تفسير سورة غافر

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة غافر من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة المؤمن مكية
وآياتها خمس وثمانون آية وتسع ركوعات

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ حم١ الكلام على الحروف المقطعة قد تقدم، وقيل : حم اسم من أسماء الله تعالى وقيل معناه :٢ قضى ما هو كائن فيكون من حُمَّ بالضم و تشديد الميم
١ وفي الحديث الحواميم ديباج القرآن وفيه من أراد أن يرتع في رياض من الجنة فليقرأ الحواميم ١٢وجيز- الحديث الأول أخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم والديلمي[موضوع، انظر ضعيف الجامع [٢٧٩٩]]، والثاني أخرجه ابن الضريس- در منثور[ضعيف لإرساله]..
٢ - وقيل: معناه حمّ أمر الله أي قرب نصره لأوليائه ولهذا..
﴿ تنزيل الكتاب من الله ﴾ مبتدأ وخبر ﴿ العزيز العليم ﴾
﴿ غافر الذنب وقابل التوب ﴾، عطف هذه الصفة من بين الصفات يدل على زيادة ارتباط وجمعية أو الواو دال على نوع مغايرة وليست في الموصوف، فيعتبر في المتعلق أي : غافر الذنب لمن شاء وقابل التوب لمن تاب ﴿ شديد العقاب ﴾ هذه الإضافة لفظية البتة ؛ لأنها من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها ؛ فالأولى أن نقول إن الصفات كلها أبدال ليندفع خلل تخلل بدل بين النعوت فيلزم أن البعض من الأوصاف مقصود والبعض غير مقصود والمتبوع مقصود غير مقصود أو هو أيضا نعت والأصل الشديد العقاب فحذف اللام للازدواج١ ﴿ ذي الطول ﴾ ذي السعة والغناء، أو ذي النعم والفواضل ﴿ لا إله إلا هو إليه المصير٢ فيجازي كلا بعمله،
١ يعني مع غافر وقابل في الخلو عن الألف واللام..
٢ أخرج ابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح" [ضعيف، أخرجه الترمذي فالعزو إليه أولى، وانظر ضعيف الجامع [٥٧٨١]]، ولما ذكر أن القرآن كتاب أنزله ليهتدي به في الدين ذكر أحوال من يجادل فيه ليقصد إبطاله فقال:﴿ما يجادل﴾ الآية/ ١٢ فتح..
﴿ ما يجادل من آيات الله ﴾ : بالباطل من الطعن فيها والقصد إلى إطفاء نورها ﴿ إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد ﴾ : تصرفهم في البلاد للتجارات وسلامتهم وربحهم، فإنها لا تدل على حسن عاقبتهم، بل عاقبتهم كعواقب كفار الأمم السوالف، ثم بين حالهم فقال :
﴿ كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب ﴾ : الذين تحزبوا على رسلهم بالتكذيب، ﴿ من بعدهم ﴾ : كعاد وثمود، ﴿ وهمت كل أمة ﴾ : من هؤلاء ﴿ برسلهم ليأخذوه ﴾ : ليأسروه فيقتلوه أو يعذبوه، ﴿ وجادلوا١ بالباطل ليدحضوا ﴾ : ليزيلوا ﴿ به الحق فأخذتهم ﴾ : أخذ إهلاك جزاء لهمهم وفعلهم ﴿ فكيف كان عقاب ﴾، هذا الاستفهام بكيف حمل على الإقرار وفيه تعجيب للسامعين
١ والمراد الجدال بالباطل والقصد إلى دحض الحق كما في قوله: ﴿وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق﴾ وأما الجدال لاستيضاح الحق ورد أهل الزيغ فهو من أعظم ما يتقرب به المتقربون قال تعالى:﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن﴾ [العنكبوت: ٤٦] فتلخص أن الجدال نوعان: جدال في تقرير الحق، وجدال في تقرير الباطل، أما الأول فهو حرفة الأنبياء عليهم السلام ومنه قوله تعالى حكاية عن قوم نوح- عليه السلام:﴿يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا﴾ [هود: ٣٢]، أما الثاني فهو مذموم وهو المراد هنا في الحديث"إن الجدال في القرآن كفر" رواه أبو داود [صحيح، أخرجه أحمد والحاكم، وعزوه إلى أبي داود وهم، وانظر صحيح الجامع (٣١٠٦)]، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاغترار بشيء من حظوظهم الدنيوية فقال: "فلا يغررك" الآية/ ١٢ فتح..
﴿ وكذلك ﴾ أي : كما وجب إهلاك الأمم ﴿ حقت ﴾ وجبت ﴿ كلمة ربك ﴾ أي : كلمته بالعذاب، ﴿ على الذين كفروا ﴾ : من قومك ﴿ أنهم ﴾ أي : لأنهم، ﴿ أصحاب النار ﴾ : أو أنهم أصحاب النار بدل من كلمة ربك وحينئذ معناه كما وجب عذابهم في الدنيا بالاستئصال وجب عذابهم في الآخرة بالنار، فالمراد من الذين كفروا الأمم السالفة
﴿ الذين١ يحملون٢ العرش ومن حوله ﴾ : من الملائكة المقربين الذين هم الكروبيون ﴿ يسبحون ﴾ متلبسين ﴿ بحمد ربهم ويؤمنون به ﴾، فائدة إثبات الإيمان لهم إظهار فضل الإيمان والترغيب فيه، كإثبات الصلاح والصدق للأنبياء ﴿ ويستغفرون للذين آمنوا ﴾، لما بينهم من المناسبة بالإيمان، ﴿ ربنا ﴾ أي : يقولون ربنا، ﴿ وسعت كل شيء رحمة وعلما ﴾ أصله وسعت رحمتك كل شيء، فنصب الفاعل بالتمييز وأسند الفعل إلى صاحب الرحمة للمبالغة، كأن ذاته رحمة واسعة كل شيء ﴿ فاغفر للذين تابوا ﴾ أي : لمن علمت منه التوبة ﴿ واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ﴾
١ ولما ذكر حال الكفار المجادلين في آيات الله وعصيانهم، ذكر طاعة هؤلاء المصطفين من خلقه، فقال﴿الذين يحملون العرش﴾ الآية[الطور: ٢١] َ/١٣ وجيز. فكأنه قال إن كان هؤلاء الأراذل يبالغون في العداوة فلا تبال بهم، ولا تلتفت إليهم فإن حملة العرش يحبونكم ويستغفرون لكم وهم أشرف طبقات المخلوقات /١٢..
٢ أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أمامة قال: الملائكة الذين يحملون العرش يتكلمون بالفارسية/١٢ در منثور. قلت: وفي هذا الأثر نكارة، فإن العربية أشرف اللغات..
﴿ ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتم ﴾ : إياها، ﴿ ومن صلح من آبائهم ﴾، عطف على مفعول أدخل ﴿ وأزواجهم وذرياتهم ﴾أي : أدخلهم وهؤلاء، وساو بينهم في المنزلة، لتتم سرورهم وتقر أعينهم. عن سعيد بن جبير١ إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أقاربه أين هم ؟ فيقال : إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل فيقول : إني إنما عملت لي ولهم، فيلحقون به في الدرجة، ثم تلا هذه الآية وهذا معنى قوله تعالى :﴿ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ﴾ الآية [ الطور : ٢١ ] ﴿ إنك أنت العزيز ﴾ : الغالب القادر على كل شيء، ﴿ الحكيم ﴾ : في جميع أفعالك
١ أخرج الطبراني وابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا بمعناه ١٢ در منثور.[ذكره الهيثمي في المجمع،(٧/١١٤) وقال:" رواه الطبراني في الصغير والكبير وفيه محمد بن عبد الرحمن بن غزوان وهو ضعيف.].
﴿ وقهم السيئات ﴾ أي : العقوبات أو وبال السيئات، وهو تعميم بعد تخصيص ﴿ ومن تق السيئات ﴾ أي : تقه ﴿ يومئذ ﴾ : يوم القيامة ﴿ فقد رحمته ﴾، وجاز أن يراد من السيئات في الموضعين المعاصي، فيكون معناه ومن تقه في الدنيا عن المعاصي، فقد رحمته يوم القيامة ﴿ وذلك ﴾ : الرحمة والوقاية، ﴿ هو الفوز العظيم ﴾.
﴿ إن الذين١ كفروا ينادون ﴾ : في القيامة ويقال لهم ﴿ لمقت الله ﴾ : إياكم، ﴿ أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون ﴾ أي : لمقت الله تعالى أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا فأعرضوا أكبر مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا العذاب في القيامة، فإنهم أبغضوا أنفسهم ومقتوها غاية المقت عند غمرات النيران لسبب ما اكتسبوا من الآثام، الموجبة للعذاب المخلد، ثم من يجوز الفصل في الظرف لسعته بأجنبي وهو الخبر بين المصدر ومعموله يجوز أن يكون إذ تدعون ظرفا للمقت الأول، ومن لم يجوز فعنده أنه منصوب بمقدر، هو اذكروا، أو مصدر آخر أي : مقته إياكم إذ تدعون، وقيل متعلق بمقتكم، أو أكبر على سبيل العلية والسببية، ومعناه بغض الله تعالى إياكم أكبر من بغض بعضكم بعضا ؛ لأنكم كنتم تدعون إلى الإيمان في الدنيا فكنتم تكفرون
١ لما ذكر في أول السورة أحوال الكافرين المجادلين في آيات الله عاد إلى شرح أحوالهم وبين أنهم في القيامة يعترفون بذنوبهم، واستحقاقهم العذاب يسألون الرجوع إلى الدنيا ليتلافوا ما فرط منهم، فقال:"إن الذين كفروا ينادون " الآية/١٢ كبير..
﴿ قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ﴾ أي : إماتتين وإحياءتين وذلك لأنهم في أرحام أمهاتهم نطف، لا حياة١ فيهم، فأحيوا في الدنيا ثم أميتوا عند آجالهم ثم أحيوا للبعث وهذا هو الصحيح الذي عليه ابن عباس وابن مسعود وكثير من السلف رضي الله عنهم وهذا إقرار منهم بالبعث، والقدرة التامة التي أنكروها في الدنيا، ﴿ فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج ﴾ : من النار، ﴿ من سبيل ﴾ فنسلكه
١ وعلى هذا ففيه جمع بين الحقيقة والمجاز، وقد جوز في المثنى والمجموع كالأمهات والجدات قال تعالى:﴿وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم﴾ [البقرة: ٢٨] وهذا كقولك: سبحان من صغر جسم البعوضة وكبر جسم الفيل، أراد الإنشاء على تلك الهيئة، والسبب في صحته أن الصغر والكبر جائزان على مصنوع واحد من غير ترجيح، فإذا اختار الصانع أحدهما وهو متمكن منهما على السواء، فقد صرف المصنوع من الجائز الآخر فجعل صرفه عنه كنقل منه/١٢ وجيز..
فأجيبوا بقوله :﴿ ذلكم ﴾ أي : ما أنتم فيه من العذاب، ﴿ بأنه إذا دعي الله وحده ﴾ أي : منفردا بالذكر ﴿ كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا ﴾ : بالإشراك ﴿ فالحكم لله ﴾ : حيث حكم بالعذاب السرمد عليكم ﴿ العلي الكبير ﴾ : من أن يشرك به
﴿ هو الذي يريكم١ آياته ﴾ الدالة على توحيده وكمال قدرته، ﴿ وينزل لكم من السماء رزقا ﴾ : أسباب رزق أي : المطر، ﴿ وما يتذكر ﴾ : بالآيات، ﴿ إلا من ينيب ﴾ : يرجع إلى الله تعالى، فإن المنكر المعاند لا ينظر فيما ينافي مقصوده
١ لما ذكر ما يوجب التهديد في حق المشركين، أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته، ليصير ذلك دليل على أنه لا يجوز جعل غيره شريكا له، والمعنى أن الوقوف على دلائل توحيد الله كالأمر المركوز في العقل إلا أن القول بالشرك والاشتغال بعبادة غير الله يصير كالمانع من تجلى تلك الأنوار، فإذا أعرض العبد عنها وأناب إلى الله تعالى زال الغطاء والوطاء فظهر النور التام، ولما قرر هذا المعنى صرح بالمطلوب وهو الإعراض عن غير الله، والإقبال بالكلية على الله تعالى فقال:﴿فادعوا الله مخلصين له الدين﴾/١٢ كبير.
﴿ فادعوا الله مخلصين له الدين ﴾ : أخلصوا له العبادة ﴿ ولو كره الكافرون ﴾ : إخلاصكم
﴿ رفيع الدرجات ﴾ كناية عن علو شأنه، أو درجات الجنة للمؤمنين، خبر ثان لهو١ أو خبر لمحذوف ﴿ ذو العرش ﴾ : مالك أصل العالم الجسماني ومدبره ﴿ يلقي الروح ﴾ خبر رابع، والروح الوحي فإنه محيي القلوب من موت الكفر أو المراد جبريل ﴿ من أمره ﴾ : من قضائه ومن ابتدائية متعلقة بيلقى أو حال من الروح ﴿ قل الروح من أمر ربي ﴾ [ الإسراء : ٨٥ ] ﴿ على من يشاء من عباده ﴾ فيجعله نبيا ﴿ لينذر ﴾ : الضمير لمن ﴿ يوم التلاق ﴾ : يوم القيامة يتلقى فيه الخالق والمخلوق، وأهل السماء والأرض، والظالم والمظلوم، والعباد وما عملوا من خير وشر،
١ للفظ هو في قوله تعالى:﴿هو الذي يريكم﴾ /١٢..
﴿ يوم هم بارزون ﴾ : ظاهرون لا يسترهم شيء بدل من يوم التلاق الذي هو مفعول به، ويوم مضاف إلى جملة " هم بارزون " ﴿ لا يخفى على الله منهم شيء ﴾ من أعمالهم وأحوالهم وذواتهم ﴿ لمن الملك اليوم ﴾ حكاية لما يسأله عنه في ذلك اليوم حين إفناء الخلق﴿ لله الواحد القهار ﴾، حكاية لما يجاب به، لا أحد يجيبه فيجيب نفسه١، وقيل : الجواب للعباد كلهم، والسؤال عنهم
١ بعد أربعين سنة يكون الصوت بالسؤال بين العرش والكرسي، وهذا مصرح في الأحاديث المعتمدة/١٢ وجيزة..
﴿ اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ﴾ : يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ﴿ لا ظلم اليوم ﴾، فإنه سبحانه عادل متفضل حرم الظلم من فضله على نفسه ﴿ إن الله سريع الحساب ﴾، لأنه لا يشغله حساب أحد عن حساب آخر،
﴿ وأنذرهم يوم الآزفة ﴾ : القيامة الآزفة القريبة ﴿ إذ القلوب لدى الحناجر ﴾ : من الخوف زالت عن مقارها فلا هي تعود ولا تخرج فيموتوا أو يستريحوا ﴿ كاظمين ﴾ : ممتلئين كربا، أو ساكتين والكظوم السكوت وتعريف القلوب والحناجر١ عوض أي : قلوبهم لدى حناجرهم، " فكاظمين " حال من المضاف إليه في حناجرهم، والعامل ما في الظرف من معنى الفعل أو من الضمير في " لدى " الراجع إلى القلوب ﴿ ما للظالمين ﴾ : الكافرين ﴿ من حميم ﴾ : محب مشفق ﴿ ولا شفيع٢ يطاع ﴾ : فيشفع ويكون للشفاعة فائدة،
١ عن المضاف إليه/١٢.
٢ و المقصود نفي المعين لهم، ولذلك قال حميم وشفيع يطاع فإن محبا غير مشفق وشفيعا غير مطاع وجوده وعدمه سواء/١٢ وجيز..
﴿ يعلم خائنة١ الأعين ﴾ أي : خيانتها كلحظة المرأة الحسناء إذا غفل الناس وغمزها، أو الخائنة صفة للنظرة ﴿ وما تخفي الصدور ﴾ أي ما تخفيه، وجملة يعلم خائنة الأعين مستأنفة كالتعليل لقوله تعالى :" وأنذرهم "
١ أخرج أبو داود والنسائي وابن مردويه عن سعد قال: لما كان يوم فتح مكة أمّن [هكذا بالأصل، والمراد: أمّن أهل مكة] رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: "اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة" منهم عبد الله بن سعد أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة جاء به فقال: يا رسول الله بايع عبد الله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى أن يبايعه ثم بايعه، ثم أقبل على أصحابه فقال: " أما فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله، فقالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك قال:" إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين" [صحيح، وانظر صحيح سنن أبي داود (٣٦٦٤)]/ ١٢درمنثور..
﴿ والله يقضي بالحق ﴾ لا يظلم مثقال ذرة ﴿ والذين يدعون ﴾ أي : المشركون إياهم ﴿ من دونه ﴾ كالأصنام ﴿ لا يقضون بشيء ﴾ لأنهن جمادات ففيه تهكم لأن يقال في الجماد يقضي أو لا يقضي ﴿ إن الله هو السميع البصير ﴾ وعيد المشركين تقرير لإحاطة علمه.
﴿ أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم ﴾ فإنه يظهر من مساكنهم علامات سوء عاقبتهم ﴿ كانوا هم أشد منهم قوة ﴾ قدرة وتمكنا، وهم ضمير الفصل والأصوب أن يجعل هم مبتدأ لا فصلا ﴿ وآثارا في الأرض ﴾ مثل الحصون والقصور ﴿ فأخذهم الله بذنوبهم ﴾ ولم تنفعهم قوتهم ﴿ وما كان لهم من الله من واق ﴾ يقيهم من عذابه فمن زائدة وواق اسم كان
﴿ ذلك ﴾ الأخذ ﴿ بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات ﴾ : الدالة على صدقهم ﴿ فكفروا فأخذهم الله إنه قوي ﴾ : لا عجز له أصلا، ﴿ شديد١ العقاب ﴾
١ ولما حثهم على السير والنظر في عاقبة من كفر ولم يرفع رأسه إلى المعجزات الظاهرات، جاء بحكاية موسى مع فرعون فقال:" ولقد أرسلنا موسى" الآية/١٢ وجيز..
﴿ ولقد أرسلنا موسى بآيات بينات وسلطان مبين ﴾ : حجة ظاهرة،
﴿ إلى فرعون وهامان ﴾ : وزير١ فرعون ﴿ وقارون ﴾ أغنى الناس في ذلك الزمان ﴿ فقالوا ﴾ : هو ﴿ ساحر كذاب ﴾، وفي هذه الحكاية تسلية وبشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
١ وكان في نهاية الكبر والحشمة/١٢ وجيز..
﴿ فلما جاءهم بالحق ﴾ : الدليل على نبوته، ﴿ من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم ﴾ : للخدمة وهذا أمر من فرعون بإعادة ما كانوا يفعلون بهم، فإنه كان قد أمسك عن قتل أبناءهم ولما بعث موسى أعاد القتل عليهم١، ﴿ وما كيد الكافرين إلا في ضلال ﴾ : ضياع وزوال
١ غيظا وتشفيا عما في صدره من الهم والحزن/١٢ وجيز..
﴿ وقال فرعون ذروني أقتل موسى ﴾ كان فيهم من يمنعه نصحا عن قتله خوفا من العذاب، ﴿ وليدع ﴾ : موسى، ﴿ ربه ﴾ : الذي يزعم أنه أرسله فيقيه منا، وفيه دليل على أن قوله ذروني تمويه وتروية، فإن ظاهره الاستهانة به وباطنه الخوف من دعائه١ ربه ﴿ إني أخاف أن يبدل دينكم ﴾ : الذي أنتم عليه إن لم أقتله ﴿ أو أن يظهر في الأرض الفساد ﴾ : من الفتن والتهارج والخلاف أراد يبدل دينكم أو دنياكم
١ فإنه كان سفاكا لا يشاور أحدا /١٢ وجيز..
﴿ قال موسى إني عذت بربي وربكم ﴾ حقيقة وهو الله تعالى﴿ من كل متكبر لا يؤمن بيوم١ الحساب ﴾ أظهر التوكل على الله وعلمهم.
١ فإنه من آمن بيوم الحساب لا يجترئ على الظلم وعلمهم التوكل وقال "ربي وربكم" ولم يسم فرعون، بل جاء بما يشمله/١٢ وجيز..
﴿ قال رجل مؤمن من آل فرعون ﴾ : من أقاربه وهو ابن عمه١، وعن بعض السلف أنه إسرائيلي، وعنده إن قوله :" من آل فرعون " متعلق بقوله :﴿ يكتم إيمانه ﴾ : من فرعون، ﴿ أتقتلون رجلا٢ أن يقول ﴾ أي : لأن يقول :﴿ ربي الله ﴾ : وحده، ﴿ وقد جاءكم بالبينات ﴾ : المعجزات على صدقه، ﴿ من ربكم ﴾، هذا إظهار لإيمانه وإرشاد ثم أخذ في الاحتجاج فقال :﴿ وإن يك كاذبا فعليه كذبه ﴾ : وبال كذبه على نفسه لا يتخطاه، ﴿ وإن يك صادقا يصبكم ﴾ أي : لا أقل من أن يصبكم ﴿ بعض الذي يعدكم ﴾، ففيه إظهار الإنصاف وكمال الشفقة فإنه بنى الكلام في النصح على التنزل ﴿ إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب ﴾، كلام ذو وجهين يعني لو كان مسرفا لما هداه الله إلى البينات، ولو كان كاذبا فهو غير مهتد، فخلوا سبيله ولا تعظموا شأنه وكان فيه تعرضا لفرعون بالإسراف والكذب
١ آمن بموسى سرا، وكان اسمه حزئيل عند ابن عباس والأكثر /١٢..
٢ أخرج البخاري وابن المنذر وابن مردويه من طريق عروة قال: قلت لعبد الله بن عمرو ابن العاص أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقا شديدا فأقبل أبو بكر فأخذ بمنكبيه ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاء كم بالبينات من ربكم/١٢ در منثور..
﴿ يا قوم لكم الملك اليوم ﴾، وهذا من تتمة نصحه ﴿ ظاهرين في الأرض ﴾ : غالبين في مصر، ﴿ فمن ينصرنا من بأس الله ﴾ : عذابه، ﴿ إن جاءنا ﴾، فلا تتعرضوا لبأس الله بقتله، ﴿ قال فرعون ﴾ : حين منع من قتله :﴿ ما أريكم ﴾ : من الرأي، أي : لا أشير عليكم، ﴿ إلا ما أرى ﴾ : من المصلحة يعني قتله، ﴿ وما أهديكم ﴾، بهذا الرأي :﴿ إلا سبيل١ الرشاد ﴾ : طريق صلاحكم،
١ وهذه الكلمات من فرعون الذي يدعي الألوهية مع تجبره وسفكه الدماء من غير تأول نص صريح في أنه خائف، وهو عالم بأن ما جاء به موسى حق لكن يتجلد دفعا لخجله/١٢..
﴿ وقال الذي آمن ﴾ من قوم فرعون :﴿ يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ﴾ : يوم وقائع الأمم الماضية،
﴿ مثل دأب ﴾ عطف بيان لمثل الأول ﴿ قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ﴾ أي : مثل جزاء عادتهم من الكفر وتكذيب الرسل، وترك جمع اليوم والدأب لعدم الإلباس فإن لكل منهم١ يوما ودأبا ﴿ وما الله يريد ظلما للعباد ﴾، فلا يعاقبهم من غير استحقاق،
١ لظهور أن الأحزاب ما هلكوا في يوم واحد/١٢ وجيز..
﴿ ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد ﴾ : يوم القيامة سمى بذلك لكثرة النداء فيه بالسعادة والشقاوة١، ونداء بعضهم بعضا خوفهم عن عذاب الدنيا أولا ثم عن عذاب الآخرة،
١ بأن نادى مناد ألا إن فلان بن فلان سعد سعادة لا يشقى بعده أبدا وفلان شقي شقاوة لا يسعد سعادة بعدها أبدا/١٢ كمالين..
﴿ يوم تولون ﴾ : عن الموقف، ﴿ مدبرين ﴾ : فارين عن النار ذاهبين، ﴿ ما لكم من الله من عاصم ﴾ : يعصمكم من عذابه، ﴿ ومن يضلل الله فما له من هاد ﴾
﴿ ولقد جاءكم يوسف من قبل ﴾ : يوسف بن يعقوب١ بعثه الله تعالى من قبل موسى رسولا يدعو القبط إلى طاعة الله وحده فما أطاعوه تلك الطاعة، نعم أطاعوه لمجرد الوزارة والجاه الدنيوي وهذا أيضا من كلام مؤمن آل فرعون، ﴿ بالبينات ﴾ : المعجزات، ﴿ فما زلتم في شك مما جاءكم به ﴾ : من الدين، ﴿ حتى إذا هلك ﴾ : مات، ﴿ قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا ﴾ : جزمتم بأن لا رسول بعده مع الشك في رسالته ﴿ كذلك ﴾ : مثل ذلك الإضلال ﴿ يضل الله من هو مسرف ﴾ : في معصيته، ﴿ مرتاب ﴾ : شاك في دينه المبين بالحجج
١ وهو الصحيح/١٢ وجيز..
﴿ الذين يجادلون ﴾، بدل من " من هو مسرف " وهو في معنى الجمع أو تقديره هم الذين ﴿ في آيات الله ﴾ : ليبطلوه، ﴿ بغير سلطان ﴾ : حجة، ﴿ أتاهم ﴾، بل بمجرد تشهيهم ﴿ أكبر ﴾، فاعله ضمير راجع إلى من والحمل على المعنى أولا ثم على اللفظ ثانيا، جائز من غير ضعف أو إلى الجدال المدلول عليه بقوله يجادلون، ﴿ مقتا ﴾ : بغضا تمييز، ﴿ عند الله١ وعند الذين آمنوا كذلك ﴾ : مثل ذلك الطبع، ﴿ يطبع الله على كل قلب متكبر جبار٢ : يختم عليه فلا يعي خيرا، ولا يفقه الرشاد،
١ والأولى في إعرابه أن الذين مبتدأ وكبر خبره وفيه ضمير إلى مصدر يجادلون نحو من كذب كان شرا له، وهذا إعراب لا غبار عليه/١٢ وجيز..
٢ وتلك الصفات في فرعون وأكثر قومه، وقد عدل عن مخاطبتهم لحسن محاورته لهم في كبر مقتا ضرب من التعجب/١٢ وجيز..
﴿ وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا ﴾ : قصرا عاليا ظاهرا، ﴿ لعلي أبلغ الأسباب ﴾ أي : الطرق أو الأبواب
﴿ أسباب السماوات ﴾ أبهمه ثم أوضحه تعظيما وتشويقا إلى معرفته، ﴿ فأطلع ﴾ من قرأ بالنصب فبجواب الترجي، تشبيها بالتمني من جهة إنشاء التوقع ﴿ إلى إله موسى ﴾، فهو جاهل، أو متجاهل، يلبس على قومه، فإن الوصول إلى السماء بالبناء محال، ﴿ وإني لأظنه١ كاذبا ﴾ : في أن له إلها في السماء٢ ﴿ وكذلك ﴾ مثل ذلك التزين، ﴿ زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل ﴾ : عن٣ طريق رشاده ومن قرأ صدّ فمعناه صدّ فرعون الناس عن الحق بأن أوهم رعاياه بأنه يعمل شيئا يتوصل به إلى العلم بكذبه ﴿ وما كيد فرعون إلا في تباب ﴾ خسار لا ينفعه كيده.
١ في إدعائه بأن له إلها غيري مستويا على العرش فوق السماوات/١٢ فتح احتج به أهل الحديث وأئمة الإسلام وأعلام الهدى، على أن الله عز وجل فوق سماواته على عرشه وعلى أن جميع الرسل متفقون عليه، وأن فرعون اللعين كذب موسى في قوله إن الله في السماء بوجوه منها: أن فرعون كان من المنكرين لوجود الله وكل ما يذكره في صفات الله تعالى فذلك إنما بذكره لأجل أنه سمع أن موسى يصف الله بذلك، فلولا أن سمع موسى يصف الله بأنه موجود في السماء لما طلبه في السماء، ومنها أنه قال: وإني لأظنه كاذبا، ولم يبين أنه كاذب في ماذا، والمذكور السابق متعين لصرف الكلام إليه، فكان التقدير فأطلع إلى الإله الذي يزعم موسى أنه موجود في السماء، ثم قال لأظنه كاذبا أي: وإني لأظن موسى كاذبا في ادعائه أن الإله موجود في السماء، وذلك يدل على أن دين موسى هو أن الإله موجود في السماء، ومنها أن العلم بأنه لو وجد إله لكان في السماء علم بديهي متقرر في كل العقول والفطر، ولذلك ترى النساء والصبيان والجهال والأعراب إذا تضرعوا إلى الله رفعوا وجوههم وأيديهم إلى السماء، وأن فرعون مع نهاية كفره لما طلب الإله فقد طلبه في السماء، وهذا يدل على أن العلم بأن الله موجود في السماء علم متقرر في عقل الصديق والزنديق والملحد والموحد والعالم والجاهل، وقد اتفق عليه الأنبياء والمرسلون والصحابة والتابعون وجميع أئمة الهدى ومصابيح الدجى في كل عصر، وقد نقلوا إجماع الرسل عليهم السلام على ذلك كما قال الشيخ عبد القادر الجيلاني- رحمه الله – في كتاب الغنية: وكونه سبحانه في السماء مذكور في كل كتاب أنزل على نبي أرسل، وقد مر بعض عبارات الأئمة في سورة القصص تحت قوله تعالى:" وإني لأظنه من الكاذبين" فتذكر/١٢..
٢ في أن له إله في السماء، وقد سمع من موسى أن الله في السماء كما هو وارد في صحاح الأحاديث وحسانها/١٢ وجيز..
٣ وهو لأنه كان معاندا فحاله أسوء وهو أضل/١٢ وجيز..
﴿ وقال الذي آمن ﴾ مؤمن آل فرعون :﴿ يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد ﴾ : أدلكم عليه،
﴿ يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا ﴾ أي : ما هذه الحياة، إلا ﴿ متاع ﴾ : تمتع قليل تذهب عن قريب، ﴿ وإن الآخرة هي دار القرار ﴾ : فإنها لا تزول،
﴿ من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ﴾ : بغير تقدير لا كالسيئة فإنها بموازنة العمل وما هذا إلا من سعة فضله ورحمته
﴿ ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة ﴾ : إلى ما هو سبب لها ﴿ وتدعونني إلى النار ﴾، وهذا المنادي عطف على قوله يا قوم اتبعوني لا علي يا قوم إنما هذه ؛ لأن الثاني كالبيان للأول ولهذا تراه بغير عطف بخلاف الثالث
﴿ تدعونني لأكفر بالله ﴾، بيان للثاني، والدعاء كالهادية في التعدية بإلى واللام ﴿ وأشرك به ما ليس لي به علم ﴾ : شيئا ليس لي بربوبيته حجة وبرهان أي ما ليس بإله ﴿ وأنا أدعوكم إلى العزيز ﴾ : الغالب القادر المطلق ﴿ الغفار ﴾
﴿ لا جرم أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة ﴾ : لا رد لما دعوه إليه وجرم فعل بمعنى حق وما بعده فاعله أي : حق، وثبت أن الذي تدعونني إليه باطل ليس له ثبوت أصلا في زمان، أو بمعنى كسب، وفاعله ضمير إلى ما قبله وما بعده مفعول أي : كسب كذلك الدعاء إليه بطلان دعوة ما تدعونني إليه، أي : ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته، أو اسم بمعنى المقطع ولا لنفي الجنس وما بعده خبره أي لا قطع ولا انقطاع لبطلان دعوة الأصنام، ومعنى ليس له دعوة أن ليس له دعوة إلى نفسه ومن شأن المعبود الحق أن يدعو العباد إلى طاعته أو معناه ليس له استجابة دعوة فيكون من تسمية أثر الشيء وثمرته باسم ذلك الشيء ﴿ وأن مردنا إلى الله ﴾ : مرجعنا إليه، ﴿ وأن المسرفين ﴾ : أي المشركين، ﴿ هم أصحاب النار ﴾
﴿ فستذكرون ما أقو ل١ لكم ﴾ : من النصح وتتحسرون على عدم القبول ﴿ وأفوض أمري إلى الله ﴾ : فيعصمني عن كل سوء، ﴿ إن الله بصير بالعباد ﴾، وذلك حين أوعدوه بمخالفة دينهم
١ ولما بلغ ذلك المؤمن في باب النصيحة إلى هذا الكلام ختم كلامه بخاتمة لطيفة فقال فستذكرون ما أقول لكم، وفي هذا الإبهام والتخويف والتهديد ما لا يخفى/١٢ فتح..
﴿ فوقاه١ الله سيئات ما مكروا ﴾، فما وصل إليه آثار مكرهم، ونجا مع موسى ﴿ وحاق بآل فرعون ﴾ : بفرعون وقومه واستغنى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك، ﴿ سوء العذاب ﴾ الغرق في الدنيا ثم نقله منه إلى النار
١ قال مقاتل: قصدوا قتله ففر إلى جبل فبعث فرعون إلى أخذه ألف رجل فهلك بعضهم بالعطش وبعضهم بأكلهم السباع وبعضهم لما رجعوا اتهمهم بأمر فرعون بقتلهم وصلبهم فهلك الألف عن آخرهم ونجا/ ١٢ وجيز..
﴿ النار يعرضون١ عليها غدوا وعشيا ﴾ مبتدأ وخبر أو النار بدل من سوء العذاب، ويعرضون حال، ﴿ ويوم تقوم الساعة ﴾، قيل لهم، ﴿ أدخلوا٢ آل فرعون أشد العذاب ﴾، في الصحيحين " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار فيقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة "، وهذه الآية أصل في استدلال عذاب القبر وعليه سؤال وهو أن الآية لا شك في أنها مكية، وفي مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين أن يهودية في المدينة كانت تعيذ عائشة عن عذاب القبر، فسألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :" كذب يهود لا عذاب دون يوم القيامة "، فلما مضى بعض أيام نادى عليه السلام محمرا عيناه بأعلى صوته :" أيها الناس استعيذوا بالله من عذاب القبر٣، فإنه حق " فقيل في جوابه : إن الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ وما نفاه أولا ثم أثبته عليه السلام عذاب الجسد فيه، والأولى أن يقال الآية دلت على عذاب الكفار فيه وما نفاه ثم أثبته عذاب القبر للمؤمنين ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن يهودية قالت : أشعرت أنكم تفتنون في القبور فلما سمع عليه الصلاة والسلام قولها ارتاع وقال :" إنما يفتن اليهود " ثم قال بعد ليال :" أشعرت أنه أوحى إلي أنكم تفتنون في القبور "، ثم كان بعده يستعيذ من عذاب القبر
١ قيل: المراد من العرض الإحراق بها، يقال عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم وفيما بين الغدو والعشي الله أعلم بحالهم، إما التنفيس أو التعذيب بغير النار وجاز أن يراد من الغداة والعشي الدوام/١٢ وجيز [قلت: والأخير هو الصواب، وهو ما رجحه الطيى في شرحه على المشكاة بتحقيقي في بعض المواضع، وسماه بالكناية الزبدية]..
٢ قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر بحذف الألف والوصل وبضمها في الابتداء وضم الخاء من الدخول، وقرأ الآخرون أدخلوا بقطع الألف وكسر الخاء من الإدخال أي: يقال للملائكة أدخلوا/١٢ معالم..
٣ أخرجه أحمد في "المسند" [٦/٨١] بسند صحيح.
﴿ وإذ يتحاجون ﴾، واذكر وقت تخاصمهم ﴿ في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا ﴾ : في الدنيا جمع تابع كخدم ﴿ فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار ﴾ : نصيبا مفعول اسم الفاعل بتضمين مغنون معنى دافعون
﴿ قال الذين استكبروا إنا كل فيها ﴾ : نحن وأنتم وكفانا ما علينا ﴿ إن الله قد حكم بين العباد ﴾ فأعطى كلا ما يستحقه
﴿ وقال الذين في النار لخزنة جهنم ﴾، وعذاب جهنم غير منحصر١ في النار، ﴿ ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب ﴾ أي : قدر يوم، ومن العذاب بيانه، أو بعضا من العذاب في يوم من الأيام
١ ولذا لم يقل لخزنتها / ١٢.
﴿ قالوا أو لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ﴾ أي : أكنتم غفلتم عن هذا ولم تك تأتيكم ؟ إلخ، ﴿ قالوا بلى ﴾ : جاءوا بها، ﴿ قالوا ﴾ الخزنة :﴿ فادعوا ﴾ : أنتم لأنفسكم فنحن لا ندعو لكم و فيه إقناط لهم، ﴿ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ﴾ : ضياع لا نفع له.
﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا ﴾ : بظهور حجتهم والانتقام من أعدائهم والنصرة هذا المعنى عام لكل رسول والمؤمنين وقيل : الخبر عام وأريد به الأكثرون فإن بعضا منهم قد قتل، ليحيى وزكريا وغيرهما، ﴿ في الحياة١ الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾ : فإن الملائكة يشهدون للرسل وعلى الكفار، والجمهور على أن فاعلا لا يجمع على أفعال، وفي الصحاح أنه جمع شهد بالسكون وفي المرزوقي جمع شهود
١ قيل: الانتقام من الأعداء في الدنيا والآخرة، وكل ذلك قد كان للأنبياء والمؤمنين فهم منصورون بالحجة على من خالفهم، وإهلاك أعدائهم ونصرهم بعد أن قتلوا بالانتقام من أعدائهم كما نصر يحيى بن زكريا لما قتل فإنه قتل به سبعون ألفا فهم منصورون بأحد هذه الوجوه، قال البغوي وزاد في الفتح وكما نصر الحسين بن علي الشهيد فإنه قتل به سبعون ألفا أيضا/١٢..
﴿ يوم لا ينفع ﴾، بدل، ﴿ الظالمين معذرتهم ﴾، وإن رخصوا في الاعتذار ﴿ ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ﴾ : يعني جهنم،
﴿ ولقد آتينا موسى الهدى ﴾ : ما يهتدي به في أمر الدين، ﴿ وأورثنا بني إسرائيل الكتاب ﴾ : تركنا عليهم من بعده التوراة
﴿ هدى وذكرى ﴾ مفعول أو حال، هاديا ومذكرا ﴿ لأولى الألباب ﴾
﴿ فاصبر ﴾ : على أذاهم١، ﴿ إن وعد الله ﴾ : في نصرتك، ﴿ حق ﴾، واستشهد بحال موسى ﴿ واستغفر لذنبك ﴾، لفرطاتك ليعلى درجتك، وليصير سنة لأمتك ﴿ وسبح ﴾ : متلبسا، ﴿ بحمد ربك بالعشي والإبكار ﴾ : أواخر النهار وأوائله أو صل العصر والصبح
١ فإن فيهم من ليس من أولي الألباب..
﴿ إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان ﴾ : برهان ﴿ أتاهم ﴾ : يردون الحجج بالشبه، ﴿ إن في صدورهم إلا كبر١ : إلا تكبر عن إتباع الحق يريدون إبطاله، ﴿ ما هم ببالغيه ﴾ : بواصلي مقتضيه ﴿ فاستعذ بالله ﴾ في إطفاء نارهم، وعن كعب وأبي العالية- رضي الله عنهما- نزلت حين قالت اليهود : إن صاحبنا الدجال٢ يخرج، فنملك به الأرض فأمر الله تعالى أن يستعيذ من شره٣، ﴿ إنه هو السميع البصير ﴾
١ ولما كان من أول هذه السورة الرد على المجادلين بالباطل نبه هنا أن الكبر هو الذي يحملهم على هذا الجدال الباطل، وذلك الكبر هو أنهم لو سلموا نبوتك لزمهم أن يكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك، لأن النبوة تحتها كل ملك ورياسته في صدورهم كبر لا يرضون أن يكونوا في خدمتك، فهذا هو الذي يحملهم على هذه المجادلات الباطلة والمخاصمات الفاسدة /١٢ كبير..
٢ قد وردت أحاديث صحيحة في ذكر الدجال وخروجه في آخر الزمان وما يقع منه، وإليه ذهب جميع أهل السنة والمحدثين والفقهاء خلافا لمن أنكره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة، وخلافا للجبائي وموافقيه في أنه صحيح الوجود، لكن الأشياء التي يأتي بهما زعموا أنها مخاريف وخيالات لا حقائق لها والأخبار الصحيحة ترده ردا مشبعا/١٢ فتح.
٣ عزاه السيوطي في "الدر المنثور" [٥/٦٦١] إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وصحح وسنده..
﴿ لخلق١ السماوات والأرض أكبر ﴾ : أعظم وأشق في نظر العقل، ﴿ من خلق الناس ﴾ : إعادتهم ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾، فلهذا ينكرون الإعادة مع الاعتراف بخلق الأعظم من غير أصل وهذا رد لجدالهم في رد البعث، ومن قال : الأمر بالاستعاذة من الدجال، فهذا رد لمقال الدجال من دعوى الألوهية، وإنكار البعث
١ لما تقول وتعمل ولما يقولون ويعملون فهو ناصرك عليهم وعاصمك منهم ولما كان أعظم النظر في آية المجادلة من أول السورة إلى البعث، وصيرورة العباد إلى الله للحساب والثواب والعقاب فقال مؤكدا:﴿لخلق السماوات﴾الآية/١٢ وجيز..
﴿ وما يستوي الأعمى١ والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء ﴾ مزيد لا للمبالغة في نفي مساواته للمحسن، والأولان مثلان للغافل والمستبصر، والآخران للمحسن والمسيء لتغاير وصفيهما أو كأنه قال لا يستوي الأعمى والبصير فكذلك المحسن والمسيء فشبه حالهما في عدم الاستواء بحالهما، ﴿ قليلا ما تتذكرون٢ أي : تذكرون تذكرا قليلا،
١ ولما تقدم قوله:﴿ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾، ناسب أن يبتدئ بالأعمى ثم بالمثل الآخر ابتداء بالممدوح لمجاورته البصير وقد يخالف هذا الطريق، وكل ذلك تفنن في البلاغة /١٢ وجيز..
٢ بالأصل: يتذكرون..
﴿ إن الساعة للآتية لا ريب فيها ﴾ : لأن من تأمل في أطوار الخلق لعلم أنه لا بد من معاد يجازي المحسن والمسيء، ولاتفاق كلمة الأنبياء عليهم السلام مع ظهور معجزتهم عليها، ﴿ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون ﴾ : لا يصدقون بها لغفلتهم وجهلهم
﴿ وقال١ ربكم ادعوني ﴾ : سلوني، ﴿ أستجيب لكم ٢إن الذين يستكبرون عن عبادتي٣ : عن دعائي، والدعاء٤ مخ العبادة، وفي الحديث " من لم يدع الله وفي رواية " لم يسأل الله يغضب٥ عليه "، أو معناه اعبدوني أثبكم، ﴿ سيدخلون جهنم داخرين ﴾ صاغرين ذليلين.
١ ولما بين أن قيام الساعة حق أرشد عباده إلى ما هو الوسيلة إلى السعادة في دار الخلود فقال:﴿وقال ربكم ادعوني﴾الآية /١٢ فتح..
٢ من دعا حق الدعاء لا محالة يستجيبه الله /١٢ وجيز..
٣ في مسند الإمام أحمد الدعاء هو العبادة، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم ﴿ادعوني استجب لكم﴾الآية، وهكذا روى أصحاب السنن، وقال الحاكم: صحيح الإسناد وقال الترمذي حسن صحيح/١٢ وجيز [صحيح، وانظر الجامع(٣٤٠٧)].
٤ رواه الترمذي/١٢فتح [ضعيف، انظر ضعيف الجامع (٣٠٠٣)].
٥ أخرجه الحاكم وابن أبي شيبة /١٢ فتح [حسن، وأخرجه أيضا الترمذي فالعزو إليه أولى، وانظر صحيح سننه (٢٦٨٦)].
﴿ الله١ الذي جعل ﴾ : أنشأ، ﴿ لكم الليل لتسكنوا٢ فيه ﴾ : وتستريحوا من تعب النهار، ﴿ والنهار مبصرا ﴾ : الإبصار في الحقيقة لأهل النهار، فأثبته له مجازا أو مبالغة وجعله حالا، ولم يقل لتبصروا فيه لتلك الفائدة، ﴿ إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ﴾ وفي التكرير تخصيص لكفران النعمة بهم، حيث أوقع على صريح اسمهم الظاهر الموضوع موضع المضمر الدال على أن ذلك كأنه شأن الإنسان وخاصيته
١ ولما ختم بأمر الساعة، التي ينكرها الكفار عقبه بما يدل صريحا على كمال قدرته، ولا يمكن إنكاره فقال:﴿الله الذي جعل﴾ الآية /١٢ وجيز..
٢ ولو قال جعل لكم الليل ساكنا لا يفهم تلك المبالغة لجواز وصف الليل بسكون هو ملحق في العرف بالحقيقة نحو: ليلا ساكنا أي: لا ريح فيه كما يقال: ليل مظلم بارد بخلاف وصفهما بوصف أهلهما فإنه مجاز صرف/١٢ وجيز..
﴿ ذلكم ﴾ : المختص بتلك الأفعال، ﴿ الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو ﴾ أخبار مترادفة أي : هو الجامع لتلك الأوصاف ﴿ فأنى ﴾ فكيف ومن أي وجه ؟ ! ﴿ تؤفكون ﴾ : تصرفون عن عبادته
﴿ كذلك ﴾ أي كما أفكوا ﴿ يؤفك ﴾ فعل المضارع الاستحضار، والمعنى على المضي، ﴿ الذين كانوا بآيات الله يجحدون ﴾ أي : من غير دليل ولا تأمل،
﴿ الله الذي جعل لكم الأرض قرارا ﴾ : مستقرا، ﴿ والسماء بناء ﴾ : قبة على الأرض، ﴿ وصوركم فأحسن١ صوركم ﴾ : خلقكم في أحسن صورة، فإحسان الصورة بعد التصوير بحسب الاعتبار، وإن لم يكن تعدد بحسب الوجود، ﴿ ورزقكم من الطيبات ﴾ : من اللذائذ، ﴿ ذلكم ﴾ : المخصوص بتلك الأفعال، ﴿ الله ربكم فتبارك الله رب العالمين ﴾، هذا دليل آخر على وحدته
١ و يكفى في الحسن استواء القامة /١٢ وجيز..
﴿ هو الحي ﴾ : المتفرد بالحياة الذاتية الدائمة، ﴿ لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين ﴾ : موحدين له، ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ أي : قائلين له ابن عباس- رضي الله عنهما- : من قال لا إله إلا الله فليقل على إثرها الحمد لله رب العالمين
﴿ قل ﴾ : يا محمد حين يدعونك إلى دين قومك، ﴿ إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاءني البينات ﴾ : الأدلة على وحدانيته ﴿ من ربي ﴾ جواب " لما " يدل عليه ما قبله، ﴿ وأمرت أن أسلم ﴾ : أنقاد ﴿ لرب العالمين ﴾
﴿ هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم ﴾ : من بطون أمهاتكم، ﴿ طفلا ﴾ : وحده لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد، ﴿ ثم لتبلغوا أشدكم ﴾ أي : ثم يبقيكم لتبلغوا سن الشباب، ﴿ ثم لتكونوا ﴾ أي ثم يبقيكم لتكونوا، ﴿ شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ﴾ أي : من قبل هذه الأحوال ﴿ ولتبلغوا ﴾ أي : ويفعل ذلك لتبلغوا، ﴿ أجلا مسمى ﴾ هو أجل الموت المقدر، وقيل : يوم القيامة، ﴿ ولعلكم تعقلون ﴾ : وحدته، عطف على لتبلغوا أجلا
﴿ هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى ﴾ : أراد ﴿ أمرا فإنما يقول له كن فيكون ﴾ : لا يحتاج إلى مادة ومدة وآلة وعدة.
﴿ ألم تر إلى الذين يجادلون١ في آيات الله أنى يصرفون ﴾. كيف يصرفون عن الحق إلى الجهل ؟ !،
١ تعجيب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الركيكة وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن، وبسائر الكتب والشرائع وترتيب الوعيد على ذاك كما أن ما سبق من قوله تعالى:﴿ إن الذين يجادلون في آيات الله﴾، الآية، بيان لابتناء جدالهم على مبنى فاسد لا يكاد يدخل تحت الوجود، هو الأمنية الفارغة فلا تكرار فيه أي:"انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدال فيها، كيف يصرفون عنها، بالكلية؟! قاله أبو السعود/١٢ فتح..
﴿ الذين كذبوا بالكتاب ﴾ : القرآن، ﴿ وبما أرسلنا به رسلنا ﴾ : من سائر الكتب، أو المراد من الكتاب جنس الكتب ومن ما أرسلنا رسلنا الشرائع ﴿ فسوف يعلمون ﴾ : وباله،
﴿ إذ الأغلال في أعناقهم ﴾، جعل المتوقع في حكم الوجود لتيقنه، ولهذا جمع بين سوف١ وإذ فإنه٢ ظرف ليعلمون ﴿ والسلاسل ﴾، عطف على الأغلال ﴿ ويسبحون ﴾، حال من ضمير أعناقهم أي : يجرون
١ الذي للمستقبل/١٢ وجيز..
٢ الذي للماضي /١٢..
﴿ في الحميم ﴾، وقيل : تقديره يسبحون بها، فيكون السلاسل مبتدأ، والجملة خبره، ﴿ ثم في النار يسجرون ﴾ : يحرقون، ويصيرون وقود النار
﴿ ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون ﴾ أي : الذي تشركون به،
﴿ من دون الله ﴾ أي : الأصنام ﴿ قالوا ضلوا عنا ﴾، فقدناهم وذلك قبل أن يقرن آلهتهم بهم أو معناه ضاعوا عنا أي : ما كنا نتوقع منهم، ﴿ بل لم نكن ندعو من قبل شيئا ﴾ : جحدوا شركهم كما قالوا :" والله ربنا ما كنا مشركين " [ الأنعام : ٢٣ ]، أو ضاعت عبادتنا لها كما يقول من ضاع عمله ما كنت أعمل شيئا أي العمل كلا عمل، ﴿ كذلك ﴾ : مثل ذلك الإضلال ﴿ يضل الله الكافرين ﴾ حتى لا يهتدوا إلى ما ينفعهم في الآخرة بوجه
﴿ ذلكم ﴾ : الإضلال، أو العذاب، ﴿ بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق ﴾ الشرك والضلال ﴿ وبما كنتم تمرحون ﴾ : تتوسعون في الفرح أو تفسدون
﴿ ادخلوا أبواب جهنم ﴾ : السبعة المقسومة لكم ﴿ خالدين ﴾ : مقتدين الخلود ﴿ فيها فبئس مثوى المتكبرين ﴾ : منزل المتكبرين عن الحق جهنم،
﴿ فاصبر ﴾ : يا محمد، ﴿ إن وعد الله١ : بنصرك وإعلاء كلمتك ﴿ حق ﴾ : كائن ﴿ فإنما نرينك بعض الذي نعدهم ﴾ : كالقتل، والأسر، وإن شرطية وما زائدة، وجزاؤه محذوف مثل فذاك، أو فهو المقصود ﴿ أو نتوفينك ﴾ : قبل أن يحل ذلك بهم ﴿ فإلينا يرجعون ﴾ : فنجازيهم في القيامة، وهذا جواب للثاني أو هو جواب لهما أي : إن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة عذابا شديدا،
١ لما تكلم من أول السورة إلى هذا الموضع في تزييف طريقة المجادلين في آيات الله أمر في هذه الآية رسوله بأن يصبر على إيذائهم وإيحاشهم بتلك المجادلات /١٢كبير..
﴿ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ﴾، وفي مسند الإمام أحمد١ عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جملتهم مائة ألف وأربع وعشرون ألفا، الرسل من ذلك ثلاث مائة وخمسة عشر، ﴿ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ﴾ : ليس لهم اختيار في إتيان مقترح أممهم، ﴿ فإذا جاء أمر الله ﴾ : قضاؤه بين الأنبياء والأمم، ﴿ قضي بالحق ﴾ : فنجّى المؤمنين، ﴿ وخسر هنالك المبطلون ﴾ : الكافرون، وقيل : أمر الله تعالى القيامة، والمبطلون المعاندون باقتراح الآيات.
١ أخرجه أحمد (٥/٢٦٦)، وذكره الهيثمي في " المجمع"، (١/١٥٩) وقال:" رواه أحمد والطبراني في الكبير... ومداره على علي بن زيد وهو ضعيف"..
﴿ الله الذي جعل لكم الأنعام١ : إنشاء الإبل والبقر والغنم ﴿ لتركبوا منها ومنها تأكلون ﴾
١ لما أطنب في تقرير الوعيد عاد إلى ذكر ما يدل على وجود الإله الحكيم الرحيم وإلى ذكر ما يصلح أن يعد إنعاما على العباد/١٢ كبير..
﴿ ولكم فيها منافع ﴾ : من الصوف والدر والوبر ﴿ ولتبتغوا عليها حاجة في صدوركم ﴾ : من حمل أثقالكم إلى بلد والغنم للأكل وله المنافع والباقي من الأنعام يصلح للكل ﴿ وعليها ﴾ : في البر، ﴿ وعلى الفلك ﴾ : في البحر، ﴿ تحملون١ دخول اللام في بعض دون بعض للفرق بين العين والمنفعة، والأظهر أن الأنعام هاهنا الإبل ولما كان العمدة في منافعها الركوب والحمل، أدخل اللام عليهما وأما الأكل والانتفاع بالألبان والأوبار وإن كان يصلحان للتعليل أيضا، لكنهما قاصران عنهما فجعلا مكتنفين لما بينهما من غير دخول لام عليهما وتقديم المعمول في منها تأكلون، وعليها وعلى الفلك لرعاية الفاصلة وزيادة الاهتمام، ومنها تأكلون عطف على جعل لكم الأنعام عطف جملة على جملة بتقدير وجعل لكم الأنعام منها تأكلون، حتى لا يلزم عطف الحال على العلة وكذلك وعليها وعلى الفلك
١ ولما ذكر ما امتن به من الركوب للإبل في البر ذكر ما امتن به من نعمة الركوب في البحر ولهذا قيل الإبل سفينة البر/١٢ وجيز..
﴿ ويريكم آياته ﴾ الدالة على كمال القدرة والرحمة، ﴿ فأي آيات الله ﴾ : أي آية منها ﴿ تنكرون ﴾، هو العامل في أي
﴿ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم ﴾ عددا ﴿ وأشد قوة ﴾ : فإنهم أجسم، ﴿ وآثارا في الأرض ﴾ : كقصورهم، ومصانعهم ﴿ فما أغنى ﴾، ما نافية، أو استفهامية منصوبة بأغنى ودخل الفاء، لأنه كالنتيجة بمعنى أنه ترتب عليه وإن كان عكس المطلوب ﴿ عنهم ﴾ : العذاب وسوء العاقبة، ﴿ ما كانوا يكسبون١ : كسبهم أو مكسوبهم.
١ والمقصود أن هؤلاء الكفار الذين يجادلون في آيات الله، وحصل الكبر العظيم في صدورهم بهذا أو السبب في ذلك كله طلب الرياسة والتقدم على الغير في المال والجاه، فمن ترك الانقياد للحق لأجل طلب هذه الأشياء فقد باع الآخرة بالدنيا، فبين تعالى أن هذه الطريقة فاسدة لأن الدنيا فانية ذاهبة وقال:﴿أفلم يسيروا﴾ الآية يعنى لو ساروا في أطراف الأرض لعرفوا أن عاقبة المتكبرين ليس إلا الهلاك والبوار، مع أنهم كانوا أكثر عددا ومالا وجاها من هؤلاء المتأخرين، فلما لم يستفيدوا من تلك المكانة العظيمة والدولة القاهرة، إلا الخيبة والخسارة والحسرة والبائرة فكيف يكون حال هؤلاء الفقراء المساكين/١٢ كبير..
﴿ فلما جاءتهم ﴾، الفاء تفسير وتفصيل لما أبهم، وأجمل من عدم الإغناء ﴿ رسلهم بالبينات فرحوا ﴾ : رضوا، ﴿ بما عندهم من العلم١ : بزعمهم أو سماه علما سخرية، هو قولهم : نحن أعلم لا بعث ولا عذاب وهذا في الحقيقة جهل، وقيل : معناه استهزءوا بما عند الأنبياء من العلم، وقيل : رضوا بما عندهم من علم الدنيا ومعرفة تدبيرها واكتفوا بها ﴿ وحاق بهم ﴾ : وبال ﴿ ما كانوا به يستهزئون ﴾، قيل : فيه إشعار إلى المعنى الثاني
١ قال الرازي: ويجوز أن يكون المراد علوم الفلاسفة والدهريين فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم، وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه السلام وقيل له لو هاجرت إليه فقال:" نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا" انتهى.
قال ابن القيم في الإغاثة بعد ذكر فضائح الفلاسفة وتعطيلهم وكفرهم بالأنبياء فصل: وهذه البلايا ليست عامة لجميع الفلاسفة؛ فإن الفلسفة من حيث هي لا يقتضي ذلك، فإن معناها محبة الحكمة والفيلسوف محب الحكمة وقد صار هذا الاسم في عرف كثير من الناس مختصا بمن خرج عن ديانات الأنبياء وذهب إلى ما يقتضيه مجرد العقل في زعمه، وأخص من ذلك أنه في عرف المتأخرين اسم لأتباع أرسطو وهم الذين هذب ابن سينا طريقتهم وهم فرقة شاذة من فرق الفلاسفة حتى قيل أنه لم يقل من الفلاسفة بقدم الأفلاك غير أرسطو وأصحابه، والأساطين قبله كانوا يقولون بحدوثه وإثبات الصانع ومبائنة للعالم، وأنه فوق العالم وفوق السماوات بذاته إلى أن قال، وحكى أرباب المقالات أن أول من عرف منه القول بقدم العالم أرسطو، وكان مشركا يعبد الأصنام وله في الإلهيات كلام كله خطأ قد رده عليه طوائف المسلمين حتى الجهمية والمعتزلة والقدرية والرافضة وفلاسفة الإسلام وأنكر أن يعلم الله شيئا من الموجودات، وقال: لو علم شيئا لكمل بمعلوماته ولم يكن كاملا في نفسه وكان يلحقه التعب من تصور المعلومات وتبعه من تستر بإتباع الرسل وهو منحل من كل ما جاءوا به. ويسمونه المعلم الأول لأنه أول من وضع لهم التعاليم المنطقية، وزعم أرسطو وأتباعه أن المنطق ميزان المعاني، كما أن العروض ميزان الشعر، وقد بين نظار الإسلام فساد هذا الميزان وعوجه وتخبيطه للأذهان وصنفوا في رده وتهافته وآخر من صنف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- ألف في رده، وإبطاله كتابين بين فيهما تناقضه وتهافته وفساد كثير من أوضاعه رأيت فيه تصنيفا لأبي سعيد السيرافي، والمقصود أن الملاحدة درجت على إثر هذا المعلم حتى انتهت النوية إلى معلمهم أبي نصر الفارابي فوضع لهم التعاليم الصوتية، كما أن المعلم الأول وضع التعاليم الحرفية، ثم وسع هذا المعلم الثاني الكلام في صناعة المنطقية وشرح فلسفة أرسطو وهذبها والله عند هؤلاء كما قرره - أفضل متأخريهم وقدوتهم الذي يقدمونه على الرسل أبو علي بن سينا- هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق وليس له صفة ثبوتية يقوم به، ولا يفعل شيئا باختياره، ولا يعلم شيئا من المجودات أصلا، ولا يعلم عدد الأفلاك، ولا شيئا من المغيبات ولا كلام له يقوم به ومعلوم أن هذا إنما هو خيال مقدر في الذهن لا حقيقة له وليس هو الرب الذي دعت إليه الرسل وعرف الأمم بل الرب الذي دعت إليه الملاحدة، وجردته عن الماهية وعن كل صفة ثبوتية وكل فعل اختياري وأنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصلا به ولا مبائنا له ولا فوقه ولا تحته ولا أمامه ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن شماله، وقول هؤلاء الملاحدة أصلح من قول معلمهم أرسطو فإن هؤلاء أثبتوا واجبا وممكنا هو معلول له، صادر عنه صدور المعلول عن علته وأما أرسطو فلم يثبته إلا من جهة كونه مبدأ عقليا للكثرة وعلة غائية لحركة الفلك فقط، وصرح بأنه لا يفعل شيئا باختياره وهذا الذي يوجد في كتب المتأخرين من حكاية مذاهبه من وضع ابن سينا فإنه قربه من دين الإسلام بجهده وغاية ما أمكنه أن قربه من قول غلاة الجهمية انتهى /١٢..

﴿ فلما رأوا بأسنا ﴾ : عاينوا وقوع العذاب، والفاء لمجرد التعقيب ﴿ قالوا آمنا بالله وحده ﴾ : منفردا بالإيمان، ﴿ وكفرنا بما كنا به ﴾ : من الأصنام، ﴿ مشركين ﴾
﴿ فلم يك ينفعهم ﴾ أي : لم يصح١ أن ينفعهم ﴿ إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده ﴾ أي : سن الله تعالى ذلك سنة ماضية فهي من المصادر المؤكدة ﴿ وخسر هنالك ﴾، استعير اسم مكان للزمان أي : وقت البأس، ﴿ الكافرون ﴾ أي : ظهر لهم خسرانهم.
والحمد لله على نعمائه.
١ وهذا أبلغ من قولك لم ينفعهم لأنه إنما يلتقى الوقوع لا الصحة والاستقامة /١٢وجيز.
Icon