تفسير سورة محمد

تيسير التفسير
تفسير سورة سورة محمد من كتاب تيسير التفسير .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة محمد مدنية وآياتها ثمان وثلاثون، نزلت بعد سورة الحديد. وهي مرتبطة بآخر السورة السابقة، حتى لو أسقطت البسملة من بينهما لكان الكلام متصلا بسابقه لا تنافر فيه. ولها اسم آخر وهو :﴿ سورة القتال ﴾ وهو اسم حقيقي لها، لأن موضوعها القتال. وهو العنصر الأساسي فيها، والمحور الذي تدور عليه السورة الكريمة.
تبدأ السورة ببيان حقيقة الذين كفروا، وحقيقة الذين آمنوا، وأن الله تعالى أبطل أعمال الذين كفروا لأنهم اتبعوا الباطل، وكفّر عن المؤمنين لأنهم اتبعوا الحق. ثم بينت السورة بإسهاب وجوب الدفاع عن الحق، وأن جزاء ذلك في الآخرة دخول الجنة، وحرّضت المؤمنين على نصر دين الله والقتال في سبيله.
وفيها إعلان الحرب من الله تعالى على الذين كفروا، وقتلهم وأسرهم، وعلى المؤمنين أن يحاربوهم :﴿ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب.. الآية ﴾.
ومع هذا الأمر يبين الله حكمة القتال ويشجع عليه، وتكريم الاستشهاد في سبيل الله، وإكرام الشهداء، والنصر لمن يخوض المعركة انتصارا لله، وإهلاك الكافرين وإحباط أعمالهم.
ثم بعد ذلك يأتي الحديث عن المنافقين الذين كانوا يؤلفون مع اليهود خطرا كبيرا على المسلمين في المدينة أول الأمر. وتبين السورة هلعهم وجُبنهم وتهافتهم إذا ووجهوا بالقرآن يكلفهم القتال، وهم يتظاهرون بالإيمان. تفضحهم السورة في تولّيهم للشيطان وتآمرهم مع اليهود، ويهددهم الله بالعذاب عند الموت، ومن ثم يحذّر المؤمنين أن يصيبهم مثل ما أصاب أعداءهم ﴿ يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، ولا تُبطلوا أعمالكم ﴾. وتُختم السورة بما يشبه التهديد للمسلمين إذا بخلوا بإنفاق المال، والبذل في القتال، فالله غير عاجز عن أن يُذهبهم ويأتي بخير منهم :﴿ ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله الغني وأنتم الفقراء، وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم ﴾.

صدوا عن سبيل الله : صرفوا الناس عن الإسلام.
أضلّ أعمالهم : أبطلها.
قسم الله الناس فريقين : أهلَ الكفر الذين صدّوا الناسَ عن دين الله، وبيّن أن هؤلاء قد أبطلَ أعمالهم.
أصلح بالَهم : أصلح حالهم، والبال معناه القلب والخاطر. والبال : الأمل، ويقال : فلان رضيّ البال وناعم البال : موفور العيش هادئ النفس.
وأهل الإيمان الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات، وقد محا عنهم سيئاتهم، وأصلح حالهم في الدين والدنيا.
ثم علل ذلك بأن أعمال الفريقين جرت على ما سنَّه الله في الخليقة، بأن الحق منصور، والباطل مخذول، ﴿ كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ﴾، وهكذا شأن القرآن يوضح الأمور التي فيها عظة وذكرى بضرب الأمثال للناس ليعتبروا.
فضرب الرقاب : فاضربوا رقابهم ضرباً واقتلوهم.
أثخنتموهم : أكثرتم فيهم القتل.
فشدّوا الوثاق : فأسِروهم واربطوهم. الوثاق بفتح الواو وكسرها ما يوثق به.
فإما منّاً بعدُ وإما فداء : فإما أن تطلقوا سراحهم بدون فداء، وإما أن يفدوا أنفسهم بشيء من المال.
حتى تضع الحرب أوزارها : حتى تنتهي الحرب، الأوزار : أثقال الحرب من سلاح وغيره.
ثم بعد ذلك ذكر الله تعالى هنا وجوبَ القتال وأذِن به بعد أن استقر المؤمنون في المدينة، وبدأوا في تأسيس الدولة الإسلامية. وتبين هذه الآية والآياتُ التي قبلها مشروعيةَ القتال للدفاع عن العقيدة والوطن. فإذا لقيتم الذين كفروا في الحرب فاضرِبوا رقابَهم، حتى إذا أضعفتموهم بكثرة القتل فيهم فأحكِموا قيد الأسرى، وبعد ذلك لكم الخيار : إما أن تُطلقوا الأسرى أو بعضَهم بغير فداء وتمنُّوا عليهم بذلك، وإما أن تأخذوا منهم الفدية، أو تبادلوا بهم بالمسلمين ممن يقع في الأسر. وليكن هذا شأنكم مع الكافرين حتى تنتهي الحرب وتضع أوزارها.
ثم بين الله تعالى أن هذه هي السنّة التي أرادها من حرب المشركين، ولو شاء لانتقم منهم بلا حرب ولا قتال، ولكنه ليختبر المؤمنين بالكافرين شرع الجهاد.
قراءات :
قرأ أهل البصرة وحفص : والذين قُتلوا. بضم القاف وكسر التاء. والباقون والذين قاتلوا.
وأما الشهداء الذين يُقتلون في سبيل الله فلن يُبطل أعمالهم، بل ﴿ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾.
وفيها كل ما لذ وطاب، وهم يعرفون منازلهم فيها كما يعرفون منازلهم في الدنيا.
إن تنصروا الله : تنصروا دينه.
يثبِّت أقدامكم : ينصركم ويوفقكم.
يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ( وذلك بنصرِ شريعته، والقيام بحقوق الإسلام، والسيرِ على منهاجه القويم ) ينصركم الله على عدوّكم. وهذا وعدٌ صادق من الله تعالى، وقد أنجزه للمؤمنين الصادقين من أسلافنا. فنحن مطالَبون الآن بنصر دين الله والسير على منهاجه حتى ينصرنا الله ويثبّت أقدامنا، واللهُ لا يخلف الميعاد.
تعساً لهم : هلاكاً لهم.
أما الذين كفروا بالله فتعساً لهم وهلاكا، واللهُ تعالى قد أبطلَ أعمالهم، وجعلها على غير هدى لأنها عُملت للشيطان.
أحبطَ أعمالهم : أبطلها.
فلقد كرهوا ما أنزل الله من القرآن وكذبوا به وقالوا عنه إنه سحر مبين، ﴿ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾، وهكذا بات عملهم كلّه هباءً، وذهبوا إلى النار.
دمر عليهم : أهلكهم، يقال دمر القوم ودمر عليهم : أهلكهم.
وللكافرين أمثالُها : للكافرين أمثالُ عاقبة الذين دمرهم الله.
بعد ذلك يوجه الله الناسَ إلى النظر في أحوال الأمم السابقة ورؤية آثارهم، لأن المشاهَدة للأمور المحسوسة تؤثر في النفوس، فيقول لهم : أفلم تسيروا في الأرض فتنظروا ديار الأمم السابقة التي كذّبت الرسل ! اتّعظوا بذلك، واحذروا أن نفعل بكم كما فعلنا بمن قبلكم، ممن أوقعنا بهم الهلاك ودمرنا ديارهم. ﴿ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ إن كل من يكفر بالله ينتظره مثل ذلك العذاب.
مولى الذين آمنوا : ناصرهم.
وأن الكافرين لا مولى لهم : لا ناصر لهم.
والله وليُّ من آمن به وأطاع رسوله، وليس للكافرين من ناصر على الإطلاق.
والنار مثوى لهم : مقرٌّ لهم.
وبعد أن بيّن حال المؤمنين والكافرين في الدنيا بيّن هنا نصيب المؤمنين، ونصيب الكافرين في الآخرة، وشتان بين الحالين وبين النصيبين. فالمؤمنون يدخلون جناتٍ عظيمة تجري من تحتها الأنهار إكراماً لهم على إيمانهم بالله ونصرهم لدينه وشريعته. والكافرون يتمتعون في الدنيا قليلا، ويأكلون كما تأكل الحيوانات، غافلين عما ينتظرهم من عذاب أليم، ﴿ والنار مَثْوًى لَّهُمْ ﴾ فهي مأواهم الذي يستقرون فيه.
من قريتك : من مكة.
وهنا يسلّي الله تعالى رسوله الكريم فيخبره أن كثيراً من أهل القرى السابقين كانوا أشدَّ بأساً وقوة من مكة التي أخرجك أهلُها، ومع ذلك فقد أهلكهم الله بأنواع العذاب فلم ينصُرهم أحد، ولم يمنعهم أحد.
ثم يبين الله الفرق بين المؤمنين المصدّقين، والكافرين الجاحدين، والسببَ في كون المؤمنين في أعلى الجنان، والكافرين في أسفل الجحيم :
﴿ أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾
هل يستوي الفريقان في الجزاء ؟ لا يمكن، فالذين آمنوا ﴿ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ ﴾ رأوا الحق وعرفوه واتبعوه. والذين كفروا زين لهم الشيطان سوء أعمالهم فرأوه حسنا فضلّوا ﴿ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ ﴾ فهل يستوي الفريقان ؟ لا يستويان أبدا.
مثل الجنة : صفتها.
آسِن : متغير الطعم والريح، والفعل : أسَن يأسِن مثل ضرب يضرب وأسَن يأسُن مثل نصر ينصر، وأسِن يأسَن مثل علم يعلم.
لذة للشاربين : لذيذ للشاربين.
مصفى : قد أخذ منه الشّمع.
حميماً : شديد الحرارة.
صفة الجنة التي وعد الله بها عباده المؤمنين أنها : فيها أنهار من ماء عذب لم يتغير طعمه، فالماء الراكد المتغيّر ضارٌّ لما فيه من الجراثيم، وأنهارٌ من لبن لم يفسد طعمه، وأنهار من خمر لذيذة للشاربين، وأنهار من عسلٍ صافٍ من كل كَدَر. وفيها من جميع أنواع الثمرات. وفوق كل هذه النعم يأتي رضي الله عنهم ﴿ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾.
فهل صفةُ هذه الجنة وما فيها من خيرات ونعم مثل صفة الذين خُلِّدوا في النار، ﴿ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ ﴾ ؟ ؟.
قراءات :
قرأ ابن كثير : أسِن بفتح الهمزة بغي رمد وكسر السين. والباقون : آسن : بمد الهمزة.
آنفا : قريبا.
وبعد بيان حال المشركين وسوء مصيرهم، وصفَ حال المنافقين الذين كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنهم ساعة يخرجون من عنده يقولون للواعين من الصحابة : ماذا قال محمد ونحن في مجلسه ؟ فإننا لم نفهم منه شيئا. وهذا كله سخرية واستهزاء.
﴿ أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ ﴾
فهم مشغولون بالخبث وحطام الدنيا.
قراءات :
قرأ ابن كثير : أنفا بهمزة بغير مد على وزن حذر. والباقون : آنفا بمد الهمزة على وزن فاعل.
وآتاهم تقواهم : ألهمهم تقواهم، وفقهم إليها.
أما الذين اهتدوا إلى طريق الحق فقد زادهم الله هدى، وألهمهم تقواهم وصلاحَهم. ثم عنّف الله أولئك المكذّبين، وأكد أنهم لم يتّعظوا بأحوال السابقين،
أشراطها : علاماتها.
فأنّى لهم : فكيف لهم.
ذكراهم : تذكرهم.
وعليهم أن يتوبوا قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وقد بدت علاماتها بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم. ففي البخاري ومسلم عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بُعثت أنا والساعة كهاتين »، وأشار بإصبعيه السبّابة والتي تليها. ولا ينفعهم شيء إذا جاءتهم الساعة كما قال تعالى :﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى ﴾ [ الفجر : ٢٣ ].
متقلَّبكم : تصرفكم في أعمالكم.
مثواكم. مأواكم ومصيركم في الآخرة.
وبعد أن بيّن أن الذِكرى لا تنفع يوم القيامة أمرَ رسولَه الكريم بالثبات على
ما هو عليه من وحدانية الله وإصلاح نفسه بالاستغفار من ذنبه، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات.
﴿ والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾
هو العليم بتصرفكم في الدنيا، ومصيركم في الآخرة.
لولا نُزّلت سورة : هلاّ أنزلت سورة. محكمة : بينة، واضحة. في قلوبهم مرض : شك ونفاق. نظر المغشيّ عليه من الموت : كالجبان الذي يخاف من كل شيء. أولَى لهم : ويل لهم. عزم الأمرُ : جد ولزم. إن توليتم : صرتم حكاما وتوليتم أمور الناس.
إن المؤمنين المخلصين يقولون : هلاّ أنزِلتْ سورةٌ تدعونا إلى القتال، فإذا أنزلت سورةٌ مُحكَمة تأمر به، رأيتَ يا محمد الذين في قلوبهم نفاق ينظرون إليكَ بهلَع وخوفٍ كأن الموت يغشاهم، خوفا من القتال وكرها له.
﴿ فأولى لَهُمْ ﴾
فالموتُ أَولى لمثل هؤلاء المنافقين، أهلكهم الله.
إن طاعةً لله وكلمة طيبة لهي أمثل لهم وأحسن مما هم فيه من الهلع والجبن من لقاء العدو، فإذا جدَّ الأمرُ ولزمهم القتال - كرهوه وتخلفوا عنه خوفا وجبنا، ولو صدَقوا في إيمانهم لكان خيرا ًلهم من نفاقهم هذا.
ثم زاد في تأنيبهم وتوبيخهم بقوله :
﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ ﴾
أولئك المنافقون الذين طردهم الله من رحمته، فأصمَّهم عن سماع الحق، وأعمَى أبصارَهم عن رؤية طريق الهدى.
يتدبرون القرآن : يتفهمون معانيه ويتفكرون فيه.
أفلا يتفهّمون معاني القرآن ويتفكرون فيه، أم أن قلوبهم مغلقةٌ كأن عليها الأقفال !
ارتدّوا على أدبارهم : رجعوا إلى الكفر.
سوّل لهم : زين لهم.
وأملَى لهم : مدّ لهم الأماني والآمال.
إن الذين رجعوا إلى الكفر بعد أن ظهر لهم طريق الحق والهداية، إنما زين لهم الشيطانُ الكفر وأغراهم بالنفاق، ومد لهم في الآمال الباطلة.
قراءات :
قرأ أبو عمرو : وأُمليَ لهم، بالبناء للمجهول. وقرأ يعقوب : وأملي لهم، بضم الهمزة وكسر اللام على الإخبار. والباقون : وأَملَى لهم بفتح الهمزة واللام على أنه فعل ماضٍ.
ولقد جاءهم ذلك الضلال من جيرانهم اليهود من بني قريظة والنضير الذين كرهوا الإسلام والقرآن ورسالة الرسول الكريم. فهؤلاء المنافقون مالأوا اليهود فأطمعهم أولئك ببعض الأمر، والله يعلم أسرار المنافقين.
هذه الحيل وذلك النفاق وإن نفعت في حياتهم فلن تنفع آخر الأمر.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وحفص : إسرارهم بكسر الهمزة. وقرأ الباقون : أسرارهم بفتح الهمزة جمع سر.
إنها خاتمة سيئة، ومشهد مخيف مفزع.
إن هذا الهول الذي سوف يرونه عند الوفاة إنما سببُه أنهم اتّبعوا الباطل الذي
لا يرضى الله عنه، وكرهوا الحق الذي يرضاه، فأبطل أعمالَهم جميعها.
أضغانهم : جمع ضِغن وهو الحقد الشديد.
ثم بين الله أنه يعلم خباياهم ومكرهم وخبثهم فقال :
﴿ أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ ﴾
فهل يظن هؤلاء المنافقون أن الله لن يُظهرَ أحقادهم ويفضحهم للرسول والمؤمنين !
بسِيماهم : بعلامتهم.
ولتعرفنّهم في لحن القول : في أسلوبه الذي يتكلمون به ومغزاه.
ولو نشاء لعرّفناك يا محمد أشخاصَهم، فعرفَته بعلاماتٍ خاصة بهم.
﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول ﴾
وأُقسِم أيّها الرسول، لتعرفنّهم في أسلوب كلامهم المعوج، ﴿ والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾.
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الرسول الكريم كان يعرفهم جميعا، وقد عرّفهم إلى حذيفة بن اليمان الصحابي الجليل رضي الله عنه.
ولنبلونَّكم : لنختبرنكم.
ولنختبرنّكم أيها المؤمنون، بالجهاد وتكاليف الشريعة، حتى نعلمَ المجاهدين منكم والصابرين في البأساء والضراء، ونعرفَ الصادقَ منكم في إيمانه من الكاذب.
قال إبراهيم بن الأشعث : كان الفضيل بن عياض، شيخ الحرم وأستاذ زمانه، إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : اللهمّ لا تبتلينا، فإنك إذا بَلَوْتنا فضحْتَنا وهتكتَ أستارنا.
قراءات :
قرأ أبو بكر : وليبلونكم حتى يعلم المجاهدين.... ويبلوا أخباركم. هذه الأفعال الثلاثة بالياء. والباقون : بالنون كما هو في المصحف.
شاقّوا الرسول : عادوه وخالفوه.
بعد أن بيّن الله تعالى حال المنافقين ذكَر هنا حال أساتذتهم اليهود الذين كفروا بالله وصدّوا الناس عن الإسلام بخبثهم ومكرهم، وعادَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. وقد تبين لهم صدقُه وأنه رسولُ من عند الله، وعندهم وصفُه في التوراة.. فهؤلاء لن يضروا الله شيئا، وإنما يضرّون أنفسَهم، وسيحبط الله مكايدَهم التي نصبوها للإسلام والمسلمين.
ثم أمر الله عباده المؤمنين بطاعته وطاعةِ رسوله الكريم في كل ما يأمران به، وأن لا يبطلوا أعمالَهم برفض طاعتهما فيرتدّوا، ولا يقبل الله مع الشرك أي عمل.
وعن قتادة قال في الآية : من استطاع منكم أن لا يُبطل عملاً صالحاً بعمل سوءٍ فليفعل.
ثم بين الله مصير الذين كفروا وصدّوا الناسَ عن الدخول في الإسلام، ثم ماتوا وهم كفار، فلن يغفر الله لهم.
فلا تهِنوا : فلا تضعُفوا عن القتال.
وتدعوا إلى السلم : تدعوا الكفار إلى الصلح خوفا منهم.
الأعلَون : الغالبون.
لن يتركم أعمالكم : لن يُنقص أعمالكم يعني أن الله لا يظلمكم.
وحرّض المسلمين بأن يقاتلوا الكفار بقوله :
﴿ فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم وَأَنتُمُ الأعلون ﴾
إياكم أن تضعفوا وتدعوا أعدائكم إلى السلم فأنتم المنتصرون. والله معكم بنصره، ولن ينقصكم ثواب أعمالكم.
ثم أكد على المؤمنين بأنه لا ينبغي الحِرصُ على الدنيا فإنها ظلٌّ زائل، وما هذه الحياة إلا لعب ولهو.
﴿ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ﴾ إلا القليل النزر الذي فيه إصلاح المجتمع للمعونة على القيام بالمرافق العامة.
فيُحْفِكم : فيلحّ عليكم ويجهدكم بطلبها، يقال أحفاه بالمسألة : إذا لم يترك شيئا من الإلحاح.
أضغانكم : أحقادكم.
وهو عليم بأنكم أشحّة على أموالكم، فلو طلبها لبخلتم بها وظهرتْ أحقادكم على طالبيها.
واللهُ قد طلب إليكم الإنفاق في سبيله، فإن بخلتم فضرر ذلك عائد إليكم.
وهذا حاصل اليوم، فإن معظم أموال البترول مكدّسة في بلاد الغرب، والمسيطرون على هذه الأموال ينفقون على ملذّاتهم الملايين، ويبخلون بالإنفاق في سبيل الله وتسليح المخلصين من العرب ليصدّوا عدونا اليهود وغيرهم من الأعداء.
﴿ هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ والله الغني وَأَنتُمُ الفقرآء ﴾
كأن الآيةَ نزلت في وقتنا الحاضر، وهي صريحةٌُ في شرح أحوالنا.
وهنا يأتي التهديد المخيف إذ يقول تعالى :
﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم ﴾
فإن تعرِضوا وتبخَلوا بأموالكم ولا تنفقوا في سبيل الله، فإن الله غنيٌّ عنكم يستبدلُ مكانكم قوماً غيركم، فيكونوا خيراً منكم، يقيمون دينه، ويبذلون أموالَهم في سبيلِ الله بسَخاء، وينصرون هذا الدينَ العظيم. اللهم ألهمنا الصوابَ في القول والعمل.
Icon