ﰡ
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله ﴿وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: (١) أعرضوا عن دين الإِسلام، وسلوك طريقه، من صد صدودًا، فيكون كالتأكيد والتفسير لما قبله، أو منعوا الناس عن ذلك، من صدّه صدًا، كالمطعمين الجيوش يوم بدر، فإنَّ مترفيهم كأبي جهل والحارث ابن هشام وعتبة وشيبة ابني ربيعة وغيرهم، أطعموا الجنود يوم بدر، يستظهرون على عداوة النبي - ﷺ - والمؤمنين، فيكون مخصّصًا لعموم قوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ والظاهر: أنه عام في كل من كفر وصدّ، وقال مجاهد والسدي: هم كفار قريش كفروا بالله، وصدّوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله، وهو دين الإِسلام، بنهيهم عن الدخول فيه، وقال الضحاك: معنى ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ عن بيت الله بمنع قاصديه، وقيل: هم أهل الكتاب، والموصول: مبتدأ، خبره: قوله: ﴿أَضَلَّ﴾ الله سبحانه، وأبطل ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ الصالحة، ولم يتقبلها منهم؛ أي: حكم ببطلانها وضياعها، فإنّ ما كانوا يعملونه من أعمال البر، كصلة الأرحام، وقرى الأضياف، وفكّ الأسارى، وغيرها من المكارم، ليس لها أثر من أصلها؛ لعدم مقارنتها للإيمان، أو أبطل ما عملوه من الكيد لرسول الله - ﷺ -، والصدّ عن سبيله بنصر رسوله، وإظهار دينه على الدين كلّه، وهو الأوفق بقوله: ﴿فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ وقوله: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
قال الضحاك: معنى ﴿أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾: أبطل كيدهم ومكرهم بالنبيّ - ﷺ -، وجعل الدائرة عليهم، وقال أبو حيان: ﴿أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾؛ أي: أتلفها حيث لم ينشأ عنها خير ولا نفع، بل ضرر محض. وفي "البيضاوي": معنى ﴿أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾: جعلها ضالة؛ أي: ضائعة محبطة بالكفر، أو مغلوبة مغمورة فيه، كما يضل الماء في اللبن، أو جعلها ضلالًا، حيث لم يقصدوا بها وجه الله. انتهى.
والمعنى (٢): أي الذين جحدوا توحيد الله، وعبدوا غيره، وصدّوا من أراد عبادته والإقرار بوحدانيته، وتصديق نبيه عما أراد، جعل الله أعمالهم تسير على غير هدى؛ لأنها عملت في سبيل الشيطان، لا في سبيل الرحمن، وما عمل للشيطان.. فمآله الخسران، فما عملوه في الكفر مما كانوا يسمونه مكارم الأخلاق من صلة الأرحام، وإطعام الجائع، وعمارة المسجد الحرام، وإجارة المستجير، ونحو ذلك، حكم الله ببطلانه، فلا يرون له في الآخرة ثوابًا، ويجزون به في الدنيا من فضله تعالى بزيادة مال، أو حدوث ولد، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣)﴾.
قال ابن عباس في رواية عنه: نزلت الآية في المطعمين ببدر، وهم اثنا عشر رجلًا: أبو جهل والحارث ابنا هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبيّ وأمية ابنا خلف، ومنبه ونُبيه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر بن نوفل.
٢ - ولما ذكر سبحانه جزاء أهل الكفر.. أتبعهم بثواب أهل الإيمان، فقال: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ يعمّ كل من آمن وعمل صالحًا من المهاجرين والأنصار، وأهل الكتاب وغيرهم، وكذا يعمّ الإيمان بجميع الكتب الإلهية ﴿وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ﴾ - ﷺ -، وهو القرآن الذي أنزله الله على محمد.
(٢) المراغي.
وخصّ سبحانه الإيمان بما أنزل على محمد - ﷺ - بالذكر، مع اندراجه تحت مطلق الإيمان المذكور قبله؛ تنبيهًا على شرفه، وعلوّ مكانه، كما في عطف جبرائيل على الملائكة، وعلى أنه الأصل في الكل، ولذلك أكّده بقوله: ﴿وَهُوَ﴾؛ أي: ما نزّل على محمد ﴿الْحَقُّ﴾؛ أي: العدل الصواب، وقيل: الناسخ لما قبله، ولا يرد عليه النسخ، حال كونه ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ بطريق حصر الحقّية فيه، والحق: مقابل الباطل، وهذه الجملة معترضة بين المبتدأ، وهو قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وبين خبره، وهو قوله: ﴿كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾؛ أي: السيئات التي عملوها فيما مضى؛ أي: ستر الله أعمالهم السيئة بالإيمان والعمل الصالح ﴿وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾، أي: حالهم وشأنهم في الدين والدنيا بالتأييد والتوفيق، وأرشدهم إلى أعمال الخير، وأصلح نيّاتهم بالإخلاص.
والمعنى (٢): أي والذين صدّقوا الله، وعملوا بطاعته، واتبعوا أمره ونهيه، وصدّقوا بالكتاب الذي نزل على محمد، وهو الحق من ربهم، محا الله بفعلهم سيء ما عملوا، فلم يؤاخذهم به، وأصلح شأنهم في الدنيا بتوفيقهم لسبل السعادة، وأصلح شأنهم في الآخرة بأن يورثهم نعيم الأبد، والخلود الدائم في جناته، قال ابن عباس: نزلت الآية في الأنصار. كما مرّ.
٣ - ثم بيَّن سبب الإضلال، وإصلاح البال، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ما مرّ من إضلال الأعمال، وتكفير السيئات، وإصلاح البال، وهو مبتدأ، خبره قوله: ﴿بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، أي: ذلك كائن بسبب أنّ الكافرين ﴿اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ﴾؛ أي: الشيطان، ففعلوا ما فعلوا من الكفر والصدّ ﴿وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: وبسبب أنّ المؤمنين ﴿اتَّبَعُوا الْحَقَّ﴾ الذي لا محيد عنه، كائنًا ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾ ففعلوا ما فعلوا من الإيمان
(٢) المراغي.
ومعنى الآية (١): ذلك الأمر وهو إضلال أعمال الكفار، وتكفير سيئات المؤمنين، كائن بسبب اتباع الكفار الباطل، واتباع المؤمنين الحق من ربهم؛ أي: وإنما أبطلنا أعمال الكفار، وتجاوزنا عن سيئات الأبرار، وأصلحنا شؤونهم؛ لأنّ الذين كفروا اختاروا الباطل على الحق، بما وسوس به إليهم الشيطان، ولأنّ الذين آمنوا اتبعوا الحق الذي جاءهم من ربهم، فأنار بصائرهم، وهداهم إلى سبيل الرشاد ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل الضرب والبيان المذكور ﴿يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ﴾؛ أي: يبيِّن الله للناس أمثالهم؛ أي: أحوال الفريقين، وأوصافهما الجارية مجرى الأمثال في الغرابة، وهي: اتباع الأولين الباطل وخيبتهم، وخسرانهم، واتباع الآخرين الحق، وفوزهم وفلاحهم. وفي الخبر: "اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه". قال الزجاج: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ﴾؛ أي: يبيّن الله للناس أمثال حسنات المؤمنين، وإضلال أعمال الكافرين؛ يعني: أنّ من كان كافرًا أضل الله عمله، ومن كان مؤمنًا كفّر الله سيئاته.
والمعنى: أي كما بيَّنت لكم فعلي بفريقي الكفار والمؤمنين، كذلك نمثل للناس الأمثال، ونشبه لهم الأشباه، فنلحق بالأشياء أمثالها وأشكالها.
والخلاصة: أنه جعل اتباع الباطل مثلًا لعمل الكفار، وإضلال أعمالهم مثلًا لخيبتهم، واتباع الحق مثلًا لعمل المؤمنين، وتكفير سيئاتهم مثلا لفوزهم، وهكذا شأن القرآن، يوضِّح الأمور التي فيها عظة وذكرى بضرب الأمثال، كما ضرب المثل بالنخل والحنظل في سورة أخرى.
٤ - ولمّا بيّن سبحانه حال الفريقين.. أمر بجهاد الكفار، فقال: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ والمراد بالذين كفروا: المشركون، ومن لم يكن صاحب عهد من أهل الكتب، و ﴿الفاء﴾ فيه: للإفصاح؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كما ذكر، من إضلال أعمال الكفرة وخيبتهم، وإصلاح
وإنّما عبَّر (١) عن القتل بضرب الرقاب، لما في التعبير به من الغلظة والشدة ما ليس في نفس القتل، وهي: حز العنق، وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وأعلاه وأشرفه، وإرشادًا للغزاة إلى أيسر ما يكون منه، وفي الحديث: "أنا لم أبعث لأعذِّب بعذاب الله، وإنما بعثت بضرب الرقاب وشدِّ الوثاق"؛ أي: فاقتلوهم كيفما أمكنكم ﴿حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ﴾؛ أي: أضعفتموهم بالجراح، أو بالغتم في قتلهم، وأكثرتم القتل فيهم. ، أو أثقلتموهم بالقتل والجراح حتى أذهبتم عنهم النهوض ﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾؛ أي: وثاق الأسير منهم؛ أي: اربطوا الأسير منهم على كتفه كيلا ينفلت عنكم، والوثاق: الحبل الذي يربط به الأسير، وقال أبو الليث: يعني: حتى إذا قهرتموهم وأسرتموهم.. فاستوثقوا أيديهم واربطوها من خلفهم كيلا يفلتوا، والأسر يكون بعد المبالغة في القتل.
قرأ الجمهور: ﴿فَشُدُّوا﴾ بضم الشين، وقرأ السلميّ: بكسرها ﴿فَإِمَّا﴾ تمنون عليهم ﴿مَنًّا﴾ بإرسالهم من غير فداء ﴿بَعْدُ﴾؛ أي: بعد أسرهم، وشد وثاقهم ﴿وَإِمَّا﴾ تفدونهم ﴿فِدَاءً﴾ بمال أو بأسرى مسلمين.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فِدَآءً﴾ بالمدّ، وقرأ ابن كثير في رواية شبلٍ: ﴿فدًى﴾ بالقصر. والمنُّ: أن يترك الأمير الأسير الكافر من غير أن يأخذ منه شيئًا. والفداء: أن يترك الأمير الأسير الكافر، ويأخذ مالًا، أو أسيرًا مسلمًا في مقابلته، وإنما قدم المنّ على الفداء؛ لأنه من مكارم الأخلاق، ولهذا كانت العرب تفتخر به، كما قال شاعرهم:
(٢) البحر المحيط.
قال الشيخ الرضيُّ: المطلوب (١) من شدّ الوثاق: إمّا قتلٌ، أو استرقاق، أو منّ، أو فداء. فالإمام يتخير في الأسارى البالغين من الكفار بين هذه الخصال الأربع، وهذا التخيير ثابت عند الشافعي، ومنسوخ عند الأحناف بقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾، قالوا: نزل ذلك يوم بدر، ثم نسخ. والحكم إما القتل أو الاسترقاق. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لمَّا كثر المسلمون، واشتدّ سلطانهم... أنزل الله تعالى في الأسارى ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ وكان عليه عمل رسول الله - ﷺ -، والخلفاء من بعده.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي - ﷺ - خيلًا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه في سارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله - ﷺ -، فقال: "ما عندك يا ثمامة؟ " فقال: عندي خيرٌ، إن تقتلني.. تقتل ذا دم، وإن تُنْعِم.. تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال.. فسل ما شئت، حتى كان الغد، فقال له رسول الله - ﷺ -: "ما عندك يا ثمامة؟ " قال: عندي ما قلت لك، قال: "أطلقوا ثمامة" فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك، فأصبح دينك أحبُّ الدين إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك، فقد أصبح بلدك أحبَّ البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشَّره رسول الله - ﷺ -، وأمره أن يعتمر، فلمَّا قدم مكة قال له قائل: صبوت، قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد - ﷺ -.
وعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: أسر أصحاب رسول الله - ﷺ - رجلًا من عقيل فأوثقوه، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي - ﷺ -،
والظاهر (١): أنّ قوله: ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ غاية لقوله: ﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾؛ لأنه قد غيَّا، فضرب الرقاب بشد الوثاق وقت الإثخان، فلا يمكن أن يُغيّا بغاية أخرى، لتدافع الغايتين، إلا أن تكون الثانية مبيّنة للأولى، ومؤكدة لها فيجوز.
والمعنى: فشدوا وثاق الأسير وربطه، حتى تضع أهل الحرب أوزارها وأحمالها وأسلحتها، ويتركوا حمل سلاحها؛ أي: حتى تنقرض الحرب وتنعدم بالكليَّة، بحيث لا يبقى في الدنيا حزب من أحزاب الكفار يحارب حزبًا من أحزاب الإِسلام.
والأوزار (٢): جمع وزر، والوزر بالكسر: الثقل، وما يحمله الإنسان، فسمى الأسلحة أوزارًا؛ لأنها تحمل، فيكون جعل مثل الكراع من الأوزار من التغليب، و ﴿حَتَّى﴾ غاية عند الشافعي لأحد الأمور الأربعة، أو للمجموع. والمعنى حينئذٍ: إنهم لا يتركون ذلك أبدًا، حتى لا يكون مع المشركين حرب، بأن لا يبقى لهم شوكة، وأما عند أبي حنيفة فإنه حمل الحرب على حرب بدر، فهي غاية للمنّ والفداء، والمعنى: يمن عليهم ويفادون حتى تضع حرب بدر أوزارها وتنقضي، وإن حملت الحرب على الجنس.. فهي غاية للضرب والشد، والمعنى: أنهم يقتلون ويؤسرون حتى تضع جنس الحرب أوزارها، بأن لا يبقى للمشركين شوكة.
ومعنى الآية: أي فإذا واجهتم المشركين في القتال.. فاحصدوهم حصدًا بالسيوف، حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقابهم، وصاروا في أيديكم أسرى.. فشدّوهم في الوثاق كي لا يقاتلوكم، أو يربوا منكم، ثم أنتم بعد انتهاء الحرب وانتهاء المعارك بالخيار في أمرهم، إن شئتم.. مننتم عليهم
(٢) روح البيان.
واعلم (١): أنَّ للحرب فوائد، وللسلم أخرى، فالأمم في حال الطفولة عقولها أشبه بعقول الشابّ المراهق، الذي لم يبلغ الحلم، تراه يقاتل الصبيان، ويشاجرهم، ويوقع الأذى بهم، وهم يزيدون في أذاه، وينكلون به، وهذه هي حال الأمم اليوم.
ألا إنَّ الحرب تقوِّي الأبدان، وترقي الصناعات، وتجعل الأمم تنمو وتوقظ الشعور، وتفتح المغلق، وتيسر العسير، قال أرسطو للإسكندر: إنّ الراحة مضرة للأمم، ومن ثم قيل: إذا أردت رقي أمةٍ.. فاجعلها تخوض الحروب، فذلك يفتح لها باب السعادة، والأمم النائمة على فراش الراحة الوثير، معرَّضة للزوال، كما رأينا ذلك في بعض من عليه الاستئمار من أفريقيا، فإذا كملت أخلاف الأمم ومواهبها.. فإنّ نتائج السلم عندها ستكون كنتائج الحرب لدى من قبلها، فكما يفرح الرجل في الأمم الحاضرة بغلبة الأعداء، وشفاء الغليل، وجمع الرجال والسلاح والكراع، فسيكون فرح الأمم فيما بعد بمساعدة غيرها، وانشراح صدورها، بظهور أمم أخرى تكافح معها في ميدان الحياة، ويكون كل فرد في الأمم المقبلة أشبه بالأب، يكدح لمساعدة أبنائه، وهذا الكدح والجد في العمل لفائدة الجميع، يجد العامل فيه لذّةً وفرحًا أشدَّ من فرح المنتصر في ميادين القتال.
وإنَّ الأمم لا تزال في الطور الأول، فهي تسعى لإسعاد نفسها، بإهلاك سواها، وسيأتي حينٌ تسعى فيه لإسعاد الجميع، ويكون فرحها بهذا المسعى أشد من فرحها بهزيمة الأعداء، ويكون الناس جميعًا بعضم لبعض كالآباء والأبناء.
واعلم (٢): أنه قد اختلف العلماء في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة؟ فقيل: إنها منسوخة في أهل الأوثان، وأنه لا يجوز أن يفادوا ولا يمن
(٢) الشوكاني.
ثمّ بين الله سبحانه وتعالى الحكمة في شرع القتال، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ محلُّه: إما رفعٌ على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الأمر ذلك، وإما نصبٌ على أنه مفعول لفعل محذوف؛ أي: افعلوا ذلك. ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف؛ أي: ذلك حكم الكفار؛ أي: (١) هذا الذي أمرتكم به من قتل المشركين إن لقيتموهم في حرب، وشد وثاقهم في أسرهم، والمن والفداء حتى تضع الحرب أوزارها، هو الحق الذي أمركم به ربكم، وهو السنة التي شرعها لإصلاح حال عباده، وهي التي ستبقى السنة الطبيعية بين الأمم ما دامت في طور طفولتها، حتى يتمّ نضجها العقلي والخلقي فتضع الحرب أوزارها، إذ لا يكون هناك حاجة إليها؛ لأنّ العالم كلَّه كأسرة واحدة، سعادته بسعادة أفراده جميعًا، وشقاؤه بشقائهم.
ثم ذكر الله سبحانه وتعالى جزاء المجاهدين في سبيله، فقال: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ﴾؛ أي: استشهدوا يوم بدر، ويوم أحد وفي سائر الحروب ﴿فَلَنْ يُضِلّ﴾ الله سبحانه، ويضيع ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ بل يثيبهم عليها؛ أي: والذين جاهدوا أعداء الله في طاعة الله، وطلب مرضاته، ونصرة ما بعث الله به رسوله - ﷺ - من الهدى، سواء قتلوا في الجهاد أو لم يقتلوا، فلن يجعل الله أعمالهم التي عملوها في الدنيا ضائعة سدى، كما أذهب أعمال الكافرين، وجعلها عديمة الجدوى.
روى أحمد عن المقدام بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه: أنّ رسول الله - ﷺ - قال: "يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: تكفر عنه كل خطيئة، ويرى مقعده من الجنة، ويزوّج من الحور العين، ويأمن من الفزع
وفي "صحيح مسلم" عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وعن أبي قتادة رضي الله عنه: أنّ رسول الله - ﷺ - قال: "يُغفر للشهيد كل شيء إلا الدَّين".
وقرأ الجمهور (١): ﴿قُتِلُوا﴾ بألف مبنيًا للفاعل، وقرأ أبو عمرو وحفص، وقتادة والأعرج والأعمش: ﴿قتلوا﴾ مبنيًا للمفعول، والتاء خفيفة، وقرأ زيد بن ثابت والحسن وأبو رجاء وعيسى بن عمر: ﴿قُتِّلوا﴾ بالتشديد مبنيًا للمفعول، وقرأ أبو حيوة والجحدري: ﴿قَتَلوا﴾ على البناء للفاعل مع التخفيف. والمعنى على القراءة الأولى والرابعة: أنَّ المجاهدين في سبيل الله ثوابهم غير ضائع، وعلى القراءة الثانية والثالثة: أنَّ المقتولين في سبيل الله كذلك لا يضيِّع الله سبحانه أجرهم، وقرأ عليّ: ﴿فلن يضل﴾ مبنيًا للمفعول، ﴿أعمالهم﴾ بالرفع، وقرىء: ﴿يَضِلّ﴾ بفتح الياء من ضلَّ. ﴿أعمالهم﴾ بالرفع.
٥ - ثمّ فسّر ما سلف بقوله: ﴿سَيَهْدِيهِمْ﴾ في الدنيا إلى أرشد الأمور إن لم يقتلوا، وفي الآخرة إلى طريق الجنة من غير وقفة من قبورهم إلى موضع حبورهم، والظاهر: أنّ السين للتأكيد، والمعنى: يهديهم الله ألبتة إلى مقاصدهم الأخروية، وقال الحسن بن زياد: يهديهم إلى محاجة منكر ونكير ﴿وَيُصْلِحُ﴾ الله سبحانه ﴿بَالَهُمْ﴾؛ أي: حالهم، وشأنهم في الدنيا بالعصمة والتوفيق،
٦ - وفي الآخرة بأن يقبل الله أعمالهم، ويرضي خصمائهم؛ لكرامتهم على الله بالجهاد والشهادة ﴿وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ﴾ وجملة قوله: ﴿عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ مستأنفة (٢) أو حالية؛ أي: عرّف الجنة، وبيَّنها لهم في الدنيا بذكر أوصافها، بحيث اشتاقوا إليها، أو بيَّنها لهم في الآخرة، بحيث يعلم كل أحد منزله ويهتدي إليه، كأنه كان ساكنه منذ خلق. وفي الحديث: "لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا". وقيل: إذا دخلوها.. يقال لهم: تفرَّقوا إلى منازلكم، فهم أعرف بمنازلهم في الجنة من أهل الجمعة إذا انصرفوا إلى منازلهم، وفي "المفردات": عرَّفه جعل له عَرْفًا؛ أي:
(٢) روح البيان.
ومن فضائل الشهداء: أنه ليس أحد يدخل الجنة يحب أن يخرج منها، ولو أعطي ما في الدنيا جميعًا إلا الشهيد، فإنه يتمنَّى أن يردَّه الله إلى الدنيا مرارًا، فيقتل في سبيل الله كما قتل أولًا؛ لما يرى من عظيم كرامة الشهداء على الله تعالى. ومن فضائلهم: أنّ الشهادة في سبيل الله تكفّر ما على العبد من الذنوب التي بينه وبين الله تعالى، وفي الحديث: "يغفر للشهيد كلّ شيء إلا الدَّيْن". والمراد (١) بالدين: كل ما كان عليه من حقوق الآدميين، كالغصب وأخذ المال بالباطل، وقتل العمد، والجراحة، وغير ذلك من التبعات، وكذلك الغيبة والنميمة والسخرية وما أشبه ذلك، فإنّ هذه الحقوق كلها لا بدّ من استيفائها لمستحقيها، وقال القرطبي: الدين الذي يحبس صاحبه عن الجنة: هو الذي قد ترك له وفاء ولم يوصِّ به، أو قدر على الأداء فلم يؤدِّه، أو ادّانه على سفه أو سرف ومات ولم يوفه، وأما من ادّان في حق واجب كفاقة وعسر، ومات ولم يترك وفاء.. فإنّ الله تعالى لا يحبسه عن الجنة شهيدًا كان أو غيره، ويقضي عنه، ويرضي عنه خصمه، كما قال - ﷺ -: "من أخذ أموال الناس يريد أدائها.. أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها.. أتلفه الله".
ومجمل معنى الآية (٢): أي سيوفقهم الله للعمل بما يرضيه ويحبّه، ويصونهم مما يورث الضلال في الدنيا، ويصلح شأنهم في العقبى، ويتقبل أعمالهم، ويجعل لكل منهم مقرًّا في الجنة، لا يضل في طلبه.
لا جرم أنّ لكل امرىء في الحياة عملًا يستوجب حالًا في الآخرة لا يتعدّاها، كما يحصل كل من نال إجازةً في علم أو صناعةٍ على عمل يشاكل
(٢) المراغي.
أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد قال: يُهدى أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم الله لهم منها، لا يخطئون، كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها.
٧ - ثمّ وعدهم سبحانه بنصرهم على أعدائهم إذا نصروا دينه، بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ﴾؛ أي: إن تنصروا دين الله ورسوله ﴿يَنْصُرْكُمْ﴾ الله سبحانه على أعدائكم، ويفتح لكم ﴿وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ في مواطن الحرب ومواقفها، أو على محجة الإِسلام، وتثبيت الأقدام: عبارة عن النصر والمعونة في مواطن الحرب.
واعلم (١): أنّ النصرة على وجهين:
الأول: نصرة العبد، وذلك بإيضاح دلائل الدين، وإزالة شبهة القاصرين، وشرح أحكامه وفرائضه وسننه وحلاله وحرامه والعمل بها، ثم بالغزو والجهاد لإعلاء كلمة الله، وقمع أعداء الدين، إما حقيقة كمباشرة المحاربة بنفسه، وإما حكمًا بتكثير سواد المجاهدين بالوقوف تحت لوائهم، أو بالدعاء لنصرة المسلمين، وخذلان الكافرين بأن يقول: اللهمّ انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، ثم بالجهاد الأكبر، بأن يكون عونًا لله على النفس حتى يصرعها ويقتلها فلا يبقى من هواها أثر.
والثاني: نصرة الله تعالى، وذلك بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإظهار
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَيُثَبِّتْ﴾ مشدّدًا، وقرأ المفضل عن عاصم: مخفّفًا، من أثبت الرباعي من باب أفعل.
٨ - وبعد أن ذكر سبحانه جزاء المجاهدين. أعقبه بجزاء الكافرين، فقال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله، مبتدأ خبره محذوف دلّ عليه قوله: ﴿فَتَعْسًا لَهُمْ﴾ ودخلت الفاء تشبيهًا للمبتدأ بالشرط، وانتصاب ﴿تعسًا﴾ على المصدر بالفعل المقدر خبرًا، و ﴿اللام﴾ فيه: للبيان، كسقيًا لهم، ورعيًا، ولذلك عطف عليه الفعل في قوله: ﴿وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ والفعل منه، كمنع وسمع، كما سيأتي، يقال: تعسه الله وأتعسه، والتقدير: والذين كفروا بالله ورسوله، وجحدوا توحيده فَتَعِسَهُم الله تعسًا؛ أي: أذلَّهم الله إذلالًا، وأخزاهم خزيًا، وأهلكهم إهلاكًا، وأبطل أعمالهم، وجعلها على غير هدًى واستقامةٍ؛ لأنها عُمِلت للشيطان، لا طاعة للرحمن.
٩ - ثم بيَّن سبب ذلك الإضلال، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من التعس وإضلال الأعمال ﴿بِأَنَّهُمْ﴾؛ أي: بسبب أنهم ﴿كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ تعالى من القرآن لما فيه من التوحيد، وسائر الأحكام المخالفة لما ألفوه، واشتهته أنفسهم الأمّارة بالسوء ﴿فَأَحْبَطَ﴾ الله سبحانه ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾ لأجل ذلك؛ أي: أبطلها وجعلها من الأعمال التي لا تزكو ولا يعتد بها، كرّره إشعارًا بأنه يلزم الكفر بالقرآن، ولا ينفك عنه بحال، والمراد بالأعمال: طواف البيت، وعمارة المسجد الحرام، وإكرام الضيف، وإغاثة الملهوفين، وإعانة المظلومين، ومواساة اليتامى والمساكين، ونحو ذلك مما هو على صورة البرّ، وذلك بالنسبة إلى كفار قريش، وقس عليهم أعمال سائر الكفرة إلى يوم الدين.
والمعنى (٢): أي ذلك الذي فعلنا بهم من التعس، وإضلال الأعمال، من
(٢) المراغي.
وقصارى ذلك: أنَّ كل ما عملوه في الدنيا من صالح الأعمال فهو باطل؛ لعدم الإيمان الذي هو أساس قبول الأعمال.
١٠ - ثم خوف سبحانه الكفار، وأرشدهم إلى الاعتبار بحال من قبلهم، فقال: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ﴿الهمزة﴾: فيه للاستفهام التوبيخي، داخلة على محذوف، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أُقعدوا في أماكنهم فلم يسيروا؛ أي: كفار مكة في الأرض إلى جانب الشام واليمن والعراق ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الأمم المكذبة: كعاد، وثمود وأهل سبأ، فإن آثار ديارهم تنبىء عن أخبارهم؛ أي: كيف كان آخر أمرهم من الدمار بسبب تكذيبهم رسلهم.
والمعنى (١): أي أفلم يسر هؤلاء المكذبون بمحمد - ﷺ -، المنكرون ما أنزلناه عليه من الكتاب في نواحى الأرض، وأرجائها، فيروا نقمة الله التي أحلَّها بالأمم الغابرة، والقرون الخالية، حين كذبوا رسلهم، كعاد وثمود، ويتعظوا بذلك، ويحذروا أن نفعل بهم كما فعلنا بمن قبلهم.
ثم ذكر ما فعله بهم، فقال: ﴿دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ يقال: دمّره: أهلكه، ودمّر عليهم: أهلك ما يختص به، قال الطيبي: كأنَّ في ﴿دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ تضمين معنى أطبق، فعدَّى بعلى، فإذا أطبق عليهم دمارًا.. لم يخلص مما يختص بهم أحدٌ، وفي "حواشي سعدي المفتي": ﴿دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: أوقع التدمير عليهم.
وجملة ﴿دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾: مستأنفة (٢) استئنافًا بيانيًا، نشأ عن سؤال مقدر، كأنه قيل: كيف كان عاقبتهم؟ فقيل: استأصل الله عليهم ما اختص به من أنفسهم وأهليهم وأموالهم.
(٢) روح البيان.
١١ - ثم بين السبب في حلول أمثال هذه العاقبة بهم، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ إشارة إلى ثبوت أمثال عقوبة الأمم السابقة لهؤلاء، وقال بعضهم: ذلك المذكور من كون المؤمنين منصورين ظافرين، ومن كون الكافرين مقهورين مدمَّرين ﴿بِأَنَّ اللَّهَ﴾؛ أي: بسبب أنه تعالى ﴿مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: ناصرهم على أعدائهم في الظاهر والباطن بسبب إيمانهم.
وقرأ ابن مسعود (٣): ﴿ذلك بأنّ اللَّه وليُّ الذين آمنوا﴾. ﴿وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ أي: وبسبب أنّ الكافرين لا ناصر لهم، فيدفع عنهم العذاب الحال بهم بسبب كفرهم، فالمراد: (٤) ولاية النصرة لا ولاية العبودية، فإنَّ الخلق كلهم عباده
(٢) المراح.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
ومعنى الآية (١): ذلك الذي فعله بهم من التدمير والهلاك، ونصر المؤمنين، وإظهارهم عليهم، بسبب أنّ الله ولي من آمن به، وأطاع رسوله، وأنّ الكافرين لا ناصر لهم فيدفع ما حلّ بهم من العقوبة والعذاب.
١٢ - وبعد أن بيّن حال المؤمنين والكافرين في الدنيا.. بيّن حالهم في الآخرة، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ذا الجلال والإكرام ﴿يُدْخِلُ﴾ يوم القيامة ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ به، وصدّقوا رسوله ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: الأعمال الصالحة ﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت أشجارها وقصورها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة الآتية، كرامةً لهم على إيمانهم بالله، ورسوله واليوم الآخر، وهذا بيان لحكم ولايته تعالى للمؤمنين، وثمرتها الأخروية. قال الإِمام الرازي (٢): كثيرًا ما يقتصر الله سبحانه على ذكر الأنهار في وصف الجنة؛ لأنّ الأنهار يتبعها الأشجار، والأشجار تتبعها الثمار، والماء سبب حياة العالم، والنار سبب الإعدام. وللمؤمن الماء ينظر إليه، وينتفع به، وللكافر النار يتقلب فيها، ويتضرّر بها. انتهى.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وجحدوا بالله، وكذّبوا رسوله ﴿يَتَمَتَّعُونَ﴾؛ أي: ينتفعون في الدنيا بمتاعها أيامًا قلائل، ويعيشون ﴿وَيَأْكُلُونَ﴾ من طيّباتها، حريصين غافلين عن عواقبهم ﴿كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ﴾ والبهائم في مسارحها، ومعالفها، غافلة عمّا هي بصدده من النحر والذبح ﴿وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾؛ أي: والحال أنّ النار الأخروية منزل ثواء وإقامةٍ، وخلودٍ لهم، والجملة إما حال مقدرة من واو ﴿يأكلون﴾، أو مستأنفة.
(٢) تفسير الرازي.
والخلاصة: أنّ المؤمنين عرفوا أنَّ نعيم الدنيا ظل زائل، فتركوا الشهوات، وتفرَّغوا للصالحات، فكانت عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم، وإنّ الكافرين غفلوا عن ذلك، فرتعوا في الدمن كالبهائم، حتى ساقهم الخذلان إلى مقرهم من تلك النيران، أعاذنا الله منها.
فإن قلت (١): كيف التقابل بينه وبين قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ....﴾ إلخ.
قلت - والله أعلم -: الآية من قبيل الاحتباك، ذكر الأعمال الصالحة، ودخول الجنة أولًا، دليلًا على حذف الفاسدة، ودخول النار ثانيًا، وذكر التمتع والمثوى ثانيًا، دليلًا على حذف التمتع والمأوى أولًا.
قال القشيري: الأنعام تأكل بلا تمييز من أي موضع وجد، كذلك لا تمييز له، أمن الحلال وجد أم من الحرام، وكذلك الأنعام، ليس لها وقت، بل في كل وقت تقتات وتأكل، كذلك الكافر أكول، كما قال - ﷺ -: "الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معي واحد".
١٣ - وبعد أن ضرب لهم المثل بقوله: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ ولم يعتبروا، وذكر لهم ما تقدّم من الأدلَّة على وحدانيته، ضرب المثل لنبيه تسلية له على ما يلاقي من عنت قومه وجحودهم، فقال: ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ كلمة مركبة من الكاف وأيّ،
ومعنى الآية: وكم من أهل قرية هم أشد قوّةً من أهل قريتك الذي أخرجوك منها، ووصف (٢) القرية الأولى بشدة القوة للإيذان بأولوية الثانية منها بالإهلاك لضعف قوّتها، كما أنَّ وصف الثانية بإخراجه - ﷺ - للإيذان بأولويَّتها به لقوة جنايتها ﴿فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ﴾ فبالأولى من هو أضعف منهم، وهم: قريش الذين هم أهل قرية النبيّ - ﷺ -، وهي: مكة، قال مقاتل: أهلكناهم بالعذاب حين كذّبوا رسولهم، وجملة قوله: ﴿فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ﴾: بيانٌ لعدم خلاصهم من العذاب بواسطة الأعوان والأنصار، إثر بيان عدم خلاصهم منه بأنفسهم، و ﴿الفاء﴾: لترتيب ذكر ما بالغير على ذكر ما بالذات، وهو حكاية حال ماضية.
ومعنى الآية (٣): أي وكثير من الأمم التي كان أهلها أشد بأسًا، وأكثر جمعًا، وأعدّ عديدًا من أهل مكة الذين أخرجوك أهلكناهم بأنواع العذاب، ولم يجدوا ناصرًا ولا معينًا يدفع عنهم بأسنا وعذابنا، فاصبر كما صبر قبلك أولو العزم من الرسل، ولا تبْخَع نفسك عليهم حسرات، فالله مظهرك عليهم، ومهلكهم كما أهلك من قبلم إن لم ينيبوا إلى ربهم، ويثوبوا إلى رشدهم، وغير خافٍ ما في هذا من التهديد الشديد، والوعيد الأكيد لأهل مكة.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
ومعنى الآية (٣): أي أفمن كان على بصيرة ويقين في أمر الله ودينه بما أنزله في كتابه من الهدى، والعلم وبما فطره الله عليه من الفطرة السليمة، فهو على علم بأنَّ له ربًّا يجازيه على طاعته إيّاه بالجنة، وعلى إساءته ومعصيته إياه بالنار، كمن حسَّن له الشيطان قبيح عمله، وأراه إيَّاه جميلًا، فهو على العمل به مقيم، وعلى السير على نهجه دائب، واتبع هواه، وجمحت به شهواته، فطفق يعدو في المعاصي ويخبُّ فيها، ويضع غير ملتفت إلى واعظ أو زاجرٍ.
والخلاصة: أيستوي الفريقان: من كان ثابتًا على حجة بينة من عند ربّه، وهي كتابه الذي أنزله على رسوله، وسائر الحجج التي أقامها في الآفاق والأنفس، ومن زيَّن له الشيطان سيّء أعماله من الشرك وسائر المعاصي، كإخراجك من قريتك، واتباع هواه من غير أن يكون له شبهة يركن إليها تعاضد ما
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
١٥ - ثمّ لمّا بيّن سبحانه الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال.. بيَّن الفرق في مرجعهما ومآلهما، فقال: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾؛ أي: صفة الجنة التي وعدها الله سبحانه من اتقى عقابه، فأدَّى فرائضه، واجتنب نواهيه ما ستسمعونه بعد، وعبَّر (١) عن المؤمنين بالمتقين؛ إيذانًا بأنَّ الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى، الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها، وترك السيئات عن آخرها، ومثلها وصفها العجيب الشأن، وهو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: مثل الجنة الموعودة للمؤمنين، وصفتها العجيبة الشأن ما تسمعون فيما يتلى عليكم، وقوله: ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الجنة الموعودة إلى اخره مفسر له ﴿أَنْهَارٌ﴾ جمع نهر، وهو: مجرى الماء الفائض كما سيأتي؛ أي: فيها أنهار جارية ﴿مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ﴾؛ أي: غير متغير الطعم والرائحة واللون، وإن طالت إقامته، بخلاف ماء الدنيا؛ فإنه يتغير بطول المكث في مناقعه وفي أوانيه، مع أنه مختلف الطعوم مع اتحاد الأرض ببساطتها، وشدة اتصالها، وقد يكون متغيرًا بريح منتنة من أصل خلقته، أو عارضٍ عرض له من منبعه أو مجراه. كذا في "المناسبات".
يقول الفقير (٢): قد صحَّ أنّ المياه كلها تجري من تحت الصخرة التي في المسجد الأقصى، فهي ماء واحد في الأصل، عذب فرات سائغ للشاربين، وإنما يحصل التغير من المجاري، فإنّ طباعها ليست متساوية، دلّ عليه قوله تعالى: ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ﴾ وتجاور أجزائها لا يستلزم اتحادها في نفس الأمر، بل هي متجاورة مختلفة، ومثلها العلوم، فإنها إذا مرت بطبع غير مستقيم تتغير عن أصلها، فتكون في حكم الجهل، ومن هذا القبيل علوم جميع أهل الهوى، والبدع والضلال والخرافات.
(٢) روح البيان.
﴿وَ﴾ فيها ﴿أَنْهَارٌ﴾ جارية ﴿مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾ كألبان الدنيا بأن كان قارصًا، وهو: الذي يقرص اللسان ويقبضه، أو حازرًا بتقديم الزاي وهو: الحامض، أو غير ذلك؛ لأنه لم يخرج من ضروع الإبل، والغنم والبقر.
والمعنى: لم يتغير طعمه بنفسه عن أصل خلقته، ولو أنهم أرادوا تغييره بشهوةٍ اشتهوها تغيَّر، وتغير الريح لا يفارق تغير الطعم، وذلك تركه ﴿و﴾ فيها ﴿أَنْهَار﴾ جارية ﴿مِنْ خَمْرٍ﴾ وهو: ما أسكر من عصير العنب، أو عام؛ أي: لكل مسكرِ، كما في "القاموس" ﴿لَذَّةٍ﴾؛ أي: لذيذة ﴿لِلشَّارِبِينَ﴾؛ أي: ليس فيها حموضة ولا غضاضة، ولا مرارة، ولم تدنسها الأرجل بالدوس ولا الأيدي بالعصر، وليس في شربها ذهاب عقل، ولا صداع، ولا آفة من آفات خمر الدنيا، وإنّما هي لتلذذ محض.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿لَذَّة﴾ بالجر، على أنه صفة لـ ﴿خَمْرٍ﴾ وقرىء بالرفع على أنه صفة لـ ﴿أَنْهَارٌ﴾ وبالنصب على أنه مصدر، أو مفعول لأجله؛ أي: لأجل لذّة له ﴿و﴾ فيها ﴿أَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾ أي: من عسل قد صفي من القذى، وما يكون في عسل أهل الدنيا قبل التصفية من السمع وفضلات النحل وغيرها؛ أي: خلقه الله تعالى: مصفى، لا أنه كان مختلطًا فصفي.
قال بعضهم: (٣) الفرق بين الخالص والصافي: أن الخالص ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه، والصافي قد يقال لما لا شوب فيه، والعسل: لعاب النحل وقيئه، كما قال ظهير الفارابي، وقال الدميري في: "حياة الحيوان": وبالجملة
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
وبدىء بالماء (١) في الذكر؛ لأنه لا يستغنى عنه في الدنيا، ثم باللبن؛ لأنه يجري مجرى المطعوم لكثير من العرب في غالب أوقاتهم، ثم بالخمر؛ لأنه إذا حصل الري والشبع.. تشوفت النفس لما يستلذ به، ثم بالعسل؛ لأنَّ فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم.
أخرج أحمد، والترمذي، وصحَّحه، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي عن معاوية بن حيدة قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "في الجنة بحر اللبن، وبحر الماء، وبحر العسل، وبحر الخمر، ثم تشقق الأزهار منها بعد".
فإن قيل (٢): ما الحكمة في قوله تعالى في الخمر: ﴿لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾؟ ولم يقل في اللبن لم يتغير طعمه للطاعمين، ولا قال في العسل: مصفّى للناظرين؟
أجاب الرازي: بأنَّ اللذّة تختلف باختلاف الأشخاص، فرب طعام يتلذذ به شخص ويعافه الآخر، فلذلك قال: ﴿لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ﴾ بأسرها، ولأنّ الخمر كريهة الطعم في الدنيا، فقال: لذّة؛ أي: لا يكون في خمر الآخرة كراهة طعم، وأمَّا الطعم واللون.. فلا يختلفان باختلاف الناس، فإنّ الحلو، والحامض وغيرهما، يدركه كل أحدٍ، لكن قد يعافه بعض الناس، ويلتذ به البعض مع اتفاقهم أنَّ له طعمًا واحدًا، وكذلك اللبن، فلم يكن للتصريح بالتعميم حاجة. اهـ. "خطيب".
وقال صاحب "الروح" (٣): وبدأ بانهار الماء لغرابتها في بلاد العرب، وشدّة حاجتهم إليها، ولما كان خلوها عن تغير أغرب.. نفاه بقوله: ﴿غَيْرِ آسِنٍ﴾. ولمَّا كان اللبن أقل فكان جريه أنهارًا أغرب.. ثنى به، ولما كان الخمر أعز.. ثلث به، ولما كان العسل أشرفها، وأقلها.. ختم به. انتهى.
(٢) الفتوحات.
(٣) روح البيان.
﴿وَ﴾ لهم فيها ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ عظيمة كائنة ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾؛ أي: المحسن إليهم بمحو ذنوبهم السالفة أعيانها وآثارها، بحيث لا يخشون لها عاقبة بعقاب ولا عتاب، وإلا لتنغص العيش عليهم، قال في "فتح الرحمن": قوله: ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ عطف على الصنف المحذوف؛ أي: ونعيم أعطته المغفرة وسببته، وإلا فالمغفرة قبل دخول الجنة.
وفي "الخازن": فإن قلت: المؤمن المتقي لا يدخل الجنة إلا بعد المغفرة، فكيف يكون فيها المغفرة؟.
قلت: ليس بلازم أن يكون المعنى: ولهم مغفرة فيها؛ لأنّ الواو لا تقتضي الترتيب، فيكون المعنى: ولهم فيها من كل الثمرات، ولهم مغفرة قبل دخولهم فيها، وقيل (٢): معنى ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾ أي: رفع تكليفٍ عنهم، فيأكلون ويشربون من غير حساب ولا عقاب، ورفع قبيح ومكروه، فلا يحتاجون إلى غائط، ولا يمرضون بسبب تناول المأكولات والمشروبات، بخلاف الدنيا، فإنّ للأكل توابع ولوازم لا بدّ منها.
وقوله: ﴿كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ﴾ (٣) لمبتدأ محذوف، تقديره أمن هو خالد في هذه الجنة حسبما جرى به الوعد الكريم، كمن هو خالد في النار التي لا يطفأ لهيبها، ولا يفك أسيرها، ولا يونس غريبها، كما نطق به قوله تعالى: ﴿وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾؛ أي: ليس هؤلاء كاولئك، فليس من هو في الدرجات العلى
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
قيل: إذا دنا نهم.. شوى وجوههم، وانمازت فروة رؤوسهم؛ أي: انعزلت وانفرزت، فإذا شربوا.. قطع أمعاءهم، فخرجت من أدبارهم، فانظر بالاعتبار أيها الغافل عن القهار، هل يستوي الشراب العذب البارد، والماء الحميم المر؟.
وإنما ابتلاهم الله بذلك؛ لأن قلوبهم كانت خالية عن العلوم والمعارف الإلهية، ممتلئة بالجهل والغفلة.
١٦ - ﴿وَمِنْهُمْ﴾؛ أي (١): ومن هؤلاء الكفار الذين يتمتّعون، ويأكلون كما تأكل الأنعام ﴿مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ يا محمد، وهم: المنافقون، أفرد الضمير باعتبار لفظ ﴿من﴾، وجمع في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ﴾ باعتبار معناها.
والمعنى: أنّ المنافقين كانوا يحضرون مواقف وعظ رسول الله - ﷺ -، ومواطن خطبه التي يصليها على المسلمين، حتى إذا خرجوا من عنده - ﷺ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: المنافقون على طريق الاستهزاء، وإن كان بصورة الاستعلام ﴿لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾؛ يعني: علماء الصحابة: كعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء رضي الله عنهم ﴿مَاذَا قَالَ﴾ محمد ﴿آنِفًا﴾؛ أي: في الساعة الماضية القريبة منّا قبل خروجنا في وعظه؛ أي؛ في أول وقتٍ يقرب منّا.
والمعنى: أنا لم نلتفت إلى قوله؛ لأنّه كلام ساقط، فماذا قال حين تكلم؟ والمعنى: ماذا قال قبيل هذا الوقت؟
والمعنى (٢): أي ومن الناس منافقون يستمعون، فلا يعون ما تقول، ولا يفهمون ما تتلوا عليهم من كتاب ربك، تغافلًا عما تدعوهم إليه من الإيمان، حتى إذا خرجوا من عندك.. قالوا لمن حضر مجلسك من أهل العلم بكتاب الله: ماذا قال محمد قبل أن نفارق مجلسه؟ وما مقصدهم من ذلك إلا السخرية والاستهزاء بما يقول، وأنه مما لا ينبغي أن يؤبه به، أو يلقى لمثله سمع.
روى مقاتل: أنَّ النبي - ﷺ - كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد. سألوا عبد الله بن مسعود استهزاءً، ماذا قال محمد آنفًا؟ قال ابن عباس: وقد سئلت فيمن سئل.
ثم بين سبب استهزائهم، وتهاونهم بما سمعوا، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ المنافقون القائلون ما ذكر التاركون اتباع الحق، وهم: ﴿الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى وختم ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ وأماتها، فلم يؤمنوا، ولا توجهت قلوبهم إلى شيء من الخير ﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ الباطلة، وشهواتهم العاطلة في الكفر والعناد، فلذلك فعلوا ما فعلوا مما لا خير فيه.
أي (٣): هؤلاء الذين هذه صفتهم هم الذين ختم الله على قلوبهم، فلا يهتدون للحق الذي بعث الله به رسوله - ﷺ -، واتّبعوا شهواتهم، وما دعتهم إليه أنفسهم، فلا يرجعون إلى حجة ولا برهان.
١٧ - ثمّ ذكر سبحانه أضداد هؤلاء بقوله: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا﴾ إلى طريق الحق والخير، فآمنوا بالله، وعملوا بما أمرهم الله به ﴿زَادَهُمْ﴾ الله سبحانه ﴿هُدًى﴾ ورشادًا بالتوفيق والإلهام، وقيل: زادهم النبيّ - ﷺ -، وقيل: زادهم القرآن، وقال الفرَّاء: زادهم إعراض المنافقين واستهزاؤهم هدى، وقيل: زادهم نزول الناسخ
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
﴿وَآتَاهُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى، وأعطاهم ﴿تَقْوَاهُمْ﴾ وخشيتهم منه تعالى؛ أي: ألهمهم إياها، وأعانهم عليها.
والمعنى: والذين اهتدوا بالإيمان، واستماع القرآن زادهم الله تعالى على اهتدائهم هدى، وبصيرة، وعلمًا، وشرح صدورهم، وألهمهم رشدهم، وأعانهم على تقواه، حتى ارتقوا من درجة المهتدين إلى درجة الهادين، وخلق الله فيهم كمال التقوى، فلا يخافون لومة لائم، ويتنزه العارفون عما يشغل أسرارهم عن الحق، ويتبتَّلون إليه تعالى.
١٨ - ثم بين أنهم في غفلة عن النظر والتأمل في عاقبة أمرهم، فقال: ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ﴾ أي: المنافقون والكافرون ﴿إِلَّا السَّاعَةَ﴾؛ أي: القيامة، سميت ساعة لسرعة قيامها، والاستفهام فيه: إنكاري؛ أي: ما ينتظرون إلا القيامة ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً﴾؛ أي: فجأةً، بدل اشتمال من الساعة؛ أي: أن تباغتهم بغتةً.
والمعنى (١): أنهم لا يتذكَّرون بذكر أحوال الأمم الخالية، ولا بالإخبار بإتيان الساعة، وما فيها من عظائم الأمور، وما ينتظرون للتذكر إلا إتيان نفس الساعة بغتةً وفجأة ﴿فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا﴾ تعليل لمفاجأتها، لا لإتيانها مطلقًا، على معنى إنه لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر أمر مرتقب ينتظرونه، سوى إتيان نفس الساعة بغتةً؛ لأنّه قد جاء أشراطها، وأماراتها التي منها بعثة محمد - ﷺ -، وانشقاق القمر، فلم يرفعوا لها رأسًا، ولم يعدوها من مبادي إتيانها، فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة ﴿فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾؛ أي (٢): فمن أين لهم التذكر والتوبة إذا جاءتهم الساعة فجأة؟؛ أي: لا تنفعهم الذكرى، إذ لا تقبل التوبة، ولا يحسب الإيمان حينئذٍ، حكم بخطئهم وفساد رأيهم في تأخير التذكر إلى إتيانها ببيان استحالة نفع التذكر حينئذٍ، و ﴿فَأَنَّى﴾: خبر مقدم، و ﴿ذِكْرَاهُمْ﴾: مبتدأ مؤخر، و ﴿إذَا جَاءَتْهُمْ﴾: اعتراض وسط بينهما؛ رمزًا إلى غاية سرعة مجيئها،
(٢) روح البيان.
وقرأ أبو جعفر الرؤاسي عن أهل مكة (١): ﴿أَنْ تَأْتِيَهُمْ﴾ على الشرط، وجوابه: ﴿فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا﴾. وهذا غير مشكوك فيه؛ لأنها آتية لا محالة، لكن خوطبوا بما كانوا عليه من الشك، ومعناه: إن شككتم في إتيانها.. فقد جاء أعلامها، فالشكّ راجع إلى المخاطبين الشاكّين فيها.
قال الزمخشري: فإن قلت: فما جزاء الشرط على هذه القراءة؟
قلت: قوله: ﴿فَأَنَّى لَهُمْ﴾، ومعناه: إن تأتهم الساعة.. فكيف لهم ذكراهم؛ أي: تذكرهم واتعاظهم إذا جاءتهم الساعة؟ يعني: لا تنفعهم الذكرى حينئذٍ؛ لقوله: ﴿يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَىَ﴾.
فإن قلت: بم يتصل قوله: ﴿فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا﴾ على القراءتين؟
قلت: بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول، كقولك: إن أكرمني زيد.. فأنا حقيقٌ بالإكرام أكرمه.
وقرأ الجعفي وهارون عن أبي عمرو: ﴿بَغْتَةً﴾ بفتح الغين وشدّ التاء، قال صاحب "اللوامح": وهي صفة، وانتصابها على الحال لا نظير لها في المصادر ولا في الصفات، بل في الأسماء، نحو: الحَريَّة، وهو: اسم جماعة، والسريَّة: وهو اسم مكان. انتهى.
ومعنى الآية (٢): أي إنه بعد أن قامت الأدلّة على وحدانية الله تعالى، وصدق نبوّة رسوله، وأنَّ البعث حق، وأن الله يهلك من كذب رسله، ويحل بهم
(٢) المراغي.
والخلاصة: أنّ البراهين قد نصبت، والأدلة قد وضحت على وجوب الإيمان بالله، وصدق رسوله، والبعث والنشور، وهم لم يؤمنوا، فلا يتوقع منهم إيمان بعدئذٍ، إلا حين مجيء الساعة بغتةً، وها هي ذي أشراطها قد ظهرت، ومقدّماتها قد بدأت، ولم يأبهوا بها، ولا فكَّروا في أمرها، والمراد: بيان أنهم بلغوا الغاية في العناد، والنهاية في الاستكبار.
ثم أظهر خطأهم، وحكم بأنّ رأيهم آفنٌ في تأخيرهم التذكر إلى قيام الساعة، بيبان أنَّ التذكر لا يجدي نفعًا حينئذٍ، فقال: ﴿فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ﴾ إلخ؛ أي: فمن أين التذكر إذا جاءتهم الساعة؟ فإنّ الذكرى لا تنفع حينئذٍ ولا تقبل التوبة، ولا ينفع الإيمان.
١٩ - وبعد أن أبان أنّ الذكرى لا تنفع إذ انقضت هذه الدار التي جعلت للعمل، أمر رسوله بالثبات على ما هو عليه، والاستغفار لأتباعه، فقال: ﴿فَاعْلَمْ﴾ يا محمد ﴿أَنَّهُ﴾؛ أي: أن الشأن الأعظم ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾؛ أي (١): انتفى انتفاءً عظيمًا، أن يكون معبودًا بحق غير الملك الأعظم، و ﴿الفاء﴾ فيه: للإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا علمت أنَّ مدار السعادة هو التوحيد والطاعة، ومناط الشقاوة: هو الإشراك والعصيان، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: ﴿اعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ أي: أثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية، والعمل بموجبه، كقوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)﴾؛ أي: ثبتنا على الصراط المستقيم، وبهذا يندفع الإيراد بأنه - ﷺ -
وقدَّم العلم على العمل؛ تنبيهًا على فضله، واستبداده بالمزية عليه، لا سيما العلم بوحدانية الله تعالى، فإنه أول ما يجب على كل أحد، والعلم أرفع من المعرفة، ولذا قال: فاعلم دون فاعرف؛ لأن الإنسان قد يعرف الشيء ولا يحيط به علمًا، فإذا علمه وأحاط به علمًا.. فقد عرفه، والعلم بالألوهية من قبيل العلم بالصفات؛ لأن الألوهية صفة من الصفات، فلا يلزم أن يحيط بكنهه تعالى أحد، فإنه محالٌ إذ لا يعرف الله إلا الله، كما في الحديث.
﴿وَاسْتَغْفِرْ﴾ يا محمد؛ أي: أطلب الغفران من الله سبحانه ﴿لِذَنْبِكَ﴾ هو كل مقام عالٍ ارتفع - ﷺ - عنه إلى أعلى، أو ما صدر منه - ﷺ - من ترك الأولى، وعبَّر عنه بالذنب نظرًا إلى منصبه الجليل، وإرشادًا له - ﷺ - إلى التواضع، وهضم النفس، واستقصاء العمل، أو أطلب من الله أن لا يقع منك ذنب، أو استغفر الله ليعصمك. وقيل: معنى ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾: استغفر لذنوب أهل بيتك ﴿و﴾ استغفر ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾؛ أي: لذنوب أمّتك بالدعاء لهم، وترغيبهم فيما يستدعي غفرانهم؛ لأنهم أحق الناس بذلك منك؛ لأنَّ ما عملوا من خيرٍ كان لك مثل أجره، إذ لمكمل الغير مثل أجر ذلك الغير.
وفي إعادة (٢) حلة الاستغفار على اختلاف متعلقيه جنسًا، وفي حذف
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أي إذا علمت سعادة المؤمنين، وعذاب الكافرين.. فاستمسك بما أنت عليه من موجبات السعادة، واستكمل حظوظ نفسك بالاستغفار من ذنبك - وذنوب الأنبياء أن يتركوا ما هو الأولى بمنصبهم الجليل - وتوجه بالدعاء والاستغفار لأتباعك من المؤمنين والمؤمنات.
وفي الحديث الصحيح: أنَّ رسول الله - ﷺ - يقول: "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منيّ، اللهم اغفر لي هزلي، وجدي، وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي". وثبت أنه - ﷺ - كان يقول في آخر الصلاة: "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به منّي، أنت إلهي لا إله أنت". وجاء أيضًا أنه قال: "أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فإنّي أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة". وفي رواية: "مئة مرة". وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي - ﷺ - أنه قال: "عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار، فأكثروا منهما، فإنّ إبليس قال: إنما أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك.. أهلكتهم بالأهواء، فهم يحسبون أنهم مهتدون". وفي الأثر المرويّ: "قال إبليس: وعزّتك وجلالك، لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ: وعزّتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني".
ثم رغَّبهم سبحانه في امتثال ما يأمرهم به، ورهَّبهم مما ينهاهم عنه، فقال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ﴾؛ أي: مكان تقلبكم الذي تتقلبون فيه في
والمعنى (٢): أي والله يعلم تصرفكم في نهاركم، ومستقركم في ليلكم، فاتقوه واستغفروه، فهو جدير بأن يتقى ويخشى، وأن يستغفر ويسترحم.
والخلاصة: أنه تعالى عالم بجميع أحوالكم، فلا يخفى عليه شيء منها، وإن دق وخفي، فراقبوه، ونحو الآية قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ﴾، وقوله: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦)﴾.
الإعراب
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (٢)﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة. ﴿وَصَدُّوا﴾: معطوف على ﴿كَفَرُوا﴾ ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿وَصَدُّوا﴾. ﴿أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهِ﴾ ومفعول به، والجملة: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة. ﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿وَآمَنُوا﴾: معطوف عليه أيضًا. ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿آمَنُوا﴾. ﴿نُزِّلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ونائب فاعل مستتر.
(٢) المراغي.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (٣)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿بِأَنَّ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور خبره، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم ﴿أنّ﴾، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلته. ﴿اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿أَنّ﴾، وجملة ﴿أنّ﴾: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿الياء﴾، والتقدير: ذلك كائن بسبب اتباع الذين كفروا الباطل. ﴿وَأَنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿اتَّبَعُوا الْحَقَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾: حال من ﴿الْحَقَّ﴾، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿أنّ﴾ وجملة ﴿أنّ﴾: معطوفة على جملة ﴿أنّ﴾ الأولى ﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف؛ أي: ضربًا مثل ذلك الضرب. ﴿يَضْرِبُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل. ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق به. ﴿أَمْثَالَهُمْ﴾: مفعول به، والجملة: مستأنفة.
﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾.
﴿فَإِذَا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كما ذكر، من إضلال أعمال الكفرة وخيبتهم، وصلاح أحوال المؤمنين، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: ﴿إِذَا لَقِيتُمُ﴾ إلخ. ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿لَقِيتُمُ﴾: فعل وفاعل. ﴿الَّذِينَ﴾: مفعول به، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول، وجملة ﴿لَقِيتُمُ﴾: في محل الخفض
﴿ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (٦)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: الأمر فيهم ما ذكر من القتل والأسر، وما بعدهما من المنّ والفداء، أو مفعول لفعل محذوف؛ أي: افعلوا بهم ذلك، والجملة: مستأنفة. ﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿يَشَاءُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، والجملة: فعل شرط لـ ﴿لو﴾ ﴿لَانْتَصَرَ﴾ ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لو﴾. ﴿انتصر﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله. ﴿مِنْهُمْ﴾ متعلق به، والجملة: جواب ﴿لو﴾ الشرطية، وجملة ﴿لو﴾: مستأنفة. ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف استدراك مهمل. ﴿لِيَبْلُو﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿يبلو﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله، منصوب بأن مضمرة بعد لام كي. ﴿بَعْضَكُمْ﴾: مفعول به. ﴿بِبَعْضٍ﴾: متعلق بـ ﴿يبلو﴾ والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، والجار والمجرور متعلق بفعل محذوف، تقديره: ولكن أمركم بالقتال لبلاء بعضكم ببعض، والجملة الاستدراكية: معطوفة على جملة ﴿لو﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿قُتِلُوا﴾: فعل ونائب فاعل صلة الموصول. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿قُتِلُوا﴾. ﴿فَلَنْ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الخبر بالمبتدأ؛ لما في الموصول من معنى الشرط. ﴿لن﴾: حرف نصب واستقبال ونفي. ﴿يُضِلَّ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿لن﴾ وفاعله: ضمير يعود على الله. ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: مستأنفة. ﴿سَيَهْدِيهِمْ﴾ ﴿السين﴾: حرف استقبال. ﴿يَهْدِيهِمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به، وفاعله: ضمير يعود على الله، والجملة: مفسرة لما قبلها. ﴿وَيُصْلِحُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على الله معطوف على ﴿يَهْدِيهِمْ﴾. ﴿بَالَهُمْ﴾: مفعول به. ﴿وَيُدْخِلُهُمُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستر، ومفعول به معطوف على ﴿يَهْدِيهِمْ﴾، ﴿الْجَنَّةَ﴾: مفعول به ثان على السعة. ﴿عَرَّفَهَا﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (٨) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (٩)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يَا﴾: حرف نداء، ﴿أيّ﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد، تعويضًا عمّا فات؛ أيّ من الإضافة، وجملة النداء: مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾ صفة لـ ﴿أي﴾ أو بدل منه. ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿إِن﴾: حرف شرط. ﴿تَنْصُرُوا اللَّهَ﴾: فعل مضارع وفاعل ومفعول به مجزوم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية، على كونها فعل شرط لها. ﴿يَنْصُرْكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به مجزوم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونا جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: جواب النداء. ﴿وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿يَنْصُرْكُمْ﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿كفروا﴾: صلة الموصول. ﴿فَتَعْسًا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الخبر بالمبتدأ لشبه الموصول بالشرط. ﴿تَعْسًا﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف، تقديره: فتعسوا تعسًا. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تعسا﴾ أو صفة له، و ﴿اللام﴾: للتبيين، والجملة المحذوفة: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية، مستأنفة. ﴿وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾: فعل ماض فاعل مستتر يعود على الله ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع معطوفة على الجملة المحذوفة على كونها خبر المبتدأ ﴿ذَلَكَ﴾: مبتدأ. ﴿بِأَنَّهُمْ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿كَرِهُوا﴾: خبره ﴿ماَ﴾: اسم وصول في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿أنّ﴾، وجملة أنّ: في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: ذلك كائن بسبب كراهتهم ما أنزل الله. ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: ما أنزله الله. ﴿فَأَحْبَطَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿أحبط أعمالهم﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الله ومفعول به والجملة: معطوفة على جملة ﴿كَرِهُوا﴾.
﴿أَفَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف يقتضيه المقام. و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أقعدوا في منازلهم فلم يسيروا في الأرض، والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿لَمْ يَسِيرُوا﴾: جازم وفعل مضارع وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾ معطوف على تلك المحذوفة. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿يَسِيرُوا﴾. ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة سببية. ﴿يَنْظُرُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿الفاء﴾ السببية الواقعة في جواب النفي أو الاستفهام، وعلامة نصبه: حذف النون، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيّد من الجملة التي قبلها من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: ألم يكن سيرهم في الأرض فنظرهم كيف كان عاقبة الذين. ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب على أنه خبر ﴿كاَنَ﴾ مقدم مبنيّ على الفتح. ﴿كاَنَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿عَاقِبَةُ﴾: اسمها. وجملة ﴿كاَنَ﴾: في محل النصب مفعول لـ ﴿يَنظُروا﴾ علق عنها باسم الاستفهام. ﴿الَّذِينَ﴾: مضاف إليه. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: متعلق بمحذوف صلة الموصول. ﴿دَمَّرَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿دَمَّرَ﴾ لتضمينه معنى أطبق، والجملة: مفسرة لـ ﴿كَيْفَ كَانَ﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿وَلِلْكَافِرِينَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لِلْكَافِرِينَ﴾: خبر مقدم. ﴿أَمْثَالُهَا﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة. ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ. ﴿بِأَنَّ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة. ﴿أنّ﴾: حرف نصب ﴿اللَّهَ﴾: اسمها، ﴿مَولَى﴾: خبرها. ﴿الَّذِينَ﴾: مضاف إليه، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول، وجملة ﴿أنّ﴾: في تأويل مصدر مجرور باللام؛ أي: ذلك كائن بسبب كون الله مولى الذين آمنوا. ﴿وَأَنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿أن الكافرين﴾: ناصب واسمه. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿مَولَى﴾: في محل النصب اسمها. ﴿لَهُمْ﴾: خبرها، وجملة ﴿لَا﴾: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أن﴾: معطوفة على جملة ﴿أن﴾ الأولى.
{إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا
﴿إنَّ اللهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿يُدْخِلُ الَّذِينَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿الله﴾ ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾: مستأنفة، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿وَعمَلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: معطوف على ﴿ءَامَنُوا﴾، ﴿جَنَّاتٍ﴾: مفعول به ثان على السعة. ﴿تجرِى﴾: فعل مضارع. ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾: متعلق به. ﴿الأَنْهارُ﴾: فاعل، والجملة: في محل النصب، صفة لـ ﴿جَنَّاتٍ﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول. ﴿يَتَمَتَّعُونَ﴾: فعل مضارع مرفوع بثبات النون، والواو: فاعل، والجملة: في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الابتدائية: معطوفة على جملة ﴿إِنّ﴾، وجملة ﴿وَيَأْكُلُونَ﴾: معطوفة على جملة ﴿يَتَمَتَّعُونَ﴾. ﴿كَمَا﴾ ﴿الكاف﴾: حرف جر وتشبيه. ﴿ما﴾: مصدرية. ﴿تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ﴾: فعل وفاعل والجملة: صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية، تقديره: كأكل الأنعام، والجار والمجرور: صفة لمصدر محذوف، تقديره: أكلًا كائنًا كأكل الأنعام. ﴿وَالنَّارُ﴾: مبتدأ. ﴿مَثْوًى﴾ خبره، ﴿لَهُمْ﴾: صفة لـ ﴿مَثْوًى﴾، والجملة الاسمية: مستأنفة.
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (١٣)﴾.
﴿وَكَأَيِّنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿كأين﴾: اسم مركب من الكاف وأي، بمعنى كم الخبرية، في محل الرفع مبتدأ مبني على السكون. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿قَرْيَةٍ﴾: تمييز لـ ﴿كَأَيِّنْ﴾. ﴿هِيَ﴾: مبتدأ. ﴿أَشَدُّ﴾: خبره، والجملة: صفة لـ ﴿قَرْيَةٍ﴾. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿قَرْيَةٍ﴾: تمييز لـ ﴿كأيّن﴾. ﴿هِيَ﴾: مبتدأ. ﴿أَشَدُّ﴾: خبره، والجملة: صفة لـ ﴿قَرْيَةٍ﴾. ﴿قُوَّةً﴾ تمييز محوّل عن المبتدأ، منصوب بـ ﴿أَشَدُّ﴾، ﴿مِنْ قَرْيَتِكَ﴾: متعلق بـ ﴿أشَدُّ﴾. ﴿الَّتِي﴾: صفة لـ ﴿قَرْيَتِكَ﴾، ﴿أَخْرَجَتْكَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة: صلة ﴿الَّتِي﴾. ﴿أَهْلَكْنَاهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر لـ ﴿كأين﴾، وجملة ﴿كأين﴾: مستأنفة مسوقة لتسليته - ﷺ -. ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية،
﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (١٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾.
﴿أَفَمَنْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أليس الأمر كما ذكر، فمن كان على بينة من ربه، إلخ. والجملة المحذوفة، مستأنفة، مسوقة لبيان حال الفريقين. ﴿من﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، واسمها: ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾ خبرها، ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾: صفة ﴿بَيِّنَةٍ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾: صلة الموصول. ﴿كَمَنْ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ؛ أعني ﴿من﴾ الموصولة، والجملة الاسمية: معطوفة على الجملة المقدرة. ﴿زُيِّنَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿لَهُ﴾: متعلق به. ﴿سُوءُ عَمَلِهِ﴾: نائب فاعل، والجملة: صلة ﴿من﴾ الموصولة، وأفرد الضمير نظرًا للفظ ﴿من﴾. ﴿وَاتَّبَعُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿زُيِّنَ﴾. ﴿أَهْوَاءَهُمْ﴾: مفعول به، وجمع الضمير نظرًا لمعنى ﴿من﴾. ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿الَّتِي﴾: صفة لـ ﴿الْجَنَّةِ﴾، ﴿وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة: صلة الموصول، والعائد: محذوف، تقديره: وعدها المتقون، وخبر المبتدأ: محذوف، قدّره سيبويه فيما يتلى عليكم: مثل الجنة، والجملة بعدها: مفسرة للمثل، وقدَّره النضر بن شميل: مثل الجنة ما تسمعون، والجملة بعدها أيضًا: مفسرة للمثل. ﴿فِيهَا﴾: خبر مقدم. ﴿أَنْهَارٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: إما مفسرة للمثل لا محل لها من الإعراب، أو خبر لمبتدأ مضمر؛ أي: هي فيها أنهار، أو داخلة في حيز الصلة وتكرير لها، أو حال من ﴿الْجَنَّةِ﴾. ﴿مِنْ مَاءٍ﴾ صفة ﴿وَأَنْهَارٌ﴾. ﴿غَيْرِ آسِنٍ﴾ صفة ﴿مَاءٍ﴾. ﴿وَأَنْهَارٌ﴾: معطوف على ﴿أَنْهَارٌ﴾ الأولى. ﴿مِنْ لَبَنٍ﴾: صفة ﴿أَنْهَارٌ﴾ وجملة ﴿لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ﴾: صفة ﴿لَبَنٍ﴾، ﴿وَأَنْهَار﴾: معطوف على ﴿أَنْهَار﴾ الأولى، ﴿مِنْ خَمْرٍ﴾:
﴿وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ﴾.
﴿وَلَهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿فِيهَا﴾: متعلق بالاستقرار المحذوف الذي تعلق به الخبر، والمبتدأ: محذوف، تقديره: أصناف. و ﴿مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾: نعت للمبتدأ الحذوف. ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾: معطوف على أصناف، أو مبتدأ خبره مقدم محذوف؛ أي: ولهم مغفرة. ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾: نعت لـ ﴿مغفرة﴾. ﴿كَمَن﴾ خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أمن هو خالد في هذه الجنة حسبما جرى به الوعد كمن هو خالد، وجملة ﴿هُوَ خَالِدٌ﴾ صلة ﴿من﴾: الموصولة. ﴿فِي النَّار﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدٌ﴾. ﴿وَسُقُوا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿سقوا﴾: فعل ماض مغيّر الصيغة ونائب فاعل. ﴿مَاءً﴾: مفعول ثان. ﴿حَمِيمًا﴾: صفة ﴿مَاءً﴾ والجملة: معطوفة على جملة الصلة. ﴿فَقَطَّعَ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿قطع﴾ فعل ماض، وفاعله: ضمير مستتر يعود على ﴿مَاءً﴾، ﴿أَمْعَاءَهُمْ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجمع باعتبار معنى ﴿من﴾، والجملة: معطوفة على جملة ﴿سقوا﴾.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (١٧)﴾.
﴿وَمِنْهُمْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿منهم﴾: خبر مقدم. ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة: مستأنفة مسوقة لبيان جانب آخر من استهزاءهم وتعنّتهم. ﴿يَسْتَمِعُ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿مَنْ﴾. وأفرد الضمير نظرًا للفظ ﴿مَنْ﴾، والجملة: صلة الموصول. ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْتَمِعُ﴾. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿خَرَجُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿مِنْ عِندِكَ﴾: متعلق بـ ﴿خَرَجُوا﴾ والجملة: في محل
﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (١٨)﴾.
﴿فَهَلْ﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿هل﴾: حرف استفهام. ﴿يَنْظُرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿السَّاعَةَ﴾: مفعول به. ﴿أن﴾: حرف نصب. ﴿تَأْتِيَهُمْ﴾: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على ﴿السَّاعَةَ﴾ ﴿بَغْتَةً﴾: حال من فاعل ﴿تَأْتِيَهُمْ﴾؛ أي: باغتة، والجملة الفعلية مع أن المضمرة:
﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (١٩)﴾.
﴿فَاعْلَمْ﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا علمت سعادة المؤمنين، وشقاوة الكافرين، وأردت بيان ما هو اللازم لك. فأقول لك: ﴿اعلم﴾. ﴿اعلم﴾: فعل أمر وفاعل مستر يعود على محمد، والجملة: في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿أَنَّهُ﴾ ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر، و ﴿الهاء﴾: ضمير الشأن في محل النصب اسمها، وجملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾. في محل الرفع خبر ﴿أن﴾، وجملة ﴿أنّ﴾ مع مدخولها: في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي علم؛ أي: فاعلم عدم وجود إله إلا الله. ﴿اسْتَغْفِرْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، معطوف على ﴿اعلم﴾ ﴿لِذَنْبِكَ﴾: متعلق بـ ﴿اسْتَغْفِر﴾، ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ معطوف على ﴿لِذَنْبِك﴾، ﴿وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾: معطوف على ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، ﴿وَاللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿الله﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾: خبره، والجملة الاسمية: مستأنفة. ﴿مُتَقَلَّبَكُمْ﴾: مفعول
التصريف ومفردات اللغة
﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: صرفوا الناس عن الدخول في الإِسلام، وذلك يستلزم أنهم منعوا أنفسهم عن الدخول فيه، فهو من صدّ صدودًا: إذا أعرض بنفسه، فيكون كالتأكيد والتفسير لما قبله، أو من صدَّه صدًّا: إذا منعه عن الشيء، فهو تأسيس لا تأكيد، وأصله: صددوا، أدغمت الدال في الدال.
﴿أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾؛ أي: أبطلها وأحبطها، وأصله: أضلل، نقلت حركة اللام الأولى إلى الضاد، فسكنت فأدغمت في الثانية.
﴿بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ﴾ وهو: اسم عربي، وهو مفعل من الحمد، والتكرير فيه: للتكثير، كما تقول: كرّمته فهو مكرّم، وعظّمته فهو معظّم، إذا فعلت ذلك مرةً بعد مرةً، وهو منقول من الصفة على سبيل التفاؤل أنه سيكثر حمده، وكان - ﷺ - كذلك. وقد روى بعض نقلة العلم فيما حكاه ابن دريد: أن النبي - ﷺ - لما ولد.. أمر عبد المطلب بجزور فنحرت، ودعا رجال قريش وكانت سنّتهم في المولود إذا ولد في استقبال الليل.. كفئوا عليه قدرًا حتى يصبح، ففعلوا ذلك بالنبيّ - ﷺ -، فأصبحوا وقد انشقت عنه القدر، وهو شاخص إلى السماء، فلما حضرت رجال قريش وطعموا.. قالوا لعبد المطلب: ما سميت ابنك هذا؟ قال: سميته محمدًا، قالوا: ما هذا من أسماء آبائك، قال: أردت أن يحمد في السموات والأرض، يقال: رجل محمود ومحمد، فمحمود لا يدل على الكثرة، ومحمد يدل على ذلك، والذي يدل على الفرق بينهما قول الشاعر:
فَلَسْتَ بمَحْمُودٍ وَلَا بِمُحَمَّدٍ | وَلَكِنَّمَا أَنْتَ الْحَبَطُ الْحَبَاتِرُ |
﴿وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾؛ أي: حالهم في الدين والدنيا بالتأييد والتوفيق، قال الراغب في "المفردات": البال: الحال التي يكترث لها، ولذلك يقال: ما باليت بكذا؛ أي: ما اكترثت، ويعبر عن البال بالحال الذي ينطوي عليه الإنسان، ويقال: ما خطر كذا ببالي. انتهى. والبال: القلب، يقال: ما خطر الأمر ببالي، والحال؛ والعيش. يقال: فلان رخي البال والخاطر، يقال: فلان كاسف البال، وما يهتم به يقال: ليس هذا من بالي؛ أي: مما أباليه، وأمر ذو بال؛ أي: يهتم به، وما بالك، أي: ما شأنك. قال الجوهري: والبال أيضًا: رفاء العيش، يقال: فلان رخي البال؛ أي: رخي العيش، وعبارة أبي حيان: البال: الفكر، تقول: خطر في بالي كذا. ولا يثنى ولا يجمع، وشذ قولهم: بالات في جمعه، وعبارة "القاموس": والبال: الحال والخاطر والقلب والحوت العظيم، والبالة بهاء: القارورة، والجراب، ووعاء الطيب.
﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ قال الراغب: اللقاء: يقال: في الإدراك بالحس؛ أي: بالبصر والبصيرة.
﴿حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ﴾؛ أي: أكثرتم فيهم القتل، قال في "الكشاف"؛ الإثخان: كثرة القتل، والمبالغة فيه، من قولهم: أثخنته الجراحات: إذا أثبتته، حتى تثقل عليه الحركة، وأثخنه المرض إذا أثقله، من الثخانة التي هي: الغلظ والكثافة، وفي "المفردات": يقال: ثخن الشيء فهو ثخين: إذا غلظ ولم يستر في ذهابه، ومنه استعير قولهم: أثخنسه ضربًا واستخفافًا.
﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾ الوثاق بالفتح والكسر: اسم لما يوثق به، ويشد من القيد والحبل ونحوه، والجمع: وثق كرباط وربط، وعناق وعنق، اهـ من "المصباح". قال في "الوسيط": الوثاق: اسم من الإيثاق، يقال: أوثقه إيثاقًا ووثاقًا: إذا شدّ أسيره كيلا يفلست، وفي "القاموس": الأسير: الأخيذ والمقيَّد والمسجون، الجمع: أسرى أسارى بالضم، وأسارى بالفتح اهـ. وفي "المختار": وأسرت
﴿فَإِمَّا مَنًّا﴾ المنّ هنا: أن يترك الأمير الأسير الكافر من غير أن يأخذ منه شيئًا. ﴿فَإِمَّا مَنًّا﴾ وهو: أن يترك الأمير الأسير الكافر، ويأخذ منه مالًا أو أسيرًا مسلمًا في مقابلته، يقال: فداه يفديه فدى وفداءً، وفداه وافتداه وفاداه: أعطي شيئًا فأنقذه، والفداء ذلك المعطي ويقصر، كما في "القاموس"، وقال الراغب: الفدى والفداء: حفظ الإنسان عن النائبة بما يبذله عنه، كما يقال: فديته بمالي، وفديته بنفسي، وفاديته بكذا. انتهى.
وفي إعلال بالإبدال، أصله: فداي، أبدلت الياء همزة لتطرفها إثر ألف زائدة. ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ ﴿تَضَعَ﴾: فعل مثالي حذفت فاؤه في المضارع، و ﴿أَوْزَارَهَا﴾: آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها، كالسلاح والكراع، قال الأعشى:
وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا | رِمَاحًا طِوَالًا وَخَيْلًا ذُكُورَا |
وعبارة "الكشاف": وسميت أوزارها؛ لأنها لمَّا لم يكن لها بد من جرها فكأنها تحملها، وتستقل بها، فإذا انقضت. فكأنها وضعتها، وقيل: أوزارها، آثامها؛ يعني: حتى يترك أهل الحرب - وهم: المشركون - شركهم ومعاصيهم بأن يسلموا.
﴿فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ أصله: يضلل، بوزن يفعل نقلت حركة اللام الأولى إلى الضاد فسكنت، فأدغمت في اللام الثانية.
﴿عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾ وفي "المفردات": عرَّفه جعل له عرفًا؛ أي: رائحة طيّبةً، مأخوذ من العرف: وهو الرائحة الطيبة، وطعام معرّف؛ أي: مطيَّب، تقول
﴿وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾؛ أي: يوفقكم للدوام على طاعته. ﴿فَتَعْسًا لَهُمْ﴾ وفي "المختار": التعس: الهلاك، وأصله: الكب، وهو ضد الانتعاش، وقد تعس من باب قطع، وأتعسه الله، ويقال: تعسًا لفلان؛ أي: ألزمه الله هلاكًا. اهـ.
وفي "المصباح": وتعس تعسًا من باب تعب لغة، فهو تعس، مثل: تعب، ويتعدَّوا بالحركة وبالهمزة، فيقال: تعسه الله بالفتح، وأتعسه، وفي الدعاء: "تعسًا له، وتعس وانتكس". فالتعس: أن يخرَّ لوجهه، والنكس: أن لا يستقل بعد سقطته حتى يسقط ثانيةً، وهي أشد من الأولى.
وفي "القرطبي": وفي التعس عشرة أقوال:
الأول: بعدًا لهم. قاله ابن عباس وابن جريج.
الثاني: خزيًا لهم. قاله السدّي.
الثالث: شقاءً لهم. قاله ابن زيد.
الرابع: شتمًا لهم من الله. قاله الحسن.
الخامس: هلاكًا لهم. قاله ثعلب.
السادس: خيبةً لهم. قاله الضحاك وابن زياد.
السابع: قبحًا لهم. حكاه النقاش.
الثامن: رغمًا لهم. قاله الضحاك أيضًا.
التاسع: شرًّا لهم. قاله ثعلب أيضًا.
﴿دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ وفي "الشهاب": ومعنى ﴿دَمَّرَ اللَّهُ﴾ أهلكه، ودمّر عليه: لك ما يختص به من المال والنفس، والثاني: أبلغ؛ لما فيه من العموم، بجعل مفعوله نسيًا منسيًا، فيتناول نفسه، وكل ما يختص به من المال، ونحوه. والإتيان بعلى؛ لتضمينه معنى أطبق عليهم؛ أي: أوقعه عليهم محيطًا بهم.
﴿كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ﴾: جمع نعم بفتحتين، وهي: الإبل والبقر والضأن والمعز.
﴿وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾ فيه إعلال بالإبدال، أصله: أهوايهم، أبدلت الياء همزة لتطرفها بعد ألفٍ زائدةٍ.
﴿فِيهَا أَنْهَارٌ﴾ جمع نهر بالسكون، ويحرك مجرى الماء الفائض.
﴿غَيْرِ آسِنٍ﴾ من أسن الماء بالفتح، من باب ضرب أو نصر، أو بالكسر من باب طرب لغة فيه: إذا تغير طعمه وريحه ولونه تغيرًا منكرًا. وفي "القاموس": الآسن من الماء: الآجن؛ أي: المتغير الطعم واللون.
والمعنى: من ماء غير متغير الطعم والرائحة واللون، وإن طالت إقامته، بخلاف ماء الدنيا، فإنه يتغير بطول المكث في مناقعه وفي أوانيه.
﴿لَذَّةٍ﴾ واللذَّة: مصدر بمعنى الالتذاذ، ووقعت صفة للخمر، وهو عين لتأويلها بالمشتق؛ أي: لذيذة على حدِّ مررت برجل عدل؛ أي: عادل، وفي "الكرخي": قوله: ﴿لَذَّةٍ﴾ يجوز أن يكون تأنيث لذٍّ، ولذُّ بمعنى لذيذ، ولا تأويل على هذا، ويجوز أن يكون مصدرًا وصف به، ففيه التأويلات المشهورة. اهـ.
﴿مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى﴾؛ أي: لم يخرج من بطون النحل؛ أي: لم يخالطه الشمع ولا فضلات النحل، ولم يصت فيه بعض نحله، كعسل الدنيا. وفي "الصباح": العسل: يذكر ويؤنث، وهو الأكثر، ويصغر على عسيلة على لغة التأنيث، ذهابًا إلى أنها قطعة من الجنس، وطائفة منه. اهـ. وفي "المختار": العسل: يذكر
﴿مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ جمع ثمرة؛ وهي اسم لكل ما يطعم من أحمال الشجر، ويقال لكل نفع يصدر عن شيء: ثمرة، كقولهم: ثمرة العلم العمل الصالح، وثمرة العمل الصالح الجنة.
﴿وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا﴾ أصله: سقيوا يوزن فعلوا، أستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان فحذفت الياء، وضمت القاف لمناسبة الواو.
﴿أَمْعَاءَهُمْ﴾ فيه إعلال بالإبدال، أصله: أمعاي بالياء، أبدلت الياء همزة لما تطرفت إثر ألف أفعال الزائدة، وهو: جمع معي بالفتح والكسر، وبالقصر وهو: ما في البطون من الحوايا، وهو ما ينتقل إليه الطعام بعد المعدة.
﴿آنِفًا﴾؛ أي: قبيل هذا الوقت، مأخوذ من أنف الشيء لما تقدَّم منه، وأصل ذلك: الأنف بمعنى الجارحة، ثم سمي به طرف الشيء ومقدمه وأشرفه، وقرىء: بالمدّ وبالقصر، وهما: لغتان بمعنى واحد، وهما: اسما فاعل كحاذر وحذر، وآسن وأسن، إلا أنه لم يستعمل لهما فعل مجرد، بل المستعمل ائتنف يأتنف، واستأنف يستأنف، والائتناف والاستئناف: الابتداء، قال الراغب: استأنفت الشيء: أخذت أنفه؛ أي: مبدأه. ومنه. ماذا قال آنفًا.
﴿مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ﴾ يقال: استمع له وإليه: إذا أصفى. ﴿لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ أصله: أأتيوا بوزن أفعلوا، أبدلت الهمزة الساكنة واوًا حرف مد مجانسًا لحركة الأولى، ثم استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان فحذفت الباء وضمت الياء لمناسبة الواو.
﴿طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾ قال الراغب: الطبع: أن يصور الشيء بصورة ما، كطبع السكة، وطبع الدراهم، وهو أعم من الختم، وأخص من النقش، والطابع
﴿أَشْرَاطُهَا﴾ الأشراط: جمع شرط: وهو العلامة، وفي "المصباح": وجمع الشرط، شروط، مثل: فلس وفلوس، والشرط بفتحتين: العلامة، والجمع: أشراط، مثل: سبب وأسباب، ومنه أشراط الساعة؛ أي: علاماتها. اهـ.
﴿اهْتَدَوْا﴾ أصله: اهتديوا بوزن افتعلوا، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، فالتقى ساكنان فحذفت الألف. ﴿زَادَهُمْ﴾ أصله: زيدهم، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح. ﴿وَآتَاهُمْ﴾ أصله: أأتيهم بوزن أفعل، أبدلت الهمزة الساكنة ألفًا حرف مد من جنس حركة الأولى، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها بعد فتح. ﴿تَقْوَاهُمْ﴾ أصله: تقويهم؛ قلبت الباء ألفًا لتحركها بعد فتح. وأصل التقوى: وقيا، قلبت الواو تاءً، وقلبت الياء واوًا.
﴿مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ يجوز فيهما أن يكونا مصدرين ميميين من تقلب وثوى، وأن يكونا اسمي مكان أو زمان.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المقابلة بين قوله: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ وبين قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾.
ومنها: ذكر الخاص بعد العام في قوله: ﴿وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ﴾ فإنه ذكر الإيمان بذلك مع اندراجه فيما قبله؛ تنويهًا بشأن المنزل عليه، كما في عطف جبرائيل على الملائكة، وتنبيهًا على سمو مكانه من بين سائر ما يجب الإيمان به، وأنه الأصل في الكل.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ فإنه حصر الحقية فيه بتعريف طرفي الجملة.
والمعنى: أنَّ الكفار ضلَّت أعمالهم الصالحة في جملة أعمالهم السيئة من الكفر والمعاصي، حتى صار صالحهم مستهلكًا في غمار سيئهم.
ومنها: الطباق بين الحق والباطل في قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ﴾، وكذلك بين ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وبين ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ شبه ترك القتال بوضع آلته، واشتق من الوضع تضع بمعنى تنتهي وتترك، بطريق الاستعارة التبعية.
وفيه أيضًا: الإسناد المجازي؛ أي: حتى يضع أهلها آلاتها، فقد أسند وضع الأوزار إلى الحرب، وإنما هو لأهلها.
وفيه أيضًا: الاستعارة المكنية، حيث شبه الحرب بمطايا ذات أوزار؛ أي: أحمال ثقال.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ ففيه مجاز مرسل، علاقته ذكر الجزء وإرادة الكل؛ لأن ضرب الرقاب عبارة عن القتل، ولكن لمَّا كان قتل الإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته وقع عبارة عن القتل، وقد أوثر المجاز لما فيه من تصوير وتجسيد؛ لأنّ في هذه العبارة كما قال الزمخشري، من الغلظة والشدَّة ما ليس في لفظ القتل، لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة، وهو: حز العنق، وإطارة العضو الذي هو أعلى البدن، وأشرف أعضائه.
ومنها: الطباق بين: ﴿مَنًّا﴾ و ﴿فِدَاءً﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾؛ لأنه أطلق الجزء وأراد الكل؛ أي: يثبّتكم، وعبّر بالأقدام؛ لأنّ الثبات والتزلزل يظهران فيها. وهو
ومنها: المجاز بالحذف في قوله: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ﴾؛ أي: دينه ورسوله.
ومنها: تكرار قوله: ﴿فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ بعد قوله: ﴿وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ في قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (٨) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (٩)﴾ إشعارًا بأن الإحباط يلزم الكفر بالقرآن، ولا ينفك عنه بحال، كما في "الروح".
ومنها: التضمين في قوله: ﴿دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ فإنه ضمن ﴿دَمَّرَ﴾ معنى أطبق، فعدَّاه بـ ﴿على﴾.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا﴾ تسجيلًا عليهم باسم الكفر؛ لأنَّ مقتضى السياق أن يقال: ولهم أمثالها.
ومنها: الاحتباك في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (١٢)﴾ فإنه ذكر الأعمال الصالحة، ودخول الجنة أوّلًا، دليلًا على حذف الأعمال الفاسدة، ودخول النار ثانيًا، وذكر التمتع والمثوى ثانيًا، دليلًا على حذف التمتع والمأوى أولًا.
ومنها؛ التشبيه في قوله: ﴿كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ﴾ وجه الشبه: أنّ الأنعام تأكل بلا تمييز من أيّ موضع، كذلك الكافر لا تمييز له أمن الحلال وجد أم من الحرام، وكذلك الأنعام ليس لها وقت، بل في كل وقت تقتات وتأكل، كذلك الكافر أكول، كما قال - ﷺ -: "الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن كل في معي واحد".
ومنها: المجاز المرسل في قوله ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ﴾؛ أي: وكأيّن من أهل قرية من قريتك؛ أي: من أهل قريتك، فإنه أطلق المحل وأراد الحال. ونسبة الإخراج إليها باعتبار التسبب.
ومنها: وصف القرية الأولى بشدة القوة، للإيذان بأولوية الثانية منها
ومنها: التعبير بالمتقين عن المؤمنين في قوله: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾؛ أي: المؤمنون إيذانًا بأنّ الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى، الذي هو عبارة عن فعل المأمورات، وترك المنهيات.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (١٥)﴾ أطنب بتكرار لفظ ﴿أَنْهَار﴾ تشويقًا لنعيم الجنة.
ومنها: التنوين في قوله: ﴿وَمَغْفِرَةٌ﴾؛ دلالةً على عظمها.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿مِنْ رَبِّهِمْ﴾؛ لأنّ فيه تأكيدًا لما أفاده التنكير في ﴿مغفرة﴾ مكن الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية.
ومنها: إعادة صلة الاستغفار، وحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، في قوله: ﴿وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: ولذنب المومنين إشعارًا بعراقتهم في الذنب، وفرط افتقارهم إلى الاستغفار.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (٢٠) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (٢٢) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (٢٣) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (٢٥) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (٢٧) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (٣٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (٣٧) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (٣٨)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر (١) حال المنافقين والكافرين
ثم ذكر نتيجة لما سلف، وفذلكة لما تقدم، فأعقب هذا بأنّ الله طرد المنافقين وأبعدهم من الخير، ومن قبل هذا أصمهم فلا يسمعون الكلام المستبين، وأعمى أبصارهم، فلا يسيرون على الصراط المستقيم، أما المؤمنون فقد رضي عنهم، وأرضاهم، ونالوا محبته، ودخلوا جنته فضلًا منه ورحمةً، والله ذو الفضل العظيم.
قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٢٤)...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنَّ الله سبحانه وتعالى لمّا ذكر أن أولئك المنافقين أبعدهم الله عز الخير فأصمهم فلم ينتفعوا بما سمعوا، وأعمى أبصارهم فلم يستفيدوا بما أبصروا.. بيَّن أو حالهم دائرة بين أمرين: إما أنهم لا يتدبرون القرآن إذا وصل إلى قلوبهم، أو أنهم يتدبرون ولكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مقفلة، ثم ذكر أنهم رجعيًا إلى الكفر بعد أن تبين لهم الهدى بالدلائل الواضحة، والمعجزات الباهرة، وقد زيّن لهم الشيطان ذلك، وخدعهم بباطل الأماني، ثمّ بيّن سبب ارتدادهم وهو قوله لبني قريظة والنضير من اليهود: سنطيعكم في بعض أحوالكم، وهو ما حكي عنهم في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...﴾ الآية. والله يعلم ما يصدر عنهم من كل قبيح.
ثم أردف هذا بذكر ما يصادفونه من الأهوال إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم بسبب اتباعهم أهوائهم، وعمل ما يغضب ربهم، ومن ثم أحبط
ثم ذكر أنه يبتلي عباده بالجهاد وغيره، ليعلم الصادق في إيمانه، الصابر على مشاقّ التكاليف من غيره، ويختبر أعمالهم حسناتهم وسيئاتهم، فيجازيهم بما قدَّموا. ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)﴾.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أنّ المنافقين ستفضح أسرارهم، وأنهم سيلقون شديد الأهوال بين وفاتهم.. أردف ذلك بذكر حال جماعة من أهل الكتاب: وهم بنو قريظة والنضير، كفروا بالله، وصدّوا الناس عن سبيل الله، وعادوا الرسول بعد أن شاهدوا نعته في التوراة، وما ظهر على يديه من المعجزات، فهؤلاء لن يضرُّوا الله شيئًا بكفرهم، بل يضرون أنفسهم، وسيحبط الله مكايدهم التي نصبوها لإبطال دينه.
ثم ذكر قصص بني سعد، وقد أسلموا إلى رسول الله - ﷺ - وقالوا: قد آثرناك، وجئناك بنفوسنا وأهلينا، منًّا بذلك عليه، فنهاهم عن ذلك، وبيَّن لهم أنَّ هذا مما يبطل أعمالهم.
ثم أعقب هذا ببيان أن من كفروا وصدوا عن السبيل القويم، ثم ماتوا وهم على هذه الحال فلن يغفر الله لهم، ثم أرشد إلى أن عمل الكافرين الذي له صورة الحسنات محبط، وأن ذنبهم غير مغفور، وبعدئذٍ أردف هذا بأنّ الله خاذلهم في الدنيا والآخرة، فلا تبالوا بهم، ولا تظهروا ضعفًا أمامهم، فإنَّ الله ناصركم ولن يضيع أعمالكم.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ...﴾ الآية، سبب نزول هذه الآية: ما أخرجه (١) ابن أبي حاتم ومحمد بن نصر المروزي في "كتاب الصلاة" عن أبي العالية، قال: كان أصحاب رسول الله - ﷺ - يرون أنه لا يضر مع لا إله إلا الله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ فخافوا أن يبطل الذنب العمل.
التفسير وأوجه القراءة
٢٠ - ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ اشتياقًا منهم إلى الوحي، وحرصًا على الجهاد، لأن
قرأ الجمهور (١): ﴿فَإذَاَ أُنزِلت﴾ و ﴿ذكر﴾ على بناء الفعلين للمفعول، وقرأ زيد بن علي وابن عمير: ﴿نزلت﴾ و ﴿ذكر﴾ على فقال الفعلين للفاعل، ونصب ﴿القتال﴾؛ أي: ذكر الله القتال، وفي قراءة ابن مسعود: ﴿فإذا أنزلت سورة محدثة﴾؛ أي: محدثة النزول. ﴿رأيت﴾ يا محمد ﴿اَلَذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ في الإيمان أو نفاق، وهو الأظهر، فيكون المراد: الإيمان الظاهري الزعمي، والكلام من إقامة المظهر مقام المضمر؛ أي: رأيت المنافقين ﴿يَنظُرُونَ إليكَ﴾ جبنًا وهلعًا ﴿نَظَرَ اَلمَغثِشي عليهِ﴾؛ أي: (٢) نظرًا كنظر من أصابته الغشية والسكرة ﴿مِنَ﴾ أجل حلول ﴿الْمَوْتِ﴾؛ أي: ينظرون إليك نظر من شخص بصره عند الميت لجبنهم عن القتال، وميلهم إلى الكفار، قال ابن قتيبة والزجاج: يريد أنهم يشخصون نحوك بأبصارهم، وينظرون إليك نظرًا شديدًا، كما ينظر الشاخص بصره عند الموت.
أي: تشخص أبصارهم جبنًا وهلعًا، كدأب من أصابته غشية الميت؛ أي: حيرته وسكرته إذا نزل به، وعاين الملائكة، والغشي: تعطل القوى المتحركة والحساسة لضعف القلب، واجتماع الروح إليه بسبب يُحقِّقه في داخل، فلا يجد منقذًا. ومن أسباب ذلك: امتلاء خانق، أو مؤذ بارد، أو جوع شديد، أو وجع شديد، أو آفة في عضو مشارك كالقلب والمعدة، كذا في "المغرب". وفي الآية إشارة إلى أنّ من أمارات الإيمان: تمني الجهاد والميت شوقًا إلى لقاء الله، ومن
(٢) روح البيان.
ومعنى الآية (١): أي أنّ المؤمنين المخلصين في إيمانهم يشتاقون للوحي ونزول آيات الجهاد حرصًا على ثوابه، ويقولون: هلّا أنزلت سورة تأمرنا به، فإذا أنزلت سورة واضحة الدلالة في الأمر به.. فرحوا بها، وشقّ ذلك على المنافقين، وشخصت أبصارهم هلعًا وجبنًا من لقاء العدوّ، ونظروا مغتاظين بتحديد وتحديق، كمن يشخص بصره حين الموت.
ونحو الآية قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧٧)﴾.
ثم هددهم وتوعّدهم، فقال: ﴿فأولى لهم﴾؛ أي: فالموت أولى لمثل هؤلاء المنافقين، إذ حياتهم ليست في طاعة الله، فالموت خير منها، وقد يكون المعنى على التهديد والوعيد، والدعاء عليهم بالهلاك، فكأنه قيل: أهلكهم الله هلاكًا أقرب لهم من كل شر وهلاك، فهو نحو قوله في الدعاء: بعدًا له وسحقًا، قال الأصمعي: معنى قوله في التهديد أولى لك؛ أي: وليك الهلاك وقاربك ما تكره، وأنشد قول الشاعر:
فَعَادَى بَيْنَ هَادِيَتَيْنِ مِنْهَا | وَأَوْلَى أَنْ يَزِيْدَ عَلَى الثَّلَاثِ |
٢١ - وقوله: ﴿طَاعَةٌ وَقول معْرُوف﴾: كلام مستقل (٢) مستأنف، محذوف منه أحد الجزئين: إما المبتدأ؛ أي: أمرهم أو أمرنا أو الأمر المرضي لله طاعة لله ولرسوله، وقول معروف بالإجابة إلى ما أمروا به من الجهاد أو الخير؛ أي: طاعة مخلصة، وقول معروف خير لهم، وقيل: هو حكاية لقولهم؛ أي: قالوا: طاعة... إلخ. ويشد له قراءة أبيّ: ﴿يقولون طاعة وقول معروف﴾؛ أي: أمرنا ذلك كما قال في النساء: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ
(٢) روح البيان.
وقيل (١): هو متصل بما قبله، و ﴿اللام﴾ في ﴿لَهُمْ﴾: بمعنى الباء مجازةً، فأولى بهم طاعة الله وطاعة رسوله، وقول معروف بالإجابة.
والمعنى: لو أطاعوا وأجابوا.. لكانت الطاعة والإجابة أولى بهم، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء عنه.
ومعنى الآية على القول الأول: طاعة الله ورسوله، وقول معروف أمثل لهم، وأحسن مما هم فيه من الهلع والجزع والجبن من لقاء العدوّ، فمتاع الحياة الدنيا متاع قليل، وظلّ زائل، والآخرة خير لمن اتقى.
﴿فَإِذَا عَزَمَ﴾؛ أي: حتم وفرض ووجب ﴿الْأَمْرُ﴾؛ أي: الجهاد، ووجد القتال ولزمهم، وجواب الشرط: محذوف، تقديره: خالفوا وتخلفوا؛ أي: فإذا عزم الأمر... خالف المنافقون، وكذبوا فيما وعدوا به، وقيل: الجواب قوله: ﴿فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ﴾ كما في "البيضاوي"؛ أي: فلو صدقوا فيما قالوا من الكلام المنبىء عن الحرص على الجهاد بالجري على موجبه، أو صدقوا في إظهار الإيمان والطاعة ﴿لَكَانَ﴾ الصدق ﴿خَيْرًا لَهُمْ﴾ أو الكذب والنفاق، والقعود عن الجهاد، وفي الآية دلالة على اشتراك الكل فيما حكي من قوله تعالى: ﴿لَولَا نُزِّلَت سُورة﴾. فالمراد بهم: الذين في قلوبهم مرض.
والمعنى (٢): فإذا حضر القتال.. كرهوه وتخلّفوا عنه خوفًا وفرقًا، ولو صدقوا في إيمانهم، واتباعهم للرسول، وأخلصوا النيّة في القتال.. لكان خيرًا لهم عند ربهم، إذ ينالون به الثواب والزلفى عنده، ويعطيهم ما تقرُّ به أعينهم، ويدخلهم جنات النعيم.
٢٢ - ثم خاطب أولئك المنافقين خطاب توبيخ وتأنيب، فقال: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ﴾ وترجيتم؛ أي: هل يتوقع منكم يا من في قلوبهم مرض ﴿إِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أمور الناس،
(٢) المراغي.
والمعنى (١): أنهم لضعفهم في الدين، وحرصهم على الدنيا أحقاء بأن يتوقع ذلك منه أو عرف حالهم، ويقول لهم: هل عسيتم.
وقيل المعنى (٢): ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ﴾؛ أي: فعلكم ﴿إِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾؛ يعني: أعرضتم عن سماع القرآن، وفارقتم أحكامه ﴿أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾؛ يعني: تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية أو الفساد في الأرض بالمعصية والبغي وسفك الدم، وترجعوا إلى الفرقة بعدما جمعكم الله بالإِسلام، وتقطّعوا أرحامكم.
وقال أبو حيان: الأظهر: أن المعنى: من أعرضتم أيّها المنافقون عن امتثال أمر الله في القتال أن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإِسلام على أعدائهم، تقطعوا أرحامكم؛ لأنّ من أرحامكم كثيرًا من المسلمين، فإذا لم تعينوهم.. قطعتم أرحامكم. انتهى.
والخلاصة: أنه لا عجيب بعد أن صدر منكم ما صدر، أو كراهة الدفاع عن حوزة الإِسلام أن تعيدوا أحوال الجاهلية جزعة إذا صرتم أمراء الناس وولاتهم.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿توليتم﴾ مبنيًا للفاعل، وقرأ عليُّ بن أبي طالب: بضم التاء والواو، وكسر اللام مبنيًا للمفعول، وبها قرأ ابن أبي إسحاق وورش عن
(٢) الخازن.
(٣) الشوكاني والبحر المحيط.
٢٣ - وبعد أن ذكر هناتهم، بيّن سببها، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة (١) إلى المخاطبين بطريق الالتفات، إيذانًا بأنّ ذكر إهانتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم، وهو مبتدأ، خبره: قوله تعالى: هم ﴿الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ﴾ سبحانه؛ أي: أبعدهم، وطردهم عن رحمته ﴿فَأَصَمَّهُمْ﴾ عن استماع الحق، لتصامهم عنه بسوء اختيارهم ﴿وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ لتعاميهم عمّا يشاهدونه من الآيات المنصوبة في الأنفس والآفاق، قيل (٢): لم يقل: أصم آذانهم؛ لأنه لا يلزم من ذهاب الآذان ذهاب السماع، فلم يتعرض لها، ولم يقل: أعماهم؛ لأنه يلزم من ذهاب الأبصار - وهي الأعين - ذهاب الإبصار؛ لأن العين لها مدخل في الرؤية بخلاف الأذن، فلا مدخل لها في السمع.
قال سعدي المفتي: إصمام الآذان غير إذهابها، ولا يلزم من أحدهما الآخر، والصمم والعمى يوصف بكل منهما الجارحة، وكذلك مقابلهما من السماع والإبصار، ويوصف به صاحبهما في العرف المستمر، وقد ورد التنزيل على الاستعمالين، اختصر في الإصمام، وأطنب في الإعماء مع مراعاة الفواصل.
والمعنى (٣): أي فهؤلاء هم الذين أبعدهم من رحمته، فأصمهم عن الانتفاع
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إنّ الله تعالى خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم. قامت الرحم، فأخذت بِحِقْوِ الرحمن، فقال: مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك" ثمّ قال رسول الله - ﷺ -: "اقرؤوا إن شئتم: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ...﴾ " الآية. أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.
وقد وردت أحاديث كثيرة في صلة الرحم، كما مرّ بعضها في أول سورة النساء، فلا نطيل الكلام بذكرها هنا.
٢٤ - و ﴿الهمزة﴾ في قوله: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ للاستفهام التوبيخي، داخلة على مقدر يقتضيه المقام، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: ألا يلاحظ هؤلاء المنافقون هذا القرآن فلا يتدبرونه، ولا يتصفحون ما فيه من المواعظ الزاجرة، والحجج الظاهرة، والبراهين القاطعة، التي تكفي من له فهم وعقل، وتزجره عن الكفر بالله، حتى لا يقعوا في المعاصي الموبقة ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ﴾ لهم ﴿أَقْفَالُهَا﴾ وأغلاقها، فلا يكاد يصل إليها ذكر أصلًا.
والمعنى: أنه لا يدخل في قلوبهم الإيمان، ولا يخرج منها الكفر والشرك، لأنَّ الله سبحانه قد طبع عليها، والمراد بالقلوب: قلوب هؤلاء المخاطبين، والأقفال: جمع قفل بالضم: وهو الحديد الذي يغلق به الباب. كما في "القاموس".
قال في "الإرشاد" (١): ﴿أَمْ﴾: منقطعة، وما فيها من معنى بل، للانتقال من التوبيخ بعدم التدبّر إلى التوبيخ بكون قلوبهم مقفلة لا تقبل التدبّر، والتفكر، وما فيها من معنى الهمزة للتقرير، وتنكير القلوب: إما لتهويل حالها، وتفظيع شأنها بإبهام أمرها في الفساد والجهالة، كأنه قيل: أم على قلوب منكرة لا يعرف
فإن قيل: قد أخبر تعالى: بأنه أصمهم وأعمى أبصارهم، فكيف يوبخهم على ترك التدبر؟ كقولك للأعمى: أبصر، وللأصمّ: اسمع؟
أجيب عنه: بأن التكليف بما لا يطاق جائز، وقد أمر الله من علم أنه لا يؤمن بالإيمان، فلذلك وبخهم على ترك التدبّر، مع كونه أصمهم وأعمى أبصارهم. كذا في "الفتوحات".
وفي "التأويلات النجمية": أفلا يتدبّرون القرآن، فإنّ فيه شفاء من كل داء، ليفضي بهم إلى حسن العرفان، ويخلصهم من سجن الهجران. ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ أم قفل الحق على قلوب أهل الهوى، فلا يدخلها زواجر التنبيه، ولا ينبسط عليها شعاع العلم، ولا يحصل لهم فهم الخطاب، وإذا كان الباب متقفلًا.. فلا الشك والإنكار الذي فيها يخرج، ولا الصدق واليقين الذي هم يدعون إليه يدخل في قلوبهم. انتهى.
قرأ الجمهور: ﴿أَقْفَالُهَا﴾ بالجمع، وقرىء: ﴿إقفالها﴾ بكسر الهمزة على أنه مصدر، كالإقبال، وقرىء: ﴿أقفلها﴾ بالجمع على أفعل.
ومجمل معنى الآية (١): أفلا يتدبر هؤلاء المنافقون مواعظ الله التي وعظ بها في آي كتابه، ويتفكرون في حججه التي بينها في تنزيله، فيعلموا خطأ ما هم عليه مقيمون، أم هم قد أقفل على قلوبهم، فلا يعقلون ما أنزل في كتابه من العبر والمواعظ.
والخلاصة: أنهم بين أمرين، كلاهما شر، وكلاهما فيه الدمار والمصير إلى النار، فإما أنهم يعقلون ولا يتدبّرون، أو أنهم سلبوا العقول فهم لا يعون شيئًا.
وقرأ زيد بن علي ﴿سَوَّلَ لَهُمْ﴾؛ أي: كيده على تقدير حذف مضاف من السول، وهو: استرخاء البطن.
قال قتادة (١): هم: كفار أهل الكتاب، كفروا بالنبي - ﷺ - بعدما عرفوا نعته عندهم، وبه قال ابن جرير، وقال الضحاك والسدي: هم المنافقون، قعدوا عن القتال، وهذا أولى؛ لأنّ السياق في المنافقين.
﴿وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ الشيطان؛ أي: مدَّ لهم في الآمال والأماني، ووعدهم طول العمر، وقيل: إن الذي أملى لهم هو الله سبحانه، والمعنى: أمهلهم الله، ولم يعاجلهم بالعقوبة.
قرأ الجمهور (٢): ﴿وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ مبنيًا للفاعل، وقرأ أبي عمرو وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر، وأبو جعفر وشيبة والجحدري وابن سيرين: ﴿وأُملي لهم﴾ مبنيًا للمفعول؛ أي: أمهلوا ومدوا في عمرهم، قيل: وعلى هذه القراءة يكون الفاعل هو الله أو الشيطان، كالقراءة الأولى، وقد اختار القول بأنّ الفاعل هو الله، الفراء، والمفضل، والأولى اختيار أنه الشيطان لتقدم ذكره قريبًا، وقرأ مجاهد (٣) وابن هرمز والأعمش وسلام ويعقوب: ﴿وأملي﴾ بهمزة المتكلم
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
والمعنى (١): أي إنَّ الذين رجعوا القهقرى على أعاقبهم كفّارًا من بعد ما تبيَّن لهم الهدى، وقصد السبيل، فعرفوا واضح الحجج، ثم آثروا الضلال على الهدى عنادًا لأمر الله، الشيطان زيَّن لهم ذلك، وخدعهم بالآمال، وحسن لهم ما في الدنيا من لذة يتمتعون بها إلى بين، ثم يعودون كما كانوا كافرين إلى نحو ذلك من وساوسه التي لا تدخل تحت الحصر، ولا يبلغها العد.
٢٦ - ثم ذكر كيف إنهم ضلوا، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ الارتداد كائن ﴿بِأَنَّهُمْ﴾؛ أي: بسبب أنّ المنافقين المذكورين ﴿قَالُوا﴾ سرًّا ﴿لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ﴾؛ أي: قالوا لليهود الكارهين لنزول القرآن على رسول الله - ﷺ -، مع علمهم بأنه من عند الله، حسدًا وطمعًا في نزوله عليهم: ﴿سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ﴾ وذلك البعض: هو عداوة رسول الله - ﷺ -، ومخالفة ما جاء به، كما أفاده قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١١)﴾. وهم: بنو قريظة والنضير، الذين كانوا يوالونهم ويودونهم، وأرادوا بالبعض الذي أشاروا إلى عدم إطاعتهم فيه إظهار كفرهم، وإعلان أمرهم بالفعل قبل قتالهم وإخراجهم من ديارهم، فإنهم كانوا يفعلون ذلك قبل مساس الحاجة الضرورية الداعية إليه لما كان لهم في إظهار الإيمان من المنافع الدنيوية.
والمعنى (٢): أي سنطيعكم في بعض أموركم، أو في بعض ما تأمروننا به، كالقعود عن الجهاد، والموافقة في الخروج معهم إن أخرجوا، والتظافر على الرسول - ﷺ -.
﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ أي: إخفاءهم لما يقولون لليهود. قرأ الجمهور (٣)
(٢) البيضاوي.
(٣) البحر المحيط.
٢٧ - و ﴿الفاء﴾ في قوله: ﴿فَكَيْفَ﴾: عاطفة على محذوف، و ﴿كَيْفَ﴾ مفعول لفعل محذوف، والظرف في قوله: ﴿إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾: متعلق بذلك الفعل المحذوف، والتقدير: هم يفعلون في حياتهم ما يفعلون من الحيلة، فكيف يفعلون إذا قبض أرواحهم ملك الميت وأعوانه؟ حال كون الملائكة ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾؛ أي: ظهورهم وخلفهم بمقامع الحديد، والجملة: حال أو فاعل ﴿تَوَفَّتْهُمُ﴾. وهو تصوير لتوفيهم على أهول الوجوه وأفظعها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لا يتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة وجهه ودبره، والمعنى: أنه إذا تأخر عنهم العذاب، فسيكون حالهم هذا. وفي الكلام تخويف وتهديد، وقيل: ذلك عند القتال نصرة من الملائكة لرسول الله - ﷺ -، وقيل: ذلك يوم القيامة، والأول أولى، وقرأ الجمهور (١): ﴿تَوَفَّتْهُمُ﴾ بالتاء، وقرأ الأعمش: ﴿توفَّاهم﴾، بألف بدل التاء، فاحتمل أن يكون ماضيًا ومضارعًا حذفت منه التاء.
والمعنى: أي فكيف يفعلون إذا جاءتهم ملائكة الموت لقبض أرواحهم على أقبح الوجوه وأفظعها؟ وقد مثل ذلك بحال يخافونها في الدنيا، ويجبنون عن القتال لأجلها، وهو الضرب على الوجوه والأدبار، إذ في يوم الوفاة لا نصرة لهم ولا مفر، فكيف يحترزون من الأذى، ويبتعدون من العذاب؟.
٢٨ - ثم بين سبب التوفي على تلك الحال الشنيعة، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾ التوفّي الهائل مع الضرب ﴿بِأَنَّهُمُ﴾؛ أي: بسبب أنهم ﴿اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ﴾ من الكفر والمعاصي ﴿وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ﴾؛ أي: ما يرضاه من الإيمان والطاعة، حيث كفروا بعد الإيمان، وخرجوا عن الطاعة بما صنعوا من المعاملة مع اليهود
والمعنى: أي ذلك الهول الذي يرونه، من أجل أنهم انهمكوا في المعاصي، وزينت لهم الشهوات، وكرهوا ما يرضي الله من الإيمان به، والعمل على طاعته، والإخلاص له في السر والعلن، فأحبط ما عملوه من البر والخير، كالصدقات، والأخذ بيد الضعيف، ومساعدة البائس الفقير، وإغاثة الملهوف إلى نحو أولئك؛ إذ هم فعلوه وهم مشركون، فلم تكن لله ولا بأمره، بل بأمر الشيطان للفخر وحسن الأحدوثة بين الناس.
٢٩ - ثم بالغ في توبيخ المنافقين، وإظهار خباياهم، وإعلان نواياهم، فقال: ﴿أَمْ حَسِبَ﴾ ﴿أَمْ﴾: منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أظن ﴿الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾؛ أي: نفاقٌ؛ لأنّ النفاق مرض قلبي، كالشك ونحوه؛ أي: بل أحسب المنافقون ﴿أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ﴾ سبحانه؛ أي: أنه لن يظهر الله ﴿أَضْغانَهُمْ﴾؛ أي: أحقادهم وبغضهم وحسدهم للمؤمنين، والأضغان: جمع ضغن بالكسر، وهو: الحقد، والحقد: إمساك العداوة في القلب، والتربص لفرصتها؛ أي: (١) بل أحسب الذين في قلوبهم حقد وعداوة للمؤمنين، أن لن يخرج الله أحقادهم، ولن يبرزها لرسول الله وللمؤمنين، فتبقى أمورهم مستورةً؛ أي: إن ذلك مما يكاد يدخل تحت الاحتمال، وفي بعض الآثار: "لا يموت ذو زيغ في الدين حتى يفتضح" وذلك لأنه كحامل الثوم، فلا بد من أن تظهر رائحته، كما أنَّ الثابت في طريق السنة كحامل امسك، إذ لا يقر على إمساك رائحته
٣٠ - ﴿وَلَوْ نَشَاءُ﴾ إراءتهم إيّاك ﴿لَأَرَيْنَاكَهُمْ﴾؛ أي: لأعلمناكهم وعرفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم معرفة تقوم مقام الرؤية، تقبل العرب: سأريك ما أصنع؛ أي: سأعلمك ﴿فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾؛ أي: بعلامتهم الخاصّة بهم، التي يتميَّزون بها، ونسمهم بها.
مَنْطِقٌ صَائبٌ وَتَلْحَنُ أَحْيَا | نَا فخَيْرُ الأْحَاديْثِ مَا كَانَ لَحْنَا |
أي: والله إنك يا محمد لتعرفن المنافقين في وجه خفي من القول، فيفهمه النبي - ﷺ -، ولا يفهمه غيره، ولكن لم يظهره إلى أن أذن الله تعالى له في إظهار أمرهم، وفي المنع من الصلاة على جنائزهم، والقيام على قبورهم.
ومعنى الآية: أي (٢) ولو نشاء أيها الرسول لعرّفناك أشخاصهم، فعرفتهم عيانًا بعلامات هي غالبة عليهم، ولكنّه لم يفعل ذلك في جميع المنافقين للستر على خلقه، وردًا للسرائر إلى عالمها، وحرصًا على أن لا يؤذى ذوي قرباهم من المخلصين ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾؛ أي: ولتعرفنهم فيما يدارونه من القول، فيعدلون عن التصريح بمقاصدهم إلى التعريض والإشارة، وإياه عنى القائل في مدح محبوبته، فقال:
(٢) المراغي.
منْطِقٌ صَائِبٌ وَتَلْحَنُ أَحْيَا | نَا وَخَيْرُ الأَحَادِيْثِ مَا كَانَ لَحْنَا |
وروي: أنَّ أمير المؤمنين عثمان بن عفان قال: ما أسرّ أحد سريرة إلا أبداها الله سبحانه على صفحات وجهه، وفلتات لسانه. وقد ثبت في الحديث تعيين جماعة من المنافقين، فقد روى أحمد عن عقبة بن عامر، قال: خطبنا رسول الله - ﷺ - خطبة، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "إنّ فيكم منافقين، فمن سميت.. فليقم، ثم قال: قم يا فلان، قم يا فلان، ثم يا فلان" حتى سمى ستة وثلاثين رجلًا، ثمّ قال: "إنّ فيكم منافقين، فاتقوا الله". قال: فمرّ عمر رضي الله عنه برجل ممن سمي مقنع قد كان يعرفه، فقال: مالك، فحدثه بما قال رسول الله - ﷺ -، فقال: بعدًا لك سائر الدهر.
ثم وعد سبحانه وأوعد وبشّر وأنذر، فقال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ ونياتكم، فيجازيكم بحسب قصدكم وعملكم على ما قدّمتم أو خير أو شر، إذ لا يضيع عمل عامل منكم عدلًا منه ورحمةً، وهذا وعد منه للمؤمنين، ووعيد للمنافقين، وإيذان بأنَّ حالهم بخلاف حال المنافقين
٣١ - ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾؛ أي: وعزّتي وجلالي، لنبلونكم بالأمر بالقتال ونحوه من التكاليف الشاقة؛ إعلامًا لا استعلامًا، أو نعاملكم معاملة المختبر ليكون أبلغ في إظهار العذاب، فإنّ الله تعالى عالم بجميع الأشياء ﴿حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ على مشاقّ الجهاد علمًا فعليًّا يتعلّق به الجزاء؛ أي: حتى (١) نعلم كائنًا ما علمناه أزلًا أنه سيكون
وقيل المعنى (٢): ﴿حَتَّى نَعْلَمَ﴾؛ أي: حتى نميّز المجاهدين في سبيل الله منكم يا معشر المنافقين والصابرين؛ أي: ونميّز الصابرين في الحرب منكم، ﴿وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾؛ أي: تظهر أسراركم وبغضكم وعداوتكم، ومخالفتكم لله ولرسوله.
وقرأ الجمهور الأفعال الثلاثة (٣) بالنون، وقرأ أبي بكر عن عاصم بالتحتية فيها كلّها، وقرأ الجمهور: ﴿وَنَبْلُوَ﴾، بنصب الواو عطفًا على قوله: ﴿حَتَّى نَعْلَمَ﴾. وروى ورش عن يعقوب: إسكانها على القطع عمّا قبله.
والمعنى: أي ولنختبرنّكم بالأمر بالجهاد، وسائر التكاليف الشاقّة، حتى يتبيّن المجاهد الصابر من غيره، ويعرف ذو البصيرة في دينه من ذي الشكّ والحيرة فيه والمؤمن من المنافق، ونبلو أخباركم، فنعرف الصادق منكم في إيمانه من الكاذب، قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية.. بكى، وقال: اللهم لا تبتلنا، فإنك إذا بلوتنا.. فضحتنا، وهتكت أستارنا.
وفيه إشارة إلى أنه بنار البلاء يخلص إبريز الولاء، قيل: البلاء للولاء كاللهب للذهب، فإنَّ بالبلاء والامتحان. تبين جواهر الرجال، فيظهر المخلص،
(٢) تنوير المقابص.
(٣) الشوكاني.
٣٢ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ﴿وَصَدُّوا﴾؛ أي: منعوا الناس ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: عن دين الإِسلام الموصل إلى رضا الله تعالى ﴿وَشَاقُّوا الرَّسُولَ﴾ محمدًا - ﷺ -؛ أي: خالفوه وعادوه، وصاروا في شقّ في غير شقّه، المخالفة: أصل كل شرّ إلى يوم القيامة ﴿مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى﴾ بما شاهدوا من نعته - ﷺ - في التوراة، وبما ظهر على يديه من المعجزات، ونزل عليه من الآيات، وهم قريظة والنضير، أو المطعمون يوم بدر وهم رؤساء قريش، وقيل: المنافقون ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ﴾ بكفرهم وصدّهم ﴿شَيْئًا﴾ من الأشياء، أو لن يضرّوا الله شيئًا، من الضرر، أو لن يضرّوا رسول الله بمشاقّته شيئًا، وقد حذف المضاف؛ لتعظيمه وتفظيع مشاقّته ﴿وَسَيُحْبِطُ﴾ ﴿السين﴾: لمجرد التأكيد ﴿أَعْمَالَهُمْ﴾؛ أي: مكايدهم التي نصبوها في إبطال دينه تعالى، ومشاقّة رسوله، فلا يصلون بها إلى ما كانوا يبغون من الغوائل، ولا يتم لهم إلا القتل، كما لقريظة وأكثر المطعمين ببدر، والجلاء عن أوطانهم كما للنضير.
وقيل: المراد بأعمالهم: ما صورته صورة أعمال الخير، كإطعام الطعام، وصلة الأرحام، وسائر ما كانوا يفعلونه من الخير، وإن كانت باطلة من الأصل؛ لأنّ الكفر مانع.
والمعنى (١): أي إنّ الذين جحدوا توحيد الله، وصدّوا الناس عن دينه الذي بعث به رسوله، وخالفوا هذا الرسول، وحاربوه، وآذوه من بعد أن استبان لهم بالأدلّة الواضحة، والبراهين الساطعة، أنه مرسل من عند ربّه، لن يضرّوا الله شيئًا؛ لأنّ الله بالغ أمره، وناصر رسوله، ومظهره على من عاداه وخالفه، وسيبطل مكايدهم التي نصبوها لإبطال دينه ومشاقّة رسوله، ولا يصلون بها إلى ما
والمراد بصدّ الناس عن سبيل الله: منعهم إياهم عن الإِسلام بشتّى الوسائل، وعن متابعة الرسول والانضواء تحت لوائه.
٣٣ - ثمّ أمر سبحانه عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله - ﷺ -، فقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بمحمد وبالقرآن ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾ فيما أمركم به من الفرائض والصدقة ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ محمدًا - ﷺ - فيما أمركم أو الجهاد والسنة، ولا تشاقّوا الله والوسول في شيء منها ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ بمثل ما أبطل به هؤلاء أعمالهم من الكفر والنفاق والرياء والسمعة والعجب والمن والأذى وغيرها.
والظاهر: النهي عن كل سبب أو الأسباب التي توصل إلى بطلان الأعمال، كائنًا ما كان من غير تخصيص بنوع معيّن.
وفي الآية (١): إشارة إلى أنّ كل عمل وطاعة لم يكن بأمر الله وسنة رسوله، فهو باطل لم يكن له ثمرة؛ لأنّه صدر عن الطبع، والطبع ظلمانيّ، وإنما جاء الشرع وهو نورانيّ ليزيل ظلمة الطبع بنور الشرع فيكون مثمرًا، وثمرته أو يخرجكم من الظلمات إلى النور؛ أي: من ظلمات الطبع إلى نور الحق، فعليك بالإطاعة واستعمال الشريعة، وإيّاك والمخالفة والإهمال.
وعن أبي العالية، قال: كان أصحاب رسول الله - ﷺ - يرون أنه لا يضرّ مع لا إله إلا الله ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل، حتى نزلت هذه الآية، فخافوا أن يبطل الذنب العمل.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنّا معشر أصحاب رسول الله - ﷺ - نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبولًا، حتى نزلت: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾، فقلنا: ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا: الكبائر الموجبات
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال في الآية:
من استطاع منكم أن لا يبطل عملًا صالحًا بعمل سوء | فليفعل ولا قوة إلا بالله تعالى. |
٣٥ - ثم نهى سبحانه وتعالى المؤمنين عن الوهن والضعف، فقال: ﴿فَلَا تَهِنُوا﴾؛ أي: فلا تضعفوا أيّها المؤمنون عن قتال الكفار، والخطاب فيه لأصحاب النبيّ - ﷺ -، ثم وهو عام لجميع المسلمين إلى يوم القيامة، و ﴿الفاء﴾ فيه: قال الفصيحة؛ لأنّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا تبيّن لكم بما يتلى عليكم: أنّ الله عدوّهم يبطل أعمالهم فلا يغفر لهم، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: ﴿لا تهنوا﴾؛ أي: لا تضعفوا عن قتالهم، فإنّ من كان الله
وقرأ الجمهور (٢): ﴿وَتَدْعُوا﴾ مضارع دعا الثلاثي، وقرأ أبي عبد الرحمن السلمي: ﴿وتدّعوا﴾ بتشديد الدال من ادّعى القيم وتداعوا، مثل قولك: ارتموا الصيد وتراموا، وقرأ الجمهور: ﴿إِلَى السَّلْمِ﴾ بفتح السين، وقرأ الحسن وأبو رجاء والأعمش وعيسى وطلحة وحمزة وأبو بكر: بكسرها.
وجملة قوله: ﴿وَأَنتُمْ﴾ أيّها المؤمنون ﴿الْأَعْلَوْنَ﴾؛ أي: الغالبون بالسيف والحجة، في محل النصب حال من فاعل ﴿تَهِنُوا﴾، أو مستأنفة مقرّرة لما قبلها من النهي مؤكّدة لوجوب الانتهاء، قال الكلبيّ: آخر الأمر لكم، وإن غلبوكم في بعض الأوقات، وكذا جملة قوله: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَعَكُمْ﴾ بالنصر والمعونة عليهم في محل نصب على الحال، فإنّ كونهم الأغلبين، وكونه تعالى؛ أي: ناصرهم في الدارين، من أقوى موجبات الاجتناب عمّا يوهم الذلّ والضراعة، وكذا توفيته تعالى لأجور أعمالهم، حسبما يعرف عنه قوله تعالى: ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ﴾؛ أي: لن ينقصكم سبحانه وتعالى ﴿أَعْمَالَكُمْ﴾؛ أي: شيئًا من أجور أعمالكم، ولن يضيّعها، بل يوفي أجورها موفّرة كاملة، من وتره يتره وترًا، من
(٢) البحر المحيط.
باب وعد: إذا نقصه حقّه. كما سيأتي.
وعبّر (١) عن ترك الإثابة في مقابلة الأعمال بالوتر الذي هو إضاعة شيء معتدّ به من الأنفس والأموال، مع أنّ الأعمال غير موجبة للثواب على قاعدة أهل السنة، إبرازًا لغاية اللطف بتصوير الثواب بصورة الحق المستحق، وتنزيل ترك الإثابة، بمنزلة إضاعة أعظم الحقوق وإتلافها.
والمعنى: أي فلا تضعفوا أيّها المؤمنون عن جهاد المشركين، وتجبنوا عن قتالهم، وتدعوهم إلى الصلح والمسالمة خورًا وإظهارًا للعجز، وأنتم العالون عليهم، والله معكم بالنصر لكم عليهم، ولا يظلمكم أجور أعمالكم فينقصكم ثوابها.
٣٦ - ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ عند أهل البصيرة؛ أي: إن الإشغال بها ﴿لَعِبٌ﴾؛ أي: شغل غير مقصود لذاته، سواء شغل عن المقصود أم لا، يقال: لعب فلان: إذا كان فعله غير قاصد به مقصدًا صحيحًا، كفعل الصبيان ﴿وَلَهْوٌ﴾؛ أي: شغل شاغل عما هو المقصود؛ لأن اللهو ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمّه، ولذلك يقال: آلات الملاهي؛ أي: إنّ الاشتغال بالدنيا أعمال ضائعة لا نتيجة لها، ومشغلة عن طاعة الله تعالى؛ أي: باطل وغرور لا أصل لشيء منها، ولا ثبات له، ولا اعتداد به.
وفيه (٢): إشارة إلى أنّ الدنيا وما فيها من مثلها إلى آخرها، لا وجود لها في الحقيقة، وإنما هي أمر عارض، وخيال زائل ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا﴾ أيها الناس بما يجب به الإيمان ﴿وَتَتَّقُوا﴾ عن الكفر والمعاصي ﴿يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ﴾؛ أي: يعطكم ثواب إيمانكم وتقواكم من الباقيات الصالحات، التي يتنافس فيها المتنافسون، وفي الآية حث على طلب الآخرة العلية الباقية، وتنفير عن طلب الدنيا الدنية الفانية ﴿وَلَا يَسْأَلْكُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿أَمْوَالَكُمْ﴾؛ أي: لا يأمركم بإخراج جميع أموالكم في الزكاة، وسائر وجوه الخير، بحيث يخل أداؤها بمعاشكم؛
(٢) روح البيان.
٣٧ - ﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا﴾؛ أي: إن يسأل الله سبحانه وتعالى إيّاكم أموالكم جميعًا ﴿فَيُحْفِكُمْ﴾؛ أي: يجهدكم، ويلحف عليكم بمسألة جميعها، يقال: أحفى بالمسألة، وألحف وألح بمعنى واحد، والإحفاء: الاستقصاء في الكلام، ومنه إحفاء الشارب؛ أي: استئصاله؛ أي: إزالته من أصله.
وجواب الشرط قوله: ﴿تَبْخَلُوا﴾ بها، فلا تعطوا؛ أي: إن يأمركم بإخراج جميع أموالكم.. تبخلوا بها، وتمتنعوا من الامتثال ﴿وَيُخْرِجْ﴾ الله سبحانه، ويعضده القراءة بنون العظمة، أو البخل؛ لأنّه سبب الإضغان ﴿أَضْغَانَكُمْ﴾؛ أي: أحقادكم معطوف على جواب الشرط، قال في "عين المعاني"؛ أي: يظهر أضغانكم عند الامتناع، وقيل: ويخرج ما في قلوبكم من حبّ المال، وهذه المرتبة لمن يوقى شح نفسه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ جزمًا عطفًا على جواب الشرط، والفعل مسند إلى الله، أو إلى الرسول أو إلى البخل، وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو: ﴿ويخرج﴾ بالرفع على الاستئناف، بمعنى: وهو يخرج، وحكاها أبو حاتم عن عيسى، وفي "اللوائح": عن عبد الوارث عن أبي عمرو: ﴿ويَخْرُجُ﴾ بالياء التحتانية وفتحها، وضمّ الراء والجيم، ﴿أضغانكم﴾ بالرفع، بمعنى: وهو يخرج أو سيخرج أضغانكم رفع بفعله، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن سيرين وابن محيصن، وأيُّوب بن المتوكل، واليماني: ﴿وتَخْرُج﴾ بتاء التأنيث مفتوحة، ﴿أضغانكم﴾ رفع به، وقرأ يعقوب الحضرميّ: ﴿ونخرج﴾ بالنون وضم الجيم،
ومجمل معنى الآيتين: (٢) يقبل الله سبحانه حاضًّا عباده المؤمنين على جهاد أعدائه، والنفقة في سبيله، وبذل مهجتهم في قتال أهل الكفر به: قاتلوا أيّها المؤمنون أعداء الله وأعداءكم من أهل الكفر، ولا تدعكم الرغبة في الحياة إلى ترك قتالهم، فإنما الحياة الدنيا لعب ولهو لا يلبث أن يضمحل ويذهب، إلا ما كان منها من عمل في سبيل الله، وطلب رضاه.
ثم رغّبهم في العمل للآخرة، فقال: ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا...﴾ إلخ؛ أي: وإن تؤمنوا بربكم، وتتقوه حقّ تقاته، فتؤدّوا فرائضه، وتجتنبوا نواهيه.. يؤتكم ثواب أعمالكم، فيعوّضكم عنها ما هو خير لكم يوم فقركم وحاجتكم إلى أعمالكم، وهو لا يأمركم بإخراجها جميعها في الزكاة، وسائر وجوه الطاعات، بل يأمركم بإخراج القليل منها: وهو ربع العشر للزكاة مواساة لإخوانكم الفقراء، ونفع ذلك عائد إليكم.
ثمّ بيّن شحّ الإنسان على ماله، وشدة حرصه عليه، فقال: ﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا﴾ إلخ؛ أي: إن يسألكم ربكم أموالكم فيجهدكم بالمسألة، ويلحف عليها بطلبها. تبخلوا بها وتمنعوها إياه ضنّا منكم بها، لكنه علم ذلك منكم فلم يسألكموها، فيخرج ذلك السؤال أحقادكم لمزيد حبكم للمال، قال قتادة: قد علم الله سبحانه أنّ في سؤال المال خروج الأضغان للإسلام، من حيث محبّة المال بالجبلة والطبيعة، ومن نوزع في حبيبه.. ظهرت طوّيته التي كان يسرها.
والخلاصة: قد علم الله شحّ الإنسان على المال، فلم يطلب منه إلا النزر
(٢) المراغي.
٣٨ - ثمّ أكد ما سلف وقرّره بقوله: ﴿هَا﴾ حرف تنبيه بمعنى انتبهوا ﴿أَنْتُمْ﴾ كلمة (١) على حدة، وهو مبتدأ، خبره: قوله: ﴿هَؤُلَاءِ﴾؛ أي: انتبهوا أنتم أيها المخاطبون هؤلاء الموصوفون؛ يعني: في قوله: ﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا﴾ الآية. ﴿تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾. استئناف مقرّر لذلك، حيث دلّ على أنهم يدعون لإنفاق بعض أموالهم في سبيل الله، فيبخل ناس منهم، أو صلة لهؤلاء على أنه بمعنى الذين؛ أي: ها أنتم الذين تدعون، ففيه توبيخ عظيم، وتحقير من شأنهم، والإنفاق في سبيل الله يعمّ نفقة الغزو والزكاة وغيرهما؛ أي: ها أنتم أيها المؤمنون تدعون إلى النفقة في جهاد أعداء الله، ونصرة دينه ﴿فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ﴾ بالرفع، ومنكم من يجود؛ لأنّ من هذه ليست بشرط؛ أي: فمنكم ناس يبخلون، وهو في حيّز الدليل على الشرطية الثانية، كأنه قيل: الدليل عليه أنكم تدعون إلى أداء ربع العشر، فمنكم ناس يبخلون بما يطلب منهم ويدعون إليه من الإنفاق في سبيل الله، وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال.. فكيف لا يبخلون بالكثير: وهو جميع الأموال.
ثم بيّن سبحانه أن ضرر البخل عائد على النفس، فقال: ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ﴾ بالجزم؛ لأن ﴿من﴾: شرطية ﴿فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ﴾؛ أي: بمنعها الأجر والثواب ببخله، فإنّ كلًّا من ضرر البخل، نفع الإنفاق عائد إليه، فإن من يبخل وهو مريض بأجرة الطبيب، وبثمن الدواء.. فلا يبخل إلا على نفسه، والبخل يستعمل بعن وبعلى؛ لتضمّنه معنى الإمساك والتعدّي؛ أي: فإنما يمسك الخير عن نفسه بالبخل ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْغَنِيُّ﴾ عنكم وعن صدقاتكم؛ لأنّه الغنيّ عن المطلب المتنزه عن الحاجة دون من عداه ﴿وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾ إليه، وإلى ما عنده من الخير والرحمة، فما يأمركم به، فهو لاحتياجكم إلى ما فيه أو
وجملة قوله: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا﴾: معطوفة على الشرطية المتقدمة، وهي: ﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا﴾ إلخ؛ أي: وإن تعرضوا عن الإيمان والتقوى، وعما دعاكم إليه، ورغبكم فيه من الإنفاق في سبيله ﴿يَسْتَبْدِلْ﴾؛ أي: يذهبكم ويخلق مكانكم قومًا آخرين: هم أطوع لله منكم ﴿ثُمَّ لَا يَكُونُوا﴾؛ أي: أولئك الآخرون ﴿أَمْثَالَكُمْ﴾ في التولّي عن الإيمان والتقوى والإنفاق، بل يكونون راغبين فيها، وكلمة (١) ﴿ثُمَّ﴾: للدلالة على أن مدخولها مما يستبعده المخاطب؛ لتقارب الناس في الأحوال، واشتراك الجل في الميل إلى المال، والخطاب في ﴿تَتَوَلَّوْا﴾ لقريش، والبدل: الأنصار. وهذا كقوله تعالى: ﴿فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ﴾ أو للعرب، والبدل: العجم وأهل فارس، كما روي: أنه عليه السلام سئل عن القيم، وكان سلمان إلى جنبه، فضرب على فخذه، فقال: "هذا وقومه، والذي نفسي بيده، لو كان الإيمان منوطًا - أي: معلقًا - بالثريّا - النجم المعروف - لتناوله رجال من فارس". فدلّ على أنهم الفرس الذين أسلموا، أخرجه الطبراني والبيهقي وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي إسناده مقال. وقال مجاهد: هم من شاء الله من سائر الناس، وقال ابن جرير: والمعنى: ﴿ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ في البخل بالإنفاق في سبيل الله.
الإعراب
﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾.
﴿ويَقُولُ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿يقول الذين﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وجملة ﴿ءَامَنُوا﴾: صلته. ﴿لَولَا﴾: حرف تحضيض. ﴿نُزِّلَت سُورَة﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة: في محل النصب، مقول لـ ﴿الذِينَ﴾. ﴿فإذَا﴾ ﴿الفاء﴾:
﴿يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ﴾.
﴿ينظرون﴾: فعل وفاعل، والجملة: في محل النصب حال من الموصول، إن كانت الرؤية بصرية، ومفعول ثان إن كانت قلبية، وكلا الوجهين مراد في الآية. ﴿إليك﴾: متعلق بـ ﴿ينظرون﴾. ﴿نظر المغشي﴾ مفعول مطلق مبيّن للنوع، مؤكد لعامله. ﴿عليه﴾: متعلق بـ ﴿المغشي﴾؛ لأنّه اسم مفعول. ﴿من الموت﴾: متعلق به أيضًا. ﴿فأولى﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿أولى﴾: مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به قصد الدعاء. ﴿لهُم﴾: خبره؛ أي: فالهلاك كائن لهم، وعليه اقتصر أبو البقاء، أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: العقاب أو الهلاك أولى لهم؛ أي: أقرب وأدنى، ويجوز أن تكون اللام بمعنى الباء؛ أي: أولى وأحقّ بهم، وفي "شرح القاموس": معناه: الويل لك، أو أولاك الله ما تكرهه، فتكون اللازم زائدة. اهـ.
﴿طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (٢٢) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (٢٣)﴾.
﴿طاعة﴾: مبتدأ، خبره: محذوف، وسوَّغ الابتداء به الوصف المحذوف؛ أي: طاعة الله ورسوله أمثل لكم وأفضل، قال الرازي: لا يقال: ﴿طَاعَةٌ﴾: نكرة لا تصلح للابتداء؛ لأنّا نقول: هي موصوفة يدل عليه قوله تعالى: ﴿قول معروف﴾ فإنه موصوف، فكأنه تعالى قال: طاعة مخلصة وقول معروف خير.
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ
﴿أَفَلَا﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخيّ، داخلة على مقدر يقتضيه السياق، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المقدر، والتقدير: ألا يلاحظ هؤلاء المنافقون هذا القرآن فلا يتدبرّون، والجملة المحذوفة: مستأنفة. ﴿لا﴾ نافية. ﴿يتدبرون القرآن﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ذلك المحذوف. ﴿أم﴾: منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام التقريري التوبيخي. ﴿عَلَى قُلُوبٍ﴾: خبر مقدم. ﴿أَقْفَالُهَا﴾: مبتدأ مؤخر وجوبًا، والجملة: جملة إنشائية مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. ﴿إِن الذين﴾: ناصب واسمه. ﴿ارتدوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿على أدبارهم﴾: متعلق بـ ﴿ارتدوا﴾ أو حال من فاعله. ﴿من بعد﴾: متعلق بـ ﴿ارتدوا﴾ أيضًا. ﴿مَا﴾: مصدرية. ﴿تبين﴾: فعل ماض. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق به. ﴿الهدى﴾: فاعل، والجملة الفعلية: في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه؛ أي: من بعد تبيّن الهدى لهم. ﴿الشيطان﴾: مبتدأ، وجملة ﴿سَوَّلَ لَهُمْ﴾: خبر عن ﴿الشيطان﴾. والجملة الابتدائية: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة، وجملة ﴿وأملى لهم﴾: معطوفة على جملة ﴿سَوَّلَ لَهُمْ﴾. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ. ﴿بأنهم﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة. ﴿أن﴾: حرف نصب، و ﴿الهاء﴾: اسمها، وجملة ﴿قَالُوا﴾: خبرها. ﴿للذين﴾: متعلق بـ ﴿قَالُوا﴾. وجملة ﴿أن﴾: في تأويل مصدر مجرور بالباء، والتقدير: ذلك كائن بسبب قوله للذين كرهوا، وجملة ﴿كَرِهُوا﴾: صلة الموصول. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به. ﴿نزل الله﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد: محذوف، تقديره: ما أنزله الله. ﴿سنطيعكم﴾: فعل ومفعول به وفاعل مستتر يعود على المتكلمين. ﴿في بعض الأمر﴾: متعلق به، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾. ﴿والله﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿الله﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يعلم إسرارهم﴾: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب حال من فاعل ﴿قالوا﴾.
﴿فكيف﴾ ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿كيف﴾: اسم استفهام في محل الرفع خبر مقدم لمبتدأ محذوف، تقديره: فكيف حالهم؟ أو في محل النصب مفعول لفعل محذوف، تقديره: فكيف يصنعون؟ ﴿إذا﴾؛ ظرف لما يستقبل من الزمان. ﴿تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، الجملة: في محل الخفض مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ﴾؛ فعل وفاعل ومفعول. ﴿وأدبارهم﴾: معطوف على ﴿وجوههم﴾. والجملة الفعلية: في محل النصب حال من ﴿الملائكة﴾ وجواب ﴿إذا﴾: معلوم مما قبله؛ أي: إذا توفّتهم الملائكة.. فكيف حالهم؟ أو ﴿إذا﴾ ظرف مجرد عن معنى الشرط، متعلق بالفعل المحذوف؛ أي: فكيف يصنعون وقت توفية الملائكة إياهم؟ ﴿ذلك﴾: مبتدأ. ﴿بأنهم﴾: خبره، والجملة: مستأنفة. ﴿أن﴾: حرف نصب، و ﴿الهاء﴾: اسمها. ﴿اتبعوا﴾: فعل وفاعل، و ﴿ما﴾: موصولة في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿أن﴾: في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: ذلك بسبب اتباعهم ما أسخط الله. ﴿أسخط الله﴾: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، والجملة: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة ﴿وكرهوا رضوانه﴾: فعل وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿اتبعوا﴾. ﴿فأحبط أعمالهم﴾: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به معطوف على ﴿اتبعوا﴾.
﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (٣١)﴾.
﴿أَمْ﴾: منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام الإنكاري. ﴿حَسِبَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل والجملة: مستأنفة. ﴿فِي قُلُوبِهِمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مرض﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة: صلة الموصول. ﴿أن﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها: ضمير الشأن. ﴿لن﴾: حرف نصب واستقبال ﴿يخرج الله﴾: فعل وفاعل منصوب بـ
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (٣٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (٣٣)﴾.
﴿إن الذين﴾ ناصب واسمه. ﴿كفروا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿وصدوا﴾ معطوف على ﴿كفروا﴾. ﴿عن سبيل الله﴾ متعلق بـ ﴿صدوا﴾ ومضاف إليه. ﴿وشاقوا الرسول﴾ فعل وفاعل ومفعول به معطوف أيضًا على ﴿كفروا﴾. ﴿من بعد﴾ متعلق بـ ﴿شاقوا﴾ ﴿مَا﴾ مصدرية ﴿تبين﴾ فعل ماض ﴿لهم﴾ متعلق به ﴿الهدى﴾ فاعل، والجملة الفعلية مع ﴿مَا﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بإضافة الظرف إليه تقديره من بعد تبين الهدى لهم. ﴿لَن﴾: حرف نصب. ﴿يضروا الله﴾: فعل وفاعل ومفعول منصوب بـ ﴿لن﴾، والجملة الفعلية: في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة. ﴿شيئًا﴾: مفعول مطلق؛ أي: شيئًا من الضرر، ولك أن تعربه مفعولًا به. ﴿وسيحبط﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿والسين﴾: حرف استقبال. ﴿يحبط أعمالهم﴾: فعل مضارع وفعل مستتر ومفعول به معطوف على جملة ﴿لَن يضروا الله﴾. ﴿يا﴾: حرف نداء ﴿أي﴾، منادى نكرة مقصودة، و ﴿الهاء﴾: حرف تنبيه، ﴿الذين﴾: صفة لـ ﴿أيّ﴾، وجملة النداء: مستأنفة. وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول، ﴿أطيعوا الله﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. ﴿وأطِيعُوا اَلرسُولَ﴾ معطوف على ﴿أَطِيعُوا اللهَ﴾، ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية. ﴿تبطلوا﴾ فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية. ﴿أعمالكم﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَطيعوا الله﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (٣٦)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلته. ﴿وَصَدُّوا﴾: معطوف على ﴿كَفَرُوا﴾، ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾: متعلق بـ ﴿وَصَدُّوا﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف
﴿إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (٣٧) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (٣٨)﴾.
﴿إِن﴾: حرف شرط. ﴿يَسْأَلْكُمُوهَا﴾ ﴿يسأل﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهِ﴾ مجزوم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، و ﴿الكاف﴾: ضمير المخاطبين في محل النصب مفعول أول، و ﴿الميم﴾: حرف دالّ على الجمع، و ﴿الواو﴾ للإشباع، و ﴿الهاء﴾ مفعول ثان. ﴿فَيُحْفِكُمْ﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿يحفكم﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على الشرط. ﴿تَبْخَلُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية، على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية: مستأنفة. ﴿وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على الجواب. ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ ﴿ها﴾: حرف تنبيه لتنبيه المخاطب على ما يلقى إليه. ﴿أنتم﴾: مبتدأ. ﴿هَؤُلَاءِ﴾: خبره، وجملة ﴿تُدْعَوْنَ﴾: مستأنفة، وأعربه بعضهم ﴿ها﴾. للتنبيه، و ﴿أنتم﴾: مبتدأ، وجملة ﴿تُدْعَوْنَ﴾: خبره، و ﴿هَؤُلَاءِ﴾: منادى معترض بين المبتدأ والخبر؛ أي: أنتم يا هؤلاء تدعون.. إلخ. وجنح الزمخشري إلى إعراب ﴿هَؤُلَاءِ﴾: اسم موصول بمعنى الذين، وهو الخبر، وجملة ﴿تُدْعَوْنَ﴾: صلة، وتبعه االبيضاوي. وكررت ﴿ها﴾؛ للتنبيه وللتأكيد. ﴿تُدْعَوْنَ﴾: فعل ونائب فاعل، ﴿لِتُنْفِقُوا﴾ ﴿اللام﴾: حرف جرّ وتعليل. ﴿تنفقوا﴾: فعل مضارع وفاعل منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تنفقوا﴾ والجملة الفعلية مع أو المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور، متعلق بـ ﴿تنفقوا﴾؛ أي: تدعون لإنفاقكم في سبيل الله. ﴿فَمِنكُم﴾ ﴿الفاء﴾: قال الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنكم تدعون للإنفاق، وأردتم بيان تفاصيل أحوالكم.. فأقول لكم: منكم أو يبخل ومنكم من لا يبخل. ﴿منكم﴾: خبر مقدم، ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، وجملة ﴿يَبْخَلْ﴾:
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَوْلَا﴾: كلمة تفيد الحثّ على حصول ما بعدها؛ أي: هلّا أنزلت سورة في أمر الجهاد. ﴿مُحْكَمَةٌ﴾؛ أي: بيّنة واضحة، لا احتمال فيها لشيء آخر. ﴿مَرَضٌ﴾؛ أي: ضعف في الدين وشكّ ونفاق.
﴿نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ﴾؛ أي: نظر المغمى عليه خوفًا من الموت، أو المحتضر الذي لا يحرّك بصره. ﴿فَأَوْلَى لَهُمْ﴾ اختلف اللغويّون، والمعربون في هذه الكلمة، فقال الأصمعيّ: إنه فعل ماض، فمعناه: قاربهم ما يهلكهم، وعلى قوله: هو فعل ماض، وفاعله: ضمير مستتر يدلّ عليه السياق؛ كأنه قيل: فأولى
فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى | وَهْلَ لِلدَّاءِ يَحْلُبُ مَنْ يَرُدُّ |
والمعنى: فإذا جدّوا في أمر الجهاد، وافترض القتال.
﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ بكسر السين وفتحها؛ أي: لعلكم، أو فهل يتوقّع منكم إلا الإفساد أن أعرضتم عن الإيمان والقتال؟ وكلمة عسى: تدلّ على توقّع حصول ما بعدها، ولكن التوقع من الله غير متصوّر؛ لأنّ الله عزّ وجل عالم بما كان وبما يكون، فتفيد هنا التحقق؛ أي: حقّق الله إن أعرضتم وتولّيتم عن دين الله تعالى، وسنة رسوله - ﷺ - أنّ ترجعوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من الإفساد في الأرض، بالإغارة والنهب والسلب، وقطع الأرحام، كما مرّ، أو إن تولّيتم أمور الناس، أن تفسدوا في الأرض بأخذ الرشوة، والحكم بالظلم.
﴿وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾: جمع رحم، والرحم في الأصل: رحم المرأة: وهو منبت الولد، ووعاؤه في البطن، ثمّ سمّيت القرابة والوصلة من جهة الولادة رحمًا بطريق الاستعارة؛ لكونهم خارجين من رحم واحد.
﴿أَقْفَالُهَا﴾ والأقفال: جمع قفل بالضم: وهو الحديد الذي يغلق به الباب. كما في "القاموس".
﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ﴾ الارتداد والردّة: الرجوع في الطريق الذي جاء منه، لكن الردّة تختصّ بالكفر، والارتداد يستعمل فيه وفي غيره، وأصله: ارتَدَدُوا، فكرهوا توالي المثلين، فادغمت الدال الأولى في الثانية، على حدّ قول ابن مالك في "ألفيته".
أَوَّلَ مِثْلَيْنِ مُحَرَّكَيْنِ فِيْ | كِلْمَةٍ ادْغِمْ لَا كَمِثْلِ صُفَفِ |
﴿الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ﴾؛ أي: سهّل لهم، وزيّن، من التسويل: وهو تزيين النفس لما تحرص عليه، وتصوير القبيح منه بصورة الحسن. ﴿وَأَمْلَى لَهُمْ﴾؛ أي: أمدّ لهم في الأمانيّ الكاذبة، والآمال الباطلة. قال الراغب: الإملاء: الإمداد، ومنه قيل للمدّة الطويلة: ملاوة من الدهر، وملوة من الدهر، وأصله: أملي، بوزن أفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وهذه الياء أصلها واو، إلا أنها لمّا صارت رابعة.. قلبت ياء. ﴿سَنُطِيعُكُمْ﴾ أصله: سنطوعكم، من الطواعية، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مدّ.
﴿أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ﴾ جمع ضغن: وهو الحقد: وهو إمساك العداوة في القلب، والتربص لفرصتها. وفي "المصباح": ضغن صدره ضغنًا، من باب تعب: حقد، والاسم ضغن، والجمع: أضغان، مثل: حمل وأحمال: وهو ضغن وضاغن. وفي "المصباح" أيضًا: الحقد: الانطواء على العداوة والبغضاء، وحقد
وَإنِ الضُّغْنُ بَعْدَ الضُّغْنِ يَبْدُوْ | عَلَيْكَ وَيُخْرُجُ الدَّاءَ الدَّفِيْنَا |
وَلَقَدْ لَحَنْتُ لَكُمْ لِكَيْمَا تَفْهَمُوْا | وَاللَّحْنَ يَعْرِفُهُ ذَوُو الأَلْبَابِ |
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ﴾ أصل ﴿صدوا﴾: صددوا، أدغمت الدال في الدال، وأصل ﴿شاقوا﴾: شاققوا، أدغمت القاف الأولى في الثانية، فصار شاقوا. ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ﴾ أصله: يضرون بوزن يفعلون،
﴿فَلَا تَهِنُوا﴾ من الوهن: وهو الضعف، أصله: توهنون، حذفت نون الرفع لدخول الجازم: وهو ﴿لا﴾ الناهية، ثم حذفت فاء الفعل المثاليّ، فمضارعه: يوهن بوزن يفعل بكسر العين، ووقعت الواو بين ياء مفتوحة وكسرة فحذفت لوقوعها بين عدوّيها: الياء والكسرة. ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ﴾ جمع أعلى، أصله: الأعلوون بواوين، الأولى: لام الكلمة، والثانية: واو جمع المذكر السالم، فيقال: تحركت الواو الأولى وانفتح ما قبها فقلبت ألفا، فالتقى ساكنان فحذفت الألف.
﴿يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ مضارع وتر المثاليّ، وتحذف فاؤه في المضارع. وفي "المختار": وتره حقَّه يتره بالكسر وترًا بالكسر أيضًا: نقصه.
﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ ويقال في الفرق بينهما: وكل ما اشتغلت به مما ليس فيه ضرر في الحال، ولا منفعة في المآل، ولم يمنعك من مهام أمورك، فهو لعب، فإن شغلك عنها.. فهو لهو، ومن ثم يقال: آلات الملاهي؛ لأنها مشغلة عن غيرها، ويقال لما دون ذلك: لعب كاللعب بالشطرنج، والنرد والحمام.
﴿وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا﴾ أصله: توتقيون استثقلت الضمة على الياء فحذفت، ثم لمَّا سكنت.. حذفت لالتقاء الساكنين، وضمت القاف لمناسبة الواو، ثم أبدلت الواو فاء الكلمة تاءً، وأدغمت في تاء الافتعال، وحذفت نون الرفع لعطف الفعل على فعل الشرط.
﴿فَيُحْفِكُمْ﴾؛ أي: يجهدكم بطلب الكل. والإحفاء، وكذا الإلحاف: بلوغ الغاية في كل شيء، يقال: أحفاه في المسألة: إذا لم يترك شيئًا من الإلحاح. ﴿فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ﴾ وفي "السمين": بخل، وضن يتعدَّيان بعلى تارةً، وبعن أخرى، والأجود: أن يكونا حال تعدّيهما بعن مضمنين معنى الإمساك. اهـ.
البلاغة
وقد تضمّنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ﴾ أسند العزم إلى الأمر إسنادًا مجازيًا، وهو لأهله مثل: نهاره صائم.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ لتأكيد التوبيخ، وتشديد التقريع. اهـ "أبو السعود".
وفيه أيضًا: ما يُسمَّى في البلاغة في غير القرآن بتجاهل العارف؛ أي: سلوك طريقة الاستخبار.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾؛ لأنّ قطعها كناية عن ترك صلتها.
وفيه أيضًا: الاستعارة التصريحية الأصلية في ﴿أَرْحَامَكُمْ﴾؛ لأنّ الرحم في الأصل: وعاء الولد في البطن، أستعير لذوي القرابات لكونهم خارجين من رحم واحد.
ومنها: الإشارة إلى المخاطبين بطريق الالتفات في قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ المفسدون ﴿الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله﴾ إيذانًا بأن ذكر إهانتهم أوجب إسقاطهم عن رتبة الخطاب، وحكاية أحوالهم الفظيعة لغيرهم.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾ اختصر في الإصمام، حيث قال: ﴿فَأَصَمَّهُمْ﴾ وأطنب في الإعماء، حيث قال: ﴿وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾.
ومنها: تنكير ﴿قُلُوبٍ﴾ في قوله: ﴿أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ إمّا لتهويل حالها، وتفظيع شأنها، كأنه قيل: على قلوب نكرة لا يعرف حالها، وإمّا لأنّ المراد بها: قلوب بعض منهم: وهم المنافقون.
وفيه أيضًا: الاستعارة التصريحية، حيث شبّه قلوبهم بالأبواب المقفلة، فهي لا تنفتح لوعظ واعظ.
ومنها: إضافة الأقفال إلى ضمير القلوب؛ للدلالة على أنها أقفال مخصوصة بها، مناسبة لها، غير مجانسة لسائر الأقفال المعهودة التي من الحديد، إذ هي أقفال الكفر التي استغلقت فلا تنفتح. اهـ "أبو السعود".
ومنها: الكناية في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ﴾ وهو كناية عن الكفر بعد الإيمان.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾؛ لأنّ بلاء الأخبار كناية عن بلاء الأعمال.
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ﴾، لأنّ الصدّ والمشاقة عين الكفر.
ومنها: زيادة السين في قوله: ﴿وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ﴾ لمجرد التأكيد.
ومنها: تكرار اللام الرابطة لجواب ﴿لو﴾ في قوله: ﴿فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ لمجرد التأكيد بعد قوله: ﴿لَأَرَيْنَاكَهُمْ﴾.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ﴾ حيث عبّر بنون العظمة لإبراز العناية بالإراءة.
ومنها: حذف المضاف في قوله: ﴿لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ﴾؛ أي: لن يضرّوا رسول الله بمشاقته شيئًا، فقد حذف المضاف لتعظيمه، وتفظيع مشاقّته.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ حيث
ومنها: قصد العموم بقوله: ﴿وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ﴾؛ لأنّ الجمع المضاف من صيغ العموم. فالمراد: جميع أموالكم.
ومنها: تكرار ها التنبيه في قوله: ﴿هَا أَنْتُمْ﴾ للتأكيد.
ومنها: تكرار لفظ ﴿يَبْخَلُ﴾؛ استهجانًا له، وتنفيرًا منه.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ﴾؛ أي: ومنكم من يجود، وحذف هذا المقايل؛ لأنّ المراد: الاستدلال على البخل. اهـ "خطيب".
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾.
ومنها: الإتيان بكلمة ﴿ثُمَّ﴾ في قوله: ﴿ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾؛ للدلالة على أنّ مدخولها مما يستبعده المخاطبون لتقارب الناس في الأحوال، واشتراكهم في الميل إلى المال.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة الكريمة على ثلاثة مقاصد:
١ - وصف الكافرين والمؤمنين من أوّل السورة إلى قوله: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ﴾.
٢ - جزاء الفريقين في الدنيا والآخرة، من خذلان ونصر ونار وجنة، من قوله: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ إلى قوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾.
٣ - الوعد والوعيد للمنافقين والمرتدين، من قوله: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ...﴾ إلى آخر السورة (١).
والله أعلم
* * *
قال القرطبي: سورة الفتح مدنية بالإجماع (١)، ونزلت ليلًا بين مكة والمدينة في شأن الحديبية، وقد أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الفتح بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وأخرج ابن إسحاق والحاكم وصححه، والبيهقي في "الدلائل" عن المسور بن مخرمة ومروان، قالا: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية، من أولها إلى آخرها، وهذا لا ينافي الإجماع على كونها مدنية؛ لأنّ المراد بالسور المدنية: النازلة بعد الهجرة من مكة.
وهي تسع وعشرون آيةً، وخمس مدّة وستون كلمةً، وألفان وأربع مئة وثمانية وثلاثون حرفًا، نزلت بعد سورة الجمعة.
تسميتها: سميت سورة الفتح؛ لأنّ الله تعالى بشّر المؤمنين بالفتح المبين، حيث قال في أولها: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١)﴾ الآيات.
فضلها: نزلت هذه السورة الكريمة على رسول الله - ﷺ - بعد مرجعه من الحديبية، ولما نزلت هذه السورة.. قال رسول الله - ﷺ -: "لقد أنزلت عليّ الليلة سورة، هي أحب إليَّ من الدنيا وما فيها". ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١)﴾ أخرجه أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن عمر بن الخطاب.
مناسبتها لما قبلها من ثلاثة أوجه (٢):
١ - أنّ الفتح المراد به النصر مرتب على القتال، وجاء في سورة محمد تعليم المؤمنين كيفية القتال: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾، ثم ذكر هنا بيان
(٢) المراغي.
٢ - في كلتا السورتين ذكر محمد والفتح، وذكر المؤمنين المخلصين والمشركين والمنافقين.
٣ - وفي السورة السالفة أمر النبيّ - ﷺ - بالاستغفار لذنبه، وللمؤمنين والمؤمنات، وافتتحت هذه السورة بذكر حصول المغفرة.
وعبارة أبي حيان: مناسبتها لما قبلها (١): أنه تقدم: ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا...﴾ الآية. وهو خطاب لكفار قريش، أخبر رسوله - ﷺ - بالفتح العظيم، وأنه بهذا الفتح حصل الاستبدال، وآمن كل من كان بها، وصارت مكة دار إيمان، ولما قفل رسول الله - ﷺ - من صلح الحديبية.. تكلّم المنافقون، وقالوا: لو كان محمد نبيًا، ودينه حقًا.. ما صدّ عن البيت، ولكان فتح مكة، فأكذبهم الله تعالى، وأضاف عز وجل الفتح إلى نفسه؛ إشعارًا بأنه من عند الله، لا بكثرة عَدد ولا عُدد، وأكّده بالمصدر، ووصفه بأنه مبين مظهر لما تضمّنه من النصر والتأييد.
والظاهر: أنّ هذا الفتح هو فتح مكة، وقال الكلبي وجماعة: وهو المناسب لآخر السورة التي قبل هذه، لما قال: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ﴾ الآية.. بين أنه فتح لهم مكة، وغنموا، وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا، ولو بخلوا.. لضاع عليهم، فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم، وأيضًا لما قال: ﴿وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ﴾.. بيّن برهانه بفتح مكة، فإنهم كانوا هم الغالبين، وأيضًا لما قال ﴿فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ﴾.. كان فتح مكة، حيث لم يلحقهم وهن ولا دعوا إلى صلح، بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين مسلمين.
الناسخ والمنسوخ منها: قال أبو عبد الله محمد بن حزم رحمه الله تعالى: سورة الفتح مدنية بالإجماع، فيها ناسخ وليس فيها منسوخ.
سبب نزولها: ما أخرجه الحاكم وغيره عن المسور بن مخرمة، ومروان بن
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (٧) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (١٠) سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (١٧)﴾.قد تقدّم قريبًا بيان مناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها، ووسطها لوسطه، وأما قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ...﴾ الآيات، فمناسبتها لما قبلها: أنّ (١) الله سبحانه وتعالى، لما أخبر أنه سينصر رسله.. بيّن سبيل النصر بأنه رزقهم ثبات أقدام ليزدادوا يقينًا إلى يقينهم، ثمّ أخبر بأنّ من سننه أن يسلّط بعض عباده على بعض، وهو العليم بالمصالح واستعداد النفوس، وقد وعد المؤمنين جنات تجري من تحتها الأنهار، وأوعد الكافرين والمنافقين الذين كانوا يتربّصون الدوائر بالمؤمنين بالعذاب الأليم، وغضب عليهم، وطردهم من رحمته.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى، لمّا أتمّ الكلام (٢) على ما لكل من النبيّ - ﷺ - والمؤمنين من الثمرات، التي ترتّبت على عمله.. أعقبه بما يعمّهما معًا، فذكر أنه أرسل رسوله شاهدًا على أمّته، ومبشرًا لها بالثواب، ومنذرًا إيّاها بالعقاب، ثمّ أبان أنّ فائدة هذا الإرسال هو الإيمان بالله، وتعظيمه وتسبيحه غدوةً وعشيًّا، ونصرة دينه، ثمّ ذكر بيعة الحديبية، وهي قرية صغيرة على أقل من مرحلة من مكة سمّيت باسم بئر هناك، وأنّ الذين بايعوا هذه البيعة إنما بايعوا الله، ونصروا دينه، وأنّ من نَقَضَ منهم العهد.. فوبال ذلك عائد إليه، ولا يضرنّ إلا نفسه، ومن أوفى بهذا العهد.. فسينال الأجر العظيم، والثواب الجزيل.
قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لمّا ذكر حال المنافقين فيما سلف، وبيّن أنّ الله غضب عليهم ولعنهم، وأعدّ لهم عذاب السعير.. أردف ذلك بذكر قبائل من العرب: جهينة ومزينة وغفار وأشجع، والديل وأسلم، تخلّفوا عن رسول الله - ﷺ -، لما استنفرهم عام الحديبية، حين أراد السير إلى مكة
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما ذكر (١) اعتذارهم عن التخلّف فيما سلف، بأنه إنما كان لمعالجة معايشهم، وصلاح أموالهم، وما كان له من سبب آخر يقعدهم عن نصرته.. أعقب ذلك بما يكذّبهم في هذه المعذرة، فإنهم قد طلبوا السير مع النبيّ - ﷺ - في وقعه خيبر، لما يتوقعونه من مغانم يأخذونها، ولو كانت التّعِلّة السالفة حقًا.. ما طلبوا السير معه بحال.
ثم أخبر بأن الله سبحانه رفض طلبهم الذهاب مع رسول الله إلى خيبر، فقالوا: إنّ ذلك حسد من المؤمنين لهم، أن ينالوا شيئًا من الغنيمة، فرد الله عليهم ما قالوا، وأبان أنهم قوم مادّيّون لا يسعون إلا للدنيا، ولا يفهمون ما يعلي شأن الدين، ويرفع قدره.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما رفض (٢) إشراك المتخلّفين في قتال خيبر، عقابًا لهم على تقاعدهم عن نصرة الله ورسوله في الحديبية.. أردف ذلك ببيان أنّ باب القتال لا يزال مفتوحًا أمامكم، فإن شئتم أن تبرهنوا على مالكم من بلاءٍ في ميدان القتال.. فاستعدوا، فستندبون إلى مواجهة قوم
(٢) المراغي.
ثم ذكر الأعذار المبيحة للتخلّف عن الجهاد.
ومنها: ما هو لازم، كالعمى والعرج.
ومنها: ما هو عارض يطرأ ويزول، كالمرض.
ثم أعقب ذلك بالترغيب في الجهاد، والوعيد بالعذاب الأليم من مذّلة في الدنيا، ونار موقدة في الآخرة لمن نكل عنه، وأقبل على الدنيا، وترك ما يقرّبه من ربه.
أسباب النزول
سبب نزول هذه السورة (١): ما أخرجه البخاريّ عن أحمد بن إسحاق السلميّ، عن يعلى عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: أتيت أبا وائل أسأله، فقال: كنا بصفّين، فقال رجل: ألم تر إلى الذين يدعون إلى كتاب الله تعالى؟ فقال علي: نعم، فقال سهل بن حنيف: اتهموا أنفكسم، فلقد رأيتنا يوم الحديبية؛ يعني: الصلح الذي كان بين النبيّ - ﷺ - والمشركين، ولو نرى قتالًا... لقاتلنا، فجاء عمر فقال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: "بلى". قال: ففيم نعطي الدنيّة في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا؟ فقال: "يا ابن الخطاب إنّي رسول الله، ولن يضيِّعني الله أبدًا". فرجع متغيِّظًا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر، فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال يا ابن الخطاب إنه رسول الله، ولن يضيّعه الله أبدًا، فنزلت سورة الفتح. وأخرجه أحمد أيضًا.
قوله تعالى: ﴿لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه