تفسير سورة غافر

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة غافر من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحداد اليمني . المتوفي سنة 800 هـ

﴿ حـمۤ ﴾؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" حم، اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ مِفْتَاحُ خَزَائِنِ رَبكَ "، وقال ابن عباس: [هُوَ اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ].
وعن عكرمةَ قال: (ألر و حم و ن حُرُوفُ الرَّحْمَنِ مُقَطَّعَةٌ)، وَقِيْلَ: (أقسمَ اللهُ بحَمَلَةِ " عرشهِ " وَمَلاَئِكَتِهِ لاَ يعذِّبُ أحَداً عَادَ إلَيْهِ يقُوْلُ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ مُخْلِصاً مِنْ قَلْبهِ)، وقال عطاء الخراسانِيُّ: (الْحَاءُ: افْتِتَاحُ أسْمَاءِ اللهِ: حَلِيمٌ وَحَمِيدٌ وَحَيٌّ وَحَكِيمٌ، وَالْمِيمُ: افْتِتَاحُ أسْمَائِهِ: مَلِكٌ وَمَجِيدٌ وَمَنَّانٌ)، وقال الضحَّاك: (حم قَضَى مَا هُوَ كَائِنٌ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ ﴾؛ أي هذه تنْزِيلُ الكتاب من الله العزيزِ العليم بخَلقهِ، وقرأ حم بفتح الميمِ؛ أي أُتْلُ حَمِيمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ﴾؛ أي غافرِ الذنب لِمَن قالَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وهم أولياؤهُ وأهلُ طاعتهِ، وقابلِ التَّوب من الشِّركِ، شديدِ العقاب لِمَن ماتَ على الشِّركِ. والتَّوْبُ: جمعُ التَّوبَةِ، ويجوزُ أن يكون مَصدراً مِن تَابَ يَتُوبُ تَوباً، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذِي ٱلطَّوْلِ ﴾؛ أي ذِي الغِنَى عمَّن لا يُوحِّدهُ ولا يقولُ: لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ. وقال الكلبيُّ: (ذُو الْفَضْلِ عَلَى عِبَادِهِ وَالْمَانِّ عَلَيْهِمْ)، وقال مجاهدُ: (ذُو السَّعَةِ وَالْغِنَى). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾؛ أي لا معبودَ للخلقِ سواهُ.
﴿ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾؛ أي مصيرُ مَن آمَنَ، ومصيرُ مَن لم يؤمِنْ، وعن الحسنِ رضي الله عنه: (أنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب رضي الله عنه سَأَلَ عَنْ بَعْضِ إخْوَانِهِ الَّذِينَ كَانُوا بالشَّامِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ أخِي فُلاَنٌ؟ وَقَالُوا: ذاكَ أخُو الشَّيْطَانِ يُخَالِطُ أهْلَ الأَشْرَفِيَّةِ وخَالَفَ أصْحَابَهُ. فَقَالَ: إذا خَرَجْتُمْ إلَى الشَّامِ فَآذِنُونِي. فَلَمَّا أرَادُوا الْخُرُوجَ أعْلَمُوهُ، فَكَتَب: مِنْ عَبْدِاللهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب أمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إلَى فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ. بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سَلاَمٌ عَلَيْكَ؛ فَإنِّي أحْمَدُ إلَيْكَ اللهَ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ. أمَّا بَعْدُ: فَإنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿ حـمۤ * تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ * غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ... ﴾ إلَى قَوْلِهِ ﴿ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾.
وَالسَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَلَمَّا جَاءَهُ الْكِِتَابُ قَالُواْ لَهُ: اقْرَأ كِتَابَكَ أيُّهَا الرَّجُلُ، فَلَمَّا قَرَأ ﴿ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ ﴾ قَالَ: عَلِيمٌ بمَا أصْنَعُ.
﴿ غَافِرِ ٱلذَّنبِ ﴾ إن اسْتَغْفَرْتُ غَفَرَ لِي، و ﴿ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ ﴾ إنْ أنَا تُبْتُ لِيَقْبَلَ تَوْبَتِي.
﴿ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ﴾ إنْ لَمْ أفْعَلْ عَاقَبَنِي ﴿ ذِي ٱلطَّوْلِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾.
ثُمَّ قَالَ: صَدَقَ اللهُ وَنَصَحَ عُمَرُ رضي الله عنه، فَأَقْبَلَ بطَرِيقَةٍ حَسَنَةٍ إلَى أنْ مَاتَ. فَلَمَّا بَلَغَ عُمَرَ أمْرُهُ، قَالَ: هَكَذا فَاصْنَعُوا؛ إذا رَأيْتُمْ أخَاكُمْ نَزَلَ فَشَدِّدُوهُ وَوَفِّقُوهُ، وَادْعُوا اللهَ لَهُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ، وَلاَ تَكُونُوا أعْوَاناً لِلشَّيْطَانِ عَلَيْهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا يُجَادِلُ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾؛ أي ما يُخاصِمُ في آياتِ الله لتكذيبها والطَّعنِ فيها والمراءِ عليها إلاَّ الذين كفَروا.
﴿ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي ٱلْبِلاَدِ ﴾؛ بالتَّجارَاتِ وسلامِتهم في تصرُّفاتِهم بعدَ كُفرِهم، فإنَّ عاقبةَ أمرِهم العذابُ كعاقبةِ مَن قبلهم من الكفَّار. وَقِيْلَ: معناهُ: فلا يَغْرُرْكَ ذهابُهم ومجيئُهم في الأسفار بالتِّجارات، فإنَّهم لَيسُوا على شيءٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ﴾؛ أي قبلَ قَومِكَ.
﴿ قَوْمُ نُوحٍ ﴾؛ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ ﴾؛ وهم الذين تحزَّبُوا على أنبيائِهم بالتكذيب نحوُ عادٍ وثَمود؛ أي كذبُوا رُسلَهم كما كذبك قومُكَ.
﴿ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ﴾؛ فيقتلوهُ.
﴿ وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ ﴾؛ أي وخاصَمُوا الرُّسلَ بالباطلِ ليُبطِلُوا به الحقَّ الذي جاءَت به الرسلُ.
﴿ فَأَخَذْتُهُمْ ﴾، بعاقبةِ الاستئصالِ.
﴿ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾؛ لَهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾؛ أي مثلَ ما حقَّ على الأُمَمِ المكذِّبة حقَّت كلمةُ ربكَ بالعذاب على الذين كفَرُوا من قومِكَ.
﴿ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ ﴾، في الآخرةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ يَحْمِلُونَ ٱلْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ ﴾؛ يعني حَمَلَةَ العرشِ والطائفِين به، وهم الكرُّوبيُّونَ وهم سادة الملائكة.
﴿ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾؛ بأنه واحدٌ لا شريكَ له.
﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، ويقولون: ﴿ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً ﴾؛ أي وسِعَتْ رحمتُكَ كلَّ شيءٍ.
﴿ فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ ﴾؛ عن الشِّركِ والمعصيةِ.
﴿ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ ﴾؛ الطريقَ الذي دعوتَهم إليه.
﴿ وَقِهِمْ ﴾، وادفَعْ عنهم.
﴿ عَذَابَ ٱلْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ ﴾؛ أي ربَّنا وأدخِلهُم بساتينَ إقامةٍ.
﴿ ٱلَّتِي وَعَدْتَّهُمْ ﴾؛ في الكتُب على ألسِنَةِ الرُّسلِ، وأدخِلْ معهم.
﴿ وَمَن صَـلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ﴾؛ ونسائِهم وأولادهم.
﴿ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ﴾؛ في مُلكِكَ وسُلطانِكَ.
﴿ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ في أمْرِكَ وقضائِكَ.
﴿ وَقِهِمُ ٱلسَّيِّئَاتِ ﴾؛ وادفَعْ عنهم عقوبةَ السَّيئاتِ.
﴿ وَمَن تَقِ ٱلسَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ ﴾ ومَن يدفَعْ عنه عقوبةَ السيئاتِ.
﴿ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾؛ أي النجاةُ الوافرة. وانتصبَ قولهُ ﴿ رَّحْمَةً وَعِلْماً ﴾ على التمييزِ، قال ابنُ عبَّاس: (حَمَلَةُ الْعَرْشِ مَا بَيْنَ كَعْب أحَدِهِمْ إلَى أسْفَلِ قَدَمِهِ مَسِيرَةُ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ، وَمُسْتَقَرُّ أرْجُلِهِمْ فِي الأَرْضِ السَّابعَةِ السُّفْلَى، وَرُؤُوسُهُمْ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَهُمْ خُشُوعٌ لاَ يَرْفَعُونَ أبْصَارَهُمْ، وَهُمْ أشَدُّ خَوْفاً مِنْ أهْلِ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ). وعن الضحَّاك قال: (لَمَّا خَلَقَ اللهُ حَمَلَةَ الْعَرْشِ قَالَ لَهُمْ: احْمِلُوا عَرْشِي، وَلَمْ يُطِيقُوا! فَخَلَقَ مَعَ كُلِّ مَلَكٍ مِنَ الأَعْوَانِ مِثْلَ جُنُودِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، وَقَالَ لَهُمْ: احْمِلُوا عَرْشِي، فَلَمْ يُطِيقُوا! فَخَلَقَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الأَعْوَانِ مِثْلَ جُنُودِ سَبْعِ سَمَاوَاتِ وَأرْضِينَ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، وَمِثْلَ مَنْ فِي الأَرْضِينَ مِنَ الْخَلْقِ، وَقَالَ لَهُم: احْمِلُوا عَرْشِي، فَلَمْ يُطِيقُواْ! فَخَلَقَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ جُنُودِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَجُنُودِ سَبْعِ أرْضِينَ وَعَدَدَ مَا فِي الرَّمْلِ مِنَ الْحَصَى وَالثَّرَى وَقَالَ: احْمِلُوا عَرْشِي، فَلَمْ يُطِيقُوا! فَقَالَ: قُولُوا: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ، فَلَمَّا قَالُوهَا حَمَلُواْ الْعَرْشَ)، وقال صلى الله عليه وسلم:" أُذِنَ لِي أنْ أتَحَدَّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ مَا بَيْنَ شَحْمَتَي أُذُنِهِ إلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعَمِائَةِ عَامٍ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُـمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ﴾؛ وذلكَ أن الكفارَ لَمَّا دخَلُوا النارَ مَقَتُوا أنفُسَهم، ومَقَتَ بعضُهم بعضاً لاشتغالِهم في الدُّنيا بما قادَهم إلى النار، فيُنادِيهم مُنَادٍ: ﴿ لَمَقْتُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ أي مَقْتُ اللهِ إيَّاكم في الدُّنيا ﴿ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى ٱلإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ ﴾ أكبرُ مِن مَقْتِكُم أنفُسَكم اليومَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ ﴾؛ قالَ بعضُهم: معناهُ: كُنَّا نُطَفاً في أصلاب آبائنا أمْوَاتاً فخَلقتَ فينا الحياةَ، ثم أمَتَّنا بعد ذلك عند انتهاءِ آجالِنا ثُم أحيَيتَنَا للبعثِ، وهذا كقولهِ تعالى﴿ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾[البقرة: ٢٨].
قالوا هكذا لأنَّهم كانوا في الدُّنيا فكذبوا في البعثِ، فاعترَفُوا في النار بما كذبوا بهِ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ﴾؛ أي بالتَّكذيب. وقال بعضُهم: أرادَ بالموتِ الأُولى التي تكون عند قبضِ الأرواحِ، وبالموتِ الثانية التي تكون بعدَ الإحياءِ في القبرِ للسُّؤال؛ لأنَّهم أُمِيتُوا في الدُّنيا ثم أُحْيُوا في قبورهم فسُئِلُوا، ثم أُمِيتُوا في قبورهم، ثم أُحْيُوا في الآخرةِ للبعث، فيكون المرادُ بالإحياءِ الأَول الإحياءُ في القبرِ، وبالإحياءِ الثاني الإحياءُ للبعثِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا ﴾ أي بإنعَامِكَ علينا ونفوذ قضائِكَ فينا وتكذيبنا في الدُّنيا.
﴿ فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن ﴾؛ النار، من.
﴿ سَبِيلٍ ﴾، طريقٍ فنُؤمِنَ بكَ ونرجِعَ إلى طاعتك؟فيجابُون: ليس إلى خروجٍ مِن سبيلٍ، يقالُ لَهم: ﴿ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ ﴾؛ أي ذلك العذابُ في النار والْمَقْتُ بأنَّكم إذا قيلَ لكم في الدُّنيا: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، أنْكَرتُم وكفرتُم وقلتُم أجَعلَ الآلهةَ إلهاً واحداً.
﴿ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ ﴾؛ باللهِ.
﴿ تُؤْمِنُواْ ﴾، صدَّقتُم.
﴿ فَٱلْحُكْمُ للَّهِ ٱلْعَلِـيِّ ﴾؛ في سُلطانهِ.
﴿ ٱلْكَبِيرِ ﴾؛ في عظَمتهِ لا يُرَدُّ حكمهُ.
قولهُ تعالى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾؛ أي دلائلَ توحيدهِ ومصنوعاتهِ التي تدلُّ على قدرته من السَّماء والأرضِ، والشمسِ والقمرِ، والنجومِ والسَّحاب وغيرِ ذلك.
﴿ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ رِزْقاً ﴾؛ يعني المطرَ الذي يسببُ الأرزاقَ.
﴿ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَن يُنِيبُ ﴾؛ أي ما يتَّعِظُ بهذه المصنوعاتِ. وَقِيْلَ: معناهُ: وما يتَّعِظُ بالقرآن إلاَّ من يرجعُ إلى دلائلِ الله فيتدبَّرها. ثم أمَرَ المؤمنين بتوحيدهِ فقالَ: ﴿ فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ ﴾؛ أي مخلصين له الطاعةَ موحِّدين.
﴿ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَافِرُونَ ﴾؛ منكُم ذلكَ. ثم عظَّمَ تعالى نفسَهُ فقالَ: ﴿ رَفِيعُ ٱلدَّرَجَاتِ ذُو ٱلْعَرْشِ ﴾؛ أي رافعُ درجاتِكم، والرفيعُ بمعنى الرافعِ، والمعنى: أنه يرفعُ درجات الأنبياءِ والأولياء في الجنَّة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذُو ٱلْعَرْشِ ﴾ أي خالِقهُ ومالِكهُ.
﴿ يُلْقِي ٱلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ ﴾، أي ينزل الوحي.
﴿ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾؛ أي على مَن يختصُّ بالنبوَّة والرسالةِ.
﴿ لِيُنذِرَ ﴾؛ ذلك النبيُّ الموحَى إليه.
﴿ يَوْمَ ٱلتَّلاَقِ ﴾؛ أي يومَ القيامةِ، وسُمي يومَ التَّلاَقِ؛ لأنه يلتقِي فيه أهلُ السماوات والأرضِ، والمؤمنون والكافرونَ والظالمون والمظلُومون، ويلتقِي المرءُ فيه بعملهِ، وقرأ الحسنُ: ( ﴿ لِتُنْذِرَ ﴾ بالتاء (يَا مُحَمَّدُ يَوْمَ التَّلاَقِ) أي لِتُخَوِّفَ فِيْهِ)، وقرأ العامةُ بالياء، أي ليُنذِرَ اللهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ هُم بَارِزُونَ ﴾؛ أي يومَ هم خارجون من مواضِعهم من الأرضِ والبحَار وحواصلِ الطَّير وبطُونِ السِّباعِ.
﴿ لاَ يَخْفَىٰ عَلَى ٱللَّهِ مِنْهُمْ ﴾؛ ولاَ مِن أعمالِهم.
﴿ شَيْءٌ ﴾؛ ومحلُّه رُفع بالابتداءِ، و ﴿ بَارِزُونَ ﴾ خبرهُ. ويقولُ اللهُ في ذلك اليومِ: ﴿ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ﴾؛ فيقولُ الخلقُ كلُّهم: ﴿ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ ﴾؛ وقال الحسنُ: (هُوَ السَّائِلُ وَالْمُجِيبُ؛ لأَنَّهُ يَقُولُ ذلِكَ حِينَ لاَ أحَدَ يُجِيبُهُ، فََيُجِيبُ نَفْسَهُ). وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" الْحَمْدُ للهِ الَّّذي تَصَرَّفَ بالْقُدْرَةِ وَقَهَرَ الْعِبَادَ بالْمَوْتِ، نَظَرَ اللهُ إلَيْهِ، وَمَنْ يَنْظُرْ إلَيْهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ كُلُّ مَلَكٍ فِي السَّمَاءِ، وَكُلُّ مَلَكٍ فِي الأَرْضِ ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ ﴾؛ أي تُجزَى كلُّ نفسٍ بعمَلِها، الْمُحسِنُ بإحسانهِ، والمسِيءُ بإسَاءَتِهِ.
﴿ لاَ ظُلْمَ ٱلْيَوْمَ ﴾؛ من أحدٍ إلى أحدٍ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾؛ يُحاسِبُهم جميعاً في ساعةٍ واحدة، يظنُّ كلُّ واحدٍ أنه المجابُ دون غيرهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلأَزِفَةِ ﴾؛ أي حَذِّرهُم يومَ القيامةِ؛ والمعنى: يا مُحَمَّدُ أنْذِرْ أهلَ مكَّة يومَ الآزفَةِ، يعني القيامةَ، سُميت القيامةُ آزفَةً مِن الأزَفِ: وهو الأَمْرُ إذا قَرُبَ، والقيامةُ آزفةٌ لِسُرعَةِ مَجِيئِهَا. قال الزجَّاجُ: (قِيْلَ لَهَا: آزفَةٌ لأَنَّهَا قَرِيبَةٌ وَإن اسْتَبْعَدَهَا النَّاسُ، وَكُلُّ آتٍ فَهُوَ قَرِيبٌ).
﴿ إِذِ ٱلْقُلُوبُ لَدَى ٱلْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ ﴾؛ أي تزولُ القلوبُ من مواضعِها من الخوفِ، فتشخَصُ صدورُهم حتى يبلغَ حاجِزَهم في الحلُوقِ، فلا هي تعودُ إلى أماكنِها ولا هي تخرجُ من أفواهِهم فيموتُوا فيستريحوا. وذلك أنَّ القلبَ بين فَلَقَتَي الرِّئة، فإذا انتفخَتِ الرِّئَةُ عند الفزَعِ رفعَتِ القلبَ حتى يبلُغَ الحنجرةَ، فيلصقُ بالحنجرةِ فلا يقدرُ صاحبه على أن يرُدَّهُ إلى مكانهِ، ولا على أن يلفُظَ به فيستريح. ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ ﴾[الأحزاب: ١٠]، وقولهُ تعالى:﴿ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ ﴾[الواقعة: ٨٣] وقولهُ تعالى﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ ﴾[إبراهيم: ٤٣] وقولهُ تعالى:﴿ إِذَا بَلَغَتِ ٱلتَّرَاقِيَ ﴾[القيامة: ٢٦].
وقولهُ تعالى: ﴿ كَاظِمِينَ ﴾ أي مَغمُومِينَ مكرُوبينَ مُمتَلِئين غَمّاً وخَوفاً وحُزناً، يعني أصحابَ القُلوب يتردَّدُ حُزْنُهم وحسراتُهم في أجوافِهم، والكَاظِمُ: هو الممتلِيءُ أسَفاً وغَيظاً، والكَظْمُ تردُّدُ الغيظِ والحزنِ والخوف في القلب حتى يضيقَ به، نصبَ (كَاظِمِينَ) على الحالِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ ﴾؛ أي ما لَهم مِن قريبٍ ينفعُهم ولا شفيعٍ يطاعُ الشفيع فيهم فتُقبَلَ شفاعتهُ.
قولهُ تعالى: ﴿ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ ٱلأَعْيُنِ ﴾؛ أي خِيانَتها وهي مُسَارَقَةُ النظرِ إلى ما لا يحلُّ، قال ابنُ عبَّاس: (خَائِنَةُ الأَعْيُنِ: هُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ جَالِساً مَعَ الْقَوْمِ، فَتَمُرُّ الْمَرْأةُ فَيُسَارقُهُمُ النَّظَرَ إلَيْهَا). وقال قتادةُ: (هِيَ هَمْزُهُ بعَيْنِهِ وَإغْمَاضُهُ فِيمَا لاَ يُحِبُّ اللهُ). ويجوزُ أن يكون المرادُ به: يعلَمُ العينَ الخائنةَ؛ أي يُجَازي بخائنةِ الأعيُن، فكيف بما فوقَها، كما قالَ في آيةٍ أُخرى﴿ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾[الاسراء: ٣٦].
وفي الحديثِ: أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِِعَلِيٍّ رضي الله عنه:" لاََ تُتْبعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإنَّ لَكَ الأٌوْلَى وَعَلَيْكَ الثَّانِيَةَ "، يعني بأنَّ الأُولى إذا وقعَ نظرٌ إلى موضعٍ لا يجوزُ له النظرُ إليه لا عن تعَمُّد منه، فإنه لا يكون إثماً في ذلك، وإنما يأثَمُ إذا عادَ بالنظرِ ثانيةً. وقولهُ تعالى: ﴿ وَمَا تُخْفِي ٱلصُّدُورُ ﴾؛ أي ويعلمُ ما تُضمِرُ الصدورُ عند خَائنةِ الأعيُن، ويعلمُ ما تُسِرُّ القلوبُ من المعصيةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ يَقْضِي بِٱلْحَقِّ ﴾؛ أي يحكمُ بالقسطِ والعدل، لا يمنعُ أحَداً من ثواب عمَلهِ، ولا يعاقبهُ على ذنبٍ لا يكتسبهُ، بل يجزِي بالحسَنةِ والسيئة، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ﴾؛ معناهُ: والذين تدعُونَ من دونِ الله من الأصنامِ لا ينفَعُون مَن أطاعَهم، ولا يضرُّون مَن عصَاهم ولا يُجازون أحداً؛ لأنَّهم لا يعلَمُون ولا يقدِرُون. قرأ نافعُ (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ) بالتاءِ، وقرأ الباقون بالياء.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ﴾؛ لِمَقَالَتِهم.
﴿ ٱلْبَصِيرُ ﴾؛ بهم وأعمالِهم.
الآيةُ ظاهرة المعنى. وقولهُ تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقٍ ﴾ أي ما كان لهم من عذاب الله من واقٍ يقي العذابَ عنهم.
قولهُ تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا ﴾؛ يعني الآياتِ التسع.
﴿ وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾؛ أي حجَّة ظاهرةٍ.
﴿ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَـذَّابٌ ﴾؛ أي كثيرُ الكذب، وخُصَّ فرعونُ وهامان وقارون بالكذب؛ لأنَّهم كانوا همُ المتبُوعِين، وفي ذكرِ المتبوعين ذكرُ التابعين.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ بِٱلْحَقِّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ ٱقْتُلُوۤاْ أَبْنَآءَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ وَٱسْتَحْيُواْ نِسَآءَهُمْ ﴾؛ أي استَبقُوا النساءَ للخدمةِ، وذلك أنَّ فرعون كان قد أُخبرَ أنه يولَدُ مِن بني إسرائيلَ مولودٌ يذهَبُ ملكهُ على يديهِ، فأمَرَ بقتلِ أبنائهم واستبقاءِ نسائهم، فلمَّا جاءَهم مُوسَى عليه السلام بالحقِّ، أمَرَ بإعادةِ ذلك القتلِ عليهم كَيلاَ يبلُغَ الأبناءُ فيُعِينُوهُ عليهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا كَـيْدُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾؛ أي يذهبُ كَيدُهم باطلاً، ويحيقُ بهم ما كانوا يَكِيدُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِيۤ أَقْتُلْ مُوسَىٰ ﴾؛ وذلك أنَّ قومَ فرعون قالوا له: أرْجِئْهُ وأخاهُ ولا تقتُلهما، فإنَّكَ إنْ قَتَلتَهُما قبلَ ظُهور حُجَّتنا عليهما وقعَتْ للناسِ الشُّبهَةُ في أنَّهما كانا على الحقِّ، فقالَ فرعونُ: دَعُونِي أقْتُلْ موسى.
﴿ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ﴾؛ حتى يدفعَ ذلك القتلَ عنه. ثم بيَّن لأيِّ معنى يقتلهُ فقال: ﴿ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُـمْ ﴾؛ يعني يبدِّلَ عبادتكم إيَّايَ.
﴿ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي ٱلأَرْضِ ٱلْفَسَادَ ﴾؛ وأرادَ ظُهورَ الهدَى وتغيُّرَ أحكَامِ فرعون فجعلَ ذلك فساداً. قرأ الكوفيُّون ويعقوب: (أوْ أنْ يُظْهِرَ) بالألفِ، وقرأ نافعُ وأبو عمرو: (وَيُظْهِرَ) بضمِّ الياء وكسرِ الهاء، ونصب (الْفَسَادَ)، وقرأ الباقون بفتحِ الياءِ والهاء ورفعِ (الْفَسَادُ)، واختارَ أبو عُبيد قراءةَ نافعٍ وأبو عمرٍو، ولأنَّها أشبهُ بما قبلَها لإسنادِ الفعل إلى موسى وعطفهِ على بدَلِه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُـمْ ﴾؛ أي لَمَّا توعَّدَ موسى بالقتلِ قال موسَى: إنِّي عُذْتُ برَبي وربكم.
﴿ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ ﴾، مُتَعَظِّمٍ عن الإيمانِ وعن قَبول الحقِّ لا يصدِّقُ بيومِ القيامة، استعاذ موسَى بالله مِمَّن أرادَ به سُوءً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ﴾؛ اختلَفُوا في هذا المؤمنِ، فقال بعضُهم: كان قِبْطِيّاً من آلِ فرعون، غيرَ إنه كان آمَنَ بموسى وكان يكتمُ إيمانه من فرعون وقومه خَوفاً على نفسهِ. وقال مقاتلُ والسديُّ: (كَانَ ابْنَ عَمِّ فِرْعَوْنَ)، وَهُوَ الَّذِي حَكَى اللهُ عَنْهُ﴿ وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ يَسْعَىٰ ﴾[القصص: ٢٠]، وهذا هو الأشير وكان اسمهُ حِزقِيلُ، وَقِيْلَ: حِزْبيلُ. وقال بعضُهم كان إسرَائِيليّاً، وتقديرُ الآية: وقال رجلٌ مُؤمِنٌ يكتمُ إيمانهِ مِن آلِ فرعون. وقولهُ تعالى: ﴿ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ ﴾ أي لأَنْ يقولَ رَبيَ اللهُ، وقد جاءَكم بالبيِّنات من ربكم بما يدلُّ على صدقهِ من المعجزات.
﴿ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ ﴾؛ لا يضرُّكم ذلك.
﴿ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ ﴾؛ أي يُصِبكُمْ كلُّ الذي يَعِدُكم من العذاب إنْ قتلتموهُ وهو صادقٌ. والمرادُ بالبعضِ الكلَّ في هذه الآيةِ، وقال الليثُ: (بَعْضُ هَا هُنَا زَائِدَةٌ؛ أيْ يُصِبْكُمُ الَّّذِي يَعِدُكُمْ)، وقال أهلُ المعاني: هذا على الْمُظَاهَرَةِ في الحِجَاجِ، كأنهُ قالَ لَهم: أقلُّ ما يكون في صِدقهِ أنْ يُصِبكُم بعضُ الذي يَعِدْكم وفي بعضِ ذلك هَلاكُكم)، فذكرَ البعضَ ليُوجِبَ الكلَّ، ويدلُّ على ذكر البعضِ بمعنى الكلِّ، قال لبيد: تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إذا لَمْ أرْضَهَا   أوْ يَعْتَلِقْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَاأراد كلَّ النُّفُوسِ، ومثلُ قولِ الآخر. قَدْ يُدْركُ الْمُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ   وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُوقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ﴾؛ أي لا يهدِيهِ في الآخرةِ إلى جنَّتهِ وثوابهِ. والمسرِفُ هو المتجاوزُ عن الحدِّ في المعصيةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ أي قالَ لهم الرجلُ المؤمِنُ على وجهِ النَّصيحةِ لَهم: ﴿ يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ ﴾ أي غَالبينَ مُستَعلِينَ فِي أرضِ مصرَ.
﴿ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا ﴾؛ أي فمَن يَمنَعُنا من عذاب الله إنْ جاءَنا.
﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ ﴾؛ أي ما أُشِيرُ عليكم إلاَّ ما أراهُ حقّاً من الصواب في أمرِ مُوسَى.
﴿ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ ﴾؛ أي ما أُعَرِّفُكم إلاَّ طريقَ الهدى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ ٱلأَحْزَابِ ﴾؛ معناهُ: وقالَ لَهم الرجلُ المؤمِنُ: إنِّي أخافُ عليكم في قَتلهِ وتركِ الإيمان بهِ أنْ ينْزِلَ بكُم من العذاب.
﴿ مِثْلَ دَأْبِ ﴾؛ مِثلَما نزلَ بالأُمَمِ الماضيةِ قبلَكُم حين كذبُوا رُسُلَهم.
﴿ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ﴾.
وقوله تعالى: ﴿ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ ﴾؛ أي لا يُعاقِبُ أحداً بلا جُرمٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ ﴾؛ يعني يومَ القيامةِ يُنَادَى فيه كلُّ أُناسٍ بإمَامِهم، وينادي فيه أهلُ النار أهلَ الجنة، وأهلُ الجنة أهلَ النار، وينادَى فيه بسعادةِ السُّعدَاءِ وشقاوةِ الأشقياءِ، وأصلهُ: يومَ التَّنَادِي بإثباتِ الياء كما في التَّناجِي والتَّقَاضِي، إلاّ أنَّ الياءَ حُذفت منه كما حُذف مِن قولهِ تعالى﴿ يَوْمَ يَدْعُ ٱلدَّاعِ ﴾[القمر: ٦] وشبهِ ذلك. وَقِيْلَ: سُمِّي يومُ التَّنادِي لأنَّ الكفَّارَ يُنادُونَ فيه على أنفُسِهم بالويلِ والثُّبُور، كما قالَ تعالى:﴿ لاَّ تَدْعُواْ ٱلْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَٱدْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً ﴾[الفرقان: ١٤]، وَقِيْلَ في معنى ذلك: أنه يُنادِي المنادي ألاَ أنَّ فُلان بن فلان سَعِدَ سعادةً لا شقاوةَ بعدَها أبداً، ويُنادِي: إلا إنَّ فلان بنَ فلان شَقِيَ شقاوةً لا سعادةَ بعدَها أبداً. وقرأ الحسنُ: (يَوْمَ التَّنَادِي) بإثباتِ الياء على الأصل. وقرأ ابنُ عبَّاس: (يَوْمَ التَّنَادِّي) بتشديدِ الدال على معنى يوم التنافُرِ، وذلك إذا هرَبُوا فنَدُّوا في الأرضِ كما يَنُدُّ الإبلُ إذا شرَدَتْ على أصحابها. قال الضحاك: (إذا سَمِعُوا بزَفِيرِ النَّار نَادَوا هَرَباً، فَلاَ يَأْتُوهُ قِطْراً مِنَ الأَقْطَار إلاَّ وَجَدُوا مَلاَئِكَةً صُفُوفاً، فَيَرْجِعُونَ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانُواْ فِيْهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ ﴾، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ﴾[الرحمن: ٣٣].
قولهُ تَعَالَى: ﴿ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ﴾؛ أي منصَرِفين عن موقفِ الحساب إلى النار.
﴿ مَا لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴾؛ أي مَانِعٍ يَمْنَعُكم من عذابهِ.
﴿ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ جَآءَكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾؛ أي جاءَكم يوسفُ بن يعقوبَ مِن قَبْلِ موسى بالدَّلاَلاتِ ظاهرةً على وحدانيّةِ اللهِ تعالى﴿ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ ﴾[يوسف: ٣٩].
وَقِيْلَ: معنى قوله ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قَبلِ الْمُؤِمِنِ. وقولهُ تعالى: ﴿ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ بِهِ ﴾؛ أي في شَكٍّ من عبادةِ الله وحدَهُ.
﴿ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ ﴾، حتى إذا ماتَ.
﴿ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً ﴾؛ يأمُرنا وينهَانا.
﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ ﴾؛ هكذا يُهلِكُ اللهُ مَن هو متجاوزٌ عن الحدِّ.
﴿ مُّرْتَابٌ ﴾؛ أي شَاكٌّ في توحيدِ الله وصدقِ أنبيائه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ﴾؛ قال الزجَّاجُ: (هَذا تَفْسِيرُ الْمُسْرِفِ الْمُرْتَاب) على معنى هُم الذين يُجادِلُونَ في آياتِ الله بغيرِ سُلطانٍ بالإبطالِ والتكذيب والطَّعنِ بغير حُجَّة أتَتْهُم.
﴿ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾؛ أي عَظُمَ جدالُهم بُغْضاً وسُخْطاً عندَ الله وعند الذين آمنوا.
﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ ﴾؛ أي هكذا يَختمُ اللهُ بالكفرِ.
﴿ عَلَىٰ كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ ﴾؛ عن الإيمانِ.
﴿ جَبَّارٍ ﴾؛ للناسِ على " ما " يُريد. قال ابنُ عبَّاس: (يَخْتُمُ عَلَى قُلُوبهِمْ فَلاَ يَسْمَعُونَ الْهُدَى وَلاَ يَعْقِلُونَ الرَّشَادَ) وقُرئ (عَلَى كُلِّ قَلْبٍ) بالتنوينِ، وقال الزجاجُ: (الْوَجْهُ الإضَافَةُ لأَنَّ الْمُتَكَبرَ هُوَ الإنْسَانُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ فَرْعَوْنُ يٰهَامَانُ ٱبْنِ لِي صَرْحاً ﴾؛ أي قالَ لوزيرهِ هامان: ابْنِ لِي قَصراً مَنِيفاً مشَّيداً بالآجُرِّ، قالَ في موضعٍ آخرَ:﴿ فَأَوْقِدْ لِي يٰهَامَانُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجْعَل لِّي صَرْحاً ﴾[القصص: ٣٨] وكانَ هامانُ هو أوَّلَ مَن استعملَ الآجُرَّ لبناءِ الصَّرحِ، ولكن كُرِهَ بناءُ القبور بالآجُرِّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّعَـلِّيۤ أَبْلُغُ ٱلأَسْبَابَ * أَسْبَابَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾؛ الطريقَ للسَّماوات، والسَّبَبُ في الحقيقةِ: كُلُّ ما يُوصِلُكَ إلى الشيءِ، ولذلك سُمي الجبلُ سَبَباً. وقال بعضُهم: أسبابُ السَّماوات طَبقَاتُهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ ﴾؛ ظنَّ فرعون بجهلهِ أنَّ إلهَ موسى مما يرقى إليه، قوله تعالى: ﴿ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً ﴾، أي إني لأظن موسى كَاذِباً فيما يقولُ إنَّ له ربّاً في السَّماء، ولما قالَ موسى: ربُّ السَّماواتِ، فظنَّ فرعون بجهلهِ واعتقاده الباطل أنه لَمَّا لَم يُرَ في الأرض أنه في السماء، فرَامَ الصعودَ إلى السَّماء لرؤيةِ إله موسى. وقيل: معناهُ: وإني لأظنُّ موسى كَاذباً فيما يقولُ أنَّ له ربّاً غيرِي أرسلَهُ إلينا. وقرأ الأعرجُ (فَأطَّلِعَ إلَى إلَهِ مُوسَى) بنصب العين على جواب (لعَلِّي) بالفاء على معنى إنِّي إذا بلغتُ اطَّلَعتُ، وقرأهُ العامة (فَأطَّلِعُ) عطفاً على قولهِ تعالى: ﴿ وَكَـذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوۤءُ عَمَلِهِ ﴾؛ أي كذا حُسِّنَ له قُبْحُ عملهِ، زَيَّنَ له الشيطانُ جهلَهُ، ومَن قرأ (زَيَّنَ) بفتح الزاي على أنَّ المعاصي يدعُو بعضُها إلى بعضٍ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَصُدَّ عَنِ ٱلسَّبِيلِ ﴾؛ أي صدَّ غيرَهُ عن الهدى، ويحتملُ أنه صدَّ عن السبيلِ بنفسه، و ﴿ صُدَّ ﴾ بضم الصاد أي مُنِعَ عن سبيلِ الحقِّ.
﴿ وَمَا كَـيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ ﴾؛ أي في خَسَارٍ وهلاكٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِيۤ آمَنَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُونِ أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ ٱلرَّشَـادِ ﴾؛ أي قال الرجلُ المؤمن من آلِ فرعون: يا قومِ اتَّبعونِي على دِيني أحملكُم على طريقِ السَّداد والهدى.
﴿ يٰقَوْمِ إِنَّمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا مَتَاعٌ ﴾؛ أي مشقَّةٌ يسيرةٌ تنقطعُ.
﴿ وَإِنَّ ٱلآخِرَةَ هِيَ دَارُ ٱلْقَـرَارِ ﴾؛ فلا تزولُ أي هي المحِلُّ الذي يقعُ فيه الاستقرارُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَنْ عَمِـلَ سَـيِّئَةً ﴾، يعني الشِّرك.
﴿ فَلاَ يُجْزَىٰ إِلاَّ مِثْلَهَا ﴾؛ فلا يُجزى إلاَّ مثلَها في العِظَمِ، معنى النار.
﴿ وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً ﴾؛ أي طاعةً.
﴿ مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾؛ مخلصٌ، قال ابنُ عبَّاس: (يَعْنِي قَوْلَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ) ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾؛ أي بما لا يُعرَفُ له مقدارٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ ﴾؛ أي قال لَهم الرجل المؤمنُ: يا قومِ مَا لِي أدعُوكم إلى سبب النَّجاةِ.
﴿ وَتَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّه ﴾، وتدعونَني إلى عملِ أهلِ النَّار وهو الشِّركُ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ﴾؛ أي من لا أعرفُ له ربوبيَّته.
﴿ وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى ٱلْعَزِيزِ ﴾؛ أي الغالب المنتَقِم ممن عصاهُ.
﴿ ٱلْغَفَّارِ ﴾؛ لِمَن تابَ وآمَنَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي ٱلدُّنْيَا وَلاَ فِي ٱلآخِرَةِ ﴾؛ يعني قوله ﴿ لاَ جَرَمَ ﴾ أي حَقّاً أنَّ ما تدعونَني إليه من المعبودِين دون الله ليس له دعوةٌ في الدُّنيا ولا في الآخرةِ، قال السديُّ: (مَعْنَاهُ: لاَ يَسْتَجِيبُ لأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ)، والتقديرُ: ليس له استجابةُ دعوةٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى ٱللَّهِ ﴾؛ أي وإنَّ مَرجِعَنا إليه في الآخرةِ، يفصلُ بين الْمُحِقِّ والْمُبْطِلِ.
﴿ وَأَنَّ ٱلْمُسْرِفِينَ ﴾؛ أي وإنَّ المتجاوزين عن الحدِّ في الكُفرِ وسَفكِ الدماء بغيرِ الحقِّ.
﴿ هُمْ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُـمْ ﴾؛ أي فستذكُرون هذا الذي أقولُ لكم في الدُّنيا من النَّصيحة إذا نزلَ بكم العذابُ في الآخرةِ، في حين لا ينفعُكم الذِّكرُ عليه.
﴿ وَأُفَوِّضُ أَمْرِيۤ إِلَى ٱللَّهِ ﴾؛ أي وأتركُ أمرَ نفسي إلى اللهِ فأَثِقُ به ولا أشتَغِلُ بكم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ ﴾؛ أي بأوليائهِ وأعدائه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَوقَاهُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ ﴾؛ وذلك أنَّ فرعون أرادَ أن يَقتُلَهُ فهربَ منهم، فلم يقدِرُوا عليه، ودفعَ اللهُ عنه غَائِلَةَ مَكرِهم.
﴿ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ ﴾؛ أي نزلَ بفرعون وقومه أشَدُّ العذاب، قال الكلبيُّ: (غَرِقُوا في الْبَحْرِ وَدَخَلُواْ النَّارَ) والمعنى: وحاقَ بآلِ فرعون سوءُ العذاب، في الدُّنيا الغرقُ، وفي الآخرةِ النارُ، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ﴾؛ ارتفاعُ (النارُ) على البدلِ من ﴿ سُوۤءُ ٱلْعَذَابِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً ﴾ أي صَباحاً ومسَاءً، يقالُ لَهم: يا آلَ فرعون هذهِ منازلُكم، توبيخاً ونقمةً، قال ابنُ مسعود: (إنَّ أرْوَاحَ آلِ فِرْعَوْنَ فِي أجْوَافِ طَيْرٍ سُودٍ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّار كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ)، وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ:" إنَّ أحَدَكُمْ إذا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ " أهْلِ " الْجَنَّةِ، وَإنْ كَانَ مِنْ أهْلِ النَّار فَمِنْ " أهْلِ " النَّار، يُقَالُ: هَذا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". وقولهُ تعالى: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ ﴾ قرأ نافعُ والكوفيُّون بقطعِ الألفِ وكسرِ الخاء؛ أي يقالُ للملائكةِ: أدْخِلُوا آلَ فرعون أشدَّ العذاب، وهو الدَّرْكُ الأسفلُ من النار، وقرأ الباقون بضَمِّ الخاء ووصلِ الألف على الأمرِ لهم بالدخول.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي ٱلنَّـارِ فَيَقُولُ ٱلضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْـبَرُوۤاْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ ٱلنَّارِ ﴾؛ أي واذْكُرْ يا مُحَمَّدُ لقومِكَ: إذ يختصِمُ أهلُ النار في النار، وباقي الآية مفسَّرٌ في سورةِ إبراهيمَ عليه السلام.
قولهُ تعالى: ﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ ﴾؛ أي إنا نحنُ وأنتم قد استَوَينا في العذاب.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ ٱلْعِبَادِ ﴾؛ أي قضَى بهذا علينا وعليكم وحَكَمَ أنْ لا يتحملَ أحدٌ عذابَ أحدٍ. فلما رأوا شدَّة العذاب.
﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ فِي ٱلنَّار ﴾، قالوا.
﴿ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ ٱلْعَذَاب ﴾؛ أي يُهَوِّنْ عنَّا العذابَ قدر يومٍ من أيَّام الدُّنيا.
﴿ قَالُوۤاْ ﴾، فيقول الزبانية: ﴿ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾؛ أي بالدَّلالاتِ الظاهرةِ على وحدانيَّة اللهِ.
﴿ قَالُواْ بَلَىٰ ﴾، فيقولون: بلَى قد أتَتْنا الرسُل.
﴿ قَالُوا ﴾، فتقولُ لَهم الزبانيةُ: ﴿ فَٱدْعُواْ ﴾، أنتم فإنَّ اللهَ تعالى لم يأْذنْ لنا في الدُّنيا.
﴿ وَمَا دُعَاءُ ٱلْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ﴾؛ أي في ضياعٍ لا ينفعُهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾؛ أي إنا لَنُعِينُ الرسُلَ والمؤمنين على أعدائِهم في الدُّنيا بالاستعلاءِ عليهم بالحجَّة وبالغَلبةِ عليهم في المحارَبةِ، وَنُعِينُهم.
﴿ وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ ﴾؛ بإعلاءِ كلِمَتهم وإظهار منْزِلتهم، والمعنى: ويومَ القيامةِ تقومُ الحفَظَةُ من الملائكةِ يشهدون للرُّسُلِ بالتبليغِ، وعلى الكفَّار بالتكذيب. وواحدُ الأشهَادِ: شَاهِدٌ، مثل صَاحِبٍ وأصحابٍ، وطائر وأطيَارٍ، والمرادُ من الأشهادِ الأنبياءُ والملائكةُ والمؤمنونَ والجوارحُ والمكانُ والزمانُ، يشهدون بالحقِّ لأَهلهِ، وعلى المبطلِ بفعلهِ.
﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ ٱلظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ﴾؛ أي إن اعتذرُوا من كُفرِهم لم يقبَلْ منهم، وإنْ تابوا لم تنفَعْهم التوبةُ.
﴿ وَلَهُمُ ٱلْلَّعْنَةُ ﴾؛ أي البُعْدُ من الرحمةِ.
﴿ وَلَهُمْ سُوۤءُ ٱلدَّارِ ﴾؛ يعني جهنَّمَ سوءُ المنقَلب.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْهُدَىٰ ﴾؛ من الضَّلالةِ يعني التوبةَ، وَقِيْلَ: معناهُ: ولقد أعطَينا موسى الدِّينَ المستقيمَ.
﴿ وَأَوْرَثْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ ﴾، ونزَّلنا على بنِي إسرائيلَ التوراةَ والإنجيلَ والزَّبُورَ.
﴿ هُدًى وَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ﴾، هُُدًى من الضَّلالة وعِظَةً لذوي العقولِ.
﴿ فَٱصْبِرْ ﴾، يا مُحَمَّدُ على أذى الكفَّار كما صَبَرَ الرسلُ قبلَكَ.
﴿ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ﴾، في نُصرَتِكَ وإظهار دِينِكَ صدقٌ كائن.
﴿ وَٱسْتَغْفِـرْ لِذَنبِكَ ﴾؛ يعني الصغائرَ؛ لأن أحداً من البشرِ لا يخلُو من الصغائرِ وإنْ عُصِمَ من الكبائرِ. وَقِيْلَ: معناهُ: واستغفِرْ لذنُوب أُمَّتِكَ.
﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾؛ أي نَزِّهْهُ عن كلِّ صفةٍ لا تليقُ به، واحْمَدْهُ على كلِّ نعمةٍ. ويجوزُ أن يكون المرادُ بالتسبيحِ في الآية مِن قوله: ﴿ بِٱلْعَشِيِّ ﴾؛ الصَّلوات الخمسِ وقت ما بعدَ الزَّوالِ إلى وقتِ العشاء الآخرةِ، ومِن قوله: ﴿ وَٱلإِبْكَارِ ﴾؛ صلاةَ الفجرِ. والمعنى: صَلِّ لرَبكَ شَاكراً لربك بالعشيِّ والإبكار.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ ﴾؛ وذلك أن اليهودَ كانوا يجادلون في النبيِّ صلى الله عليه وسلم في رفعِ القرآن، وكانوا يقولون له: صَاحِبُنا المسيحُ بن داودَ، يعنون الدجَّالَ يخرجُ في آخرِ الزمانِ فيبلغُ سلطانَ البرِّ والبحرِ، ويرُدُّ الْمُلْكَ إلينا وتسيرُ معه الأنْهَارُ، وهو آيةٌ من آياتِ الله! ويعظِّمون أمرَ الدجَّال، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ. ومعناهُ: إنَّ الذين يخاصِمون بغيرِ حجَّةٍ أتَتْهُم.
﴿ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّـا هُم بِبَالِغِيهِ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ ﴾؛ أي ما في قُلوبهم إلاَّ عَظَمَةٌ عن قبولِ الحقِّ لِحَسَدِهم، ما هم ببَالِغِي تلك العَظَمة التي في قُلوبهم لأنَّ الله تعالى مُذِلُّهم، فلا يَصِلُونَ إلى دفعٍ من آياتِ الله. قال ابنُ عبَّاس: (وَالْمَعْنَى: مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَكْذِيبكَ إلاَّ مَا فِي صُدُورهِمْ مِنَ الْعَظَمَةِ مَا هُمْ ببَالِغِي مُقْتَضَى ذلِكَ الْكِبْرِ لأَنَّ اللهَ مُذِلُّهُمْ). وقال ابنُ قتيبة: (إنَّ فِي صُدُورهِمْ إلاَّ تَكَبُّرٌ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَطَمَعٌ أنْ يَصِلُوهُ وَمَا هُمْ ببَالِغِي ذلِكَ، فَاسْتَعِذْ باللهِ يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْكِبْرِ وَمِنْ شَرِّ الْيَهُودِ وَمِنْ شَرِّ الدَّجَّالِ وَمِنْ كُلِّ مَا تَجِبُ الاسْتِعَاذةُ مِنْهُ)، وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّـهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ ﴾؛ بهم وبأعمالِهم.
قوله تعالى: ﴿ لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ ﴾؛ أي هذا أكبرُ من خلقِ بغير عَمَدٍ وجريانِ الأفلاكِ بالكواكب فيه أعظمُ في النفسِ وأهْوَلُ في الصدر من خلقِ الناس.
﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ ﴾؛ الكفار.
﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾؛ حين لا يستدُّلون بذلك على توحيدِ خالِقِهما وقدرتهِ على ما هو أعظمُ من خلقِ الدجَّالِ، وعلى أنْ يمنِعَ المسلمين من غَلَبَتِهِ عليهم. وعن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" إنَّ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ ثَلاَثُ سِنِينَ، أوَّلُ سَنَةٍ تُمْسِكُ السَّمَاءُ ثُلُثَ قَطْرِهَا وَالأَرْضُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا، وَالثَّانِيَةُ تُمْسِكُ ثُلُثَي قَطْرِهَا وَالأَرْضُ ثُلُثَي نَبَاتِهَا، وَفِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ تُمْسِكُ السَّمَاءُ مَا فِيْهَا وَالأَرْضُ وَمَا فِيْهَا، وَيَهْلَكُ كُلُّ ذاتِ ظِلْفٍ وَضِرْسٍ ". وعن أبي أُمامةَ الباهليِّ قال:" خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يَوْمٍ، فَكَانَ أكْثَرُ خُطْبَتِهِ أنْ يُحَدِّثَنَا عَنِ الدَّجَّالِ وَيُحَذِّرَنَا، فَكَانَ مِنْ قَوْلِهِ: " أيُّهَا النَّاسُ؛ إنَّهُ لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ أعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، إنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْ نَبيّاً إلاَّ حَذرَ أُمَّتَهُ مِنْهُ، وَأَنَا آخِرُ الأَنْبِيَاءِ وَأنْتُمْ آخِرُ الأُمَمِ، وَهُوَ خَارجٌ فِيكُمْ لاَ مَحَالَةَ، فَإنْ يَخْرُجْ وَأنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُ كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإنْ يَخْرُجْ بَعْدِي فَكُلُّ امْرِئٍ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللهُ تَعَالَى خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ. أنَّهُ يَخْرُجُ بَيْنَ جَبَلَيْنِ بَيْنَ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ يَعِيثُ يَمِيناً وَيَعِيثُ شِمَالاً، فَيَا عِبَادَ اللهِ اثْبُتُوا، فَإنَّهُ يَبْدَأ فَيَقُولُ: أنَا نَبيٌّ وَلاَ نَبيَّ بَعْدِي! ثُمَّ يُثْنِي وَيَقُولُ: أنَا رَبُّكُمْ! وَلَنْ تَرَوا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا، وَإنَّهُ أعْوَرٌ وَلَيْسَ رَبُّكُمْ بأَعْوَرَ، وَإنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ، يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَتْفُلْ فِي وَجْهِهِ. وَإنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أنَّ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ، فَمَنِ ابْتُلِيَ بنَارهِ فَلْيَقْرَأ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ وَيَسْتَغِيثُ باللهِ، فَتَكُونُ عَلَيْهِ بَرْداً وَسَلاَماً، وَإنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أنَّ مَعَهُ شَيَاطِين يَتَمَثَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى صُورَةِ إنْسَانٍ، فَيَأْتِي الأَعْرَابيُّ فَيَقُولُ لَهُ: إذا بَعَثْتُ أبَاكَ وَأُمَّكَ وَأهْلَكَ تَشْهَدُ أنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ شَيَاطِينُهُ عَلَى صَوْتِ أبيهِ وَأُمِّهِ، فَيَقُولانِ لَهُ: يَا بُنَيَّ اتَّبعْهُ فَإنَّهُ رَبُّكَ، وَمِنْ فِتْنَتِهِ أنْ يُسَلَّطَ عَلَى نَفْسٍ فَيَقْتُلُهَا، ثُمَّ يُحْييهَا اللهُ بَعْدَ ذلِكَ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: انْظُرُوا إلَى عَبْدِي هَذا، فَإنِّي بَعَثْتُهُ الآنَ وَيَزْعُمُ أنَّ لَهُ رَبّاً غَيْرِي " ". قال مقاتلُ: (إنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يُسَلَّطَ عَلَيْهِ الدَّجَّالُ رَجُلٌ مِنْ جَشْعَم، فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يَبْعَثُهُ اللهُ تَعَالَى، فَيَقُولُ لَهُ الدَّجَّالُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: اللهُ رَبي وَإنَّكَ الدَّجَّالُ عَدُوُّ اللهِ).[وَإنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ يَقُولُ لِلأعْرَابيِّ: أرَأيْتَ إنْ بَعَثْتُ لَكَ أبيكَ وَأُمَّكَ أتَشْهَدُ أنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ شَيَاطِينُهُ عَلَى صُورَةِ أبيهِ وَأُمِّهِ. وإنَّ أيَّامَهُ أرْبَعِينَ يَوْماً، فَيَوْمٌ كَالسَّنَةِ، وَيَوْمٌ دُونَ ذلِكَ، وَيَوْمٌ كَالشَّهْرِ، وَيَوْمٌ دُونَ ذلِكَ، وَيَوْمٌ كَالجُمُعَةِ، وَيَوْمٌ دُونَ ذلِكَ، وَآخِرُ أيَّامِهِ كَالشُّرْفَةِ، فَيُصْبحُ الرَّجُلُ ببَاب الْمَدِينَةِ فَلاَ يَبْلِغُ بَابَهَا حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ].
" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَيْفَ نُصَلِّي فِي تِلْكَ الأََيَّامِ الْقِصَارِ؟ قَالَ: " تَقْدُرُونَ فِيْهَا كَمَا تَقْدُرُونَ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الطِّوَالِ، فَلاَ يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الأَرْضِ إلاَّ وَطِئَهُ الرَّجُلُ وَغَلَبَ عَلَيْهِ، إلاَّ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَإنَّهُ لاَ يَأْتِيهِمَا، وَيَكُونُ إمَامُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بالْمَدِينَةِ رَجُلاً صَالِحاً، فَيُقَالُ لَهُ: صَلِّ الصُّبْحَ، فَإذا كَبَّرَ وَدَخَلَ فِي الصَّلاَةِ وَنَزَلَ عِيسَى عليه السلام، فَإذا رَآهُ ذلِكَ الرَّجُلُ عَرَفَهُ فَيَتَأَخَّرُ لِيَتَقَدَّمَ عِيسَى، فَيَضَعُ عِيسَى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَيَقُولُ لَهُ: صَلِّ قَائِماً، أُقِيمَتْ لَكَ الصَّلاَةُ. فَيُصَلِّي عِيسَى وَرَاءَهُ ثُمَّ يَقُولُ: افْتَحُوا الْبَابَ، فَيُفْتَحُ بَابُ الْمَدِينَةِ، وَمَعَ الدَّجَّالِ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ ألْفَ يَهُودِيٍّ كُلُّهُمْ ذُوو سِلاَحٍ وَسَيْفٍ مُحَلاًّ، فَإذا نَظَرَ الدَّجَّالُ إلَى عِيسَى ذابَ كَمَا ذابَ الرَّصَاصُ مِنَ النَّار وَالْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فيَقُولُ لَهُ عِيسَى: إنَّ لِي فِيكَ ضَرْبَةً لَنْ تَفُوتَنِي بهَا، فَيُدْركُهُ عِنْدَ بَاب كَذا الشَّرْقِيِّ وَهُوَ بَابُ قَتِيلَةَ، فَلاَ يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ اللهُ يَتَوَارَى بهِ يَهُودِيٌّ إلاَّ أنْطَقَ اللهُ ذلِكَ الشَّيْءَ، فَلاَ شَجَرٌ وَلاَ حَجَرٌ وَلاَ دَابَّةٌ إلاَّ قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللهِ الْمُسْلِمُ هَذا كَافِرٌ فَاقْتُلْهُ. وَيَكُونُ عِيسَى عليه السلام حَكَماً عَدْلاً وَإمَاماً مُقْسِطاً، فَيَدُقُّ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَتُرْفَعُ الشَّحْنَاءُ وَالْتَّبَاغُضُ، وَتُرْفَعُ حُمَةُ كُلَّ دَابَّةٍ حَتَّى يُدْخِلَ الصَّبيُّ يَدَهُ فَمَ الْْحَنَشِ فَلاَ يَضُرُّهُ، وَيَلْقَى الإنْسَانُ الأَسَدَ فَلاَ يَضُرُّهُ، وَيَكُونُ الأَسَدُ فِي الإبلِ كَأَنَّهُ كَلْبُهَا، وَيَكُونُ الذِّئْبُ فِي الْغَنَمِ كَأَنَّهُ كَلْبُهَا، وَيَمْلأُ الأَرْضُ إسْلاماً، وَيُسْلَبُ الْكُفَّارُ مُلْكَهُمْ، وَلاَ يَكُونُ الْمُلْكُ إلاَّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيُبَارَكُ فِي الأَرْزَاقِ حَتَّى أنَّ النَّفَرَ يَجْتَمِعُونَ عَلَى رُمَّانَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَكُونُ الْفَرَسُ بدِرْهَمَيْنِ "وَباللهِ التَّوفِيقُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْـمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَلاَ ٱلْمُسِيۤءُ ﴾؛ أي فكمَا لا يستوِيَان فكذلك لا يستوِي المؤمنُ والكافر في الآخرةِ في الجزاءِ بالعذاب والنَّعيم، وباقِي الآيتَين: ﴿ قَلِيـلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ * إِنَّ ٱلسَّاعَةَ لآتِيَـةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُـمُ ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾؛ أُدعُونِي ووَحِّدُونِي في الدُّنيا أقبلُ منكم وأستمع دعاءَكم.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ﴾؛ إنَّ الذين يتعظَّمُون عن طاعَتِي وعن المسألةِ مني.
﴿ سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾؛ أي صاغرُون ذليلون، والدَّاخِرُ: هو الذلِيلُ الصَّاغِرُ، قال حسَّان: قَتَلْنَا مَنْ وَجَدْنَا يَوْمَ بَدْرٍ   وَجِئْنَا بالأُسَارَى دَاخِرَاقرأ ابنُ كثير (سَيُدْخَلُونَ) بضمِّ الياءِ وفتح الخاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَـارَ مُبْصِـراً ﴾؛ أي تُبصِرُونَ فيه لطلب المعاشِ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾؛ نِعَمَ اللهِ.
﴿ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ خَـٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾؛ ومُبتَدِعهُ، لا معبودَ سواهُ، فلا ينبغِي لأحدٍ أنْ يدعوَ مخلوقاً مثلَهُ.
﴿ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ ﴾؛ وقد تقدَّمَ تفسيرُ ذلك.
﴿ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ ٱلَّذِينَ كَانُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾؛ أي هَكذا كان لمصرفِ القوم الذين كانُوا بدلائلِ الله يجحَدُون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَـلَ لَكُـمُ ٱلأَرْضَ قَـرَاراً ﴾؛ أي مُستقَرّاً للأحياءِ والأَموات، كما قالَ:﴿ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾[الأعراف: ٢٥] ﴿ وَٱلسَّمَآءَ بِنَـآءً ﴾؛ أي وجعلَ السَّماء سَقْفاً مرفُوعاً فوقَ كلِّ شيءٍ.
﴿ وَصَوَّرَكُـمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُـم ﴾؛ أي خلقَكم فَأحسنَ خلقَكُم. قال ابنُ عبَّاس: (خَلَقَ اللهُ ابْنَ آدَمَ قَائِماً مُعْتَدِلاً يَأْكُُلُ بيَدِهِ، وَيَتَنَاوَلُ بيَدِهِ وَكُلُّ مَا خَلَقَ اللهُ يَتَنَاوَلُ بفِيهِ). وقال الزجَّاجُ: (خَلَقَكُمْ أحْسَنَ الْحَيْوَانِ كُلِّهِ).
﴿ وَرَزَقَكُـمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ ﴾؛ أي من لَذِيذِ الأطعمَةِ وكريمِ الأغذية. وقولهُ تعالى: ﴿ ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُـمْ ﴾؛ أي الذي فَعَلَ ذلك كلَّهُ هو ربُّكم فاشكروهُ.
﴿ فَتَـبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي فتعالَى اللهُ دائمُ الوجودِ لم يزَلْ ولا يزالُ ربَّ كلِّ ذي روحٍ من الجنِّ والإنسِ وغيرها.
﴿ هُوَ ٱلْحَيُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ﴾؛ بلاَ أوَّلٍ ولا آخرٍ، لم يَزَلْ، كان حَيّاً ولا يزالُ حيّاً، مُنَزَّهٌ عن كلِّ آفاتٍ، وليس أحدٌ غيرهُ من الأحياءِ بهذه الصِّفات، لا مستحقٌّ للإلهيَّة غيره.
﴿ فَـٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾، فوحِّدوهُ مخلصين له الدِّين؛ أي الطاعةِ، واشكروهُ على معرفةِ التوحيد. قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه: (إذا قَالَ أحَدُكُمْ: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ فَيَقُلْ فِي إثْرِهَا: الْحَمْدُ للهِ رَب الْعَالَمِينَ).
قولهُ تعالى: ﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَمَّا جَآءَنِيَ ٱلْبَيِّنَـٰتُ مِن رَّبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ﴾؛ أي أُمِرتُ أن أستقيمَ على الإسلامِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾؛ أي خلقَ أصلَكم من ترابٍ.
﴿ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾؛ لآبائِكم.
﴿ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ﴾، ثم نقلَكُم إلى العلَقَةِ وهو الدمُ الغليظ.
﴿ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ ﴾؛ من بطُونِ أمَّهَاتِكم أطفَالاً واحداً واحداً لذلكَ قوله: ﴿ طِفْلاً ﴾؛ وقال﴿ بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ﴾[الكهف: ١٠٣] لأن الواحدَ يكون أعمالٌ. وقولهُ تعالى: ﴿ ثُمَّ لِتَـبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُـمْ ﴾؛ أي بنقلِكم إلى حالِ اجتماع القوَّة والكمالِ.
﴿ ثُمَّ لِتَكُـونُواْ شُيُوخاً ﴾؛ أي تصِيرُوا شُيوخاً بعدَ الأشُدِّ.
﴿ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ مِن قَبْلُ ﴾؛ من قبلِ البُلوغِ ومن قبلِ الشَّيخوخةِ.
﴿ وَلِتَبْلُغُوۤاْ أَجَلاً مُّسَمًّى ﴾؛ يريدُ أجلَ الحياةِ إلى الموتِ، ولكلِّ أجلٍ لحياتهِ ينتهي إليه، ويقالُ: لتبلغُوا أجَلاً مسمَّى؛ أي لتُوَافُوا القيامةَ للجزاءِ والحساب.
﴿ وَلَعَلَّـكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، ولكي يعقِلُوا وحدانيةَ اللهِ تعالى وتَمام قدرتهِ، وتصدقوا بالبعثِ بعدَ الموتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ هُوَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ ﴾؛ أي يُحيي الأمواتَ ويميتُ الأحياءَ.
﴿ فَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً ﴾؛ من الإحياءِ والإماتةِ.
﴿ فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ ﴾، يريدهُ.
﴿ كُن فيَكُونُ ﴾، ويُحدِثهُ. وقولهُ تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ ﴾؛ أي يُخاصِمُونَ في القرآنِ بالردِّ والتكذيب، وهم المشركون.
﴿ أَنَّىٰ يُصْرَفُونَ ﴾، كيف يُصرَفُونَ إلى الكذب بعد وضوحِ الدلالةِ.
﴿ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِٱلْكِـتَاب ﴾؛ الذين كذبوا بالقرآنِ.
﴿ وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا ﴾، من الشَّرائعِ والأحكامِ والتوحيد.
﴿ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾، عاقبةُ أمرِهم.
﴿ إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وٱلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ ﴾ حين تُجعَلُ الأغلالُ الحديدُ مع السَّلاسلِ في أعناقِهم، يُسحَبُونَ في الحبالِ على وجُوهِهم، يُلقَوْنَ.
﴿ فِي ٱلْحَمِيمِ ﴾، في نارٍ عظيمة.
﴿ ثُمَّ فِي ٱلنَّارِ يُسْجَرُونَ ﴾؛ قال مجاهدُ: (تُوقَدُ بهِمُ النَّارُ فَصَارُواْ وَقُودَهَا).
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ ﴾، ثم تقولُ لهم الزَّبَانِيَةُ: ﴿ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾، أين الآلِهةُ التي كُنتم تعبدونَها، وتَرجُونَ منافعَها، وتدعونَها.
﴿ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾، فيُؤلِمُونَ قلوبَهم بمثلِ هذا التوبيخِ كما يؤلِمُون أبدانَهم بالتعذيب.
﴿ قَـالُواْ ﴾؛ فيقولُ الكفار: ﴿ ضَـلُّواْ عَنَّا ﴾، أي ضَلَّتْ ألهتُنا عنَّا؛ أي ضاعَت فلا نرَاهَا، ثم يجحَدُون عبادةَ الأصنامِ فيقولون: ﴿ بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً ﴾، إنْ لم نكن نعبدُ مِن قبل هذا شيئاً، ويجوزُ أن يكون هذا كالرَّجُل يعملُ عمَلاً لا ينتفعُ به، فيقالُ له: إيش تعملُ؟ فيقول: لا شيءَ. وقولهُ تعالى: ﴿ كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلْكَافِرِينَ ﴾؛ أي هكَذا يُهلِكُهم ذلكَ العذابُ الذي نزلَ بكم.
﴿ ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي ٱلأَرْضِ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ﴾؛ بالباطل.
﴿ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ * ٱدْخُلُوۤاْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ٱلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾؛ قال مقاتلُ: (يَعْنِي الْبَطَرَ وَالْخُيَلاَءَ). والغِلُّ: هو ما يُجعَلُ في العُنقِ للإذلالِ والإهانةِ. والطَّوْقُ: هو ما يجعلُ للإجلالِ والكرامةِ. وقرأ ابنُ عبَّاس: (وَالسَّلاَسِلَ) بفتح اللام، و(يَسْحَبُونَ) بفتح الياء؛ معناهُ: ويَسحَبُونَ السلاسلَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ ﴾؛ بنصرِكَ والانتقامِ منهم.
﴿ فَـإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾؛ معناهُ: فإنِ انتقَمْنا منهم وأنتَ حيٌّ فبُشرَى لكَ، وإن نتوَفَّاكَ قبل " أنْ " نُرِيَكَ ذلك فإلَينا مرجِعُ الكلِّ منهم للمُجازاةِ، وسيَصِلُ إليهم موعدُهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ﴾؛ أي منهُم من قصَصْنا عليكَ خبَرَهم في القرآنِ، ومنهم مَن لَم نقصُصْ عليكَ خبرَهم.
﴿ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ ﴾؛ في الآيةِ إبلاغُ عُذر النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يأْتِيهم به من الآياتِ التي كانوا يقترحونَها عليه، وليس علينا حصرُ عددِ الرُّسل، ولكنا نؤمنُ بجُملَتِهم. وقولهُ تعالى: ﴿ فَإِذَا جَـآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ ﴾؛ أي إذا جاءَ قضاؤهُ بين أنبيائهِ وأُمَمِهم.
﴿ قُضِيَ بِٱلْحَقّ ﴾، لم يُظلَموا إذا عُذِّبوا ﴿ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ﴾؛ عندَ ذلك.
﴿ ٱلْمُبْطِلُونَ ﴾، المكذِّبون.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَنْعَامَ لِتَرْكَـبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾؛ اللهُ الذي خلقَ لكم الإبلَ والبقرَ والغنَمَ لتركَبُوا بعضَها وتأكلُوا لحمَ بعضِها.
﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ ﴾؛ من ألبانِها وأصوَافِها وأوْبَارها وأشعارها.
﴿ وَلِتَـبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ ﴾؛ أي لتبلغُوا عليها في ركوبها حاجةً في قلُوبكم لا تبلغونَها إلاّ بها، قال مجاهد: (تَحْمِلُ أثْقَالَكُمْ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، وَتَبْلَغُواْ عَلَيْهَا حَاجَاتِكُمْ فِي الْبلاَدِ مِمَّا كَانَتْ).
﴿ وَعَلَيْهَا وَعَلَى ٱلْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾؛ أي وعلى ظهُورها في البَرِّ وعلى السُّفن في البحرِ تحمَلُون في كسبكم وحجِّكم وتجاراتِكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ﴾؛ أي يُرِيكُم اللهُ دلائلَ قُدرتهِ من الشمسِ والقمر والنُّجوم والليلِ والنهار والجبالِ والبحار، وتسخَّرُ الأنعامُ لمنافعِ العباد، كلُّها من آيات اللهِ.
﴿ فَأَيَّ آيَاتِ ٱللَّهِ تُنكِرُونَ ﴾، فأيُّ آيةٍ من آياتِ الله تجهَلُون أنَّها ليست من اللهِ تعالى؟.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾؛ من الأُمَم كيف أهلكَهم اللهُ بتكذيبهم الرسُلَ.
﴿ كَانُوۤاْ أَكْـثَرَ مِنْهُمْ ﴾؛ من أهلِ مكَّة بالعددِ.
﴿ وَأَشَدَّ قُوَّةً ﴾؛ في البُلدانِ، وَأظهرَ؛ ﴿ وَآثَاراً فِي ٱلأَرْضِ ﴾؛ في الأبنيةِ العظيمة، والقصُور الْمَشِيدَةِ، والعيُونِ المستخرجة.
﴿ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾، فلم ينفعْهُم من عذاب الله كثرةُ عَدَدِهم وشدَّةُ قُوَّتِهم وجمعهم الأموال.
﴿ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾؛ بالجهلِ الذي عندَهم أنه علمٌ، وقالوا: نحنُ أعلَمُ منهم، لن نُبعَثَ ولن نعذبَ، فمعنى قوله: ﴿ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ ﴾ أي رَضُوا بما عندَهم من العلمِ وهو في الحقيقةِ جهلٌ وإنْ زعَموهُ عِلْماً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُوۤاْ آمَنَّا ﴾، فلمَّا رأوا عذابَنا آمَنُوا.
﴿ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ وَكَـفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾؛ ولا ينفعُ الإيمان عندَ ذلك. وقولهُ تعالى: ﴿ سُنَّتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ﴾؛ أي هذا قَضَائِي في خَلْقِي أنَّ من كذبَ أنبيائِي وجحَدَ رُبوبَتِي؛ أي سنَّ اللهُ هذه السُّنة في الأممِ كلِّها أنْ لا ينفعَهم الإيمانُ إذا رأوا العذابَ، وسُنة اللهِ هي حكمُ اللهِ الذي مضَى في عبادهِ في بعثِ الرُّسل إليهم، ودُعائِهم إلى الحقِّ وترك المعاجَلةِ بالعقوبة، وأنَّ الإيمانَ وقتَ البأسِ لا ينفعُ. ونُصب قولهُ ﴿ سُنَّتَ ٱللَّهِ ﴾ على التحذيرِ أو على المصدر، وقولهُ تعالى: ﴿ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلْكَافِرُونَ ﴾؛ أي هلكَ عند ذلك المكذِّبون.
Icon