تفسير سورة محمد

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة محمد من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة محمد صلى الله عليه وسلم وهي سورة القتال
آياتها ثمان وثلاثون

﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ﴾ أي منعوا الناس عن الدخول في الإسلام إذ امتنعوا عن الدخول فيه وسلوك طريقه ﴿ أضل ﴾ الله ﴿ أعمالهم ﴾ أي جعلها ضائعة محبطة حيث لم يقصدوا بها وجه الله، ولم يجعل لها ثوابا وإنما يجزون بها في الدنيا فضلا من الله وأراد بالأعمال ما كان منها حسنا في الظاهر كإطعام الطعام وصلة الأرحام وفك الأسارى وحفظ الجوار وقال الضحاك أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعل الدبرة عليهم.
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد ﴾ صلى الله عليه وسلم تخصيص للمنزل عليه مما يجب الإيمان به تعظيما له وإشعارا بأن الإيمان لا يتم بدونه وأنه الأضل منه وشامل لجميع الإيمانيات ولذا كل أكده بقوله ﴿ وهو الحق من ربهم ﴾ اعتراضا على طريقة الحصر وجاز أن يكون حالا، قيل حقيقته كونه ناسخا لا ينسخ ﴿ كفر عنهم سيئاتهم ﴾ أي غفرها وسترها بالإيمان وأعمالهم الصالحة ﴿ وأصلح بالهم ﴾ أي حالهم في الدنيا بالنصر على الأعداء وتوفيق الطاعة والحفظ عن المعاصي وتسلط الشيطان وفي الآخرة بالخلود في النعيم ورضوان الله تعالى، وقال ابن عباس يعني عصمهم أيام حياتهم، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال :﴿ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ﴾ هم مشركو مكة، ﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ هم الأنصار، وقلت واللفظ عام.
﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى ما مر من الإضلال والتكفير والإصلاح مبتدأ خبره ﴿ بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل ﴾ أي الشيطان ﴿ وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم ﴾ أي القرآن ﴿ كذلك ﴾ أي ضربا مثل ذلك الضرب ﴿ يضرب الله ﴾ أي يبين ﴿ للناس أمثالهم ﴾ الضمير راجع إلى الناس أو إلى المذكورين من الفريقين على معنى أنه يضرب لأجل الناس حتى يعتبروا أمثال الفريقين جعل الله تعالى إتباع الباطل مثل لعمل الكفار والإضلال مثلا لخيبتهم وإتباع الحق مثلا للمؤمنين تكفيرا لسيئات مثلا لفوزهم.
﴿ فإذا لقيتم الذين كفروا ﴾ من اللقاء وهو الحرب ﴿ فضرب الرقاب ﴾ أصله فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه مضافا إلى المفعول للتأكيد والاختصار عبر به عن القتل إشعارا بأنه ينبغي أن يضرب الرقبة ما أمكن فإنه مفض إلى القتل غالبا دون غيره من الجراحات ﴿ حتى إذا أثخنتموهم ﴾ أي أكثرتم قتلهم وأغلظتموهم من الثخين بمعنى الغليظ ﴿ فشدوا الوثاق ﴾ أي فأمسكوا عنهم وأسروهم وشدوا وثاقهم واحفظوهم كيلا يفروا والوثاق بالفتح والكسر ما يوثق به ﴿ فإما منا بعد وإما فداء ﴾ أي فإما تمنون عليهم بالإطلاق بعد الأسر وشد الوثاق منا أو يفدون فداء، قال البغوي اختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال قوم هي منسوخة بقوله تعالى :﴿ اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾١ وقوله تعالى :﴿ فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ﴾٢ وإلى هذا القول ذهب قتادة والضحاك والسدي وابن جريج وهو قول الأوزاعي وبه قال أبو حنيفة رحمه الله في رواية، قلت قوله تعالى :﴿ فشرد بهم من خلفهم ﴾ لا يصلح ناسخا لهذه الآية وقوله تعالى :﴿ اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ مخصوص بالبعض حيث جاز استرقاق الأسارى بالإجماع واستبقاؤهم ذمة لنا عند أبي حنيفة ومالك فبقي ظني الدلالة في الباقي فلا يصلح ناسخا لهذه الآية لكونها قطيعة، وذهب الآخرون إلى أنها محكمة والإلمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم أو يسترقهم أو بمن عليهم فيطلقهم بلا عوض أو يفاديهم بالمال أو بأسارى المسلمين وإليه ذهب ابن عمرو به قال الحسن وعطاء وأكثر الصحابة والعلماء وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال ابن عباس لما كثر المسلمون وأشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل في الأسارى ﴿ فإما منا بعد وإما فداء ﴾ وهذا هو الأصح والاختيار لأنه عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده قلت فهذه الآية ناسخة لقوله تعالى :﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم ٦٧ ﴾٣ فإنها نزلت في غزوة بدر سنة اثنين وقد من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأسرى بعد ذلك في الحديبية سنة ست وغير ذلك، عن أنس " أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غزوة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأخذهم سلما فاستحياهم وفي رواية فأعتقهم فأنزل الله تعالى :﴿ وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم ﴾٤ رواه مسلم وقد ذكرنا مسائل أحكام الأسارى واختلاف العلماء وما ورد في الباب من الأحاديث في سورة الأنفال في تفسير قوله تعالى :﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾٥
﴿ حتى تضع الحرب ﴾ أي أهل الحرب أي المحاربين ﴿ أوزارها ﴾ يعني أثقالها وهي الأسلحة يعني ينقطع الحرب ولم يبق إلا مسلم أو مسالم، وقيل الأوزار الآثام والمعنى يضع أهل الحرب من المشركين آثامها بأن يتوبوا من كفرهم ويؤمنوا بالله ورسوله، وقيل حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا والمعنى أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام جعل الله سبحانه انقطاع الحرب غاية للضرب أو الشد أو المن أو الفداء أو للمجموع يعني هذه الأحكام جارية حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم وذلك عند نزول عيسى بن مريم عليه السلام. عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناولهم. حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال )٦ رواه أبو داود، وروى البغوي عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ " الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال ﴿ ذلك ﴾ خبر مبتدأ محذوف أي الأمر فيهم ذلك أو مبتدأ خبره محذوف أي ذلك ثابت أو مفعول لفعل محذوف أي افعلوا بهم ذلك فهو تأكيد لما سبق ﴿ ولو يشاء الله لانتصر منهم ﴾ أي لانتقم من الكفار بأن يهلكهم من غير تعب منكم في الجهاد ﴿ ولكن ﴾ أمركم بالقتال ﴿ ليبلوا بعضكم ببعض ﴾ أي ليبلوا المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب والكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم بالعقوبة بأيديهم كي يرتدع بعضهم من الكفر ويستوجب بعضهم النار، والجملة بيان لحكمة شرعية القتال مع القدرة على استيصالهم بلا تجشم قتال من المؤمنين ﴿ والذين قتلوا في سبيل الله ﴾ قرأ أهل البصرة وحفص بالألف من المقاتلة وهم المجاهدون ﴿ فلن يضل أعمالهم ﴾ خبر للمبتدأ الموصول المتضمن لمعنى الشرط أي لا يبطل أعمالهم بارتكاب المعاصي بل يكفر سيئاتهم ويثيب على حسناتهم، أخرج البزار والبيهقي والأصفهاني في الترغيب عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الشهداء ثلاثة : رجل خرج بنفسه وماله محتسبا في سبيل الله يريد أن يقاتل ويقتل يكثر سواد المسلمين فإن مات أو قتل غفرت له ذنوبه كلها وأجير من عذاب القبر ويؤمن من الفزع الأكبر ويزوج من الحور العين ويحل حلة الكرامة ويوضع على رأسه تاج الوقار، والثاني رجل خرج بنفسه وماله محتسبا يريد أن يقتل فإن مات أو قتل كانت ركبتيه مع إبراهيم خليل الرحمن بين يدي الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر، والثالث رجل خرج بنفسه وماله محتسبا يريد أن يقتل ويقاتل فإن مات أو قتل جاء يوم القيامة شاهرا سيفه واضعه على عاتقه والناس جاثون على الركب يقولون ألا افسحوا لنا فإنا بذلنا لنا دمائنا وأموالنا لله حتى يأتوا منابر من نور تحت العرش فيجلسون عليها ينظرون كيف يقضي بين الناس لا يجدون غم الموت ولا يفتنون في البرزخ ولا يفزعهم الصيحة ولا يهمهم الحساب ولا الميزان ولا الصراط ولا هم يسألون شيئا إلا أعطوا ولا يشفعون في شيء إلا شفعوا ويعطون من الجنة ما أحبوا ويتبؤون من الجنة حيث أحبوا " والله أعلم.
أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة قال ذكر لنا أنه نزلت هذه الآية ﴿ الذين قتلوا في سبيل الله ﴾ يوم أحد وقد نشب فيهم الجراحات والقتل وقد نادى المشركون بوعيد أهل هبل فنادى المسلمون الله أعلى وأجل، فقال المشركون إن لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( قولوا الله مولانا ولا مولى لكم )٧.
١ سورة التوبة، الآية: ٥..
٢ سورة الأنفال، الآية: ٥٧..
٣ سورة الأنفال، الآية: ٦٧..
٤ أخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير: باب: قول الله تعالى: ﴿وهو الذي كف أيديهم عنكم﴾ ﴿١٨٠٨﴾.
٥ سورة الأنفال، الآية: ٦٧..
٦ أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في دوام الجهاد ﴿٢٤٨٢﴾..
٧ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: غزوة أحد ﴿٤٠٤٣﴾..
﴿ سيهديهم ﴾ في الدنيا إلى الرشد وفي الآخرة إلى الدرجات العلى ﴿ ويصلح بالهم ﴾ أي حالهم في الدارين أما في الدنيا فلمن لم يقتل أدرجوا في القتلى تغليبا، أو لأنهم لما خرجوا للقتال ورضوا بأن يقتلوا أعطوا ثوابهم في الدارين وأما في الأخرى فلمن قتل ولمن لم يقتل بأن يكفر سيئاتهم ويقبل حسناتهم ويرضى خصمائهم، أخرج أبو نعيم في الحلية عن سهل بن سعد والبزار والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ثلاثة يقضي الله تعالى عنهم يعني ديونهم يوم القيامة رجل خاف العدو على بيضة المسلمين وليس عنده قوة فادان دينا فابتاع به سلاحا وتقوى به في سبيل الله فمات قبل أن يقضيه هذا يقضي الله عنه، ورجل مات عنده أخوه المسلم فلم يجد ما يكفنه منه فاستقرض فاشترى به كفنا فمات وهو لا يقدر على قضائه فهذا يقضي الله عنه يوم القيامة، ورجل خاف على نفسه العنت فتعفف بنكاح امرأة فمات ولم يقض فإن الله يقضي عنه يوم القيامة ) وأخرج الطبراني في الأوسط بسند حسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا التقى الخلائق يوم القيامة فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادي يا أهل الجمع تتاركوا المظالم بينكم وثوابكم على الله تعالى ﴿ ويدخلهم الجنة عرفها لهم ٦ ﴾.
﴿ ويدخلهم الجنة عرفها لهم ﴾ أي يبين لهم منازلهم في الجنة حتى يهتدوا إلى مساكنهم من غير استدلال كأنهم سكانها منذ خلقوا فيكون المؤمن أهدى إلى منزله ودرجته وزوجته وخدمه منهم إلى منزله وأهله في الدنيا هذا قول أكثر المفسرين، عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( والذي بعثني بالحق ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم ) رواه في حديث طويل ابن جرير في تفسيره والطبراني وأبو يعلى والبيهقي في البعث وغيرهم.
﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ﴾ أي تنصروا دينه ورسله ﴿ ينصركم ﴾ على عدوكم ﴿ ويثبت أقدامكم ﴾ في القيام بحقوق الإسلام والمجاهدة مع الكفار.
﴿ والذين كفروا فتعسا لهم ﴾ مصدر لفعل واجب إضماره وسمعا أي فتعسوا تعسا والجملة خبر للموصول أو مفسر لناصبه، قال ابن عباس معناه بعدا لهم، وقال أبو العالية سقوطا لهم، وقال الضحاك خيبة بهم، وقال ابن زيد شتا لهم ؛ قال الفراء نصب على المصدر على سبيل الدعاء، وقيل معناه في الدنيا العثرة وفي الآخرة التردي في النار ويقال للعاثر إذا لم يريدوا قيامه تعسا وضده، وفي القاموس التعس الهلاك والعثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط ﴿ وأضل أعمالهم ﴾ لأنها كانت في طاعة الشيطان عطف على ناصب تعسا.
﴿ ذلك ﴾ التعس والإضلال ﴿ بأنهم ﴾ أي بسبب أنهم ﴿ كرهوا ما أنزل الله ﴾ يعني القرآن لما فيه من التوحيد والتكاليف المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم ﴿ فأحبط أعمالهم ﴾ كرره إشعارا بأن ذلك من لوازم الكفر.
﴿ أفلم يسيروا ﴾ يعني أهل مكة ﴿ في الأرض ﴾ الاستفهام للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره ألم يخرجوا فلم يسيروا في الأرض ﴿ فينظروا ﴾ جواب للنفي أو معطوف عليه أي فلم ينظروا ﴿ كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ﴾ من الأمم المكذبة للرسل ﴿ ودمر الله ﴾ أي استأصل ﴿ عليهم ﴾ على أنفسهم وأهليهم وأولادهم وأموالهم جملة مستأنفة ﴿ وللكافرين ﴾ يعني أهل مكة وضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل على كفرهم ﴿ أمثالها ﴾ أي أمثال تلك العاقبة أو العقوبة أو الهلكة لأن التدمير يدل عليها.
﴿ ذلك ﴾ النصر للمؤمنين والقهر على الكافرين ﴿ بأن الله مولى الذين آمنوا ﴾ أي وليهم وناصرهم فيؤيدهم ويوفقهم ويسدد أمرهم ويدفع عنهم خطرات الشيطان حيث قال الله تعالى :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾١ ﴿ وأن الكافرين ﴾ الذي قدر عليهم الكفر وسلطان الشيطان ﴿ لا مولى لهم ﴾.
١ سورة الحجر، الآية: ٤٢..
﴿ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار والذين كفروا يتمتعون ﴾ بمتاع الدنيا أياما قلائل ﴿ ويأكلون كما تأكل ﴾ صفة لمصدر محذوف وما مصدرية أي أكلا، كأكل ﴿ الأنعام ﴾ حريصين غافلين عن المنعم تاركين شكره غير خائفين عن العاقبة ﴿ والنار مثوى ﴾ أي منزل ومقام ﴿ لهم ﴾ الجملة حال من فاعل تأكلون.
﴿ وكأين ﴾ أي كثير مبتدأ ﴿ من قرية ﴾ أي أهل قرية حذف المضاف وأجرى على المضاف إليه أحكام المضاف فقال ﴿ هي أشد قوة ﴾ صفة أخرجك أهلها أسند الإخراج إليهم باعتبار التسبيب فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما خرج من مكة لأجل إيذاء أهلها، أخرج أبو يعلى وذكره البغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال :( أنت أحب بلاد الله إلى الله ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك ) فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ أهلكناهم ﴾ خبر مبتدأ روعي في الضمير فإن المراد من القرية أهلها ﴿ فلا ناصر لهم ﴾ حكاية حال ماضية أي فلم يكن لهم حينئذ ناصر.
﴿ أفمن كان ﴾ الاستفهام للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أيستوي المؤمن الذي الله مولاه والكافر الذي لا مولى له أصلا فمن كان على ﴿ بينة من ربه ﴾ أي على يقين مستند إلى حجة من عند ربه أي إلى القرآن أو ما يعمه والحجج العقلية كالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ﴿ كمن زين له ﴾ أي زين لهم الشيطان ﴿ سوء عمله ﴾ من الشرك والمعاصي ﴿ واتبعوا أهواءهم ﴾ فعبدوا الأوثان بلا شبهة لهم فضلا عن حجة.
﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون ﴾ الضمير راجع إلى الموصول محذوف أي وعد بها المتقون، مثل الجنة أي صفتها العجيبة مبتدأ محذوف الخبر تقديره يتلى عليكم فيما بعد وقيل خبره كمن هو خالد في النار وتقدير الكلام أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد في النار أو أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار فعري عن حرف الإنكار وحذف ما حذف استغناء يجري مثله تصويرا لمكابرة من يسوي بين المتمسك بالبينة والتبع للهوى بمكابرة من يسوي بين الجنة والنار وقيل خبره ﴿ فيها أنهار من ماء ﴾ صفة لأنهار ﴿ غير آسن ﴾ الجملة إن لم يكن خبر المثل فهم إما استئناف لشرح المثل أوحال من العائد المحذوف أي مثل الجنة التي وعد بها المتقون كائنة فيها أنهار من ماء غير آسن، قرأ ابن كثير بالقصر والباقون بالمد وهما لغتان أي غير متغير طعمه ولا ريحه كما يتغير مياه الدنيا بطول المكث ﴿ وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ﴾ كما يتغير ألبان الدنيا إلى الحموضة وغيرها ﴿ وأنهار من خمر لذة ﴾ أي لذيذة تأنيث لذا أو مصدر نعت به بإضمار أي ذات لذة أو تجوز للمبالغة ﴿ للشاربين ﴾ لا يكون فيها كراهة ريح ولا غائلة سكر وخمار بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب ﴿ وأنهار من عسل مصفى ﴾ لم يخالطه الشمع ولا فضلات النحل وغيرها.
عن معاوية بن حيدة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( إن في الجنة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر ثم يشق الأنهار منها )١ رواه الترمذي وصححه البيهقي، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أنهار الجنة يفجر من جبل مسك ) رواه ابن حبان والحاكم والبيهقي والطبراني وابن أبي حاتم، وعن مسروق قال أنهار الجنة تجري من غير أخدود، رواه ابن المبارك والبيهقي، وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لعلكم تظنون أن أنهار الجنة أخدود في الأرض لا والله إنها سابحة على وجه الأرض حافتاه خيام اللؤلؤ وطينها المسك الأزفر )، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سيحان وجيحان والفرات والنيل كلها من أنهار الجنة )٢ رواه مسلم، وعن عمرو بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أربعة أنهار الجنة النيل والفرات وسيحان وجيحان وأربعة جبال من جبال الجنة أحد والطور ولبنان ودرقان )٣ وعن كعب الأحبار قال نهر النيل هو نهر العسل ونهر دجلة نهر اللبن ونهر الفرات نهر الخمر في الجنة ونهر سيحان نهر الماء في الجنة، رواه البيهقي وذكر البغوي قول كعب نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة ونهر الفرات نهر لبنهم ونهر مصر نهر خمرهم ونهر سيحان نهر عسلهم وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر.
﴿ ولهم فيها من كل الثمرات ﴾ صنف عطف على فيها أنهار، عن ابن عباس قال ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل رواه ابن أبي حاتم وابن المنذر في تفسيرهما، وعن ابن عباس قال ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ومسدد في مسنده وهناد في الزهد والبيهقي، وعن ثوبان أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( لا ينزع رجل من أهل الجنة من ثمرها إلا أعيد في مكانها مثلها )٤ ﴿ ومغفرة من ربهم ﴾ فهو راض عنهم أبدا مع إحسانه إليهم بما ذكر بخلاف السيد للعبد في الدنيا فإنه قد يسخط عليه عطف على الصنف المحذوف أو مبتدأ خبره محذوف أي لهم مغفرة من ربهم ﴿ كمن هو خالد في النار ﴾ هذا على تقدير كون مثل الجنة مبتدأ محذوف الخبر أو كون خبره فيها أنهار خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمن هو خالد في تلك الجنة.
﴿ كمن هو خالد في النار ﴾ أو بدل من قوله كمن زين له وما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من زين سوء عمله ممن هو على بينة من ربه في الآخرة تقريرا لإنكار المساواة ﴿ وسقوا ماء حميما ﴾ عطف على هو خالد نظرا إلى لفظة من، وجمع سقوا نظرا إلى معناه ﴿ فقطع أمعاءهم ﴾ لشدة الحر فخرجت من أدبارهم.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة أنهار الجنة ﴿٢٥٧١﴾..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الجنة وصفة نعيمه وأهلها، باب: ما في الدنيا من أنهار الجنة ﴿٢٨٣٩﴾..
٣ أخرجه ابن عدي وابن مردويه وابن عساكر، وأورده ابن الجوي في الموضوعات.
انظر: كنز العمال ﴿٣٥١٢١﴾..

٤ رواه الطبراني والحاكم والبزار، وقال الهيثمي: رجال الطبراني وأحد إسنادي البزار ثقات.
انظر: فيض القدير ﴿١٩٧٦﴾..

أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال كان المؤمنون والمنافقون يجتمعون عند النبي صلى الله عليه وسلم فيستمع المؤمنون منه ما يقول ويعونه ويستمع المنافقون ولا يعونه فإذا خرجوا سألوا المؤمنين ماذا قال آنفا فنزلت ﴿ ومنهم من يستمع إليك ﴾ عطف على والذين كفروا يتمتعون وما بينهما معترضات وهم المنافقون يستمعون قول النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعونه ولا يفهمونه تهاونا به وتغافلا أولما يعتقدونه حقا ﴿ حتى إذا خرجوا من عندك قالوا ﴾ إفراد ضمير يستمع نظرا إلى لفظة من وجمع ضمير خرجوا وقالوا نظرا إلى المعنى ﴿ للذين أوتوا العلم ماذا ﴾ أي ما الذي ﴿ قال ﴾ محمد ﴿ آنفا ﴾ الساعة من قولهم أنف الشيء لما تقدم منه مستعار جارحة الأنف ومنه استأنف وائتنف وهو ظرف بمعنى وقتا مؤتنفا أوحال من الضمير في قال، قرأ ابن كثير في رواية بالقصر والباقون بالمد ومعناهما واحد قالوا ذلك استعلاما أو استهزاء ﴿ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ﴾ فلذلك تهاونوا بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ واتبعوا أهواءهم ﴾ ولذلك استهزءوا به.
﴿ والذين اهتدوا ﴾ بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم المؤمنون ﴿ زادهم ﴾ الله بكل كلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ هدى ﴾ علما وبصيرة وشرح صدر ﴿ وآتاهم تقواهم ﴾ أي وفقهم للعمل بما أمروا به أو بين لهم ما يتقون به من النار، قال سعيد بن جبير أتاهم ثواب تقواهم.
﴿ فهل ينظرون ﴾ أي ما ينتظرون يعني كفار مكة ﴿ إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ﴾ بدل اشتمال من الساعة والاستفهام للإنكار والمعنى أن الساعة آتية بغتة لا محالة فهم لا ينتظرون إلا الساعة، والجملة الاستفهامية جزاء شرط محذوف تقديره إن لم يتوبوا ولم يتسارعوا في الطاعة فلا ينتظرون للتوبة والطاعة إلا وقت إتيان الساعة وحينئذ لا ينفعهم التوبة ولا يستطيعون الطاعة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( ما ينتظر أحدكم إلا غنى مطغيا أو فقرا منسيا أو مرضا مفسدا أو هرما مفندا أو موتا مجهزا أو الدجال والدجال شر غائب منتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر )١ ﴿ فقد جاء أشراطها ﴾ تعليل على إتيان الساعة أي أمارتها وعلاماتها منها شق القمر قال الله تعالى :﴿ اقتربت الساعة وانشق القمر ﴾٢ ومنها الدخان ومنها مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، روى مسلم وابن ماجه عن سهل بن سعد قال :( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا بالوسطى والتي تلي الإبهام : بعثت أنا والساعة كهاتين )٣ وروى أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه عن أنس نحوه، وعن أنس قال لأحدثنكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثكم به أحد غيري سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن أشراط الساعة أن يرفع العلم ويكثر الجهل ويكثر الزنى ويكثر شرب الخمر ويقل الرجال وتكثر النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد )٤ وفي رواية " يقل العلم ويظهر الجهل " متفق عليه، وعن أبي هريرة قال :( بينا النبي صلى الله عليه وسلم يحدث إذ جاء أعرابي فقال متى الساعة ؟ قال إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال كيف إضاعتها ؟ قال إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )٥ رواه البخاري، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا اتخذ الفيء دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وتعلم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القوم فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها فارتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع )٦ رواه الترمذي، وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بهم البلاء- وعد هذه الخصال- ولم يذكر العلم لغير الدين وقال بر صديقه وجفا أباه وقال شرب الخمر ولبس الحرير ) رواه الترمذي وهذه الجملة كالعلة لإتيانها بغتة ﴿ فأنى لهم إذا جاءتهم ﴾ الساعة ﴿ ذكراهم ﴾ الفاء جزائية لشرط محذوف والمعنى أن تأتيهم الساعة بغتة فكيف يكون لهم ذكرهم أي وقت مجيئها كيف يتذكرون إذ حينئذ لا ينفعه الذكر.
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الزهد، باب: ما جاء في المبادرة بالعمل ﴿٢٣٠٦﴾..
٢ سورة القمر، الآية: ١..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: تفسير سورة والنازعات ﴿٤٩٣٦﴾، وأخرجه مسلم في كتاب: الفتن وأشراط الساعة، باب: قرب الساعة ﴿٢٩٥٠﴾، وأخرجه ابن ماجه في افتتاح الكتاب، باب: اجتناب البدع والجدل ﴿٤٥﴾، وأخرجه الترمذي في كتاب: الفتن، باب: ما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم "بعثت أنا والساعة كهاتين" يعني السبابة والوسطى ﴿٢٢٤٦﴾..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: المحاربين، باب: إثم الزناة ﴿٦٨٠٨﴾، وأخرجه مسلم في كتاب: العلم، باب: رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان ﴿٢٦٧١﴾..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: رفع الأمانة ﴿٦٤٩٦﴾..
٦ أخرجه الترمذي في كتاب: الفتن، باب: ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف ﴿٢٢١٠﴾..
﴿ فأعلم أنه ﴾ أي الشأن ﴿ لا إله إلا الله ﴾ الفاء للسببية أي إذا علمت سعادة المؤمنين وشقاوة الكافرين فاثبت أنت يا محمد على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية وتكميل النفس بإصلاح أحوالها وأفعالها النافع يوم القيامة ﴿ واستغفر لذنبك ﴾ هضما لنفسك وإظهار للتقصير في العبادة بالنسبة إلى جلال ربك وعظمته وليستن به أمتك وقد فعله صلى الله عليه وسلم حيث قال :( إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة )١ رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي من حديث الأغر المزني، قلت : لعل غين القلب كناية عما يرى الصوفي في نفسه من ظلمات إلا مكان بعدها بسند كمالاته إلى جناب الرحمان، قال المجدد للألف الثاني رضي الله عنه معرفة الله تعالى حرام على من لم ير نفسه شرا من الكافر الفرنجي قيل عليه كيف يتصور ذلك مع ما يرى نفسه مؤمنا حقا لا أقل منه ويرى الكافر كافرا لا محالة ومعرفة فضل الإيمان على الكفر من ضروريات الدين، أجاب عنه بأن كل ممكن موجود فهي لا يخلو عن ظلمة الإمكان ونور الوجود المستعار من الرحمان فالعارف بالله يرى في نفسه غالبا جانب العدم والإمكان وما به من الوجود وأتباعه من الكمالات يجده مستعارا من الملك المنان امتثالا لأمره ﴿ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ﴾٢ ويرى في من سواه غالبا جانب الوجود المستفاد من الرحمان فلا جرم يرى نفسه شرا من كل من سواه وهذه المعرفة لا يزاحم معرفة فضل الإيمان على الكفر باختلاف الألحاظ والحيثيات وسعة العلم والإدراكات بخلاف الغافل يرى وجوده وكمالاته مستندا إلى نفسه وينادي أنا خير منه ولا حول ولا قوة إلا بالله ﴿ وللمؤمنين والمؤمنات ﴾ أي استغفر لذنوبهم بالدعاء لهم والتحريض على ما يستدعي لغفرانهم وفي إعادة الجار وحذف المضاف إشعار لفرط احتياجهم وكثرة ذنوبهم وأنها جنس آخر، قال البغوي هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم ﴿ والله يعلم متقلبكم ومثواكم ﴾ قال ابن عباس كتقلبكم مصرفكم ومنتشركم في أعمالكم في الدنيا ومثواكم مصيركم في الآخرة إلى الجنة أو النار، وقال مقاتل وابن جرير منصرفكم لاشتغالكم بالنهار ومثواكم مأواكم إلى مضاجعكم بالليل، وقال عكرمة متقلبكم من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم مقامكم في الأرض، وقال ابن كيسان متقلبكم من ظهر إلى بطن ومثواكم مقامكم في القبور والمعنى أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها فاحذروه والخطاب للمؤمنين وغيرهم.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والاستغفار، باب: استحباب الاستغفار والإكثار منه ﴿٢٧٠٢﴾، وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: في الاستغفار ﴿١٥١٤﴾..
٢ سورة النساء، الآية: ٥٨..
﴿ ويقول الذين آمنوا ﴾ حرصا منهم على الجهاد ﴿ لولا نزلت سورة ﴾ تأمر بالجهاد ﴿ فإِذا أنزِلت سورة محكمة وذكر فيه القتال ﴾ أي أمر بالجهاد قيل معنى محكمة مبينة لا يحتمل وجها إلا وجوب القتال، وقال قتادة كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة لأن وجوب القتال نسخ ما كان قبل ذلك من الصلح والمهادنة ولا يرد عليه النسخ وهو ماض إلى يوم القيامة وكل سورة ذكر فيها القتال كانت هي أشد القرآن على المنافقين ﴿ رأيت الذين في قلوبهم مرض ﴾ أي ضعف وجبن ﴿ ينظرون إليك ﴾ جبنا ومخافة ﴿ نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم ﴾ أي خير لهم.
﴿ طاعة ﴾ أي الله ورسوله في الجهاد ﴿ وقول معروف ﴾ أي قول سمعنا وأطعنا ﴿ فإذا عزم الأمر ﴾ أي جد الأمر أي جد أصحاب الأمر على القتال فالإسناد إليه مجاز أو المعنى لزم وفرض القتال ﴿ فلو صدقوا الله ﴾ فيما زعموا من الحرص على الجهاد ﴿ لكان خيرا لهم ﴾ وجملة لو صدقوا جزاء شرط، وقيل جزاء الشرط محذوف وهذه مستأنفة تقديره فإذا عزم الأمر لم يصدقوا الله ولو صدقوا الله لكان خيرا لهم.
﴿ فهل عسيتم ﴾ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب أي فهل يتوقع منكم أيها أصحاب الجبن ﴿ إن توليتم ﴾ أي أعرضتم عن متابعة الرسول شرط مستغن عن الجزاء لوقوعه في جملة تدل على الجزاء ﴿ أن تفسدوا في الأرض ﴾ بالكفر والمعاصي لأجل مخالفة الرسول ﴿ وتقطعوا أرحامكم ﴾ أي تخالفوا أقرباءكم المؤمنين المجاهدين في سبيل الله، وأن مع جملته فاعل لعسيتم والاستفهام للإنكار، يعني لا تكونوا بحيث يتوقع منكم الفساد في الأرض بالكفر والمعاصي وقطع الأرحام.
﴿ أولئك ﴾ يعني المفسدين في الأرض والقاطعين الأرحام مبتدأ خبره ﴿ الذين لعنهم الله ﴾ أي بعدهم عن رحمته ﴿ فأصمهم ﴾ عن استماع الحق ﴿ وأعمى أبصارهم ﴾ عن ملاحظته هذه الجملة في مقام التعليل للإنكار في قوله ﴿ فهل عسيتم ﴾ وقيل المراد بالذين في قلوبهم مرض المنافقون والمرض الشك والنفاق وقوله ﴿ فأولى لهم ﴾ أي فويل شديد لهم أفعل من الويل أو من الولي بمعنى القرب أو فعلى من آل ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه أو يؤل إليه أمرهم، وطاعة وقول معروف مبتدأ محذوف الخبر أي وطاعة وقول معروف خير لهم أو حكاية عن قولهم أي يقولون طاعة أي أمرنا طاعة وقول معروف فلو صدقوا الله فيما قالوا إن أمرنا طاعة لكان خيرا لهم لكنهم كذبوا فيه فهل عسيتم إن توليتم أمر الناس يعني تأمرتم عليهم أن تفسدوا في الأرض بالظلم، نزلت في بني أمية وبني هاشم يدل عليه قراءة علي بن أبي طالب إن توليتم بضم التاء والواو على البناء للمفعول أي وإن وليتم ولاة جائزة خرجتم معهن في الفتنة وعاديتموهم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم، قال ابن الجوزي إنه روى القاضي أبو يعلى في كتابه المعتمد الأصول بسنده عن صالح بن أحمد بن حنبل أنه قال قلت لأبي يا أبت يزعم بعض الناس أنا نحب يزيد بن معاوية فقال أحمد يا بني هل يسوغ ممن يؤمن بالله أن يحب يزيد ولم لا يلعن رجل لعنه الله في كتابه، قلت يا أبت أين لعن الله يزيد في كتابه قال حيث قال :﴿ أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ﴾
﴿ أفلا يتدبرون القرآن ﴾ أي لا يتصفحونه ما فيه من المواعظ والزواجر فيتضح لهم الحق، والاستفهام للإنكار والتوبيخ والفاء للعطف على محذوف تقديره أيغفلون فلا يتدبرون القرآن ﴿ أم على قلوب أقفالها ﴾ إقفال القلوب استعارة بالكناية شبه القلوب بالخزائن وأثبت لها ما يناسب الخزائن من الأقفال على وجه التخييل وأضاف الأقفال إلى القلوب للدلالة على أنها أقفال مناسبة لها مختصة بها لا تجانس الأقفال المعهودة وهذا الكلام كناية عن عدم الاستعداد ونفي قابلية القلوب للاتعاظ بالكلية فلا يفهمون مواعظ القرآن وأن تدبروا فرضا، وتنكير القلوب لأن المراد قلوب بعض منهم أو للإشعار بأنها لإبهام أمرها في القساوة أو لفرط جهالتها كأنها مبهم مكنوزة، روى البغوي عن هشام بن عروة عن أبيه قال تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ﴾ فقال شاب من أهل اليمن بل على قلوب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولى فاستعان به.
﴿ إن الذين ارتدوا على أدبارهم ﴾ أي على ما كانوا عليه من الكفر ﴿ من بعد ما تبين لهم الهدى ﴾ قال عروة هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوه ووجدوا نعته في التوراة وقال ابن عباس والضحاك والسدي هم المنافقون ﴿ الشيطان سول لهم ﴾ أي سهل لهم اقتراف الكبائر من السؤال وهو الاسترخاء، وقيل حملهم على الشهوات من السول وهو التمني ﴿ وأملى لهم ﴾ قرأ أهل البصرة بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على ما لم يسم فاعله من الماضي، وقرأ مجاهد بإسكان الياء على صيغة المضارع المتكلم من الأفعال وروى هذه القراءة عن يعقوب والمعنى وأنا أملي لهم أي أمهلهم والواو للحال أو الاستئناف والباقون بفتح الألف أي أملى الشيطان يعني مد لهم في الآمال والأماني وجملة إن الذين ارتدوا مستأنفة في جواب ما سبب ﴿ ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله ﴾
﴿ ذلك ﴾ أي تسويل الشيطان وإمهال الله سبحانه ﴿ بأنهم ﴾ أي بسبب أنهم ﴿ قالوا للذين كرهوا ما نزل الله ﴾ أي قال اليهود الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعدما تبين لهم نعته من التوراة للمنافقين أو قال المنافقون لهم أو أحد الفريقين للمشركين ﴿ سنطيعكم في بعض الأمر ﴾ أي في بعض أموركم أو في بعض ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد أو الموافقة لهم في الخروج معهم أن أخرجوا أو على التعاون على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ والله يعلم إسرارهم ﴾ حال من فاعل قالوا، قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر بكسر الهمزة على المصدر والباقون بفتحها على أنه جمع السر ومن إسرارهم قولهم لهذا الذي أفشاه ﴿ فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ﴾.
﴿ فكيف ﴾ الفاء للسببية والاستفهام وللتعجيب ﴿ إذا توفتهم ﴾ الظرف متعلق بفعل محذوف تقديره فكيف يحتالون إذا توفتهم ﴿ الملائكة يضربون ﴾ حال من الملائكة ﴿ وجوههم وأدبارهم ﴾ بمقامع من حديد.
﴿ ذلك ﴾ التوفي على هذا التوجه ﴿ بأنهم ﴾ أي بسبب أنهم ﴿ اتبعوا ما أسخط الله ﴾ قال ابن عباس بما كتموا من التوراة وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وكرهوا رضوانه ﴾ أي ما يرضاه من الإيمان والجهاد وغيرهما من الطاعات ﴿ فأحبط أعمالهم ﴾ لذلك.
﴿ أم حسب الذين في قلوبهم مرض ﴾ أي نفاق، أم منقطعة بمعنى بل والهمزة والكلام متصل بقوله سول لهم أو بقوله أم على قلوب أقفالها ﴿ أن لن يخرج الله أضغانهم ﴾ أي لن يظهر الله لرسوله والمؤمنين أحقادهم عليهم، أم منقطعة للإضراب عما سبق والاستفهام للإنكار على حسبانهم.
﴿ ولو نشاء لأريناكهم ﴾ أي لأعلمناكهم وأعرفناكهم جملة معترضة أوحال بتقدير ونحن لو نشاء لأريناكهم ﴿ فلعرفتهم ﴾ بإعلامنا ﴿ بسيماهم ﴾ أي بعلاماتهم التي نسمهم بها واللام لأمر الجواب كررت في المعطوف، قال البغوي قال أنس فما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم ﴿ ولتعرفنهم في لحن القول ﴾ جواب قسم محذوف ولحن القول إزالة الكلام عن جهته إلى تعريض وتورية والمعنى أنك تعرفهم فيما يعرضون من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم والذم بصورة المدح، قال البغوي فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه بقوله ﴿ والله يعلم أعمالكم ﴾ الحسنة من القبيحة فإن حسن الأعمال وقبحها فيما سوى ما فيه قبح ذاتي كالكفر والزنى يتعلق بالنيات ولا يعلمها إلا الله فيجازيكم على حسب قصدكم ونيتكم.
﴿ ولنبلونكم ﴾ بأن نأمركم بالجهاد وجواب قسم محذوف ﴿ حتى نعلم ﴾ علما بعد الوجود كما كنا نعلم قبل الوجود بأنه سيكون أو المعنى حتى نميز أو المعنى حتى يعلم أولياؤنا ﴿ المجاهدين منكم والصابرين ﴾ على مشاق الجهاد ﴿ ونبلو أخباركم ﴾ ما يخبر به عن أعمالكم فيظهر حسنها أو قبحها أو أخباركم عن إيمانكم وموالاتكم المؤمنين في صدقها وكذبها، قرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة بالياء على الغيبة والضمير راجع إلى الله تعالى فيوافق قوله تعالى الله يعلم والباقون بالنون على التكلم ونبلوا بسكون الواو على تقدير ونحن نبلوا.
﴿ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ﴾ أي منعوا الناس عن الإيمان وإتباع الرسول ﴿ وشاقوا الرسول ﴾ أي خالفوه ﴿ من بعد ما تبين لهم الهدى ﴾ هم قريظة والنضير والمطعمون يوم بدر كانوا اثنا عشر رجلا من كفار مكة يطعمون عسكر الكفار في يوم نوبته ﴿ لن يضروا الله ﴾ بكفرهم ﴿ شيئا ﴾ من المضرة إنما يضرون أنفسهم ﴿ وسيحبط أعمالهم ﴾ فلا يجدون عليها ثوابا في الآخرة ولا يترتب عليه منفعة في الدنيا، قال ابن عباس هم المطعمون يوم بدر نظيره قوله تعالى :﴿ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ﴾١.
١ سورة الأنفال، الآية: ٣٦..
﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم { ٣٣ ﴾ } قال لابن عباس وعطاء : لا تبطلوها بالشك والنفاق أو العجب، وقال الكلبي بالرياء والسمعة، وقال الحسن بالمعاصي والكبائر، وأخرج ابن أبي حاتم ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن أبي العالية قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل فنزلت هذه الآية فخافوا أن يبطل العمل بالذنب وكذا ذكر البغوي عنه، وقال مقاتل لا تمنوا على رسول الله بإسلامكم فتبطل أعمالكم.
مسألة :
من شرع في صلاة أو صوم أو حج أو عمرة أو غير ذلك تطوعا يجب عليه الإتمام ولا يجوز له الإفساد في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة إلا بعذر كذا ذكر صاحب الهداية والقدوري وغيرهما، وهل الضيافة عذر لإفطار الصوم تطوعا قيل نعم وقيل لا وقيل عذر قبل الزوال لا بعده إلا إذا كان في عدم الفطر عقوق الوالدين، فإن أفسد الصلاة أو الصوم بعد شروع تطوعا يجب عليه القضاء عند أبي حنيفة وعند مالك وفي رواية المنتقى عن أبي حنيفة يباح للمتطوع بالصوم الإفطار بغير عذر ويجب عليه القضاء، وقال الشافعي وأحمد يجب في العمرة والحج الإتمام والقضاء إن أفسد بخلاف الصلاة والصوم وغيرهما من النوافل فإنه يستحب عندهما الإتمام وله قطعهما ولا قضاء عليه، لنا هذه الآية فإنها وإن كانت واردة في النهي عن إبطال العمل بالشك والنفاق أو بالمعاصي أو بالرياء والسمعة والعجب لكنهما بصيغتها يعم الإبطال، قبل إتمامها بالإفساد لأن القدر المؤدى قربة وعمل وكذا بعده بفعل ما يحبطه من الكبائر أو الرياء والسمعة أو العجب، ولنا أيضا الأحاديث منها حديث عروة عن عائشة قالت أهديت لحفصة شاة ونحن صائمتان فأفطرتني فلما دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرنا ذلك له فقال :" أبدلا مكانه " رواه أحمد من طريق سفيان بن حسين عن عروة عن عائشة والترمذي من طريق جعفر بن برقان عن عروة عنها بلفظ قالت كنت وحفصة صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرتني إليه حفصة فقالت يا رسول الله إنا كنا صائمتين فعرض طعام اشتهيناه فأكلنا منه قال " اقضيا يوما آخر مكانه " ١ وكذا أخرج أبو داود والنسائي عن زميل عن عروة عنها وأعله البخاري بأنه لا يعرف لزميل سماع من عروة ولا ليزيد سماع من زميل، وقال الترمذي روى هذا الحديث صالح بن أبي الأخضر ومحمد بن علي بن أبي حفصة عن الزهري عن عروة عن عائشة، وروى مالك بن أنس ومعمر وعبيد الله بن عمرو وزياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ عن الزهري عن عائشة مرسلا ولم يذكروا فيه عروة وهذا أصح لأنه روي عن ابن جريج قال سألت الزهري أحدثك عروة عن عائشة قال لم أسمع من عروة في هذا شيئا ولكن سمعنا في خلافة سليمان بن عبد الملك من ناس عن بعض من سأل عائشة عن هذا الحديث انتهى.
قال ابن همام قول البخاري مبني على اشتراط العلم بذلك والمختار الاكتفاء بالعلم بالمعاصرة ولو سلم إعلاله وإعلال الترمذي فهو قاصر على هذا الطريق فإنما يلزم لو لم يكن طريق آخر لكن رواه ابن حبان في صحيحه عن جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة قالت أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين الحديث، رواه ابن أبي شيبة من طريق آخر غيرهما عن خصيف عن سعيد بن جبير أن عائشة وحفصة كانتا صائمتين الحديث، ورواه البزار من طريق آخر عن الحماد بن وليد عن عبيد الله بن عمر وعن نافع عن ابن عمر قال أصبحت عائشة وحفصة صائمتين الحديث، لكن الحماد بن الوليد ضعيف وأخرج الطبراني من غير الكل في الأوسط حدثنا موسى بن هارون حدثنا محمد بن مهرن الجمال قال ذكره محمد بن أبي سلمة المكي عن محمد بن عمروية عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال أهديت لعائشة وحفصة هدية وهما صائمتان فأكلتا منها فذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " اقضيا يوما مكانه ولا تعودا " قال ابن همام فثبت هذا الحديث ثبوتا لا مرد له ولو كان كل طريق من هذه الطرق ضعيفا لتعددها وكثرة مجيئها كيف وبعض طرقه مما يحتج به، قلت : والمرسل عندنا حجة وما قال ابن الجوزي إن الأمر بالإبدال يوما مكانه محمول على الاستحباب خروج عن مقتضاه بغير موجب بل هو محفوف مما يجب مقتضاه ويؤكده وهو قوله تعالى :﴿ ولا تبطلوا أعمالكم ﴾ فإن الآية تدل على منع الإفطار بعد الشروع ولا دلالة فيها على وجوب القضاء والحديث يدل على جواز الإفطار مع وجوب القضاء، قلنا دلالة الآية على منع الإفطار دلالة على وجوب القضاء فإن منع الإبطال عبارة عن وجوب الإتمام ووجوب الشيء يقتضي وجوب قضاءه بالمثل المعقول عند الفوات إن كان له مثل وليس في الحديث دلالة على جواز الإفطار بل على وجوب القضاء فقط ووجوب القضاء يترتب على وجوب الإتمام وحرمة الإفطار وقوله صلى الله عليه وسلم " لا تعودا " صريح في حرمة الإفطار وهذا هو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله.
وفي الباب أحاديث أخر منها ما رواه الدارقطني عن طلحة بن يحيى عن عمته عائشة عن عائشة أم المؤمنين قالت دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني أريد الصوم وأهدي له حيس فقال :" إني آكل وأصوم يوما مكانه "، قال الدارقطني لم يرد هذا اللفظ عن ابن عيينة غير محمد بن عمرو أبوالعباس الباهلي ولم يتابع على قوله وأصوم يوما مكانه ولعله شبه عليه، قال الحافظ لكن رواه النسائي عن محمد بن منصور عن ابن عيينة وكذا رواه الشافعي عن ابن عيينة وذكر أن ابن عيينة زادها قبل موته بسنة انتهى، قال الحافظ ابن حجر ابن عيينة كان في الآخر قد تغير ومنها، ما رواه الدارقطني بسنده عن محمد بن أبي حميد عن إبراهيم بن عبيدة قال صنع أبو سعيد الخدري طعاما فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال رجل من القوم إني صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صنع لك أخوك أفطر وصم يوما مكانه " قال الدارقطني هذا مرسل وقال ابن الجوزي محمد ابن أبي حميد ليس بشيء وقال النسائي ليس بثقة وقال ابن حبان لا يحتج به، ومنها ما رواه الدارقطني عن جابر بن عبد الله قال صنع رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلما أتى الطعام تنحى أحدهم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " تكلف لك أخوك وصنع ثم تقول إني صائم كل وصم يوما مكانه " فيه عمر بن حليف قال ابن عدي كان متهما بوضع الحديث وكذا قال ابن حبان، ومنها ما رواه الدارقطني من حديث ثوبان قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في غير رمضان فأصابه غم أذاه فتقيأ فقاء فدعا بوضوء فتوضأ ثم أفطر فقلت يا رسول الله أفريضة الوضوء من القيء ؟ قال لو كان فريضة لوجدته في القرآن، قال ثم صام الغد فسمعته يقول :" هذا مكان إفطاري أمس " فيه عتبة بن السكن قال الدارقطني متروك الحديث، ومنها ما رواه الدارقطني بسنده عن محمد بن أبي حميد عن الضحاك بن حمزة عن منصور عن أم سلمة أنها صامت يوما تطوعا فأفطرت فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تقضي يوما مكانه، قال يحيى الضحاك ليس بشيء وقال أبو زرعة محمد بن حميد كذاب.
احتج الشافعي وأحمد بأحاديث الأول : حديث جويرية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال لها اصمت أمس ؟ قالت لا، قال أتصومين غدا ؟ قالت لا، قال فأفطري " ٢ رواه البخاري، وروى أحمد عن أبي عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على جويرية فذكر الحديث نحوه، الثاني حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتيها فيقول أصبح عندكم شيء تطعمونيه ؟ فنقول لا ما أصبح عندنا شيء فيقول إني صائم ثم جاءها بعد ذلك فقالت أهديت لنا هدية فخبأنا لك فقال ما هي ؟ قالت حيس، قال :" قد أصبحت صائما " فأكل٣ رواه مسلم، ورواه الدارقطني والبيهقي بلفظ أنه دخل عليها فقال هل عندكم شيء ؟ " قلت لا، قال : فإني إذا صائم، قالت ودخل علي يوما آخر فقال أعندكم شيء " قلت نعم، قال :" إذن أفطر وإن كنت قد فرضت الصوم " الثالث حديث أم سليم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح صائما ؟ فيقول : بلى ولكن لا بأس أن أفطر ما لم يكن نذرا أو قضاء رمضان " رواه الدارقطني وفي سنده محمد بن عبيد الله العرزمي ضعيف، الرابع حديث أبي جحيفة قال آخى النبي صلى الله عليه سلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء مبتذلة فقال لها ما شأنك ؟ قالت : أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا فجاء أبو الدرداء وصنع له طعاما فقال كل فقال إني صائم، فقال أما إني لا آكل حتى تأكل فأكل فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال نم فنام ثم ذهب يقوم قال نم فلما كان آخر الليل قال سلمان قم الآن، فصليا فقال له سلمان إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " صدق سلمان " قلت هذه الأحاديث لا تدل إلا على جواز الإفطار للصائم وأما على عدم وجوب القضاء فلا وحديث جويرية إنما يدل على كراهة الإفراد بصوم الجمعة كما ورد في حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تصوم الجمعة إلا وقبله يوم أو بعده يوم " ٤ متفق عليه، وفي لفظ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرد يوم الجمعة بصوم رواه مسلم.
وللشافعي أحاديث أخر ضعاف : منها حديث أم هانئ وله طرق وألفاظ منها ما رواه النسائي من حديث حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن هارون بن أم هانئ عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب شرابا فناولها لتشرب فقالت : إني صائمة لكن كرهت أن أرد سؤرك، فقال إن كان قضاء من رمضان فاقضي يوما مكانه وإن كان تطوعا فإن شئت تقضي وإن شئت فلا تقضي، وروى أحمد والترمذي وغيرهما من طرق عن سماك عن هارون عنها بلفظ كنت قاعدة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى بشراب فشرب منه ثم ناولني فشربت منه فقلت أذنبت قال ما ذاك ؟ قلت كنت صائمة فأفطرت، قال أمن قضاء كنت تقضيه ؟ قلت لا، قال فلا تضرك، وسماك بن حرب ليس بمعتمد عليه إذا نفرد كذا قال النسائي وقال البيهقي في إسناده مقال وقال ابن القطان هارون مجهول لا يعرف، قلت : وهارون قيل ابن أم هانئ وقيل ابن ابنه وابن بنته ولفظ أحمد والترمذي لا يدل على عدم وجوب القضاء، وروى أبو داود والدارمي وغيرهما من حديث جرير عن يزيد بن زياد عن عبد الله بن الحارث عن أم هانئ قالت لما كان يوم الفتح فتح مكة جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه، قالت فجاءت وليدة بإناء فيه شراب فناولته فشربت منه فقالت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفطرت وكنت صائمة، فقال لها أكنت تقضين شيئا ؟ قالت لا، قال :" لا يضرك إن كان تطوعا " ورواه أحمد ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن حجة عن أم هانئ وهي جدته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح فأتى يإناء فشرب ثم ناولني فقلت : إني صائمة فقال :" إن المتطوع أمير نفسه فإن شئت فصومي وإن شئت فافطري " ورواه من حديث أبي داود الطيالسي ثنا شعبة عن جعدة عن أبي صالح عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فشرب ثم ناولها فشربت وقالت يا رسول الله إني كنت صائمة فقال رسول ال
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الصوم، باب: ما جاء في إيجاب القضاء عليه ﴿٧٢٨﴾، وأخرجه أبو داود في كتاب: الصوم، باب: من رأى عليه القضاء ﴿٢٤٥٥﴾..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الجمعة ﴿١٩٨٦﴾..
٣ أخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال وجواز فطر الصائم نفلا من غير عذر ﴿١١٥٤﴾. .
٤ في الصحيحين "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا يوما قبله أو بعده" أخرجه البخاري في كتاب: الصوم، باب: صوم يوم الجمعة ﴿١٩٨٥﴾، وأخرجه مسلم في كتاب: الصيام، باب: كراهة صيام يوم الجمعة منفردا ١١٤٤..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَروا وَصَدّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ثمَّ مَاتوا وَهمْ كفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللَّه لَهمْ { ٣٤ ﴾ } هذه الجملة متصلة بقوله ﴿ إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ﴾ الآية فيما سبق قبل هذه الآية نزلت في أصحاب القليب وحكمه عام في كل من مات على كفره.
﴿ فلا تهنوا ﴾ أي لا تضعفوا عن الجهاد ﴿ وتدعوا إلى السلم ﴾ قرأ أبو بكر وحمزة بكسر السين والباقون بفتحها وتدعوا مجزوم بتقدير لا أي لا تدعوا الكفار إلى الصلح ابتداء أو منصوب بتقدير أن في جواب لا تهنوا نهى الله سبحانه عن طلب الصلح ابتداء لأنه دليل الجبن والضعف ﴿ وأنتم الأعلون ﴾ أي الغالبون القاهرون بنصر الله تعالى الموعود للمؤمنين الصالحين حال من فاعل تدعوا ﴿ والله معكم ﴾ معية بلا كيف فإن الإيمان يقتضي حب الله والمرء مع من أحب والواو للعطف فهو حال من فاعل تدعوا أو للحال من فاعل أعلون وكذا قوله ﴿ ولن يتركم أعمالكم ﴾ أي لن ينقصكم شيئا من ثواب أعمالكم من وتره يتره إذا نقص حقه، قال ابن عباس ومقاتل وقتادة والضحاك لن يظلمكم أعمالكم الصالحة أي لا يبطلها.
﴿ إنما الحياة الدنيا لعب ﴾ أي باطل لا يترتب عليها فائدة معتدة بها ما لم يكن فيها ذكر الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله " ﴿ ولهو ﴾ يشغلكم عما يفيدكم في الحياة الدائمة ﴿ وإن تؤمنوا ﴾ بالله ورسوله في الدنيا ﴿ وتتقوا ﴾ عذاب الله بامتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه ﴿ يؤتكم أجوركم ﴾ أي ثواب إيمانكم وتقواكم في الآخرة فحينئذ تكون حياتكم الدنيا مزرعة الآخرة ولا يكون لعبا ولهوا ﴿ ولا يسألكم أموالكم ﴾ فإنه غير محتاج إلى شيء إنما يأمركم بالطاعة والإيمان ليثيبكم عليها الجنة نظيره قوله تعالى :﴿ ما أريد منهم من رزق ﴾١ وقيل معناه لا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلها في الصدقات إنما يسألكم جزءا يسيرا وهو ربع العشر أو أقل كشاة من مائة وعشرين شاة من نماء مال فطيبوا بها نفسا، وإلى هذا القول ذهب ابن عيينة ويدل عليه سياق الآية فهذه الجملة لدفع توهم نشأ مما ذكر من ذم الحياة الدنيا ومدح الإيمان والتقوى فإنه يوهم أن الله تعالى يأمر بصرف جميع متاع الدنيا في سبيل الله ولدفع ذلك الوهم قال ولا يسألكم أموالكم أي جميعها، ثم ذكر في مقام تعليل عدم السؤال بالكل قوله. ﴿ إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم ﴾.
١ سورة الذاريات، الآية: ٧٥.
﴿ إن يسئلكموها ﴾ أي جميعا ﴿ فيحفكم ﴾ أي يجهدكم بطلب الكل والإحفاء المبالغة وبلوغ الغاية في الحديث " أحفوا الشوارب " ١ أي استأصلوها في القطع عطف على الشرط ﴿ تبخلوا ﴾ بها فلا تعطوها جزاء للشرط ﴿ ويخرج أضغانكم ﴾ أي يظهر بغضكم والضمير في يخرج لله تعالى ويؤيده القراءة بالنون أو للبخل فإنه سبب الأضغان، قال قتادة علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأضغان.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الطهارة، باب: خصال الفطرة ﴿٢٥٩﴾.
﴿ ها أنتم هؤلاء ﴾ ها حرف تنبيه وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره وهؤلاء منادى بحذف حرف النداء وخبر المبتدأ ﴿ تدعون ﴾ أو هؤلاء اسم موصول وتدعون صلته والموصول مع الصلة خير لأنتم ﴿ لتنفقوا ﴾ ما فرض الله عليكم ﴿ في سبيل الله ﴾ وهو يعم نفقة الغزو والزكاة وغيرهما ﴿ فمنكم من يبخل ﴾ أي ناس يبخلون بما فرض الله عليهم من الزكاة وغيرها ﴿ ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ﴾ فإن نفع الإنفاق وضرر البخل إنما يعودان إليه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ؟ قالوا يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال : فإن ماله ما قدم وما وارثه ما أخر " ١ رواه البخاري والنسائي، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم اعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا " ٢ متفق عليه، وعن أسماء قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك فارضحي ما استطعت " ٣ متفق عليه، وعن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى أنفق يا ابن آدم أنفق عليك " ٤ متفق عليه ﴿ والله الغني ﴾ عن صدقاتكم وطاعاتكم ﴿ وأنتم الفقراء ﴾ فإنما أمركم بما أمركم لاحتياجكم في الدنيا والآخرة، جملة والله الغني وأنتم الفقراء في مقام التعليل للحصر في قوله إنما يبخل عن نفسه ﴿ وإن تتولوا ﴾ أي إن تعرضوا أيها العرب عن طاعة الله وطاعة رسوله والإنفاق في سبيله عطف على إن تؤمنوا ﴿ يستبدل ﴾ أي يقيم مقامكم ﴿ قوما غيركم ﴾ ليؤمنوا ويتقوا ﴿ ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾ بل يكونوا أطوع لله منكم، قال الكلبي هي كندة والنخع، وقال الحسن هي العجم، وقال عكرمة فارس والروم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية ﴿ يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾ قالوا يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال :" هذا وقومه ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من فارس " ٥ رواه البغوي ورواه الترمذي والحاكم وصححاه وابن حبان، والحمد لله رب العالمين وصلى الله تعالى على خير خلقه محمد وآله وأصحابه أجمعين.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: ما قدم من ماله فهوله ﴿٦٤٤٢﴾، وأخرجه النسائي في كتاب: الوصايا، باب: الكراهية في تأخير الوصية ﴿٣٦٠٥﴾.
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: قول الله تعالى: ﴿فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى﴾ ﴿١٤٤٢﴾، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: في المنفق والممسك ﴿١٠١٠﴾.
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الزكاة، باب: الصدقة فيما استطاع ﴿١٤٣٤﴾، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: الحث في الإنفاق وكراهة الإحصاء ﴿١٠٢٩﴾.
٤ أخرجه البخاري في كتاب: النفقات، باب: فضل النفقة على الأهل ﴿٥٣٥٢﴾، وأخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف ﴿٩٩٣﴾..
٥ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿٣٢٦١﴾.
Icon