعْرِيضِيًّا لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْإِفْكُ شَأْنَ الَّذِينَ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ كُلِّهِمْ فَقَدْ شَمِلَ ذَلِكَ هَؤُلَاءِ بِحُكْمِ الْمُمَاثَلَةِ. وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ، وَذُكِرَ فِعْلُ الْكَوْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْجَحْدَ بِآيَاتِ اللَّهِ شَأْنُهُمْ وَهِجِّيرَاهُمْ.
وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْأَخْلَاقِ الْعِلْمِيَّةِ، فَإِنَّ الْعُقُولَ الَّتِي تَتَخَلَّقُ بِالْإِنْكَارِ
وَالْمُكَابَرَةِ قَبْلَ التَّأَمُّلِ فِي الْمَعْلُومَاتِ تُصْرَفُ عَنِ انْكِشَافِ الْحَقَائِقِ الْعِلْمِيَّةِ فَتَخْتَلِطُ عَلَيْهَا الْمَعْلُومَاتُ وَلَا تُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ.
[٦٤]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٦٤]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً.
اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ بِنَاءً عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ الَّتِي فَسَّرْنَا بِهَا مَوْقِعَ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [غَافِر: ٦١] كَمَا تَقَدَّمَ فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ تِعْدَادِ دَلَائِلِ انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ وَبِالْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَفْتَضِحَ خَطَلُهُمْ فِي الْإِشْرَاكِ بِهِ وَكُفْرَانِ نِعَمِهِ، فَذَكَّرَهُمْ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِآثَارِ قُدْرَتِهِ فِي إِيجَادِ الْأَعْرَاضِ الْقَائِمَةِ بِجَوَاهِرِ هَذَا الْعَالَمِ، وَهُمَا عَرَضَا الظُّلْمَةِ وَالنُّورِ، وَفِي كِلَيْهِمَا نِعَمٌ عَظِيمَةٌ عَلَى النَّاسِ، وَذَكَّرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِآثَارِ خَلْقِ الْجَوَاهِرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ هِيَ نِعْمَةٌ لَهُمْ، وَفِي خَلْقِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى صُوَرٍ صَالِحَةٍ بِهِمْ، فَأَمَّا إِنْ جَعَلْتَ اسْمَ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ إِلَخْ بَدَلًا مِنْ رَبُّكُمْ فِي وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي [غَافِر: ٦٠]، فَإِنَّ جُمْلَةَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً تَكُونُ مُسْتَأْنَفَةً اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.
وَالْمَوْصُولُ وَصِلَتُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِاسْمِ الْجَلَالَةِ فَيَكُونَ الْخَبَرُ قَوْلَهُ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ وَهُوَ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِثْبَاتُ إِلَهِيَّتِهِ وَحْدَهُ بِدَلِيلِ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مِنْ إِتْقَانِ صُنْعِهِ الْمَمْزُوجِ بِنِعْمَتِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْصُولُ خَبَرًا فَيَكُونُ الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلًا فِي الِامْتِنَانِ وَالِاعْتِبَارِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الِامْتِنَانَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَكُمُ قُدِّمَتِ الْأَرْضُ عَلَى السَّمَاءِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا مَحْسُوسٌ وَذُكِرَتِ السَّمَاءُ بَعْدَهَا كَمَا يُسْتَحْضَرُ الشَّيْءُ بِضِدِّهِ مَعَ قَصْدِ إِيدَاعِ دَلَائِلِ عِلْمِ الْهَيْئَةِ لِمَنْ فِيهِمُ اسْتِعْدَادٌ لِلنَّظَرِ فِيهَا وَتَتَبُّعِ أَحْوَالِهَا عَلَى تَفَاوُتِ الْمَدَارِكِ وَتَعَاقُبِ الْأَجْيَالِ وَاتِّسَاعِ الْعُلُومِ.
وَالْقَرَارُ أَصْلُهُ، مَصْدَرُ قَرَّ، إِذَا سَكَنَ. وَهُوَ هُنَا مِنْ صِفَاتِ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْخَبَرِ عَنِ الْأَرْضِ، فَالْمَعْنَى يَحْتَمِلُ: أَنَّهُ جَعَلَهَا قَارَّةً غَيْرَ مَائِدَةٍ وَلَا مُضْطَرِبَةٍ فَلَمْ تَكُنْ مِثْلَ كُرَةِ الْهَوَاءِ مُضْطَرِبَةً مُتَحَرِّكَةً، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ قَارَّةً لَكَانَ النَّاسُ فِي عَنَاءٍ مِنَ
189
اضْطِرَابِهَا وَتَزَلْزُلِهَا، وَقَدْ يُفْضِي ذَلِكَ بِأَكْثَرِهِمْ إِلَى الْهَلَاكِ وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٣١].
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى جَعَلَ الْأَرْضَ ذَاتَ قَرَارٍ، أَيْ قَرَارٍ لَكُمْ، أَيْ جَعَلَهَا مُسْتَقَرًّا لَكُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٠] أَيْ خَلَقَهَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ تُلَائِمُ الِاسْتِقْرَارَ عَلَيْهَا بِأَنْ جَعَلَهَا يَابِسَةً غَيْرَ سَائِلَةٍ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَ سَطْحَ الْأَرْضِ سَيَّالًا كَالزِّئْبَقِ أَوْ كَالْعَجَلِ فَلَا يَزَالُ الْإِنْسَانُ سَائِخًا فِيهَا يَطْفُو تَارَةً وَيَسِيخُ أُخْرَى فَلَا يَكَادُ يَبْقَى عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، وَذَلِكَ كَوَسَطِ سَبْخَةِ (التاكمرت) (١) الْمُسَمَّاةِ: «شَطَّ الْجَرِيدِ» الْفَاصِلَ بَين «نفطة» و «نفزاوة» مِنَ الْجَنُوبِ التُّونُسِيِّ فَإِنَّ فِيهَا مَسَافَاتٍ إِذَا مَشَتْ فِيهَا الْقَوَافِلُ سَاخَتْ فِي الْأَرْضِ فَلَا يُعْثَرُ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ لَا تَسِيرُ فِيهَا الْقَوَافِلُ إِلَّا بِهُدَاةٍ عَارِفِينَ بِمَسَالِكِ السَّيْرِ فِي عَلَامَاتٍ مَنْصُوبَةٍ، فَكَانَتْ خِلْقَةُ الْأَرْضِ دَالَّةً عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعَلَى دَقِيقِ حِكْمَتِهِ وَعَلَى رَحْمَتِهِ بِالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ الْمَعْمُورِ بِهِمَا وَجْهُ الْأَرْضِ.
وَالْبِنَاءُ: مَا يُرْفَعُ سُمْكُهُ عَلَى الْأَرْضِ لِلِاتِّقَاءِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالْمَطَرِ وَالدَّوَابِّ.
وَوَصْفُ السَّمَاءِ بِالْبِنَاءِ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُسْتَوْفًى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٢].
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.
لَا جَرَمَ أَنَّ حِكْمَةَ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِإِيجَادِ مَا يَحُفُّ بِالْإِنْسَانِ مِنَ الْعَوَالِمِ عَلَى كَيْفِيَّاتٍ مُلَائِمَةٍ لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَرَاحَتِهِ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِإِيجَادِ الْإِنْسَانِ فِي ذَاتِهِ عَلَى كَيْفِيَّةٍ مُلَائِمَةٍ لَهُ مُدَّةَ بَقَاءِ نَوْعِهِ عَلَى الْأَرْضِ وَتَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ التَّذْكِيرَ بِمَا مَهَّدَ لَهُ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، بِالتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ خلقه خلقا مُسْتَوْفِيًا مَصْلَحَتَهُ وَرَاحَتَهُ.
_________
(١) التاكمرت كلمة بلغَة البربر بِمَعْنى السبخة.
190
وَعَبَّرَ عَنْ هَذَا الْخَلْقِ بِفِعْلِ صَوَّرَكُمْ لِأَنَّ التَّصْوِيرَ خَلْقٌ عَلَى صُورَةٍ مُرَادَةٍ تُشْعِرُ بِالْعِنَايَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ [الْأَعْرَاف: ١١] فَاقْتَضَى حُسْنَ الصُّوَرِ فَلِذَلِكَ عَدَلَ فِي جَانِبِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَنْ فِعْلِ الْجَعْلِ إِلَى فِعْلِ التَّصْوِيرِ بِقَوْلِهِ:
وَصَوَّرَكُمْ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ [الانفطار:
٧، ٨] ثُمَّ صَرَّحَ بِمَا اقْتَضَاهُ فِعْلُ التَّصْوِيرِ مِنَ الْإِتْقَانِ وَالتَّحْسِينِ بِقَوْلِهِ: فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ عَاطِفَةٌ جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ وَدَالَّةٌ عَلَى التَّعْقِيبِ أَيْ أَوْجَدَ صُورَةَ الْإِنْسَانِ فَجَاءَتْ حَسَنَةً.
وَعَطَفَ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ مِنَّةً أُخْرَى فِيهَا عِبْرَةٌ، أَيْ خَلَقَكُمْ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ ثُمَّ أَمَدَّكُمْ بِأَحْسَنِ رِزْقٍ، فَجَمَعَ لَكُمْ بَيْنَ الْإِيجَادِ وَالْإِمْدَادِ، وَلَمَّا كَانَ الرِّزْقُ شَهْوَةً فِي ظَاهِرِهِ وَكَانَ مُشْتَمِلًا عَلَى حِكْمَةِ إِمْدَادِ الْجِسْمِ بِوَسَائِلِ تَجْدِيدِ قُوَاهُ الْحَيَوِيَّةِ وَكَانَ فِي قَوْلِهِ:
وَرَزَقَكُمْ إِيمَاءٌ إِلَى نِعْمَةِ طُولِ الْوُجُودِ فَلَمْ يَكُنِ الْإِنْسَانُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي تَظْهَرُ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ تَضْمَحِلُّ فِي زَمَنٍ قَرِيبٍ وَجَمَعَ لَهُ بَيْنَ حُسْنِ الْإِيجَادِ وَبَيْنَ حُسْنِ الْإِمْدَادِ فَجَعَلَ مَا بِهِ مَدَدُ الْحَيَاةِ وَهُوَ الرِّزْقُ مِنْ أَحْسَنِ الطَّيِّبَاتِ عَلَى خِلَافِ رِزْقِ بَقِيَّةِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ.
ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ مَوْقِعُ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ كَمَوْقِعِ نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا. وَإِعَادَةُ هَذَا تَكْرِيرٌ لِلتَّوْقِيفِ عَلَى خَطَلِ رَأْيِهِمْ فِي عِبَادَةِ غَيْرِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، بِقَرِينَةِ مَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [غَافِر: ٦٢]، وَقَرِينَةِ قَوْلِهِ هُنَا: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غَافِر: ٦٥].
وَفُرِّعَ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ بَدَائِعِ صُنْعِهِ وَجَزِيلِ منّه. أَن أنش ئ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِمَا يُفِيدُ اتِّصَافَهُ بِعَظِيمِ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَقَالَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ، وَفِعْلُ تَبَارَكَ صِيغَةُ مُفَاعَلَةٍ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي قُوَّةِ مَا اشْتُقَّ مِنْهُ الْفِعْلُ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ اسْمٍ جَامِدٍ وَهُوَ الْبَرَكَةُ، وَالْبَرَكَةُ: اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى تَزَايُدِ الْخَيْرِ. وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ مَعَ فِعْلِ
191
تَبَارَكَ دُونَ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرٍ مَعَ تَقَدُّمِ اسْمِهِ، فَالْإِظْهَارُ لِتَكُونَ الْجُمْلَةُ كَلِمَةَ ثَنَاءٍ مُسْتَقِلَّةً.
ورَبِّ الْعالَمِينَ خَالِقُ أَجْنَاسِ الْعُقَلَاءِ مِنَ النَّاسِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ. وَهَذَا الْوَصْفُ مِنْ تَمَامِ الْإِنْشَاءِ لِأَنَّ فِي ذِكْرِ رُبُوبِيَّتِهِ لِلْعَالَمِينَ وَهُمْ أَشْرَفُ أَجنَاس الموجودات استحضارا لِمَا أَفَاضَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ خَيْرَاتِ الإيجاد والإمداد.
[٦٥]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٦٥]
هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥)
هُوَ الْحَيُّ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.
اسْتِئْنَافٌ ثَالِثٌ لِلِارْتِقَاءِ فِي إِثْبَاتِ إِلَهِيَّتِهِ الْحَقِّ بِإِثْبَاتِ مَا يُنَاسِبُهَا وَهُوَ الْحَيَاةُ الْكَامِلَةُ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَدِّمَةٌ لِجُمْلَةِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَإِثْبَاتُ الْحَيَاةِ الْوَاجِبَةِ لِذَاتِهِ فَإِنَّ الَّذِي رَبَّ الْعَالَمِينَ وَأَوْجَدَهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ وَأَمَدَّهُمْ بِمَا بِهِ قَوَامُهُمْ عَلَى مَمَرِّ الْأَزْمَانِ لَا جَرَمَ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْحَيَاةِ الْحَقِّ لِأَنَّ مُدَبِّرَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى طُولِ الْعُصُورِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا بِالْحَيَاةِ، إِذِ الْحَيَاةُ (مَعَ مَا عَرَضَ مِنْ عُسْرٍ فِي تَعْرِيفِهَا عِنْدَ الْحُكَمَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ) هِيَ صِفَةٌ وُجُودِيَّةٌ تُصَحِّحُ لِمَنْ قَامَتْ بِهِ الْإِدْرَاكَ وَالْإِرَادَةَ وَالْفِعْلَ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨].
فَإِنْ كَانَ اتِّصَافُ مَوْصُوفِهَا بِهَا مَسْبُوقًا بِعَدَمٍ فَهِيَ حَيَاةٌ مُمْكِنَةٌ عَارِضَةٌ مِثْلُ حَيَاةِ الْمَلَائِكَةِ وَحَيَاةِ الْأَرْوَاحِ وَحَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَحَيَاةِ الْحَيَوَانِ وَحَيَاةِ الْأَسَارِيعِ، فَتَكُونُ مُتَفَاوِتَةً فِي مَوْصُوفَاتِهَا بِتَفَاوُتِ قُوَّتِهَا فِيهَا وَمُتَفَاوِتَةً فِي مَوْصُوفِهَا الْوَاحِدِ بِتَفَاوُتِ أَزْمَانِهَا مِثْلَ تَفَاوُتِ حَيَاةِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي وَقْتِ شَبَابِهِ، وَحَيَاتِهِ فِي وَقْتِ هِرَمِهِ وَمِثْلَ حَيَاةِ الشَّخْصِ وَقْتَ نَشَاطِهِ وَحَيَاتِهِ وَقْتَ نَوْمِهِ، وَبِذَلِكَ التَّفَاوُتِ تَصِيرُ إِلَى الخفوت ثمَّ إِلَى الزَّوَالِ، وَيَظْهَرُ أَثَرُ تَفَاوُتِهَا فِي تَفَاوُتِ آثَارِهَا مِنَ الْإِدْرَاكِ وَالْإِرَادَةِ وَالْفِعْلِ.
وَإِنْ كَانَ اتِّصَافُ مَوْصُوفِهَا بِهَا أَزَلِيًّا غَيْرَ مَسْبُوقٍ بِعَدَمٍ فَهِيَ حَيَاةُ وَاجِبِ الْوُجُودِ سُبْحَانَهُ وَهِيَ حَيَاةٌ وَاجِبَةٌ ذَاتِيَّةٌ. وَهِيَ الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُعَرَّضَةٍ لِلنَّقْصِ وَلَا لِلزَّوَالِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْحَيُّ حَقِيقَةً هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا أَنْبَأَتْ عَنْهُ صِيغَةُ الْحَصْرِ فِي
192
قَوْلِهِ: هُوَ الْحَيُّ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِحَيَاةِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْأَحْيَاءِ لِأَنَّهَا عَارِضَةٌ وَمُعَرَّضَةٌ لِلْفَنَاءِ وَالزَّوَالِ.
فَمَوْقِعُ قَوْلِهِ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ مَوْقِعُ النَّتِيجَةِ مِنَ الدَّلِيلِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ سِوَاهُ لَا حَيَاةَ لَهُ وَاجِبَةٌ، فَهُوَ مُعَرَّضٌ لِلزَّوَالِ فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَهًا مُدَبِّرًا لِلْعَالَمِ. وَجَمِيعُ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هُوَ بَيْنَ مَا لَمْ يَتَّصِفْ بِالْحَيَاةِ تَمَامًا كَالْأَصْنَامِ مِنَ الْحِجَارَةِ أَوِ الْخَشَبِ أَوِ الْمَعَادِنِ. وَمِثْلَ
الْكَوَاكِبِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالشَّجَرِ، وَبَيْنَ مَا اتَّصَفَ بِحَيَاةٍ عَارِضَةٍ غَيْرِ زَائِلَةٍ كَالْمَلَائِكَةِ، وَبَيْنَ مَا اتَّصَفَ بِحَيَاةٍ عَارِضَةٍ زَائِلَةٍ مِنْ مَعْبُودَاتِ الْبَشَرِ مثل (بوذة) و (برهما) بَلْهَ الْمَعْبُودَاتِ مِنَ الْبَقَرِ وَالثَّعَابِينَ. قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النَّحْل: ٢٠] أَيْ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدُهُمُ التَّصَرُّفَ بِالْإِيجَادِ وَالْإِحْيَاءِ وَهُوَ مَخْلُوقٌ، أَيْ مُعَرَّضٌ لِلْحَيَاةِ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النَّحْل: ٢١] فَجَعَلَ نَفْيَ الْحَيَاةِ عَنْهُمْ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمَآلِ دَلَالَةً عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهِمْ وَجَعَلَ نَفْيَ إِدْرَاكِ بَعْضِ الْمُدْرِكَاتِ عَنْهُمْ دَلَالَةً عَلَى انْتِفَاءِ إِلَهِيَّتِهِمْ.
وَبَعْدَ اتِّضَاحِ الدَّلَالَةِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ فُرِّعَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ غَيْرَ مُشْرِكِينَ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ لِنُهُوضِ انْفِرَادِهِ بِاسْتِحْقَاقِ أَنْ يُعْبَدَ.
وَالدُّعَاءُ: الْعِبَادَةُ لِأَنَّهَا يُلَازِمُهَا السُّؤَالُ وَالنِّدَاءُ فِي أَوَّلِهَا وَفِي أَثْنَائِهَا غَالِبًا، لِأَنَّ الدُّعَاءَ عُنْوَانُ انْكِسَارِ النَّفْسِ وَخُضُوعِهَا كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِر: ٦٠] وَكَمَا فِي قَوْلِهِ الْآتِي: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً [غَافِر: ٧٤].
وَالْإِخْلَاصُ: الْإِفْرَادُ وَتَصْفِيَةُ الشَّيْءِ مِمَّا يُنَافِيهِ أَوْ يُفْسِدُهُ.
وَالدِّينُ: الْمُعَامَلَةُ. وَأُطْلِقَ عَلَى الطَّاعَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّهَا أَشَدُّ أَنْوَاعِ الْمُعَامَلَةِ بَيْنَ الْمُطِيعِ وَالْمُطَاعِ. وَالْمَعْنَى: فَإِذْ كَانَ هُوَ الْحَيَّ دُونَ الْأَصْنَامِ وَكَانَ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ فَاعْبُدُوهُ غَيْرَ مُشْرِكِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي عِبَادَتِهِ.
وَيَدْخُلُ فِي مَاهِيَّةِ الْإِخْلَاصِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا تَرْكُ الرِّيَاءِ فِي الْعِبَادَةِ لِأَنَّ الرِّيَاءَ وَهُوَ أَنْ
193
يَقْصِدَ الْمُتَعَبِّدُ مِنْ عِبَادَتِهِ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ سَوَاءٌ كَانَ قَصْدًا مُجَرَّدًا أَوْ مَخْلُوطًا مَعَ قَصْدِ التَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ. كُلُّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ حُصُولِ حَظٍّ فِي تِلْكَ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْحَظُّ فِي جَوْهَرِهَا. وَهَذَا مَعْنَى مَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إِنَّ الرِّيَاءَ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ»
(١).
وَتَقْدِيمُ لَهُ الْمُتَعَلِّقِ بِمُخْلِصِينَ عَلَى مَفْعُولِ مُخْلِصِينَ لِأَنَّهُ الْأَهَمُّ فِي هَذَا الْمَقَامِ بِهِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ تَعَلُّقًا بِمُتَعَلِّقِهِ مِنْ تَعَلُّقِ الْمَفْعُولِ بِعَامِلِهِ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِنْشَاءً لِلثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ أَمْثَالِهَا فِي غَالِبِ مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً بِفِعْلِ فَادْعُوهُ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قَائِلِينَ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْ قُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَرِينَةُ الْمَحْذُوفِ هُوَ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِمَّا يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ كَثِيرًا فَصَارَتْ كَالْمَثَلِ فِي إِنْشَاءِ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ. وَالْمَعْنَى: فَاعْبُدُوهُ بِالْعَمَلِ وَبِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَشُكْرِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا أُرِيدَ بِهِ إِنْشَاءُ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ تَعْلِيمًا لِلنَّاسِ كَيْفَ يَحْمَدُونَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي وُجُوهِ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. أَوْ جَارِيًا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْأَنْعَام: ٤٥] عَقِبَ قَوْلِهِ: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٤٠].
وَعِنْدِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحَمْدُ مَصْدَرًا جِيءَ بِهِ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ عَلَى مَعْنَى الْأَمْرِ، أَيِ احْمَدُوا اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَعُدِلَ بِهِ عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ.
_________
(١) رَوَاهُ الطَّبَرِيّ عَن شَدَّاد بن أَوْس قَالَ: «كُنَّا نعدّ الرِّيَاء على عهد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشّرك الْأَصْغَر.
وَعَن مُحَمَّد بن رَافع بن خديج رَفعه: «إِن أخوف مَا أَخَاف عَلَيْكُم الشّرك الْأَصْغَر قَالُوا: وَمَا الشّرك الْأَصْغَر يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الرِّيَاء..»

. الحَدِيث.
194
وَفَصْلُ الْجُمْلَةِ عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهَا أَسْعَدُ بِالِاحْتِمَالَيْنِ الأول وَالرَّابِع.
[٦٦]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٦٦]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِدَلَالَةِ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ وَالنَّفْسِيَّةِ لِيَجْرُوا عَلَى مُقْتَضَاهَا فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ، فَانْتَقَلَ إِلَى تَقْرِيرِ دَلِيلِ الْوَحْدَانِيَّةِ بِخَبَرِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ بِإِبْطَالِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْمَلَ بِذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَيُبَلِّغَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ فَيَعْلَمُوا أَنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي الْغَفْلَةِ عَنْهَا أَوْ عَدَمِ إِتْقَانِ النَّظَرِ فِيهَا أَوْ قُصُورِ الِاسْتِنْتَاجِ مِنْهَا بَعْدَ أَنْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يُبَيِّنُ لَهُمْ أَنْوَاعًا بِمُخْتَلِفِ الْبَيَانِ مِنْ أَدِلَّةٍ بُرْهَانِيَّةٍ وَتَقْرِيبِيَّةٍ إِقْنَاعِيَّةٍ.
وَأَنَّ هَذَا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا يَدْعُوهُمْ إِلَى مَا يُرِيدُهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ مُمْحِضٌ لَهُمُ النَّصِيحَةَ، وَهَادِيهِمْ إِلَى الْحُجَّةِ لِتَتَظَاهَرَ الْأَدِلَّةُ النَّظَرِيَّةُ بِأَدِلَّةِ الْأَمْرِ الْإِلَهِيِّ بِحَيْثُ يَقْوَى إِبْطَالُ مَذْهَبِهِمْ فِي الشِّرْكِ، فَإِنَّ مَا نَزَلَ مِنَ الْوَحْيِ تَضَمَّنَ أَدِلَّةً عَقْلِيَّةً وَإِقْنَاعِيَّةً وَأَوَامِرَ إِلَهِيَّةً وَزَوَاجِرَ
وَتَرْغِيبَاتٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَحُومُ حَوْلَ إِثْبَاتِ تَفَرُّدِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ تَفَرُّدًا مُطْلَقًا لَا تَشُوبُهُ شَائِبَةُ مُشَارَكَةٍ وَلَوْ فِي ظَاهِرِ الْحَالِ كَمَا تَشُوبُ الْمُشَارَكَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْأُخْرَى فِي مِثْلِ الْمُلْكِ وَالْمِلْكِ وَالْحَمْدِ، وَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَالْكَرَمِ وَالْإِعَانَةِ وَذَلِكَ كَثِيرٌ.
فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي إِبْطَالًا لِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ بِالْقَوْلِ الدَّالِّ عَلَى التَّحْذِيرِ وَالتَّخْوِيفِ بَعْدَ أَنْ أُبْطِلَ ذَلِكَ بِدَلَالَةِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمَقْصُودِ. وَهَذِهِ دَلَالَةٌ كِنَائِيَّةٌ لِأَنَّ النَّهْيَ يَسْتَلْزِمُ التَّحْذِيرَ.
وَذَكَرَ مَجِيءَ الْبَيِّنَاتِ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الْخَبَرِ إِشَارَةً إِلَى طُرُقٍ أُخْرَى مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ تَكَرَّرَتْ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَكَانَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَهُوَ ضَمِيرُ إِنِّي عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ نَحْوَ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ، وَكَانَ تَخْصِيصُ
195
ذَاتِهِ بِهَذَا النَّهْيِ دُونَ تَشْرِيكِهِمْ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ الَّذِي تَقَدَّمَ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي إِبْلَاغِ هَذَا الْقَوْلِ فَكَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حِينِ نَشْأَتِهِ لَمْ يَسْجُدْ لِصَنَمٍ قَطُّ وَكَانَ ذَلِكَ مَصْرَفَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ عَنْ ذَلِكَ إِلْهَامًا إِلَهِيًّا إِرْهَاصًا لِنُبُوءَتِهِ.
ولَمَّا حَرْفٌ أَوْ ظَرْفٌ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَهُمْ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَهِيَ كَلِمَةٌ تُفِيدُ اقْتِرَانَ مَضْمُونِ جُمْلَتَيْنِ تَلِيَانِهَا تُشْبِهَانِ جُمْلَتَيِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، وَلِذَلِكَ يَدْعُونَهَا (لَمَّا) التَّوْقِيتِيَّةَ، وَحُصُولُ ذَلِكَ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، فَقَوْلُهُ: لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي تَوْقِيتٌ لِنَهْيِهِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ بِوَقْتِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ، أَيْ بَيِّنَاتُ الْوَحْيِ فِيمَا مَضَى وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ النَّهْيَ لَمْ يَكُنْ قَبْلَ وَقْتِ مَجِيءِ الْبَيِّنَاتِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ إِسْنَادِ الْمَنْهِيَّةِ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّعْرِيضُ بِنَهْيِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِأَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لَا قَصْدَ مِنْهُ إِلَّا التَّبْلِيغَ لَهُمْ وَإِلَّا فَلَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِي الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَنْهِيٌّ عَنْ أَنْ يعبد الَّذين يدعونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، يَعْنِي: فَإِذَا كُنْتُ أَنَا مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ فَتَأَمَّلُوا فِي شَأْنِكُمْ وَاسْتَعْمِلُوا أَنْظَارَكُمْ فِيهِ، لِيَسُوقَهُمْ إِلَى النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ سَوْقًا لَيِّنًا خَفِيًّا لِاتِّبَاعِهِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا لَا تَعْرِيضًا فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا [مَرْيَم: ٤٣، ٤٤] وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلنَّائِبِ لِظُهُورِ أَنَّ النَّاهِيَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَرِينَةِ مَقَامِ التَّبْلِيغِ وَالرِّسَالَةِ.
وَمَعْنَى الدُّعَاءِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ تَدْعُونَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَاهِرِ الدُّعَاءِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي تَسْأَلُ بِهِ حَاجَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى تَعْبُدُونَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِر: ٦٠] فَيَكُونُ الْعُدُولُ عَنْ أَنْ يَقُولَ: أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ، تَفَنُّنَا. وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّي ابْتِدَائِيَّةٌ، وَجُعِلَ الْمَجْرُورُ بِ (مِنْ) وَصْفَ (رَبٍّ) مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ دُونَ أَنْ يُجْعَلَ مَجْرُورُهَا ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ فِي نُفُوسِ
196
الْمُعَرَّضِ بِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ هَذَا النَّهْيَ وَمَجِيءَ الْبَيِّنَاتِ هُوَ مِنْ جَانِبِ سَيِّدِهِ وَسَيِّدِهِمْ فَمَا يَسَعُهُمْ إِلَّا أَنْ يُطِيعُوهُ وَلِذَلِكَ عَزَّزَهُ بِإِضَافَةِ الرَّبِّ إِلَى الْجَمِيعِ فِي قَوْلِهِ: وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أَيْ رَبُّكُمْ وَرَبُّ غَيْرِكُمْ فَلَا مُنْصَرَفَ لَكُمْ عَنْ طَاعَتِهِ.
وَالْإِسْلَامُ: الِانْقِيَادُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَفِعْلُهُ مُتَعَدٍّ، وَكَثُرَ حَذْفُ مَفْعُولِهِ فَنُزِّلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، فَأَصْلُهُ: أَسْلَمَ نَفْسَهُ أَوْ ذَاتَهُ أَوْ وَجْهَهُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ، وَمِنِ اسْتِعْمَالِهِ كَاللَّازِمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٢٠] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٣١]، وَكَذَلِكَ هُوَ هُنَا.
[٦٧]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٦٧]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧)
اسْتِئْنَافٌ رَابِعٌ بَعْدَ اسْتِئْنَافِ جُمْلَةِ هُوَ الْحَيُّ [غَافِر: ٦٥] وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا، وَكلهَا ناشىء بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ. وَهَذَا الِامْتِنَانُ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ وَهُوَ نِعْمَةٌ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ شَرَفٌ وَالْمَعْدُومَ لَا عِنَايَةَ بِهِ. وَأُدْمِجَ فِيهِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْإِبْدَاعِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَطْوَارِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَعْضِهِ فِي سُورَةِ فَاطِرٍ.
وَالطِّفْلُ: اسْمٌ يَصْدُقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ قَالَ تَعَالَى:
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ [النُّور: ٣١] وَقَدْ يُطَابِقُ فَيُقَالُ: طِفْلٌ وَطِفْلَانِ وَأَطْفَالٌ.
وَاللَّامَاتُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ بِ (ثُمَّ) مُتَعَلِّقَاتٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ يُبْقِيكُمْ، أَوْ ثُمَّ يُنْشِئُكُمْ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، وَهِيَ لَامَاتُ
197
التَّعْلِيلِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى (إِلَى) لِأَنَّ الْغَايَةَ الْمُقَدَّرَةَ مِنَ اللَّهِ تُشْبِهُ الْعِلَّةَ فِيمَا يُفْضِي إِلَيْهَا، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ الْحَجِّ.
وَقَوْلُهُ: وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى عَطْفٌ عَلَى لِتَكُونُوا شُيُوخاً أَيْ لِلشَّيْخُوخَةِ غَايَةٌ
وَهِيَ الْأَجَلُ الْمُسَمَّى أَيِ الْمَوْتُ فَلَا طَوْرَ بَعْدَ الشَّيْخُوخَةِ. وَأَمَّا الْأَجَلُ الْمُقَدَّرُ لِلَّذِينَ يَهْلِكُونَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الشَّيْخُوخَةَ فَقَدِ اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أَنَّ مِنْ قَبْلِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَطْوَارِ، أَيْ يُتَوَفَّى قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ طِفْلًا وَهُوَ السَّقْطُ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ الْأَشُدَّ، أَوْ يُتَوَفَّى قَبْلَ أَنْ يَكُونَ شَيْخًا. وَلِتَعَلُّقِهِ بِمَا يَلِيهِ خَاصَّةً عُطِفَ عَلَيْهِ بِالْوَاوِ وَلَمْ يُعْطَفْ بِ (ثُمَّ) كَمَا عُطِفَتِ الْمَجْرُورَاتُ الْأُخْرَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ انْقِرَاضَ الْأَجْيَالِ وَخَلَقَهَا بِأَجْيَالٍ أُخْرَى، فَالْحَيُّ غَايَتُهُ الْفَنَاءُ وَإِنْ طَالَتْ حَيَاتُهُ، وَلَمَّا خَلَقَهُ على حَالَة تؤول إِلَى الْفَنَاءِ لَا مَحَالَةَ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الْغَايَاتِ فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ أَنْ يَبْلُغُوا أَجَلًا.
وَبُنِيَ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ عَلَى نِيَّةِ مَعْنَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ مِنْ قَبْلِ مَا ذُكِرَ. وَالْأَشُدُّ:
الْقُوَّةُ فِي الْبَدَنِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ ثَمَان عشرَة سنة إِلَى الثَلَاثِينَ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٢٢].
وَشُيُوخٌ: جَمْعُ شَيْخٍ، وَهُوَ مَنْ بَلَغَ سِنَّ الْخَمْسِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهذا بَعْلِي شَيْخاً فِي سُورَةِ هُودٍ [٧٢]. وَيَجُوزُ فِي (شُيُوخٍ) ضَمُّ الشِّينِ. وَبِهِ قَرَأَ نَافِع وَأَبُو عَمْرو وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ. وَيَجُوزُ كَسْرُ الشِّينِ وَبِهِ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ.
وَقَوْلُهُ: وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ عَطْفٌ عَلَى وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى أَيْ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ عَلَى الْحَالَةِ الْمُبَيَّنَةِ، أَنْ تَكُونَ فِي تِلْكَ الْخِلْقَةِ دَلَالَةٌ لِآحَادِهِ عَلَى وُجُودِ هَذَا الْخَالِقِ الْخَلْقَ الْبَدِيعَ، وَعَلَى انْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَعَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ لَا يَسْتَحِقُّ وَصْفَ الْإِلَهِيَّةِ، فَمَنْ عَقَلَ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِ فَقَدِ اهْتَدَى إِلَى مَا أُرِيدَ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَدِيمِ الْعَقْلِ. وَلِأَجْلِ هَذِهِ النُّكْتَةِ لَمْ يُؤْتَ
198
لِفِعْلِ تَعْقِلُونَ بِمَفْعُولٍ وَلَا بِمَجْرُورٍ لِأَنَّهُ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، أَيْ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ لَكُمْ عُقُولٌ فَهُوَ مُرَادٌ لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ الْخَلْقِ فَمِنْ حِكْمَتِهِ أَن جعل ذَلِك الْخَلْقَ الْعَجِيبَ عِلَّةً لأمور كَثِيرَة.
[٦٨]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٦٨]
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)
اسْتِئْنَافٌ خَامِسٌ وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِهِ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ إِلَى قَوْلِهِ:
ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا إِلَى وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [غَافِر: ٦٧] فَإِنَّ مِنْ أَوَّلِ مَا يُرْجَى أَنْ يَعْقِلُوهُ هُوَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ الْبَدِيعُ بِخَلْقِ الْحَيَاةِ فِي الْإِنْسَانِ عِنْدَ تَكْوِينِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ جُثَّةً لَا حَيَاةَ فِيهَا، وَخَلْقِ الْمَوْتِ فِيهِ عِنْدَ انْتِهَاءِ أَجَلِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَيًّا مُتَصَرِّفًا بِقُوَّتِهِ وَتَدْبِيرِهِ.
فَمَعْنَى يُحْيِي يُوجِدُ الْمَخْلُوقَ حَيًّا. وَمَعْنَى يُمِيتُ أَنَّهُ يُعْدِمُ الْحَيَاةَ عَنِ الَّذِي كَانَ حَيًّا، وَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الْعِبْرَةِ. وَأَمَّا إِمْكَانُ الْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ فَمَدْلُولٌ بِدَلَالَةِ قِيَاسِ التَّمْثِيلِ الْعَقْلِيِّ وَلَيْسَ هُوَ صَرِيحَ الْآيَةِ. وَالْمَقْصُودُ الِامْتِنَانُ بِالْحَيَاةِ تَبَعًا لِقَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا:
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غَافِر: ٦٧].
وَفِي قَوْلِهِ: يُحْيِي وَيُمِيتُ الْمُحَسِّنُ الْبَدِيعِيُّ الْمُسَمَّى الطِّبَاقَ. وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا الْخَبَرِ إِخْبَارٌ بِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ أَمْرًا مِنْ أُمُورِ التَّكْوِينِ مِنْ إِحْيَاءٍ أَوْ إِمَاتَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ دُونَ تَرَدُّدٍ وَلَا مُعَالَجَةٍ، بَلْ بِمُجَرَّدِ تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ بِالْمَقْدُورِ وَذَلِكَ التَّعَلُّقُ هُوَ تَوْجِيهُ قُدْرَتِهِ لِلْإِيجَادِ أَوِ الْإِعْدَامِ. فَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا قَضى فَاءُ تَفْرِيعِ الْإِخْبَارِ بِمَا بَعْدَهَا عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا قَبْلَهَا.
وَقَوْلُ: كُنْ تَمْثِيلٌ لِتَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ بِالْمَقْدُورِ بِلَا تَأْخِيرٍ وَلَا عُدَّةٍ وَلَا مُعَانَاةٍ وَعِلَاجٍ بِحَال من يرد إِذْنَ غَيْرِهِ بِعَمَلٍ فَلَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يُوَجِّهَ إِلَيْهِ أَمْرًا فَإِنَّ صُدُورَ الْقَوْلِ
عَنِ الْقَائِلِ أَسْرَعُ أَعْمَالِ الْإِنْسَانِ وَأَيْسَرُ، وَقَدِ اخْتِيرَ لِتَقْرِيبِ ذَلِكَ أَخْصَرُ فِعْلٍ وَهُوَ كُنْ الْمُرَكَّبُ مِنْ حَرْفَيْنِ متحرك وَسَاكن.
[٦٩- ٧٢]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٦٩ إِلَى ٧٢]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢)
بُنِيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى إِبْطَالِ جَدَلِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ جِدَالَ التَّكْذِيبِ وَالتَّوَرُّكِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ إِذْ كَانَ مِنْ أَوَّلِهَا قَوْلُهُ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: ٤] وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ خَمْسَ مَرَّاتٍ فِيهَا، فَنَبَّهَ عَلَى إِبْطَالِ جِدَالِهِمْ فِي مُنَاسَبَاتِ الْإِبْطَالِ كُلِّهَا إِذِ ابْتُدِئَ بِإِبْطَالِهِ عَلَى الْإِجْمَالِ عَقِبَ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ مِنْ أَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا [غَافِر: ٤] ثُمَّ بِإِبْطَالِهِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ [غَافِر: ٣٥]، ثُمَّ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ [غَافِر: ٥٦] ثُمَّ بِقَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ.
وَذَلِكَ كُلُّهُ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْبَاعِثَ لَهُمْ عَلَى الْمُجَادَلَةِ فِي آيَاتِ اللَّهِ هُوَ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ إِبْطَالِ الشِّرْكِ فَلِذَلِكَ أَعْقَبَ كُلَّ طَرِيقَةٍ مِنْ طَرَائِقِ إِبْطَالِ شِرْكِهِمْ بِالْإِنْحَاءِ عَلَى جِدَالِهِمْ فِي آيَاتِ اللَّهِ، فَجُمْلَةُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لِلتَّعْجِيبِ
مِنْ حَالِ انْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّصْدِيقِ بَعْدَ تِلْكَ الدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ. وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّقْرِيرِ وَهُوَ مَنْفِيٌّ لَفْظًا، وَالْمُرَادُ بِهِ: التَّقْرِيرُ عَلَى الْإِثْبَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ:
قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٠].
وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَفِعْلُهَا مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِالِاسْتِفْهَامِ بِ أَنَّى يُصْرَفُونَ، و (أَنَّى) بِمَعْنَى (كَيْفَ)، وَهِيَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْجِيبِ مِثْلَ قَوْلِهِ:
200
أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمرَان: ٤٧] أَيْ أَرَأَيْتَ عَجِيبَ انْصِرَافِهِمْ عَنِ التَّصْدِيقِ بِالْقُرْآنِ بِصَارِفٍ غَيْرِ بَيِّنٍ مَنْشَؤُهُ، وَلِذَلِكَ بُنِيَ فِعْلُ يُصْرَفُونَ لِلنَّائِبِ لِأَنَّ سَبَبَ صَرْفِهِمْ عَنِ الْآيَاتِ لَيْسَ غَيْرَ أَنْفُسِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ (أَنَّى) بِمَعْنَى (أَيْنَ)، أَيْ أَلَا تَعْجَبُ مِنْ أَيْنَ يَصْرِفُهُمْ صَارِفٌ عَنِ الْإِيمَانِ حَتَّى جَادَلُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ مَعَ أَنَّ شُبَهَ انْصِرَافِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ مُنْتَفِيَةٌ بِمَا تَكَرَّرَ مِنْ دَلَائِلِ الْآفَاقِ وَأَنْفُسِهِمْ وَبِمَا شَاهَدُوا مِنْ عَاقِبَةِ الَّذِينَ جَادَلُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ مِمَّنْ سَبَقَهُمْ، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْمُتَعَجِّبُ مِنْ فِعْلِ أَحَدٍ «أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ».
وَبِنَاءُ فِعْلِ يُصْرَفُونَ لِلْمَجْهُولِ عَلَى هَذَا الْوَجْه للتعجيب مِنَ الصَّارِفِ الَّذِي يَصْرِفُهُمْ وَهُوَ غَيْرُ كَائِنٍ فِي مَكَانٍ غَيْرِ نُفُوسِهِمْ.
وَأَبْدَلَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ مِنَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ لِأَنَّ صِلَتَيِ الْمَوْصُولَيْنِ صَادِقَتَانِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فالتكذيب هُوَ مَا صدق الْجِدَالِ، وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ.
وَعَطْفُ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى أَصْلِ الْعَطْفِ مُقْتَضِيًا الْمُغَايَرَةَ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ: وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا مِنَ الْكُتُبِ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ تَكْذِيبُهُمْ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ الرُّسُلُ مُرَادًا بِهِ تَكْذِيبُهُمْ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام: ٩١]، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ التَّكْذِيبُ بِالْبَعْثِ فَلَعَلَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِثْبَاتِ الْبَعْثِ سَأَلُوا عَنْهُ أَهْلَ الْكِتَابِ فَأَثْبَتُوهُ فَأَنْكَرَ الْمُشْرِكُونَ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ لِذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ مُرَادِفٍ، فَائِدَتُهُ التَّوْكِيدُ، وَالْمُرَادُ بِ رُسُلَنا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٠٥] يَعْنِي الرَّسُولَ نُوحًا عَلَى أَنَّ فِي الْعَطْفِ فَائِدَةً زَائِدَةً عَلَى مَا فِي الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ وَهِيَ أَنَّ مِمَّا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوَاعِظَ وَإِرْشَادًا كَثِيرًا لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَتَفَرَّعَ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَعِيدُهُمْ بِمَا سَيَلْقَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقِيلَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ،
201
أَيْ سَوْفَ يَجِدُونَ الْعَذَابَ الَّذِي كَانُوا يُجَادِلُونَ فِيهِ فَيَعْلَمُونَهُ. وَعَبَّرَ عَنْ وِجْدَانِهِمُ الْعَذَابَ بِالْعِلْمِ بِهِ بِمُنَاسَبَةِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى جَهْلِهِمْ بِالْبَعْثِ وتظاهرهم بِعَدَمِ فَهْمِ مَا يَقُولُهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُنْذِرُوا
بِأَنَّ مَا جَهِلُوهُ سَيَتَحَقَّقُونَهُ يَوْمَئِذٍ كَقَوْلِ النَّاسِ: سَتَعْرِفُ مِنْهُ مَا تَجْهَلُ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَصِيرُ:
فَتَذُمُّ رَأْيَكَ فِي الَّذِينَ خَصَصْتَهُمْ دُونِي وَتَعْرِفُ مِنْهُمْ مَا تَجْهَلُ
وَحُذِفَ مَفْعُولُ يَعْلَمُونَ لِدَلَالَةِ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ عَلَيْهِ، أَيْ يَتَحَقَّقُونَ مَا كَذَّبُوا بِهِ.
وَالظَّرْفُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ مُتَعَلِّقٌ بِ يَعْلَمُونَ أَيْ يَعْلَمُونَ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ. وَشَأْنُ (إِذْ) أَنْ تَكُونَ اسْمًا لِلزَّمَنِ الْمَاضِي وَاسْتُعْمِلَتْ هُنَا لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِقَرِينَةِ (سَوْفَ) فَهُوَ إِمَّا اسْتِعْمَالُ الْمَجَازِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ، وَإِمَّا اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمُحَقَّقِ الْوُقُوعِ تَشْبِيهًا بِالزَّمَنِ الْمَاضِي وَقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ. وَمِنْهُ اقْتِرَانُهَا بِ (يَوْمَ) فِي نَحْوِ قَوْلِهِ:
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها [الزلزلة: ٤]، وَقَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الرّوم: ٤، ٥]. وَأَوَّلُ مَا يَعْلَمُونَهُ حِينَ تَكُونُ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ أَنَّهُمْ يَتَحَقَّقُونَ وُقُوعَ الْبَعْثِ.
وَالْأَغْلَالُ: جَمْعُ غل، بِضَم الْعين، وَهُوَ حَلَقَةٌ مِنْ قِدٍّ أَوْ حَدِيدٍ تُحِيطُ بِالْعُنُقِ تُنَاطُ بِهَا سِلْسِلَةٌ مِنْ حَدِيدٍ، أَوْ سَيْرٌ مِنْ قِدٍّ يُمْسَكُ بِهَا الْمُجْرِمُ وَالْأَسِيرُ.
وَالسَّلَاسِلُ: جَمْعُ سِلْسِلَةٍ بِكَسْرِ السِّينَيْنِ وَهِيَ مَجْمُوعُ حِلَقٍ غَلِيظَةٍ مِنْ حَدِيدٍ مُتَّصِلٍ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ.
وَمِنَ الْمَسَائِلِ مَا رَأَيْتُهُ أَنَّ الشَّيْخَ ابْنَ عَرَفَةَ كَانَ يَوْمًا فِي دَرْسِهِ فِي التَّفْسِيرِ سُئِلَ: هَلْ تَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ سَنَدًا لِمَا يَفْعَلُهُ أُمَرَاءُ الْمَغْرِبِ أَصْلَحَهُمُ اللَّهُ مَنْ وَضْعِ الْجُنَاةِ بِالْأَغْلَالِ وَالسَّلَاسِلِ جَرْيًا عَلَى حُكْمِ الْقِيَاسِ عَلَى فِعْلِ اللَّهِ فِي الْعُقُوبَاتِ كَمَا اسْتَنْبَطُوا بَعْضَ صُوَرِ عِقَابٍ مِنْ عَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ مِنَ الرَّجْمِ بِالْحِجَارَةِ، أَوِ الْإِلْقَاءِ مِنْ شَاهِقٍ. فَأَجَابَ بِالْمَنْعِ لِأَنَّ وَضْعَ الْغُلِّ فِي الْعُنُقِ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ وَإِنَّمَا يُوثَقُ الْجَانِي مِنْ يَدِهِ، قَالَ: لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَاسُوا عَلَى فِعْلِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَلَا يُقَاسُ عَلَى
202
تَصَرُّفِهِ فِي الْآخِرَةِ لِنَهْيِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ،
وَقَوْلِهِ: «إِنَّمَا يُعَذِّبُ بِهَا رَبُّ الْعِزَّةِ»
. وَجُمْلَةُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ أَعْناقِهِمْ أَوْ مِنْ ضَمِيرِ يَعْلَمُونَ. وَالسَّحْبُ: الْجَرُّ، وَهُوَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْإِيلَامِ وَالْإِهَانَةِ. وَالْحَمِيمُ: أَشَدُّ الْحَرِّ.
وَ (ثُمَّ) عَاطِفَةٌ جُمْلَةَ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ عَلَى جُمْلَةِ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ. وَشَأْنُ (ثُمَّ) إِذَا عَطَفَتِ الْجُمَلَ أَنْ تَكُونَ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ احْتِرَاقَهُمْ بِالنَّارِ أَشَدُّ فِي تَعْذِيبِهِمْ مِنْ سَحْبِهِمْ عَلَى النَّارِ، فَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي وَصْفِ التَّعْذِيبِ الَّذِي أُجْمِلَ بِقَوْلِهِ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَالسَّجْرُ بِالنَّارِ حَاصِلٌ عَقِبَ السَّحْبِ سَوَاءٌ كَانَ بِتَرَاخٍ أَمْ بِدُونِهِ.
وَالسَّجْرُ: مَلْءُ التَّنُّورِ بِالْوَقُودِ لِتَقْوِيَةِ النَّارِ فِيهِ، فَإِسْنَادُ فِعْلِ يُسْجَرُونَ إِلَى ضمير هم إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّ الَّذِي يُسْجَرُ هُوَ مَكَانُهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ، فَأُرِيدَ بِإِسْنَادِ الْمَسْجُورِ إِلَيْهِمُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَعَلُّقِ السَّجْرِ بِهِمْ، أَوْ هُوَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ بِتَشْبِيهِهِمْ بِالتَّنُّورِ فِي اسْتِقْرَارِ النَّارِ بِبَاطِنِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الْحَج: ٢٠].
[٧٣- ٧٦]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٧٣ إِلَى ٧٦]
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦)
(ثُمَّ) هَذِهِ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُقَالُ لَهُمْ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ، بِدَلِيلِ أَنَّ مِمَّا وَقَعَ فِي آخِرِ الْقَوْلِ: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ، وَدُخُولُ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ قَبْلَ السَّحْبِ فِي حَمِيمِهَا وَالسَّجْرِ فِي نَارِهَا. وَهَذَا الْقِيلُ ارْتِقَاءٌ فِي تَقْرِيعِهِمْ
203
وَإِعْلَانُ خَطَلِ آرَائِهِمْ بَيْنَ أَهْلِ الْمَحْشَرِ وَهُوَ أَشَدُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ أَلَمِ الْجِسْمِ، وَلِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مُقَدِّمَةٌ لِتَسْلِيطِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى بَيَانِ سَبَبِ الْعَذَابِ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَازْدِهَائِهِمْ فِي الْأَرْضِ بِكُفْرِهِمْ وَمَرَحِهِمْ، وَهُوَ أَيْضًا ارْتِقَاءٌ فِي وَصْفِ أَحْوَالِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى نَكَالِهِمْ إِذِ ارْتَقَى مِنْ صِفَةِ جَزَائِهِمْ عَلَى إِشْرَاكِهِمْ وَهُوَ شَيْءٌ غَيْرُ مُسْتَغْرَبٍ تَرَتُّبُهُ عَلَى الشِّرْكِ إِلَى وَصْفِ تَحْقِيرِهِمْ آلِهَتَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا وَذَلِكَ غَرِيبٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَشَدُّ دَلَالَةً عَلَى بُطْلَانِ إِلَهِيَّةِ أَصْنَامِهِمْ وَهُوَ الْمَقْصِدُ الْمُهِمُّ مِنَ الْقَوَارِعِ الَّتِي سُلِّطَتْ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. فَمَوْقِعُ الْمَعْطُوفِ بِ (ثُمَّ) هُنَا كَمَوْقِعِ الْمَعْطُوفِ بِهَا فِي قَوْلِ أَبِي نُوَاسٍ:
قُلْ إِنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أَبُوهُ قَبْلَهُ ثُمَّ سَادَ مِنْ قَبْلُ جَدُّهُ
مِنْ حَيْثُ كَانَتْ سِيَادَةُ جَدِّهِ أَرْسَخَتْ لَهُ سِيَادَةَ أَبِيهِ وَأَعْقَبَتْ سِيَادَةَ نَفْسِهِ، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مَوْجُودٌ بِكَثْرَةٍ. وَصِيغَ (قِيلَ) بِصِيغَةِ الْمُضِيِّ لِأَنَّهُ مُحَقَّقُ الْوُقُوعِ فَكَأَنَّهُ وَقَعَ وَمَضَى وَكَذَلِكَ فِعْلُ قالُوا ضَلُّوا.
وَالْقَائِلُ لَهُمْ: نَاطِقٌ بِإِذن الله. و (أَيْن) لِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ مَكَانِ الشَّيْءِ الْمَجْهُولِ الْمَكَانِ، وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْبِيهِ عَلَى الْغَلَطِ وَالْفَضِيحَةِ فِي الْمَوْقِفِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ لِيَكُونُوا شُفَعَاءَ لَهُمْ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ فَلَمَّا حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ فَلَمْ يَجِدُوا شُفَعَاءَ ذُكِّرُوا بِمَا كَانُوا يَزْعُمُونَهُ فَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَابْتَدَرُوا
بِالْجَوَابِ قبل انْتِهَاء الْمقَالة طَمَعا فِي أَن يَنْفَعهُمْ الِاعْتِذَار. فجملة قالُوا ضَلُّوا عَنَّا مُعْتَرضَة فِي أثْنَاء الْقَوْلِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ، وَمَعْنَى ضَلُّوا غَابُوا كَقَوْلِهِ: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: ١٠] أَيْ غُيِّبْنَا فِي التُّرَابِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تُفِيدُهُمْ. فَأَضْرَبُوا عَنْ قَوْلِهِمْ: ضَلُّوا عَنَّا وَقَالُوا: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أَيْ لَمْ نَكُنْ فِي الدُّنْيَا نَدْعُو شَيْئًا يُغْنِي عَنَّا، فَنَفْيُ دُعَاءِ شَيْءٍ هُنَا رَاجِعٌ إِلَى نَفْيِ دُعَاءِ شَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ، كَمَا تَقُولُ: حَسِبْتُ أَنَّ فُلَانًا شَيْءٌ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِنْ كُنْتَ خَبَرْتَهُ فَلَمْ تَرَ عِنْدَهُ خَيْرًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «سُئِلَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ
204
: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ»
أَيْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ مُعْتَدٍّ بِهِ فِيمَا يَقْصِدُهُمُ النَّاسُ لِأَجْلِهِ، وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَاءٍ فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٦٨]، إِذْ لَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى إِنْكَارِ أَنْ يَكُونُوا عَبَدُوا شَيْئًا لِمُنَافَاتِهِ لِقَوْلِهِمْ: ضَلُّوا عَنَّا الْمُقْتَضِي الِاعْتِرَافَ الضِّمْنِيَّ بِعِبَادَتِهِمْ.
وَفَسَّرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَوْلَهُمْ: بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أَنَّهُ إِنْكَارٌ لِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ بِهَا لِاضْطِرَابِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ فَيَكُونُ مِنْ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَام: ٢٣]. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ مَقَالَانِ، وَهَذَا كُلُّهُ قَبْلَ أَنْ يُحْشَرُوا فِي النَّارِ هُمْ وَأَصْنَامُهُمْ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ مُتَمَاثِلِينَ حِينَئِذٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ.
وَجُمْلَةُ كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ تَذْيِيلٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَوْلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُمْ.
وَمَعْنَى الْإِشَارَةِ تَعْجِيبٌ مِنْ ضَلَالِهِمْ، أَيْ مِثْلُ ضَلَالِهِمْ ذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ: عُمُومُ الْكَافِرِينَ، فَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ:
كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ يُفِيدُ تَشْبِيهَ إِضْلَالِ جَمِيعِ الْكَافِرِينَ بِإِضْلَالِهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، فَتَكُونُ جُمْلَةُ كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ تَذْيِيلًا، أَيْ مِثْلُ إِضْلَالِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ يُضِلُّ اللَّهُ جَمِيعَ الْكَافِرِينَ، فَيَكُونُ إِضْلَالُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ مُشَبَّهًا بِهِ إِضْلَالُ الْكَافِرِينَ كُلِّهِمْ، وَالتَّشْبِيهُ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ إِضْلَالِ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بَلَغَ قُوَّةَ نَوْعِهِ بِحَيْثُ يُنَظَّرُ بِهِ كُلُّ مَا خَفِيَ مِنْ أَصْنَافِ الضَّلَالِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِ مُجَادَلَةِ هَؤُلَاءِ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَشَدَّ الْكُفْرِ.
وَالتَّشْبِيهُ جَارٍ عَلَى أَصْلِهِ وَهُوَ إِلْحَاقُ نَاقِصٍ بِكَامِلٍ فِي وَصْفٍ وَلَا يَكُونُ مِنْ قَبِيلِ
205
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَة: ١٤٣] وَلَا هُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ الْمُتَقَدِّمِ كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [غَافِر: ٦٣].
وَقَوْلُهُ: ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ تَكْمِلَةُ الْقِيلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُمْ حِينَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ. وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ من الْعَذَاب. و (مَا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ ذَلِكُمْ مُسَبَّبٌ عَلَى فَرَحِكُمْ وَمَرَحِكُمُ اللَّذَيْنِ كَانَا لَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَالْأَرْضُ: مُطْلَقَةٌ عَلَى الدُّنْيَا.
وَالْفَرَحُ: الْمَسَرَّةُ وَرِضَى الْإِنْسَانِ عَلَى أَحْوَالِهِ، فَهُوَ انْفِعَالٌ نَفْسَانِيٌّ. وَالْمَرَحُ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْفَارِحِ مِنَ الْحَرَكَاتِ فِي مَشْيِهِ وَنَظَرِهِ وَمُعَامَلَتِهِ مَعَ النَّاسِ وَكَلَامِهِ وَتَكَبُّرِهِ فَهُوَ هَيْئَةٌ ظَاهِرِيَّةٌ.
وبِغَيْرِ الْحَقِّ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ تَفْرَحُونَ وتَمْرَحُونَ أَيْ تَفْرَحُونَ بِمَا يَسُرُّكُمْ مِنَ الْبَاطِلِ وَتَزْدَهُونَ بِالْبَاطِلِ فَمِنْ آثَارِ فَرَحِهِمْ بِالْبَاطِلِ تَطَاوُلُهُمْ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنَ الْمَرَحِ بِالْبَاطِلِ اسْتِهْزَاؤُهُمْ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا
فاكهين [المطففين: ٣٠، ٣١]. فَالْفَرَحُ كُلَّمَا جَاءَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ فَالْمُرَادُ بِهِ هَذَا الصِّنْفُ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [الْقَصَص: ٧٦] لَا كُلَّ فَرِحٍ، فَإِنَّ اللَّهَ امْتَنَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْفَرَحِ فِي قَوْلِهِ:
وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الرّوم: ٤، ٥]. وَبَيْنَ تَفْرَحُونَ وتَمْرَحُونَ الْجِنَاسُ الْمُحَرَّفُ.
وَجُمْلَةُ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا التَّقْرِيعَ وَالتَّوْبِيخَ وَأَيْقَنُوا بِانْتِفَاءِ الشَّفِيعِ تَرَقَّبُوا مَاذَا سَيُؤْمَرُ بِهِ فِي حَقِّهِمْ فَقِيلَ لَهُمُ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ إِلَخْ، فَإِنَّ مَدْلُولَ اسْمِ الْإِشَارَةِ الْعَذَابُ الْمُشَاهَدُ لَهُمْ وَهُوَ يَشْتَمِلُ عَلَى إِدْخَالِهِمْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ وَالْخُلُودِ فِيهَا.
وَدُخُولُ الْأَبْوَابِ كِنَايَةٌ عَنِ الْكَوْنِ فِي جَهَنَّمَ لِأَنَّ الْأَبْوَابَ إِنَّمَا جُعِلَتْ لِيُسْلَكَ مِنْهَا إِلَى الْبَيْتِ وَنَحْوِهِ.
206
وخالِدِينَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ مُقَدَّرًا خُلُودُكُمْ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُ جَهَنَّمَ أَيْ فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ جَهَنَّمُ، وَلَمْ يَتَّصِلْ فِعْلُ (بِئْسَ) بِتَاءِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ فَاعِلَهُ فِي الظَّاهِرِ هُوَ مَثْوَى لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِإِسْنَادِ فِعْلِ الذَّمِّ وَالْمَدْحِ إِلَى الِاسْمِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُمَا،
وَأَمَّا اسْمُ الْمَخْصُوصِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَوْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَلِذَلِكَ عُدَّ بَابُ نِعْمَ وَبِئْسَ مِنْ طُرُقِ الْإِطْنَابِ.
وَالْمَثْوَى: مَحَلُّ الثَّوَاءِ، وَالثَّوَاءِ: الْإِقَامَةُ الدَّائِمَةُ، وَأُوثِرَ لَفْظُ مَثْوَى دُونَ (مُدْخَلٍ) الْمُنَاسِبِ لِ ادْخُلُوا لِأَنَّ الْمَثْوَى أَدَلُّ عَلَى الْخُلُودِ فَهُوَ أَوْلَى بِمَسَاءَتِهِمْ.
وَالْمُرَادُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ: الْمُخَاطَبُونَ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُمْ جَادَلُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ عَنْ كِبْرٍ فِي صُدُورِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبالِغِيهِ [غَافِر: ٥٦] وَلِأَنَّ تَكَبُّرَهُمْ مِنْ فَرَحِهِمْ.
وَإِنَّمَا عُدِلَ عَنْ ضَمِيرِهِمْ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْمُتَكَبِّرِينَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ وُقُوعِهِمْ فِي النَّارِ تَكَبُّرَهُمْ عَلَى الرُّسُلِ. وَلِيَكُونَ لِكُلِّ مَوْصُوفٍ بِالْكِبْرِ حَظٌّ مِنَ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ إِذَا لَمْ يَتُبْ وَلَمْ تَغْلُبْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ إِنْ كَانَ مِنْ أهل الْإِيمَان.
[٧٧]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٧٧]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧)
قَدْ كَانَ فِيمَا سَبَقَ مِنَ السُّورَةِ مَا فِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا تَلَقَّاهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الْإِسَاءَةِ وَالتَّصْمِيمِ عَلَى الْإِعْرَاضِ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [غَافِر: ٤] ثُمَّ قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ [غَافِر: ٢١]، ثُمَّ قَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا [غَافِر: ٥١] ثُمَّ
207
قَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غَافِر: ٥٥] الْآيَةَ، فَفَرَّعَ هُنَا عَلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ وَمَا تَخَلَّلَهُ مِنْ تَصْرِيحٍ وَتَعْرِيضٍ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْهُمْ، وَهَذَا كَالتَّكْرِيرِ لِقَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غَافِر: ٥٥]. وَذَلِكَ أَنَّ نَظِيرَهُ الْمُتَقَدِّمَ وَرَدَ بَعْدَ الْوَعْدِ بِالنَّصْرِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غَافِر: ٥١] ثُمَّ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ [غَافِر: ٥٣] الْآيَةَ، فَلَمَّا تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى مَا أَخَذَ اللَّهُ بِهِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى ذِكْرِ مَا يَلْقَوْنَهُ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ [غَافِر: ٧٠، ٧١] الْآيَاتِ، ثُمَّ أَعْقَبَهُ بِقَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ عَوْدًا إِلَى بَدْءٍ إِذِ الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ مُفَرَّعٌ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [غَافِر: ٤، ٥] الْآيَاتِ، ثُمَّ
قَوْلُهُ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ [غَافِر: ١٨] ثُمَّ قَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا [غَافِر: ٢١] وَمَا بَعْدَهُ، فَلَمَّا حَصَلَ الْوَعْدُ بِالِانْتِصَافِ مِنْ مُكَذِّبِي النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَعْقَبَ بِقَوْلِهِ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ فَإِنَّ مُنَاسَبَةَ الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ عَقِبَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيضًا بِالِانْتِصَارِ لَهُ وَلِذَلِكَ فُرِّعَ عَلَى الْأَمْرِ بِالصَّبْرِ الشَّرْطُ الْمُرَدَّدُ بَيْنَ أَنْ يُرِيَهُ بَعْضَ مَا تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَرَاهُ، فَإِنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ حَاصِلٌ عَلَى كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ وَهُوَ مَضْمُونُ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ أَيْ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُفْلِتِينَ مِنَ الْعِقَابِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ أَحَدَ التَّرْدِيدَيْنِ هُوَ أَنْ يَرَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَذَابَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
وَلِهَذَا كَانَ لِلتَّأْكِيدِ بِ (إِنَّ) فِي قَوْلِهِ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ مَوْقِعُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤمنِينَ استبطأوا النَّصْرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ٢١٤] فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ الْمُتَرَدِّدِ فِيهِ فَأُكِّدَ وَعْدُهُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ. وَالتَّعْبِيرُ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يُرْجَعُونَ لِإِفَادَتِهِ التَّجَدُّدَ فَيُشْعِرُ بِأَنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى اللَّهِ فِي الدُّنْيَا.
وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ شَرْطٌ، اقْتَرَنَ حَرْفُ (إِنِ) الشَّرْطِيَّةِ بِحَرْفِ (مَا)
208
الزَّائِدَةِ لِلتَّأْكِيدِ وَلِذَلِكَ لَحِقَتْ نُونُ التَّوْكِيدِ بِفِعْلِ الشَّرْطِ. وَعُطِفَ عَلَيْهِ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ وَهُوَ فِعْلُ شَرْطٍ ثَانٍ.
وَجُمْلَةُ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ جَوَابٌ لِفِعْلِ الشَّرْطِ الثَّانِي لِأَنَّ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لَهُ. وَأَمَّا فِعْلُ الشَّرْطِ الْأَوَّلُ فَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْكَلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَتَقْدِيرُ جَوَابِهِ: فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ فَذَاكَ، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ، أَيْ فَهُمْ غَيْرُ مُفْلِتِينَ مِمَّا نَعِدُهُمْ.
وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِي سُورَةِ يُونُسَ إِلَّا أَنَّ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٤٦] فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ وَفِي سُورَةِ غَافِرٍ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ، وَالْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ تَفَنُّنٌ، وَلِأَنَّ مَا فِي يُونُسَ اقْتَضَى تَهْدِيدَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ، أَيْ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ الْفَرِيقَانِ مِنْ قَوْلِهِ:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ [يُونُس: ٤٢] وَقَوْلِهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ [يُونُس: ٤٣] فَكَانَتِ الْفَاصِلَةُ حَاصِلَةً بِقَوْلِهِ: عَلى مَا يَفْعَلُونَ [يُونُس: ٤٦]، وَأَمَّا هُنَا فَالْفَاصِلَةُ مُعَاقِبَةٌ لِلشَّرْطِ فَاقْتَضَتْ صَوْغَ الرُّجُوعِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُخْتَتَمِ بِوَاوٍ وَنُونٍ، عَلَى أَن مَرْجِعُهُمْ [يُونُس: ٤٦] مُعَرَّفٌ بِالْإِضَافَةِ فَهُوَ مُشْعِرٌ بِالْمَرْجِعِ الْمَعْهُودِ وَهُوَ مَرْجِعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: يُرْجَعُونَ الْمُشْعِرِ بِرُجُوعٍ مُتَجَدِّدٍ كَمَا عَلِمْتَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ وَاقِعُونَ فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِنَا فِي الدُّنْيَا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِكَ مِثْلَ
عَذَابِ يَوْمِ بَدْرٍ أَوْ بَعْدَ وَفَاتِكَ مِثْلَ قَتْلِهِمْ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ فَذَلِكَ مُقَرَّرٌ لَهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف:
٤٢].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ لِلرِّعَايَةِ عَلَى الفاصلة وللاهتمام.
[٧٨]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٧٨]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨)
ذَكَرْنَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فِي أَوَّلِ هَذِهِ
209
السُّورَةِ [٤] أَنَّ مِنْ صُوَرِ مُجَادَلَتِهِمْ فِي الْآيَاتِ إِظْهَارَهُمْ عَدَمَ الِاقْتِنَاعِ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ فَكَانُوا يَقْتَرِحُونَ آيَاتٍ كَمَا يُرِيدُونَ لِقَصْدِهِمْ إِفْحَامَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا انْقَضَى تَفْصِيلُ الْإِبْطَالِ لِضَلَالِهِمْ بِالْأَدِلَّةِ الْبَيِّنَةِ وَالتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ وَالْإِنْذَارِ بِالتَّرْهِيبِ وَالتَّرْغِيبِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ بِأَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ ثُمَّ بِوَعْدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وَتَحْقِيقِ الْوَعْدِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَثْبِيتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مَا كَانَ شَأْنُهُ إِلَّا شَأْنَ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ أَنْ لَا يَأْتُوا بِالْآيَاتِ مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ وَلَا اسْتِجَابَةً لِرَغَائِبِ مُعَانِدِيهِمْ وَلَكِنَّهَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ يُظْهِرُ مَا شَاءَ مِنْهَا بِمُقْتَضَى إِرَادَتِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُجَادِلِينَ فِي آيَاتِ اللَّهِ، وَتَنْبِيهٌ لَهُمْ عَلَى خَطَأِ ظَنِّهِمْ أَنَّ الرُّسُلَ تَنْتَصِبُ لِمُنَاقَشَةِ الْمُعَانِدِينَ.
فَالْمَقْصُودُ الْأَهَمُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ إِلَخْ فَهُوَ كَمُقَدَّمَةٍ لِلْمَقْصُودِ لِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ مِنْ قَوْلِهِ: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُفِيدُ بِتَقْدِيمِهِ مَعْنًى مُسْتَقِلًّا مِنْ رَدِّ مُجَادَلَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الْأَنْعَام:
٩١] وَيَقُولُونَ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ [الْأَنْعَام: ٨] فَدُمِغَتْ مَزَاعِمُهُمْ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالتَّوَاتُرِ مِنْ تَكَرُّرِ بِعْثَةِ الرُّسُلَ فِي الْعُصُورِ وَالْأُمَمِ الْكَثِيرَةِ.
وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ لَا يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَعْلَمَ الله بهم نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِمْ إِذْ لَا كَمَالَ فِي الْإِعْلَامِ بِمَنْ لَمْ يُعْلِمْهُ بِهِمْ، وَالَّذِينَ أَعْلَمَهُ بِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ قَصَّهُ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْلَمَهُ بِهِمْ بِوَحْيٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ فَوَرَدَ ذِكْرُ بَعْضِهِمْ فِي الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ بِتَعْيِينٍ أَوْ بِدُونِ تَعْيِينٍ،
فَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ اللَّهَ بَعَثَ نَبِيئًا اسْمُهُ عَبُّودٌ عَبْدًا
أَسْوَدَ»

وَفِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ: حَنْظَلَةَ بْنِ صَفْوَانَ نَبِيِّ أَهْلِ الرَّسِّ، وَذِكْرُ خَالِدِ بْنِ سِنَانٍ نَبِيِّ (١) عَبْسٍ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ نَبِيئًا لَسَعَتْهُ نَمْلَةٌ فَأَحْرَقَ قَرْيَتَهَا فَعُوتِبَ فِي ذَلِكَ»
. وَلَا يَكَادُ النَّاسُ يُحْصُونَ عَدَدَهُمْ لِتَبَاعُدِ أَزْمَانِهِمْ وَتَكَاثُرِ أُمَمِهِمْ وَتَقَاصِي أَقْطَارِهِمْ مِمَّا لَا تُحِيطُ بِهِ عُلُومُ النَّاسِ وَلَا تَسْتَطِيعُ إِحْصَاءَهُ أَقْلَامُ الْمُؤَرِّخِينَ وَأَخْبَارُ الْقَصَّاصِينَ وَقَدْ حَصَلَ مِنَ الْعِلْمِ بِبَعْضِهِمْ وَبَعْضِ أُمَمِهِمْ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ لِتَحْصِيلِ الْعِبْرَةِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ.
_________
(١) فِي المطبوعة (بني).
210
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ تَسْمِيَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ رَسُولًا وَهُمْ: نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَلُوطٌ وَإِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَيُوسُفُ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَشُعَيْبٌ وَمُوسَى وَهَارُونُ وَعِيسَى وَيُونُسُ وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاثْنَا عَشَرَ نَبِيئًا وَهُمْ: دَاوُدُ وَسليمَان وَأَيوب وزكرياء وَيَحْيَى وَإِلْيَاسُ وَالْيَسَعُ وَإِدْرِيسُ وَآدَمُ وَذُو الْكِفْلِ وَذُو الْقَرْنَيْنِ وَلُقْمَانُ وَنَبِيئَةٌ وَهِيَ مَرْيَمُ. وَوَرَدَ بِالْإِجْمَالِ دُونَ تَسْمِيَةٍ صَاحِبُ مُوسَى الْمُسَمَّى فِي السّنة خضراء وَنَبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُوَ صَمْوِيلُ وَتُبَّعٌ.
وَلَيْسَ الْمُسْلِمُونَ مُطَالَبِينَ بِأَنْ يَعْلَمُوا غَيْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ بِصَرِيحِ وَصْفِ النُّبُوءَةِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِنُبُوءَتِهِمْ لِمَنْ قَرَأَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرُوا فِيهَا وَعِدَّتُهُمْ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ بَيْنَ رَسُولٍ وَنَبِيءٍ، وَقَدِ اشْتَمَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ إِلَى قَوْله: وَلُوطاً [الْأَنْعَام: ٨٣- ٨٦] عَلَى أَسْمَاءِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِنْهُمْ وَذُكِرَ أَسْمَاءُ سَبْعَةٍ آخَرِينَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى وَقَدْ جَمَعَهَا مَنْ قَالَ:
حَتْمٌ عَلَى كُلِّ ذِي التَّكْلِيفِ مَعْرِفَةٌ بِأَنْبِيَاءَ عَلَى التَّفْصِيلِ قَدْ عُلِمُوا
فِي تِلْكَ حُجَّتُنَا مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ مِنْ بَعْدِ عَشْرٍ وَيَبْقَى سَبْعَةٌ وَهُم
إِدْرِيسُ هُودٌ شُعَيْبٌ صَالِحٌ وَكَذَا ذُو الْكِفْلِ آدَمُ بِالْمُخْتَارِ قَدْ خُتِمُوا
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي كَوْنِ يُوسُفَ رَسُولًا تَرَدُّدًا بَيَّنْتُهُ عِنْد قَوْله تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [٣٤]، وَأَن فِي نبوءة الْخِضْرِ وَلُقْمَانَ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَمَرْيَمَ تَرَدُّدًا. واخترت إِثْبَات نبوءتهم لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي بَعْضِهِمْ أَنَّهُ خَاطَبَهُمْ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ وَقَدِ اشْتُهِرَتْ فِي النُّبُوءَةِ، وَفِي بَعْضِهِمْ أَنَّهُ كَلَّمَتْهُ الْمَلَائِكَةُ. وَلَا يَجِبُ الْإِيمَانُ إِلَّا بِوُقُوعِ الرِّسَالَةِ وَالنُّبُوءَةِ عَلَى الْإِجْمَالِ.
وَلَا يَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ الْإِيمَانُ بِنُبُوءَةِ رِسَالَةِ مُعَيَّنٍ إِلَّا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَنْ بَلَغَ الْعِلْمُ بِنُبُوءَتِهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغَ الْيَقِينِ لِتَوَاتُرِهِ مِثْلَ مُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ.
وَلَكِنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى ذِكْرِ نُبُوءَةِ نَبِيءٍ بِوَصْفِهِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآن صَرِيحًا وَجب (١) عَلَيْهِ الْإِيمَانُ بِمَا عَلِمَهُ.
_________
(١) فِي المطبوعة (وَجِيء).
211
وَمَا ثَبَتَ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ لَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَاتِ لَا تَجِبُ بِالظَّنِّ وَلَكِنَّ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ لَا وُجُوبَ اعْتِقَادٍ.
وَتَنْكِيرُ رُسُلًا مُفِيدٌ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّكْثِيرِ، أَيْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا عَدَدُهُمْ كَثِيرٌ وَشَأْنُهُمْ عَظِيمٌ. وَعَطْفُ وَما كانَ لِرَسُولٍ إِلَخْ بِالْوَاوِ دُونَ الْفَاءِ يُفِيدُ اسْتِقْلَالَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِنَفْسِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنًى عَظِيمٍ حَقِيقٍ بِأَنْ لَا يَكُونَ تَابِعًا لِغَيْرِهِ، وَيُكْتَفَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ارْتِبَاطِ الْجُمْلَتَيْنِ بِمَوْقِعِ إِحْدَاهُمَا مِنَ الْأُخْرَى.
وَالْآيَةُ: الْمُعْجِزَةُ، وَإِذْنُ اللَّهِ: هُوَ أَمْرُ التَّكْوِينِ الَّذِي يَخْلُقُ اللَّهُ بِهِ خَارِقَ الْعَادَةِ لِيَجْعَلَهُ عَلَامَةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ. وَمَعْنَى إِتْيَانِ الرَّسُولِ بِآيَةٍ: هُوَ تَحَدِّيهِ قَوْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُؤَيِّدُهُ بِآيَةٍ يُعَيِّنُهَا مِثْلَ قَوْلٍ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً [الْأَعْرَاف: ٧٣] وَقَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفِرْعَوْنَ: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ [الشُّعَرَاء: ٣٠] الْآيَةَ.
وَقَوْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمرَان: ٤٩] وَقَوْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: ٢٣].
فَالْبَاءُ فِي بِآيَةٍ بَاءُ التَّعْدِيَةِ لِفِعْلِ أَنْ يَأْتِيَ وَأَمَّا الْبَاءُ فِي بِإِذْنِ اللَّهِ فَهِيَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ دَخَلَتْ عَلَى مُسْتَثْنًى مِنْ أَسْبَابٍ مَحْذُوفَةٍ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمُفَرَّغِ، أَيْ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَاب إِلَّا بِسَبَب إِذن اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا إِبْطَالٌ لِمَا يَتَوَرَّكُونَ بِهِ مِنَ الْمُقْتَرَحَاتِ وَالتَّعِلَّاتِ.
وَفُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ أَيْ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ بِإِظْهَارِ الرَّسُولِ آيَةً ظَهَرَ صِدْقُ الرَّسُولِ وَكَانَ ذَلِكَ قَضَاءً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ بِالْحَقِّ عَلَى مُكَذِّبِيهِ، فَإِذْنُ اللَّهِ هُوَ أَمْرُهُ التَّكْوِينِيُّ بِخَلْقِ آيَةٍ وَظُهُورِهَا.
وَقَوْلُهُ: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ الْأَمْرُ: الْقَضَاءُ وَالتَّقْدِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: ١] وَقَوْلُهُ: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ [الْمَائِدَة: ٥٢] وَهُوَ الْحَدَثُ الْقَاهِرُ لِلنَّاسِ كَمَا فِي
212
قَوْلِ عُمَرَ لَمَّا قَالَ لَهُ أَبُو قَتَادَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ «مَا شَأْنُ النَّاسِ» حِينَ انْهَزَمُوا وَفَرُّوا قَالَ عُمَرُ: «أَمْرُ اللَّهِ». وَفِي الْعُدُولِ عَنْ: إِذْنِ اللَّهِ، إِلَى أَمْرُ اللَّهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا سَيُظْهِرُهُ اللَّهُ مِنَ الْإِذْنِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ آيَاتُ عِقَابٍ لِمُعَانِدِيهِ، فَمِنْهَا: آيَةُ الْجُوعِ سَبْعَ
سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ، وَآيَةُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ إِذِ اسْتَأْصَلَ صَنَادِيدَ الْمُكَذِّبِينَ من أهل مَكَّة، وَآيَة السَّيْف يَوْم حنين إِذْ استأصل صَنَادِيد أَهْلِ الطَّائِفِ، وَآيَةُ الْأَحْزَابِ الَّتِي قَالَ الله عَنْهَا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الْأَحْزَاب: ٩] ثُمَّ قَالَ: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [الْأَحْزَاب: ٢٥- ٢٧].
وَفِي إِيثَارِ قُضِيَ بِالْحَقِّ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ: ظَهَرَ الْحَقُّ، أَوْ تَبَيَّنَ الصِّدْقُ، تَرْشِيحٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: أَمْرُ اللَّهِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُ أَمْرُ انْتِصَافٍ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ. وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ أَيْ خَسِرَ الَّذِينَ جَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ.
وَالْخُسْرَانُ: مُسْتَعَارٌ لِحُصُولِ الضُّرِّ لِمَنْ أَرَادَ النَّفْعَ، كَخَسَارَةِ التَّاجِرِ الَّذِي أَرَادَ الرِّبْحَ فَذَهَبَ رَأْسُ مَالِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦].
وهُنالِكَ أَصْلُهُ اسْمُ إِشَارَةٍ إِلَى الْمَكَانِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى الزَّمَانِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِ (إِذَا) فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ.
وَفِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ نُكْتَةٌ بَدِيعِيَّةٌ وَهِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُبْطِلِينَ مِنْ قُرَيْشٍ سَتَأْتِيهِمُ الْآيَةُ فِي مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ مَكَانُ بَدْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ مَوَاقِعِ إِعْمَالِ السَّيْفِ فِيهِمْ
213
فَكَانَتْ آيَاتُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةً عَلَى مُعَانَدِيهِ أَقْوَى مِنَ الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ نَحْوَ الصَّوَاعِقِ أَوِ الرِّيحِ، وَعَنِ الْآيَاتِ الْأَرْضِيَّةِ نَحْوَ الْغَرَقِ وَالْخَسْفِ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعَ مُشَارَكَتِهِمْ وَمُدَاخَلَتِهِمْ حَتَّى يَكُونَ انْغَلَابُهُمْ أَقْطَعَ لِحُجَّتِهِمْ وَأَخْزَى لَهُمْ نَظِيرَ آيَةِ عَصَا مُوسَى مَعَ عصيّ السَّحَرَة.
[٧٩- ٨٠]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٧٩ إِلَى ٨٠]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠)
انْتِقَالٌ مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَى النَّاسِ بِمَا سَخَّرَ لِأَجْلِهِمْ مِنْ نِظَامِ الْعَوَالِمِ الْعُلْيَا وَالسُّفْلَى، وَبِمَا مَنَحَهُمْ مِنَ الْإِيجَادِ وَتَطَوُّرِهِ وَمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْأَلْطَافِ بِهِمْ وَمَا أَدْمَجَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فَكَيْفَ يَنْصَرِفُ عَنْ عِبَادَتِهِ الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِهِ آلِهَةً أُخْرَى، إِلَى الِامْتِنَانِ بِمَا سَخَّرَ لَهُمْ مِنَ الْإِبِلِ لِمَنَافِعِهِمُ الْجَمَّةِ خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ، فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ سَادِسٌ.
وَالْقَوْلُ فِي افْتِتَاحِهَا كَالْقَوْلِ فِي افْتِتَاحِ نَظَائِرِهَا السَّابِقَةِ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ بِضَمِيرِهِ.
وَالْأَنْعَامُ: الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ وَالْمَعْزُ وَالْبَقَرُ. وَالْمُرَادُ هُنَا: الْإِبِلُ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً وَقَوْلِهِ: وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَكَانَتِ الْإِبِلُ غَالِبَ مَكَاسِبِهِمْ.
وَالْجَعْلُ: الْوَضْعُ وَالتَّمْكِينُ وَالتَّهْيِئَةُ، فَيُحْمَلُ فِي كُلِّ مَقَامٍ عَلَى مَا يُنَاسِبُهُ وَفَائِدَةُ الِامْتِنَانِ تَقْرِيبُ نُفُوسِهِمْ مِنَ التَّوْحِيدِ لِأَنَّ شَأْنَ أَهْلِ الْمُرُوءَةِ الِاسْتِحْيَاءُ مِنَ الْمُنْعِمِ.
وَأُدْمِجَ فِي الِامْتِنَانِ اسْتِدْلَالٌ عَلَى دَقِيقِ الصُّنْعِ وَبَلِيغِ الْحِكْمَةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
يُرِيكُمْ آياتِهِ
[غَافِر: ٨١] أَيْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
214
وَاللَّامُ فِي لَكُمْ لَامُ التَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِكُمْ وَهُوَ امْتِنَانٌ مُجْمَلٌ يَشْمَلُ بِالتَّأَمُّلِ كُلَّ مَا فِي الْإِبِلِ لَهُمْ مِنْ مَنَافِعَ وَهُمْ يَعْلَمُونَهَا إِذَا تَذَكَّرُوهَا وَعَدُّوهَا. ثُمَّ فَصَّلَ ذَلِكَ الْإِجْمَالَ بَعْضَ التَّفْصِيلِ بِذِكْرِ الْمُهِمِّ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي فِي الْإِبِلِ بِقَوْلِهِ: لِتَرْكَبُوا مِنْها إِلَى تُحْمَلُونَ.
فَاللَّامُ فِي لِتَرْكَبُوا مِنْها لَامُ كَيْ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ جَعَلَ أَي لركوبكم.
و (من) فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُنَا لِلتَّبْعِيضِ وَهِيَ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ (مِنْ) أَيْ بَعْضًا مِنْهَا، وَهُوَ مَا أُعِدَّ لِلْأَسْفَارِ مِنَ الرَّوَاحِلِ. وَيَتَعَلَّقُ حرف (من) بتركبوا، وَتَعَلُّقُ (مِنِ) التَّبْعِيَّضِيَّةِ بِالْفِعْلِ تَعَلُّقٌ ضَعِيفٌ وَهُوَ الَّذِي دَعَا التفتازانيّ إِلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ (مِنْ) فِي مِثْلِهِ اسْمٌ بِمَعْنَى بَعْضٍ، وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨].
وَأُرِيدَ بِالرُّكُوبِ هُنَا الرُّكُوبُ لِلرَّاحَةِ مِنْ تَعَبِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْحَاجَةِ الْقَرِيبَةِ بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ.
وَجُمْلَةُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْأَنْعامَ، أَوْ عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى مِنْ جُمْلَةِ لِتَرْكَبُوا مِنْها لِأَنَّهَا فِي قُوَّةِ أَنْ يُقَالَ: تَرْكَبُونَ مِنْهَا، عَلَى وَجْهِ الِاسْتِئْنَافِ لِبَيَانِ الْإِجْمَالِ الَّذِي فِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ، وَعَلَى الِاعْتِبَارَيْنِ فَهِيَ فِي حَيِّزِ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَامُ كَيْ فَمَعْنَاهَا: وَلِتَأْكُلُوا مِنْهَا.
وَجُمْلَةُ وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَالْمَعْنَى أَيْضًا عَلَى اعْتِبَارِ التَّعْلِيلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلِتَجْتَنُوا مَنَافِعَهَا الْمَجْعُولَةَ لَكُمْ وَإِنَّمَا غَيَّرَ أُسْلُوبَ التَّعْلِيلِ تَفَنُّنًا فِي الْكَلَامِ وَتَنْشِيطًا لِلسَّامِعِ لِئَلَّا يَتَكَرَّرَ حَرْفُ التَّعْلِيلِ تِكْرَارَاتٍ كَثِيرَةً.
وَالْمَنَافِعُ: جَمْعُ مَنْفَعَةٍ، وَهِيَ مَفْعَلَةٌ مِنَ النَّفْعِ، وَهِيَ: الشَّيْءُ الَّذِي يُنْتَفَعُ بِهِ، أَيْ يُسْتَصْلَحُ بِهِ. فَالْمَنَافِعُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أُرِيدَ بِهَا مَا قَابَلَ مَنَافِعَ أَكْلِ لُحُومِهَا فِي
215
قَوْلِهِ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ مِثْلَ الِانْتِفَاعِ بِأَوْبَارِهَا وَأَلْبَانِهَا وَأَثْمَانِهَا وَأَعْوَاضِهَا فِي الدِّيَاتِ وَالْمُهُورِ، وَكَذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِجُلُودِهَا بِاتِّخَاذِهَا قِبَابًا وَغَيْرَهَا وَبِالْجُلُوسِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِجَمَالِ مَرْآهَا فِي الْعُيُونِ فِي الْمَسْرَحِ وَالْمَرَاحِ، وَالْمَنَافِعُ شَامِلَةٌ لِلرُّكُوبِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: لِتَرْكَبُوا مِنْها، فَذِكْرُ الْمَنَافِعِ بَعْدَ لِتَرْكَبُوا مِنْها تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى [طه: ١٨] بَعْدَ قَوْلِهِ: هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها [طه: ١٨]، فَذَكَرَ هُنَا الشَّائِعَ الْمَطْرُوقَ عِنْدَهُمْ ثُمَّ ذَكَر مَثِيلَهُ فِي الشُّيُوعِ وَهُوَ الْأَكْلُ مِنْهَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى عُمُومِ الْمَنَافِعِ، ثُمَّ خَصَّ مِنَ الْمَنَافِعِ الْأَسْفَارَ، فَإِنَّ اشْتِدَادَ الْحَاجَةِ إِلَى الْأَنْعَامِ فِيهَا تَجْعَلُ الِانْتِفَاعَ بِرُكُوبِهَا لِلسَّفَرِ فِي مَحَلِّ الِاهْتِمَامِ. وَلَمَّا كَانَتِ الْمَنَافِعُ لَيْسَتْ مُنْحَصِرَةً فِي أَجْزَاءِ الْأَنْعَامِ جِيءَ فِي مُتَعَلِّقِهَا بِحَرْفِ (فِي) دُونَ (مِنْ) لِأَنَّ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ بِقَرِينَةِ السِّيَاقِ فَتَشْمَلُ كُلَّ مَا يُعَدُّ كَالشَّيْءِ الْمُحَوِّي فِي الْأَنْعَامِ، كَقَوْلِ سَبْرَةَ بْنِ عَمْرٍو الْفَقْعَسِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ يَذْكُرُ مَا أَخَذَهُ مِنَ الْإِبِلِ فِي دِيَةِ قَرِيبٍ:
نُحَابِي بِهَا أَكْفَاءَنَا وَنُهِينُهَا وَنَشْرَبُ فِي أَثْمَانِهَا وَنُقَامِرُ
وَأَنْبَأَ فِعْلُ لِتَبْلُغُوا أَنَّ الْحَاجَةَ الَّتِي فِي الصُّدُورِ حَاجَةٌ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ يَطْلُبُهَا صَاحِبُهَا. وَالْحَاجَةُ: النِّيَّةُ وَالْعَزِيمَةُ.
وَالصُّدُورُ أُطْلِقَ عَلَى الْعُقُولِ اتِّبَاعًا لِلْمُتَعَارَفِ الشَّائِعِ كَمَا يُطْلَقُ الْقُلُوبُ عَلَى الْعُقُولِ.
وَأَعْقَبَ الِامْتِنَانَ بِالْأَنْعَامِ بِالِامْتِنَانِ بِالْفُلْكِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ فَقَالَ: وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الِامْتِنَانِ بِجَعْلِ الْأَنْعَامِ، إِلَى الِامْتِنَانِ بِنِعْمَةِ الرُّكُوبِ فِي الْفُلْكِ فِي الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ فَالْمَقْصُودُ هُوَ قَوْلُهُ:
وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَعَلَيْها فَهُوَ تَمْهِيدٌ لَهُ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ بِالْوَاوِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ تَكْرِيرًا لِلْمِنَّةِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَشْمَلُ حَمْلَ الْأَثْقَالِ عَلَى الْإِبِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ [النَّحْل: ٧] فَيَكُونُ إِسْنَادُ الْحَمْلِ إِلَى ضَمِيرِ النَّاسِ تَغْلِيبًا.
216
وُوَجْهُ الِامْتِنَانِ بِالْفُلْكِ أَنَّهُ امْتِنَانٌ بِمَا رَكَّبَ اللَّهُ فِي الْإِنْسَانِ مِنَ التَّدْبِيرِ وَالذَّكَاءِ الَّذِي تَوَصَّلَ بِهِ إِلَى الْمُخْتَرَعَاتِ النَّافِعَةِ بِحَسْبِ مُخْتَلَفِ الْعُصُورِ وَالْأَجْيَالِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤] عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ الْآيَات، وَبَيَّنَّا هُنَالِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَرْكَبُونَ الْبَحْرَ الْأَحْمَرَ فِي التِّجَارَةِ وَيَرْكَبُونَ الْأَنْهَارَ أَيْضًا قَالَ
النَّابِغَةُ يَصِفُ الْفُرَاتَ:
يَظَلُّ مِنْ خَوْفِهِ الْمَلَّاحُ مُعْتَصِمًا بِالْخَيْزُرَانَةِ بَعْدَ الْأَيْنِ وَالنَّجَدِ
وَالْجَمْعُ بَيْنَ السَّفَرِ بِالْإِبِلِ وَالسِّفْرِ بِالْفُلْكِ جَمْعٌ لَطِيفٌ، فَإِنَّ الْإِبِلَ سَفَائِنُ الْبَرِّ، وَقَدِيمًا سَمَّوْهَا بِذَلِكَ، قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَإِنَّمَا قَالَ: وَعَلَى الْفُلْكِ وَلَمْ يَقُلْ: وَفِي الْفُلْكِ، كَمَا قَالَ: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [العنكبوت: ٦٥] لمزاوجة وَالْمُشَاكَلَةِ مَعَ وَعَلَيْها، وَإِنَّمَا أُعِيدَ حِرَفُ (عَلَى) فِي الْفُلْكِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِالذِّكْرِ وَكَانَ ذِكْرُ وَعَلَيْها كَالتَّوْطِئَةِ لَهَا فَجَاءَتْ عَلَى مِثَالِهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَاتِ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ وَقَوْلِهِ: وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ لرعاية على الْفَاصِلَةِ مَعَ الِاهْتِمَامِ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي السِّيَاقِ. وَتَقْدِيمُ لَكُمْ عَلَى الْأَنْعامَ مَعَ أَنَّ الْمَفْعُولَ أَشَدُّ اتِّصَالًا بِفِعْلِهِ مِنَ الْمَجْرُورِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِالْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ فَلِلِاهْتِمَامِ بِالْمُنْعَمِ عَلَيْهِمْ.
وَالْمُنْعِمِ بِهَا لِأَنَّهُ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ.
[٨١]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : آيَة ٨١]
وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (٨١)
عَطَفَ عَلَى جُمْلَةِ لَكُمُ الْأَنْعامَ [غَافِر: ٧٩] أَيِ اللَّهُ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ. وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنْ مُتَعَدَّدِ الِامْتِنَانِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ [غَافِر: ٦١]، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً [غَافِر: ٦٤]، هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ [غَافِر: ٦٧]، اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ [غَافِر: ٧٩]، فَإِنَّ تِلْكَ ذُكِرَتْ فِي مَعْرِضِ الِامْتِنَانِ تَذْكِيرًا
217
بِالشُّكْرِ، فَنَبَّهَ هُنَا عَلَى أَنَّ فِي تِلْكَ الْمِنَنِ آيَاتٍ دَالَّةً عَلَى مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ.
وَلِذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: يُرِيكُمْ آياتِهِ
مُفِيدًا مُفَادَ التَّذْيِيلِ لِمَا فِي قَوْله: اتِهِ
مِنَ الْعُمُومِ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْمُعَرَّفَ بِالْإِضَافَةِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، أَيْ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ فِي النِّعَمِ الْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَوْحِيدِهِ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَنَبْذِ الْمُكَابَرَةِ فِيمَا يَأْتُونَهُمْ بِهِ مِنْ آيَاتِ صِدْقِهِمْ.
وَقَدْ جِيءَ فِي جَانِبِ إِرَاءَةِ الْآيَاتِ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى التَّجَدُّدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا انْتَفَعَ بِشَيْءٍ مِنَ النِّعَمِ عَلِمَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ خَالِقِهَا وَقُدْرَتِهِ
وَحِكْمَتِهِ. وَالْإِرَاءَةُ هُنَا بَصَرِيَّةٌ، عُبِّرَ بِهَا عَنِ الْعِلْمِ بِصِفَاتِ اللَّهِ إِذْ كَانَ طَرِيقُ ذَلِكَ الْعِلْمِ هُوَ مُشَاهَدَةُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ فَمِنْ تِلْكَ الْمُشَاهَدَةِ يَنْتَقِلُ الْعَقْلُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ دَلَالَةَ وُجُودِ الْخَالِقِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ بُرْهَانِيَّةٌ تَنْتَهِي إِلَى الْيَقِينِ وَالضَّرُورَةِ.
وَإِضَافَةُ الْآيَاتِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ لِزِيَادَةِ التَّنْوِيهِ بِهَا، وَالْإِرْشَادِ إِلَى إِجَادَةِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ فِي دَلَائِلِهَا، وَأَمَّا كَوْنُهَا جَائِيَةً مِنْ لَدُنِ اللَّهِ وَكَوْنُ إِضَافَتِهَا مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَى الْفَاعِلِ، فَذَلِكَ أَمْرٌ مُسْتَفَادٌ مِنْ إِسْنَاد فعل رِيكُمْ
إِلَى ضَمِيرِهِ تَعَالَى. وَفُرِّعَ عَلَى إِرَاءَةِ الْآيَاتِ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ إِنْكَارِهِمْ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْآيَات.
و (أيّ) اسْمُ اسْتِفْهَامٍ يُطْلَبُ بِهِ تَمْيِيزُ شَيْءٍ عَنْ مُشَارِكِهِ فِيمَا يُضَافُ إِلَيْهِ (أَيٌّ)، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْكَارِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُمْكِنُ أَنْ يُنْكَرَ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْآيَاتِ فَيُفِيدُ أَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ صَالِحٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ لَا مَسَاغَ لِادِّعَاءِ خَفَائِهِ وَأَنَّهُمْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فِي عَدَمِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ إِحْدَى الْآيَاتِ.
218
وَالْأَكْثَرُ فِي اسْتِعْمَالِ (أَيٍّ) إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى اسْمٍ مُؤَنَّثِ اللَّفْظِ أَنْ لَا تَلْحَقَهَا هَاءُ التَّأْنِيثِ اكْتِفَاءً بِتَأْنِيثِ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْأَسْمَاءِ الَّتِي لَيْسَتْ بِصِفَاتٍ أَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَ مُذَكَّرِهَا وَمُؤَنَّثِهَا بِالْهَاءِ نَحْوَ حِمَارٍ فَلَا يُقَالُ للمؤنث حمارة. و (أيّ) اسْمٌ وَيَزِيدُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ فَلَا يُفَسِّرُهُ إِلَّا الْمُضَافُ إِلَيْهِ فَلذَلِك قَالَ هناأَيَّ آياتِ اللَّهِ
دُونَ: فَأَيَّةَ آيَاتِ اللَّهِ، لِأَنَّ إِلْحَاقَ عَلامَة التَّأْنِيث ب (أَي) فِي مِثْلِ هَذَا قَلِيلٌ، وَمِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ تَأْنِيثُ (أَيٍّ) فِي قَوْلِ الْكُمَيْتِ:
بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عليّ وتحسب
[٨٢- ٨٣]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٨٢ إِلَى ٨٣]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣)
تَفْرِيعُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ عَقِبَ قَوْلِهِ: يُرِيكُمْ آياتِهِ
[غَافِر: ٨١]، يَقْتَضِي أَنَّهُ مُسَاوِقٌ لِلتَّفْرِيعِ الَّذِي قبله وهوأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
[غَافِر: ٨١] فَيَقْتَضِي أَنَّ السَّيْرَ الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ بِالْإِنْكَارِ عَلَى تَرْكِهِ هُوَ سَيْرٌ تَحْصُلُ فِيهِ آيَاتٌ وَدَلَائِلُ عَلَى وُجُودِ اللَّهِ وَوَحْدَانِيَّتِهِ وَكِلَا التَّفْرِيعَيْنِ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غَافِر: ٨٠]، فَذَلِكَ هُوَ مُنَاسَبَةُ الِانْتِقَالِ إِلَى التَّذْكِيرِ بِعِبْرَةِ آثَارِ الْأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَهَا اللَّهُ
تَعَالَى لَمَّا كَذَّبَتْ رُسُلَهُ وَجَحَدَتْ آيَاتِهِ وَنِعَمَهُ.
وَحَصَلَ بِذَلِكَ تَكْرِيرُ الْإِنْكَارِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ قَبْلَ هَذَا: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [غَافِر: ٢١] الْآيَةَ، فَكَانَ مَا تَقَدَّمَ انْتِقَالًا عَقِبَ آيَاتِ الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ، وَكَانَ هَذَا انْتِقَالًا عَقِبَ آيَاتِ الِامْتِنَانِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَفِي كِلَا الِانْتِقَالَيْنِ تَذْكِيرٌ وَتَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ. وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ تَزَعُهُمُ النِّعَمُ عَنْ كُفْرَانِ مُسْدِيهَا كَشَأْنِ أَهْلِ النُّفُوسِ الْكَرِيمَةِ فَلْيَكُونُوا مِمَّنْ يَرْدَعُهُمُ الْخَوْفُ مِنَ الْبَطْشِ كَشَأْنِ أَهْلِ النُّفُوسِ اللَّئِيمَةِ فَلْيَضَعُوا أَنْفُسَهُمْ حَيْثُ يَخْتَارُونَ مِنْ إِحْدَى الْخُطَّتَيْنِ.
219
وَالْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: وَآثاراً فِي الْأَرْضِ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ السَّابِقِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَخُولِفَ فِي عَطْفِ جُمْلَةِ أَفَلَمْ يَسِيرُوا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ فَعُطِفَتْ بِالْفَاءِ لِلتَّفْرِيعِ لِوُقُوعِهَا بَعْدَ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يُفَرَّعُ عَنْهُ إِنْكَارُ عَدَمِ النَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بِخِلَافِ نَظِيرِهَا الَّذِي قَبْلَهَا فَقَدْ وَقَعَ بَعْدَ إِنْذَارِهِمْ بِيَوْمِ الْآزِفَةِ.
وَجُمْلَةُ فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ مُعْتَرِضَةٌ وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى قَوْلِهِ:
كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص ٥٧] وَقَوْلِ عَنْتَرَةَ:
وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلَا تَظُنِّي غَيْرَهُ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ
وَفَائِدَةُ هَذَا الِاعْتِرَاضِ التَّعْجِيلُ بِإِفَادَةِ أَنَّ كَثْرَتَهُمْ وَقُوَّتَهُمْ وَحُصُونَهُمْ وَجَنَّاتِهِمْ لَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ شَيْئًا.
وَجُمْلَةُ فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ الْآيَةَ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ أَيْ كَانُوا كَذَلِكَ إِلَى أَنْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَلَمْ يُصَدِّقُوهُمْ فَرَأَوْا بَأْسَنَا.
وَجَعَلَهَا فِي «الْكَشَّافِ» جَارِيَةً مَجْرَى الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: فَما أَغْنى عَنْهُمْ، وَمَا سَلَكْتُهُ أَنَا أَحْسَنُ وَمَوْقِعُ الْفَاءِ يُؤَيّدهُ.
وَلما فِي (لَمَّا) مِنْ مَعْنَى التَّوْقِيتِ أَفَادَتْ مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُغَيِّرْ مَا بِهِمْ مِنَ النِّعَمِ الْعُظْمَى حَتَّى كَذَّبُوا رُسُلَهُ. وَجَوَابُ (لَمَّا) جُمْلَةُ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُفَسِّرِينَ ذَهَبُوا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ طَرَائِقَ قِدَدًا ذَكَرَ بَعْضَهَا الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِ سَلَفِ الْمُفَسِّرِينَ. وَأَنْهَاهَا صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» إِلَى سِتٍّ، وَمَالَ صَاحِبُ «الْكَشْفِ» إِلَى
إِحْدَاهَا، وَأَبُو حَيَّانَ إِلَى أُخْرَى وَلَا حَاجَةَ إِلَى جَلْبِ ذَلِكَ.
وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي يُرَجَّحُ سُلُوكُهَا هِيَ أَنَّ هُنَا ضَمَائِرَ عَشْرَةً هِيَ ضَمَائِرُ جَمْعِ الْغَائِبِينَ وَأَنَّ بَعْضَهَا عَائِدٌ لَا مَحَالَةَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَأَنَّ وَجْهَ النَّظْمِ أَنْ تَكُونَ الضَّمَائِرُ مُتَنَاسِقَةً غَيْرَ مُفَكَّكَةٍ فَلِذَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً إِلَى مَعَادٍ وَاحِدٍ،
220
فَالَّذِينَ (فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) هُمُ (الَّذِينَ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، وَهُمُ الَّذِينَ (حَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ)، وَالَّذِينَ رَأَوْا بَأْسَ اللَّهِ، فَمَا بِنَا إِلَّا أَنْ نُبَيِّنَ مَعْنَى فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.
فَالْفَرَحُ هُنَا مُكَنَّى بِهِ عَنْ آثَارِهِ وَهِيَ الِازْدِهَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ [الْقَصَص: ٧٦] أَيْ بِمَا أَنْتَ فِيهِ مُكَنًّى بِهِ هُنَا عَنْ تَمَسُّكِهِمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جَادَلُوا الرُّسُلَ وَكَابَرُوا الْأَدِلَّةَ وَأَعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ. وَمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ هُوَ مُعْتَقَدَاتُهُمُ الْمَوْرُوثَةُ عَنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ مِنْ أَسْلَافِهِمْ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالُوا لِرُسُلِهِمْ: نَحْنُ أَعْلَمُ مِنْكُمْ لَنْ نُبْعَثَ وَلَنْ نُعَذَّبَ اهـ. وَإِطْلَاقُ الْعِلْمِ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ تَهَكُّمٌ وَجَرْيٌ عَلَى حَسَبِ مُعْتَقَدِهِمْ وَإِلَّا فَهُوَ جَهْلٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ:
فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ بِجَهْلِهِمْ يَعْنِي فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الْأَنْعَام: ١٤٨].
وَحَاقَ بِهِمْ: أَحَاطَ، يُقَالُ: حَاقَ يَحِيقُ حَيْقًا، إِذَا أَحَاطَ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلشِّدَّةِ الَّتِي لَا تَنْفِيسَ بِهَا لِأَنَّ الْمُحِيطَ بِشَيْءٍ لَا يَدْعُ لَهُ مَفْرَجًا.
وَمَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هُوَ الِاسْتِئْصَالُ وَالْعَذَابُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ رُسُلَهُمْ أوعدوهم بِالْعَذَابِ فاستهزؤوا بِالْعَذَابِ، أَيْ بِوُقُوعِهِ وَفِي ذِكْرِ فِعْلِ الْكَوْنِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ بِوَعِيدِ الرُّسُلِ كَانَ شِنْشَنَةً لَهُمْ، وَفِي الْإِتْيَان ب يَسْتَهْزِؤُنَ مُضَارِعًا إِفَادَةٌ لِتَكَرُّرِ اسْتِهْزَائِهِمْ.
[٨٤- ٨٥]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٨٤ الى ٨٥]
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا
مَوْقِعُ جُمْلَةِ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا مِنْ قَوْلِهِ: فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ [غَافِر:
٨٣] كَمَوْقِعِ جُمْلَةِ فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ [غَافِر: ٨٢] لِأَنَّ إِفَادَةَ (لَمَّا) مَعْنَى التَّوْقِيتِ يُثِيرُ مَعْنَى تَوْقِيتِ انْتِهَاءِ مَا قَبْلَهَا، أَيْ دَامَ دُعَاءُ الرُّسُلِ إِيَّاهُمْ وَدَامَ
221
تَكْذِيبُهُمْ وَاسْتِهْزَاؤُهُمْ إِلَى أَنْ رَأَوْا بأسنا فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ.
وَالْبَأْسُ: الشِّدَّةُ فِي الْمَكْرُوهِ، وَهُوَ جَامِعٌ لِأَصْنَافِ الْعَذَابِ كَقَوْلِه تَعَالَى: فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا [الْأَنْعَام: ٤٢، ٤٣] فَذَلِكَ الْبَأْسُ بِمَعْنَى الْبَأْسَاءِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: تَضَرَّعُوا وَهُوَ هُنَا يَقُولُ: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا فَالْبَأْسُ هُنَا الْعَذَابُ الْخَارِقُ لِلْعَادَةِ الْمُنْذِرُ بِالْفَنَاءِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا رَأَوْهُ عَلِمُوا أَنَّهُ الْعَذَابُ الَّذِي أُنْذِرُوهُ. وَفُرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا، أَيْ حِينَ شَاهَدُوا الْعَذَابَ لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْإِيمَانُ لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ الْإِيمَانَ عِنْدَ نُزُولِ عَذَابِهِ.
وَعَدَلَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ، إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ لِدَلَالَةِ فِعْلِ الْكَوْنِ عَلَى أَنَّ خَبَرَهُ مُقَرَّرُ الثُّبُوتِ لِاسْمِهِ، فَلَمَّا أُرِيدَ نَفْيُ ثُبُوتِ النَّفْعِ إِيَّاهُمْ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِهِ اجْتَلَبَ لِذَلِكَ نَفْيَ فِعْلِ الْكَوْنِ الَّذِي خَبَرُهُ يَنْفَعُهُمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْإِيمَانَ بَعْدَ رُؤْيَةِ بَوَارِقِ الْعَذَابِ لَا يُفِيدُ صَاحِبَهُ مِثْلَ الْإِيمَانِ عِنْدَ الْغَرْغَرَةِ وَمِثْلَ الْإِيمَانِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا عَقِبَهُ.
سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ انتصب سُنَّتَ اللَّهِ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطلق لِأَن سُنَّتَ اسْمُ مَصْدَرِ السَّنِّ، وَهُوَ آتٍ بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: سَنَّ اللَّهُ ذَلِكَ سُنَّةً، فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا لِسُؤَالِ من يسْأَل لماذَا لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْإِيمَانُ وَقَدْ آمَنُوا، فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ تَقْدِيرٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ لِلْأُمَمِ السَّالِفَةِ أَعْلَمَهُمْ بِهِ وَشَرَطَهُ عَلَيْهِمْ فَهِيَ قَدِيمَةٌ فِي عِبَادِهِ لَا يَنْفَعُ الْكَافِرَ الْإِيمَانُ إِلَّا قَبْلَ ظُهُورِ الْبَأْسِ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ قَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [يُونُس: ٩٨].
222
وَهَذَا حُكْمُ اللَّهِ فِي الْبَأْسِ بِمَعْنَى الْعِقَابِ الْخَارِقِ لِلْعَادَةِ وَالَّذِي هُوَ آيَةٌ بَيِّنَةٌ، فَأَمَّا الْبَأْسُ الَّذِي هُوَ مُعْتَادٌ وَالَّذِي هُوَ آيَةٌ خَفِيَّةٌ مِثْلُ عَذَابِ بَأْسِ السَّيْفِ الَّذِي نَصَرَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، فَإِنَّ مَنْ يُؤْمِنُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ مِثْلَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ حِينَ رَأَى جَيْشَ
الْفَتْحِ، أَوْ بَعْدَ أَنْ يَنْجُوَ مِنْهُ مِثْلَ إِيمَانِ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْفَتْحِ بَعْدَ رَفْعِ السَّيْفِ عَنْهُمْ، فَإِيمَانُهُ كَامِلٌ مِثْلَ إِيمَانِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ بَعْدَ ارْتِدَادِهِ.
وَوَجْهُ عَدَمِ قَبُولِ الْإِيمَانِ عِنْدَ حُلُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَقَبُولِ الْإِيمَانِ عِنْدَ نُزُولِ بَأْسِ السَّيْفِ أَنَّ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ مُشَارَفَةٌ لِلْهَلَاكِ وَالْخُرُوجِ مِنْ عَالَمِ الدُّنْيَا فَإِيقَاعُ الْإِيمَانِ عِنْدَهُ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصِدُ مِنْ إِيجَابِ الْإِيمَانِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ حِزْبًا وَأَنْصَارًا لِدِينِهِ وَأَنْصَارًا لِرُسُلِهِ، وَمَاذَا يُغْنِي إِيمَانُ قَوْمٍ لَمْ يَبْقَ فِيهِمْ إِلَّا رَمَقٌ ضَعِيفٌ مِنْ حَيَاةٍ، فَإِيمَانُهُمْ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ اعْتِرَافِ أَهِلِ الْحَشْرِ بِذُنُوبِهِمْ وَلَيْسَتْ سَاعَةَ عَمَلٍ، قَالَ تَعَالَى فِي شَأْن فِرْعَوْن:
إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يُونُس: ٩٠، ٩١]، أَيْ فَلَمْ يَبْقَ وَقْتٌ لِاسْتِدْرَاكِ عِصْيَانِهِ وَإِفْسَادِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الْأَنْعَام: ١٥٨] فَأَشَارَ قَوْلُهُ: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً إِلَى حِكْمَةِ عَدَمِ انْتِفَاعِ أَحَدٍ بِإِيمَانِهِ سَاعَتَئِذٍ. وَإِنَّمَا كَانَ مَا حَلَّ بِقَوْمِ يُونُسَ حَالًا وَسِيطًا بَيْنَ ظُهُورِ الْبَأْسِ وَبَيْنَ الشُّعُورِ بِهِ عِنْدَ ظُهُورِ عَلَاقَاتِهِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ.
وَجُمْلَةُ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ كَالْفَذْلَكَةِ لِقَوْلِهِ: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا، وَبِذَلِكَ آذَنَتْ بِانْتِهَاءِ الْغَرَضِ مِنَ السُّورَةِ. وهُنالِكَ اسْمُ إِشَارَةٍ إِلَى مَكَانٍ، اسْتُعِيرَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى الزَّمَانِ، أَيْ خَسِرُوا وَقْتَ رُؤْيَتِهِمْ بَأْسَنَا إِذِ انْقَضَتْ حَيَاتُهُمْ وَسُلْطَانُهُمْ وَصَارُوا إِلَى تَرَقُّبِ عَذَابٍ خَالِدٍ مُسْتَقْبَلٍ.
وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [غَافِر: ٢١] إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ وَهُوَ الْكافِرُونَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ سَبَبَ خُسْرَانِهِمْ هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَذَلِكَ إِعْذَارٌ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ.
223
أُسْلُوبُ سُورَةِ غَافِرٍ
أُسْلُوبُهَا أُسْلُوبُ الْمُحَاجَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِدْقِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِبْطَالِ ضَلَالَةِ الْمُكَذِّبِينَ وَضَرْبِ مَثَلِهِمْ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ، وَتَرْهِيبِهِمْ مِنَ التَّمَادِي فِي ضَلَالِهِمْ وَتَرْغِيبِهِمْ فِي التَّبَصُّرِ لِيَهْتَدُوا. وَافْتُتِحَتْ بِالْحَرْفَيْنِ الْمُقَطَّعَيْنِ مِنْ حُرُوفِ الْهِجَاءِ لِأَنَّ أَوَّلَ أَغْرَاضِهَا أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَفِي حَرْفَيِ الْهِجَاءِ رَمْزٌ إِلَى عَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بَعْدَ أَنْ تَحَدَّاهُمْ، لِذَلِكَ فَلَمْ يَفْعَلُوا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَفِي ذَلِكَ الِافْتِتَاحِ تَشْوِيقٌ إِلَى تَطَلُّعِ مَا يَأْتِي بَعْدَهُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ.
وَكَانَ فِي الصِّفَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى اسْمِ مُنَزِّلِ الْقُرْآنِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْبَشَرِ لِأَنَّهُ كَلَامُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَإِيمَاءٌ إِلَى تَيْسِيرِ إِقْلَاعِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ، وَتَرْهِيبٌ مِنَ الْعِقَابِ عَلَى الْإِصْرَارِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ بَرَاعَةِ الِاسْتِهْلَالِ. ثُمَّ تَخَلَّصَ مِنَ الْإِيمَاءِ وَالرَّمْزِ إِلَى صَرِيحِ وَصْفِ ضَلَالِ الْمُعَانِدِينَ وَتَنْظِيرِهِمْ بِسَابِقِيهِمْ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَهَا اللَّهُ.
وَخُصَّ بِالذِّكْرِ أَعْظَمُ الرُّسُلِ السَّالِفِينَ وَهُوَ مُوسَى مَعَ أُمَّةٍ مِنْ أَعْظَمِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَهُمْ أَهْلُ مِصْرَ وَأُطِيلَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ مُمَاثِلَةِ حَالِهِمْ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ فِي الِاعْتِزَازِ بِأَنْفُسِهِمْ، وَفِي قِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ مِثْلَ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ، وَتَخَلَّلَ ذَلِكَ ثَبَاتُ مُوسَى وَثَبَاتُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ إِيمَاءً إِلَى التَّنْظِيرِ بِثَبَاتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ وَسِعَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى إِعَادَةِ الْأَمْوَاتِ. وَخُتِمَتْ بِذِكْرِ أَهْلِ الضَّلَالِ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ الَّذِينَ أَوْبَقَهَمُ الْإِعْجَابُ بِرَأْيِهِمْ وَثِقَتُهُمْ بِجَهْلِهِمْ فَصُمَّتْ آذَانُهُمْ عَنْ سَمَاعِ حُجَجِ الْحَقِّ، وَأَعْمَاهُمْ عَنِ النَّظَرِ فِي دَلَائِلِ الْكَوْنِ فَحَسِبُوا أَنَّهُمْ عَلَى كَمَالٍ لَا يَنْقُصُهُمْ مَا بِهِ حَاجَةٌ إِلَى الْكَمَالِ، فَحَاقَ بِهِمُ الْعَذَابُ، وَفِي هَذَا رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ. وَخَوَّفَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الِانْزِلَاقِ فِي مَهْوَاةِ الْأَوَّلِينَ بِأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ الْإِمْهَالُ ثُمَّ الْمُؤَاخَذَةُ، فَكَانَ ذَلِكَ كَلِمَةً جَامِعَةً لِلْغَرَضِ أَذِنَتْ بِانْتِهَاءِ الْكَلَامِ فَكَانَتْ مَحْسِنَ الْخِتَامِ.
224
وَتَخَلَّلَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الْمُسْتَطْرَدَاتِ وَالِانْتِقَالَاتِ بِذِكْرِ ثَنَاءِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَثَنَائِهِمْ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَذِكْرِ مَا هُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّدَامَةِ، وَتَمْثِيلِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَتَشْوِيهِ حَالِ الْكَافِرِينَ فِي الْآخِرَةِ، وَتَثْبِيتِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى إِيمَانِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ نَاصِرٌ رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمْرِهِمْ بِالصَّبْرِ وَالتَّوَكُّلِ، وَأَنَّ شَأْنَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَشَأْنِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ فِي لُقْيَانِ التَّكْذِيبِ وَفِي أَنَّهُ يَأْتِي بِالْآيَاتِ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ دُونَ مُقْتَرَحَاتِ الْمُعَانِدِينَ.
225

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٤١- سُورَةُ فُصِّلَتْ
تُسَمَّى حم السَّجْدَةِ بِإِضَافَةِ حم إِلَى السَّجْدَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِ، وَبِذَلِكَ تُرْجِمَتْ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» لِأَنَّهَا تَمَيَّزَتْ عَنِ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحُرُوفِ حم بِأَنَّ فِيهَا سَجْدَة من سُجُود الْقُرْآنِ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» عَنْ خَلِيلِ بْنِ مُرَّةَ (١) :«أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ: تَبَارَكَ، وَحم السَّجْدَةِ
(٢).
وَسُمِّيَتْ فِي مُعْظَمِ مَصَاحِفِ الْمَشْرِقِ وَالتَّفَاسِيرِ سُورَةَ السَّجْدَةِ، وَهُوَ اخْتِصَارُ قَوْلِهِمْ:
حم السَّجْدَةِ وَلَيْسَ تَمْيِيزًا لَهَا بِذَاتِ السَّجْدَةِ. وَسميت هَذِه السُّورَة فِي كَثِيرٍ مِنَ التَّفَاسِيرِ سُورَةَ فُصِّلَتْ. وَاشْتُهِرَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي تُونِسَ وَالْمَغْرِبِ سُورَةُ فُصِّلَتْ لِوُقُوعِ كَلِمَةِ فُصِّلَتْ آياتُهُ [فُصِّلَتْ: ٣] فِي أَوَّلِهَا فَعُرِفَتْ بِهَا تَمْيِيزًا لَهَا مِنَ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحُرُوفِ حم. كَمَا تَمَيَّزَتْ سُورَةُ الْمُؤْمِنِ بِاسْمِ سُورَةِ غَافِرٍ عَنْ بَقِيَّةِ السُّورِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحُرُوفِ حم.
وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ: وَتُسَمَّى سُورَةَ الْمَصَابِيحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [فصلت: ١٢]، وَتُسَمَّى سُورَةَ الْأَقْوَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها [فصلت: ١٠].
_________
(١) هُوَ خَلِيل بن مرّة الضبعِي (بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْمُوَحدَة) الْبَصْرِيّ الرقّي، روى عَن عَطاء وَقَتَادَة، وروى عَنهُ اللَّيْث وَابْن وهب وَأحمد بن حَنْبَل. قَالَ البُخَارِيّ: هُوَ مُنكر الحَدِيث توفّي سنة سِتِّينَ وَمِائَة.
(٢) الْمَعْرُوف هُوَ
حَدِيث التِّرْمِذِيّ عَن جَابر: «كَانَ رَسُول الله لَا ينَام حَتَّى يقْرَأ: آلم تَنْزِيل، وتبارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك»

. وَلَا مُنَافَاة بَين الْحَدِيثين.
227
وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي «التَّبْصِرَةِ» : تُسَمَّى سَجْدَةَ الْمُؤْمِنِ وَوَجْهُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ قَصْدُ تَمْيِيزِهَا عَنْ سُورَةِ الم السَّجْدَةِ الْمُسَمَّاةِ سُورَةَ الْمَضَاجِعِ فَأَضَافُوا هَذِهِ إِلَى السُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهِيَ
سُورَةُ الْمُؤْمِنِ كَمَا مَيَّزُوا سُورَةَ الْمَضَاجِعِ بِاسْمِ سَجْدَةِ لُقْمَانَ لِأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بَعْدَ سُورَةِ لُقْمَانَ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ غَافِرٍ وَقبل سُورَةِ الزُّخْرُفِ، وَعُدَّتِ الْحَادِيَةَ وَالسِتِّينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ. وَعُدَّتْ آيُهَا عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ مَكَّةَ ثَلَاثًا وَخَمْسِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الشَّامِ وَالْبَصْرَةِ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَرْبَعًا وَخَمْسِينَ.
أَغْرَاضُهَا
التَّنْوِيهُ بِالْقُرْآنِ وَالْإِشَارَةُ إِلَى عَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ. وَذِكْرُ هَدْيِهِ، وَأَنَّهُ مَعْصُومٌ مِنْ أَنْ يَتَطَرَّقَهُ الْبَاطِلُ، وَتَأْيِيدُهُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ. وَتَلَقِّي الْمُشْرِكِينَ لَهُ بِالْإِعْرَاضِ وَصَمِّ الْآذَانِ. وَإِبْطَالُ مَطَاعِنِ الْمُشْرِكِينَ فِيهِ وَتَذْكِيرُهُمْ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ أَصْلًا فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ بِهَدْيِهِ. وَزَجْرُ الْمُشْرِكِينَ وَتَوْبِيخُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِخَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَعَ بَيَانِ مَا فِي خَلْقِهَا مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ.
وَإِنْذَارُهُمْ بِمَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَوَعِيدُهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَشَهَادَةِ سَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأَجْسَادِهِمْ عَلَيْهِمْ وَتَحْذِيرُهُمْ مِنَ الْقُرَنَاءِ الْمُزَيِّنِينَ لَهُمُ الْكُفْرَ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالنَّاسِ وَأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى اتِّبَاعِهِمْ فِي الدُّنْيَا
228
Icon