تفسير سورة الحجرات

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

ولم تثنهم قراباتهم لهم عن عزمهم لأجل الله وصرفهم في الله فقتلوهم ابتغاء مرضاة الله وهذا من قوة إيمانهم بالله وشدة الصّدق لرسوله وغاية الوثوق بوعد الله ونهاية التمسك بنصرة الله رغبة فيما لهم عند الله وأمثال هؤلاء هم الّذين تكفل الله بنصرتهم ولو يوجد الآن من هؤلاء عصبة لما حل بالمسلمين ما حل من الذل والهوان والقتل والأسر والجلاء والاستيلاء على أوطانهم وأموالهم وذراريهم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم ألهم أمة محمد رشدهم ووحد كلمتهم على الحق وانصرهم على عدوهم «أُولئِكَ» الّذين هذا شأنهم الّذين لا تأخذهم في الله قرابة ولا صداقة ولا لومة لا ثم في ارحم أو حبيب فيعادون من حادّ الله ورسوله ويوالون من والاهما ويحبون من وادّ الله ورسوله هؤلاء الأبرار المخلصون «كَتَبَ» الله وأثبت «فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ» للكامل الخالص «وَأَيَّدَهُمْ» قواهم وأعزّهم «بِرُوحٍ مِنْهُ» قذفه في قلوبهم فنورها وقوى عزائمهم وألقى الخوف في قلوب أعدائهم والرّعب فيمن يناوئهم فينصرهم في الدّنيا «وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» في الآخرة «خالِدِينَ فِيها» لا يتحولون عنها أبدا إذ «رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ» الراضون المرضيون العاملون المخلصون هم «حِزْبُ اللَّهِ» المؤيد بتأييده المنصور بنصره «أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (٢٢) الناجحون الفائزون الرّابحون فيعملهم فليعمل العاملون وبأوصافهم فليتنافس المتنافسون اللهم اجعلنا، منهم هذا والله أعلم وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعهم وسلم.
تفسير سورة الحجرات عدد ٢٠- ١٠٦ و ٢٩
نزلت بالمدينة بعد المجادلة وهي ثمان عشرة آية وثلاثمائة وثلاث وأربعون كلمة والف وأربعمائة وستة وسبعون حرفا، تقدم بيان السّورة المبدوءة بما بدأت به أول سورة الممتحنة المارة، ويوجد أربع سور مختومة بما ختمت به هذه النّمل والمنافقون وهود ومثلها في عدد الآي التغابن فقط لا ناسخ ولا منسوخ فيها:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
214
لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»
نهى الله تعالى عباده، بعدم التقدم على نبيه لأن التقدم بين يدي رسوله تقدم بين يدي الله وقد أراد وهو أعلم بهذا التقدم مطلقه فيشمل التقدم بالقول والفعل وهذا من جملة تأديب الله تعالى عباده احتراما لحبيبه صلّى الله عليه وسلم الذي قدمه على خلقه أجمع وقد حذر ومنع جل جلاله في هذه الآية من أن يتكلم أحد قبل أن يتكلم أو يمشي إذا كان معه قبل أن يمشي أو يفعل شيئا ما قبل أن يفعل «وَاتَّقُوا اللَّهَ» في محافظة حقوق نبيكم وتأدبوا بين يديه أي بحضوره، لأن الحاضر أمام الرّجل كأنه واقف أو قاعد بين يديه «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لما تقولونه «عَلِيمٌ» (١) بما تفعلونه وهذه الآية عامة في جميع الأحوال لا يخصصها ما روي عن جابر بأنها نزلت حينما أراد صلّى الله عليه وسلم الذبح يوم الأضحى أي لا تذبحوا قبل أن يذبح لأن أناسا ذبحوا قبله فأمرهم بإعادة الذبح لما روي عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل هذا فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النّسك في شيء- أخرجه الترمذي.
ولا يقيده أيضا ما روي عن عائشة رضي الله عنها من أنها نزلت في النّهي عن صوم يوم الشّك لما جاء عن عمار بن ياسر قال: من صام يوم الشّك أي في اليوم الذي يشك فيه النّاس (هل هو من شعبان أو من رمضان) فقد عصى أبا القاسم.
أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح بل مطلقة جارية على عمومها في كلّ ما من شأنه معنى التقدم عليه صلّى الله عليه وسلم، ومن جملة الآداب التي علمها الله لعباده وأمرهم بها تجاه حضرة رسوله الأعظم قوله:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ» أي تأدبوا عن هذا أيضا لا تفعلوه لأنه ليس مثلكم إلّا في البشرية، أما في غيرها فهو فوق خلق الله أجمع، قال الأبوصيري:
215
أي اجتنب هذا وقل في مدحه ما شئت، لذلك يجب عليكم حينما تخاطبونه أن تخاطبوه بصوت منخفض بقدر ما تسمعونه لأن الزيادة على ذلك مخلّة بالأدب معه والاحترام تجاهه والتوقير لمقامه. واعلموا أن جعل كلامكم أعلى من كلامه أو زيادة على الحاجة المقتضية للاسماع نقص للتعظيم المطلوب منكم أمامه، وموجب لوصمكم بقلة الأدب وسوء الأخلاق، ومفض لإحباط أعمالكم ومحق ثوابها، ولهذا قال تعالى «أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ» (٢) بذهاب أجرها بسبب عدم تفخيمكم نبيكم وإخباتكم له، فلو علمتم أن رفع الصّوت والجهر به أمام رسولكم يذهب ثواب أعمالكم ويصفكم بسوء الأدب وأنه يقضي لإزعاج حضرة الرّسول ويؤدي لكراهته لما فعلتموه، ولهذا ينهاكم الله ويحذركم لتتعظوا وتحترزوا من كل ما يؤدي لعدم توقيره. فنقيدوا بهذه الآداب ولا تخطرها لتكونوا على بصيرة من أمركم لقاء نبيكم، لأن هذه الآية تشير إلى ذم من يصدر منهم مثل ذلك، كما أن قوله جل قوله «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى» تفيد المدح لمن يغض صوته ويخضع له هؤلاء الّذين اختبرهم الله بذلك قد هيأ أفئدتهم لتقراه وجعلها مخلصة له موقنة به «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» لذنوبهم وستر لعيوبهم «وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» (٣) عند ربهم.
مطلب في خطيب وشاعر بني تميم وما رد عليهما خطيب وشاعر حضرة الرّسول وفي سرية عتبة الفزاري وسرية الوليد بن عقبة:
قال جابر: إن سبب نزول هذه الآيات هو لما جاء بنو تميم نادوا يا محمد أخرج إلينا، فإن مدحنا زين وذمنا شين، فقال صلّى الله عليه وسلم إنما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمه شين، فقالوا جئنا نشاعرك ونفاخرك، قال لا بالشعر ولا بالفخر أمرت، ولكن هاتوا، فقام منهم عطاء بن حاجب فذكر فضله وفضل قومه، فقال صلّى الله عليه وسلم لخطيه ثابت بن قيس أجبه، فأجابه بما أسكته وفند قوله وأثبت أنهم دون ذلك بكثير، ولم يزل به حتى أفحمه وعرّفه أنه دون ما قال، ثم قام شاعرهم الزرقاوي وأنشد بإطراء قومه فقال:
فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم
دع ما ادعته النّصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
216
أتيناك كيما يعرف النّاس فضلنا إذا خالفونا عند ذكر المكارم
وإن رءوس النّاس من كلّ معشر وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وان لنا المرياع في كلّ غارة تكون بنجد أو بأرض التهائم
ولما انتهى أمر صلّى الله عليه وسلم شاعره حسانا أن يجيب شاعرهم، فقال:
بني دارم لا تفخروا إن فخركم بصير وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم لنا خول من بين ظئر وخادم
فقال صلّى الله عليه وسلم لقد كنت يا أخا دارم غنيا أن يذكر منك ما ظننت أن النّاس قد نسوه، فكان قوله عليهم أشد من قول حسان الذي ذكرهم بما هو واقع منهم، ومعلوم لديهم، لأنه تأييد له وتأكيد، ثم رجع حسان لشعره فقال:
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم وأموالكم أن يقسموا في المغانم
فلا تجعلوا لله ندا وأسلموا ولا تفخروا عند النّبيّ بدارم
وإلّا ورب البيت قد مالت القنا على هامكم بالمرهفات الصّوارم
فقام منهم الأقرع بن حابس وقال إن خطيبهم أحسن من خطيبنا وشاعرهم أجود من شاعرنا وأسلم. ثم أعطاهم رسول الله وكساهم وتخلف عنهم عمرو بن الأهشم فأعطاه مثلهم، فأزرى به بعضهم بسبب تخلفه وارتفعت أصواتهم وكثر لغطهم عند رسول الله، فنزلت. واعلم إنما يصح هذا إذا كانت هذه الحادثة قبل إسلام الأقرع وقبل سنة الوفود أما بعدهما فلا يصح أن يكون سببا للنزول لأن إسلام الأقرع كان قبل واقعة حنين والوفود كانوا سنة تسع فليراجع. روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال أنا من أهل النّار، واحتبس عن النّبي صلّى الله عليه وسلم فسأل عنه سعد ابن معاذ فقال يا أبا عمر ما شأن ثابت أيشتكي فقال سعد يا رسول الله إنه لجاري وما علمت له شكوى، قال فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال ثابت أنزلت هذه، ولقد علمتم اني من أرفعكم صوتا على رسول الله، فأنا من أهل النّار، أي ولذلك احتجب عن رؤية حضرة الرّسول لأنه علم أن رفع الصّوت قلة أدب وعدم احترام لحضرته الكريمة، فذكر ذلك سعد للنبي صلّى الله عليه وسلم، فقال رسول الله بل هو من أهل الجنّة، ثم صار ابو بكر وعمر وغيرهما لا يكلمون حضرة الرّسول إلّا كأخي السّرار
217
وصار حضرة الرّسول يستفهم مخاطبه من شدة ما يخفض صوته، ثم أنب الله قوما آخرين لم يتقيدوا بآداب الله التي يريدها من عباده أمام رسوله، فقال عز قوله «إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ» (٤) إن ذلك سوء أدب منهم وقلة احترام لنبيهم، وانهم مؤاخذون عليه، ولكن سفههم وقلة عقولهم وعدم مبالاتهم حدا بهم إلى هذا الحد. قال تعالى «وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ» ولم يجرءوا على مناداتك كما ينادون أحدهم «لَكانَ» صبرهم مراعاة لحسن الأدب وتوقيرا للمنادى «خَيْراً لَهُمْ» في دنياهم لئلا يوصموا بسوء الأدب تجاه نبيهم المعظم عند الله، وفي دينهم الموجب عليهم احترامه وتمييزه عنهم وفي آخرتهم، لأن ما وقع منهم من قلة الأدب يدون في صحيفتهم ويعد من جملة سيئاتهم، وسيذكرون بها يوم الحساب وقد يشملها عفو الله «وَاللَّهُ غَفُورٌ» لما وقع منهم لأنه عن جهل لا عن قصد «رَحِيمٌ» (٥) بهم إذا تابوا وأنابوا. قال ابن عباس بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم سرية إلى ابن العنبر وأمر عليهم عيينة بن حصن الفزاري، فلما بلغهم ذلك تركوا أهلهم وهربوا، فسباهم عيينة وقدم بهم على رسول الله، فجاء رجالهم ليفدوهم، فوافقوا رسول الله قائلا وصارت ذراريهم تبكي فجعلوا ينادون يا محمد أخرج إلينا، فخرج إليهم وحكم فيهم الأعور بن يشامّه من أهل دينهم بطلبهم، فحكم أن يعتق النّصف ويفادي النّصف، فرضي صلّى الله عليه وسلم ورضوا هم أيضا. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ» أي خبر سوء وهو المراد به هنا ويكون في الخير كما يكون في الشّر راجع الآية ٩٤ من سورة النّساء المارة «فَتَبَيَّنُوا» أطلبوا البيان لذلك الأمر المخبر به ذلك الفاسق واستكشفوا حقيقته ولا تعتمدوا على قوله فتقعوا في الخطأ إذا نفذتم ما يقتضي لذلك الخبر، فإياكم أن تعجلوا في إنفاذه واحذروا عاقبته من «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ» فتضروهم قبل أن تقفوا على جلية أمرهم لما يلحقكم من الغضب الموجب للمسارعة بالانتقام فتندموا من حيث لا ينفع النّدم «فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ»
(٦) إذ يتبين خطأكم. وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن
218
أبي معيط إلى بني المصطلق بعد واقعتهم الملح إليها في الآية ٨ من سورة المنافقين المارة، لأخذ صدقاتهم، وكان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية، فخرجوا لملاقاته تعظيما لأمر الرّسول، فحدثته نفسه أنهم يريدون قتله، فرجع وقال يا رسول الله أرادوا قتلي، فغضب رسول الله وهمّ بغزوهم، ثم أنهم لمّا رأوا رسول الله رجع دون أن يصل إليهم أو يكلمهم، فطنوا لما كان بينه وبينهم من العداوة فأتوا المدينة، وقالوا يا رسول الله سمعنا بقدوم رسولك فخرجنا نتلقاه إكراما لك فبدا له الرّجوع قبل أن يلقانا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضبك، فلما سمع قولهم
والعداوة التي ذكروها زال منه بعض ما كان وبعث معهم خالد بن الوليد وقال له خفية عنهم انظر إذا رأيت ما يدل على أنهم مؤمنين فخذ منهم الزكاة وإلا فالسيف، فوافاهم مسمع أذان المغرب والعشاء ولم ير إلّا الطّاعة، فأخذ صدقاتهم وقدم بها على رسول الله وأخبره بالأمر الذي رآه منهم فنزلت وهي كالآيات قبلها عامة في معناها تأمر بالتريث والأناة وترك الاستعجال، والتثبت من الأخبار وعدم الاعتماد على قول الفرد مثل الوليد المذكور، الذي ظن غير ما في نية القوم وتوهم ما ليس يخطر ببالهم بسبب عداوة تصورها في قلبه كانت قبلا فمحاها الإسلام من قلوبهم فأخطأ عليهم بكلام وفعل لم يصدر منهم، ولولا تأتي حضرة الرّسول ومجيئهم إليه وإخبارهم بما وقع من رسوله لوقع فيهم ما لا يحمد ظلما. وإذا كان مثل الوليد يقع منه هذا الغلط عند رسول الله فغيره من باب أولى عند الغير ولا سيما في هذا الزمن الذي قل فيه الأمن وفقدت منه الثقة ومحي فيه الاعتماد وفقد الصدق، وإنما سماه الله تعالى فاسقا لأنه تسارع وأخبر بما لم يتحققه، فكان بعمله هذا خارجا عن الطّمأنينة متجاوزا حدود التأني، قائلا ما لم يسمع، وباهنا قوما غافلين عما خطر بباله. ألا فلينتبه العاقلون، ولينته الجاهلون عن التسرّع فيما ينقل إليهم، وليحققوا حتى لا يتسببوا لظلم البريء بإخبار فاسق، وليسمحوا مهما وجدوا طريقا الصّلح. واعلم أن لفظ فاسق يطلق على من تعدى الحدود وخرج عن ملاك الأمر. قال تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ» الواجب تعظيمه وتوقيره واحترامه، فاحذروا أن تخبروه بباطل فإن الله مولاه يطلعه على
219
خبايا الأمور وما تكنه الصّدور فيفضحكم ويكشف ستركم ويظهر ضغائنكم «لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ» الذي تحدثونه به ويأخذ برأيكم دون تأن وتروّ «لَعَنِتُّمْ» أنمتم وهلكتم، ولكنه، لم يطعكم، وذلك أن بعض الناس زينوا لحضرة الرّسول الإيقاع ببني المصطلق بسبب إخبار الوليد بأنهم أرادوا قتله مع أن إخباره غير مرتكز على حقيقة، وناشىء عن سوء ظنه وعدم ترويه وتصوره ما لم يكن عند القوم من خوفه الذي استولى على قلبه وارجعه عن تنفيذ أمر الرّسول وسول له ما قاله له، وقد مدح الله حبيبه بقوله «وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ» فتربصتم، ولم تأخذوا بقوله المجرد العاري عن الصّحة، وفعلتم ما علمتم به من خطأ المختبر وصواب التروي والأناة في الأمر، لأن لإيمان الصّادق يمنع صاحبه من العجلة ويأمره بالتأني والمراد بتزيين الإيمان زيادته لأنه يزداد في كلّ لحظة عند المؤمن المخلص حسنا وثباتا ولا يسأم منه بخلاف سائر المحبوبات فإن السّأم قد يلحقها، مثله مثل كتاب الله كلما كررت قراءته ازداد قلبك رغبة فيه بخلاف سائر الكتب، قال الأبوصيري:
فلا تعد ولا تحصى عجائبها... ولا تسأم على الإكثار بالسأم
يريد أن آيات الله تعالى لا توصف بالملل ومهما كررتها تزداد رغبة فيها على حد قوله:
يزيدك وجهه حسنا... إذا ما زدته نظرا
«وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ» وهذه الجملة فيها من محسنات البديع المقابلة على حد قوله:
ما أحسن الدّين والدّنيا إذا اجتمعا... وأقبح الكفر والإفلاس في الرّجل
لأنه قابل كره بحبّب، وزيّن، والفسوق والعصيان بالإيمان، وهذه الكلمات الثلاث جاءت بمقابلة الإيمان الكامل وهو ما اجتمع فيه ثلاثة أمور تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان فذكر جل ذكره بمقابله حبب إلخ... وهو التصديق بالجنان، وذكر الفسوق الجامع لأنواع الكذب وغيره بمقابلة الإقرار باللسان وذكر
220
العصيان بمقابلة العمل بالأركان، وعليه البيت قابل ما أحسن بقوله وأقبح، والدّين بالكفر والدّنيا بالإفلاس، لأن علم البديع كغيره من العلوم التي أخذت من القرآن العظيم فهو أصل لجميعها وهي فرع عنه قال تعالى «أُولئِكَ» الّذين حبب إليهم الإيمان فأحبوه وتمسكوا به فتغلغل في قلوبهم «هُمُ الرَّاشِدُونَ» (٧) المهتدون إلى الأعمال الحسنة والأخلاق الكريمة الّذين يطيعون أوامر الله ورسوله ولا يقفون أمام أمره كخالد بن الوليد رضي الله عنه إذا تلقى أمر الرّسول برحابة صدره وذهب إلى القوم فوجدهم على غير ما عزي لهم فحقن الله دماهم وصان أصحاب الرسول من الوقيعة في إثم قتالهم لأنهم راسخون على إيمانهم وأن خروجهم لم يكن كما زعم الوليد بل احتراما لرسول الله الذي أرسله إليهم وتكريما له فكان تحبب الإيمان الذي منه التأني والتروي في الأمور وتكريه الكفر الذي فيه العجلة والمسارعة «فَضْلًا مِنَ اللَّهِ» لكم أيها المؤمنون «وَنِعْمَةً» عليكم زائدة على نعمه في تحسين أخلاقكم وتهذيب آدابكم وخيرا كثيرا وأدبا كريما «وَاللَّهُ عَلِيمٌ» بما بينهما من التفاضل العظيم «حَكِيمٌ» (٨) فيما يفعل من تفضيل أناس على آخرين كما هو حكيم في جميع أفعاله وفي جملة تأديب الله تعالى نفوس عباده وتهذيبها قوله جل قوله «وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا» جمع الضّمير باعتبار معنى الطائفتين على حد قوله تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية ٤١ من سورة النمل ج ١ ولبحثها صلة في الآية ٢٦ من سورة النّور المارة وما ترشدك اليه من المواضع.
مطلب في الصّلح ومراعاة العدل بين الطّرفين من قبل المصلحين والسّخرية والظّن والتجسس والغيبة والشّعوب وتفرعاتها:
ثم أمرهم جل أمره بما هو من شأن المؤمن وحق المسلم على المسلم بقوله «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما» أيها المؤمنون لأنّ في قتالهما نقصا من عددكم وإثارة لغرس العداوة فيكم والبغضاء التي يتوارثها الأبناء عن الآباء بينكم «فَإِنْ بَغَتْ» تعدت واستطالت «إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى» فلم تنتصح ولم تقبل الصّلح وأصرت على بغيها ومواصلة عداوتها «فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي» يا أيها الحكام وأديموا مقاتلتكم
221
لها «حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ» وترجع عن غيها وتسلم لما في كتاب الله الموجود بأيديكم من الصّلح وإزالة الشّحناء وقطع مادة البغض «فَإِنْ فاءَتْ» عدلت ورجعت عن مواصلة العداء وجنحت للسلم «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ» الذي يحملها على الإنصاف والرّضى بحكم الله، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما القتال لئلا يكون بينهما قتال آخر، لأن القتال الصّحيح يزبل حزار الصّدور ويمحو مادة الحقد، وإنما قيد الصّلح بالعدل ليعلم أنه بعد خضوعهما لحكم الله لا يجوز أن يميل المصلحون عليهما أو على أحداهما بسبب عدم قبولهما الصّلح مبدئيا، لأن تسليمها لأمر الله أزال ذلك وأوجب أن تعامل مع الفرقة المقابلة لها معاملة حقية متساوية، ولهذا أكد الله تعالى تلك الجملة بقوله «وَأَقْسِطُوا» أيها الحكام وولاة الأمور والمتوسطون بين النّاس بالصلح بينهما ولا يحملنكم عدم الرّضاء بالصلح أولا أن تحيفوا بهم أو تجوروا عليهم بل يجب عليكم أن تمحوا ذلك من صدوركم ولا تتحظروه بقلوبكم «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» (٩) في أحكامهم وأقوالهم وأعمالهم وسائر أمورهم. واعلم أن فعل أقسط ضد فعل قسط راجع الآية ٢٣ من سورة الجن في ج ١ ثم بين المادة الموجبة للعدل بقوله «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» في الدّين والولاية لا فضل لأحد على أحد إلّا بالتقوى فإذا تنازع هؤلاء الاخوة «فَأَصْلِحُوا» أيها الاخوان المؤمنون «بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ» المختلفين وهذه الجملة تقرير للأمر بالصلح بين المتقاتلين ثم أكد تحذيرهم من الميل لطرف دون آخر بقوله «وَاتَّقُوا اللَّهَ» أن ترجحوا أناسا على آخرين ولو كانوا أولي قربى منكم وأحسنوا نيتكم بالإصلاح بين النّاس كلهم وعاملوهم سواسية «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (١٠) من قبل الله فتنالوا رحمته الواسعة التي حملتكم على التدخل بالإصلاح بين إخوانكم رحمة بكم وبهم من أن يتجاوز أحدهما على الآخر أو يأخذ ماله بغير وجه شرعي لأن الجزاء من جنس العمل. أخرج به جرير عن السّدى قال. كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد، فأرادت أن تزور أهلها، فحبسها في علية، فبعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها، وكان الرّجل قد خرج فاستعان بأهله، فجاء بنو عمهم ليحولوا بين المرأة وأهلها فتراجعوا
222
واجتلدوا بالنعال، فنزلت فيهم هذه الآية. وقال قتادة نزلت في رجلين من الأنصار كان بينهما مماراة بحق فقال أحدهما للآخر لآخذن حقي منك عنوة لكثرة عشيرته، فتدافعوا بينهم وتناولوا بعضهم فنزلت. وكلّ هذا جائز لأن يكون سببا للنزول، لأن الآية عامة في جميع المسلمين وحكمها باق إلى يوم القيامة، وكذلك الآية التي بعدها فهي عامة في كلّ من يقع منه شيء مما نهى عنه فيها وفي كل الآيات لأن العبرة لعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب. أما ما رواه البخاري ومسلم عن أنس قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم لو أثبت عبد الله بن أبي الحديث إلى أن قال فبلغنا أنها نزلت فيهم. وما روياه عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ركب على حمار إلى أن قال: وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن سلول قبل واقعة بدر فلا يصحان أن يكونا سببا للنزول. ومما يدل على ضعف القول الأوّل كلمتا قيل وبلغنا المشيرتان إلى توهين الرّواية، وعلى ضعف الثاني أنه قبل إسلام عبد الله لأن هذه نزلت بعد إسلامه بكثير وعبد الله منافق لم يزل على نفاقه وما كان إسلامه إلا صوريّا ومات على نفاقه كما أشرنا إليه آخر سورة المنافقين، وهو أحقر من أن ينزل الله فيه قرآنا أو يسميه مؤمنا، وقد تسامح من عدّ ما جاء في هذين الحديثين سببا للنزول، لأن هذه الآية متأخرة عن حادثة بن سلول المارة في سورة المنافقين فظهر أنها نازلة في طائفتين من المؤمنين وفي اقتران هذه الآية بالشرط إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يصدر القتال من المؤمنين لا أن ذلك لم يقع، بل وقع حقيقة، وإن المقاتلة تستعمل مجازا المضاربة ولم تزل تستعمل لغة حتى الآن يقول الرّجل لابنه
وغيره لأقتلك وهو يريد أضربك، لا القتل بمعنى الذبح، من لفظ البغاة يطلق على الخارجين على الإمام والحكم فيهم أن يرسل الإمام إليهم من ينصحهم ويكشف شبهتهم ويقف على الأسباب الدّاعية لخروجهم ويدعوهم إلى الطّاعة والانقياد لحكم الله، وإذا علم عذرا بخروجهم من ظلم ونحوه وجب على السّلطان إزالته، فإن لم يكن شيء من ذلك ولا شبهة لهم في شيء من أمر الدّنيا أيضا وأصروا على بغيهم بقصد قلب الحكم أو الانحياز لدولة أخرى فله أن يقاتلهم حتى يركنوا إلى الطّاعة ويسلموا تسليما مطلقا. واعلم أن قتال الخوارج يمتاز على قتال الكفار بثلاثة أمور، أن لا يتبع مدبرهم إذا هرب، ولا
223
يقتل أسيرهم إذا استسلم، ولا يذقف أي لا يجهز على جريحهم بأن يقتل أو يضرب مرة أخرى ليموت بل يترك وشأنه حتى يشفى أو يموت.
ومن جملة ما أدب الله به هذه الأمة وهذبها وحسن أخلاقها هو قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ» عند الله وبعض خلقه وعدم معرفتكم بالأخيرية لا يكفي «وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ» من حيث لا يعلم السّخر فضيلة المسخور منه، وقد يعرفها غيره، قال عليه السّلام إن أحدكم ليرى القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه «وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ» لا تطغوا ولا تحضروا أو تعيبوا بعضكم بعضا ولو بالاشارة أو الرّمز، لأن من عاب أخاه فقد عاب نفسه، ولا يخلو أحد من عيب، فكيف يعيب المعيب غيره؟ ورحم الله امرأ شغله عيبه عن عيوب النّاس راجع أول السّورة الهمزة في ج ١. قال ابن عباس جاء ثابت بن قيس بن شماس حتى انتهى إلى حضرة الرّسول، فقال لرجل كان بينهما تفسح، فقال له الرّجل أصبت مجلسا فاجلس، فسئل عنه فقال الرّجل أنا فلان، فقال له ثابت بن فلانة وذكر أما له كان يغيرها في الجاهلية، فاستحى الرّجل ونكس رأسه، فنزل أول هذه الآية وقال أيضا أن حفصة رضي الله عنها قالت إلى صفية بنت حيي رضي الله عنها، يهودية بنت يهوديين، قال أنس فشكتها إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال لها، إنك لابنة نبي، يريد اسحق عليه السّلام، وإن عمك لنبي يريد إسماعيل عليه السّلام وإنك لتحت نبي يريد نفسه صلّى الله عليه وسلم، فكيف تفتخر عليك؟
فنزل الشّطر الثاني منها. وقال جبير بن الضّحاك قدم علينا رسول الله وليس منا رجل إلّا وله اسمان او ثلاثة، فجعل رسول الله يقول يا فلان فيقولون يا رسول الله إنه يغضب من هذا الاسم فنزل آخرها وهو قوله تعالى «وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ» أي لا يدعون أحد أخاه بلقبه الذي يكرهه ولا ينبغي ان يقال لكتابي أسلم يا يهودي يا نصراني، وكذلك غير الكتابي فلا يقال يا مشرك يا مجوسي يا بوذي يا صابئي لقوله تعالى «بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ» لكل أحد ويكون أشد قبحا شؤما وأعظم وزرا إذا كان «بَعْدَ الْإِيمانِ» لأن المؤمن لا يليق ان
224
يدنس إيمانه بما يؤثمه عند ربه، وإذا وقع منه فعليه ان يسارع للاستغفار والاستسماح ولهذا قال تعالى «وَمَنْ لَمْ يَتُبْ» بعد هذا النّهي فيسخر من أخيه أو يسميه بما يكره أو يعيبه او يحقره فيكون مخالفا لأمر الله في ذلك، وإذا كان له اسمان فليسمه بأحبهما إليه، ولذلك أتيهم الله بقوله «فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (١١) أنفسهم بتعديهم عليها ومخالفتهم أمر الله تعالى وتجاوزهم على إخوانهم لأن من يسمى بما يكره فكأنما عيّره وعابه، ومن عيّر أخاه فقد ظلم نفسه واستحق العقاب على او العتاب على ذلك وكذلك كلّ ما يحزن المسلم من قول او فعل وعليه ان يسره فمن حسن إسلام المرء إدخال السّرور على أخيه المؤمن، ومن جملة تأديب الله تعالى عباده والسّير بهم الى المثل الأعلى قوله جل قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ» يوقع صاحبه بالسوء ويستحق العقوبة عليه وإذا كان بعضه إثما فعليه ان يتباعد عنه كله لأنه لا يعرف الذي يأثم به منه، وينبغي أن يظن خيرا أو يترك لئلا يقع فيما يكره أو يثلب ولهذا قال تعالى «وَلا تَجَسَّسُوا» على عيوب النّاس ولا تتبعوا عوراتهم التي سترها الله عليهم فتفضحوهم والله يحب السّتر، وجاء عنه صلّى الله عليه وسلم من كشف ستر أخيه كشف الله ستره «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» بما فيه وبما ليس فيه لاطلاق النّص، فليقل أحدكم خيرا أو ليصمت. وتوجد أشياء مستثناة من هذه الآية سيأتي ذكرها بعد. ثم إن الله تعالى لما مثل لخلقه ما يناله المعتاب من عرض أخيه بقوله «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» كأنهم قالوا لا يحب أحدنا ذلك، فلما استجوبهم واعترفوا بأن أحدا لا يحب جيفة أخيه بغير ضرورة وأنه لا يمكنهم إنكار كراهيته. قال تعالى «فَكَرِهْتُمُوهُ» كما كرهتم هذا فاجتنبوا ذكره بالسوء «وَاتَّقُوا اللَّهَ» فلا تغتابوا أحدا بما يكره، ولا تجسسوا عليه، ولا تظنوا فيه سوء، وإن ما وقع منكم قبل صدور هذا النّهي توبوا منه ولا تعودوا إليه «إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ» على من تاب يقبل توبته ويعفو عنه «رَحِيمٌ» (١٢) بعباده يبين لهم مضارهم ومنافعهم ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم.
قيل إن رجلين من الأصحاب أرسلا سلمان الفارسي إلى حضرة الرّسول ليطلب لهم
225
طعاما فأرسله الرّسول إلى خادمه أسامة بن زيد، فذهب فقال ما عندي؟ فرجع سلمان وأخبرهما فقالا بخل أسامة، ثم أرسلاه لمكان آخر فلم يأتيهما بشيء، فقالا لو بعثناه إلى بئر معونة لغار ماؤها، فانطلقا يتجسسان على أسامة هل عنده شيء أم لا، فلما جاءا إلى رسول الله قال لهما مالي أرى خضرة اللّحم في أفواهكما؟
قالا يا رسول الله ما تناولنا يومنا هذا لحما، قال ظللتما تأكلون لحم سلمان وأسامة، فأنزل الله هذه الآية. وهي عامة لم تقيدها هذه الرّواية ولم يخصصها شيء غيرهما، وباق لحكمها ما بقيت الدّنيا. وإنما مثل تعالى باللحم وخصه بالأخ ليكون آكد في المنع والكراهية، لأن العدو قد يحمله الحق على أكل لحم عدوه كما فعلت هند بحمزة رضي الله عنه، ويكون اللّحم على أكل لحم عدوه كما فعلت هند بحمزة رضي الله عنه، ويكون اللّحم ميتا لأنه أبلغ في الزجر لأن النّفس مهما كانت مضطرة لا تميل إليه بخلاف المذبوح. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إياكم والظّن، لأن الظّن أكذب الحديث، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، التقوى هاهنا التقوى هاهنا التقوى هاهنا (كررها صلّى الله عليه وسلم ثلاثا وفي كلّ منها يشير إلى صدره الشّريف، يؤمن بذلك إلى التقوى بالقلب لا بشقشقة اللّسان، لأن الله ينظر إلى القلب لا إلى الصّورة) بحسب امرئ من الشّر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم وأعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم. واعلم أن الحكم الشّرعي في هذا هو أنه يحرم على الرّجل أن يغتاب أخاه أو يسمع إلى حديثه بقصد التجسس عليه وأن يظن به سوءا، ومن أكبر الكبائر وأفظعها التجسس على المسلمين وإفشاء أسرارهم الحربية إلى أعدائهم أو إلى من يوصل إليهم، ويسن للرجل أن يستر ما يراه من عيوب إخوانه روى مسلم عن أبي هريرة أن النّبي صلّى الله عليه وسلم قال لا يستر عبد عبدا في الدّنيا إلّا ستر الله عليه يوم القيامة. وروي عنه قال أتدرون ما الغيبة؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال ذكرك أخاك بما يكره، قلت وإن كان في أخي ما أقول؟ قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فقد بهته. وأخرج ابو داود والترمذي عن عائشة قالت
226
قلت للنبي صلّى الله عليه وسلم حسبك من صفية كذا وكذا تعني قصرها، فقال لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته. فقال ما أجب أني حكيت له إنسانا ولي كذا وكذا، ومعنى حكى شبّه الشّيء بغيره فيما يمدح أو يذم، والظّاهر أن المراد هنا الذم. وأخرج أبو داود عن أنس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم ولحومهم وصدورهم، فقلت من هؤلاء يا جبريل؟
قال هؤلاء الّذين يأكلون لحوم النّاس ويقعون في أعراضهم. هذا، وما ورد: احترسوا على أموالكم بسوء الظّن، وإن سوء الظّن من أزكى الفطن، هذا مما يعود لنفس الظّان، لأن من يريد أن يدين أحدا دينا أو يزوجه بنتا أو يعقد معه عقدا فله التبصر بحاله. قال تعالى (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) الآية الخامسة من سورة النساء المارة، فراجعها ففيها ما تريده في هذا البحث، ومن أين يعرف السّفيه من غيره إذا لم يحصل له الظّن الموجب للتحقيق عن حاله فهذا من الظّن الجائز حفظا لنفس الرّجل وماله من أن يقع بغير موضعه، وبنت الرّجل من ماله ووضعها عند من يكرمها خير من وضع المال عند من يرده، وقد ورد: النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته. فيكون التبصر بشأنها ألزم من غيره، وكذلك يجوز التجسس لمعرفة حال من يريد أن يدينه أو يزوجه، وأحسن انواع التجسس هو ما يعود لحفظ جيش المسلمين من العدو والتوصل لمباغتة داره وجنده، لأن حضرة الرّسول كان يرسل العيون في الغزوات ويقول الحرب خدعة، وأقبحه من يتجسس على المسلمين ليوصل أخبارهم لعدوهم فهذا ممن يخون الله ورسوله والمسلمين اجمع، وكذلك يجوز غيبة الفاسق المجاهر بفسقه بقصد ردعه وعدم اغترار النّاس فيه لما جاء في الحديث الصّحيح: أذكروا الفاجر بما فيه يحذره النّاس. وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث في الآية ٣٥ من سورة الإسراء ج ١ فراجعها قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا» فيما بينكم لا لتفاخروا والشّعوب رءوس القبائل مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج، والقبائل ما تشعب منها كبكر من ربيعة وتميم من مضر، والعمائر متفرعة من القبائل كشيبان من بكر ودارم من تميم، والبطون من العمائر كبني
227
لؤي وغالب من قريش، والأفخاذ من البطون كبني هاشم وبني أمية من لؤي، والفضائل من الأفخاذ كبني العباس من هاشم، والعشائر من الأفخاذ أيضا، والبيت من العشيرة فتقول بيت فلان من عشيرة فلان ومن فخذ فلان إلخ وليس بعد هذا شيء يوصف أو ينسب إليه إلّا الجد، وكلّ من هؤلاء مهما بلغوا من العلو والكثرة في العدد والثروة لا ينبغي أن يتفاضل به إذا كان خاليا من تقوى الله القائل «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» فلا تفاخر ولا تفاضل بين الناس في الدّنيا إلّا بها، لأنها تستوجب الكرامة من الله عند الله في الآخرة لا بالأنساب ولا بالمكاثرة «إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ» بأنسابكم وتكاثركم وغناكم لا حاجة لأن يتطاول بها بعضكم على بعض «خَبِيرٌ» (١٣) بالأفضل عنده الذي يستحق كرامة. وعندكم الذي يستوجب احترامكم لما قال ثابت بن قيس للرجل الذي لم يفسح له بين فلانة كما مر في الآية ١١، قال صلّى الله عليه وسلم أنظر في وجوه القوم فنظر فقال ما رأيت يا ثابت؟ قال رأيت أبيض وأحمر وأسود، قال فإنك لا تفضلهم إلا بالدين والتقوى فنزلت هذه الآية. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أي النّاس أكرم؟ قال أكرمهم عند الله أتقاهم، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال فأكرم النّاس يوسف نبي الله بن يعقوب نبي الله بن اسحق نبي الله بن خليل الله، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال عن معادن العرب تسألون؟ قالوا نعم قال خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا. أي تعلموا أحكام الشّرع، فإذا لم يفقه الخيار انحطت درجتهم عن غيرهم فالعبد التقي خير من الشّريف الشّقي والسّوقة العالم خير من الحسيب الجاهل، فالعاقل لا يترك التقوى اتكالا على النّسب.
فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشّرك الحسيب أبا لهب
ولما قدم نفر من بنى أسد وأظهروا الإسلام لرسول الله وصاروا يمنّون عليه بقولهم أتتك العرب على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كغيرنا وطلبوا منه الصّدقة وكانت سنة مجدبة، فأنزل الله «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ» لهم يا سيد الرّسل «لَمْ تُؤْمِنُوا» إيمانا حقيقيا «وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا»
228
أي استسلمنا مخافة الهلاك من الجدب والجلاء والسّبي والقتل ولو كان إيمانكم كاملا لما مننتم به عليّ «وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» دخولا حقيقيا حتى الآن ولم تخلصوا فيه إخلاصا صادقا مع انه لنفعكم «وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ظاهرا وباطنا طاعة لا تريدون بها إلّا وجه الله و «لا يَلِتْكُمْ» ينقصكم الله «مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً» بل يجزيكم ثوابها كاملا ويزيدكم من فضله «إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ» لما بدر منكم «رَحِيمٌ» (١٤) بجميع عباده يريد لهم الخير ومن الخير عدم المنّة بالإسلام، لأن المنّة لله الذي اختاركم إليه ولرسوله الذي أرشدكم إليه قال تعالى «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» إيمانا خالصا لا لغرض ولا لعوض، ولم يقصد به إلّا ابتغاء وجه الله «ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا» في أمر دينهم كله «وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ» (١٥) بإيمانهم لأنهم أيدوه بالجهاد مالا وبدنا، ولا دليل أصدق على الإيمان من الاقتداء بالله ورسوله، والاقتداء بالنفس والمال، فلما نزلت هاتان الآيتان أتوا إليه وحلفوا أنهم صادقون بإيمانهم، وقد علم الله منهم غير ذلك فأنزل جل إنزاله «قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ» الذي أنتم عليه وهو خلاف ما تقولون، فلا تكتموا ما في قلوبكم على الله «وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» وأنتم من جملة من فيها «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (١٦) لا يحتاج إلى أخباركم، فيعلم الصّادق من الكاذب، والمخلص من المنافق، ويخبر رسوله بذلك فيذكره لكم على رؤوس الأشهاد. قال تعالى «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ» يا سيد الرّسل «أَنْ أَسْلَمُوا» بقولهم المار بصدر الآية ١٤ «قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» (١٧) بإيمانكم ولكنكم كاذبون به «إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» لا يخفى عليه شيء مما يقع فيها ومن ما فيها وفوقهما وتحتهما «وَاللَّهُ بَصِيرٌ» بدقائق الأمور خبير «بِما تَعْمَلُونَ» (١٨) سرا وجهرا، روى البخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال أعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلم رهطا وأنا جالس، فترك منهم رجلا هو أعجبهم إلي فقلت مالك عن فلان والله أني لأراه مؤمنا؟
229
فقال صلّى الله عليه وسلم أو مسلما، ذكر ذلك سعد ثلاثا وأجابه بمثل ذلك، ثم قال اني لأعطي الرجل وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يكبّ في النّار على وجهه. الحكم الشّرعي:
يعتبر كلّ من نطق بالشهادتين من الجن والإنس مسلما ويعامل معاملة المسلمين ويدفن في مقابرهم، وليس لنا أن نقول له انك لست بمؤمن، لأن العبرة للظاهر وأمر الباطن مفوض الى الله، ولم يقل الرّسول ما قال إلّا بإخبار الله إياه، أما نحن فليس لنا ذلك، كما أنه لو فرض أن هناك مؤمنا سرا ولم يعلن إسلامه ولم ينطق أمام أحد بالشهادتين، قال نعامله معاملة المسلمين ولا ندفنه في مقابرهم، وعدم معاملتنا له لا تضره واعلم أن الإسلام والإيمان واحد عند أهل السّنة والجماعة دون خلاف، ومنهم جعل الإسلام غير الإيمان، ومنهم على العكس مستدلا بحديث جبريل عليه السّلام إذ فرق فيه بين الإسلام والإيمان. والإسلام لم يقرّ فيه الزيادة والنّقص بخلاف الإيمان، راجع الآية الثانية من سورة الأنفال المارة وما ترشدك إليه في هذا البحث، وله صلة آخر سورة التوبة الآتية. ومنهم من جعل هذا الاختلاف بالتعبير فقط، وهو أن تعلم أن بين العام والخاص فرقا، فالإيمان لا يحصل إلّا بالقلب، والإسلام الذي هو الانقياد قد يحصل بالقلب وقد يحصل باللسان، وعليه فإن الإسلام أعم والإيمان أخص، لأن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمرا غيره، فالعام والخاص مختلفان في العموم والخصوص، متحدان في الوجود، فذلك المؤمن والمسلم. هذا، وإن البغاة المار ذكرهم في الآيتين ٩ و ١٠ المارتين الّذين قال فيهم العلماء إن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم مؤمنين مع كونهم باغين، يدل على هذا ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وهو القدوة في قتال أهل البغي، وقد سئل عن أهل الجمل وصفين المشركون هم فقال لا، إنهم من الشّرك فرّوا، فقيل أمنافقون هم؟ فقال لا، إن المنافقين لا يذكرون الله إلّا قليلا (أي وهؤلاء يكثرون من ذكر الله تعالى) فقيل ما هم إذا قال إخواننا بغوا علينا. والباغي في الشرع هو الخارج على الإمام العدل، فإذا اجتمعت طائفة لهم قوة ومنعة فامتنعوا عن طاعة الإمام العدل بتأويل محتمل ونصبوا لهم، إماما يرجعون اليه مع وجود
230
Icon