ﰡ
وعن عكرمةَ قال: (ألر و حم و ن حُرُوفُ الرَّحْمَنِ مُقَطَّعَةٌ)، وَقِيْلَ: (أقسمَ اللهُ بحَمَلَةِ " عرشهِ " وَمَلاَئِكَتِهِ لاَ يعذِّبُ أحَداً عَادَ إلَيْهِ يقُوْلُ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ مُخْلِصاً مِنْ قَلْبهِ)، وقال عطاء الخراسانِيُّ: (الْحَاءُ: افْتِتَاحُ أسْمَاءِ اللهِ: حَلِيمٌ وَحَمِيدٌ وَحَيٌّ وَحَكِيمٌ، وَالْمِيمُ: افْتِتَاحُ أسْمَائِهِ: مَلِكٌ وَمَجِيدٌ وَمَنَّانٌ)، وقال الضحَّاك: (حم قَضَى مَا هُوَ كَائِنٌ).
﴿ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾؛ أي مصيرُ مَن آمَنَ، ومصيرُ مَن لم يؤمِنْ، وعن الحسنِ رضي الله عنه: (أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب رضي الله عنه سَأَلَ عَنْ بَعْضِ إخْوَانِهِ الَّذِينَ كَانُوا بالشَّامِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ أخِي فُلاَنٌ؟ وَقَالُوا: ذاكَ أخُو الشَّيْطَانِ يُخَالِطُ أهْلَ الأَشْرَفِيَّةِ وخَالَفَ أصْحَابَهُ. فَقَالَ: إذا خَرَجْتُمْ إلَى الشَّامِ فَآذِنُونِي. فَلَمَّا أرَادُوا الْخُرُوجَ أعْلَمُوهُ، فَكَتَب: مِنْ عَبْدِاللهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب أمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إلَى فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سَلاَمٌ عَلَيْكَ؛ فَإنِّي أحْمَدُ إلَيْكَ اللهَ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ. أمَّا بَعْدُ: فَإنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿ حـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ * غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ... ﴾ إلَى قَوْلِهِ ﴿ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾.
وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِِتَابُ قَالُواْ لَهُ: اقْرَأ كِتَابَكَ أيُّهَا الرَّجُلُ، فَلَمَّا قَرَأ ﴿ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ ﴾ قَالَ: عَلِيمٌ بمَا أصْنَعُ.
﴿ غَافِرِ ٱلذَّنبِ ﴾ إن اسْتَغْفَرْتُ غَفَرَ لِي، و ﴿ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ ﴾ إنْ أنَا تُبْتُ لِيَقْبَلَ تَوْبَتِي.
﴿ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ﴾ إنْ لَمْ أفْعَلْ عَاقَبَنِي ﴿ ذِي ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾.
ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللهُ وَنَصَحَ عُمَرُ رضي الله عنه، فَأَقْبَلَ بطَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ إلَى أنْ مَاتَ. فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ أمْرُهُ، قَالَ: هَكَذا فَاصْنَعُوا؛ إذا رَأيْتُمْ أخَاكُمْ نَزَلَ فَشَدِّدُوهُ وَوَفِّقُوهُ، وَادْعُوا اللهَ لَهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، وَلاَ تَكُونُوا أعْوَاناً لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ).
﴿ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي ٱلْبِلاَدِ ﴾؛ بالتَّجارَاتِ وسلامِتهم في تصرُّفاتِهم بعدَ كُفرِهم، فإنَّ عاقبةَ أمرِهم العذابُ كعاقبةِ مَن قبلهم من الكفَّار. وَقِيْلَ: معناهُ: فلا يَغْرُرْكَ ذهابُهم ومجيئُهم في الأسفار بالتِّجارات، فإنَّهم لَيسُوا على شيءٍ.
﴿ قَوْمُ نُوحٍ ﴾؛ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ ﴾؛ وهم الذين تحزَّبُوا على أنبيائِهم بالتكذيب نحوُ عادٍ وثَمود؛ أي كذبُوا رُسلَهم كما كذبك قومُكَ.
﴿ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ﴾؛ فيقتلوهُ.
﴿ وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ ﴾؛ أي وخاصَمُوا الرُّسلَ بالباطلِ ليُبطِلُوا به الحقَّ الذي جاءَت به الرسلُ.
﴿ فَأَخَذْتُهُمْ ﴾، بعاقبةِ الاستئصالِ.
﴿ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾؛ لَهم.
﴿ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ ﴾، في الآخرةِ.
﴿ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾؛ بأنه واحدٌ لا شريكَ له.
﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، ويقولون: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً ﴾؛ أي وسِعَتْ رحمتُكَ كلَّ شيءٍ.
﴿ فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ ﴾؛ عن الشِّركِ والمعصيةِ.
﴿ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ﴾؛ الطريقَ الذي دعوتَهم إليه.
﴿ وَقِهِمْ ﴾، وادفَعْ عنهم.
﴿ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾؛ أي ربَّنا وأدخِلهُم بساتينَ إقامةٍ.
﴿ ٱلَّتِي وَعَدْتَّهُمْ ﴾؛ في الكتُب على ألسِنَةِ الرُّسلِ، وأدخِلْ معهم.
﴿ وَمَن صَـلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾؛ ونسائِهم وأولادهم.
﴿ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ﴾؛ في مُلكِكَ وسُلطانِكَ.
﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ في أمْرِكَ وقضائِكَ.
﴿ وَقِهِمُ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾؛ وادفَعْ عنهم عقوبةَ السَّيئاتِ.
﴿ وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ ﴾ ومَن يدفَعْ عنه عقوبةَ السيئاتِ.
﴿ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾؛ أي النجاةُ الوافرة. وانتصبَ قولهُ ﴿ رَّحْمَةً وَعِلْماً ﴾ على التمييزِ، قال ابنُ عبَّاس: (حَمَلَةُ الْعَرْشِ مَا بَيْنَ كَعْب أحَدِهِمْ إلَى أسْفَلِ قَدَمِهِ مَسِيرَةُ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ، وَمُسْتَقَرُّ أرْجُلِهِمْ فِي الأَرْضِ السَّابعَةِ السُّفْلَى، وَرُؤُوسُهُمْ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَهُمْ خُشُوعٌ لاَ يَرْفَعُونَ أبْصَارَهُمْ، وَهُمْ أشَدُّ خَوْفاً مِنْ أهْلِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ). وعن الضحَّاك قال: (لَمَّا خَلَقَ اللهُ حَمَلَةَ الْعَرْشِ قَالَ لَهُمْ: احْمِلُوا عَرْشِي، وَلَمْ يُطِيقُوا! فَخَلَقَ مَعَ كُلِّ مَلَكٍ مِنَ الأَعْوَانِ مِثْلَ جُنُودِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، وَقَالَ لَهُمْ: احْمِلُوا عَرْشِي، فَلَمْ يُطِيقُوا! فَخَلَقَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الأَعْوَانِ مِثْلَ جُنُودِ سَبْعِ سَمَاوَاتِ وَأرْضِينَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، وَمِثْلَ مَنْ فِي الأَرْضِينَ مِنَ الْخَلْقِ، وَقَالَ لَهُم: احْمِلُوا عَرْشِي، فَلَمْ يُطِيقُواْ! فَخَلَقَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ جُنُودِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَجُنُودِ سَبْعِ أرْضِينَ وَعَدَدَ مَا فِي الرَّمْلِ مِنَ الْحَصَى وَالثَّرَى وَقَالَ: احْمِلُوا عَرْشِي، فَلَمْ يُطِيقُوا! فَقَالَ: قُولُوا: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ، فَلَمَّا قَالُوهَا حَمَلُواْ الْعَرْشَ)، وقال صلى الله عليه وسلم:" أُذِنَ لِي أنْ أتَحَدَّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ مَا بَيْنَ شَحْمَتَي أُذُنِهِ إلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعَمِائَةِ عَامٍ ".
قالوا هكذا لأنَّهم كانوا في الدُّنيا فكذبوا في البعثِ، فاعترَفُوا في النار بما كذبوا بهِ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ﴾؛ أي بالتَّكذيب. وقال بعضُهم: أرادَ بالموتِ الأُولى التي تكون عند قبضِ الأرواحِ، وبالموتِ الثانية التي تكون بعدَ الإحياءِ في القبرِ للسُّؤال؛ لأنَّهم أُمِيتُوا في الدُّنيا ثم أُحْيُوا في قبورهم فسُئِلُوا، ثم أُمِيتُوا في قبورهم، ثم أُحْيُوا في الآخرةِ للبعث، فيكون المرادُ بالإحياءِ الأَول الإحياءُ في القبرِ، وبالإحياءِ الثاني الإحياءُ للبعثِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ﴾ أي بإنعَامِكَ علينا ونفوذ قضائِكَ فينا وتكذيبنا في الدُّنيا.
﴿ فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن ﴾؛ النار، من.
﴿ سَبِيلٍ ﴾، طريقٍ فنُؤمِنَ بكَ ونرجِعَ إلى طاعتك؟فيجابُون: ليس إلى خروجٍ مِن سبيلٍ، يقالُ لَهم: ﴿ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ ﴾؛ أي ذلك العذابُ في النار والْمَقْتُ بأنَّكم إذا قيلَ لكم في الدُّنيا: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، أنْكَرتُم وكفرتُم وقلتُم أجَعلَ الآلهةَ إلهاً واحداً.
﴿ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ ﴾؛ باللهِ.
﴿ تُؤْمِنُواْ ﴾، صدَّقتُم.
﴿ فَٱلْحُكْمُ للَّهِ ٱلْعَلِـيِّ ﴾؛ في سُلطانهِ.
﴿ ٱلْكَبِيرِ ﴾؛ في عظَمتهِ لا يُرَدُّ حكمهُ.
﴿ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْقاً ﴾؛ يعني المطرَ الذي يسببُ الأرزاقَ.
﴿ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ ﴾؛ أي ما يتَّعِظُ بهذه المصنوعاتِ. وَقِيْلَ: معناهُ: وما يتَّعِظُ بالقرآن إلاَّ من يرجعُ إلى دلائلِ الله فيتدبَّرها. ثم أمَرَ المؤمنين بتوحيدهِ فقالَ: ﴿ فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ ﴾؛ أي مخلصين له الطاعةَ موحِّدين.
﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ ﴾؛ منكُم ذلكَ. ثم عظَّمَ تعالى نفسَهُ فقالَ: ﴿ رَفِيعُ ٱلدَّرَجَاتِ ذُو ٱلْعَرْشِ ﴾؛ أي رافعُ درجاتِكم، والرفيعُ بمعنى الرافعِ، والمعنى: أنه يرفعُ درجات الأنبياءِ والأولياء في الجنَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذُو ٱلْعَرْشِ ﴾ أي خالِقهُ ومالِكهُ.
﴿ يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ ﴾، أي ينزل الوحي.
﴿ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾؛ أي على مَن يختصُّ بالنبوَّة والرسالةِ.
﴿ لِيُنذِرَ ﴾؛ ذلك النبيُّ الموحَى إليه.
﴿ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ ﴾؛ أي يومَ القيامةِ، وسُمي يومَ التَّلاَقِ؛ لأنه يلتقِي فيه أهلُ السماوات والأرضِ، والمؤمنون والكافرونَ والظالمون والمظلُومون، ويلتقِي المرءُ فيه بعملهِ، وقرأ الحسنُ: ( ﴿ لِتُنْذِرَ ﴾ بالتاء (يَا مُحَمَّدُ يَوْمَ التَّلاَقِ) أي لِتُخَوِّفَ فِيْهِ)، وقرأ العامةُ بالياء، أي ليُنذِرَ اللهُ.
﴿ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ ﴾؛ ولاَ مِن أعمالِهم.
﴿ شَيْءٌ ﴾؛ ومحلُّه رُفع بالابتداءِ، و ﴿ بَارِزُونَ ﴾ خبرهُ. ويقولُ اللهُ في ذلك اليومِ: ﴿ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ﴾؛ فيقولُ الخلقُ كلُّهم: ﴿ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ ﴾؛ وقال الحسنُ: (هُوَ السَّائِلُ وَالْمُجِيبُ؛ لأَنَّهُ يَقُولُ ذلِكَ حِينَ لاَ أحَدَ يُجِيبُهُ، فََيُجِيبُ نَفْسَهُ). وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الْحَمْدُ للهِ الَّّذي تَصَرَّفَ بالْقُدْرَةِ وَقَهَرَ الْعِبَادَ بالْمَوْتِ، نَظَرَ اللهُ إلَيْهِ، وَمَنْ يَنْظُرْ إلَيْهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ كُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي الأَرْضِ ".
﴿ لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ ﴾؛ من أحدٍ إلى أحدٍ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾؛ يُحاسِبُهم جميعاً في ساعةٍ واحدة، يظنُّ كلُّ واحدٍ أنه المجابُ دون غيرهِ.
﴿ إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ﴾؛ أي تزولُ القلوبُ من مواضعِها من الخوفِ، فتشخَصُ صدورُهم حتى يبلغَ حاجِزَهم في الحلُوقِ، فلا هي تعودُ إلى أماكنِها ولا هي تخرجُ من أفواهِهم فيموتُوا فيستريحوا. وذلك أنَّ القلبَ بين فَلَقَتَي الرِّئة، فإذا انتفخَتِ الرِّئَةُ عند الفزَعِ رفعَتِ القلبَ حتى يبلُغَ الحنجرةَ، فيلصقُ بالحنجرةِ فلا يقدرُ صاحبه على أن يرُدَّهُ إلى مكانهِ، ولا على أن يلفُظَ به فيستريح. ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ ﴾[الأحزاب: ١٠]، وقولهُ تعالى:﴿ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ ﴾[الواقعة: ٨٣] وقولهُ تعالى﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ ﴾[إبراهيم: ٤٣] وقولهُ تعالى:﴿ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ ﴾[القيامة: ٢٦].
وقولهُ تعالى: ﴿ كَاظِمِينَ ﴾ أي مَغمُومِينَ مكرُوبينَ مُمتَلِئين غَمّاً وخَوفاً وحُزناً، يعني أصحابَ القُلوب يتردَّدُ حُزْنُهم وحسراتُهم في أجوافِهم، والكَاظِمُ: هو الممتلِيءُ أسَفاً وغَيظاً، والكَظْمُ تردُّدُ الغيظِ والحزنِ والخوف في القلب حتى يضيقَ به، نصبَ (كَاظِمِينَ) على الحالِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾؛ أي ما لَهم مِن قريبٍ ينفعُهم ولا شفيعٍ يطاعُ الشفيع فيهم فتُقبَلَ شفاعتهُ.
وفي الحديثِ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِِعَلِيٍّ رضي الله عنه:" لاََ تُتْبعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإنَّ لَكَ الأٌوْلَى وَعَلَيْكَ الثَّانِيَةَ "، يعني بأنَّ الأُولى إذا وقعَ نظرٌ إلى موضعٍ لا يجوزُ له النظرُ إليه لا عن تعَمُّد منه، فإنه لا يكون إثماً في ذلك، وإنما يأثَمُ إذا عادَ بالنظرِ ثانيةً. وقولهُ تعالى: ﴿ وَمَا تُخْفِي ٱلصُّدُورُ ﴾؛ أي ويعلمُ ما تُضمِرُ الصدورُ عند خَائنةِ الأعيُن، ويعلمُ ما تُسِرُّ القلوبُ من المعصيةِ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ﴾؛ لِمَقَالَتِهم.
﴿ ٱلْبَصِيرُ ﴾؛ بهم وأعمالِهم.
﴿ وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾؛ أي حجَّة ظاهرةٍ.
﴿ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَـذَّابٌ ﴾؛ أي كثيرُ الكذب، وخُصَّ فرعونُ وهامان وقارون بالكذب؛ لأنَّهم كانوا همُ المتبُوعِين، وفي ذكرِ المتبوعين ذكرُ التابعين.
﴿ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ﴾؛ حتى يدفعَ ذلك القتلَ عنه. ثم بيَّن لأيِّ معنى يقتلهُ فقال: ﴿ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُـمْ ﴾؛ يعني يبدِّلَ عبادتكم إيَّايَ.
﴿ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي ٱلأَرْضِ ٱلْفَسَادَ ﴾؛ وأرادَ ظُهورَ الهدَى وتغيُّرَ أحكَامِ فرعون فجعلَ ذلك فساداً. قرأ الكوفيُّون ويعقوب: (أوْ أنْ يُظْهِرَ) بالألفِ، وقرأ نافعُ وأبو عمرو: (وَيُظْهِرَ) بضمِّ الياء وكسرِ الهاء، ونصب (الْفَسَادَ)، وقرأ الباقون بفتحِ الياءِ والهاء ورفعِ (الْفَسَادُ)، واختارَ أبو عُبيد قراءةَ نافعٍ وأبو عمرٍو، ولأنَّها أشبهُ بما قبلَها لإسنادِ الفعل إلى موسى وعطفهِ على بدَلِه.
﴿ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ ﴾، مُتَعَظِّمٍ عن الإيمانِ وعن قَبول الحقِّ لا يصدِّقُ بيومِ القيامة، استعاذ موسَى بالله مِمَّن أرادَ به سُوءً.
﴿ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ﴾؛ لا يضرُّكم ذلك.
﴿ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ ﴾؛ أي يُصِبكُمْ كلُّ الذي يَعِدُكم من العذاب إنْ قتلتموهُ وهو صادقٌ. والمرادُ بالبعضِ الكلَّ في هذه الآيةِ، وقال الليثُ: (بَعْضُ هَا هُنَا زَائِدَةٌ؛ أيْ يُصِبْكُمُ الَّّذِي يَعِدُكُمْ)، وقال أهلُ المعاني: هذا على الْمُظَاهَرَةِ في الحِجَاجِ، كأنهُ قالَ لَهم: أقلُّ ما يكون في صِدقهِ أنْ يُصِبكُم بعضُ الذي يَعِدْكم وفي بعضِ ذلك هَلاكُكم)، فذكرَ البعضَ ليُوجِبَ الكلَّ، ويدلُّ على ذكر البعضِ بمعنى الكلِّ، قال لبيد: تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إذا لَمْ أرْضَهَا أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَاأراد كلَّ النُّفُوسِ، ومثلُ قولِ الآخر. قَدْ يُدْركُ الْمُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُوقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾؛ أي لا يهدِيهِ في الآخرةِ إلى جنَّتهِ وثوابهِ. والمسرِفُ هو المتجاوزُ عن الحدِّ في المعصيةِ.
﴿ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا ﴾؛ أي فمَن يَمنَعُنا من عذاب الله إنْ جاءَنا.
﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ ﴾؛ أي ما أُشِيرُ عليكم إلاَّ ما أراهُ حقّاً من الصواب في أمرِ مُوسَى.
﴿ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ ﴾؛ أي ما أُعَرِّفُكم إلاَّ طريقَ الهدى.
﴿ مِثْلَ دَأْبِ ﴾؛ مِثلَما نزلَ بالأُمَمِ الماضيةِ قبلَكُم حين كذبُوا رُسُلَهم.
﴿ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ﴾.
وقوله تعالى: ﴿ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ ﴾؛ أي لا يُعاقِبُ أحداً بلا جُرمٍ.
﴿ مَا لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴾؛ أي مَانِعٍ يَمْنَعُكم من عذابهِ.
﴿ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾.
وَقِيْلَ: معنى قوله ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قَبلِ الْمُؤِمِنِ. وقولهُ تعالى: ﴿ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ بِهِ ﴾؛ أي في شَكٍّ من عبادةِ الله وحدَهُ.
﴿ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ ﴾، حتى إذا ماتَ.
﴿ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً ﴾؛ يأمُرنا وينهَانا.
﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ ﴾؛ هكذا يُهلِكُ اللهُ مَن هو متجاوزٌ عن الحدِّ.
﴿ مُّرْتَابٌ ﴾؛ أي شَاكٌّ في توحيدِ الله وصدقِ أنبيائه.
﴿ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾؛ أي عَظُمَ جدالُهم بُغْضاً وسُخْطاً عندَ الله وعند الذين آمنوا.
﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ ﴾؛ أي هكذا يَختمُ اللهُ بالكفرِ.
﴿ عَلَىٰ كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ ﴾؛ عن الإيمانِ.
﴿ جَبَّارٍ ﴾؛ للناسِ على " ما " يُريد. قال ابنُ عبَّاس: (يَخْتُمُ عَلَى قُلُوبهِمْ فَلاَ يَسْمَعُونَ الْهُدَى وَلاَ يَعْقِلُونَ الرَّشَادَ) وقُرئ (عَلَى كُلِّ قَلْبٍ) بالتنوينِ، وقال الزجاجُ: (الْوَجْهُ الإضَافَةُ لأَنَّ الْمُتَكَبرَ هُوَ الإنْسَانُ).
﴿ وَمَا كَـيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ ﴾؛ أي في خَسَارٍ وهلاكٍ.
﴿ يٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا مَتَاعٌ ﴾؛ أي مشقَّةٌ يسيرةٌ تنقطعُ.
﴿ وَإِنَّ ٱلآخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلْقَـرَارِ ﴾؛ فلا تزولُ أي هي المحِلُّ الذي يقعُ فيه الاستقرارُ.
﴿ فَلاَ يُجْزَىٰ إِلاَّ مِثْلَهَا ﴾؛ فلا يُجزى إلاَّ مثلَها في العِظَمِ، معنى النار.
﴿ وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً ﴾؛ أي طاعةً.
﴿ مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾؛ مخلصٌ، قال ابنُ عبَّاس: (يَعْنِي قَوْلَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ) ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾؛ أي بما لا يُعرَفُ له مقدارٌ.
﴿ وَتَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّه ﴾، وتدعونَني إلى عملِ أهلِ النَّار وهو الشِّركُ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ﴾؛ أي من لا أعرفُ له ربوبيَّته.
﴿ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى ٱلْعَزِيزِ ﴾؛ أي الغالب المنتَقِم ممن عصاهُ.
﴿ ٱلْغَفَّارِ ﴾؛ لِمَن تابَ وآمَنَ.
﴿ وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ ﴾؛ أي وإنَّ المتجاوزين عن الحدِّ في الكُفرِ وسَفكِ الدماء بغيرِ الحقِّ.
﴿ هُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ ﴾.
﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِيۤ إِلَى ٱللَّهِ ﴾؛ أي وأتركُ أمرَ نفسي إلى اللهِ فأَثِقُ به ولا أشتَغِلُ بكم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ ﴾؛ أي بأوليائهِ وأعدائه.
﴿ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ ﴾؛ أي نزلَ بفرعون وقومه أشَدُّ العذاب، قال الكلبيُّ: (غَرِقُوا في الْبَحْرِ وَدَخَلُواْ النَّارَ) والمعنى: وحاقَ بآلِ فرعون سوءُ العذاب، في الدُّنيا الغرقُ، وفي الآخرةِ النارُ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ﴾؛ ارتفاعُ (النارُ) على البدلِ من ﴿ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ﴾ أي صَباحاً ومسَاءً، يقالُ لَهم: يا آلَ فرعون هذهِ منازلُكم، توبيخاً ونقمةً، قال ابنُ مسعود: (إنَّ أرْوَاحَ آلِ فِرْعَوْنَ فِي أجْوَافِ طَيْرٍ سُودٍ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّار كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ)، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" إنَّ أحَدَكُمْ إذا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ " أهْلِ " الْجَنَّةِ، وَإنْ كَانَ مِنْ أهْلِ النَّار فَمِنْ " أهْلِ " النَّار، يُقَالُ: هَذا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". وقولهُ تعالى: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ ﴾ قرأ نافعُ والكوفيُّون بقطعِ الألفِ وكسرِ الخاء؛ أي يقالُ للملائكةِ: أدْخِلُوا آلَ فرعون أشدَّ العذاب، وهو الدَّرْكُ الأسفلُ من النار، وقرأ الباقون بضَمِّ الخاء ووصلِ الألف على الأمرِ لهم بالدخول.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ ٱلْعِبَادِ ﴾؛ أي قضَى بهذا علينا وعليكم وحَكَمَ أنْ لا يتحملَ أحدٌ عذابَ أحدٍ. فلما رأوا شدَّة العذاب.
﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّار ﴾، قالوا.
﴿ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ ٱلْعَذَاب ﴾؛ أي يُهَوِّنْ عنَّا العذابَ قدر يومٍ من أيَّام الدُّنيا.
﴿ قَالُوۤاْ ﴾، فيقول الزبانية: ﴿ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾؛ أي بالدَّلالاتِ الظاهرةِ على وحدانيَّة اللهِ.
﴿ قَالُواْ بَلَىٰ ﴾، فيقولون: بلَى قد أتَتْنا الرسُل.
﴿ قَالُوا ﴾، فتقولُ لَهم الزبانيةُ: ﴿ فَٱدْعُواْ ﴾، أنتم فإنَّ اللهَ تعالى لم يأْذنْ لنا في الدُّنيا.
﴿ وَمَا دُعَاءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾؛ أي في ضياعٍ لا ينفعُهم.
﴿ وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ ﴾؛ بإعلاءِ كلِمَتهم وإظهار منْزِلتهم، والمعنى: ويومَ القيامةِ تقومُ الحفَظَةُ من الملائكةِ يشهدون للرُّسُلِ بالتبليغِ، وعلى الكفَّار بالتكذيب. وواحدُ الأشهَادِ: شَاهِدٌ، مثل صَاحِبٍ وأصحابٍ، وطائر وأطيَارٍ، والمرادُ من الأشهادِ الأنبياءُ والملائكةُ والمؤمنونَ والجوارحُ والمكانُ والزمانُ، يشهدون بالحقِّ لأَهلهِ، وعلى المبطلِ بفعلهِ.
﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ﴾؛ أي إن اعتذرُوا من كُفرِهم لم يقبَلْ منهم، وإنْ تابوا لم تنفَعْهم التوبةُ.
﴿ وَلَهُمُ ٱلْلَّعْنَةُ ﴾؛ أي البُعْدُ من الرحمةِ.
﴿ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ ﴾؛ يعني جهنَّمَ سوءُ المنقَلب.
﴿ وَأَوْرَثْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ ﴾، ونزَّلنا على بنِي إسرائيلَ التوراةَ والإنجيلَ والزَّبُورَ.
﴿ هُدًى وَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ﴾، هُُدًى من الضَّلالة وعِظَةً لذوي العقولِ.
﴿ فَٱصْبِرْ ﴾، يا مُحَمَّدُ على أذى الكفَّار كما صَبَرَ الرسلُ قبلَكَ.
﴿ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ﴾، في نُصرَتِكَ وإظهار دِينِكَ صدقٌ كائن.
﴿ وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ ﴾؛ يعني الصغائرَ؛ لأن أحداً من البشرِ لا يخلُو من الصغائرِ وإنْ عُصِمَ من الكبائرِ. وَقِيْلَ: معناهُ: واستغفِرْ لذنُوب أُمَّتِكَ.
﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾؛ أي نَزِّهْهُ عن كلِّ صفةٍ لا تليقُ به، واحْمَدْهُ على كلِّ نعمةٍ. ويجوزُ أن يكون المرادُ بالتسبيحِ في الآية مِن قوله: ﴿ بِٱلْعَشِيِّ ﴾؛ الصَّلوات الخمسِ وقت ما بعدَ الزَّوالِ إلى وقتِ العشاء الآخرةِ، ومِن قوله: ﴿ وَٱلإِبْكَارِ ﴾؛ صلاةَ الفجرِ. والمعنى: صَلِّ لرَبكَ شَاكراً لربك بالعشيِّ والإبكار.
﴿ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَالِغِيهِ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ ﴾؛ أي ما في قُلوبهم إلاَّ عَظَمَةٌ عن قبولِ الحقِّ لِحَسَدِهم، ما هم ببَالِغِي تلك العَظَمة التي في قُلوبهم لأنَّ الله تعالى مُذِلُّهم، فلا يَصِلُونَ إلى دفعٍ من آياتِ الله. قال ابنُ عبَّاس: (وَالْمَعْنَى: مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَكْذِيبكَ إلاَّ مَا فِي صُدُورهِمْ مِنَ الْعَظَمَةِ مَا هُمْ ببَالِغِي مُقْتَضَى ذلِكَ الْكِبْرِ لأَنَّ اللهَ مُذِلُّهُمْ). وقال ابنُ قتيبة: (إنَّ فِي صُدُورهِمْ إلاَّ تَكَبُّرٌ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَطَمَعٌ أنْ يَصِلُوهُ وَمَا هُمْ ببَالِغِي ذلِكَ، فَاسْتَعِذْ باللهِ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْكِبْرِ وَمِنْ شَرِّ الْيَهُودِ وَمِنْ شَرِّ الدَّجَّالِ وَمِنْ كُلِّ مَا تَجِبُ الاسْتِعَاذةُ مِنْهُ)، وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّـهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ ﴾؛ بهم وبأعمالِهم.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ ﴾؛ الكفار.
﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ حين لا يستدُّلون بذلك على توحيدِ خالِقِهما وقدرتهِ على ما هو أعظمُ من خلقِ الدجَّالِ، وعلى أنْ يمنِعَ المسلمين من غَلَبَتِهِ عليهم. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنَّ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ ثَلاَثُ سِنِينَ، أوَّلُ سَنَةٍ تُمْسِكُ السَّمَاءُ ثُلُثَ قَطْرِهَا وَالأَرْضُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا، وَالثَّانِيَةُ تُمْسِكُ ثُلُثَي قَطْرِهَا وَالأَرْضُ ثُلُثَي نَبَاتِهَا، وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ تُمْسِكُ السَّمَاءُ مَا فِيْهَا وَالأَرْضُ وَمَا فِيْهَا، وَيَهْلَكُ كُلُّ ذاتِ ظِلْفٍ وَضِرْسٍ ". وعن أبي أُمامةَ الباهليِّ قال:" خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يَوْمٍ، فَكَانَ أكْثَرُ خُطْبَتِهِ أنْ يُحَدِّثَنَا عَنِ الدَّجَّالِ وَيُحَذِّرَنَا، فَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ: " أيُّهَا النَّاسُ؛ إنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ أعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، إنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ نَبيّاً إلاَّ حَذرَ أُمَّتَهُ مِنْهُ، وَأَنَا آخِرُ الأَنْبِيَاءِ وَأنْتُمْ آخِرُ الأُمَمِ، وَهُوَ خَارجٌ فِيكُمْ لاَ مَحَالَةَ، فَإنْ يَخْرُجْ وَأنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإنْ يَخْرُجْ بَعْدِي فَكُلُّ امْرِئٍ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللهُ تَعَالَى خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. أنَّهُ يَخْرُجُ بَيْنَ جَبَلَيْنِ بَيْنَ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ يَعِيثُ يَمِيناً وَيَعِيثُ شِمَالاً، فَيَا عِبَادَ اللهِ اثْبُتُوا، فَإنَّهُ يَبْدَأ فَيَقُولُ: أنَا نَبيٌّ وَلاَ نَبيَّ بَعْدِي! ثُمَّ يُثْنِي وَيَقُولُ: أنَا رَبُّكُمْ! وَلَنْ تَرَوا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا، وَإنَّهُ أعْوَرٌ وَلَيْسَ رَبُّكُمْ بأَعْوَرَ، وَإنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ، يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَتْفُلْ فِي وَجْهِهِ. وَإنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أنَّ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ، فَمَنِ ابْتُلِيَ بنَارهِ فَلْيَقْرَأ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ وَيَسْتَغِيثُ باللهِ، فَتَكُونُ عَلَيْهِ بَرْداً وَسَلاَماً، وَإنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أنَّ مَعَهُ شَيَاطِين يَتَمَثَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى صُورَةِ إنْسَانٍ، فَيَأْتِي الأَعْرَابيُّ فَيَقُولُ لَهُ: إذا بَعَثْتُ أبَاكَ وَأُمَّكَ وَأهْلَكَ تَشْهَدُ أنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ شَيَاطِينُهُ عَلَى صَوْتِ أبيهِ وَأُمِّهِ، فَيَقُولانِ لَهُ: يَا بُنَيَّ اتَّبعْهُ فَإنَّهُ رَبُّكَ، وَمِنْ فِتْنَتِهِ أنْ يُسَلَّطَ عَلَى نَفْسٍ فَيَقْتُلُهَا، ثُمَّ يُحْييهَا اللهُ بَعْدَ ذلِكَ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: انْظُرُوا إلَى عَبْدِي هَذا، فَإنِّي بَعَثْتُهُ الآنَ وَيَزْعُمُ أنَّ لَهُ رَبّاً غَيْرِي " ". قال مقاتلُ: (إنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يُسَلَّطَ عَلَيْهِ الدَّجَّالُ رَجُلٌ مِنْ جَشْعَم، فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يَبْعَثُهُ اللهُ تَعَالَى، فَيَقُولُ لَهُ الدَّجَّالُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: اللهُ رَبي وَإنَّكَ الدَّجَّالُ عَدُوُّ اللهِ).[وَإنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ يَقُولُ لِلأعْرَابيِّ: أرَأيْتَ إنْ بَعَثْتُ لَكَ أبيكَ وَأُمَّكَ أتَشْهَدُ أنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ شَيَاطِينُهُ عَلَى صُورَةِ أبيهِ وَأُمِّهِ. وإنَّ أيَّامَهُ أرْبَعِينَ يَوْماً، فَيَوْمٌ كَالسَّنَةِ، وَيَوْمٌ دُونَ ذلِكَ، وَيَوْمٌ كَالشَّهْرِ، وَيَوْمٌ دُونَ ذلِكَ، وَيَوْمٌ كَالجُمُعَةِ، وَيَوْمٌ دُونَ ذلِكَ، وَآخِرُ أيَّامِهِ كَالشُّرْفَةِ، فَيُصْبحُ الرَّجُلُ ببَاب الْمَدِينَةِ فَلاَ يَبْلِغُ بَابَهَا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ].
" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ نُصَلِّي فِي تِلْكَ الأََيَّامِ الْقِصَارِ؟ قَالَ: " تَقْدُرُونَ فِيْهَا كَمَا تَقْدُرُونَ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الطِّوَالِ، فَلاَ يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الأَرْضِ إلاَّ وَطِئَهُ الرَّجُلُ وَغَلَبَ عَلَيْهِ، إلاَّ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَإنَّهُ لاَ يَأْتِيهِمَا، وَيَكُونُ إمَامُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بالْمَدِينَةِ رَجُلاً صَالِحاً، فَيُقَالُ لَهُ: صَلِّ الصُّبْحَ، فَإذا كَبَّرَ وَدَخَلَ فِي الصَّلاَةِ وَنَزَلَ عِيسَى عليه السلام، فَإذا رَآهُ ذلِكَ الرَّجُلُ عَرَفَهُ فَيَتَأَخَّرُ لِيَتَقَدَّمَ عِيسَى، فَيَضَعُ عِيسَى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ: صَلِّ قَائِماً، أُقِيمَتْ لَكَ الصَّلاَةُ. فَيُصَلِّي عِيسَى وَرَاءَهُ ثُمَّ يَقُولُ: افْتَحُوا الْبَابَ، فَيُفْتَحُ بَابُ الْمَدِينَةِ، وَمَعَ الدَّجَّالِ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ ألْفَ يَهُودِيٍّ كُلُّهُمْ ذُوو سِلاَحٍ وَسَيْفٍ مُحَلاًّ، فَإذا نَظَرَ الدَّجَّالُ إلَى عِيسَى ذابَ كَمَا ذابَ الرَّصَاصُ مِنَ النَّار وَالْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فيَقُولُ لَهُ عِيسَى: إنَّ لِي فِيكَ ضَرْبَةً لَنْ تَفُوتَنِي بهَا، فَيُدْركُهُ عِنْدَ بَاب كَذا الشَّرْقِيِّ وَهُوَ بَابُ قَتِيلَةَ، فَلاَ يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ اللهُ يَتَوَارَى بهِ يَهُودِيٌّ إلاَّ أنْطَقَ اللهُ ذلِكَ الشَّيْءَ، فَلاَ شَجَرٌ وَلاَ حَجَرٌ وَلاَ دَابَّةٌ إلاَّ قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللهِ الْمُسْلِمُ هَذا كَافِرٌ فَاقْتُلْهُ. وَيَكُونُ عِيسَى عليه السلام حَكَماً عَدْلاً وَإمَاماً مُقْسِطاً، فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَتُرْفَعُ الشَّحْنَاءُ وَالْتَّبَاغُضُ، وَتُرْفَعُ حُمَةُ كُلَّ دَابَّةٍ حَتَّى يُدْخِلَ الصَّبيُّ يَدَهُ فَمَ الْْحَنَشِ فَلاَ يَضُرُّهُ، وَيَلْقَى الإنْسَانُ الأَسَدَ فَلاَ يَضُرُّهُ، وَيَكُونُ الأَسَدُ فِي الإبلِ كَأَنَّهُ كَلْبُهَا، وَيَكُونُ الذِّئْبُ فِي الْغَنَمِ كَأَنَّهُ كَلْبُهَا، وَيَمْلأُ الأَرْضُ إسْلاماً، وَيُسْلَبُ الْكُفَّارُ مُلْكَهُمْ، وَلاَ يَكُونُ الْمُلْكُ إلاَّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيُبَارَكُ فِي الأَرْزَاقِ حَتَّى أنَّ النَّفَرَ يَجْتَمِعُونَ عَلَى رُمَّانَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَكُونُ الْفَرَسُ بدِرْهَمَيْنِ "وَباللهِ التَّوفِيقُ).
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ﴾؛ إنَّ الذين يتعظَّمُون عن طاعَتِي وعن المسألةِ مني.
﴿ سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾؛ أي صاغرُون ذليلون، والدَّاخِرُ: هو الذلِيلُ الصَّاغِرُ، قال حسَّان: قَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَجِئْنَا بالأُسَارَى دَاخِرَاقرأ ابنُ كثير (سَيُدْخَلُونَ) بضمِّ الياءِ وفتح الخاءِ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾؛ نِعَمَ اللهِ.
﴿ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ خَـٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾؛ ومُبتَدِعهُ، لا معبودَ سواهُ، فلا ينبغِي لأحدٍ أنْ يدعوَ مخلوقاً مثلَهُ.
﴿ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴾؛ وقد تقدَّمَ تفسيرُ ذلك.
﴿ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾؛ أي هَكذا كان لمصرفِ القوم الذين كانُوا بدلائلِ الله يجحَدُون.
﴿ وَصَوَّرَكُـمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـم ﴾؛ أي خلقَكم فَأحسنَ خلقَكُم. قال ابنُ عبَّاس: (خَلَقَ اللهُ ابْنَ آدَمَ قَائِماً مُعْتَدِلاً يَأْكُُلُ بيَدِهِ، وَيَتَنَاوَلُ بيَدِهِ وَكُلُّ مَا خَلَقَ اللهُ يَتَنَاوَلُ بفِيهِ). وقال الزجَّاجُ: (خَلَقَكُمْ أحْسَنَ الْحَيْوَانِ كُلِّهِ).
﴿ وَرَزَقَكُـمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ ﴾؛ أي من لَذِيذِ الأطعمَةِ وكريمِ الأغذية. وقولهُ تعالى: ﴿ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُـمْ ﴾؛ أي الذي فَعَلَ ذلك كلَّهُ هو ربُّكم فاشكروهُ.
﴿ فَتَـبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي فتعالَى اللهُ دائمُ الوجودِ لم يزَلْ ولا يزالُ ربَّ كلِّ ذي روحٍ من الجنِّ والإنسِ وغيرها.
﴿ هُوَ ٱلْحَيُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾؛ بلاَ أوَّلٍ ولا آخرٍ، لم يَزَلْ، كان حَيّاً ولا يزالُ حيّاً، مُنَزَّهٌ عن كلِّ آفاتٍ، وليس أحدٌ غيرهُ من الأحياءِ بهذه الصِّفات، لا مستحقٌّ للإلهيَّة غيره.
﴿ فَـٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾، فوحِّدوهُ مخلصين له الدِّين؛ أي الطاعةِ، واشكروهُ على معرفةِ التوحيد. قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه: (إذا قَالَ أحَدُكُمْ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ فَيَقُلْ فِي إثْرِهَا: الْحَمْدُ للهِ رَب الْعَالَمِينَ).
﴿ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾؛ لآبائِكم.
﴿ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ﴾، ثم نقلَكُم إلى العلَقَةِ وهو الدمُ الغليظ.
﴿ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ ﴾؛ من بطُونِ أمَّهَاتِكم أطفَالاً واحداً واحداً لذلكَ قوله: ﴿ طِفْلاً ﴾؛ وقال﴿ بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾[الكهف: ١٠٣] لأن الواحدَ يكون أعمالٌ. وقولهُ تعالى: ﴿ ثُمَّ لِتَـبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُـمْ ﴾؛ أي بنقلِكم إلى حالِ اجتماع القوَّة والكمالِ.
﴿ ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً ﴾؛ أي تصِيرُوا شُيوخاً بعدَ الأشُدِّ.
﴿ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ ﴾؛ من قبلِ البُلوغِ ومن قبلِ الشَّيخوخةِ.
﴿ وَلِتَبْلُغُوۤاْ أَجَلاً مُّسَمًّى ﴾؛ يريدُ أجلَ الحياةِ إلى الموتِ، ولكلِّ أجلٍ لحياتهِ ينتهي إليه، ويقالُ: لتبلغُوا أجَلاً مسمَّى؛ أي لتُوَافُوا القيامةَ للجزاءِ والحساب.
﴿ وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، ولكي يعقِلُوا وحدانيةَ اللهِ تعالى وتَمام قدرتهِ، وتصدقوا بالبعثِ بعدَ الموتِ.
﴿ فَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً ﴾؛ من الإحياءِ والإماتةِ.
﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ ﴾، يريدهُ.
﴿ كُن فيَكُونُ ﴾، ويُحدِثهُ. وقولهُ تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي يُخاصِمُونَ في القرآنِ بالردِّ والتكذيب، وهم المشركون.
﴿ أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ ﴾، كيف يُصرَفُونَ إلى الكذب بعد وضوحِ الدلالةِ.
﴿ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِٱلْكِـتَاب ﴾؛ الذين كذبوا بالقرآنِ.
﴿ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا ﴾، من الشَّرائعِ والأحكامِ والتوحيد.
﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾، عاقبةُ أمرِهم.
﴿ إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وٱلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ ﴾ حين تُجعَلُ الأغلالُ الحديدُ مع السَّلاسلِ في أعناقِهم، يُسحَبُونَ في الحبالِ على وجُوهِهم، يُلقَوْنَ.
﴿ فِي ٱلْحَمِيمِ ﴾، في نارٍ عظيمة.
﴿ ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ ﴾؛ قال مجاهدُ: (تُوقَدُ بهِمُ النَّارُ فَصَارُواْ وَقُودَهَا).
﴿ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾، فيُؤلِمُونَ قلوبَهم بمثلِ هذا التوبيخِ كما يؤلِمُون أبدانَهم بالتعذيب.
﴿ قَـالُواْ ﴾؛ فيقولُ الكفار: ﴿ ضَـلُّواْ عَنَّا ﴾، أي ضَلَّتْ ألهتُنا عنَّا؛ أي ضاعَت فلا نرَاهَا، ثم يجحَدُون عبادةَ الأصنامِ فيقولون: ﴿ بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً ﴾، إنْ لم نكن نعبدُ مِن قبل هذا شيئاً، ويجوزُ أن يكون هذا كالرَّجُل يعملُ عمَلاً لا ينتفعُ به، فيقالُ له: إيش تعملُ؟ فيقول: لا شيءَ. وقولهُ تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلْكَافِرِينَ ﴾؛ أي هكَذا يُهلِكُهم ذلكَ العذابُ الذي نزلَ بكم.
﴿ ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ﴾؛ بالباطل.
﴿ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ * ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾؛ قال مقاتلُ: (يَعْنِي الْبَطَرَ وَالْخُيَلاَءَ). والغِلُّ: هو ما يُجعَلُ في العُنقِ للإذلالِ والإهانةِ. والطَّوْقُ: هو ما يجعلُ للإجلالِ والكرامةِ. وقرأ ابنُ عبَّاس: (وَالسَّلاَسِلَ) بفتح اللام، و(يَسْحَبُونَ) بفتح الياء؛ معناهُ: ويَسحَبُونَ السلاسلَ.
﴿ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾؛ معناهُ: فإنِ انتقَمْنا منهم وأنتَ حيٌّ فبُشرَى لكَ، وإن نتوَفَّاكَ قبل " أنْ " نُرِيَكَ ذلك فإلَينا مرجِعُ الكلِّ منهم للمُجازاةِ، وسيَصِلُ إليهم موعدُهم.
﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾؛ في الآيةِ إبلاغُ عُذر النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يأْتِيهم به من الآياتِ التي كانوا يقترحونَها عليه، وليس علينا حصرُ عددِ الرُّسل، ولكنا نؤمنُ بجُملَتِهم. وقولهُ تعالى: ﴿ فَإِذَا جَـآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ ﴾؛ أي إذا جاءَ قضاؤهُ بين أنبيائهِ وأُمَمِهم.
﴿ قُضِيَ بِٱلْحَقّ ﴾، لم يُظلَموا إذا عُذِّبوا ﴿ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ﴾؛ عندَ ذلك.
﴿ ٱلْمُبْطِلُونَ ﴾، المكذِّبون.
﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ﴾؛ من ألبانِها وأصوَافِها وأوْبَارها وأشعارها.
﴿ وَلِتَـبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ﴾؛ أي لتبلغُوا عليها في ركوبها حاجةً في قلُوبكم لا تبلغونَها إلاّ بها، قال مجاهد: (تَحْمِلُ أثْقَالَكُمْ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، وَتَبْلَغُواْ عَلَيْهَا حَاجَاتِكُمْ فِي الْبلاَدِ مِمَّا كَانَتْ).
﴿ وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾؛ أي وعلى ظهُورها في البَرِّ وعلى السُّفن في البحرِ تحمَلُون في كسبكم وحجِّكم وتجاراتِكم.
﴿ فَأَيَّ آيَاتِ ٱللَّهِ تُنكِرُونَ ﴾، فأيُّ آيةٍ من آياتِ الله تجهَلُون أنَّها ليست من اللهِ تعالى؟.
﴿ كَانُوۤاْ أَكْـثَرَ مِنْهُمْ ﴾؛ من أهلِ مكَّة بالعددِ.
﴿ وَأَشَدَّ قُوَّةً ﴾؛ في البُلدانِ، وَأظهرَ؛ ﴿ وَآثَاراً فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ في الأبنيةِ العظيمة، والقصُور الْمَشِيدَةِ، والعيُونِ المستخرجة.
﴿ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾، فلم ينفعْهُم من عذاب الله كثرةُ عَدَدِهم وشدَّةُ قُوَّتِهم وجمعهم الأموال.
﴿ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾؛ بالجهلِ الذي عندَهم أنه علمٌ، وقالوا: نحنُ أعلَمُ منهم، لن نُبعَثَ ولن نعذبَ، فمعنى قوله: ﴿ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ ﴾ أي رَضُوا بما عندَهم من العلمِ وهو في الحقيقةِ جهلٌ وإنْ زعَموهُ عِلْماً.
﴿ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾؛ ولا ينفعُ الإيمان عندَ ذلك. وقولهُ تعالى: ﴿ سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ﴾؛ أي هذا قَضَائِي في خَلْقِي أنَّ من كذبَ أنبيائِي وجحَدَ رُبوبَتِي؛ أي سنَّ اللهُ هذه السُّنة في الأممِ كلِّها أنْ لا ينفعَهم الإيمانُ إذا رأوا العذابَ، وسُنة اللهِ هي حكمُ اللهِ الذي مضَى في عبادهِ في بعثِ الرُّسل إليهم، ودُعائِهم إلى الحقِّ وترك المعاجَلةِ بالعقوبة، وأنَّ الإيمانَ وقتَ البأسِ لا ينفعُ. ونُصب قولهُ ﴿ سُنَّتَ ٱللَّهِ ﴾ على التحذيرِ أو على المصدر، وقولهُ تعالى: ﴿ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْكَافِرُونَ ﴾؛ أي هلكَ عند ذلك المكذِّبون.