تفسير سورة محمد

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة محمد من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة محمد
هذه السورة مدنية عند الأكثر.
وقال الضحاك، وابن جبير، والسدي : مكية.
وقال ابن عطية : مدنية بإجماع، وليس كما قال، وعن ابن عباس، وقتادة : أنها مدنية، إلا آية منها نزلت بعد حجة، حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت، وهي :﴿ وكأين من قرية ﴾ الآية.
ومناسبة أولها لآخر ما قبلها واضحة جداً.

ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘ ﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩ ﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁ ﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ ﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭ ﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎ ﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ ﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ
سورة محمّد
[سورة محمد (٤٧) : الآيات ١ الى ٣٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣) فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤)
سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩)
وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤)
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨)
453
الْبَالُ: الْفِكْرُ، تَقُولُ: خَطَرَ فِي بَالِي كَذَا، وَلَا يُثَنَّى وَلَا يُجْمَعُ، وَشَذَّ قَوْلُهُمْ: بَالَاتٌ فِي جَمْعِهِ. تَعَسَ الرَّجُلُ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ، تَعْسًا: ضِدُّ تَنَعُّشٍ، وَأَتْعَسَهُ اللَّهُ. قَالَ مُجَمِّعُ بْنُ هِلَالٍ:
تَقُولُ وَقَدْ أَفْرَدْتُهَا مِنْ حَلِيلِهَا تَعَسْتَ كَمَا أَتْعَسْتَنِي يَا مُجَمِّعُ
وَقَالَ قَوْمٌ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ شُمَيْلٍ، وَأَبُو الْهَيْثَمِ: تَعِسَ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: تَعِسَهُ اللَّهُ وَأَتْعَسَهُ: فِي بَابِ فَعِلَتْ وَأَفْعَلَتْ. وَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: التَّعْسُ: أن يجز عَلَى الْوَجْهِ، وَالنَّكْسُ: أَنْ يُجَرَّ عَلَى الرَّأْسِ. وَقَالَ هُوَ أَيْضًا، وَثَعْلَبٌ: التَّعْسُ: الْهَلَاكُ.
وَقَالَ الْأَعْشَى:
بِذَاتِ لَوْثٍ عَفَرْيَاتٍ إِذَا عَثَرَتْ فَالتَّعْسُ أَوْلَى لَهَا مِنْ أَنْ أَقُولَ لَعَا
آسِنٌ: الْمَاءُ تَغَيَّرَ رِيحُهُ، يَأْسِنُ وَيَأْسُنُ ذَكَرَهُ ثَعْلَبٌ فِي الْفَصِيحِ، وَالْمَصْدَرُ: أُسُونٌ وَأَسِنٌ بِكَسْرِ السِّينِ. يَأْسَنُ، بِفَتْحِهَا، لُغَةٌ أَسْنَا، قَالَهُ الْيَزِيدِيُّ. وَأَسِنَ الرَّجُلُ، بِالْكَسْرِ لَا غَيْرَ: إِذَا دَخَلَ الْبِئْرَ، فَأَصَابَتْهُ رِيحٌ مِنْ رِيحِ الْبِئْرِ، فَغَشِيَ عَلَيْهِ، أَوْ دَارَ رَأْسُهُ. قَالَ الشَّاعِرِ:
455
الْأَشْرَاطُ: الْعَلَامَاتُ، وَاحِدُهَا شَرْطٌ، بِسُكُونِ الرَّاءِ وَبِفَتْحِهَا. قَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ:
قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ يَمِيدُ فِي الرِّيحِ ميدا لمائح الْأَسِنِ
فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَزْمَعْتَ بِالصَّرْمِ بَيْنَنَا فَقَدْ جَعَلَتْ أَشْرَاطُ أَوَّلِهِ تَبْدُو
وَأَشْرَطَ الرَّجُلُ نَفْسَهُ: أَلْزَمَهَا أُمُورًا. قَالَ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ:
فَأَشْرَطَ فِيهَا نَفْسَهُ وَهُوَ مُعْصِمٌ فَأَلْقَى بِأَسْبَابٍ لَهُ وَتَوَكَّلَا
الْعَسَلُ: مَعْرُوفٌ، وَعَسَلُ بْنُ ذَكْوَانَ رَجُلٌ نَحْوِيٌّ قَدِيمٌ. الْمِعَى: مَقْصُورٌ، وَأَلِفُهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ تَثْنِيَتُهُ مِعَيَانِ، بِقَلْبِ الْأَلِفِ يَاءً. وَالْمِعَى: مَا فِي الْبَطْنِ مِنَ الْحَوَايَا. الْقُفْلُ: مَعْرُوفُ، وَأَصْلُهُ الْيُبْسُ وَالصَّلَابَةُ. وَالْقُفْلُ وَالْقَفِيلُ: مَا يَبُسَ مِنَ الشَّجَرِ.
وَالْقَفِيلُ أَيْضًا: نَبْتٌ، وَالْقَفِيلُ: السَّوْطُ وَأَقْفَلَهُ الصَّوْمُ: أيبسه، قاله الجوهري. آئفا وَآنِفًا:
هُمَا اسْمَا فَاعِلٍ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِعْلُهُمَا، وَالَّذِي اسْتُعْمِلَ اِئْتَنَفَ، وَهُمَا بِمَعْنَى مُبْتَدِيًا، وَتَفْسِيرُهُمَا بِالسَّاعَةِ تَفْسِيرُ مَعْنًى. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ مِنِ اسْتَأْنَفْتُ الشَّيْءَ، إِذَا ابْتَدَأْتُهُ. فَأَوْلَى لَهُمْ، قَالَ صَاحِبُ الصِّحَاحِ: قَوْلُ الْعَرَبِ أَوْلَى لَكَ: تَهْدِيدٌ وَتَوْعِيدٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى وَهَلْ لِلدَّارِ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ
انْتَهَى. وَاخْتَلَفُوا، أَهُوَ اسْمٌ أَوْ فِعْلٌ؟ فَذَهَبَ الْأَصْمَعِيُّ إِلَى أَنَّهُ بِمَعْنَى قَارَبَهُ مَا يُهْلِكُهُ، أَيْ نَزَلَ بِهِ، وَأَنْشَدَ:
تَعَادَى بَيْنَ هَادِيَتَيْنِ مِنْهَا وَأَوْلَى أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ
أَيْ: قَارَبَ أَنْ يَزِيدَ. قَالَ ثَعْلَبٌ: لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِي أَوْلَى أَحْسَنَ مِمَّا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ لِمَنْ هَمَّ بِالْعَطَبِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا كَانَ يُوَالِي رَمْيَ الصَّيْدِ فَيَنْفَلِتُ مِنْهُ فَيَقُولُ: أَوْلَى لَكَ رَمْيُ صَيْدًا فَقَارَبَهُ ثُمَّ أَفْلَتَ مِنْهُ، وَقَالَ:
فَلَوْ كَانَ أَوْلَى يُطْعِمُ الْقَوْمَ صَيْدَهُمْ وَلَكِنَّ أَوْلَى يَتْرُكُ الْقَوْمَ جُوَّعًا
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ، فَقِيلَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَلِيِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
تُكَلِّفُنِي لَيْلَى وَقَدْ شَطَّ وَلِيُّهَا وَعَادَتْ عَوَادٍ بَيْنَنَا وَخُطُوبُ
وَقَالَ الْجُرْجَانِيُّ: هُوَ مَا حُوِّلَ مِنَ الْوَيْلِ، فَهُوَ أَفْعَلُ مِنْهُ، لَكِنَّ فِيهِ قَلْبٌ. الضِّغْنُ وَالضَّغِينَةُ: الْحِقْدُ. قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
456
وَقَدْ ضَغِنَ بِالْكَسْرِ، وَتَضَاغَنَ الْقَوْمُ وَأَضْغَنُوا: بَطَنُوا الْأَحْقَادَ. وَقَدْ ضَغِنَ عَلَيْهِ، وَأَضْغَنْتَ الصَّبِيَّ: أَخَذْتَهُ تَحْتَ حِضْنِكَ، وَأَنْشَدَ الْأَحْمَرُ:
كَأَنَّهُ مُضْغِنٌ صَبِيًّا وَقَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
ما اضْطَغَنْتُ سِلَاحِي عِنْدَ مَعْرَكِهَا وَفَرَسٌ ضَاغِنٌ: لَا يُعْطِي مَا عِنْدَهُ مِنَ الْجَرْيِ إِلَّا بِالضَّرْبِ. وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الضِّغْنِ، وَهُوَ الِالْتِوَاءُ وَالِاعْوِجَاجُ فِي قَوَائِمِ الدَّابَّةِ وَالْقَنَاةِ وَكُلُّ شَيْءٍ. وَقَالَ بِشْرٌ:
كَذَاتِ الضِّغْنِ تَمْشِي فِي الزُّقَاقِ وَأَنْشَدَ اللَّيْثُ:
فَإِنَّ الضغن بعد الضغن يعسو عَلَيْكَ وَيَخْرُجُ الدَّاءُ الدَّفِينَا
إِنَّ فَتَاتِي مِنْ صَلِيَّاتِ الْقَنَا مَا زَادَهَا التَّثْقِيفُ إِلَّا ضِغْنًا
وَالْحِقْدُ فِي الْقَلْبِ يُشَبَّهُ بِهِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ:
وَاللَّيْثُ أَضْغَنَ الْعَدَاوَةِ قَالَ الشَّاعِرُ:
قُلْ لِابْنِ هِنْدٍ مَا أَرَدْتُ بِمَنْطِقٍ نَشَأَ الصَّدِيقُ وَشَيَّدَ الْأَضْغَانَا
لَحَنْتُ لَهُ: بِفَتْحِ الْحَاءِ، أَلْحَنُ لَحْنًا: قُلْتُ لَهُ قَوْلًا يَفْهَمُهُ عَنْكَ وَيَخْفَى عَنْ غَيْرِهِ وَلَحِنَهُ هُوَ بِالْكَسْرِ: فَهِمَهُ وَأَلْحَنَهُ: فَهَّمَهُ وألحنته أنا إياه ولا حنت النَّاسَ: فَاطَنْتُهُمْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
مَنْطِقٌ صَائِبٌ وَيَلْحَنُ أَحْيَا نًا وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنًا
وَقَالَ الْقَتَّالُ الْكِلَابِيُّ:
وَلَقَدْ وَمَيْتُ لَكُمْ لِكَيْمَا تَفْهَمُوا وَلَحَنْتُ لَحْنًا لَيْسَ بِالْمُرْتَابِ
وَقِيلَ: لَحْنُ الْقَوْلِ: الذَّهَابُ عَنِ الصَّوَابِ، مَأْخُوذٌ مِنَ اللَّحْنِ فِي الْإِعْرَابِ. وَتَرَهُ:
نَقَصَهُ، مَأْخُوذٌ من الدخل. وَقِيلَ مِنَ الْوَتْرِ، وَهُوَ الْفَرْدُ.
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ
457
بالَهُمْ، ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ، فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ، سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ، وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها، ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيُّ: مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةَ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، إِلَّا آيَةً مِنْهَا نَزَلَتْ بَعْدَ حَجِّهِ، حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْبَيْتِ، وَهِيَ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ الْآيَةَ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِهَا لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا وَاضِحَةٌ جِدًّا.
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: أَيْ أَعْرَضُوا عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، أَوْ صَدُّوا غَيْرَهُمْ عَنْهُ، وَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ الَّذِينَ أَخْرَجُوا رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَهُمُ الْمُطْعِمُونَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَيَأْمُرُونَهُمْ بِالْكُفْرِ، وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، صَدُّوا مَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ وَمِنْ غَيْرِهِمْ أَنْ يَدْخُلَ فِي الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: عَنْ بَيْتِ اللَّهِ، يَمْنَعُ قَاصِدِيهِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ كَفَرَ وَصَدَّ. أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ: أَيْ أَتْلَفَهَا، حَيْثُ لَمْ يَنْشَأْ عَنْهَا خَيْرٌ وَلَا نَفْعٌ، بَلْ ضَرَرٌ مَحْضٌ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِبَدْرٍ، وَأَنَّ الْإِشَارَةَ بِقَوْلِهِ: أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ إِلَى الِاتِّفَاقِ الَّذِي اتَّفَقُوهُ فِي سَفَرِهِمْ إِلَى بَدْرٍ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ: أَعْمَالُهُمُ الْبِرَّةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِنْ صِلَةِ رَحِمٍ وَفَكِّ عَانٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَاللَّفْظُ يَعُمُّ جَمِيعَ ذَلِكَ.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ: هُمُ الْأَنْصَارُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ.
وَقِيلَ: مُؤْمِنُوَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ وَعَلَى تَقْدِيرِ خُصُوصِ السَّبَبِ فِي الْقَبِيلَتَيْنِ، فَاللَّفْظُ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَافِرٍ وَكُلَّ مُؤْمِنٍ. وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ: تَخْصِيصُهُ مِنْ بَيْنِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، تَعْظِيمٌ لِشَأْنِ الرَّسُولِ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ وَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ.
وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْجُمْلَةِ الِاعْتِرَاضِيَّةِ الَّتِي هِيَ: وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. وَقِيلَ: وَهُوَ الْحَقُّ:
نَاسِخٌ لِغَيْرِهِ وَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ النَّسْخُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: نُزِّلَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ
458
مِقْسَمٍ: نَزَّلَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ وَالْأَعْمَشُ: أُنْزِلَ مُعَدًّى بِالْهَمْزَةِ مبنيا للمفعول. وقرىء: نَزَلَ ثُلَاثِيًّا. كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ: أَيْ حَالَهُمْ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَشَأْنَهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَأَمْرَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَحَقِيقَةُ لَفْظِ الْبَالِ أَنَّهَا بِمَعْنَى الْفِكْرِ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ نَظَرُ الْإِنْسَانِ وَهُوَ الْقَلْبُ. فَإِذَا صَلُحَ ذَلِكَ، فَقَدْ صَلُحَتْ حَالُهُ، فَكَأَنَّ اللَّفْظَ مُشِيرٌ إِلَى صَلَاحِ عَقِيدَتِهِمْ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْحَالِ تَابِعٌ.
ذلِكَ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا فُعِلَ بِالْكُفَّارِ مِنْ إِضْلَالِ أَعْمَالِهِمْ، وَبِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ تَكْفِيرِ سَيِّئَاتِهِمْ وَإِصْلَاحِ حَالِهِمْ. وَذَلِكَ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ الْخَبَرُ، أَيْ كَائِنٌ بِسَبَبِ اتِّبَاعِ هَؤُلَاءِ الْبَاطِلَ وَهَؤُلَاءِ الْحَقَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ الْأَمْرُ ذَلِكَ، أَيْ كَمَا ذُكِرَ بِهَذَا السَّبَبِ، فَيَكُونَ مَحَلُّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ مَنْصُوبًا. انْتَهَى. وَلَا حَاجَةَ إِلَى الْإِضْمَارِ مَعَ صِحَّةِ الْوَجْهِ وَعَدَمِ الْإِضْمَارِ. وَالْبَاطِلُ: مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
الشَّيْطَانُ وَكُلُّ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَالْحَقُّ: هُوَ الرَّسُولُ وَالشَّرْعُ، وَهَذَا الْكَلَامُ تُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ:
التَّفْسِيرَ. كَذلِكَ يَضْرِبُ: قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْإِشَارَةُ إِلَى أَتْبَاعِ الْمَذْكُورِينَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، أَيْ كَمَا اتَّبَعُوا هَذَيْنِ السَّبِيلَيْنِ، كَذَلِكَ يُبَيَّنُ أَمْرُ كُلِّ فِرْقَةٍ، وَيُجْعَلُ لَهَا ضَرْبُهَا مِنَ الْقَوْلِ وَصْفَهَا وَضَرْبُ الْمَثَلِ مِنَ الضَّرْبِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى النَّوْعِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَذَلِكَ، أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الضَّرْبِ. يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ لِأَجْلِ النَّاسِ لِيَعْتَبِرُوا بِهِمْ. فَإِنْ قُلْتَ: أَيْنَ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ؟ قُلْتُ: فِي أَنْ جَعَلَ اتِّبَاعَ الْبَاطِلِ مَثَلًا لِعَمَلِ الْكُفَّارِ، وَاتِّبَاعِ الْحَقِّ مَثَلًا لِعَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ فِي أَنْ جَعَلَ الْإِضْلَالَ مَثَلًا لِخَيْبَةِ الْكُفَّارِ، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ مَثَلًا لِفَوْزِ الْمُؤْمِنِينَ.
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا: أَيْ فِي أَيِّ زَمَانٍ ليقتموهم، فَاقْتُلُوهُمْ. وَفِي قَوْلِهِ:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «١»، أَيْ فِي أَيِّ مَكَانٍ، فَعَمَّ فِي الزَّمَانِ وَفِي الْمَكَانِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَقِيتُمْ، مِنَ اللِّقَاءِ، وَهُوَ الْحَرْبُ. انْتَهَى. فَضَرْبَ الرِّقابِ:
هَذَا مِنَ الْمَصْدَرِ النَّائِبِ مَنَابَ فِعْلِ الْأَمْرِ، وَهُمْ مُطَّرِدٌ فِيهِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ فِيهِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ إِذَا انْتَصَبَ مَا بَعْدَهُ فَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِالْفِعْلِ النَّاصِبِ لِلْمَصْدَرِ وَقِيلَ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِنَفْسِ الْمَصْدَرِ لِنِيَابَتِهِ عَنِ الْعَامِلِ فِيهِ، وَمِثَالُهُ: ضَرْبًا زَيْدًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
عَلَى حِينِ أَلْهَى النَّاسَ جُلُّ أُمُورِهِمْ فَنَدْلًا زُرَيْقُ الْمَالِ نَدْلَ الثَّعَالِبِ
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَضَرْبَ الرِّقابِ، وهو إضافة المصدر
(١) سورة التوبة: ٩/ ٥.
459
لِلْمَفْعُولِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا لَهُ، مَا جَازَتْ إِضَافَتُهُ إِلَيْهِ. وَضَرْبَ الرِّقَابِ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَتْلِ وَلَمَّا كَانَ الْقَتْلُ لِلْإِنْسَانِ أَكْثَرَ مَا يَكُونُ بِضَرْبِ رَقَبَتِهِ، عَبَّرَ بِذَلِكَ عَنِ الْقَتْلِ، وَلَا يُرَادُ خُصُوصِيَّةُ الرِّقَابِ، فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ تَتَأَتَّى حَالَةُ الْحَرْبِ أَنْ تُضْرَبَ الرِّقَابُ، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى الْقِتَالُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنَ الْأَعْضَاءِ. وَيُقَالُ: ضَرَبَ الْأَمِيرُ رَقَبَةَ فُلَانٍ، وَضَرَبَ عُنُقَهُ وَعِلَاوَتَهُ وَمَا فِيهِ عَيْنَاهُ، إِذَا قَتَلَهُ، كَمَا عبر بقوله: فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «١» عَنْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ، لَمَّا كَانَ أَكْثَرُ الْكَسْبِ مَنْسُوبًا إِلَى الْأَيْدِي. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَفِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ مِنَ الْغِلْظَةِ وَالشِّدَّةِ مَا لَيْسَ فِي لَفْظِ الْقَتْلِ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَصْوِيرِ الْقَتْلِ بِأَشْنَعِ صُورَةٍ، وَهُوَ حَزُّ الْعُنُقِ وَإِطَارَةُ الْعُضْوِ الَّذِي هُوَ رَأْسُ الْبَدَنِ وَعُلُوُّهُ وَأَوْجُهُ أَعْضَائِهِ. وَقَدْ زَادَ فِي هَذِهِ فِي قَوْلِهِ: فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ «٢». انْتَهَى. وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَشْجِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ بِحَيْثُ هُمْ متمكنون مِنْهُمْ إِذَا أُمِرُوا بِضَرْبِ رِقَابِهِمْ. حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ: أَيْ أَكْثَرْتُمُ الْقَتْلَ فِيهِمْ، وَهَذِهِ غَايَةٌ لِلضَّرْبِ، فَإِذَا وَقَعَ الْإِثْخَانُ وَتَمَكَّنُوا مِنْ أَخْذِ مَنْ لَمْ يُقْتَلْ وَشَدُّوا وَثَاقَ الْأَسْرَى، فَإِمَّا مَنًّا بِالْإِطْلَاقِ، وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها: أَيْ أَثْقَالَهَا وَآلَاتِهَا. وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ:
وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا رِمَاحًا طِوَالًا وَخَيْلًا ذُكُورًا
أَنْشَدَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ لِعَمْرٍو هَذَا، وَأَنْشَدَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لِلْأَعْشَى. وَقِيلَ: الْأَوْزَارُ هُنَا:
الْآثَامُ، لِأَنَّ الْحَرْبَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِيهَا آثَامٌ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَهَذِهِ الْغَايَةُ. قَالَ مُجَاهِدٌ:
حَتَّى ينزل عيسى بن مَرْيَمَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حَتَّى يُسْلِمَ الْجَمِيعُ وَقِيلَ: حَتَّى تَقْتُلُوهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّهَا اسْتِعَارَةٌ يُرَادُ بِهَا الْتِزَامُ الْأَمْرِ أَبَدًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْحَرْبَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ لَا يَضِيعُ أَوْزَارَهَا، فَجَاءَ هَذِهِ، كَمَا تَقُولُ: أَنَا أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّمَا تُرِيدُ أَنَّكَ تَفْعَلُهُ دَائِمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَسُمِّيَتْ، يَعْنِي آلَاتِ الْحَرْبِ مِنَ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، أَوْزَارَهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهَا بُدٌّ مِنْ جَرِّهَا، فَكَأَنَّهَا تَحْمِلُهَا وَتَسْتَقِلُّ بِهَا فَإِذَا انْقَضَتْ، فَكَأَنَّهَا وَضَعَتْهَا. وَقِيلَ: أَوْزَارَهَا: آثَامَهَا، يَعْنِي حَتَّى يَتْرُكَ أَهْلُ الْحَرْبِ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، شِرْكَهُمْ وَمَعَاصِيَهُمْ، بِأَنْ يُسْلِمُوا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ضَرْبَ الرِّقَابِ، وَهُوَ الْقَتْلُ مُغَيَّا بِشَدِّ الْوَثَاقِ وَقْتَ حُصُولِ الْإِثْخَانِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ، أَيْ بَعْدَ الشَّدِّ، وَإِمَّا فِداءً، حَالَتَانِ لِلْمَأْسُورِ، إِمَّا أَنْ يُمَنَّ عَلَيْهِ بِالْإِطْلَاقِ، كَمَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلَاقِ
(١) سورة الشورى: ٤٢/ ٣٠.
(٢) سورة الأنفال: ٨/ ١٢.
460
ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ الْحَنَفِيَّ، وَإِمَّا أَنْ يُفْدَى، كَمَا
رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ فُودِيَ مِنْهُ رَجُلَانِ مِنَ الْكُفَّارِ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ مُعَارِضٌ ظَاهِرُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «١».
فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَمُجَاهِدٌ، إِلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ، وَأَنَّ الْأَسْرَ وَالْمَنَّ وَالْفِدَاءَ مُرْتَفِعٌ، فَإِنْ وَقَعَ أَسِيرٌ قُتِلَ وَلَا بُدَّ إِلَّا أَنْ يُسْلِمَ. وروي نحوه عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، إِلَى أَنَّ هَذِهِ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ تِلْكَ، وَالْمَنَّ وَالْفِدَاءَ ثَابِتٌ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يُقْتَلُ الْأَسِيرُ إِلَّا فِي الْحَرْبِ، يَهِيبُ بِذَلِكَ عَلَى الْعَدُوِّ. وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِيهِمُ الْمَنُّ وَالْفِدَاءُ وَعُبَّادَ الْأَوْثَانِ، لَيْسَ فِيهِمْ إِلَّا الْقَتْلُ، فَخَصَّصُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وَخُصِّصَ مِنَ الْكُفَّارِ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْيَوْمَ:
فَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِمَامَ يُخَيَّرُ فِي الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْفِدَاءِ وَالْمَنِّ وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَفِي ضَرْبِ الْجِزْيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِمَّا فِداءً، يَجُوزُ فِدَاؤُهُ بِالْمَالِ وَبِمَنْ أُسِرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يُفْدَى بِالْمَالِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: فَشِدُّوا، بِكَسْرِ الشِّينِ، وَالْجُمْهُورُ: بِالضَّمِّ. وَالْوَثَاقُ: بِفَتْحِ الْوَاوِ، وَفِيهِ لُغَةٌ الْوِثَاقُ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَا يُوثَقُ بِهِ، وَانْتَصَبَ مَنًّا وَفِدَاءً بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يُقَدَّرُ مِنْ لَفْظِهِمَا، أَيْ فَإِمَّا تَمُنُّونَ مَنًّا، وَإِمَّا تَفْدُونَ فِدَاءً، وَهُوَ فِعْلٌ يَجِبُ إِضْمَارُهُ، لِأَنَّ الْمَصْدَرَ جَاءَ تَفْصِيلَ عَاقِبَةٍ، فَعَامِلُهُ مِمَّا يَجِبُ إِضْمَارُهُ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَأَجْهَدَنَّ فَإِمَّا دَرْءَ وَاقِعَةٍ تُخْشَى وَإِمَّا بُلُوغَ السُّؤْلِ وَالْأَمَلِ
أَيْ: فَإِمَّا أَدْرَأُ دَرْأَ وَاقِعَةٍ، وَإِمَّا أَبْلُغُ بُلُوغَ السُّؤْلِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَفْعُولَيْنِ، أَيْ أَدُّوهُمْ مَنًّا وَاقْبَلُوا، وَلَيْسَ إِعْرَابٌ نَحْوِيٌّ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي رِوَايَةِ شِبْلٍ: وَإِمَّا فِدًى بِالْقَصْرِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَجُوزُ قَصْرُهُ لِأَنَّهُ مَصْدَرُ فَادَيْتُهُ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، فَقَدْ حَكَى الْفَرَّاءُ فِيهِ أَرْبَعَ لُغَاتٍ: فِدَاءً لَكَ بِالْمَدِّ وَالْإِغْرَاءِ، وَفِدًى لَكَ بِالْكَسْرِ بِيَاءٍ وَالتَّنْوِينِ، وَفِدَى لَكَ بِالْقَصْرِ، وَفِدَاءٌ لَكَ. وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِمَّا مَنًّا: الْمَنُّ بِالْإِطْلَاقِ، كَمَا مَنَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى ثُمَامَةَ، وَعَلَى أَبِي عُرْوَةَ الْحَجَبِيِّ. وَفِي كِتَابِ الزمخشري: كما منّ
(١) سورة التوبة: ٩/ ٥
.
461
عَلَى أَبِي عُرْوَةَ الْحَجَبِيِّ، وَأُثَالٍ الْحَنَفِيِّ، فَغَيَّرَ الْكُنْيَةَ وَالِاسْمَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مِنَ النَّاسِخِ، لَا فِي أَصْلِ التَّصْنِيفِ. وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِالْمَنِّ: أَيْ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِتَرْكِ الْقَتْلِ وَيُسْتَرَقُّوا، أَوْ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ فَيُخَلُّوا لِقَبُولِهِمُ الْجِزْيَةَ وَكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها غَايَةٌ لِقَوْلِهِ: فَشُدُّوا الْوَثاقَ، لِأَنَّهُ قَدْ غَيَّا فَضَرْبَ الرِّقَابِ بِشَدِّ الْوَثَاقِ وَقْتَ الْإِثْخَانِ. فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُغَيَّا بِغَايَةٍ أُخْرَى لِتَدَافُعِ الْغَايَتَيْنِ، إِلَّا إِنْ كَانَتِ الثَّانِيَةُ مُبَيِّنَةً لِلْأُولَى وَمُؤَكِّدَةً، فَيَجُوزُ، لِأَنَّ شَدَّ الْوَثَاقِ لِلْأَسْرَى لَا يَكُونُ إِلَّا حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا. إِذَا فَسَّرْنَا ذَلِكَ بِانْتِفَاءِ شَوْكَةِ الْكُفَّارِ الْمَلْقِيِّينَ إِذْ ذَاكَ، وَيَكُونُ الْحَرْبُ الْمُرَادُ بِهَا الَّتِي تَكُونُ وَقْتَ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْكُفَّارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُغَيَّا مَحْذُوفًا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، التَّقْدِيرُ: الْحُكْمُ ذَلِكَ حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، أَيْ لَا يَبْقَى شَوْكَةٌ لَهُمْ. أَوْ كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّهَا اسْتِعَارَةٌ بِمَعْنَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيِ اصْنَعُوا ذَلِكَ دَائِمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: حَتَّى بِمَ تَعَلَّقَتْ؟ قُلْتُ: لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَتَعَلَّقَ إِمَّا بِالضَّرْبِ وَالشَّدِّ، أَوْ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ. فَالْمَعْنَى عَلَى كِلَا الْمُتَعَلِّقَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ عَلَى ذَلِكَ أَبَدًا إِلَى أَنْ يَكُونَ حَرْبٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ شَوْكَةٌ. وَقِيلَ: إِذَا نَزَلَ عِيسَى بن مَرْيَمَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا عُلِّقَ بِالضَّرْبِ وَالشَّدِّ. فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ وَيُؤْسَرُونَ حَتَّى تَضَعَ جِنْسُ الْحَرْبِ الْأَوْزَارَ، وَذَلِكَ حَتَّى لَا يَبْقَى شَوْكَةٌ لِلْمُشْرِكِينَ. وَإِذَا عُلِّقَ بِالْمَنِّ وَالْفِدَاءِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُمَنُّ عَلَيْهِمْ وَيُفَادُونَ حَتَّى تَضَعَ حَرْبُ بَدْرٍ أَوْزَارَهَا، إِلَى أَنْ تَنَاوَلَ الْمَنَّ وَالْفِدَاءَ، يَعْنِي: بِتَنَاوُلِ الْمَنِّ بِأَنْ يُتْرَكُوا عَنِ الْقَتْلِ وَيُسْتَرَقُّوا، أَيْ بِالتَّخْلِيَةِ بِضَرْبِ الْجِزْيَةِ بِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَبِالْعَذَابِ أَنْ يُفَادَى بِأَسَارَى الْمُشْرِكِينَ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ رَوَاهُ الطَّحَاوِيُّ مَذْهَبًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يَرَى فِدَاءَهُمْ بِمَالٍ وَلَا غَيْرِهِ، خِيفَةَ أَنْ يَعُودُوا حَدَبًا لِلْمُسْلِمِينَ. ذلِكَ: أَيِ الْأَمْرُ ذَلِكَ إِذَا فَعَلُوا.
ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ: أي لا أنتقم مِنْهُمْ بِبَعْضِ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ، مِنْ خَسْفٍ، أَوْ رَجْفَةٍ، أَوْ حَاصِبٍ، أَوْ غَرَقٍ، أَوْ مَوْتٍ جَارِفٍ. وَلكِنْ لِيَبْلُوَا: أَيْ وَلَكِنْ:
أَمَرَكُمْ بِالْقِتَالِ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ يَخْتَبِرَهُمْ بِبَعْضٍ، وَهُمُ الْكَافِرُونَ، بِأَنْ يُجَاهِدُوا وَيَصْبِرُوا، وَالْكَافِرِينَ بِالْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يُعَاجِلَهُمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ بِبَعْضِ مَا وَجَبَ لَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: قَاتَلُوا، بِفَتْحِ الْقَافِ وَالتَّاءِ، بِغَيْرِ أَلِفٍ وَقَتَادَةُ، وَالْأَعْرَجُ، وَالْأَعْمَشُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ: قُتِلُوا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالتَّاءُ خَفِيفَةٌ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ،
462
وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَعِيسَى، وَالْجَحْدَرِيُّ أَيْضًا: كَذَلِكَ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ: فَلَنْ يُضِلَّ مَبْنِيًّا للمفعول أَعْمالَهُمْ: رفع. وقرىء: يَضِلَّ، بِفَتْحِ الْيَاءِ، مِنْ ضَلَّ أَعْمَالُهُمْ: رُفِعَ.
سَيَهْدِيهِمْ: أَيْ إِلَى طَرِيقِ الْجَنَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَهْتَدِي أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى مَسَاكِنِهِمْ مِنْهَا لا يخطؤون، لِأَنَّهُمْ كَانُوا سُكَّانَهَا مُنْذُ خُلِقُوا، لَا يَسْتَبْدِلُوا عَلَيْهَا. وَرَوَى عِيَاضٌ عَنْ أَبِي عمرو: وَيُدْخِلُهُمُ، ويَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ «١»، وإِنَّما نُطْعِمُكُمْ «٢»، بِسُكُونِ لَامِ الْكَلِمَةِ. عَرَّفَها لَهُمْ، عَنْ مُقَاتِلٍ: أَنَّ الْمَلَكَ الَّذِي وُكِّلَ بِحِفْظِ عَمَلِهِ فِي الدُّنْيَا يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُعَرِّفُهُ كُلَّ شَيْءٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ بَيَّنَهَا لَهُمْ، أَيْ جَعَلَهُمْ يَعْرِفُونَ مَنَازِلَهُمْ مِنْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ لَأَحَدُكُمْ بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ أَعْرَفُ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: سَمَّاهَا لَهُمْ وَرَسَمَهَا كُلَّ مَنْزِلٍ بِصَاحِبِهِ، وَهَذَا نَحْوٌ مِنَ التَّعْرِيفِ.
يُقَالُ: عَرَفَ الدَّارَ وَأَرْفَهَا: أَيْ حَدَّدَهَا، فَجَنَّةُ كُلِّ أَحَدٍ مُفْرَزَةٌ عَنْ غَيْرِهَا. وَالْعُرْفُ وَالْأُرْفُ:
الْحُدُودُ. وَقِيلَ: شَرَّفَهَا لَهُمْ وَرَفَعَهَا وَعَلَّاهَا، وَهَذَا مِنَ الْأَعْرَافِ الَّتِي هِيَ الْجِبَالُ وَمَا أَشْبَهَهَا. وقال مؤرج وَغَيْرُهُ: طَيَّبَهَا، مَأْخُوذٌ مِنَ الْعَرْفِ، وَمِنْهُ: طَعَامٌ مُعَرَّفٌ: أَيْ مُطَيَّبٌ، أَيْ وَعَرَّفْتَ الْقِدْرَ طَيَّبْتَهَا بِالْمِلْحِ وَالتَّابِلِ.
إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ: أَيْ دِينَهُ، يَنْصُرْكُمْ: أَيْ عَلَى أَعْدَائِكُمْ، بِخَلْقِ الْقُوَّةِ فِيكُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَارِفِ. وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ: أَيْ فِي مَوَاطِنِ الْحَرْبِ، أَوْ عَلَى مَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيُثَبِّتْ: مُشَدَّدًا، وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: مُخَفَّفًا. فَتَعْساً لَهُمْ: قال ابن عباس: بعد الهم وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَالسُّدِّيُّ: حُزْنًا لَهُمْ وَالْحَسَنُ: شَتْمًا وَابْنُ زَيْدٍ: شَقَاءً وَالضَّحَّاكُ: رَغْمًا وَحَكَى النَّقَّاشُ: قُبْحًا. وَالَّذِينَ كَفَرُوا: مُبْتَدَأٌ، وَالْفَاءُ دَاخِلَةٌ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ وَتَقْدِيرُهُ: فَتَعِسَهُمُ اللَّهُ تَعْسًا. فَتَعْسًا: مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ الْفِعْلَ فِي قَوْلِهِ: وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مَنْصُوبًا عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: فَتَعْساً لَهُمْ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدًا جَدْعًا لَهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: على م عُطِفَ قَوْلُهُ: وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ؟ قُلْتُ: عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي نَصَبَ تَعْسًا، لِأَنَّ الْمَعْنَى: فَقَالَ تَعْسًا لَهُمْ، أَوْ فَقَضَى تَعْسًا لَهُمْ وَتَعْسًا لَهُمْ نَقِيضُ لَعًى لَهُ. انْتَهَى. وَإِضْمَارُ مَا هُوَ مِنْ لَفْظِ الْمَصْدَرِ أَوْلَى، لِأَنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى مَا حُذِفَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ فِي الدُّنْيَا الْقَتْلَ، وَفِي الْآخِرَةِ التَّرَدِّيَ فِي النَّارِ. انْتَهَى. وَفِي قوله:
(١) سورة التغابن: ٦٤/ ٩.
(٢) سورة الإنسان: ٧٦/ ٩.
463
فَتَعْساً لَهُمْ: أَيْ هَلَاكًا بِأَدَاةِ تَقْوِيَةٍ لِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ جَعَلَ لَهُمُ التَّثْبِيتَ، وَلِلْكُفَّارِ الْهَلَاكَ وَالْعَثْرَةَ.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ: يَشْمَلُ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ التَّوْحِيدِ، وَذِكْرِ الْبَعْثِ وَالْفَرَائِضِ وَالْحُدُودِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَضَمَّنَهُ الْقُرْآنُ. فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ: أي جعلها مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَا تَزْكُوا وَلَا يُعْتَدُّ بِهَا. دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: أَيْ أَفْسَدَ عَلَيْهِمْ مَا اخْتُصُّوا بِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَكُلُّ مَا كَانَ لَهُمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا. تِلْكَ الْعَاقِبَةُ وَالتَّدْمِيرَةُ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا دَمَّرَ وَالْهَلَكَةُ، لِأَنَّ التَّدْمِيرَ يَدُلُّ عَلَيْهَا، أَوِ السُّنَّةَ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا «١». وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ هُوَ الرَّاجِحُ، لِأَنَّ الْعَاقِبَةَ مَنْطُوقٌ بِهَا، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَى الْمَلْفُوظِ بِهِ، وَمَا بَعْدَهُ مَقُولُ الْقَوْلِ. ذلِكَ بِأَنَّ: ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى النَّصْرِ فِي اخْتِيَارِ جَمَاعَةٍ، وَإِلَى الْهَلَاكِ، كَمَا قَالَ: وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها، قَالَ ذَلِكَ الْهَلَاكُ الَّذِي جُعِلَ لِلْكُفَّارِ بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ بِسَبَبِ أَنَّ اللَّهِ مَوْلاهُمُ: أَيْ نَاصِرُهُمْ وَمُؤَيِّدُهُمْ، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا نَاصِرَ لَهُمْ، إِذِ اتَّخَذُوا آلِهَةً لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَتَرَكُوا عِبَادَةَ مَنْ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ، وَهُوَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَمِنْهَا انْتَزَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهُ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ حِينَ قَالَ: «قُولُوا اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ»، حِينَ قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ لَنَا عُزَّى، وَلَا عُزَّى لَكُمْ.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ، وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ، أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ، مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ، فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها، فَأَنَّى لَهُمْ إِذا
(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٣٨- ٦٢.
464
جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ.
يَتَمَتَّعُونَ: أَيْ يَنْتَفِعُونَ بِمَتَاعِ الدُّنْيَا أَيَّامًا قَلَائِلَ، وَيَأْكُلُونَ، غَافِلِينَ غَيْرَ مُفَكِّرِينَ فِي الْعَاقِبَةِ، كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ فِي مَسَارِحِهَا وَمَعَالِفِهَا، غَافِلَةً عَمَّا هِيَ بِصَدَدِهِ مِنَ النَّحْرِ وَالذَّبْحِ. وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، إِمَّا عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْمَصْدَرِ، كَمَا يَقُولُ سِيبَوَيْهِ، أَيْ يَأْكُلُونَهُ، أَيِ الْأَكْلُ مُشْبِهًا أَكْلَ الْأَنْعَامِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَكْلَهُمْ مُجَرَّدٌ مِنَ الْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، كَمَا يُقَالُ لِلْجَاهِلِ: يَعِيشُ كَمَا تَعِيشُ الْبَهِيمَةُ، لَا يُرِيدُ التَّشْبِيهَ فِي مُطْلَقِ الْعَيْشِ، وَلَكِنْ فِي لَازِمِهِ. وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ: أَيْ مَوْضِعُ إِقَامَةٍ. ثُمَّ ضَرَبَ تَعَالَى مَثَلًا لِمَكَّةَ وَالْقُرَى الْمُهْلَكَةِ عَلَى عِظَمِهَا، كَقَرْيَةِ عَادٍ وَغَيْرِهِمْ، وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا، وَأَسْنَدَ الْإِخْرَاجَ إِلَيْهَا مَجَازًا. وَالْمَعْنَى: كَانُوا سَبَبَ خُرُوجِكَ، وَذَلِكَ وَقْتَ هِجْرَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَكَمَا جَاءَ
فِي حَدِيثِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ: يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا إِذْ يُخْرِجُكَ قومك، قَالَ: أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنُسِبَ الْإِخْرَاجُ إِلَى الْقَرْيَةِ حَمْلًا عَلَى اللَّفْظِ، وَقَالَ: أَهْلَكْناهُمْ، حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى. انْتَهَى. وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَهْلَكْنَاهُمْ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْمُضَافِ إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُسْنِدَ إِلَيْهَا الْإِخْرَاجُ، بَلْ إِلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ فِي قَوْلِهِ:
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ، وَهُوَ صَحِيحٌ، لَكِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ حَمْلًا عَلَى اللَّفْظِ وَحَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى:
أَيْ أَنْ يَكُونَ فِي مَدْلُولٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ يَبْقَى كَأَيِّنْ مُفْلَتًا غَيْرَ مُحَدَّثٍ عَنْهُ بِشَيْءٍ، إِلَّا أَنَّ وَقْتَ إِهْلَاكِهِمْ كَأَنَّهُ قَالَ: فَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ إِذْ ذَاكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا أُخْرِجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْغَارِ، الْتَفَتَ إِلَى مَكَّةَ وَقَالَ: أَنْتِ أَحَبُّ بِلَادِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، وَأَنْتِ أحب بلاد الله إلى، فَلَوْ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُخْرِجُونِي، لَمْ أَخْرُجْ مِنْكِ، فَأَعْدَى الْأَعْدَاءِ مَنْ عَدَا عَلَى اللَّهِ فِي حَرَمِهِ، أَوْ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِهِ. وَقِيلَ: بِدُخُولِ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ الْآيَةَ
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَوَّلَ السُّورَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافُ هَذَا الْقَوْلِ.
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ: اسْتِفْهَامُ تَوْقِيفٍ وَتَقْرِيرٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، وَهِيَ مُعَادَلَةٌ بَيْنَ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ. قَالَ قَتَادَةُ: وَالْإِشَارَةُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ.
انْتَهَى. وَاللَّفْظُ عَامٌّ لِأَهْلِ الصِّنْفَيْنِ. وَمَعْنَى عَلَى بَيِّنَةٍ: وَاضِحَةٍ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْمُعْجِزُ وَسَائِرُ الْمُعْجِزَاتِ. كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ: وَهُوَ الشِّرْكُ وَالْكُفْرُ بِاللَّهِ وَعِبَادَةُ غَيْرِهِ. وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ: أَيْ شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ مِمَّنْ لَا يَكُونُ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَعَبَدُوا غَيْرَ خَالِقِهِمْ. وَالضَّمِيرُ فِي وَاتَّبَعُوا عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مِنْ، وقرىء أَمَنْ كَانَ بِغَيْرِ فَاءٍ. مَثَلُ الْجَنَّةِ: أَيْ صِفَةُ الْجَنَّةِ،
465
وَهُوَ مَرْفُوعٌ بِالِابْتِدَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: كَأَنَّهُ قَالَ: صِفَةُ الْجَنَّةِ، وَهُوَ مَا تَسْمَعُونَ. انْتَهَى. فَمَا تَسْمَعُونَ الْخَبَرَ، وَفِيهَا أَنَّهَا تَفْسِيرٌ لِتِلْكَ الصِّفَةِ، فَهُوَ اسْتِئْنَافُ إِخْبَارٍ عَنْ تِلْكَ الصِّفَةِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ مَثَلُ الْجَنَّةِ، وَقُدِّرَ الْخَبَرُ الْمَحْذُوفُ مُتَقَدِّمًا، ثُمَّ فُسِّرَ ذَلِكَ الَّذِي يُتْلَى. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَثَلُ الْجَنَّةِ ظَاهِرٌ فِي نَفْسِ مَنْ وَعَى هَذِهِ الْأَوْصَافَ. وَكَانَ ابْنَ عَطِيَّةَ قَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا:
وَيَظْهَرُ أَنَّ الْقَصْدَ بِالتَّمْثِيلِ هُوَ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي يَتَخَيَّلُهُ الْمَرْءُ عِنْدَ سَمَاعِهِ. فَهَهُنَا كَذَا، فَكَأَنَّهُ يَتَصَوَّرُ عِنْدَ ذَلِكَ اتِّبَاعًا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَذَلِكَ هُوَ مَثَلُ الْجَنَّةِ. قَالَ: وَعَلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ، يَعْنِي قَوْلَ النَّضْرِ وَقَوْلَ سِيبَوَيْهِ، وَمَا قَالَهُ هُوَ يَكُونُ قَبْلَ قَوْلِهِ: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: أَسَاكِنٌ؟ أَوْ أَهَؤُلَاءِ؟ إِشَارَةٌ إِلَى الْمُتَّقِينَ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ الْحَذْفُ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَثَلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَهِيَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ، كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ. وَيَجِيءُ قَوْلُهُ: فِيها أَنْهارٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ. انْتَهَى. وَلَمْ يَذْكُرِ الزَّمَخْشَرِيُّ غَيْرَ هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ: وَمَثَلُ الْجَنَّةِ: صِفَةُ الْجَنَّةِ الْعَجِيبَةِ الشَّأْنِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُ مَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ. وَقَوْلُهُ: فِيها أَنْهارٌ، فِي حُكْمِ الصِّلَةِ، كَالتَّكْرِيرِ لَهَا. أَلَا تَرَى إِلَى سِرِّ قَوْلِهِ: الَّتِي فِيهَا أَنْهَارٌ؟ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَإٍ مَحْذُوفٍ هِيَ: فِيهَا أَنْهَارٌ، كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: وَمَا مِثْلُهَا؟ فَقِيلَ: فِيهَا أَنْهَارٌ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيْضًا: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ؟ قَالَ: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ. قُلْتُ: هُوَ كَلَامٌ فِي صُورَةِ الْإِثْبَاتِ، وَمَعْنَاهُ النَّفْيُ وَالْإِنْكَارُ، لِانْطِوَائِهِمْ تَحْتَ كَلَامٍ مُصَدَّرٍ بِحَرْفِ الْإِنْكَارِ، وَدُخُولِهِ فِي حَيِّزِهِ، وَانْخِرَاطِهِ فِي مَسْلَكِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ:
مَثَلُ الْجَنَّةِ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ، أَيْ كَمَثَلِ جَزَاءِ مَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ عَرِيَ مِنْ حَرْفِ الْإِنْكَارِ؟ وَمَا فَائِدَةُ التَّعْرِيَةِ؟ قُلْتُ: تَعْرِيَتُهُ مِنْ حَرْفِ الْإِنْكَارِ فِيهَا زِيَادَةُ تَصْوِيرٍ لِمُكَابَرَةِ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْمُسْتَمْسِكِ بِالْبَيِّنَةِ وَالتَّابِعِ لِهَوَاهُ، وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُثْبِتُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْجَنَّةِ الَّتِي تَجْرِي فِيهَا تِلْكَ الْأَنْهَارُ، وَبَيْنَ النَّارِ الَّتِي يُسْقَى أَهْلُهَا الْحَمِيمَ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ:
أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الْكِرَامَ وَإِنْ أَوْرِثْ ذَوْدًا شَصَائِصًا نَبْلَا
هُوَ كَلَامٌ مُنْكِرٌ لِلْفَرَحِ بِرَزِيَّةِ الْكِرَامِ وَوِرَاثَةِ الذَّوْدِ، مَعَ تعريته من حرف الإنكار، لِانْطِوَائِهِ تَحْتَ حُكْمِ مَنْ قَالَ: أَتَفْرَحُ بِمَوْتِ أَخِيكَ، وبوارثة إِبِلِهِ؟ وَالَّذِي طُرِحَ لِأَجْلِهِ حَرْفُ
466
الْإِنْكَارِ إِرَادَةُ أَنْ يُصَوِّرَ قبح ما أذن بِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: نَعَمْ مِثْلِي يَفْرَحُ بِمَرْزَأَةِ الْكِرَامِ، وَبِأَنْ يَسْتَبْدِلَ مِنْهُمْ ذَوْدًا يَقِلُّ طَائِلُهُ، وَهُوَ مِنَ التَّسْلِيمِ الَّذِي تَحْتَهُ كُلُّ إِنْكَارٍ. انْتَهَى. وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا الِاتِّفَاقُ عَلَى إِعْرَابِ: مَثَلُ الْجَنَّةِ مُبْتَدَأٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْخَبَرِ، فَقِيلَ: هُوَ مَذْكُورٌ، وَهُوَ: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ. وَقِيلَ: مَحْذُوفٌ، فَقِيلَ: مُقَدَّرٌ قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ.
وَقِيلَ: بَعْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُ النَّضْرِ وَابْنِ عَطِيَّةَ عَلَى اخْتِلَافِ التَّقْدِيرِ. وَلَمَّا بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي الِاهْتِدَاءِ وَالضَّلَالِ، بَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فيما يؤولان إِلَيْهِ. وَكَمَا قَدَّمَ مَنْ عَلَى بَيِّنَةٍ، عَلَى مَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، قَدَّمَ حَالَهُ عَلَى حَالِهِ.
وَقَرَأَ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَهْلِ مَكَّةَ: آسِنٌ، عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ، مِنْ أسن، بفتح السين وقرىء:
غَيْرِ يَاسِنٍ بِالْيَاءِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَذَلِكَ عَلَى تَخْفِيفِ الْهَمْزِ. لَمْ يَتَغَيَّرْ، وغيره.
ولَذَّةٍ: تَأْنِيثَ لَذَّ، وَهُوَ اللَّذِيذُ، وَمَصْدَرٌ نُعِتَ بِهِ، فَالْجُمْهُورُ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لخمر، وقرىء بالرفع صفة لأنهار، وَبِالنَّصْبِ: أَيْ لِأَجْلِ لَذَّةٍ، فَهُوَ مَفْعُولٌ لَهُ. مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بُطُونِ النَّحْلِ. قِيلَ: فَيُخَالِطَهُ الشَّمْعُ وَغَيْرُهُ، وَوَصَفَهُ بِمُصَفًّى لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْعَسَلِ التَّذْكِيرُ، وَهُوَ مِمَّا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. وَعَنْ كَعْبٍ: أَنَّ النِّيلَ وَدِجْلَةَ وَالْفُرَاتَ وَجَيْحَانَ، تَكُونُ هَذِهِ الْأَنْهَارُ فِي الْجَنَّةِ. وَاخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِ كُلٍّ، فَهُوَ مِنْهَا لِمَاذَا يكون ينزل، وبدىء مِنْ هَذِهِ الْأَنْهَارِ بِالْمَاءِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي الْمَشْرُوبَاتِ، ثُمَّ بِاللَّبَنِ، إِذْ كَانَ يَجْرِي مَجْرَى الطُّعُومِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَقْوَاتِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ بِالْخَمْرِ، لِأَنَّهُ إِذَا حَصَلَ الرِّيُّ وَالْمَطْعُومُ تَشَوَّقَتِ النَّفْسُ إِلَى مَا تَلْتَذُّ بِهِ، ثُمَّ بِالْعَسَلِ، لِأَنَّ فِيهِ الشِّفَاءَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا يَعْرِضُ مِنَ الْمَشْرُوبِ وَالْمَطْعُومِ، فَهُوَ مُتَأَخِّرٌ فِي الْهَيْئَةِ.
وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَقِيلَ: الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفٌ، أَيْ أَنْوَاعٌ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ، وَقَدَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: زَوْجَانِ. وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ: لِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ، أَوْ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ بِنَعِيمِ مَغْفِرَةٍ، إِذِ الْمَغْفِرَةُ سَبَبُ التَّنْعِيمِ. وَسُقُوا: عَائِدٌ عَلَى مَعْنَى مِنْ، وَهُوَ خَالِدٌ عَلَى اللَّفْظِ وَكَذَا: خَرَجُوا: عَلَى مَعْنَى مَنْ يَسْتَمِعُ. كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَحْضُرُونَ عِنْدَ الرَّسُولِ وَيَسْتَمِعُونَ كَلَامَهُ وَتِلَاوَتَهُ، فَإِذَا خَرَجُوا، قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَهُمُ السَّامِعُونَ كَلَامَ الرَّسُولِ حَقِيقَةً الْوَاعُونَ لَهُ: مَاذَا قالَ آنِفاً؟ أَيِ السَّاعَةَ، وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْهُزْءِ وَالِاسْتِخْفَافِ، أَيْ لَمْ نَفْهَمْ مَا يَقُولُ، وَلَمْ نَدْرِ مَا نَفْعُ ذَلِكَ.
وَمِمَّنْ سَأَلُوهُ: ابْنُ مَسْعُودٍ. وَآنِفًا: حَالٌ أَيْ مُبْتَدَأٌ، أَيْ: مَا الْقَوْلُ الَّذِي ائْتَنَفَهُ قَبْلَ انْفِصَالِهِ عَنْهُ؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: آنِفًا، عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ وَابْنُ كَثِيرٍ: عَلَى وَزْنِ فَعِلٍ. وَقَالَ
467
الزَّمَخْشَرِيُّ: وَآنِفًا نُصِبَ عَلَى الظَّرْفِ. انْتَهَى. وَقَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِالسَّاعَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: آنِفًا، مَعْنَاهُ: السَّاعَةُ الْمَاضِيَةُ الْقَرِيبَةُ مِنَّا، وَهَذَا تَفْسِيرٌ بِالْمَعْنَى. انْتَهَى. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِظَرْفٍ، وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ النُّحَاةِ عَدَّهُ فِي الظُّرُوفِ.
وَالضَّمِيرُ فِي زادَهُمْ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، كَمَا أَظْهَرَهُ قَوْلُهُ: طَبَعَ اللَّهُ، إِذْ هُوَ مُقَابِلُهُمْ، وَكَمَا هُوَ فِي: وَآتاهُمْ وَالزِّيَادَةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَكُونُ بِزِيَادَةِ التَّفْهِيمِ وَالْأَدِلَّةِ، أَوْ بِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِخْبَارِ، فَيَزِيدُ الْمَهْدِيُّ لِزِيَادَةِ عِلْمِ ذَلِكَ وَالْإِيمَانِ بِهِ. قِيلَ: وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ عَلَى قَوْلِ الْمُنَافِقِينَ وَاضْطِرَابِهِمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْجَبُ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَيَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى إِيمَانِهِ وَيَزِيدُ نُصْرَةً فِي دِينِهِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى قَوْلِ الرَّسُولِ وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ: أَيْ أَعْطَاهُمْ، أَيْ جَعَلَهُمْ مُتَّقِينَ لَهُ فَتَقْوَاهُمْ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ.
أَنْ تَأْتِيَهُمْ: بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ السَّاعَةِ، وَالضَّمِيرُ لِلْمُنَافِقِينَ أَيِ الْأَمْرُ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِهِ انْتِظَارَ السَّاعَةِ، وَإِنْ كَانُوا هُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ يَنْتَظِرُونَ غَيْرَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ غَيْرُ مُرَاعًى، لِأَنَّهُ بَاطِلٌ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ الرَّوَّاسِيُّ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ: أَنْ تَأْتِهِمْ عَلَى الشَّرْطِ، وَجَوَابُهُ: فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها، وَهَذَا غَيْرُ مَشْكُوكٍ فِيهِ، لِأَنَّهَا آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ. لَكِنْ خُوطِبُوا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّكِّ، وَمَعْنَاهُ: إِنْ شَكَكْتُمْ فِي إِثْبَاتِهَا فَقَدْ جَاءَ أَعْلَامُهَا فَالشَّكُّ رَاجِعٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ الشَّاكِّينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا جَزَاءُ الشَّرْطِ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُمْ:
فَأَنَّى لَهُمْ، وَمَعْنَاهُ: أَنْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ، فَكَيْفَ لَهُمْ ذِكْرَاهُمْ، أَيْ تَذَكُّرُهُمْ وَاتِّعَاظُهُمْ؟ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ يَعْنِي لَا تَنْفَعُهُمُ الذِّكْرَى حِينَئِذٍ لِقَوْلِهِ: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وأَنَّى لَهُ الذِّكْرى «١». فَإِنْ قُلْتَ: بِمَ يَتَّصِلُ قَوْلُهُ، وَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ؟ قُلْتُ: بِإِتْيَانِ السَّاعَةِ اتِّصَالَ الْعِلَّةِ بِالْمَعْلُولِ كَقَوْلِكَ: إِنْ أَكْرَمَنِي زَيْدٌ فَأَنَا حَقِيقٌ بِالْإِكْرَامِ أُكْرِمْهُ. وَقَرَأَ الْجَعْفِيُّ، وَهَارُونَ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: بَغْتَةً، بفتح العين وَشَدِّ التَّاءِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ:
وَهِيَ صِفَةٌ، وَانْتِصَابُهَا عَلَى الْحَالِ لَا نَظِيرَ لَهَا فِي الْمَصَادِرِ وَلَا فِي الصِّفَاتِ، بَلْ فِي الْأَسْمَاءِ نَحْوُ: الْحُرِّيَّةِ، وَهُوَ اسْمُ جَمَاعَةٍ، وَالسَّرِيَّةُ اسْمُ مَكَانٍ. انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ الْحَاجِّ، مِنْ أَصْحَابِ الْأُسْتَاذِ أَبِي علي الشلوبين، فِي (كِتَابِ الْمَصَادِرِ) عَلَى أَبِي عَمْرٍو: أَنْ يَكُونَ الصَّوَابُ بَغَتَةً، بِفَتْحِ الْغَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَشْدِيدٍ، كَقِرَاءَةِ الْحَسَنِ فِيمَا تَقَدَّمَ. انْتَهَى. وَهَذَا عَلَى عَادَتِهِ فِي تغليظ الرواية.
(١) سورة الفجر: ٨٩/ ٢٣. [.....]
468
فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها: أَيْ عَلَامَاتُهَا، فَيَنْبَغِي الِاسْتِعْدَادُ لَهَا. وَمِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ هُوَ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ».
وَقَالَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَكَفَرَسَيْ رِهَانٍ».
وَقِيلَ: مِنْهَا الدُّخَانُ وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ.
وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: كَثْرَةُ الْمَالِ، وَالتِّجَارَةِ، وَشَهَادَةِ الزُّورِ، وَقَطْعِ الْأَرْحَامِ، وَقِلَّةِ الْكِرَامِ، وَكَثْرَةِ اللِّئَامِ. فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى: فَكَيْفَ لَهُمُ الذِّكْرَى وَالْعَمَلُ بِهَا إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ؟ أَيْ قَدْ فَاتَهَا ذَلِكَ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدَأُ مَحْذُوفًا، أَيْ:
فَأَنَّى لَهُمُ الْخَلَاصُ إِذَا جَاءَتْهُمُ الذِّكْرَى بِمَا كَانُوا يُخْبَرُونَ بِهِ فَيُكَذِّبُونَ بِهِ بِتَوَاصُلِهِ بِالْعَذَابِ؟
ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْمَعْنَى: دُمْ عَلَى عَمَلِكَ بِتَوْحِيدٍ. وَاحْتُجَّ بِهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ الْعِلْمُ وَالنَّظَرُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْإِقْرَارِ.
وَفِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّوَاضُعِ وَهَضْمِ النَّفْسِ، إِذْ أَمَرَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ، وَمَعَ غَيْرِهِ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ.
مُتَقَلَّبَكُمْ: مُتَصَرَّفَكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا. وَمَثْواكُمْ: إِقَامَتَكُمْ فِي قُبُورِكُمْ وَفِي آخِرَتِكُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُتَقَلَّبَكُمْ فِي أَصْلَابِ الْآبَاءِ إِلَى أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ، وَمَثْوَاكُمْ: إِقَامَتَكُمْ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ. مُتَقَلَّبَكُمْ: تَصَرُّفَكُمْ فِي يَقَظَتِكُمْ، وَمَثْوَاكُمْ: مَنَامَكُمْ.
وَقِيلَ: مُتَقَلَّبَكُمْ فِي مَعَائِشِكُمْ وَمَتَاجِرِكُمْ، وَمَثْوَاكُمْ حَيْثُ تُسْتَفَزُّونَ مِنْ مَنَازِلِكُمْ. وَقِيلَ:
مُتَقَلَّبَكُمْ بِالتَّاءِ، وَابْنُ عَبَّاسٍ بِالنُّونِ.
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ، طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ، أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها، إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ، فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ، ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ.
كَانَ الْمُؤْمِنُونَ حَرِيصِينَ عَلَى ظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ وَتَمَنِّي قَتْلِ الْعَدُوِّ، وَكَانُوا يَسْتَأْنِسُونَ بِالْوَحْيِ، وَيَسْتَوْحِشُونَ إِذَا أَبْطَأَ. وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ ذَلِكَ بَابًا وَمَضْرُوبَةً لَا يُتَعَدَّى. فَمَدَحَ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ بِطَلَبِهِمْ إِنْزَالَ سُورَةٍ، وَالْمَعْنَى تَتَضَمَّنُ أَمْرَنَا بِمُجَاهَدَةِ
469
الْعَدُوِّ، وَفَضْحِ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ظَانِّي ذَلِكَ هُمْ خُلَّصٌ فِي إِيمَانِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَانُوا يَدَّعُونَ الْحِرْصَ عَلَى الْجِهَادِ، وَيَتَمَنَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَيَقُولُونَ: لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فِي مَعْنَى الْجِهَادِ. فَإِذا أُنْزِلَتْ، وَأُمِرُوا فِيهَا بما ثمنوا وَحَرَصُوا عَلَيْهِ، كَاعُوا وَشَقَّ عَلَيْهِمْ وَسَقَطُوا فِي أَيْدِيهِمْ، كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ «١». انْتَهَى وَفِيهِ تَخْوِيفٌ لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ ولَوْلا: بِمَعْنَى هَلَّا وَعَنْ أَبِي مَالِكٍ: لَا زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ نُزِّلَتْ، وَهَذَا لَيْسَ بشيء. وقرىء: فَإِذَا نَزَلَتْ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: سُورَةً مُحْكَمَةً، بنصبهما، ومرفوع نزلت بضم، وَسُورَةً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ هُوَ وَابْنُ عُمَرَ: وَذُكِرَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، أَيِ اللَّهُ. فِيهَا الْقِتالُ وَنَصَبَ. الْجُمْهُورُ: بِرَفْعِ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَبِنَاءُ وَذُكِرَ لِلْمَفْعُولِ، وَالْقِتَالُ رُفِعَ بِهِ، وَإِحْكَامُهَا كَوْنُهَا لَا تُنْسَخُ. قَالَ قَتَادَةُ: كُلُّ سُورَةٍ فِيهَا الْقِتَالُ، فَهِيَ مَحْكَمَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، لَا بِخُصُوصِيَّةِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْقِتَالَ نَسَخَ مَا كَانَ مِنَ الْمُهَادَنَةِ وَالصُّلْحِ، وَهُوَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: مُحْكَمَةٌ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقِيلَ: مُحْكَمَةٌ أُرِيدَتْ مَدْلُولَاتُ أَلْفَاظِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ دُونَ الْمُتَشَابِهِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْمَجَازُ، نَحْوُ قَوْلِهِ: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «٢»، فِي جَنْبِ اللَّهِ «٣»، فَضَرْبَ الرِّقابِ.
رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ: أَيْ تَشْخَصُ أَبْصَارُهُمْ جُبْنًا وَهَلَعًا. نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ: أَيْ نَظَرًا كَمَا يَنْظُرُ مَنْ أَصَابَتْهُ الْغَشْيَةُ مِنْ أَجْلِ حُلُولِ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَهُوَ شُخُوصُ الْبَصَرِ إِلَى الرَّسُولِ مِنْ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ. وَقِيلَ:
مِنْ خَشْيَةِ الْفَضِيحَةِ، فَإِنَّهُمْ إِنْ يُخَالِفُوا عَنِ الْقِتَالِ افْتَضَحُوا وَبَانَ نِفَاقُهُمْ. وَأَوْلَى لَهُمْ: تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَأَنَّهُ قَالَ: الْعِقَابُ أَوْلَى لَهُمْ. وَقِيلَ: وَهُمُ الْمَكْرُوهُ، وَأَوْلَى وَزْنُهَا أَفْعَلُ أَوْ أَفْلَعُ عَلَى الِاخْتِلَافِ، لِأَنَّ الِاسْتِفْعَالَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْمُفْرَدَاتِ.
فَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ: إِنَّهُ اسْمٌ يَكُونُ مُبْتَدَأً، وَالْخَبَرُ لَهُمْ. وَقِيلَ: أَوْلَى مُبْتَدَأٌ، وَلَهُمْ مِنْ صِلَتِهِ وَطَاعَةٌ خَبَرٌ وَكَأَنَّ اللَّامُ بِمَعْنَى الْبَاءِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَأَوْلَى بِهِمْ طَاعَةٌ. وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الزَّمَخْشَرِيُّ لِإِعْرَابِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَلِيَهُ الْمَكْرُوهُ. وَعَلَى قَوْلِ الْأَصْمَعِيِّ: أَنَّهُ فِعْلٌ يَكُونُ فَاعِلُهُ مُضْمَرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى. وَأُضْمِرَ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَأَنَّهُ قَالَ: قارب لهم هو،
(١) سورة النساء: ٤/ ٧٧.
(٢) سورة طه: ٢٠/ ٥.
(٣) سورة الزمر: ٣٩/ ٥٦.
470
أَيِ الْهَلَاكِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَشْهُورُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ أَوْلَى لَكَ فَقَطْ عَلَى جِهَةِ الْحَذْفِ وَالِاخْتِصَارِ، لِمَا مَعَهَا مِنَ الْقُوَّةِ، فَيَقُولُ، عَلَى جِهَةِ الزَّجْرِ وَالتَّوَعُّدِ: أَوْلَى لَكَ يَا فُلَانُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: أَوْلى لَكَ فَأَوْلى «١». وَقَوْلُ الصِّدِّيقِ لِلْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَوْلَى لَكَ انْتَهَى.
وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ مَحْذُوفٌ مِنْهُ أَحَدُ الْجُزْأَيْنِ، إِمَّا الْخَبَرُ وَتَقْدِيرُهُ: أَمْثَلُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ وَإِمَّا الْمُبْتَدَأُ وَتَقْدِيرُهُ: الْأَمْرُ أَوْ أَمَرْنَا طَاعَةً، أَيِ الْأَمْرُ الْمُرْضِيِّ لِلَّهِ طَاعَةً. وَقِيلَ: هِيَ حِكَايَةُ قَوْلِهِمْ، أَيْ قَالُوا طَاعَةً، وَيَشْهَدُ لَهُ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ يَقُولُونَ: طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، وَقَوْلُهُمْ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الْهَزْءِ وَالْخَدِيعَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْوَاقِفُ عَلَى: فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَالْمَعْنَى:
أَنَّ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الْخَدِيعَةِ. وَقِيلَ: طاعة صفة لسورة، أَيْ فَهِيَ طَاعَةٌ، أَيْ مُطَاعَةٌ.
وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِحَيْلُولَةِ الْفَصْلِ لِكَثِيرٍ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ. فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ:
أَيْ جَدَّ، وَالْعَزْمُ: الْجِدُّ، وَهُوَ لِأَصْحَابِ الْأَمْرِ. وَاسْتُعِيرَ لِلْأَمْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «٢». وَقَالَ الشَّاعِرُ:
قَدْ جَدَّتْ بِهِمُ الْحَرْبُ فَجَدُّوا وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَوَابَ إِذَا قَوْلُهُ: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ، كَمَا تَقُولُ: إِذَا كَانَ الشِّتَاءُ، فَلَوْ جِئْتَنِي لَكَسَوْتُكَ. وَقِيلَ: الْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ هُوَ أَوْ نَحْوُهُ، قَالَهُ قَتَادَةُ.
وَمَنْ حَمَلَ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ، عَلَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ خَدِيعَةً قَدَّرْنَاهُ عَزَمَ الْأَمْرُ، فَاقْفَوْا وَتَقَاضَوْا، وَقَدَّرَهُ أَبُو الْبَقَاءِ فَأُصَدِّقُ، فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ فِيمَا زَعَمُوا مِنْ حِرْصِهِمْ عَلَى الْجِهَادِ، أَوْ فِي إِيمَانِهِمْ، وَوَاطَأَتْ قُلُوبُهُمْ فِيهِ أَلْسِنَتَهُمْ، أَوْ فِي قُلُوبِهِمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ. فَهَلْ عَسَيْتُمْ: الْتِفَاتٌ لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، أَقْبَلَ بِالْخِطَابِ عَلَيْهِمْ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ وَتَوْقِيفِهِمْ عَلَى سُوءِ مُرْتَكَبِهِمْ، وَعَسَى تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي لُغَتِهَا. وَفِي الْقِرَاءَةِ فِيهَا، إِذَا اتَّصَلَ بِهَا ضَمِيرُ الْخِطَابِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَاتِّصَالُ الضَّمِيرِ بِهَا لُغَةُ الْحِجَازِ، وَبَنُو تَمِيمٍ لَا يُلْحِقُونَ بِهَا الضَّمِيرَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ عَسَى يَتَّصِلُ بِهَا ضَمِيرُ الرَّفْعِ وَضَمِيرُ النَّصْبِ، وَأَنَّهَا لَا يَتَّصِلُ بِهَا ضَمِيرُ قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَسَى أَنْتَ تقوم، وعسى أن أقوم، فدون ما ذكرنا لك تَطْوِيلُ الَّذِي فِيهِ. انْتَهَى. وَلَا أَعْلَمَ أَحَدًا مِنْ نَقَلَةِ الْعَرَبِ ذَكَرَ انْفِصَالَ الضَّمِيرِ بَعْدَ عَسَى، وَفَصَلَ بَيْنَ عَسَى وَخَبَرِهَا بِالشَّرْطِ، وهو أن توليتم.
(١) سورة القيامة: ٧٥/ ٣٤.
(٢) سورة الشورى: ٤٢/ ٤٣.
471
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِنْ تَوَلَّيْتُمْ، وَمَعْنَاهُ إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَيْفَ رَأَيْتُمُ الْقَوْمَ حِينَ تَوَلَّوْا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ؟ أَلَمْ يَسْفِكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَقَطَّعُوا الْأَرْحَامَ، وَعَصَوُا الرَّحْمَنَ؟ يُشِيرُ إِلَى مَا جَرَى مِنَ الْفَتْرَةِ بَعْدَ زَمَانِ الرَّسُولِ. وَقَالَ كَعْبٌ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْكَلْبِيُّ: إِنْ تَوَلَّيْتُمْ، أَيْ أُمُورَ النَّاسِ مِنَ الْوِلَايَةِ وَيَشْهَدُ لَهَا قِرَاءَةُ وُلِّيتُمْ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ. وَعَلَى هَذَا قِيلَ: نَزَلَتْ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي أُمَيَّةَ.
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ تَوَلَّيْتُمْ» بِضَمِّ التَّاءِ وَالْوَاوِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَبِهَا قَرَأَ عَلِيٌّ
وَأُوَيْسٌ، أَيْ إِنْ وَلَّيْتُكُمْ وِلَايَةَ جَوْرٍ دَخَلْتُمْ إِلَى دُنْيَاهُمْ دُونَ إِمَامِ الْعَدْلِ. وَعَلَى مَعْنَى إِنْ تَوَلَّيْتُمْ بِالتَّعْذِيبِ وَالتَّنْكِيلِ وَإِقْفَالِ الْعَرَبِ فِي جَاهِلِيَّتِهَا وَسِيرَتِهَا مِنَ الْغَارَاتِ وَالثَّبَاتِ، فَإِنْ كَانَتْ ثَمَرَتُهَا الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنْ تَوَلَّاكُمُ النَّاسُ: وَكَلَكُمُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُنَافِقِينَ فِي أَمْرِ الْقِتَالِ، وَهُوَ الَّذِي سَبَقَتِ الْآيَاتُ فِيهِ، أَيْ إِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ فِي القتال.
وأَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِعَدَمِ مَعُونَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَإِذَا لَمْ تُعِينُوهُمْ قَطَعْتُمْ مَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ. فَالْآيَاتُ كُلُّهَا فِي الْمُنَافِقِينَ. وَهَذَا التَّوَقُّعُ الَّذِي فِي عَسَى لَيْسَ مَنْسُوبًا إِلَيْهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ عَرَفَ الْمُنَافِقِينَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: لَنَا عِلْمٌ مِنْ حَيْثُ ضَيَاعُهُمْ.
هَلْ يَتَوَقَّعُ مِنْكُمْ إِذَا أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْقِتَالِ أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا؟ وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُقَطِّعُوا، بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَأَبُو عَمْرٍو، فِي رِوَايَةٍ، وَسَلَّامٌ، وَيَعْقُوبُ، وَأَبَانٌ، وَعِصْمَةُ:
بِالتَّخْفِيفِ، مُضَارِعُ قَطَعَ وَالْحَسَنُ: وَتَقَطَّعُوا، بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْقَافِ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ أَرْحَامُكُمْ، لِأَنَّ تَقَطَّعَ لَازِمٌ. أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَرْضَى الْقُلُوبِ، فَأَصَمَّهُمْ عَنْ سَمَاعِ الْمَوْعِظَةِ، وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَعَنَهُمُ اللَّهُ لِإِفْسَادِهِمْ وَقَطْعِهِمُ الْأَرْحَامَ، فَمَنَعَهُمْ أَلْطَافَهُ، وَخَذَلَهُمْ حَتَّى عَمُوا. انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الِاعْتِزَالِ. وَجَاءَ التَّرْكِيبُ: فَأَصَمَّهُمْ، وَلَمْ يَأْتِ فَأَصَمَّ آذَانَهُمْ وَجَاءَ: وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، وَلَمْ يَأْتِ وَأَعْمَاهُمْ. قِيلَ: لِأَنَّ الْأُذُنَ لَوْ أَصَمَّتْ لَا تَسْمَعُ الْإِبْصَارَ، فَالْعَيْنُ لَهَا مَدْخَلٌ فِي الرُّؤْيَةِ، وَالْأُذُنُ لَهَا مَدْخَلٌ فِي السَّمْعِ. انْتَهَى. وَلِهَذَا جَاءَ: وَعَلى سَمْعِهِمْ «١»، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ «٢»، وَلَمْ يَأْتِ: وَعَلَى آذَانِهِمْ، وَلَا يَأْتِي: وَجَعَلَ لَكُمُ الْآذَانَ. وَحِينَ ذُكِرَ الْأُذُنُ، نُسِبَتْ إِلَيْهِ الْوَقْرُ، وَهُوَ دُونُ الصَّمَمِ، كَمَا قَالَ: وَفِي آذانِنا وَقْرٌ «٣».
(١) سورة البقرة: ٢/ ٧.
(٢) سورة النحل: ١٦/ ٧٨.
(٣) سورة فصلت: ٤١/ ٥.
472
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ: أَيْ يَتَصَفَّحُونَهُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالزَّوَاجِرِ وَوَعِيدِ الْعُصَاةِ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ تَوْبِيخِيٌّ وَتَوْقِيفِيٌّ عَلَى مُحَارِبِهِمْ. أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها: اسْتِعَارَةٌ لِلَّذِينَ مِنْهُمُ الْإِيمَانُ، وَأَمْ مُنْقَطِعَةٌ بِمَعْنَى بَلْ، وَالْهَمْزَةِ لِلتَّقْرِيرِ، وَلَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ قُلُوبَهُمْ مُقْفَلَةٌ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا ذِكْرٌ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَعْرِيفِ الْقُلُوبِ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهَا قُلُوبُ مَنْ ذُكِرَ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ صِفَةِ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا قَاسِيَةٌ. وَأَضَافَ الْأَقْفَالَ إِلَيْهَا، أَيِ الْأَقْفَالُ الْمُخْتَصَّةُ، أَوْ هِيَ أَقْفَالُ الْكُفْرِ الَّتِي اسْتُغْلِقَتْ، فلا تفتح. وقرىء: إِقْفَالُهَا، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَأَقْفُلُهَا بِالْجَمْعِ عَلَى أَفْعُلٍ. إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ، وَكَانُوا عَرَفُوا أَمْرَ الرَّسُولِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَتَبَيَّنَ لَهُمْ بِهَذَا الْوَجْهِ فَلَمَّا بَاشَرُوا أَمْرَهُ حَسَدُوهُ، فَارْتَدُّوا عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الْهَدْيِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: نَزَلَتْ فِي مُنَافِقِينَ كَانُوا أَسْلَمُوا، ثُمَّ مَاتَتْ قُلُوبُهُمْ. وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ دَخَلَ فِي ضِمْنِ لَفْظِهَا.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سَوَّلَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَوَّلَ لَهُمْ رُكُوبَ الْعَظَائِمِ، مِنَ السَّوْلِ، وَهُوَ الِاسْتِرْخَاءُ، وَقَدِ اشْتَقَّهُ مِنَ السُّؤْلِ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالتَّصْرِيفِ وَالِاشْتِقَاقِ جَمِيعًا. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: بِمَعْنَى وَلَا هُمْ مِنَ السَّوْلِ، وَهُوَ الِاسْتِرْخَاءُ وَالتَّدَلِّي. وقال غيره: سولهم: زجاهم. وَقَالَ ابْنُ بَحْرٍ: أَعْطَاهُمْ سُؤْلَهُمْ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَقَدِ اشْتَقَّهُ إِلَى آخِرِهِ، لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ السول أصله الهمزة.
واختلف الْمَادَّتَانِ، أَوْ عَيْنُ سَوَّلَ وَاوٌ، وَعَيْنُ السُّؤْلِ هَمْزَةٌ وَالسُّولُ لَهُ مَادَّتَانِ: إِحْدَاهُمَا الهمز، من سأل يسئل وَالثَّانِيَةُ الْوَاوُ، مِنْ سَالَ يُسَالُ. فَإِذَا كَانَ هَكَذَا، فَسَوَّلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْهَمْزِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَالتَّسْوِيلُ أَصْلُهُ مِنَ الْإِرْخَاءِ، وَمِنْهُ:
فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ «١». وَالسَّوْلُ: اسْتِرْخَاءُ الْبَطْنِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: سَوَّلَ لَهُمْ: أَيْ كَيْدَهُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ مُضَافٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَأَمْلى لَهُمْ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الشَّيْطَانِ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ، وَجَعَلَ وَعْدَهُ الْكَاذِبَ بِالْبَقَاءِ، كَالْإِبْقَاءِ. وَالْإِبْقَاءُ هُوَ الْبَقَاءُ مَلَاوَةً مِنَ الدَّهْرِ يَمُدُّ لَهُمْ فِي الْآمَالِ وَالْأَمَانِيِّ. قِيلَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُ أَمْلَى ضَمِيرًا يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ الْأَرْجَحُ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِمْلَاءِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ اللَّهِ. وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالْجَحْدَرِيُّ، وَشَيْبَةُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعِيسَى: وَأُمْلِيَ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، أَيْ أُمْهِلُوا وَمُدُّوا فِي عُمْرِهِمْ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَابْنُ هُرْمُزَ، وَالْأَعْمَشُ، وَسَلَّامٌ، وَيَعْقُوبُ: وَأُمْلِي بهمزة المتكلم
(١) سورة الأعراف: ٧/ ٢٢.
473
مُضَارِعَ أَمْلَى، أَيْ وَأَنَا أَنْظِرُهُمْ، كَقَوْلِهِ: أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ «١»، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا سَكَنَتْ مِنْهُ الْيَاءُ، كَمَا تَقُولُ فِي يَعِي بِسُكُونِ الْيَاءِ.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ. وَرُوِيَ أَنْ قَوْمًا مِنَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ كَانُوا يُعِينُونَ الْمُنَافِقِينَ فِي أَمْرِ الرَّسُولِ، وَالْخِلَافِ عَلَيْهِ بِنَصْرِهِ وَمُؤَازَرَتِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي قَالُوا لِلْمُنَافِقِينَ وَالَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ: هُمْ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَبَعْضُ الْأَمْرِ: قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ لَهُمْ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ «٢»، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: بَعْضُ الْأَمْرِ: التَّكْذِيبُ بِالرَّسُولِ، أَوْ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَوْ تَرْكُ الْقِتَالِ مَعَهُ.
وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْفَرِيقَيْنِ، الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، لِلْمُشْرِكِينَ: سَنُطِيعُكُمْ فِي التَّكَافُؤِ عَلَى عَدَاوَةِ الرَّسُولِ وَالْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ مَعَهُ، وَتَعَيَّنَ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ فِي بَعْضِ مَا يَأْسِرُونَ بِهِ، أَوْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ الَّذِي يُهِمُّكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَسْرَارَهُمْ، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَكَانَتْ أَسْرَارُهُمْ كَثِيرَةً.
وَابْنُ وَثَّابٍ، وَطَلْحَةُ، وَالْأَعْمَشُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ: بِكَسْرِهَا: وَهُوَ مَصْدَرٌ قَالُوا ذَلِكَ سِرًّا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَأَفْشَاهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنْ يُقَالَ:
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَسْرَارَهُمْ، مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُعَانِدِينَ مُكَابِرِينَ، وَكَانُوا يَعْرِفُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ. انْتَهَى.
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ: تَقَدَّمَ شَرْحُ: الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، وَمَبْلَغُهُمْ لِأَجْلِ الْقِتَالِ. وَتَقَدَّمَ قَوْلُ الْمُرْتَدِّينَ، وَمَا يَلْحَقُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ جَزَائِهِمْ عَلَى طَوَاعِيَةِ الْكَاذِبِينَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَتَقَدَّمَ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ فَجَاءَ هَذَا الِاسْتِفْهَامُ الَّذِي معناه التوقيت عَقِبَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ. فَقَالَ الطَّبَرِيُّ: فَكَيْفَ عِلْمُهُ بِهَا، أَيْ بِإِسْرَارِهِمْ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ؟
وَقِيلَ: فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ مَعَ اللَّهِ فِيمَا ارْتَكَبُوهُ مِنْ ذَلِكَ الْقَوْلِ؟ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: تَوَفَّاهُمْ، بِأَلِفٍ بَدَلَ التَّاءِ، فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا وَمُضَارِعًا حُذِفَتْ مِنْهُ التَّاءُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَقْتَ التَّوَفِّي هُوَ عِنْدَ الْمَوْتَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُتَوَفَّى أَحَدٌ عَلَى مَعْصِيَتِهِ إِلَّا تَضْرِبُ الْمَلَائِكَةُ فِي وَجْهِهِ وَفِي دُبُرِهِ. وَالْمَلَائِكَةُ: مَلَكُ الْمَوْتِ وَالْمَصْرُفُونَ مَعَهُ. وَقِيلَ: هُوَ وَقْتُ الْقِتَالِ نُصْرَةً لِلرَّسُولِ يَضْرِبُ وُجُوهَهُمْ أَنْ يَثْبُتُوا وَأَدْبَارَهُمْ: انهزموا. والملائكة ملائكة النَّصْرُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ يَضْرِبُونَ حَالٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقِيلَ: حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي تَوَفَّاهُمْ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
ذلِكَ: أَيْ ذَلِكَ الضَّرْبُ لِلْوُجُوهِ وَالْأَدْبَارِ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ: وَهُوَ الْكُفْرُ، أو
(١) سورة آل عمران: ٣/ ١٧٨.
(٢) سورة الحشر: ٥٩/ ١١.
474
كِتْمَانُ بَعْثِ الرَّسُولِ، أَوْ تَسْوِيلُ الشَّيْطَانِ، أَقْوَالٌ. وَالْمُتَّبِعُ الشَّيْءَ هُوَ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَيْهِ، فَنَاسَبَ ضَرْبَ الْمَلَائِكَةِ وَجْهَهُ. وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ: وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَاتِّبَاعُ دِينِهِ. وَالْكَافِرُ لِلشَّيْءِ مُتَوَلٍّ عَنْهُ، فَنَاسَبَ ضَرْبَ الْمَلَائِكَةِ دُبُرَهُ فَفِي ذَلِكَ مُقَابَلَةُ أَمْرَيْنِ بِأَمْرَيْنِ.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ، وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ، إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ، إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ، هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ.
إِخْرَاجُ أَضْغَانِهِمْ، وَهُوَ حُقُودُهَا: إِبْرَازُهَا لِلرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مِنْ رُؤْيَةِ الْبَصَرِ لِعَطْفِ الْعِرْفَانِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ الْقَلْبِ. وَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ فِي أَرَيْنَاكَهُمْ، وَهُوَ الْأَفْصَحُ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ الِانْفِصَالُ. وَفِي هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ تَقْرِيبٌ لِشُهْرَتِهِمْ، لَكِنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، إِبْقَاءً عَلَيْهِمْ وَعَلَى قَرَابَاتِهِمْ، وَاكْتِفَاءً مِنْهُمْ بِمَا يَتَظَاهَرُونَ بِهِ مِنِ اتِّبَاعِ الشَّرْعِ، وَإِنْ أَبْطَنُوا خِلَافَهُ. وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ: كَانُوا يَصْطَلِحُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ أَلْفَاظٍ يُخَاطِبُونَ بِهَا الرَّسُولَ، مِمَّا ظَاهِرُهُ حَسَنٌ وَيَعْنُونَ بِهِ الْقَبِيحَ، وَكَانُوا أَيْضًا يَصْدُرُ مِنْهُمُ الْكَلَامُ يُشْعِرُ بِالِاتِّبَاعِ، وَهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِمْ عِنْدَ النَّصْرِ: إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ «١»، وَغَيْرُ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِمْ: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ «٢»، وَقَوْلِهِ: إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ «٣». وَالظَّاهِرُ الْإِرَاءَةُ وَالْمَعْرِفَةُ بِالسِّيمَاءِ، وُجُودُ الْمَعْرِفَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِلَحْنِ الْقَوْلِ. وَاللَّامُ فِي: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ، لَامُ جَوَابِ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ: خِطَابٌ عَامٌّ يَشْمَلُ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ وَقِيلَ: خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَطْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ، ونبلوا: بالنون والواو
(١) سورة العنكبوت: ٢٩/ ١٠.
(٢) سورة المنافقون: ٦٣/ ٨.
(٣) سورة الأحزاب: ٣٣/ ١٣. [.....]
475
وَأَبُو بَكْرٍ: بِالْيَاءِ فِيهِنَّ وَأُوَيْسٌ، وَنَبْلَوْا: بِإِسْكَانِ الْوَاوِ وَبِالنُّونِ وَالْأَعْمَشُ: بِإِسْكَانِهَا وَبِالْيَاءِ، وَذَلِكَ عَلَى الْقَطْعِ، إِعْلَامًا بِأَنَّ ابْتِلَاءَهُ دَائِمٌ. وَمَعْنَى: حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ: أَيْ نَعْلَمَهُمْ مُجَاهِدِينَ قَدْ خَرَجَ جِهَادُهُمْ إِلَى الْوُجُودِ، وَبِأَنَّ مِسْكَهُمُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَوَابُهُمْ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: نَاسٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَتَبَيُّنُ هُدَاهُمْ: مَعْرِفَتُهُمْ بِالرَّسُولِ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَوْ مُنَافِقُونَ كَأَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ دَاخَلَ قُلُوبَهُمْ ثُمَّ نَافَقُوا وَالْمُطْعَمُونَ: سُفْرَةُ بَدْرٍ وَتَبَيَّنَ الْهُدَى:
وُجُودَهُ عِنْدَ الدَّاعِي إِلَيْهِ، أَوْ مُشَاعَةٌ فِي كُلِّ كَافِرٍ وَتَبَيَّنَ الْهُدَى مِنْ حَيْثُ كَانَ فِي نَفْسِهِ، أَقْوَالٌ. وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ: أَيِ الَّتِي كَانُوا يَرْجُونَ بِهَا انتفاعا، وأعمالهم الَّتِي كَانُوا يَكِيدُونَ بِهَا الرَّسُولَ وَدِينَ الْإِسْلَامِ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا:
قِيلَ نَزَلَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَسْلَمُوا وَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ: قَدْ آثَرْنَاكَ وَجِئْنَاكَ بِنُفُوسِنَا وَأَهْلِنَا، كَأَنَّهُمْ مَنُّوا بِذَلِكَ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَقَوْلُهُ: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا «١»، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ: وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بِالْمَنِّ بِالْإِسْلَامِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَعَنْهُ: بِالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ وَعَنْ حُذَيْفَةَ: بِالْكَبَائِرِ، وَقِيلَ:
بِالْعُجْبِ، فَإِنَّهُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ، كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ. وَعَنْ مُقَاتِلٍ: بِعِصْيَانِكُمْ لِلرَّسُولِ.
وَقِيلَ: أَعْمَالَكُمْ: صَدَقَاتِكُمْ بالمن والأذى. ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ: عَامٌّ فِي الْمُوجِبِ لِانْتِفَاءِ الْغُفْرَانِ، وَهُوَ وَفَاتُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ. وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْقَلِيبِ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم عن أَبِيهِ قَالَ: وَكَانَتْ لَهُ أَفْعَالُ بِرٍّ، فَمَا حَالُهُ؟
فَقَالَ: «فِي النَّارِ»، فَبَكَى عَدِيٌّ وَوَلَّى، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: «أَبِي وَأَبُوكَ وَأَبُو إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ فِي النَّارِ»، فَنَزَلَتْ.
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ: وَهُوَ الصُّلْحُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَتَدْعُوا، مُضَارِعَ دَعَا وَالسُّلَمِيُّ: بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، أَيْ تَفْتَرُوا وَالْجُمْهُورُ: إِلَى السَّلْمِ، بِفَتْحِ السِّينِ وَالْحَسَنُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَعِيسَى، وَطَلْحَةُ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ: بِكَسْرِهَا. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى السَّلَامِ فِي الْبَقَرَةِ فِي قَوْلِهِ: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً «٢» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
وقرىء: وَلَا تَدْعُوا مِنِ ادَّعَى الْقَوْمُ، وَتَدَاعَوْا إِذَا ادَّعَوْا، نَحْوُ قَوْلِكَ: ارْتَمَوُا الصَّيْدَ وَتَرَامَوْا.
انْتَهَى. وَالتِّلَاوَةُ بِغَيْرِ لَا، وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِلَفْظِ التِّلَاوَةِ فَيَقُولُ: وقرىء: وَتَدْعُوا مَعْطُوفٌ عَلَى تَهِنُوا، فَهُوَ مَجْزُومٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا بِإِضْمَارِ إِنْ. وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ: أَيِ الْأَعْلَيُونَ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ وَكَذَا: وَاللَّهُ مَعَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يكونا جملتي استئناف،
(١) سورة الحجرات: ٤٩/ ١٧.
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٠٨.
476
أَخْبَرَ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ، فَهُوَ إِخْبَارٌ بِمَغِيبٍ أَبْرَزَهُ الْوُجُودُ، ثُمَّ ارْتَقَى إِلَى رُتْبَةٍ أَعْلَى مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، وَهِيَ كَوْنُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَهُمْ. وَلَنْ يَتِرَكُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَنْ يَظْلِمَكُمْ وَقِيلَ: لَنْ يُعَرِّيَكُمْ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ وقيل: ولين يُنْقِصَكُمْ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَنْ يَتِرَكُمْ: مِنْ وَتَرْتَ الرَّجُلَ، إِذَا قَتَلْتَ لَهُ قَتِيلًا مِنْ وَلَدٍ أَوْ أَخٍ أَوْ حَمِيمٍ أَوْ قَرِيبٍ قَالَ: أَوْ ذَهَبْتَ بِمَالِهِ قَالَ: أَوْ حَرْبَتِهِ، وَحَقِيقَتُهُ أَفْرَدْتُهُ مِنْ قَرِيبِهِ أَوْ مَالِهِ مِنَ الْوَتْرِ وَهُوَ الْفَرْدُ. فَشَبَّهَ إِضَاعَةَ عَمَلِ الْعَامِلِ وَتَعْطِيلِ ثَوَابِهِ بِوَتْرِ الْوَاتِرِ، وَهُوَ مِنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَمِنْهُ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَكَأَنَّمَا وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ»
، أَيْ أَفْرَدَ عَنْهُمَا قَتْلًا وَنَهْبًا.
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ: وَهُوَ تَحْقِيرٌ لِأَثَرِ الدُّنْيَا، أَيْ فَلَا تَهِنُوا فِي الْجِهَادِ.
وَأَخْبَرَ عَنْهَا بِذَلِكَ، بِاعْتِبَارِ مَا يَخْتَصُّ بِهَا مِنْ ذَلِكَ وَأَمَّا مَا فِيهَا مِنَ الطَّاعَةِ وَأَمْرِ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ بِذَلِكَ. يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ: أَيْ ثَوَابَ أَعْمَالِكُمْ مِنَ الإيمان والتقوى، وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَيْ كَثِيرًا مِنْ أَمْوَالِكُمْ، إِنَّمَا يَسْأَلُكُمْ رُبْعَ الْعُشْرِ، فَطَيِّبُوا أَنْفُسَكُمْ. وَقِيلَ: لَا حَاجَةَ إِلَيْهَا، بَلْ يُرْجِعُ ثَوَابَ إِنْفَاقِكُمْ إِلَيْكُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا يَسْأَلُكُمْ أَمْوَالَهُ، لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لَهَا حَقِيقَةً، وَهُوَ الْمُنْعِمُ بِإِعْطَائِهَا. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي يَسْأَلُكُمْ لِلرَّسُولِ، أَيْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، كَمَا قَالَ: قُلْ مَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ «١».
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها جَمِيعًا فَيُحْفِكُمْ: أَيْ يُبَالِغُ فِي الْإِلْحَاحِ. تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ: أَيْ تَطْعَنُونَ عَلَى الرَّسُولِ وَتَضِيقُ صُدُورُكُمْ كَذَلِكَ، وَتُخْفُونَ دَيْنًا يَذْهَبُ بِأَمْوَالِكُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ جَزْمًا عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ، وَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ، أَوْ إِلَى الرَّسُولِ، أَوْ إِلَى الْبُخْلِ. وَقَرَأَ عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَيُخْرِجُ، بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ بِمَعْنَى: وَهُوَ يُخْرِجُ. وَحَكَاهَا أَبُو حَاتِمٍ، عَنْ عِيسَى وَفِي اللَّوَامِحِ عَنْ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: وَتَخْرُجُ، بِالتَّاءِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّ الرَّاءِ وَالْجِيمِ أَضْغَانُكُمْ:
بِالرَّفْعِ، بِمَعْنَى: وَهُوَ يَخْرُجُ أَوْ سَيَخْرُجُ أَضْغَانُكُمْ، رُفِعَ بِفِعْلِهِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَأَيُّوبُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ، وَالْيَمَانِيُّ: وَتَخْرُجُ، بِتَاءِ التَّأْنِيثِ مَفْتُوحَةً أَضْغَانُكُمْ: رُفِعَ بِهِ وَيَعْقُوبُ: وَنُخْرِجُ، بِالنُّونِ أَضْغَانُكُمْ: رَفْعًا، وهي مروية
(١) سورة ص: ٣٨/ ٨٦.
477
عَنْ عِيسَى، إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ الْجِيمَ بِإِضْمَارِ أَنْ، فَالْوَاوُ عَاطِفَةٌ عَلَى مَصْدَرٍ مُتَوَهَّمٍ، أَيْ يَكُفُّ بُخْلَكُمْ وَإِخْرَاجَ أَضْغَانِكُمْ. وَهَذَا الَّذِي خِيفَ أَنْ يَعْتَرِيَ الْمُؤْمِنِينَ، هُوَ الَّذِي تَقَرَّبَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ إِلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى قَتْلِهِ حِينَ قَالَهُ لَهُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَكْثَرَ عَلَيْنَا وَطَلَبَ مِنَّا الْأَمْوَالَ.
هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ: كرر هاء التَّنْبِيهَ تَوْكِيدًا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا التَّرْكِيبِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَؤُلَاءِ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى الَّذِينَ صِلَتُهُ تُدْعَوْنَ، أَيْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تُدْعَوْنَ، أَوْ أَنْتُمْ يَا مُخَاطَبُونَ هَؤُلَاءِ الْمَوْصُوفُونَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ وَصْفَهُمْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: وَمَا وَصْفُنَا فَقِيلَ: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. انْتَهَى. وَكَوْنُ هَؤُلَاءِ مَوْصُولًا إِذَا تَقَدَّمَهَا مَا الِاسْتِفْهَامِيَّةُ بِاتِّفَاقٍ، أَوْ مَنْ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ بِاخْتِلَافٍ. فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: لِلْغَزْوِ، وَقِيلَ:
الزَّكَاةُ، وَاللَّفْظُ أَعَمُّ. وَمَنْ يَبْخَلْ: أَيْ بِالصَّدَقَةِ وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ: أَيْ لَا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ لِغَيْرِهِ. وَبَخِلَ يَتَعَدَّى بِعَلَى وَبِعَنْ. يُقَالُ: بَخِلْتُ عَلَيْهِ وَعَنْهُ، وَصَلَّيْتُ عَلَيْهِ وَعَنْهُ وَكَأَنَّهُمَا إِذَا عُدِّيَا بِعَنْ ضُمِنَا مَعْنَى الْإِمْسَاكِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: أَمْسَكْتُ عَنْهُ بِالْبُخْلِ.
وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ: أَيِ الْغَنِيُّ مُطْلَقًا، إِذْ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْحَاجَاتُ. وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ مُطْلَقًا، لِافْتِقَارِكُمْ إِلَى مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا، وَإِلَى الثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا: عَطْفٌ عَلَى: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا، أَيْ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا، أَيْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى.
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ: أَيْ يَخْلُقْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ رَاغِبِينَ فِي الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، غَيْرَ مُتَوَلِّينَ عَنْهُمَا، كَمَا قَالَ: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ «١». وَتَعْيِينُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ، وَأَنَّهُمُ الْأَنْصَارُ، أَوِ التَّابِعُونَ، أَوْ أَهْلُ الْيَمَنِ، أَوْ كِنْدَةُ وَالنَّخَعُ، أَوِ الْعَجَمُ، أَوْ فَارِسُ وَالرُّومُ، أَوِ الْمَلَائِكَةُ، أَقْوَالٌ. وَالْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ، أَوْ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، قَوْلَانِ.
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ هَذَا، وَكَانَ سَلْمَانُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَقَالَ: «قَوْمُ هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مَنُوطًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسَ».
وَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ، وَجَبَ الْمَصِيرُ فِي تَعْيِينِ مَا انْبَهَمَ مِنْ قَوْلِهِ: قَوْماً غَيْرَكُمْ إِلَى تَعْيِينِ الرَّسُولِ.
ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ: أَيْ فِي الْخِلَافِ وَالتَّوَلِّي وَالْبُخْلِ.
(١) سورة إبراهيم: ١٤/ ١٩.
478
Icon