تفسير سورة الحجرات

إعراب القرآن للنحاس
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب إعراب القرآن المعروف بـإعراب القرآن للنحاس .
لمؤلفه ابن النَّحَّاس . المتوفي سنة 338 هـ

٤٩ شرح إعراب سورة الحجرات

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يا حرف ينادى به، وأي مضمومة لأنها نداء مفرد، وها للتنبيه، الَّذِينَ في موضع رفع نعت لأيّ. ومن العرب من يقول: اللّذون آمَنُوا صلة «الذين». لا تُقَدِّمُوا
جزم بالنهي، وبعض النحويين يقول: جزم بلا لشبهها بلم، وبعضهم يقول: لقوتها في قلب الفعل إلى المستقبل لا غيره.
وروي في نزول هذه الآية أقوال فمن أصحّها سندا وأبينهما ما حدّثناه علي بن الحسين عن الحسن بن محمد قال: حدّثنا حجّاج عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة أن عبد الله بن الزبير أخبرهم: أنه قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو بكر رضي الله عنه: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر رضي الله عنه بل أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إليّ أو إلى خلافي؟
فقال: ما أردت خلافك، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١).
قال الحسن: وحدّثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا سفيان بن حسين عن الحسن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قال: لا تذبحوا قبل الإمام. وروى الضحاك عن ابن عباس لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قال: هذا في القتال والشرائع لا تقضوا حتّى يأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال أبو جعفر: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة بل بعضها يشدّ بعضا، لأن هذه الأشياء إذا كانت ونزلت الآية تأولها القوم على ظاهرها في كراهة تقديم القول بين يدي الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قبل أن يتشاوروا، وتأولها قوم على منع الذبح قبل الإمام، ودلّ على هذا أنّ فعل الطاعات قبل وقتها لا يجوز تقديم الصلاة ولا الزكاة. وقراءة ابن عباس
والضحاك لا تُقَدِّمُوا «١» وزعم الفراء «٢» أن المعنى فيهما واحد. قال أبو جعفر: وإن كان المعنى واحدا على التساهل فثمّ فرق بينهما من اللغة قدّمت يتعدّى فتقديره لا تقدّموا القول والفعل بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتقدّموا ليس كذا، لأن تقديره لا تقدموا بالقول والفعل.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قال إبراهيم التيمي: فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله لا أكلمك إلا أخا السّرار. قال ابن أبي مليكة قال عبد الله بن الزبير: فكان عمر بعد نزول هذه الآية لا يسمّع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلامه حتّى يستفهمه. وقال أنس: تأخّر ثابت بن قيس في منزله، وقال: أخاف أن أكون من أهل النار حتّى أرسل إليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لست من أهل النار» «٣» وعمل جماعة من العلماء على أن كرهوا رفع الصوت عند قبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبحضرة العلماء وفي المساجد، وقالوا: هذا أدب الله جلّ وعزّ ورسوله عليه السلام، واحتجّوا في ذلك بحديث البراء وغيره، كما قرئ على بكر بن سهل عن عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن المنهال عن زاذان أبي عمرو عن البرآء قال: خرجنا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولم يلحد فجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجلسنا حوله كأنّ رؤوسنا الطير، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكبّ في الأرض فرفع رأسه وقال: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» «٤» مرّتين أو ثلاثا، وذكر الحديث. فكان فيما ذكرناه فوائد: منها خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فدلّ هذا على أنه لا ينبغي لإمام ولا لأمير ولا قاض أن يتأخر عن الحقوق من أجل ما هو فيه، وفيه مجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجلسنا حوله كأنّ على رؤوسنا الطير، أي ساكنين إجلالا له فدلّ هذا على أنه كذا ينبغي لمن جالس عالما أو واليا يجب أن يجلّ، كما روى عبادة بن الصامت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس منّا من لم يجلّ كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا» «٥». وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ الكاف في وضع
(١) انظر البحر المحيط ٨/ ١٠٥، والمحتسب ٢/ ٢٧٨. [.....]
(٢) انظر معاني الفراء ٣/ ٦٩.
(٣) انظر البحر المحيط ٨/ ١٠٦.
(٤) أخرجه أحمد في مسنده ٤/ ٢٨٧ و ٦/ ٣٦٢، وأبو داود في سننه (٤٧٥٣)، والترمذي في سننه (٣٦٠٤)، وذكره التبريزي في مشكاة المصابيح (١٦٣٠)، والهيثمي في مجمع الزوائد ٣/ ٤٩، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ١٠/ ٤٠٠، وأبو نعيم الحلية ٨/ ١١٨.
(٥) ذكره الحاكم في المستدرك ١/ ١٢٢، والطبراني في المعجم الكبير ٨/ ١٩٦، والهيثمي في مجمع الزوائد ٨/ ١٤، والمتقي الهندي في كنز العمال (٥٩٨٠)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦/ ٢٥٩، والطحاوي في مشكل الآثار ٢/ ١٣٣.
نصب أي جهرا كجهر بعضكم لبعض. أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ «أن» في موضع نصب فقال بعض أهل اللغة: أي لئلا تحبط أعمالكم، وهذا قول ضعيف إذا تدبّر علم أنه خطأ، والقول ما قاله أبو إسحاق هو غامض في العربية قال: المعنى لأن تحبط وهو عنده مثل: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: ٨]. وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ قيل: أي لا تشعرون أنّ أعمالكم قد حبطت.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٣]
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ اسم إنّ، ويجوز أن يكون الخبر أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى ويكون «أولئك» مبتدأ، و «الذين» خبره، ويجوز أن يكون الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى خبر إنّ و «أولئك» نعتا للذين، ويجوز أن يكون خبر إنّ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٤]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤)
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ اسم «إنّ» والخبر أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ويجوز أن تنصب أكثرهم على البدل من الذين وقرأ يزيد بن القعقاع الْحُجُراتِ بفتح الجيم. وقد ردّه أبو عبيد على أنه جمع الجمع على التكثير. جمع حجرة على حجر ثمّ جمع حجرا على حجرات. قال أبو جعفر: وهذا خلاف قول الخليل وسيبويه، ومذهبهما أنه يقال: حجرة وحجرات وغرفة وغرفات فتزاد منها فتحة فيقال: حجرات وركبات وتحذف فيقال: حجرات وركبات، كما يقال: عضد عضد. وروى الضحاك عن ابن عباس: إنّ الّذين ينادونك من وراء الحجرات إعراب من بني تميم منهم عيينة ابن حصن صاحوا ألا تخرج إلينا يا محمد، اخرج إلينا يا محمد. أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ما في هذا من القبح.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٥]
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا أي عند النداء حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً أي لكان الصبر خيرا لهم، ودلّ صبروا على المضمر. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفر لهم ورحمهم لأنهم لم يقصدوا بهذا استخفافا، وإنما كان منهم سوء أدب.

[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٦]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦)
يقرأ فتثبّتوا وهما قراءتان «١» معروفتان إلّا أن «فتبيّنوا» أبلغ لأن الإنسان قد يثبّت ولا يتبيّن. أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عطفا على تصيبوا.
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٧ الى ٨]
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
العلماء من أهل السنّة يقولون: معنى حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وفّقكم له، وفعل أفاعيل تحبّون معها الإيمان وتستحسنونه فلما أحبّوه واستحسنوه نسب الفعل إليه، وكذا فعل أفاعيل كرهوا معها الكفر والفسق والعصيان. فأما أن يكون معنى «حبّب» أمركم أن تحبّوه فخطأ من كل جهة منها أنه إنما يقال: حبّب فلان إليك نفسه أي أنه فعل أفعالا أحببته من أجلها، ومنها أنه قول مبتدع مخالف صاحبه لنصّ القرآن قال جلّ وعزّ:
وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ [هود: ٨٨] ومنه قوله: اهْدِنَا [الفاتحة: ٦] من هذا بعينه، ومنها أنّ نص الآية يدلّ على خلاف ما قال جلّ وعزّ: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فلا اختلاف في هذا أنه يرجع إلى الذين حبّب إليهم الإيمان وزيّنه في قلوبهم وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان. فلو كان معنى حبّب أمرهم أن يحبوه كان الكفار وأهل المعاصي داخلين في هذا. وهذا خارج من الملّة و «الراشدون» الذين رشدوا للإيمان وتركوا المعاصي ثم بيّن جلّ وعزّ أنّ ذلك فضل منه ونعمة فقال جلّ وعزّ: فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً قال أبو إسحاق: «فضلا» مفعول من أجله أي للفضل. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عليم بمصالح عباده ومنافعهم، حكيم في أفعاله.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٩]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)
طائِفَتانِ مرفوعتان بإضمار فعل أي وإن اقتتلت طائفتان، ويجوز أن يكون المضمر كان ولا بدّ من إضمار لأن «إن» لا يليها إلا الفعل لأنها للشرط، وجوابه فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى شرط أيضا، والجواب فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي ترجع فإن قلت: تفي بغير همز فمعناه تكثر. وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ
(١) انظر تيسير الداني ص ٨٠.
قال محمد بن يزيد: قسط إذا جار وأقسط إذا عدل، مأخوذ منه أي أزال القسوط وفي الحديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كثيرا المقسطون الذين يعدلون في حكمهم وما ولّوا على منابر من نور على يمين الرحمن جلّ وعزّ» «١».
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٠]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ مبتدأ وخبره لمّا اتّفقوا في الدّين رجعوا إلى أصلهم لأنهم جميعا من بني آدم. وقراءة عبد الرحمن بن أبي بكرة وابن سيرين فأصلحوا بين إخوانكم «٢»
، وقراءة يعقوب فأصلحوا بين إخوتكم «٣» وأخ وإخوة لأقلّ العدد وإخوان للكثير وبَيْنَ أَخَوَيْكُمْ «٤» بين كلّ مسلمين اقتتلا فقد صار عامّا.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ جزم بالنهي. وروى الضّحاك عن ابن عباس أن بعضهم كان يقول لبعض: أنّك لغير رشيد، وما أشبه ذلك، يستهزئ به فنزل هذا، وهو من بني تميم وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ نهي أيضا. قال عكرمة عن ابن عباس: أي لا يعب بعضكم بعضا. وسمعت علي بن سليمان يقول: اللّمز في اللغة أن يعيب بالحضرة، والهمز في الغيبة. وقال أبو العباس محمد بن يزيد: اللّمز يكون باللسان والعين يعيبه ويحدّد إليه النظر وتشير إليه بالاستنقاص، والهمز لا يكون إلّا باللسان في الحضرة والغيبة، وأكثر ما يكون في الغيبة، فهذا شرح بيّن، وقد أنشد أبو العباس لزياد الأعجم: [البسيط] ٤٣١-
إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة وإن تغيّبت كنت الهامز اللّمزه
«٥» قال محمد بن يزيد: واللّمز كالغيبة قال: والنبز اللّقب الثابت: قال: والمنابزة الإشاعة والإذاعة به. قال أبو جعفر: فأما اللّقب فقد جاء التوقيف فيه عمّن حضر التنزيل وعرف نزول الآية فيم نزلت، كما قرئ على أحمد بن شعيب عن حميد بن مسعدة قال: أخبرنا بشر عن داود عن الشعبي قال: قال أبو جبيرة فينا نزلت هذه الآية
(١) أخرجه أحمد في مسنده ٢/ ١٥٩، ١٦٠.
(٢) انظر البحر المحيط ٨/ ١١١.
(٣) انظر البحر المحيط ٨/ ١١١.
(٤) انظر البحر المحيط ٨/ ١١١.
(٥) الشاهد لزياد الأعجم في ديوانه ٧٨، وبهجة المجالس ١/ ٤٠٤، وبلا نسبة في لسان العرب (همز)، وجمهرة اللغة ص ٧٢٧، ومقاييس اللغة ٦/ ٦٦، ومجمل اللغة ٤/ ٤٨٨، وديوان الأدب ١/ ٢٥٦، وأساس البلاغة (لمز)، وإصلاح المنطق ٤٢٨، وتاج العروس (همز)، وكتاب العين ٤/ ١٧.
في بني سلمة، قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة وللرجل منا اسمان وثلاثة فكان يدعى باسم منها فيقال: يا رسول الله إنه يغضب منه فنزلت وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ فأما حديث الضّحاك عن ابن عباس كان الرجل يقول للآخر: يا كافر يا فاسق، فنزلت: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ فإسناد الأول أصحّ منه، ولو صحّ هذا لم يكن ناقضا للأول، لأن المعنى في اللّقب على ما قال محمد بن يزيد وغيره: أنه كلّما كان ذائعا يغضب الإنسان منه ويكره قائله أن يلقى صاحبه به ويكرهه المقول له به فمحظور التنابز به. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ رفع بالابتداء والتقدير الفسوق بعد أن امنتم بئس الاسم وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال الضّحاك عن ابن عباس: من لم يتب من هذا القول.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ فسّر ابن عباس الإثم فيم هو؟ قال: إن تقول بعد أن تظنّ، فإن أمسكت فلا إثم والبيّن في هذا أنّ الظنّ الذي هو إثم، وهو حرام على فاعله، أن يظنّ بالمسلم المستور شرا، وأما الظن المندوب إليه فأن تظنّ به خيرا وجميلا، كما قال جلّ وعزّ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً [النور: ١٢] قال: وَلا تَجَسَّسُوا أي لا تبحث عن عيب أخيك بعد أن ستره الله جلّ وعزّ عنه: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بيّن الله جلّ وعزّ الغيبة على لسان نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، كما قرئ على أحمد بن شعيب عن علي بن حجر قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا العلاء عن أبيه عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله جلّ وعزّ ورسوله أعلم قال: أن تذكر أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان ذلك في أخي؟ قال: إن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهتّه» «١» فهذا حديث لا مطعن في سنده ثم جرت العلماء عليه، فقال محمد بن سيرين: إن علمت أن أخاك يكره أن تقول ما أشدّ سواد شعره، ثم قلته من ورائه فقد اغتبته. فقالت عائشة رضي الله عنها: قلت بحضرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في امرأة ما أطول درعها فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «قد اغتبتها فاستحلّي منها» «٢». وقال أبو نضرة عن جابر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الغيبة أشدّ من الزنا، لأن الرجل يزني فيتوب فيتوب الله عليه والرجل يغتاب الرجل فيتوب فلا يتاب عليه حتّى يستحلّه» «٣». قال أبو جعفر: وفي الغيبة ما لا يقع فيه
(١) أخرجه مالك في الموطّأ باب ٤ الحديث رقم (١٠)، والترمذي في سننه- البر والصلة ٨/ ١٢٠، والدارمي في سننه ٢/ ٢٩٩، وأبو داود في سننه الحديث رقم (٤٨٧٤).
(٢) أخرجه أبو داود في سننه- الأدب- الحديث رقم (٤٨٧٥).
(٣) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٨/ ٩١، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧/ ٥٣٣، والتبريزي في مشكاة المصابيح (٤٨٧٤)، والسيوطي في الحاوي للفتاوى ١/ ١٧٢، والمنذري في الترغيب والترهيب ٣/ ٥١١، وابن أبي حاتم الرازي في علل الحديث (٢٤٧٤).
استحلال، وهو أعظم، كما روي أن رجلا قال لمحمد بن سيرين: إنّي قد اغتبتك فحلّلني فقال: إنّي لا أحلّ ما حرّم الله تعالى. وروى عقيل عن ابن شهاب أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلّما كرهت أن تقوله لأخيك في وجهه ثم قلته من ورائه فقد اغتبته» «١». أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً هذا الأصل ثم من خفّف قال: ميتا فَكَرِهْتُمُوهُ قال الكسائي: المعنى فكرهتموه فينبغي أن تكرهوا الغيبة. وقال محمد بن يزيد: أي فكرهتم أن تأكلوه فحمل على المعنى مثل: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ [الشرح: ١].
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى عامّ والذي بعده خاص لأن الشعوب والقبائل في العرب خاصّة إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ روى عبد الرحمن في العرب خاصة قيل:
يا رسول الله من خير الناس؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله» ؟ «٢» وقالت درّة: سئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: من خير الناس؟ قال: «أمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرّحم وأتقاهم» «٣» قال ابن عباس: ترك الناس هذه الآية: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وقالوا: بالنسب. وقال أبو هريرة: ينادي مناد يوم القيامة إني جعلت نسبا وجعلهم نسبا. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ ليقم المتّقون فلا يقوم إلّا من كان كذلك.
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١٤ الى ١٥]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قال محمد بن يزيد: هذا على تأنيث الجماعة أي قالت جماعة الأعراب قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا والإسلام في اللغة الخضوع والتذلّل لأمر الله جلّ وعزّ والتسليم له والإيمان والتصديق بكلّ ما جاء من عند الله جلّ وعزّ فإذا خضع لأمر الله سبحانه وتذلّل له فهو مصدّق، وإذا كان مصدّقا فهو مؤمن، ومن كان على هذه الصفة فهو مسلم مؤمن إلّا أن للإسلام موضعا أخر وهو الاستسلام خوف
(١) أخرجه مالك في الموطأ باب ٤- الحديث (١٠). [.....]
(٢) أخرجه الترمذي في سننه (٢٣٢٩)، وأحمد في مسنده ٤/ ١٨٨، و ٥/ ٤٠، والدارمي في سننه ٢/ ٣٠٨، والبيهقي في السنن الكبرى ٣/ ٣٧١.
(٣) أخرجه القرطبي في تفسيره ٤/ ٤٧.
القتل وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً هذه قراءة أكثر الناس، وبها قامت الحجّة وقرأ أبو عمرو والأعرج لا يألتكم «١» وهي مخالفة للسواد إلا أن من قرأ بها يحتجّ بإجماع الجميع على وَما أَلَتْناهُمْ [الطور: ٢١] والقول في هذا: إنّهما لغتان معروفتان مشهورتان، فإذا كان الأمر كذلك فاتباع السواد أولى.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٦]
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦)
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ على التكثير من تعلمون.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٧]
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا «أن» في موضع نصب بمعنى يمنون عليك إسلامهم، ويجوز أن يكون التقدير بأن ثم حذفت الباء. بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ أي بأن ولأن ثمّ حذف الحرف فتعدّى الفعل.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٨]
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)
وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ مبتدأ وخبر أي عالم به، وإذا علمه جازى عليه.
(١) انظر تيسير الداني ١٦٤، والبحر المحيط ٨/ ١١٦.
Icon