تفسير سورة الحجرات

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

أَنْ أَسْلَمُوا...} الآية، وأخرج سعيد بن منصور في "سننه" عن سعيد بن جبير قال: أتى قوم من الأعراب من بني أسد النبيّ - ﷺ -، فقالوا: جئناك ولم نقاتلك، فأنزل الله: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا...﴾ الآية، وقال مجاهد: نزلت في أعراب من بني أسد بن خزيمة، وكانوا يجاورون المدينة، قدموا على رسول الله - ﷺ -، وأظهروا الشهادتين، ولم يكونوا مؤمنين حقًا، وقال السدّي: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح، أعراب مزينة وجهينة، وأسلم وغفار والديل، وأشجع، قالوا؛ آمنا، ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم، فلما استنفروا إلى المدنية.. تخلّفوا.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: تصدير (١) الخطاب بالنداء؛ لتنبيه المخاطبين على أنّ ما في حيّزه أمر خطير، يستدعي مزيد اعتنائهم بشأنه، وفرط اهتمامهم بتلقّيه، ومراعاته ووصفهم بالإيمان؛ لتنشطيهم والإيذان بأنّه داع إلى المخاطبة، ورادع عن الإخلال به.
﴿لَا تُقَدِّمُوا﴾ أمرا من الأمور ﴿بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ولا تقطعوه ولا تقولوه، ولا تعجلوا به، إلا بعد أن يحكما به، ويأذنا فيه، فتكونوا إمّا عاملين بالوحي المنزل، وإما مقتدين بالنبيّ المرسل؛ لأنَّ المعنى: لا تقدموا قبل أمرهما ونهيهما، ولفظ اليدين بمعنى الجهتين الكائنتين في سمت يدي الإنسان اليمين واليسار، وبين اليدين بمعنى: بين الجهتين، والجهة التي بينهما هي جهة الأمام والقدَّام، فقولك: جلست بين يديه، بمعنى: جلست أمامه، وبمكان يحاذي يديه قريبًا منه، وإذا قيل: بين يدي الله.. امتنع أن يراد الجهة والمكان، فيكون استعارة تمثيلية، شبَّه ما وقع من بعض الصحابة من القطع في أمر من الأمور الدينية، قبل أن يحكم الله به ورسوله، بحال من يتقدم في المشي في الطريق مثلًا لوقاحته، على من يجب أن يتأخر عنه، ويقفو أثره تعظيمًا له، فعبَّر عن الحالة
(١) روح البيان.
340
المشبَّهة بما يعبر به عن المشبه بها، كما سيأتي في مبحث البلاغة.
وقرأ الجمهور (١): ﴿لَا تُقَدِّمُوا﴾ بضم التاء وفتح القاف وكسر الدال المشددة، من قدّم المضاعف، فاحتمل أن يكون متعدّيًا، وحذف مفعوله؛ ليتناول كل ما يقع في النفس مما تقدم: كالصوم والأضحية، أو ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل، كقولهم: هو يعطي ويمنع، فلم يقصد لشيء معين، بل النهي متعلق بنفس الفعل دون تعرّض لمفعول معيّن، واحتمل أن يكون لازمًا بمعنى: تقدم، نحو: وحسنة بمعنى: توجَّه، ويكون المحذوف مما يوصل إليه بحرف؛ أي: لا تتقدموا في شيء ما من الأشياء، ويعضد هذا الوجه قراءة ابن عباس وأبي حيوة والضحاك ويعقوب، وابن مقسم: ﴿لا تقدموا﴾ بفتح التاء والقاف والدال على اللزوم، وحذفت التاء تخفيفًا؛ إذ أصله: لا تتقدموا. وقرأ بعض المكيين: ﴿تقدّموا﴾ بشدّ التاء، أدغم تاء المضارعة في التاء بعدها: كقراءة البزي، وقرىء: ﴿لا تقدموا﴾ مضارع قدم بكسر الدال، من القدوم؛ أي: لا تقدموا إلى أمر من أمور الدين قبل قدومها، ولا تعجلوا عليها، وقرىء: ﴿لا تقدموا﴾ بضم التاء وكسر الدال، من أقدم الرباعي؛ أي: لا تقدموا على شيء، وقال مجاهد: لا تفتئتوا على الله شيئًا حتى يقصه الله على لسان رسوله - ﷺ -، وفي هذا النهي توطئة لما يأتي بعد من نهيهم عن رفع أصواتهم.
فائدة: ذكر في هذه السورة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ خمس مرات، والمخاطبون فيها المؤمنون، والمخاطب به أمر أو نهي، وذكر فيها: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ مرةً، والمخاطبون فيها يعمّ المؤمنين والكافرين، كما أنّ المخاطب به وهو قوله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾ يعمهما. فناسب فيها ذكر الناس. انتهى. "فتح الرحمن".
ولمّا نهى من التقدّم.. أمر بالتقوى؛ لأنّ من التقوى اجتناب المنهي عنه، فقال: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾؛ أي: خافوا الله، وراقبوه في كل ما تأتون وما تذرون من
(١) البحر المحيط.
341
الأقوال والأفعال، ثمّ علل ما أمر به من التقوى بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾ لأقوالكم ﴿عَلِيمٌ﴾ بأفعالكم، فمن حقّه: أن يُتقى ويُراقب.
ويجوز (١) أن يكون معنى ﴿لَا تُقَدِّمُوا﴾: لا تفعلوا التقديم بالكلية على أنّ الفعل لم يقصد تعققه بمفعوله، وإن كان متعديًا. قال المولى أبو السعود: وهو أوفى بحق المقام؛ لإفادة النهي عن التلبس بنفس الفعل الموجب لانتفائه بالكليّة، المستلزم لانتفاء تعلقه بمفعوله بالطريق البرهانيّ، وقد جوَّز أن يكون التقديم لازمًا، بمعنى: المتقدم، ومنه: مقدمة الجيش للجماعة المتقدمة منهم، ومنه: وجه بمعنى: توجه. كما مرّ آنفًا.
وقال مجاهد والحسن (٢): نزلت الآية في النهي عن الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة، كأنه قيل: لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيّ - ﷺ -، وعن عائشة: أنها نزلت في النهي عن صوم يوم الشك، فكأنه قيل: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيّكم، وقال قتادة: إنّ ناسًا كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، أو صنع في كذا، ولو نزل كذا وكذا في معنى كذا، ولو فعل الله كذا، وينبغي أن يكون كذا، فكره الله ذلك، فنزلت، وعن الحسن: لمَّا استقر رسول الله - ﷺ - بالمدينة.. أتته الوفود من الآفاق، فأكثروا عليه بالمسائل، فنهوا عن أن يبتدئوا بالمسألة حتى يكون هو المبتدىء.
والظاهر: أنّ الآية عامة في كل قول وفعل، ولذا حذف مفعول ﴿لَا تُقَدِّمُوا﴾؛ ليذهب ذهن السامع كل مذهب، مما يمكن تقديمه من قول أو فعل، مثلًا إذا جرت مسألة في مجلسه - ﷺ -.. لا تسبقوه بالجواب، وإذا حضر الطعام.. لا تبدؤوا بالأكل قبله، وإذا ذهبتم إلى موضع.. لا تمشوا أمامه إلا لمصلحة دعت إليه، ونحو ذلك مما يمكن فيه التقديم.
قيل: لا يجوز تقدّم الأصاغر على الأكابر، إلا في ثلاثة مواضع: إذا ساروا ليلًا أو رأوا خيلًا؛ أي: جيشًا، أو دخلوا سيلًا، أي: ماء سائلًا، وكان
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
342
في الزمان الأول، إذا مشى الشابّ أمام الشيخ.. يخسف الله به الأرض، ويدخل في النهي المشي بين يدي العلماء، فإنهم ورثة الأنبياء، دليله ما روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: رآني رسول الله - ﷺ - أمشي أمام أبي بكر رضي الله عنه فقال: "تمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة، ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين والمرسلين خير أو أفضل من أبي بكر الصديق". كما في "كشف الأسرار".
وأكثر هذه (١) الروايات يشعر بأن المراد من الآية: بين يدي رسول الله - ﷺ -، وذكر الله لتعظيمه والإيذان بجلالة قدره عنده، حيث ذكر اسمه تعالى توطئةً وتمهيدًا لذكر اسمه - ﷺ -؛ ليدل على قوّة اختصاصه - ﷺ - بربّ العزة، وقرب منزلته من حضرته تعالى، فإنّ إيقاع ذكره تعالى موقع ذكره - ﷺ - بطريق العطف تفسيرًا للمراد، يدل عليها لا محالة، كما يقال: أعجبني زيد وكرمه، في موضع أن يقال: أعجبني كرم زيد؛ للدلالة على قوّة اختصاص الكرم به. والله أعلم.
ومعنى الآية (٢): أي يا أيها المؤمنون، لا تعجلوا بالقضاء في أمر قبل أن يقضي الله ورسوله لكم فيه، إذ ربّما تقضون بغير قضائهما، وراقبوا الله أن تقولوا ما لم يأذن لكم الله ورسوله به، إن الله سميع لما تقولون، عليم بما تريدون بقولكم إذا قلتم، لا يخفى عليه شيء من ضمائر صدوركم.
وبنحو هذا أجاب معاذ بن جبل رضي الله عنه رسول الله - ﷺ -، حين بعثه إلى اليمن، قال له: "بم تحكم؟ " قال: بكتاب الله تعالى، قال - ﷺ -: "فإن لم تجد" قال: بسنّة رسوله، قال - ﷺ -: "فإن لم تجد" قال: أجتهد رأيي، فضرب في صدره، وقال: "الحمد لله الذي وفّق رسول رسوله، لما يرضي رسوله". رواه أحمد وأبو داود والترمذي، فتراه قد أخّر رأيه واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدّمه.. لكان من المتقدّمين بين يدي الله ورسوله.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
343
والخلاصة (١): أنّه طلب إليهم أن ينقادوا لأوامر الله ونواهيه، ولا يعجلوا يقول أو فعل قبل أن يقول الرسول أو يفعل، ولا يذبحوا يوم عيد الأضحى قبل أن يذبح، ولا يصوم أحد يوم الشك وقد نهي عنه.
٢ - والحاصل: أنّ الله سبحانه قد أدّب المؤمنين إذا قابلوا الرسول بأدبين:
أحدهما: فعل.
وثانيهما: قول.
وأشار إلى أوّلهما بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ وأشار إلى ثانيهما بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ﴾ وإذا نطقتم، وتحدّثتم مع النبي - ﷺ - ﴿فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ - ﷺ - إذا نطق، وتكلّم معكم؛ أي: إذا نطق ونطقتم في المحادثة معه.. فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم حدًّا يبلغه صوته، بل يكون كلامكم دون كلامه؛ ليتميز منطقه عن منطقكم بكونه عاليًا رفيعًا على منطقكم.
والمعنى (٢): لا تبلغوا بأصواتكم وراء حدّ يبلغه - ﷺ - هو بصوته، والصوت: هو الهواء المنضغط عن قرع جسمين، كما سيأتي البسط فيه إن شاء الله تعالى، وقال في "المفردات": تخصيص الصوت بالنهي؛ لكونه أعم من النطق والكلام، ويحتمل أنّه خصّه لأنّ المكروه رفع الصوت لا رفع الكلام.
وكرر النداء (٣)؛ ليعلم أنّ كلّ واحد من الكلامين مقصود ليس الثاني منهما تأكيدًا للأول، كقولك: يا زيد، لا تنطق ولا تتكلّم إلا بالحق، فإنه لا يحسن أن تقول: يا زيد لا تنطق، يا زيد لا تتكلّم، كما يحسن عند اختلاف المطلوبين. كلاهما "الخطيب".
﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ﴾ - ﷺ -؛ أي: لا تنادوه ﴿بِالْقَوْلِ﴾ والكلام إذا كلّمتوه وهو
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الخطيب.
344
صامت، جهرًا كائنًا ﴿كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ﴾ ورفعه صوته عند مكالمته ﴿لِبَعْضٍ﴾ آخر منكم؛ أي (١): لا تجهروا، ولا ترفعوا صوتكم عند مكالمته وهو صامت جهرًا، كالجهر البخاري فيما بينكم في عدم المبالاة، وقلة الاحترام، بل اجعلوا صوتكم أخفض، وتعهدوا في مخاطبته اللين القريب من الهمس والسر، كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظَّم، وحافظوا على مراعاة جلالة النبوّة، فنهوا عن جهر مخصوص مقيد: وهو الجهر المماثل لجهر اعتادهوه فيما بينهم، لا عن الجهر مطلقًا، حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلّموه بالهمس والمخافتة.
والمفهوم من "الكشاف" في الفرق بين النهي عن رفع الصوت، والنهي عن الجهر له: أنّ معنى النهي الأول: أنه - ﷺ - إذا نطق ونطقتم.. فعليكم أن لا تبلغوا بأصواتكم فوق الحد الذي يبلغ إليه صوته - ﷺ -، وأن تغضوا من أصواتكم، بحيث يكون صوته عاليًا على أصواتكم، ومعنى الثاني: أنكم إذا كلمتوه وهو - ﷺ - ساكت.. فلا تبلغوا بالجهر في القول الجهر الدائر بينكم، بل ليِّنوا القول لينًا يقارب الهمس الذي يضادّ الجهر.
وفي "الشهاب على البيضاوي" (٢): لمَّا رأى أن تخصيص الأول بمكالمته معهم، والثاني بسكوته خلاف الظاهر؛ لأنّ الأول نهي عن أن يكون جهرهم أقوى من جهره، كما هو صريح قوله: ﴿فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ وهذا نهي عن مساواة جهرهم لجهره.. عدل عنه، فحمل الأول على النهي عن زيادة صوتهم على صوته، والثاني على مساواة صوتهم لصوته، فحصل التغاير بين النهيين بهذا الاعتبار أيضًا. اهـ من "الشهاب".
وقيل المعنى: ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ﴾؛ أي: لا تدعوه، ولا تخاطبوه باسمه وكنيته ﴿كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾؛ أي: كدعاء بعضكم لبعض باسمه، ولكن عظّموه ووقروه وشرّفوه، وقولوا له: يا نبي الله، ويا رسول الله، ويا أبا القاسم.
(١) روح البيان.
(٢) الشهاب.
345
وقوله: ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ﴾ تنازع (١) فيه ﴿لَا تَرْفَعُوا﴾ ﴿وَلَا تَجْهَرُوا﴾ فيكون مفعولًا لأجله للثاني عند البصريين، وللأول عند الكوفيين، والأول أصح؛ لأنّ إعمال الأول يستلزم الإضمار في الثاني، وهو (٢): إما علّة للنهي على طريق التنازع، فكأنه قيل: انتهوا عمّا نهيتم عنه لخشية حبوط أعمالكم أو كراهته، كما في قوله تعالى: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ فحذف المضاف ولام التعليل، وإمّا علة للفعل المنهي عنه، كأنه قيل: انتهوا عن الفعل الذي تفعلونه لأجل حبوط أعمالكم، فاللام فيه، لام العاقبة، فإنهم لم يقصدوا بما فعلوه من رفع الصوت والجهر حبوط أعمالهم، إلا أنه لمّا كان بحيث قد يؤدي إلى الكفر المحيط.. جعل كأنّه فعل لأجله، فأدخل عليه لام العلّة تشبيهًا لمؤدى الفعل بالعلة الغائية، وليس المراد بما نهي عنه من الرفع والجهر: ما يقارنه الاستخفاف والاستهانة بشأنه - ﷺ -، وعدم المبالاة به، فإنّ ذلك كفر، وكذا ليس المراد: ما يقع من الرفع والجهر في حرب أو مجادلة معاند، أو إرهاب عدوٍ أو نحو ذلك، فإنّه لا بأس به، إذ لا يتأذى به النبي - ﷺ -، فلا يتناوله النهي، ففي الحديث: أنّه - ﷺ - قال للعباس بن عبد المطلب، لمّا انهزم الناس يوم حنين: "اصرخ بالناس"، وكان العباس أجهر الناس صوتًا، وروي: أنَّ غارة أتتهم يومًا؛ أي: في المدينة، فصاح العباس: يا صباحاه، فأسقط الحوامل لشدّة صوته، وكان يسمع صوته من ثمانية أميال.
وقوله: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ حال من فاعل ﴿تَحْبَطَ﴾؛ أي: والحال أنكم لا تشعرون بحبوطها، ولا تعلمونه، وفيه تحذير شديد، ووعيد عظيم، قال الزجّاج: وليس المراد: ﴿وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾: يوجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم، فكما لا يكون الكافر مؤمنًا إلا باختياره الإيمان على الكفر، كذلك لا يكون الكافر كافرًا من حيث لا يعلم، قال أبو حيان: قوله: ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ﴾ إن كانت (٣) الآية معرّضة بمن يجهر استخفافًا.. فذلك كفر يحبط معه العمل حقيقةً، وإن
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
346
كانت للمؤمن الذي فعل ذلك غفلةً، وجريًا على عادته.. فإنّما يحبط عمله البرّ في توقير النبيّ - ﷺ -، وغضّ الصوت عنه أن لو فعل ذلك كأنه قال: مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها.
وقرأ عبد الله وزيد بن على: ﴿فتحبط﴾ بالفاء، وهو مسبب عما قبله.
وفي "فتح الرحمن": فإن قلت: (١) كيف قال ذلك مع أنّ الأعمال إنّما تحبط بالكفر، ورفع الصوت على صوت النبيّ ليس بكفر؟.
قلت: المراد به: الاستخفاف بالنبيّ - ﷺ -؛ لأنّه ربّما يؤدّي إلى الكفر، وقيل: حبوط العمل هنا مجاز عن نقصان المنزلة، وانحطاط الرتبة. اهـ.
ومعنى الآية (٢): إذا نطق ونطقتم.. فلا ترفعوا أصواتكبم فوق صوته، ولا تبلغوا به وراء الحدّ الذي يبلغه؛ لأنّ ذلك يدل على قلة الاحتشام، وترك الاحترام، وإذا كلّمتوه وهو صامت.. فإيّاكم أن تبلغوا به الجهر الذي يدور بينكم، أو أن تقولوا: يا محمد، يا أحمد، بل خاطبوه بالنبوّة مع الإجلال والتعظيم، خشية أن يؤدّي ذلك إلى الاستخفاف بالمخاطب، فتكفروا من حيث لا تشعرون.
قال البقلي في "العرائس": أعلمنا الله سبحانه بهذا التأديب، أنّ خاطر حبيبه من كمال لطافته، ومراقبة جمال ملكوته، كان يتغير من الأصوات الجهرية، وذلك من غاية شغله بالله، وجمع همومه بين يدي الله، فكان إذا جهر أحد عنده.. يتأذى قلبه، ويضيق صدره من ذلك، كأنه يتقاعد سرّه لحظةً عن السير في ميادين الأزل، فخوَّفهم الله من ذلك، فإن تشويش خاطره - ﷺ - سبب بطلان الأعمال.
يقول الفقير: ولكمال لطافته - ﷺ -، كان الموت عليه أشدَّ، إذ اللطيف يتأثر مما لا يتأثر به الكثيف، كما قال بعضهم: قد شاهدنا أقوامًا من عرب البوادي، يسلخ الحكام جميع جلد أحدهم ولا يظهر ضجرًا، ولو سلخ أكبر الأولياء...
(١) فتح الرحمن.
(٢) المراغي.
347
لصاح، إلا أن يؤخذ عقله بمشاهدة تمنع إحساسه. اهـ.
وقد كره (١) بعض العلماء رفع الصوت عند قبره - ﷺ -، وكذا القرب منه عليه السلام في المواجهة عند السلام، بحيث كان بينه وبينه - ﷺ - أقلَّ من أربعة أذرع، وكره بعضهم رفع الصوت في مجالس الفقهاء؛ تشريفًا لهم، إذ هم ورثة الأنبياء، قال سليمان بن حرب: ضحك إنسان عند حمّاد بن زيد، وهو يحدث بحديث عن رسول الله - ﷺ -، فغضب حمّاد، وقال: إنّي أرى رفع الصوت عند حديث رسول الله - ﷺ - وهو ميت، كرفع الصوت عنده وهو حيّ، وقام وامتنع من الحديث ذلك اليوم.
٣ - ثم رغب سبحانه في امتثال ما أمر به، فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ﴾؛ أي: يخفضون ﴿أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ - ﷺ -؛ مراعاةً للأدب، وخشية من مخالفة النهي ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ، خبره: قوله: ﴿الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿قُلُوبَهُمْ﴾؛ أي: شرح قلوبهم، ووسعها ﴿لِلتَّقْوَى﴾ وصفّاها، وأخلصها للتقوى، والجملة الابتدائية. خبر ﴿إِنَّ﴾. وعن عمر رضي الله عنه: أذهب عنها الشهوات؛ أي: نزع عنها محبّة الشهوات، وصفَّاها عن دنس سوء الأخلاق، وحلَّاها بمكارمها، حتى انسلخوا عن عادات البشرية. ﴿لَهُمْ﴾ في الآخرة ﴿مَغْفِرَةٌ﴾ عظيمة لذنوبهم ﴿وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ التنكير للتعظيم؛ أي: ثابت لهم غفران، وأجر عظيم لا يقادر قدره لغضّهم، وسائر طاعاتهم، فهو استئناف لبيان جزاء الغاضين مدحًا لحالهم، وتعريضًا بسوء حال من ليس مثلهم، أو خبر ثان لـ ﴿إِنَّ﴾.
وروى أحمد في "الزهد" عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، رجل لا يشتهي المعصية، ولا يعمل بها أفضل، أم رجل يشتهي المعصية، ولا يعمل بها؟. فكتب عمر رضي الله عنه: إن الذين يشتهون المعصية، ولا يعملون بها، أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، لهم مغفرة وأجر عظيم.
(١) روح البيان.
والتقوى: هي امتثال المأمورات، واجتناب المنهيات، وقال بعضهم: التقوى: كل عمل يقيك من النار، وإذا وقاك من النار.. وقاك من الحجاب، وإذا وقاك من الحجاب.. شاهدت العزيز الوهّاب.
٤ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ﴾ ويدعونك يا محمد ﴿مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ﴾؛ أي (١): من خارج حجرات نسائك من خلفها أو قدّامها؛ لأنّ وراء الحجرة عبارة عن الجهة التي يواريها شخص الحجرة بجهتها من أيّ ناحية كانت من نواحيها، ولا بدّ أن تكون تلك الجهة خارج الحجرة؛ لأن ما في دخلها لا يتوارى عمن فيها بجثة الحجرة، فاشتراك الوراء في تينك الجهتين معنوي لا لفظي، لكن جعله الجوهري وغيره من الأضداد، فيكون اشتراكه لفظيًّا، و ﴿مِنْ﴾: ابتدائية دالة على أن المناداة نشأت من جهة الوراء، وأن المنادى داخل الحجرة؛ لوجوب اختلاف المبدأ والمنتهى بحسب الجهة، ولو جرِّد الكلام عن حرف الابتداء.. جاز أن يكون المنادى أيضًا في الخارج؛ لانتفاء مقتضى اختلافهما بالجهة.
والمراد: حجرات أمّهات المؤمنين، وكانت لكل واحد منهنّ حجرة، فتكون تسعًا عددهنّ.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿الْحُجُرَاتِ﴾ بضم الجيم إتباعًا للضمّة قبلها، وقرأ أبو جعفر وشيبة: بفتحها، وابن أبي عبلة: بإسكانها ثلاثتها جمع حجرة: كغرفات جمع غرفة، وظلمات جمع ظلمة، وقبضات جمع قبضة بمعنى محجورة كقبضة بمعنى مقبوضة، وهي الموضع الذي يحجره الإنسان لنفسه بحائط ونحوه، ويمنع غيره من أن يشاركه فيه من الحجر، وهو المنع، وقيل للعقل: حجر لكون الإنسان في منع منه ممّا تدعو إليه نفسه.
ومناداتهم من ورائها: إما بأنّهم أتوها حجرة حجرة، فنادوه عليه السلام من ورائها، أو بأنهم تفرّقرا على الحجرات متطلّبين له - ﷺ -؛ لأنّهم لم يتحقّقوا مكانه،
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
فناداه بعض من وراء هذه، وبعض من وراء تلك، فأسند فعل الأبعاض إلى الكل مجازًا.
﴿أَكْثَرُهُمْ﴾ أي: كلهم ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾؛ أي: لا يفقهون أمر الله وتوحيده، ولا حرمة رسوله - ﷺ -؛ لغلبة الجهل عليهم، وكثرة الجفاء في طباعهم، قال في "بحر العلوم": في قوله: ﴿أكثر﴾ دلالة على أنّه كان فيهم من قصد بالمحاشاة، وعلى قلة العقلاء فيهم قصدًا إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل، إذ القلة تجري مجرى النفي في كلامهم، فيكون المعنى: كلهم لا يعقلون، إذ لو كان لهم عقل لما تجاسروا على هذه المرتبة من سوء الأدب، بل تأدَّبوا معه بأن يجلسوا على بابه، حتى يخرج إليهم،
٥ - كما قال تعالى آنفًا: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا﴾، الصبر: حبس النفس عن شهواتها. و ﴿لو﴾ (١) مختص بالفعل على ما ذهب إليه المبرّد والزجاج والكوفيون، فما بعد ﴿لو﴾ مرفوع على الفاعلية، لا على الابتداء على ما قاله سيبويه.
والمعنى: ولو تحقق صبرهم وانتظارهم ﴿حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ﴾ و ﴿حَتَّى﴾ تفيد أنّ الصبر ينبغي أن يكون مغيًا بخروجه - ﷺ -، فإنها مختصّة بما هو غاية للشيء في نفسه، ولذلك تقول: أكلت السمكة حتى رأسها، ولا تقول: حتى نصفها وثلثها، بخلاف إلى فإنها عامّة، وفي قوله: ﴿إِلَيْهِمْ﴾ إشعار بأنّه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم. ﴿لَكَانَ﴾؛ أي: الصبر المذكور ﴿خَيْرًا لَهُمْ﴾ من الاستعجال لما فيه من رعاية حسن الأدب مع الرسول - ﷺ -.
والمعنى: أنهم لو انتظروا خروجك، ولم يعجلوا بالمناداة.. لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم، لما في ذلك من رعاية حسن الأدب مع رسول الله - ﷺ -، ورعاية جنابه الشريف، والعمل بما يستحقه من التعظيم والتبجيل، الموجبين للثواب والثناء، والإسعاف بالمسؤول، وقيل: إنّهم جاؤوا شفعاء في أسارى، فأعتق رسول الله - ﷺ - نصفهم، وفادى نصفهم، ولو صبروا.. لأعتق الجميع.
(١) روح البيان.
350
فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ النبيّ - ﷺ - بعث سريّة إلى قوم من بني عنبر جماعة من خزاعة، وأمّر عليهم عيينة بن حصن الفزاريّ، فسار إليهم، فلمّا بلغهم أنه خرج إليهم.. فرّوا وهربوا، وتركوا عيالهم وأموالهم، فسبى ذراريَّهم، وجاء بهم إلى النبيّ - ﷺ -، فجاء بعد ذلك رجالهم ليفادوا ذراريهم، فدخلوا المدينة عند القيلولة، ووافقوا النبي - ﷺ - قائلًا عند أهله، فلمّا رأتهم الذراريّ.. أجهشوا يبكون، فنادوا النبيّ - ﷺ -: يا محمد أخرج إلينا، حتى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم، فقالوا: يا محمد فادنا عيالنا، فنزل جبريل عليه السلام فقال: إنّ الله تعالى يأمرك أن تجعل بينك وبينهم رجلًا، فقال لهم رسول الله - ﷺ -: "أترضون أن يكون بيني وبينكم شبرمة بن عمرو، وهو على دينكم" فقالوا: نعم. فقال شبرمة: أنا لا أحكم بينهم وعمي شاهد، وهو أعور بن بسَّامة بن ضرار، فرضوا بالأعور، فقال الأعور: فانا أرى أن تفادي نصفهم، وتعتق نصفهم، فقال رسول الله - ﷺ -: "قد رضيت" ففادى نصفهم وأعتق نصفهم، ولو صبروا.. لأعتق جميعهم بغير فداء، فأنزل الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ﴾.
﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ أي: بليغ المغفرة والرحمة واسعهما، فلن تضيق ساحته عن هؤلاء المسيئين للأدب إن تابوا وأصلحوا.
ومعنى الآية (١): أي وّلو أنَّ هؤلاء الذين ينادونك من وراء الحجرات صبروا، ولم ينادوك حتى تخرج إليهم.. لكان خيرًا لهم عند الله تعالى؛ لأنّه قد أمرهم بتوقيرك وتعظيمك، والله ذو عفو عمّن ناداك من وراء الحجاب، إن هو تاب من معصيته بندائك كذلك، وراجع أمر الله في ذلك وفي غيره، رحيم به أن يعاقبه على ذنبه ذلك من بعد توبته منه.
والخلاصة (٢): أنّ الله تعالى هجَّن الصياح برسول الله - ﷺ - في حال خلوف من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرًا لينبه إلى فظاعة ما جسروا عليه؛ لأنَّ من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، يكون صنيع مثل هؤلاء معه من
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
351
المنكر الذي يبلغ من التفاحش مبلغًا لا يقدر قدره.
تنبيه (١): وفي هذا المقام أمور:
الأول: أنّ في هذه الآية تنبيهًا على قدره - ﷺ -، والتأدب معه بكل حال، فهم إنّما نادوه لعدم عقل يعرفون به قدره، ولو عرفوا قدره.. لكانوا كما في الخبر يقرعون بابه بالأظافير، وفي المناداة إشارة إلى أنهم رأوه من وراء الحجاب، ولو كانوا من أهل الحضور والشهود.. لما نادوه.
قال أبو عثمان المغربي رحمه الله تعالى: الأدب عند الأكابر، وفي مجلس السادات من العلماء والأولياء، يبلغ بصاحبه إلى الدرجات العلى، والخير في الأولى والعقبى، فكما لا بد من التأدّب معه - ﷺ -، فكذا مع من استنّ بسنته: كالعلماء العاملين، وكان جماعة من العلماء يجلسون على باب غيرهم، ولا يدقّون عليه بابه حتى يخرج لقضاء حاجته احترامًا، قال أبو عبيدة القاسم بن سلّام: ما دققت الباب على عالم قط، كنت أصبر حتى يخرج إليّ، لقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا﴾ الآية.
قال بعضهم: من الحكمة توقير الكبير، ورحمة الصغير، ومخاطبة الناس بالليّن. وقال: إن كان خليلك فوقك.. فاصحبه بالحرمة، وإن كان كفأك ونظيرك.. فاصحبه بالوفاء، وإن كان دونك.. فاصحبه بالمرحمة، وإن كان عالمًا.. فاصحبه بالخدمة والتعظيم، وإن كان جاهلًا.. فاصحبه بالسياسة، وإن كان غنيًا.. فاصحبه بالزهد، وإن كان فقيرًا.. فاصحبه بالجود، وقال بعض الحكماء: عاشروا الناس معاشرة، إن متّم.. بكوا عليكم، وإن رغبتم.. حنّوا إليكم.
والثاني: ذم الجهل، ومدح العقل والعلم، فإن شرف العقل مدرك بضرورة العقل والعلم والحس، حتى إنّ أكبر الحيوانات شخصًا، وأقواها بدنًا، إذا رأى الإنسان.. احتشمه وخاف منه؛ لإحساسه بأنّه مسئول عليه بحيلته، قال بعضهم:
(١) روح البيان.
352
العاقل كلامه وراء قلبه، فإذا أراد أن يتكلم به.. أمَّره على قلبه، فينظر فيه، فإن كان له؛ أي: لنفعه.. أمضاه، وإن كان عليه؛ أي: لضرّه.. أمسكه، والأحمق كلامه على طرف لسانه، وعقله في حجره إذا قام سقط، قال عليّ كرم الله وجهه: لسان العاقل في قلبه، وقلب الأحمق في فمه، والأدب صورة العقل، ولا شرف مع سوء الأدب، ولا داء أعيا من الجهل، وإذا تم العقل.. نقص الكلام.
والثالث: ما قاله بعضهم: تدبر سر قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى﴾ ولا تنظر إلى سبب النزول، وانتظر خروجه مرةً ثانية لقيام الساعة لفتح باب الشفاعة، وقد ثبت أنّ الناس يلتجئون يوم القيامة إلى الأنبياء، ثمَّ، وثمَّ إلى أن يصلوا إليه - ﷺ -، فلا يصلون إلى المراد إلا عنده.
٦ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿إِنْ جَاءَكُمْ﴾ وأتاكم ﴿فَاسِقٌ﴾ أيَّ فاسقٍ كان ﴿بِنَبَإٍ﴾ وخبر أيَّ نبأ كان، والنبأ: الخبر الخطير، والتنكير (١) في الموضعين للتعميم، وفيه إيذان بالاحتراز عن كل فاسق، وإنما قال: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ﴾ بحرف الشك دون إذا؛ ليدل على أن المؤمنين ينبغي أن يكونوا على هذه الصفة، لئلا يطمع فاسق في مكالمتهم بكذب، وقال ابن الشيخ: إخراج الكلام بلفظ الشرط المحتمل الوقوع؛ لندرة مثله فيما بين أصحابه - ﷺ -؛ أي: إن جاءكم فاسق بخبر يعظم وقعه في القلوب.. ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾؛ أي: فتعرّفوا وتفّحصوا، حتى يتبين لكم ما جاء به، أصدق هو أم كذب، ولا تعتمدوا على قوله المجرد؛ لأنّ من لا يتحامى جنس الفسوق.. لا يتحامى الكذب الذي هو نوع منه.
قرأ الجمهور (٢): ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ من التبين، وقرأ حمزة والكسائيّ: ﴿فتثبتوا﴾ من التثبت، والمراد من التبيّن: التعرف والتفحص، ومن التثبت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع، والخبر الوارد، حتى يتّضح ويظهر.
قال المفسرون: كما مر إنّ هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أخي عثمان رضي الله عنه لأمه، وهو الذي ولّاه عثمان الكوفة بعد سعد بن
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
353
أبي وقّاص، فصلى بالناس وهو سكران صلاة الفجر أربعًا، ثم قال: هل أزيدكم؟ فعزله عثمان عنهم، بعثه - ﷺ - مصدقًا إلى بني المصطلق، إلى آخر ما سبق في أسباب النزول.
وقوله: ﴿أَنْ تُصِيبُوا﴾ مفعول لأجله على تقدير مضاف؛ أي: حذار أن تصيبوا ﴿قَوْمًا﴾ بريئين بقتل وأسر وجرح، حال كونكم متلبسين ﴿بِجَهَالَةٍ﴾ بحالهم، وكنه قصتهم؛ لأنَّ الخطأ ممن لم يتبين الأمر، ولم يتثبت فيه هو الغالب وهو جهالة؛ لأنه لم يصدر عن علم. ﴿فَتُصْبِحُوا﴾؛ أي: فتصيروا بعد ظهور براءتهم مما أسند إليهم ﴿عَلَى مَا فَعَلْتُمْ﴾ في حقهم ﴿نَادِمِينَ﴾؛ أي: مهتمين به مغتمّين له غمًّا لازمًا، متمنّين أنه لم يقع، فإنّ تركيب (١) هذه الأحرف الثلاثة: ن د م، يدور مع الدوام، مثل: أدمت الأمر: إذا أدامه، ومدن المكان: إذا أقام به، ومنه المدينة؛ يعني: أنَّ الندم غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام على ما وقع، مع تمني أنه لم يقع، ولزومه قد يكون لقوته من أول الأمر، وقد يكون لعدم غيبة موجبه وسببه عن المخاطر، وقد يكون لكثرة تذكره، ولغير ذلك من الأسباب.
وفي الآية (٢): دلالة على أنَّ الجاهل لا بد أن يصير نادمًا على ما فعله بعد زمان، وفي ترتيب الأمر بالتبين على فسق المخبر: إشارة إلى قبول خبر الواحد العدل في بعض المواد، وفي الآية أيضًا إشارة إلى ترك الاستماع إلى كلام الساعي والنمام، والمغتاب للناس، فلا بدّ من التبين والتفحص؛ لتظهر حقيقة الحال، ويسلم المرء من الوبال، ويفتضح الكذاب الدجال، وفي الحديث: "التبيُّن من الله، والعجلة من الشيطان".
ومعنى الآية: أي (٣) يا أيها الذين آمنوا، إن جاءكم الفاسق بأيّ نبأ، فتوقّفوا فيه، وتطلبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة، ولا تعتمدوا على قوله، فإنّ
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
354
من لا يبالي بالفسق.. فهو أجدر بأن لا يبالي بالكذب ولا يتحاماه، خشية إصابتكم بالأذى قومًا أنتم جاهلون حالهم، فتندموا على ما فرط منكم، وتتمنّوا أن لو لم تكونوا فعلتم ذلك.
٧ - ثم وعظهم سبحانه بعظة هم أحرى الناس باتباعها، فقال: ﴿وَاعْلَمُوا﴾ أيّها المؤمنون، وفائدة الأمر الدلالة على أنهم نزّلوا منزلة الجاهلين، لمكانه - ﷺ -؛ لتفريطهم فيما يجب عليهم من تعظيم شأنه، وجملة ﴿أَنَّ﴾ في قوله: ﴿أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾: سادّة مسدّ مفعولي ﴿وَاعْلَمُوا﴾؛ أي: واعلموا أنّ فيكم رسول الله، وهو مرشد لكم، فارجعوا إليه، واعتمدوا عليه، فلا تقولوا قولًا باطلًا، ولا تتسرّعوا عند وصول الخبر إليكم من غير تبيّن، وجملة ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ﴾؛ أي: لوقعتم في العنت والفساد والهلاك، في محل نصب على الحال من ضمير ﴿فِيكُمْ﴾؛ أي: كائنين (١) على حالة.. إلخ. وهي أنكم تريدون أن يتبع الرسول - ﷺ - رأيكم في كثير من الحوادث، ولو فعل ذلك.. لوقعتم في الجهد والهلاك، فعلى هذا يكون قوله: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ إلخ. دليل وجوب تغيير تلك الحال أقيم مقام الحال، وفيه إيذان بأنّ بعضهم زيّنوا لرسول الله الإيقاع ببني المصطلق، تصديقًا لقول الوليد، وأنه - ﷺ - لم يطع رأيهم، أو مستأنفة.
والمعنى: لو يطيعكم في كثير مما تخبرونه من الأخبار الباطلة، وتشيرون به عليه من الآراء التي ليست بصواب.. لوقعتم في العنت، ولكنه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه، وقد يوافق الناس، ويفعل بمقتضى مصلحتهم؛ تحقيقًا لفائدة قوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾.
وصيغة المضارع في قوله: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾: للدلالة على أنّ امتناع عنتهم لامتناع استمرار طاعته - ﷺ - لأن عنتهم، إنما يلزم من استمرار الطاعة فيما يعنُّ لهم
(١) روح البيان.
355
من الأمور، إذ فيه اختلال أمر الرياسة، وانقلاب الرئيس مرؤسًا، لا من إطاعته في بعض ما يرونه نادرًا، بل فيها استمالتهم بلا معرةٍ؛ يعني: أن امتناع عنتكم بسبب امتناع استمراره على إطاعتكم، فإنّ المضارع يفيد الاستمرار، ودخول ﴿لو﴾ عليه، يفيد أمتناع الاستمرار.
والمعنى (١): أي واعلموا أيّها المؤمنون، أن بين أظهركم رسول الله، فعظّموه ووقّروه، وتأدّبوا معه، وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، وأشفق عليكم منكم، كما قال تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾، ثم بين أن رأيه أنفع لهم، وأجدر بالرعاية، فقال: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ إلخ؛ أي: لو سارع إلى ما أردتم قبل وضوح الأمر، وأجاب ما أشرتم به عليه من الآراء.. لوقعتم في الجهد والإثم، ولكنّه لا يطيعكم في غالب ما تريدون قبل وضوح وجهه له، ولا يسارع إلى العمل بما يبلغه قبل النظر فيه، عن أبي سعيد الخدري: أنّه قرأ هذه الآية، وقال: هذا نبيُّكم يوحى إليه، وخيار أئمتكم، لو أطاعهم في كثير من الأمر.. لعنتوا، فكيف بكم اليوم؟! أخرجه الترمذي.
ثمّ استدرك على ما سلف لبيان براءة بعضهم من أوصاف الأولين، فقال: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾؛ أي: جعل الإيمان أحبّ الأشياء إليكم، أو جعله محبوبًا لديكم، فلا يقع منكم إلا ما يوافقه، ويقتضيه من الأمور الصالحة، وترك التسرّع في الأخبار، وعدم التثبت فيها.
وقيل: هذا تجريد للخطاب (٢) وتوجيه له إلى بعضهم بطريق الاستدراك، بيانًا لبراءتهم من أوصاف الأولين، وإحمادًا لأفعالهم، وهم الكاملون الذين لا يعتمدون على كل ما سمعوه من الأخبار؛ أي: ولكن جمعًا منكم براء مما أنتم عليه من تصديق الكاذب، وتزيين الإيقاع بالبريء، وإرادة أن يتبع الحق أهواءهم؛ لأنّ الله تعالى جعل الإيمان أحبَّ الأشياء إليهم، فلا يقع منهم إلا ما يوافقه، ويقتضيه من الأمور الصالحة، وترك التسرع في الأخبار.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
356
والظاهر: أنه تذكير للكل بما يقتضيه الإيمان.
﴿وَزَيَّنَهُ﴾؛ أي: زيّن الإيمان، وحسَّنه ﴿فِي قُلُوبِكُمْ﴾ حتى رسخ حبه فيها، ولذلك أتيتم بما يليق به من الأقوال والأفعال، وفي "عين المعاني": في قلوبكم دون ألسنتكم مجرّدةً ردًّا على الكرامية القائلين: بأنَّ الإيمان لا يكون بالقلب، ولكن باللسان، وقيل: دون جوارحكم ردًّا على الشعوبية بضم الشين: وهم قوم يتعلقون بظاهر الأعمال.
﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾؛ أي: جعل هذه الأمور الثلاثة: الكفر والفسوق والعصيان مكروهة عندكم، ولذلك اجتنبتم ما يليق بها، مما لا خير فيه من آثارها وأحكامها، والتكريه هنا بمعنى التبغيض، والبغض: ضد الحب، فالبغض: نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه، والحب: انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه، ولما كان في التحبيب والتكريه معنى إنماء المحبّة والكراهة، وإيصالهما إليهم.. استعملا بكلمة إلى.
قال في "فتح الرحمن": معنى تحبيب الله وتكريهه: اللطف والإمداد بالتوفيق، والكفر تغطية نعم الله بالحجود والفسوق الخروج عن القصد؛ أي: العدل بظلم نفسه، والعصيان: الامتناع عن الانقياد، وهو شامل لجميع الذنوب، والفسوق مختص بالكبائر، قال شيخ الإِسلام: إن قلت: ما فائدة الجمع بين الفسق والعصيان؟.. قلت: الفسوق: الكذب، كما نقل عن ابن عباس، والعصيان: بقية المعاصي، وإنما أفرد الكذب بالذكر؛ لأنّه سبب نزول الآية، وقيل: الفسوق: الكبيرة، والعصيان: الصغيرة. انتهى.
والخلاصة (١): أنّ الإيمان الكامل: إقرارٌ باللسان، وتصديق بالجنان، وعمل بالأركان، فكراهة الكفر في مقابلة محبّة الإيمان، وتزيينه في القلوب هو التصديق بالجنان، والفسوق: هو الكذب في مقابلة الإقرار باللسان، والعصيان: في مقابلة العمل بالأركان.
(١) المراغي.
357
﴿أُولَئِكَ﴾ المستثنون بقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ﴾ إلخ. ﴿هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾؛ أي: السالكون إلى الطريق السويّ الموصل إلى الحق، والرشد: الاستقامة على طريق الحق، مع تصلبٍ من الرشادة: وهي الصخرة، وفي الآية (١) عدول وتلوين، حيث ذكر أولها على وجه المخاطبة، وآخرها على المغايبة، حيث قيل: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ ليعلم أنّ من كان حاله هكذا، فقد دخل في هذا المدح، كما قاله أبو الليث.
٨ - وقوله: ﴿فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً﴾؛ أي: تفضلًا منه تعالى، وإنعامًا منه تعليل لـ ﴿حَبَّبَ﴾ ﴿وَكَرَّهَ﴾ وما بينهما اعتراض.
والمعنى: أنه تعالى حبّب إليكم ما حبّب، وكرّه إليكم ما كرّه؛ لأجل فضله وإنعامه، لا للراشدين، فإنّ الفضل فعل الله، والرشد وإن كان مسبّبًا عن فعله، وهو التحبيب والتكريه مسند إلى ضمير ﴿هُمُ﴾؛ يعني: أنّ المراد بالفاعل: من قام به الفعل، وأسند هو إليه، لا من أوجده، ومن المعلوم: أنّ الرشد قائم بالقوم، والفضل والإنعام قائمان به تعالى، فلا اتحاد في الفاعل، وقيل: علّة لمحذوف؛ أي: جعلكم راشدين لأجل فضله وإنعامه، وقيل: النصب بتقدير فعل؛ أي: تبتغون فضلًا ونعمةً.
والخلاصة (٢): أنّ رسول الله بين أظهركم، وهو أعلم بمصالحكم، لو أطعاكم في جميع ما تختارونه.. لأدّى ذلك إلى عنتكم ووقوعكم في مهاوي الردى، ولكنّ بعضًا منكم حبّب إليهم الإيمان، وزيّنه في قلوبهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وأولئك هم الذين أصابوا الحق، وسلكوا سبيل الرشاد.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ﴾ بمن يستحق الهداية، ومن يستحق الغواية ﴿حَكِيمٌ﴾ في تدبير شؤون خلقه، وصرفهم فيما شاء من قضائه، فيفعل كل ما يفعل بموجب الحكمة.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
وفي الآية دليل على أنّ من كان مؤمنًا، لا يحبّ الفسق والمعصية، وإذا ابتلي بالمعصية.. فإنّ شهوته وغفلته تحمله على ذلك، لا لحبّه للمعصية، بل ربّما يعصي حال الحضور؛ لأنّ فيه نفاذ قضائه تعالى.
٩ - ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾؛ أي: تقاتلوا، والجمع حيث لم يقل: اقتتلتا على التثنية والتأنيث باعتبار المعنى؛ لأنّ كل طائفة جمع، فهي بمعنى القوم، نظير قوله تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا﴾، وبه قرأ الجمهور (١). وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿اقتتلتا﴾ بالتثنية والتأنيث اعتبارًا بلفظ ﴿طَائِفَتَانِ﴾، وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير: ﴿اقتتلا﴾ بالتثنية، وتذكير الفعل باعتبار الفريقين والرهطين، والطائفة من الناس: جماعة منهم، لكنها دون الفرقة، كما دلّ عليه قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾. و ﴿طَائِفَتَانِ﴾: فاعل فعل محذوف وجوبًا؛ لا مبتدأ؛ لأنّ حرف الشرط لا يدخل إلا على الفعل لفظًا أو تقديرًا، والتقدير: وإن اقتتل طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فحذف الأول؛ لئلا يلزم اجتماع المفسّر والمفسّر، وأصل القتل: إزالة الروح عن الجسد بأيّ طريق كان.
﴿فَأَصْلِحُوا﴾ أيها المؤمنون ﴿بَيْنَهُمَا﴾؛ أي: بين تينك الطائفتين بالنصح والدعاء إلى حكم الله تعالى، وثنّى الضمير باعتبار لفظ الطائفتين، والصلاح: الحصول على الحالة المستقيمة النافعة، والإصلاح: جعل الشيء على تلك الحالة، والإصلاح بين الناس إذا تفاسدوا من أعظم الطاعات، وأتمّ القربات، وكذا نصرة المظلوم، قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: من وصل أخاه بنصيحة في دينه، ونظر له في صلاح دنياه.. فقد أحسن صلته، وقال مطرّف: وجدنا أنصح العباد لله الملائكة، ووجدنا أغشّ العباد لله الشياطين، ويقال: من كتم السلطان نصحه، والأطبّاء مرضه، والأخوان بثّه.. فقد خان نفسه.
﴿فَإِنْ بَغَتْ﴾؛ أي: تعدّت واستطالت ﴿إِحْدَاهُمَا﴾؛ أي: إحدى الطائفتين وكانت مبطلة ﴿عَلَى الْأُخْرَى﴾ وكان محقة، ولم تتأثر الباغية بالنصيحة {فَقَاتِلُوا الَّتِي
(١) البحر المحيط.
359
تَبْغِي}؛ أي: قاتلوا الطائفة الباغية ﴿حَتَّى تَفِيءَ﴾؛ أي: حتى ترجع عن بغيها، فإنّ الفيء: الرجوع إلى حالة محمودة. ﴿إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾؛ أي: إلى حكمه الذي حكم به في كتابه العزيز، وهو المصالحة، ورفع العداوة، أو إلى ما أمر به، وهو الإطاعة المدلول عليها بقوله: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾. فأمر الله على الأول واحد الأمور، وعلى الثاني واحد الأوامر.
وإنّما أطلق (١) الفيء على الظل؛ لرجوعه بعد نسخ الشمس؛ أي: إزالتها إيّاه، فإنّ الشمس كلما ازدادات ارتفاعًا.. ازداد الظل انسلاخًا وزوالًا، وذلك إلى أن توازي الشمس خطّ نصف النهار، فإذا زالت عنه، وأخذت في الانحطاط.. أخذ الظل في الرجوع والظهور، فلمّا كان الزوال سببًا لرجوع ما انتسخ من الظل.. أضيف الظل إلى الزوال، فقيل: فيء الزوال.
ومرَّ الأصمعي بحيّ من أحياء العرب، فوجد صبيًا يلعب مع الصبيان في صحراء، وبتكلّم بالفصاحة، فقال الأصمعي: أين أباك يا صبيّ؟ فنظر إليه الصبي ولم يجب، ثم قال: أين أبيك؟ فنظر إليه ولم يجب كالأول، ثمّ قال: أين أبوك؟ فقال: فاء إلى الفيفاء لطلب الفيء، فإذا فاء الفيء.. فاء؛ أي: رجع.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿حَتَّى تَفِيءَ﴾ مضارع فاء بفتح الهمزة، وقرأ الزهريّ ﴿حتى تفى﴾ بغير همزة وفتح الياء، وهذا شاذ، كما قالوا في مضارع جاء: ينبغي بغير همز، فإذا أدخلوا عليه الناصب.. فتحوا الياء، وأجروه مجرى يفي مضارع وفى شذوذًا.
﴿فَإِنْ فَاءَتْ﴾ الباغية، ورجعت إليه، وأقلعت عن القتال حذارًا من قتالكم ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ أي: بين الطائفتين: الباغية والمحقّة ﴿بِالْعَدْلِ﴾ والإنصاف بفصل ما بينهما على حكم الله، ولا تكتفوا بمجرد متاركتهما، عسى أن يكون بينهما قتال في وقت آخر.
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
360
والمعنى (١): أنه إذا تقاتل فريقان من المسلمين.. فعلى المسلمين أن يسعوا بالصلح بينهم، ويدعوهم إلى حكم الله، فإن حصل بعد ذلك التعدّي من إحدى الطائفتين على الأخرى، ولم تقبل الصلح، ولا دخلت فيه.. كان على المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى أمر الله، وحكمه، فإن رجعت تلك الطائفة الباغية عن بغيها، وأجابت الدعوة إلى كتاب الله وحكمه.. فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة، حتى تخرج من الظلم، وتؤدي ما يجب عليها للأخرى.
ثمّ أمر الله سبحانه المسلمين أن يعدلوا في كل أمورهم، بعد أمرهم بهذا العدل الخاصّ بالطائفتين المقتتلتين، فقال: ﴿وَأَقْسِطُوا﴾؛ أي: واعدلوا في كلّ ما تأتون وما تذرون، من أقسط، وهمزته للسلب إذا أزال القسط بالفتح؛ أي: الجور، يقال: إذا جاء القسط بالكسر؛ أي: العدل.. زال القسط بالفتح؛ أي: الجور ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾؛ أي: العادلين الذين يؤدُّون لكل ذي حق حقه، فيجازيهم بأحسن الجزاء؛ لأنّ محبته تعالى لهم تستلزم مجازاتهم بأحسن الجزاء، وفي "الصحيح": عن أنس رضي الله عنه: أنّ النبيَّ - ﷺ - قال: "انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا". قلت: يا رسول الله هذا نصرته مظلومًا، فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: "تمنعه من الظلم، فذلك نصرك إيّاه".
١٠ - وجملة قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾: مستأنفة مقرّرة لما قبلها من الأمر بالإصلاح، جمع الأخ (٢)، وأصله: المشارك لأخر في الولادة من الطرفين، أو من أحدهما، أو من الرضاع، ويستعار في كل مشارك لغيره في القبيلة، أو في الدين، أو في صنعة، أو في معاملة، أو في مودّة، أو في غير ذلك من المناسبات، والفرق بين الخلة والأخوة: أنّ الصداقة إذا قويت.. صارت أخوة، فإن ازدادات.. صارت خلّة، كما في "إحياء العلوم". قال بعض أهل اللغة:
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
361
الإخوة جمع الأخ من النسب، والإخوان جمع الأخ من الصداقة، ويقع أحدهما موقع الآخر، وفي الحديث: "وكونوا عباد الله إخوانًا".
والمعنى: إنّما المؤمنون منتسبون إلى أصل واحد هو الإيمان الموجب للحياة الأبدية، كما أنّ الإخوة من النسب منتسبون إلى أصل واحد هو الأب الموجب للحياة الفانية، فالآية من قبيل التشبيه البليغ المبني على تشبيه الإيمان بالأب في كونه سبب الحياة كالأب.
وفي الحديث: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يعيّبه، ولا يخذله، ولا يتطاول عليه في البنيان، فيستر عليه الريح إلا بإذنه، ولا يؤذيه بقتار قدره، إلا أن يغرف له غرفة، ولا يشتري لبنيه الفاكهة فيخرجون بها إلى صبيان جاره ولا يطعمونهم منها". ثم قال: "احفظوا، ولا يحفظ منكم إلا قليل". وفي "الصحيح" أيضًا: "إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب.. قال الملك: آمين، ولك مثله".
ولما كانت الأخوة داعية إلى الإصلاح ولابد.. تسبب عن ذلك قوله: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ في الدين، كما تصلحون بين أخويكم في النسب، و ﴿الفاء﴾ فيه: للإيذان بأنّ الأخوّة الدينية موجبة للإصلاح، ووضع (١) المظهر موضح المضمر مضافًا إلى المأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح، والتحضيض عليه، وتخصيص الأثنين بالذكر لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولوية لتضاعف الفتنة والفساد فيه. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى في كل ما تأتون، وما تذرون من الأمور التي من جملتها ما أمرتم به من إصلاح ذات البين، وفي "التأويلات النجمية": واتقوا الله في إخوتكم في الدين بحفظ عهودهم، ورعاية حقوقهم، في المشهد والمغيب، والحياة والممات.
﴿لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾؛ أي: راجين أن ترحموا على تقواكم كما ترحمون، أو رجاء أن يرحمكم ربّكم، ويصفح عن سالف إجرامكم إذا أنتم أطعتموه، واتبعتم أمره ونهيه، والترجّي باعتبار المخاطبين.
(١) روح البيان.
362
واعلم: أنّ أخوّة الإِسلام أقوى من أخوّة النسب، بحيث لا تعتبر أخوّة النسب إذا خلت عن أخوّة الإِسلام، ألا ترى أنه إذا مات المسلم، وله أخ كافر.. يكون ماله للمسلمين، لا لأخيه الكافر، وكذا إذا مات أخ الكافر، وذلك لأنّ الجامع الفاسد لا يفيد الأخوّة، وأنّ المعتبر الأصليّ الشرعيّ، ألا ترى أنّ ولدي الزنا من رجل واحد لا يتوارثان، وهذا المعنى يستفاد من الآية أيضًا؛ لأنّ ﴿إِنَّمَا﴾ للحصر، فكأنه قيل: لا أخوة إلا بين المؤمنين، فلا أخوّة بين المؤمن والكافر.
وفي هذه الآية (١): دليل على قتال الفئة الباغية إذا تقرر بغيها على الإِمام أو على أحد من المسلمين، وعلى فساد قول من قال بعدم الجواز، مستدلًا بقوله - ﷺ -: "قتال المسلم كفر". فإنّ المراد بهذا الحديث، وما ورد في معناه: قتال المسلم الذي لم يبغ، قال ابن جرير: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين فريقين من المسلمين الهرب منه، ولزوم المنازل.. لما أقيم حق ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سببًا إلى استحلال كل ما حرّم الله عليهم من أموال المسلمين، وسبي نسائهم، وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم، ولكفِّ المسلمين أيديهم عنهم، وذلك مخالف لقوله - ﷺ -: "خُذوا على أيدي سفهائكم".
قال ابن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، وعمدة في حرب المتأولين، وعليها عوّل الصحابة، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملّة، وإياها عني النبيّ - ﷺ - بقوله: "تقتل عمارا الفئة الباغية". وقوله في شأن الخوارج: "يخرجون على حين فرقة من الناس، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق".
وقرأ الجمهور (٢): ﴿بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ بالتثنية؛ لأنّ أقلّ من يقع بينهما الشقاق اثنان، فإذا كان الإصلاح لازمًا بين اثنين.. فهو ألزم بين أكثر من اثنين، وقيل: المراد بالأخرين: الأوس والخزرج، وقرأ زيد بن ثابت وابن مسعود والحسن: بخلاف عنه، والجحدري وثابت البنانيّ وحماد بن سلمة، وابن سيرين: {بين
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
363
إخوانكم} جمعًا بالألف والنون، وقرأ الحسن أيضًا وابن عامر في روايةٍ، وزيد بن عليّ ويعقوب: ﴿بين إخوتكم﴾ جمعًا على وزن غلمة، وروى عبد الوهاب عن أبي عمرو القراءات الثلاث، قال أبو علي الفارسي في توجيه قراءة الجمهور: أراد بالأخوين: الطائفتين؛ لأنّ لفظ التثنية قد يرد ويراد به الكثرة، وقال أبو عبيدة: أي: أصلحوا بين كل أخوين.
١١ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿لَا يَسْخَرْ﴾ والسخرية: أن يحقر الإنسان أخاه، ويستخفه، ويسقطه عن درجته، وبعده ممن لا يلتفت إليه؛ أي: لا يهستزىء ﴿قَوْمٌ﴾؛ أي: منكم. وهو اسم جمع لرجل، وهو مختص بالرجال؛ لأنهم قوامون على النساء، ولهذا عبّر عن الإناث بما هو مشتق من النسوة بفتح النون، وهو ترك العمل، حيث قال: ﴿وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ﴾. ويؤيده قول زهير:
وَمَا أدْرِيْ وَسوْفَ إِخَالُ أَدْرِيْ أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
وقال الزمخشري: وهو في الأصل: جمع قائم، كصوم جمع صائم، وزور جمع زائر انتهى. وليس فعل من أبنية الجموع إلا على مذهب أبي الحسن في قوله: إنّ ركبا جمع راكب. ﴿مِنْ قَوْمٍ﴾ آخرين أيضًا منكم، والتنكير إما للتعميم أو للتبعيض. والقصد إلى نهي بعضهم عن سخرية بعض؛ لما أنّها مما يجري بين بعض وبعض.
فإن قلت (١): المنهيّ عنه هو أن يسخر جماعة من جماعة، فيلزم أن لا يحرم سخرية واحد من واحد.
قلت: اختيار الجمع ليس للاحتراز عن سخرية الواحد من الواحد، بل هو لبيان الواقع؛ لأنّ السخرية وإن كانت بين اثنين؛ إلا أنَّ الغالب أن تقع بمحضر جماعة يرضون بها، ويضحكون بسببها، بدل ما وجب عليهم من النهي والإنكار، ويكونون شركاء الساخر في تحمّل الوزر، ويكونون بمنزلة الساخرين حكمًا، فنهوا
(١) روح البيان.
364
عن ذلك؛ يعني: أنه من نسبة فعل البعض إلى الجمع لرضاهم به في الأغلب، أو لوجوده فيما بينهم.
﴿عَسَى أَنْ يَكُونُوا﴾ تعليل للنهي؛ أي: عسى أن يكون المسخور منهم ﴿خَيْرًا﴾ عند الله تعالى ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من الساخرين، ولا خبر لـ ﴿عَسَى﴾ لإغناء الاسم عنه، ولمّا كان لفظ ﴿قَوْمٌ﴾ مختصًّا بالرجال؛ لأنهم القُوَّمُ على النساء.. أفرد النساء بالذكر، فقال: ﴿وَلَا نِسَاءٌ﴾؛ أي: ولا تسخر نساء من المؤمنات، وهم اسم جمع لامرأة. ﴿مِنْ نِسَاءٍ﴾ منهنّ، وإنما لم يقل: امرأة من رجل، ولا بالعكس للإشعار بأنّ مجالسة الرجل المرأة مستقبح شرعًا، حتى منعوها عن حضور الجماعة، ومجلس الذكر؛ لأنّ الإنسان إنما يسخر ممن يلابسه غالبًا، وقيل: أفرد النساء بالذكر؛ لأنّ السخرية منهن أكثر. ﴿عَسَى أَنْ يَكُنَّ﴾؛ أي: المسخور منهن ﴿خَيْرًا﴾ عند الله تعالى ﴿مِنْهُنَّ﴾؛ أي: من الساخرات، فإنَّ مناط الخيرية في الفريقين ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال، ولا الأوضاع والأطوار التي عليها يدور أمر السخرية غالبًا، بل إنما هو الأمور الكامنة في القلوب، فلا يجترىء أحد على استحقار أحد، فلعله أجمع منه لما نيط به من الخيرية عند الله تعالى، فيظلم نفسه بتحقير من وقّره الله، واستهانة من عظمه الله تعالى. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب.. لخشيت أن أحول كلبًا، وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أنّه لا عبرة بظاهر الخلق، فلا تنظر إلى أحد بنظر الإزدراء، والاستهانة والاستخفاف والاستحقار؛ لأنّ في استحقار أخيك عجب نفسك مودع، كما نظر إبليس بنظر الحقارة إلى آدم عليه السلام، فأعجبته نفسه، فقال: أنا خير منه، خلقتني من نار، وخلقته من طين، فلعن إلى الأبد لهذا المعنى، فمن حقر أخاه المسلم، وظنَّ أنه خير منه.. يكون إبليسَ وقته، وأخوه آدمَ وقته.
وقرأ عبد الله وأبيٌّ (١): ﴿عسوا أَنْ يَكُونُوا﴾ و ﴿عَسِيْنَ أن يكن﴾، فـ ﴿عَسَى﴾
(١) البحر المحيط.
365
على هذه القراءة ناقصة، لها خبر، و ﴿عَسَى﴾ في الموضعين على قراءة الجمهور: تامّة لا خبر لها، وفيها لغتان: الإضمار لغة تميم، وتركه لغة الحجاز.
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾؛ أي: ولا يعب (١) بعضكم بعضًا بقول أو إشارة على وجه الخفية، فإن المؤمنين كنفس واحدة، والأفراد المنتشرة بمنزلة أعضاء تلك النفس، فيكون ما يصيب واحدًا منهم كأنه يصيب الجميع، إذا اشتكى عضو واحد من شخص.. تداعى سائر الأعضاء إلى الحمى والسهر، فمتى عاب مؤمنًا.. فكأنما عاب نفسه، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾، وفي قوله: ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾: تنبيه إلى أنَّ العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغي أن يعيب غيره؛ لأنّه كنفسه.
وفي "التأويلات النجمية": إنما قال: ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، إن عملوا شرًّا إلى أحد، فقد عملوا إلى أنفسهم، وإن عملوا خيرًا إلى أحد.. فقد عملوا إلى أنفسهم، كما قال تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾، انتهى.
ويجوز أن يكون معنى الآية: ولا تفعلوا ما تلمزون به، فإن من فعل ما يستحق به اللمز.. فقد لمز نفسه؛ أي: تسبب للمز نفسه، وإلا فلا طعن باللسان لنفسه منه، فهو من إطلاق المسبب وإرادة السبب، وقال سعدي المفتي: ولا يبعد أن يكون (٢) المعنى لا تلمزوا غيركم، فإنَّ ذلك يكون سببًا لأن يبحث الملموز عن عيوبكم فيلمزكم، فتكونوا لامزين أنفسكم، فالنظم حينئذٍ نظير ما ثبت في "الصحيحين" من قوله - ﷺ -: "من الكبائر شتم الرجل والديه" قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: "نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه".
يقول الفقير: هو مسبوق في هذا المعنى، فإنَّ الإِمام الراغب قال في
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
366
"المفردات": اللمز: الإغتياب، وتتبع المعايب؛ أي: لا تلمزوا الناس فيلمزوكم، فتكونوا في حكم من لمز نفسه. انتهى.
والمعنى: ولا تلمزوا الناس فيلمزوا أنفسكم؛ أي؛ لا تعيبوهم فيعيبوكم، وقال النبيّ - ﷺ -: "يبصر أحدكم القذاة - ما يقع في العين والماء من تراب أو وسخ - في عين أخيه، ويدع الجذع في عينه". وقيل: من سعادة المرء: أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. قال الشاعر:
لَا تَكْشِفَنْ مِنْ مَسَاوِيْ النَّاسِ مَا سَتَرُوا فَيَهْتِكَ اللهُ سِتْرًا عَنْ مَسَاوِيْكَا
وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فَيْهِمْ إِذَا ذُكِرُوْا وَلَا تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فَيْكَا
وفي الحديث: "طوبى لمن يشغله عيبه عن عيوب الناس". ولا يدخل في الآية ذكر الفاسق؛ لقوله - ﷺ -: "اذكروا الفاجر بما فيه، كي يحذره الناس".
يقول الفقير: أشار التعليل في الحديث إلى أنّ ذكر الفاجر بما فيه من العيوب، إنما يصحّ بهذا الغرض الصحيح، وهو أن يحذر الناس منه، وإلا فالإمساك، مع أن في ذكره تلويث اللسان الطاهر؛ ولذا نقل عن بعض المشايخ: أنه لم يلعن الشيطان، إذ ليس فيه فائدة سوى اشتغال اللسان بما لا ينبغي، فإنّ العداوة له إنما هي بمخالفته، لا بلعنته فقط.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَلَا تَلْمِزُوا﴾ بكسر الميم، وقرأ الحسن، والأعرج وعبيد عن أبي عمرو: بضمها، وقال أبو عمرو هي عربية، وقال ابن جرير: اللمز باليد والعين واللسان والإشارة، والهمز لا يكون إلا باللسان. اهـ.
﴿وَلَا تَنَابَزُوا﴾ وتدعوا أنفسكم ﴿بِالْأَلْقَابِ﴾ السيئة؛ أي: لا يدع بعضكم بعضًا باللقلب الذي يسوؤه ويكرهه، كأن يقول لأخيه المسلم: يا فاسق يا منافق، أو يقول لمن أسلم: يا يهوديُّ أو يا نصرانيُّ، وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: التنابز بالألقاب: أن يكون الرجل قد عمل السيئات، ثمّ تاب وراجع الحق،
(١) البحر المحيط.
367
فنهى الله تعالى أن يعبّر بما سلف من عمله، أما (١) الألقاب التي تكسب حمدًا ومدحًا، وتكون حقًا وصدقًا.. فلا تكره، كما قيل لأبي بكر: عتيق، ولعمر: الفاروق، ولعثمان: ذو النورين، ولعليّ: أبو تراب، ولخالد: سيف الله، من (٢) النبز بسكون الباء، مصدر نبزه بمعنى لقبه، والنبز بفتحها: اللقب مطلقًا؛ أي: حسنًا كان أو قبيحًا، ومنه قيل في الحديث: "قومٌ نبْزهم الرافضة"؛ أي: لقبهم، ثم خص في العرف باللقب القبيح، وهو ما يكره المدعو أن يدعى به، واللقب: ما سمي به الإنسان بعد اسمه العلم، من لفظ يدل على المدح، كزين العابدين، أو الذم كأنف الناقة، لمعنى فيه.
والمعنى (٣): ولا يدع بعضكم بعضًا بلقب السوء، قالوا: وليس من هذا قول المحدثين لسليمان الأعمش، وواصل الأحدب، ولعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، ونحوه مما تدعو إليه الضرورة، وليس قصد استخفاف، ولا أذى، وفيه إشارة إلى أنّ اللقب الحسن لا ينهى عنه، مثل: محيي الدين وشمس الدين، وبهاء الدين، وفي الحديث: "من حق المؤمن على أخيه: أن يسميه بأحب أسمائه إليه".
﴿بِئْسَ﴾ وقبح ﴿الِاسْمُ﴾ أي (٤): التسمية لأخيك ﴿الْفُسُوقُ﴾؛ أي: الدال على فسق الأخ وكفره، ونفاقه ﴿بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾؛ أي: بعدما آمن ذلك الأخ، وترك ذلك؛ أي: بئست التسمية الدالة على فسق المسمى بها، وكفره بعد إيمانه، كقولك للمؤمن: يا يهودي ويا نصرانيّ، ويا مجوسي بعدما أسلم، أو يا فاسق؛ ويا سارق، ويا شارب، ويا زاني بعدما تاب، نظرًا لما قبل إسلامه وتوبته.
وقيل معناه (٥): أنَّ من فعل ما نهي عنه من السخرية واللمز والنبز.. فهو
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
(٤) تنوير المقباس.
(٥) الخازن.
368
فاسق، وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، فلا تفعلوا ذلك، فتستحقوا اسم الفسوق، وقيل: المعنى: بئس الاسم واللقب هو اسم الفسوق، ولقب السوء حال كونه واقعًا بعد إيمان المقول له، وقيل: الاسم بمعنى الذكر المرتفع؛ لأنّه من السمو، يقال: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم؛ أي: ذكره، والفسوق هو المخصوص بالذمّ، وفي الكلام مضاف مقدر، وهو اسم الفسوق؛ أي: ذكره.
والمعنى: بئس الذكر والقول للمؤمنين؛ أي: أن يذكروا ابالفسوق بعد دخولهم في الإيمان، واشتهارهم به، والمخصوص بالذم اسم الفسوق، وذكره بعد الإيمان، وقال ابن زيد: أي بئس أن يسمى الرجل كافرًا أو فاسقًا أو زانيًا بعد إسلامه وتوبته.
وفي "التأويلات النجمية": بئس الاسم اسم يخرجهم من الإيمان، والمراد به: إما تهجين نسبة الكفر والفسوق إلى المؤمنين خصوصًا، إذ روي: أنَّ الآية نزلت في صفية بنت حيّي رضي الله عنها أتت رسول الله - ﷺ - باكيةً، فقالت: إنَّ النساء يقلن لي - وفي رواية: قالت لي عائشة رضي الله عنها -: يا يهودية بنت يهوديين، فقال النبي - ﷺ -: هلا قلت: "إنَّ أبي هارون، وعمّي موسى، وزوجي محمد - ﷺ - ". أو الدلالة على أنَّ التنابز مطلقًا، لا بالكفر والفسوق خصوصًا فسق والجمع بينه وبين الإيمان مستقبح، فدخل فيه زيد اليهودي، وعمرو النصراني وبكر الكافر وخالد الفاسق، ونحو ذلك.
والعجب من العرب، يقولون للمؤمنين من أهل الروم: نصارى! فهم داخلون في الذم، ولا ينفعهم الافتخار بالأنساب، فإنّ التفاضل بالتقوى، كما سيجيء.
ونعم ما قيل:
وَمَا يَنْفَعُ الأَصْلُ مِنْ هَاشِمٍ إِذَا كَانَتِ النَّفْس مِنْ بَاهِلَهْ
وفي الفقه: لو قال رجل لصالح: يا فاسق، ويا ابن الفاسق، ويا فاجر، ويا خبيبث، وبا مخنث، ويا مجرم، ويا جيفة، ويا بليد، ويا ابن الخبيثة، ويا سارق، ويا زاني، ويا لص، ويا كافر، ويا زنديق، وهو بريء منه.. يعزر في
369
هذا كله.
والخلاصة: بئس الاسم الفسوق مع الإيمان، وفي هذا إيماء إلى استقباح الجمع بين الأمرين، كما تقول: بئس الصبوة بعد الشيخوخة؛ أي: معها.
﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ﴾ عمّا نهى الله عنه ﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ لأنفسهم بوضع العصيان موضع الطاعة، وتعريض النفس للعذاب، والظالم أعم من الفاسق، والفاسق أعم من الكافر. أو المعنى (١): ومن لم يتب من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخريته منه، فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم، فأكسبوها عقاب الله بعصيانهم إياه.
وفيه (٢) دلالة بينة على أنَّ الرجل بترك التوبة يدخل مدخل الظلمة، فلا بدّ من توبة نصوح من جميع القبائح والمعاصي، لا سيما ما ذكر في هذا المقام، ومن أصرّ.. أخذ سريعًا؛ لأنّ أقرب الأشياء سرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم.
١٢ - ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ورسوله ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾؛ أي: كونوا على جانب منه، وابعدوا عنه ولا تقربوه، والظنّ هنا هو مجرد التهمة التي لا سبب لها، كمن يتهم غيره بشيء من الفواحش ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك، فالمراد به: ظن السوء بأهل الخير والصلاح، وأمر سبحانه باجتناب الكثير ليفحص المؤمن عن كل ظنّ يظنّه، حتى يعلم أنه من أيّ القبيل، فإنّ من الظنّ ما يجب اتباعه، كالظنّ حيث لا قاطع فيه من العمليات، فإنّ أكثر الأحكام الشرعية مبنيّة على الظنّ، كالقياس وخبر الواحد ودلالة العموم، ولكن هذا الظنّ الذي يجب العمل به قد قوي بوجه من الوجوه الموجبة للعمل به، فارتفع عن الشك والتهمة وكحسن الظنّ بالله تعالى، وفي الحديث: "إنّ حسن الظنّ من الإيمان". ومن الظنّ ما يحرم: كالظنّ في الإلهيات؛ أي: بوجود الإله وذاته وصفاته، وما
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
370
يليق به من الكمال، وفي النبوات، فمن قال: آمنت بجميع الأنبياء، ولا أعلم آدم نبي أم لا.. يكفر، وكذا من آمن بأنَّ نبينا محمدًا - ﷺ - رسول، ولم يؤمن بأنه خاتم الرسل لا نسخ لدينه إلى يوم القيامة.. لا يكون مؤمنًا، وكالظن حيث يخالفه قاطع: كالظن بنبوة علي كرم الله وجهه أو بنبوة واحد من خلفاء هذه الأمة مع وجود قوله تعالى: ﴿وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ وقوله - ﷺ -: "لا نبيّ بعدي". فإنَّ مثل هذا الظنّ حرام، ولو قطع كان كفرًا، وكظنّ السوء بالمؤمنين، خصوصًا بالرسول - ﷺ -، وبورثته الكمَّل: كالعلماء بالله تعالى، قال تعالى: ﴿وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾، وقال - ﷺ -: "إنّ الله حرّم من المسلم: عرضه، ودمه، وأن يظنَّ به ظن السوء". ومن الظنّ ما يباح: كالظنّ في الأمور المعاشية، وفي "كشف الأسرار": ومن المباح: الظن في الصلاة، والصوم، والقبلة، أمر صاحبه بالتحريّ فيها، والبناء على غلبة الظن، فلا يدخل (١) في الظن المأمور باجتنابه شيء من الظنّ المأمور باتباعه في مسائل الدين، فإنَّ الله قد تعبَّد عباده باتباعه، وأوجب العمل به جمهور أهل العلم، ولم ينكر ذلك إلا بعض طوائف المبتدعة كيادًا للدين، وشذوذًا عن جمهور المسلمين، وقد جاء التعبد بالظن في كثير من الشريعة المطهرة، بل في أكثرها.
والمعنى (٢): أي يا أيّها الذين آمنوا ابتعدوا عن كثير من الظن بالمؤمنين، بأن تظنوا بهم السوء ما وجدتم إلى ذلك سبيلًا، ولا يحرم سوء الظن إلا ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة، أما من يجاهر بالفجور: كمن يدخل أو يصاحب الغواني الفواجر.. فلا يحرم سوء الظنّ به، وحكى القرطبي عن أكثر العلماء: أنَّ الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظنّ القبيح بمن ظاهره القبيح.
وجملة قوله (٣): ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾؛ أي: ذنب فيه عقوبة، تعليل لما
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
371
قبلها من الأمر باجتناب كثير من الظنّ، وهذا البعض هو ظنّ السوء بأهل الخير، والإثم: هو ما يستحق الظانَّ به العقوبة، قال الزجاج: هو أن يظنّ بأهل الخير سوءًا، فأمَّا أهل السوء والفسوق، فلنا أنّ نظنّ بهم مثل الذي ظهر منهم، قال مقاتل بن سلمان ومقاتل بن حيان: هو أن يظن بأخيه المسلم سوءًا، ولا بأس به ما لم يتكلم به، فإن تكلم بذلك الظن، وأبداه.. أثم.
قال سفيان الثوري: الظن ظنّان (١):
أحدهما: إثم: وهو أن يظنّ ويتكلم به.
والآخر: ليس بإثمٍ: وهو أن يظنّ ولا يتكلم به، وقيل: الظنُّ أنواع: واجبٌ ومأمورٌ به، وهو الظن الحسن بالله عَزَّ وَجَلَّ، ومنه: مندوب إليه، وهو الظنّ الحسن بالأخ المسلم الظاهر العدالة، ومنه: حرام محذور، وهو سوء الظن بالله عَزَّ وَجَلَّ، وسوء الظن بالأخ المسلم.
ودلت الآية على أنّ أكثر الظنون من قبيل الإثم؛ لأنّ الشيطان يلقي الظنون في النفس، فتظنّ النفس الظن الفاسد، ودلت أيضًا على أن بعض الظن ليس بإثم، بل هو حقيقة، وهو الذي لم يكن من قبيل النفس، بل كان بالفراسة الصحيحة بأن يرى القلب بنور اليقين ما جرى في الغيب فيظنه. اهـ من "الروح".
ثم لما أمرهم سبحانه باجتناب كثير من الظن.. نهاهم عن التجسس، فقال: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾؛ أي: ولا تبحثوا أيها المؤمنون عن عورات المسلمين ومعايبهم، نهى الله سبحانه عن البحث عن المستور من أمور الناس، وتتبع عوراتهم، حتى لا يظهر على ستره الله منها.
والمعنى (٢): أي ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره
(١) الخازن.
(٢) المراغي.
372
يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا، أو ذموا لا على ما لا تعلمون به من الخفايا.
وفي "الصحيحين": عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي - ﷺ - قال: "إياكم والظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحسّسوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام.
وقرأ الجمهور: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ بالجيم، وقرأ الحسن وأبو رجاء، وابن سيرين: ﴿تحسسوا﴾ بالحاء، وهما متقاربان؛ لأنَّ التجسس بالجيم: البحث عما يكتم عنك، والتحسس بالحاء: طلب الأخبار والبحث عنها، وقيل: (١) إن التجسس بالجيم: هو البحث، ومنه قيل: رجل جاسوس: إذا كان يبحث عن الأمور، وبالحاء ما أدركه الإنسان ببعض حواسه، وقيل: إنه بالحاء فيما يطلبه الإنسان لنفسه، وبالجيم أن يكون رسولًا لغيره. قاله ثعلب، والتناجش: الشراء على شراء غيرك بالزيادة، والتدابر: الهجر والقطيعة.
وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله - ﷺ -: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنّ من اتبع عوراتهم.. يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته.. يفضحه في عقر بيته".
وروى الطبراني عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ثلاث لازمات لأمتي: الطيرة والحسد وسوء الظن"، فقال رجل: وما يذهبن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال - ﷺ -: "إذا حسدت.. فاستغفر الله، فإذا ظننت فلا تحقّق، وإذا تطيرت.. فامض".
وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: حرست ليلة مع عمر بن الخطاب بالمدينة، إذ تبيّن لنا سراج في بيت بابه مجاف على قوم لهم أصوات
(١) الشوكاني.
373
مرتفعة ولغطٌ، فقال عمر: هذا بيت ربيعة بن أميّة بن خلف، وهم الآن شرب، فما ترى؟ قلت: أرى أنَّا قد أتينا ما نهى الله عنه، قال تعالى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ وقد تجسسنا، فانصرف عمر، وتركهم.
وقال أبو قلابة: حُدِّث عمر بن الخطاب: أنَّ أبا محجن الثقفي يشرب الخمر مع أصحاب له في بيته، فانطلق عمر حتى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل، فقال أبو محجن: إنَّ هذا لا يحل لك، قد نهاك الله عن التجسس، فخرج عمر وتركه.
وقيل لابن مسعود: هل لك في فلان تقطر لحيته خمرًا؟ فقال: إنّا قد نهينا عن التجسس، فإن ظهر لنا شيء.. أخذنا به، وفي الحديث: "إنّ الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس.. أفسدهم".
﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾؛ أي (١): ولا يذكر بعضكم أيها المؤمنون بعضًا بما يكرهه في غيبته وخلفه، والمراد بالذكر: الذكر صريحًا، أو إشارةً، أو نحو ذلك مما يؤدّي مؤدَّى النطق لما في ذلك من أذى المغتاب، وإيغار الصدور، وتفريق شمل الجماعات، فهي النار تشتعل فلا تبقي ولا تذر، والمراد بما يكره: ما يكرهه في دينه أو دنياه، أو خلقه أو خلقه، أو ماله أو ولده أو زوجته، أو خادمه أو ملبسه، أو غير ذلك مما يتعلق به.
قال الحسن: الغيبة ثلاثة أوجه، كلها في كتاب الله تعالى: الغيبة والإفك، والبهتان، فأمّا الغيبة بالكسر، وفتح الغين غلط، كما سيأتي. فهي أن تقول في أخيك ما هو فيه، وأما الإفك: فأن تقول فيه ما بلغك عنه، وأمّا البهتان: فأن تقول فيه ما ليس فيه، وهو الذي يترك الديار بلاقع، كما في حديث أبي هريرة الثابت في "الصحيح": أنّ رسول الله - ﷺ - قال: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "ذكرك أخاك بما يكره". فقيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، فقال: "إن كان فيه ما تقول.. فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه.. فقد بهتّه".
(١) المراغي.
374
ولا خلاف (١) بين العلماء في أنّ الغيبة من الكبائر، وأنّ على من اغتاب أحدًا التوبة إلى الله تعالى، أو الاستغفار لمن اغتابه أو الاستحلال منه، وعن شعبة قال: قال لي معاوية بن قرّة: لو مرّ بك رجل أقطع - مقطوع اليد - فقلت هذا أقطع.. كان غيبة، قال شعبة: نعم، فذكرته لأبي إسحاق، فقال: صدق.
ثم ضرب سبحانه مثلًا للغيبة للتنفير والتحذير منها، فقال: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ﴾ أيها المؤمنون ﴿أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ﴾ حال كون الأخ ﴿مَيْتًا﴾ وقرأ نافع: بتشديد الياء، وهو حال من اللحم أو من الأخ، والاستفهام للإنكار، فهو بمعنى النفي؛ أي: لا يحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا ﴿فـ﴾ لو عرض عليكم لحمه ﴿كَرِهْتُمُوهُ﴾؛ أي: كرهتم أكله، فكما تكرهون أكل لحمه ميتًا.. فاكرهوا أكل لحمه حيًا، وهو اغتيابه، وقرىء: ﴿كَرِهْتُمُوهُ﴾ بغير فاء؛ أي: جبلتم على كراهته، فـ ﴿الفاء﴾ فيه: عاطفة على منفيّ مقدر معلوم من الاستفهام الإنكاري، كما قدّرنا، وقيل: لفظه خبر، ومعناه: الأمر، ولذلك عطف عليه ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾. و ﴿الفاء﴾ حينئذٍ: فصيحية؛ أي: فإذا كرهتم أكل لحمه ميتًا.. فاكرهوا الغيبة التي هي نظير ذلك ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ بترك ما أمرتم باجتنابه، وبالندم على ما صدر منكم من قبل.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ بفتح الكاف وتخفيف الراء، وقرأ أبو سعيد الخدري وأبو حيوة: ﴿فَكرَّهْتموه﴾ بضم الكاف وتشديد الراء المكسورة، ورواها أبو سعيد الخدري عن النبي - ﷺ -. ذكره أبو حيان في "البحر".
والمعنى: أي أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته، فإذا كنتم لا تحبون ذلك، بل تكرهونه؛ لأنَّ النفس تعافه.. فاكرهوا أن تغتابوه في حياته.
والخلاصة: أنكم كما تكرهون ذلك طبعًا، فاكرهوا ذلك شرعًا، لما فيه من
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
375
شديد العقوبة.
وقد شبهت (١) الغيبة بأكل اللحم؛ لما فيها من تمزيق الأعراض، المشابه لأكل اللحم وتمزيقه، وقد جاء هذا على نهج العرب في كلامهم، قال المقنع الكندي:
فَإنْ أَكَلُوْا لَحْمِيْ وَفَرْتُ لُحُوْمَهُمْ وَإِنْ هَدَمُوْا مَجْدِيْ بَنَيْتُ لَهُمْ مَجْدَا
وقد زادت الآية، فجعلت اللحم لحم أخ ميت تصويرًا له بصورة بشعة تستقذرها النفوس جميعًا، وقد ثبت في "الصحيح" من غير وجه: أنّ النبي - ﷺ - قال حين خطب في حجة الوداع: "إنّ دماءكم وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا". وقوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: معطوف على مقدر، كما مر؛ أي: فاكرهوا الغيبة، واتقوا الله فيما أمركم به، ونهاكم عنه، وراقبوه، واخشوه حقَّ خشيته.
ثم علَّل هذا بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه ﴿تَوَّابٌ﴾ يتوب على من تاب إليه عمَّا فرط منه من الذنب. ﴿رَحِيمٌ﴾ به أن يعذّبه بعد توبته.
وعبارة "الروح" هنا: قوله ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ ﴿الفاء﴾ (٢): لترتيب ما بعدها على ما قبلها من التمثيل، كأنه قيل: وحيث كان الأمر كما ذكر فقد كرهتموه، فأضمر كلمة قد لتصحيح دخول الفاء في الجزاء، فالمقصود من تحقيق استكراههم، وتقذّرهم من المشبه به: الترغيب، والحث على استكراه ما شبَّه به، وهو الغيبة، كأنه قيل: إذا تحققتم كراهتكم له.. فليتحقق عندكم كراهة نظيره الذي هو الاغتياب، وتمثيل الغيبة بأكل لحم الميت من جهة أنّ الحيّ المغتاب لا يعلم بغيبة من اغتابه، كما أن الميت لا يعلم بأكل من أكل لحمه. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ باجتناب ما نهيتم عنه، وهو معطوف على ما تقدم من الأوامر والنواهي. ﴿إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾؛ أي: مبالغ في قبول التوبة، وإفاضة الرحمة، حيث يجعل التائب
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
376
كمن لم يذنب، ولا يخص ذلك بتائب دون تائب، بل يعم الجميع، وإن كثرت ذنوبهم، فصيغة المبالغة باعتبار المتعلقات. انتهى.
واعلم (١): أنّ الاغتياب كأكل لحم الآدميّ ميتًا، ولا يحل أكله إلا لمضطر بقدر الحاجة، فالمغتاب إن وجد لحاجته مدفعًا غير الغيبة فلا يباح له الاغتياب، ففي هذه الآية نهي عن اغتياب المؤمن دون الكافر، أما الفاسق، فيجوز أن يذكر بما فيه عند الحاجة، فمن نقص مسلمًا أو ثلم عرضه.. فهو كأكل لحمه حيًّا. ومن اغتابه.. فهو كآكل لحمه ميتًا؛ لأنَّ الميت لا يعلم بأكل لحمه، كما أن الحيّ لا يعلم بغيبة من اغتابه.
واعلم: أنّ الله سبحانه ذكر في هذه الآية أمورًا ثلاثًا مرتبة، فكأنّه تعالى قال: لا تقولوا في حقّ المؤمنين ما لم تعلموه فيهم، بناء على الظن، ثم إذا سئلتم عن المظنونات.. فلا تقولوا: نحن نكشف أمورهم لنستيقنها قبل ذكرها، ثم إن علمتم منها شيئًا من غير تجسس.. فلا تقولوه، ولا تفشوه عنهم.
ففي الأول نهى عن التكلم بما لم يعلم، ثم نهى عن طلب علم عيب الناس، ثمّ نهى عن ذكر ما علم مثله، روي: أنّ رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول الله - ﷺ -، يطلب منه لهما طعامًا، فقال له: انطلق إلى أسامة بن زيد، واطلب منه فضل طعام وإدام إن كان عنده، وكان أسامة خازن رسول الله - ﷺ - على رحله وطعامه، فأتاه، فقال: ما عندي شيء، فرجع سلمان إليهما، فأخبرهما، فقالا: كان عند أسامة شيء ولكن بخل، فبعثا سلمان إلى بعض الصحابة، فلم يجد عندهم شيئًا، فلمّا رجع.. قالا: لو بعثنا سلمان إلى بئر سحيمة.. لغار ماؤها، وسحيمة بوزن جهينة بالحاء المهملة: بئر بالمدينة، غزيرة الماء، على ما في "القاموس". ثمّ انطلقا يتجسّسان، هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله - ﷺ - من الطعام؟ فلمّا راحا إلى رسول الله - ﷺ - قال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما، فقالا: ما تناولنا لحمًا في يومنا هذا، فقال - ﷺ -
(١) المراح.
377
اغتبتما سلمان وأسامة، فنزلت هذه الآية.
ويجب (١) على المغتاب أن يبادر إلى التوبة حين صدورها منه، بأن يقلع عنها، ويندم على ما فرط منه، ويعزم عزمًا مؤكّدًا على أن لا يعود إلى مثل ما فرط منه، ولا تحرم الغيبة إذا كانت لغرض صحيح شرعًا لا يتوصّل إليه إلا بها، وينحصر ذلك في ستة أمور:
الأول: التظلم، فلمن ظلم أن يشكو لمن يظن أنه يقدر على إزالة ظلمه أو تخفيفه.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر بذكره لمن يظن قدرته على إزالته.
الثالث: الاستفتاء، فيجوز للمستفتي أن يقول للمفتي: ظلمني فلان بكذا، فهل يجوز له ذلك؟
الرابع: تحذير المسلمين من الشرّ، كجرح الشهود والرواة، والمتصدين للإفتاء مع عدم أهليّتهم لذلك، وكأن يشير وإن لم يستشر على مريد التزوج، أو مخالطة غيره في أمر دينيّ أو دنيوي، ويقتصر على ما يكفي، فإن احتاج إلى ذكر عيب أو عيبين.. ذكر ذلك.
الخامس: أن يجاهروا بالفسق، كالمدمنين على شرب الخمور، وارتياد محالّ الفجور، ويتباهوا بما يفعلون.
السادس: التعرف بلقب أو نحوه، كالأعور والأعمش والأعرج والأعلم، ونحو ذلك، إذا لم تمكن المعرفة بغيره.
والأمة مجمعة على قبح الغيبة، وعظم آثامها مع ولوع الناس بها، حتى إنّ بعضهم ليقولون: هي صابون القلوب، وإنّ لها حلاوةً كحلاوة التمر، وضرارةً كضرارة الخمر، وفي الحديث: "الغيبة أشدّ من الزنا" قالوا: وكيف؟ قال: "إنّ الرجل يزني، ثمّ يتوب فيتوب الله عليه، وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له، حتى يغفر
(١) المراغي.
378
له صاحبه". وعن ابن عباس رضي الله عنهما: الغيبة إدام كلاب الناس.
وممّا يجب التنبيه عليه (١): أنّ مستمع الغيبة كقائلها، فوجب على من سمعها أن يردّها، كيف وقد قال النبيّ - ﷺ -: "من ردّ عن عرض أخيه.. ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة". وقال النبيّ - ﷺ -: "المغتاب والمستمتع شريكان في الإثم".
وفي الحديث: "خَمْسٌ يفطرن الصائم: الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة". رواه أنس. وأول من اغتاب إبليس، اغتاب آدم، وفي "المقاصد الحسنة": ثلاثة ليست لهم غيبة: الإِمام الجائر، والفاسق المعلن بفساقه، والمبتدع الذي يدعو إلى بدعته. انتهى. وعن الحسن: لا حرمة لفاجر.
١٣ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾؛ يعني: بني آدم ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى﴾؛ أي: من آدم وحواء عليهما السلام، أو خلقنا كل واحد منكم من أب وأم، فالكل سواء في الانتساب إلى ذكر وأنثى أيًّا كانا، فلا وجه للتفاخر بالنسب؛ أي: خلقناكم من ذكر واحد، وأنثى واحدة، فلا موضع للتفاخر بالإنساب؛ لأنّكم متساوون في الانتساب إليهما، قال إسحاق الموصلي:
النَّاسُ فِيْ عَالَمِ التَّمْثِيْلِ أَكْفَاءُ أَبُوْهُمُ آدَمٌ وَالأُمُّ حَوَّاءُ
فَإِنْ يَكُنْ لَهُمُوْ فِيْ أَصْلِهِمْ شَرَفٌ يُفَاخِرُوْنَ بِهِ فَالطِّيْنُ وَالْمَاءُ
نزلت هذه الآية حين أمر النبي - ﷺ - بلالًا رضي الله عنه ليؤذّن بعد فتح مكة، فعلا ظهر الكعبة، فأذّن، فقال عتَّاب بن أسيد، وكان من الطلقاء: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد رسول الله سوى هذا الغراب الأسود مؤذنا: يعني: بلالًا، وقيل: نزلت في غير ذلك، كما مرّ.
والمعنى: أي إنا أنشأنا جميعًا من آدم وحواء، فكيف يسخر بعضكم من
(١) روح البيان.
379
بعض، ويلمز بعضكم بعضًا، وأنتم إخوة في النسب، وبعيد أن يعيب الأخ أخاه أو يلمزه أو ينبزه، وروى الطبري قال: خطب رسول الله - ﷺ - بمنى في وسط أيام التشريق، وهو على بعير، فقال: "يا أيها الناس، ألا إنّ ربّكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربيٍّ على عجميّ، ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود، إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ " قالوا: نعم، قال: "فليبلغ الشاهد الغائب".
وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إنّ الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم، ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح.. تحنن الله عليه، وإنما أنتم بنو آدم، وأحبكم إليه أتقاكم".
وفيه (١) إشارة إلى أنّ الكفاءة في الحقيقة إنما هي بالديانة؛ أي: الصلاح والحسب والتقوى والعدالة، ولو كان مبتدعًا، والمرأة سنيَّة.. لم يكن كفوءًا لها.
﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا﴾ جمع شعب بفتح الشين وسكون العين: وهو الجمع العظيم، المنتسبون إلى أصل واحد سموا شعوبًا؛ لتشعب القبائل منهم كتشعب أغصان الشجرة منها، وقيل لتشعبهم؛ أي: تجمعهم، وهي رؤوس القبائل، مثل: ربيعة ومضر، وأما الشعب بكسر الشين.. فهو الطريق في الجبل. ﴿وَقَبَائِلَ﴾: جمع قبيلة، سميت بها؛ لأنها يقبل بعضها على بعض من حيث كونها من أب واحد، وهي دون (٢) الشعوب: كبكر من ربيعة وتميم من مضر، ودون القبائل العمائر، واحدتها عمارة بفتح العين على الصحيح، كما في "القاموس". كشيبان من بكر، ودارم من تميم، ودون العمائر البطون، واحدتها بطن: وهم كبني غالب، ولؤي من قريش، ودون البطون الأفخاذ، واحدتها فخذ: وهم كبني هاشم، وبني أمية من لؤي، ودون الأفخاذ الفصائل، واحدتها فصيلة بالصاد
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
380
المهملة: كبني العباس من بني هاشم، ثم بعد ذلك العشائر، واحدتها عشيرة، وليس بعد العشيرة شيء يوصف به، وكون الشعوب أعلى من القبائل هو ما عليه الجمهور، ويؤيده قول الشاعر:
قَبَائِلُ مِنْ شُعُوْبٍ لَيْسَ فِيْهِمْ كَرِيْمٌ قَدْ يُعَدُّ وَلَا نَجِيْبُ
وقيل: الشعوب للعجم، والقبائل للعرب، والأسباط من بني إسرائيل، وقيل: الشعوب الذين لا ينسبون إلى أحد، بل ينسبون إلى المدائن والقرى، والقبائل: العرب الذين ينتسبون إلى آبائهم.
و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿لِتَعَارَفُوا﴾ أي: ليعرف بعضكم بعضًا في قرب النسب وبعده، لا للتفاخر بالأنساب متعلقة بـ ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾؛ أي: خلقناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضًا بحسب الأنساب، فلا يعزى أحد إلى غير آبائه، لا لتفاخروا بالآباء والقبائل، وتدعوا التفاوت والتفاضل في الأنساب، أو متعلقة بـ ﴿جعلنا﴾؛ أي: رتبناكم كذلك لتعارفوا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿لِتَعَارَفُوا﴾: مضارع تعارف، محذوف التاء، أصله: لتتعارفوا، فحذفت إحدى التاءين، وقرأ الأعمش: بتاءين، وقرأ مجاهد وابن كثير في رواية، وابن محيص والبزي: بتشديدها؛ أي: بإدغام التاء في التاء، وابن عباس وأبان عن عاصم: ﴿لتعرفوا﴾ مضارع عرف الثلاثيّ.
وقوله: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾: تعليل (٢) للنهي عن التفاخر بالأنساب، المستفاد من الكلام بطريق الاستئناف التحقيقي، كأنه قيل: إنّ الأكرم عنده تعالى هو الأتقى، وإن كان عبدًا حبشيًا أسود، مثل: بلال رضي الله عنه فإن فاخرتم.. ففاخروا بالتقوى؛ أي: إنَّ الأكرم عند الله الأرفع منزلة لديه عَزَّ وَجَلَّ في الآخرة والدنيا، هو الأتقى، فإن فاخرتم.. ففاخروا بالتقوى، فمن رام نيل الدرجات العلا في الدنيا والآخرة.. فعليه بها، فمن تلبس بها.. فهو المستحق؛ لأن يكون أكرم ممن لم يتلبس بها وأشرف وأفضل فدعوا ما أنتم فيه من التفاخر
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
381
بالأنساب، فإنّ ذلك لا يوجب كرمًا، ولا يثبت شرفًا، ولا يقتضي فضلًا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿إنَّ﴾ بكسر الهمزة، وقرأ ابن عباس: بفتحها، وكان قرأ: ﴿لتعرفوا﴾ مضارع عرف، فاحتمل أن تكون ﴿أنَّ﴾: معمولة لـ ﴿تَعَارَفُوا﴾ وتكون ﴿اللام﴾ في ﴿لتعرفوا﴾: لام الأمر، وهو أجود من حيث المعنى، وأمَّا إن كانت لام كي.. فلا يظهر المعنى أن جعلهم شعوبا وقبائل؛ لأن تعرفوا أن الأكرم هو الأتقى، فإن جعلت مفعول ﴿لتعرفوا﴾ محذوفًا؛ أي: لتعرفوا الحق؛ لأنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم، ساغ في لام ﴿لِتَعَارَفُوا﴾ أن تكون لام كي.
قيل: أكرم الكرم التقوى، وألأم اللؤم الفجور، وقال ابن عباس: كرم الدنيا الغنى، وكرم الآخرة التقوى. أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، وروى ابن عمر رضي الله عنهما: أنّ النبي - ﷺ - خطب الناس يوم فتح مكة، وهو على راحتله، فحمد الله، وأثنى عليه بما هو له أهل، ثم قال: "أيها الناس، إنّ الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية، وتكبرها بآبائها، فالناس رجلان: رجل بر تقي كريم على الله، ورجل فاجر شقي هين على الله تعالى، إن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ ثم قال: "أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم". قوله: "عيبة الجاهلية"، يعني: كبرها وفخرها.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلِيمٌ﴾ بكم وبأعمالكم ﴿خَبِيرٌ﴾ ببواطن أحوالكم، فاجعلوا التقوى زادكم لدى معادكم، وقال (٢) ابن الشيخ في "حواشيه": والنسب وإن كان معتبرًا عرفًا وشرعًا، حتى لا تتزوج الشريفة بالنبطي - نسبة إلى نبط محركًا، جيل ينزلن بالبطائح بين العراقين - إلا أنه لا عبرة به عند ظهور ما هو أعظم منه قدرًا وأعز، وهو الإيمان والتقوى، كما لا يظهر الكواكب عند طلوع الشمس فالفاسق وإن كان قرشي النسب، وقارون النشب (٣).. لا قدر له عند المؤمن المتقي، وإن كان عبدًا حبشيًا، والأمور التي يفتخر بها في الدنيا،
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) قارون النشب: مثل قارون في الغِنى.
382
وإن كانت كثيرةً، لكن النسب أعلاها، من حيث إنه ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له ذلك، بخلاف غيره، كالمال مثلًا، فإنه قد يحصل للفقير مال، فيبطل افتخار المفتخر به عليه، وكذا، الأولاد والبساتين ونحوها؛ فلذلك خصَّ الله النسب بالذكر، وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى؛ ليعلم منه بطلان اعتبار غيره بطريق الأولى. انتهى.
وسئل عيسى عليه السلام: أي الناس أشرف؟ فقبض قبضتين من تراب، ثم قال: أي هذين أشرف؟ ثم جمعهما وطرحهما، وقال: الناس كلهم من تراب، وأكرمهم عند الله أتقاهم، وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه:
أَبِيْ الإِسْلَامُ لَا أَبَ لِيْ سِوَاهُ إِذَا افْتَخَرُوْا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيْمِ
١٤ - ولما ذكر الله سبحانه أنَّ أكرم الناس عند الله أتقاهم له، وكان أصل التقوى الإيمان.. ذكر ما كانت تقوله العرب من دعوى الإيمان؛ ليثبت لهم الشرف والفضل، فقال: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ﴾ وهم أهل البادية بنو أسد، أظهروا الإِسلام في سنة مجدبة يريدون الصدقة، وإلحاق التاء بالفعل المسند إليهم مع خلوه عنها في قوله: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ﴾ للدلالة على نقصان عقلهم، بخلافهنّ، حيث لُمن إمرأة العزيز في مراودتها فتاها، وذلك يليق بالعقلاء. ﴿آمَنَّا﴾؛ أي: صدقنا بالله ورسوله، ونحن له مؤمنون، فرد الله عليهم مكذبًا لهم مع عدم التصريح بذلك، فقال: ﴿قُل﴾ يا محمد ردًّا عليهم: ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ أنتم، إذ الإيمان: هو التصديق بالله وبرسوله، المقارن لثقة بحقيقة المصدق، وطمأنينة القلب، ولم يحصل لكم ذلك، وإلا لما مننتم علي ما ذكرتم من الإِسلام، وترك المقاتلة، كما ينبىء عنه آخر السورة؛ يعني: أن التصديق الموصوف مسبوق بالعلم بقبح الكفر، وشناعة المقاتلة، وذلك يأبى المن وترك المقاتلة، فإنّ العاقل لا يمن بترك ما يعلم قبحه.
﴿وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾؛ أي: دخلنا في السلم والصلح والانقياد، مخافة على أنفسنا من القتل والسبي، أو للطمع في الصدقة، فإنَّ الإِسلام: انقياد، ودخول في السلم، وإظهار الشهادة، وترك المحاربة مشعر به؛ أي: بالانقياد والدخول المذكور، وقوله: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ حال من ضمير ﴿قُولُوا﴾؛ أي:
383
ولكن قولوا: أسلمنا، حال عدم مواطأة قلوبكم لألسنتكم، وما في ﴿وَاْتَّقُواْ﴾ من معنى التوقع، مشعر بأن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.
فإن قلت (١): مقتضى نظم الكلام أن يقال: قل: لا تقولوا: آمنّا، ولكن قولوا: أسلمنا، أو قل: لم تؤمنوا ولكن أسلمتم.
قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أوّلًا، فقيل: لم تؤمنوا مع أدب حسن، فلم يقل: كذبتم تصريحًا ووضع ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ الذي هو نفي ما ادعوا إثباته موضعه، واستغنى بقوله: ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ عن أن يقال: لا تقولوا: آمنّا؛ لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤادّاه النهي عن القول بالإيمان، ولم يقل: ولكن أسلمتم؛ ليكون خارجًا مخرج الزعم والدعوى، كما كان قولهم: ﴿آمَنَّا﴾، كذلك لو قيل: ولكن أسلمتم.. لكان كالتسليم والاعتداد بقولهم، وهو غير معتدّ به، وليس قوله: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ تكريرًا لمعنى قوله: ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا﴾. فإنَّ فائدة قوله: ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ تكذيب لدعواهم، وقوله: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ توقيت لما أمروا به أن يقولوه، فكأنه قيل لهم: ولكن قولوا: أسلمنا، حيث لم يثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم؛ لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في ﴿قُولُوا﴾ وما في ﴿لمَّا﴾ من معنى التوقع: قال على أنَّ هؤلاء قد آمنوا فيما بعد.
وحاصل الجواب: أنه تكرار، لكنه مستقل بفائدة زائدة؛ لأنّه علم من الأول نفي الإيمان عنهم، ومن الثاني نفيه مع توقع حصوله. اهـ "كرخي".
وقال سعدي المفتي: والظاهر (٢): أنَّ النظم القرآني من الاحتباك حذف من الأول ما يقابل الثاني، ومن الثاني ما يقابل الأول، والأصل: قل: لم تؤمنوا، فلا تقولوا: آمنَّا، ولكن أسلمتم، فقولوا: أسلمنا، وهذا من اختصارات القرآن الكريم.
واعلم (٣): أنّ الإِسلام: هو الدخول في السلم، وهو الانقياد والطاعة، فمن الإِسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان والجنان؛ لقوله
(١) النسفيّ.
(٢) روح البيان.
(٣) الخازن.
384
لإبراهيم: ﴿أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ومنه: ما هو انقياد باللسان دون القلب، وذلك قوله: ﴿وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾، وقيل: الإيمان: هو التصديق بالقلب مع الثقة، وطمأنينة النفس عليه، والإِسلام: هو الدخول في السلم، والخروج من أن يكون حربًا للمسلمين، مع إظهار الشهادتين.
فإن قلت: المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة، فكيف يفهم ذلك مع هذا القول؟
قلت: بين العام والخاص فرق، فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب، والانقياد قد يحصل بالقلب، وقد يحصل باللسان، فالإِسلام أعمّ، والإيمان أخصّ، لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص، ولا يكون أمرًا غيره، فالعام والخاص مختلفان في العموم والخصوص، متحدان في الوجود، فكذلك المؤمن والمسلم، قال الزجاج: الإِسلام: إظهار الخضوع، وقبول ما أتى به النبي - ﷺ -، وبذلك يحقن الدم، فإن كان مع ذلك الإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب.. فذلك هو الإيمان، وصاحبه المؤمن. اهـ.
﴿وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ ظاهرًا وباطنًا، سرًّا وعلانية، وتخلصوا له في العمل، وتتركوا النفاق ﴿لَا يَلِتْكُمْ﴾؛ أي: لا ينقصكم ﴿مِن﴾ أجور ﴿أَعْمَالِكُمْ﴾ وثوابها ﴿شَيْئًا﴾ من النقص، لا قليلًا ولا كثيرًا، بل يضاعف ذلك أضعافًا كثيرةً، من لات يليت ليتًا من باب باع: إذا نقص، قال الإِمام (١): معنى قوله: ﴿لَا يَلِتْكُمْ﴾: إنكم إن أتيتم بما يليق بضعفكم من الحسنة المقرونة بالإخلاص، وترك النفاق.. فهو تعالى يؤتكم بما يليق بفضله من الجزاء، لا ينقص منه نظرًا إلى ما في حسناتكم من النقصان والتقصير، وهذا لأن من حمل إلى ملك فاكهةً طيّبةً، يكون ثمنها في السوق درهمًا مثلًا، وأعطاه الملك درهمًا أو دينارًا.. انتسب الملك إلى قلة العطاء بل إلى البخل، فليس معنى الآية: أن يعطي من الجزاء مثل عملكم من غير نقص، بل المعنى: يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص،
(١) روح البيان.
385
ويؤيد ما قاله قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿غَفُورٌ﴾ لما فرط من المطيعين ﴿رَحِيمٌ﴾ بالتفضل عليهم، وعبارة المراغي: ولمّا كان الإنسان كثير الهفوات مهما اجتهد.. ذكر أنه غفور رحيم؛ أي: إنه ستار للهفوات، غفّار لزلّات من تاب وأناب وأخلص لربّه، رحيم به أن يعذّبه بعد التوبة، بل يزيد في إكرامه، ويصفح عن آثامه، انتهى. وهذا فتح لباب التوبة.
وقرأ الجمور (١): ﴿لَا يَلِتْكُمْ﴾ من لاته يليته، كباعه يبيعه، وهي لغة الحجاز، وقرأ الحسن والأعرج وأبو عمرو: ﴿لا يألتكم﴾ بالهمز من ألته يألته، بالفتح في الماضي، وبالكسر في المضارع، وهي لغة غطفان وأسد، واختار أبو حاتم قراءة أبي عمرو؛ لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾. وعليها قول الشاعر:
أَبْلِغْ بَنِىْ أَسَدٍ عَنِّيْ مُغلْغَلَةً جَهْرَ الرِّسَالَةِ لَا أَلْتَا وَلَا كَذِبًا
واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور، وعليها قول رؤبة بن العجّاج:
وَليْلَةٍ ذَاتِ نَدَى سَرَيْتُ وَلَمْ يَلِتْنِيْ عَنْ سُرَاهَا لَيْتُ
وهما لغتان فصيحتان.
١٥ - ثم لما ذكر سبحانه أنَّ أولئك الذين قالوا: آمنّا لم يؤمنوا، ولا دخل الإيمان في قلوبهم، بيَّن المؤمنين المستحقين لإطلاق اسم الإيمان عليهم، فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ حق الإيمان، هم ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ إيمانًا صحيحًا خالصًا، صادرًا عن مواطأة القلب واللسان. ﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾؛ أي: لم يدخل قلوبهم شيء من الريب، ولا خالطهم شك من الشكوك، بل ثبتوا على حالة واحدة، ولم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به، ولا اتهام لمن صدقوه، واعترفوا بأن الحق معه، و ﴿ثُمَّ﴾ للإشعار (٢) بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس في حال إنشائه فقط، بل وفيما يستقبل، فهي كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾. ﴿وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ تعالى؛ أي: في طاعته،
(١) البحر المحيط والشوكاني.
(٢) روح البيان.
وابتغاء مرضاته على كثرة فنونها من العبادات البدنية المحضة، والمالية الصرفة، والمشتملة عليها معًا، كالحج والجهاد. ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجميلة ﴿هُمُ الصَّادِقُونَ﴾؛ أي: الذين صدقوا في دعوى الإيمان لا غيرهم، فهو قصر إفراد، وتكذيب لأعراب بني أسد، حيث اعتقدوا الشركة، وزعموا أنهم صادقون أيضًا في دعوى الإيمان.
أي: أولئك الجامعون بين الأمور المذكورة هم الصادقون في الاتصاف بصفة الإيمان، والدخول في عداد أهله، لا من عداهم ممن أظهر الإِسلام بلسانه، وادّعى أنه مؤمن ولم يطمئّن بالإيمان قلبه، ولا وصل إليه معناه، ولا عمل بأعمال أهله، وهم الأعراب الذين تقدم ذكرهم، وسائر أهل النفاق.
١٦ - ثم أمر الله سبحانه أن يقول لأولئك الأعراب وأمثالهم قولًا آخر لمّا ادّعوا أنهم مؤمنون، فقال: ﴿قُل﴾ روي: أنه لما نزلت الآية السابقة.. جاء الأعراب، وحلفوا أنهم مؤمنون صادقون، فنزل لتكذيبهم قوله تعالى: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد: ﴿أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ﴾؛ أي: أتخبرون الله سبحانه، بدينكم الذي أنتم عليه بقولكم: آمنّا، والتعبير (١) عنه بالتعليم لغاية تشنيعهم، ودخلت الباء؛ لأنَّ هذا التعليم بمعنى الإعلام والإخبار، والاستفهام فيه للتوبيخ والإنكار؛ أي: لا تعرفوا الله بدينكم، فإنه عالم به لا يخفى عليه شيء، وفيه إشارةٌ إلى أنّ التوقيف في الأمور الدينية معتبر واجب، وحقيقتها موكولة إلى الله، فالأسامي منه تؤخذ، والكلام منه يطلب، وأمره يتبع.
أي: قل: أتخبرون (٢) الله بما في ضمائركم، وما تنطوي عليه جوانحكم من صادق الإيمان بقولكم: آمنّا حقًا. ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ فلا يخفى عليه مثقال ذرّة فيهما، والجملة: حال من مفعول ﴿أَتُعَلِّمُونَ﴾: مؤكدة لتشنيعهم. ﴿اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ لا يحتاج إلى إخباركم،
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
387
وهذا (١) تذييل مقرّر لما قبله؛ أي: مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان، وفيه مزيد تجهيل وتوبيخ لهم، حيث كانوا يجتهدون في ستر أحوالهم وإخفائها؛ أي: والله بكل شيء عليم، فاحذروا (٢) أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائر صدوركم، فتنالكم عقوبته، إذ لا يخفى عليه شيء، وقد علم ما تبطنونه من الكفر، وتظهرونه من الإِسلام لخوف الضراء، ورجاء النفع. وفي "التأويلات النجمية": والله يعلم ما في سموات القلوب من استعدادها في العبودية، وما في أرض النفوس من تمرّدها عن العبودية والله بكل شيء جبلت القلوب والنفوس عليه عليم؛ لأنه تعالى أودعه فيها عند تخمير طينة آدم بيده. انتهى.
قال بعض الكبار: لا تضف إلى نفسك حالًا ولا مقامًا، ولا تخبر أحدًا بذلك، فإنّ الله تعالى كل يوم هو في شأن في تغيير وتبديل يحول بين المرء وقلبه، فربّما أزالك عمّا أخبرت به، وعزلك عمّا تخيلت ثباته، فتخجل عند من أخبرته بذلك، بل احفظ ذلك، ولا تعلمه إلى غيرك؛ فإن كان الثبات والبقاء علمت أنّه موهبة من الله فلتشكر الله، ولتسأله التوفيق للشكر، وإن كان غير ذلك كان فيه زيادة علم ومعرفة ونور وتيقظ وتأديب. انتهى.
فظهر من هذا (٣): أنّ الإنسان يخبر غالبًا بما ليس فيه، أو بما سيزول عنه، والعياذ بالله من سوء الحال، ودعوى الكمال، قال بعضهم: إيّاكم ثمّ إيّاكم والدعوات الصادقة والكاذبة، فإنّ الكاذبة تسوِّد الوجه، والصادقة تطفىء نور الإيمان أو تضعفه، وإياكم والقول بالمشاهدات، والنظر إلى الصور المستحسنات، فإنَّ هذا كله نفوس وشهوات، ومن أحدث في طريق التعبّد ما ليس فيها فليس هو منّا ولا فينا، فاتبعوا ولا تبتدعوا، وأطيعوا ولا تمرقوا، ووحدوا ولا تشركوا، وصدقوا الحق ولا تشكوا، واصبروا ولا تجزعوا، واثبتوا
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
388
ولا تتفرقوا، وأسألوا ولا تساموا، وانتظروا ولا تيأسوا، وتواخوا ولا تعادوا، وأجتمعوا على الطاعة ولا تفرقوا، وتطهروا من الذنوب ولا تلطخوا، وليكن أحدكم بواب قلبه، فلا يدخل فيه إلا ما أمره الله به، وليحذر أحدكم ولا يركن؛ وليخف ولا يأمن، وليفتش ولا يغفل.
١٧ - ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا﴾؛ أي: يعدون إسلامهم منة عليك، حيث قالوا: جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، والمنة: هي النعمة التي لا يطلب موليها ثوابًا ممن أنعم عليه بها من المنّ بمعنى القطع؛ لأنَّ المقصود به: قطع حاجته مع قطع النظر أن يعوضه المحتاج بشيء؛ أي: يعدون إسلامهم، ومتابعتهم لك، ونصرتهم إياك منة يطلبون منك أجرها، فقد قالوا جئناك بالأثقال.. إلخ.
ثم أمر الله سبحانه وتعالى رسوله بما يقوله لهم عند المنّ عليه بما يدَّعونه من الإِسلام، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد: ﴿لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ﴾؛ أي: لا تعدوا إسلامكم منّة عليّ، أو لا تمنّوا على بإسلامكم، فنصبه بنزع الخافض، فإنّ الإِسلام هو المنّة التي لا يطلب موليها ثوابًا ممن أنعم بها عليه، ولهذا قال: ﴿بَلِ اللَّهُ﴾ سبحانه هو الذي ﴿يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ﴾؛ أي: أرشدكم إليه، وأراكم بتوفيقه على ما زعمتم من أنكم أرشدتم إليه، وجملة ﴿أَنْ هَدَاكُمْ﴾: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية؛ أي: يمن عليكم هدايته إياكم، أو منصوب بنزع الخافض؛ أي: بهدايته إياكم.
وقرأ الجمهور: ﴿أَنْ هَدَاكُمْ﴾ بفتح ﴿أَن﴾، وقرأ عاصم: بكسرها، وقرأ عبد الله وزيد بن عليّ: ﴿إذ هداكم﴾ جعلا إذ مكان ﴿أَنْ﴾ وكلاهما تعليل. انتهى من "البحر المحيط".
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في ادعاء الإيمان، وجوابه: محذوف، دلّ عليه ما قبله؛ أي: إن كنتم صادقين في دعواكم.. فلله المنّة عليكم، وفي هذا ايماء إلى أنهم كاذبون في ادّعائهم الإيمان، وفي سياق النظم الكريم من اللطف ما لا يخفى؛ فإنهم لما سمّوا ما صدر عنهم إيمانًا، ومنّوا به نفي كونه إيمانًا، وسمّاه
إسلامًا، فقال: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ﴾ بما هو في الحقيقة إسلام؛ أي: دخول في السلم، وليس بجدير بالمنّ؛ لأنَّه ليس له اعتداد شرعًا، ولا يعد مثله نعمة، بل لو صحّ ادّعاؤهم للإيمان، فلله المنّة عليهم بالهداية إليه لا لهم، قال الجنيد رحمه الله: المنّ من العباد تقريع، وليس من الله تقريعًا، وإنما هو من الله تذكير النعم، وحثّ على شكر المنعم.
روي: أنّ النبيّ - ﷺ - قال للأنصار يوم حنين: "يا معشر الأنصار، ألم آتكم ضلالًا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألَّف الله بين قلوبكم؟ " قالوا: بلى، الله ورسوله أمنّ وأفضل.
والخلاصة (١): أنّ الله سبحانه وتعالى سمّى ما كان منهم إسلامًا وخضوعًا، لا إيمانًا؛ إظهارًا لكذبهم في قولهم: ﴿آمَنَّا﴾. ثمّ لما منّوا على رسول الله - ﷺ - بما كان منهم قال سبحانه لرسوله: أيعتدون عليك بما ليس جديرًا أن يعتد به من إسلامهم الذي سموه إيمانًا، وليس بذاك، بل الله هو الذي يعتد عليهم إيمانهم إن صدقوا، فهو قد أمدهم بهديه وتوفيقه.
١٨ - ثم أعاد الإخبار بعلمه بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: ما غاب فيهما عن العباد، وخفي عليهم علمه ﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ في سرّكم وعلانتكم، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم؟!
قرأ الجمهور (٢): ﴿تَعْمَلُونَ﴾ بتاء الخطاب نظرًا لقوله: ﴿لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ﴾، وقرأ ابن كثير وأبان عن عاصم: ﴿يعملون﴾ بياء الغيبة؛ نظرًا لقوله: ﴿يَمُنُّونَ﴾. وفي ذلك رمز إلى أنهم كاذبون في إيمانهم، وإعلان للنبيّ - ﷺ -، وأتباعه من المؤمنين بما في أنفسهم، فمن لاحظ (٣) شيئًا من أعماله وأحواله.. فإن رآها من نفسه.. كان شركًا، وإن رآها لنفسه.. كان مكرًا، وإن رآها من ربّه
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
390
بربّه لربّه.. كان توحيدًا، وفقنا الله لذلك بمنّه، وجوده وكرمه.
قال البقليّ: ليس لله غيب، إذ الغيب شيء مستور، وجميع الغيوب عيان له تعالى، وكيف يغيب عنه وهو موجده، يبصره ببصره القديم، والعلم والبصر هناك واحد. انتهى.
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أيّ﴾ منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد تعويضًا عمّا فات؛ أيّ: من الإضافة، وجملة النداء: مستأنفة. ﴿الَّذِينَ﴾: بدل من ﴿أيّ﴾ أو عطف بيان له وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلته. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿لَا تُقَدِّمُوا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، والواو: فاعل، والجملة الفعلية: جواب النداء لا محل لها من الإعراب. وفي ﴿تُقَدِّمُوا﴾ وجهان:
أحدهما: أنه متعدّ حذف مفعوله لقصد التعميم اقتصارًا، كقولهم: هو يعطي ويمنع، وكلوا واشربوا، أو اختصارًا للدلالة عليه؛ أيّ: لا تقدّموا ما لا يصلح تقديمه عليهما من الأقوال والأفعال.
والثاني: أنه لازم، نحو: وجّه وتوجّه، كما مرّ، ويؤيّده قراءة ابن عباس والضحاك ويعقوب ﴿تقدّموا﴾ بفتح التاء والقاف والدال. ﴿بَيْنَ﴾: منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ ﴿تقدّموا﴾. ﴿يَدَيِ اللَّهِ﴾: مضاف إليه، مجرور بالياء؛ لأنّه مثنى، ولفظ الجلالة: مضاف إليه. ﴿وَرَسُولِهِ﴾: معطوف على الجلالة. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿لَا تُقَدِّمُوا﴾ على كونه جواب النداء. ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ﴾: ناصب واسمه وخبره. ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر ثان له، والجملة: مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (٢)﴾.
391
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أيّ﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه. ﴿الَّذِينَ﴾: بدل من ﴿أي﴾ وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول، وجملة النداء: مستأنفة. ﴿لَا تَرْفَعُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. ﴿أَصْوَاتَكُمْ﴾: مفعول به، وجملة النهي، واقعة في جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَرْفَعُوا﴾، ﴿وَلَا تَجْهَرُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية معطوف على ﴿لَا تَرْفَعُوا﴾. ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿تَجْهَرُوا﴾. ﴿بِالْقَوْلِ﴾: متعلق بـ ﴿تَجْهَرُوا﴾ أيضًا. ﴿كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ﴾ ﴿الكاف﴾: صفة لمصدر محذوف، تقديره؛ أي: لا تجهروا له جهرا كائنًا كجهر بعضكم، أو جهرًا مثل جهر بعضكم لبعض. و ﴿لِبَعْضٍ﴾: متعلق بـ ﴿جهر﴾؛ لأنّه مصدر. ﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ﴾: ناصب وفعل مضارع وفاعل، والجملة: في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول لأجله، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: خشية حبوط أعمالكم، أو كراهية حبوطها، والخشية منهم، وقد تنازع فيه ﴿لَا تَرْفَعُوا﴾ ﴿وَلَا تَجْهَرُوا﴾. ﴿وَأَنْتُمْ﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا تَشْعُرُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية: في محل النصب على الحال من الكاف في ﴿أَعْمَالُكُمْ﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، صلة الموصول. ﴿عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَغُضُّونَ﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿الَّذِينَ﴾: خبره، والجملة الابتدائية: في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾: مستأنفة. ﴿امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به صلة الموصول. ﴿لِلتَّقْوَى﴾: متعلق بـ ﴿امْتَحَنَ﴾؛ لأنّه بمعنى: شرح أو أخلص أو صفّى. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مَغْفِرَةٌ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿وَأَجْرٌ﴾: معطوف على ﴿مَغْفِرَةٌ﴾. ﴿عَظِيمٌ﴾: صفة ﴿أَجْرٌ﴾، والجملة: مستأنفة استئنافًا بيانيًا.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)﴾.
392
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه. ﴿يُنَادُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به صلة الموصول. ﴿مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿يُنَادُونَكَ﴾، ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾. مبتدأ، وجملة ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾: خبره، والجملة الإبتدائية: في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾: مستأنفة. ﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿أَنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿صَبَرُوا﴾ من الفعل والفاعل: في محل الرفع خبر ﴿أَنَّ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾: في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لفعل محذوف، تقديره: ولو ثبت صبرهم على رأي المبرد والزجاج والكوفيين، أو مرفوع على أنه مبتدأ لا يحتاج إلى خبر؛ لأنّ الخبر يحذف وجوبًا بعد لو ولولا على رأي سيبويه، وجمهرة البصريين. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية، متعلق بـ ﴿صَبَرُوا﴾. ﴿تَخْرُجَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على محمد، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿حَتَّى﴾. ﴿إِلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿تَخْرُجَ﴾، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾؛ أي: إلى خروجك إليهم؛ أي: ولو ثبت صبرهم إلى خروجك إليهم. ﴿لَكَانَ﴾ ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية. ﴿كان﴾: فعل ماض ناقص، واسمها: ضمير يعود على المصدر المفهوم من ﴿صَبَرُوا﴾؛ أي: لكان صبرهم. و ﴿خَيْرًا﴾: خبرها. ﴿لَهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرًا﴾ وجملة ﴿كان﴾: جواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية: معطوفة على جملة ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ﴾ أو مستأنفة. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿غَفُورٌ﴾: خبر أول. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان، والجملة: مستأنفة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (٦)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه. ﴿الَّذِينَ﴾: بدل من ﴿أيّ﴾، وجملة النداء: مستأنفة، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿إن﴾: حرف شرط جازم. ﴿جَاءَكُمْ﴾: فعل ماض ومفعول به، في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها. ﴿فَاسِقٌ﴾: فاعل.
393
﴿بِنَبَإٍ﴾: متعلق بـ ﴿جَاءَ﴾. ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب وجوبًا لكونه جملة طلبية. ﴿تَبَيَّنُوا﴾: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، والواو: فاعل، والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ ﴿أَنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿أَنْ﴾ الشرطية: جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. ﴿أَنَّ﴾ حرف نصب. ﴿تُصِيبُوا﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، والواو: فاعل. ﴿قَوْمًا﴾: مفعول به. ﴿بِجَهَالَةٍ﴾: حال من فاعل ﴿تُصِيبُوا﴾؛ أي: حال كونكم متلبسين بجهالة أو جاهلين، وجملة ﴿تُصِيبُوا﴾؛ مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية: في تأويل مصدر منصوب على أنّه مفعول من أجله، ولكنّه على تقدير مضاف؛ أي: خشية إصابتكم أو كراهية إصابتكم. ﴿فَتُصْبِحُوا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿تُصْبِحُوا﴾: فعل ناقص واسمه. معطوف على ﴿تُصِيبُوا﴾. ﴿عَلَى مَا فَعَلْتُمْ﴾: متعلق بـ ﴿نَادِمِينَ﴾. و ﴿نَادِمِينَ﴾: خبر ﴿تصبحوا﴾ منصوب بالياء.
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)﴾.
﴿وَاعْلَمُوا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿اعْلَمُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿أَنَّ﴾: حرف نصب. ﴿فِيكُمْ﴾: خبر مقدم؛ لـ ﴿أَن﴾: ﴿رَسُولَ اللَّهِ﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿أَن﴾: في تأويل مصدر سادّ مسدّ مفعولي ﴿اعْلَمُوا﴾. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿يُطِيعُكُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به وفاعل مستتر يعود على الرسول. ﴿فِي كَثِيرٍ﴾: متعلق بـ ﴿يُطِيعُكُمْ﴾. ﴿مِنَ الْأَمْرِ﴾: صفة لكثير، والجملة الفعلية: فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب. ﴿لَعَنِتُّمْ﴾ ﴿اللام﴾: رابطة لجواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية. ﴿عَنِتُّمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة: جواب ﴿لَوْ﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية: في محل النصب حال من ضمير المخاطبين في قوله: ﴿فِيكُمْ﴾؛ أي: حالة كونكم عانتين لو أطعاكم في كثير من الأمر. ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ﴾ ﴿الواو﴾؛ عاطفة. ﴿لكن الله﴾: ناصب واسمه. ﴿حَبَّبَ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهَ﴾. ﴿إِلَيْكُمُ﴾: متعلق بـ
394
﴿حَبَّبَ﴾. ﴿الْإِيمَانَ﴾: مفعول به، وجملة ﴿حَبَّبَ﴾: في محل الرفع خبر ﴿لَكِنَّ﴾، وجملة ﴿لكن﴾: معطوفة على جملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية. ﴿وَزَيَّنَهُ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به معطوف على ﴿حَبَّبَ﴾. ﴿فِي قُلُوبِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿زَيَّنَ﴾. ﴿وَكَرَّهَ﴾: فعل وفاعل مستتر معطوف على ﴿حَبَّبَ﴾، ﴿إِلَيْكُمُ﴾: متعلق بـ ﴿كَرَّهَ﴾. ﴿الْكُفْرَ﴾: مفعول به لـ ﴿كَرَّهَ﴾. ﴿وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾: معطوفان على ﴿الْكُفْرَ﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الرَّاشِدُونَ﴾: خبره، والجملة الاسمية: معترصة. ﴿فَضْلًا﴾: مفعول لأجله لـ ﴿حَبَّبَ﴾. ﴿مِنَ اللَّهِ﴾: صفة لـ ﴿فَضْلًا﴾. ﴿وَنِعْمَةً﴾: معطوف على ﴿فَضْلًا﴾، ويجوز أن تكون ﴿فَضْلًا﴾ ﴿وَنِعْمَةً﴾ مفعولًا لفعل محذوف؛ أي: تبتغون فضلًا من الله ونعمة. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر أول. ﴿حَكِيمٌ﴾: خبر ثان، والجملة: مستأنفة.
﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)﴾.
﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿إنْ﴾: حرف شرط. ﴿طَائِفَتَانِ﴾ فاعل بفعل محذوف وجوبا يفسّره المذكور بعده، تقديره: وإن اقتتلت طائفتان. اقتتلت: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ على كونه غعل شرط لها. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ صفة لـ ﴿طَائِفَتَانِ﴾. ﴿اقْتَتَلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة: مفسّرة للمحذوف، لا محل لها من الإعراب. ﴿فَأَصْلِحُوا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إنْ﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿أَصْلِحُوا﴾: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، والواو: فاعل، والجملة: في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية: مستأنفة. ﴿بَيْنَهُمَا﴾: ظرف متعلق بـ ﴿أَصْلِحُوا﴾، ﴿فَإِنْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿بَغَتْ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، مبنيّ بفتحة مقدرة على الألف المحذوفة للتخلّص من التقاء الساكنين، والتاء: علامة تأنيث الفاعل. ﴿إِحْدَاهُمَا﴾: فاعل ﴿بَغَتْ﴾. ﴿عَلَى الْأُخْرَى﴾: متعلق بـ ﴿بَغَتْ﴾. ﴿فَقَاتِلُوا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب وجوبًا.
395
﴿قَاتِلُوا﴾: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، والواو فاعل. ﴿الَّتِي﴾: اسم موصول للمفردة المؤنثة في محل النصب مفعول به، والجملة الفعلية: في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية؛ معطوفة على جملة قوله: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ﴾. ﴿تَبْغِي﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر صلة الموصول. ﴿حَتَّى﴾: حوف جر وغاية. ﴿تَفِيءَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿حَتَّى﴾ الجارة، وفاعله: ضمير يعود على الطائفة الباغية. ﴿إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تَفِيءَ﴾ والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل صدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ تقديره: إلى فيئها إلى أمر الله الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿قَاتِلُوا﴾. ﴿فَإِنْ﴾ الفاء: عاطفة. ﴿فَاءَتْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على الباغية، في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿فَأَصْلِحُوا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب. ﴿أَصْلِحُوا﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها. ﴿بَيْنَهُمَا﴾: متعلق بـ ﴿أَصْلِحُوا﴾، ﴿بِالْعَدْلِ﴾ متعلق بـ ﴿أَصْلِحُوا﴾ أيضًا، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية: معطوفة على جملة قوله: ﴿فَإِنْ فَاءَتْ﴾. ﴿وَأَقْسِطُوا﴾: فعل أمر وفاعل معطوف على ﴿أصلحوا﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه، وجملة ﴿يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾: خبره، وجملة ﴿إِنَّ﴾: جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب.
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: كافة ومكفوفة ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾: مبتدأ. ﴿إِخْوَةٌ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة. ﴿أَصْلِحُوا﴾ ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنَّها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أخوّة المؤمنين، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم من النصيحة.. فأقول: لكم أصلحوا. ﴿أَصْلِحُوا﴾: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، والواو: فاعل، والجملة: لحي محل النصب مقول لجواب إذا المقدّرة، وجملة إذا المقدرة: مستأنفة. ﴿بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿أصلحوا﴾. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به معطوف على ﴿أَصْلِحُوا﴾، ﴿لَعَلَّكُمْ﴾: ناصب واسمه وجمله ﴿تُرْحَمُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿لَعَلَّ﴾: جملة تعليلية لا محل لها من الإعراب.
396
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: تقدَّم إعرابه مرارًا. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿يَسْخَرْ قَوْمٌ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. ﴿مِنْ قَوْمٍ﴾: متعلق بـ ﴿يَسْخَرْ﴾، والجملة الفعلية، جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿عَسَى﴾: فعل ماض من أفعال الرجاء، وهي هنا تامَّة. ﴿أَن﴾: حرف نصب. ﴿يَكُونُوا﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، والواو: اسمها. ﴿خَيْرًا﴾: خبرها. ﴿مِنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرًا﴾، وجملة ﴿يَكُونُوا﴾: في تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية لـ ﴿عَسَى﴾، تقديره: عسى وحق كونهم خيرًا منهم، وجملة ﴿عَسَى﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل النهي قبلها، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾؛ عاطفة. ﴿لَا﴾: زائدة زيدت لتأكيد النهي السابق. ﴿نِسَاءٌ﴾: معطوف على ﴿قَوْمٍ﴾، ﴿مِنْ نِسَاءٍ﴾، متعلق بـ ﴿يَسْخَرْ﴾. ﴿عَسَى﴾: فعل ماض تامّ. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَكُنَّ﴾: فعل مضارع ناقص في محل النصب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، مبني بسكون على النون المدغمة في نون النسوة؛ لاتصاله بنون الإناث، ونون النسوة: اسمها، ﴿خَيْرًا﴾: خبرها. ﴿مِنْهُنَّ﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرًا﴾، وجملة ﴿عَسَى﴾: مسوقة لتعليل النهي.
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾.
﴿وَلَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَا﴾، ناهية جازمة. ﴿تَلْمِزُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، معطوف على جملة قوله: ﴿لَا يَسْخَرْ﴾. ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾: مفعول به. ﴿وَلَا تَنَابَزُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على قوله: ﴿لَا يَسْخَرْ﴾ أيضًا. ﴿بِالْأَلْقَابِ﴾: متعلق بـ ﴿تَنَابَزُوا﴾، ﴿بِئْسَ﴾: فعل ماض جامد لإنشاء الذمّ، ﴿الِاسْمُ﴾: فاعله، ﴿الْفُسُوقُ﴾: هو المخصوص بالذمّ، وهو مبتدأ، خبره: الجملة قبله، ولك أن تعربه خبرًا لمبتدأ محذوف، وأن تجعله بدلًا من ﴿الِاسْمُ﴾. و ﴿بَعْدَ الْإِيمَانِ﴾: ظرف متعلق بمحذوف حال من ﴿الِاسْمُ﴾، وجملة ﴿بِئْسَ﴾: جملة
397
إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَمَن﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، أو استئنافية، ﴿وَمَنْ﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر: جملة الشرط أو الجواب أو هما. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم ونفي. ﴿يَتُبْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾. وفاعله: ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، والجملة: في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية، على كونها فعل شرط لها. ﴿فَأُولَئِكَ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب ﴿أُولَئِكَ﴾ مبتدأ. ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الظَّالِمُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية: في محل الجزم بـ ﴿مَنْ﴾ الشرطية، على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَنْ﴾ مَنْ الشرطية: معطوفة على جملة ﴿لَا يَسْخَرْ﴾ على كونها جواب النداء أو مستأنفة.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾: تقدم إعرابه. ﴿اجْتَنِبُوا﴾: فعل أمر مبنيّ على حذف النون، والواو: فاعل. ﴿كَثِيرًا﴾: مفعول به. ﴿مِنَ الظَّنِّ﴾ صفة لـ ﴿كَثِيرًا﴾، والجملة الفعلية، جواب النداء. ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ﴾ ناصب واسمه. ﴿إِثْمٌ﴾: خبره، وجملة ﴿إنَّ﴾: جملة تعليلية، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، معطوف على ﴿اجْتَنِبُوا﴾. ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. ﴿بَعْضًا﴾: مفعول به، والجملة: معطوفة على جملة ﴿اجْتَنِبُوا﴾. ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري. ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة: جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يَأْكُلَ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر. ﴿لَحْمَ أَخِيهِ﴾: مفعول به، ومضاف إليه. ﴿مَيْتًا﴾: حال من الأخ أو من اللحم، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية: في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: أكل لحم أخيه. ﴿فَكَرِهْتُمُوهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة لجملة لو المحذوفة، على الجملة المفهومة من الاستفهام الإنكاري، تقديره: لا يحبّ أحدكم أكل لحم أخيه، فلو عرض عليكم.. كرهتموه، كما مر بسطه في مبحث
398
التفسير. ﴿كَرِهْتُمُوهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والواو: لإشباع ضمة الميم، والجملة الفعلية: جواب للو المحذوفة، لا محل لها من الإعراب، أو هو خبر بمعنى الأمر على كونه جوابًا لشرط محذوف، تقديره: فإذا عرض عليكم.. فاكرهوه. ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: مستأنفة، أو معطوفة على جملة ﴿كَرِهْتُمُوهُ﴾ إذا كان خبرًا بمعنى الأمر. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿تَوَّابٌ﴾: خبره. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان، وجملة ﴿إنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾ ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أيّ﴾: منادى نكرة مقصودة، ﴿والهاء﴾: حرف تنبيه. ﴿النَّاسُ﴾: بدل من ﴿أيّ﴾، وجملة النداء: مستأنفة. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾: خبره، وجملة ﴿إنّ﴾: جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. ﴿مِنْ ذَكَرٍ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾. ﴿وَأُنْثَى﴾: معطوف على ﴿ذَكَرٍ﴾، ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا﴾: فعل وفاعل ومفعولان، معطوف على ﴿خَلَقْنَاكُمْ﴾، ﴿وَقَبَائِلَ﴾: معطوف على ﴿شُعُوبًا﴾، ﴿لِتَعَارَفُوا﴾ ﴿اللام﴾: حرف جرّ وتعليل. ﴿تَعَارَفُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، والجملة الفعلية مع أن المضمرة: في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لتعارف بعضكم بعضًا، الجار والمجرور: متعلق بـ ﴿خَلَقْنَا﴾، أو بـ ﴿جعلنا﴾. ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ﴾: ناصب واسمه. ﴿عِنْدَ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَكْرَمَكُمْ﴾ ﴿أَتْقَاكُمْ﴾: خبره، وجملة ﴿إنَّ﴾: مستأنفة. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿عَلِيمٌ﴾ خبره. ﴿خَبِيرٌ﴾: خبر ثان له، وجملة ﴿إِنَّ﴾: مستأنفة.
﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)﴾.
﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ﴾ فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿آمَنَّا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول. ﴿قُل﴾ فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على
399
محمد، والجملة: مستأنفة. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم، ﴿تُؤْمِنُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُل﴾. ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لَكِنْ﴾: حرف استدارك مهمل. ﴿قُولُوا﴾: فعل أمر وفاعل، والجملة: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا﴾. ﴿أَسْلَمْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة، في محل النصب مقول ﴿قُولُوا﴾. ﴿وَلَمَّا﴾ ﴿الواو﴾: حالية ﴿لَمَّا﴾: حرف نفي وجزم. ﴿يَدْخُلِ الْإِيمَانُ﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمَّا﴾، ﴿فِي قُلُوبِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَدْخُلِ﴾، والجملة: في محل النصب حال من ضمير ﴿قُولُوا﴾؛ أي: ولكن قولوا أسلمنا حال عدم مواطأة قلوبكم لألسنتكم. ﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿تُطِيعُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ والشرطية، على كونه فعل شرط لها، ولفظ الجلالة ﴿اللَّهَ﴾: مفعول به. ﴿وَرَسُولَهُ﴾ معطوف عليه. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿يَلِتْكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهَ﴾ ومفعول به مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونه جوابًا لها. ﴿مِنْ أَعْمَالِكُمْ﴾: حال من ﴿شَيْئًا﴾؛ لأنّه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿شَيْئًا﴾: مفعول به، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية: معطوفة على جملة قوله: ﴿لَمْ تُؤْمِنُوا﴾، على كونها مقولًا لـ ﴿قُل﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه. ﴿غَفُورٌ﴾: خبره. ﴿رَحِيمٌ﴾: خبر ثان، وجملة ﴿إنَّ﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾: مبتدأ، ﴿الَّذِينَ﴾: خبره، والجملة: مستأنفة. وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿آمَنُوا﴾، ﴿وَرَسُولِهِ﴾: معطوف على الجلالة. ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف للتراخي. ﴿لَمْ﴾: حرف جزم. ﴿يَرْتَابُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾ معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿وَجَاهَدُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿بِأَمْوَالِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿جَاهَدُوا﴾، ﴿وَأَنْفُسِهِمْ﴾: معطوف على ﴿أَمْوَالِهِمْ﴾. ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾: متعلق
400
بـ ﴿جَاهَدُوا﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿هُمُ﴾: ضمير فصل. ﴿الصَّادِقُونَ﴾ خبر، والجملة. مستأنفة. ﴿قُل﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة، مستأنفة. ﴿أَتُعَلِّمُونَ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخيّ. ﴿أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة: في محل النصب مقول ﴿قُل﴾، ﴿بِدِينِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿تُعَلِّمُونَ﴾؛ لأنَّه بمعنى التعريف. ﴿وَاللَّهُ﴾ ﴿الواو﴾: حالية. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾: خبره، والجملة، الاسمية: في محل النصب حال من مفعول ﴿تُعَلِّمُونَ﴾. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَعْلَمُ﴾، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾، ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾. و ﴿عَلِيمٌ﴾، خبر المبتدأ، والجملة: مستأنفة مقرّرة لما قبلها.
﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٨)﴾.
﴿يَمُنُّونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة: مستأنفة. ﴿عَلَيْكَ﴾: متعلق بـ ﴿يَمُنُّونَ﴾، ﴿أَن﴾ حرف نصب ومصدر. ﴿أَسْلَمُوا﴾: فعل ماض وفاعل في محل النصب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية، في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: يمنّون عليك بإسلامهم؛ أي: إسلامهم. ﴿قُل﴾: فعل أمر وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة: مستأنفة. ﴿لَا﴾ ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَمُنُّوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية. ﴿عَلَيَّ﴾ متعلق بـ ﴿تَمُنُّوا﴾، ﴿إِسْلَامَكُمْ﴾: مفعول به أو منصوب بنزع الخافض، والجملة الفعلية: في محل النصب مقول ﴿قُل﴾. ﴿بَلِ﴾: حرف عطف وإضراب. ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَمُنُّ﴾: خبره. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يَمُنُّ﴾، والجملة الاسمية: في محل النصب معطوفة على جملة ﴿لَا تَمُنُّوا﴾. ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿هَدَاكُمْ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهُ﴾، ومفعول به في محل النصب بـ ﴿أَن﴾ المصدرية، ﴿لِلْإِيمَانِ﴾ متعلق بـ ﴿هَدَاكُمْ﴾، والجملة الفعلية مع ﴿أَن﴾ المصدرية:
401
في تأويل مصدر منصوب بنزع الخافض؛ أي: بل الله يمنّ عليكم بهدايته إيّاكم للإيمان. ﴿إن﴾ حرف شرط جازم. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونه فعل شرط لها، ﴿صَادِقِينَ﴾: خبر ﴿كان﴾ وجواب ﴿إِن﴾ الشرطية: محذوف يدل عليه ما قبلها؛ أي: إن كنتم صادقين.. فهو المانُّ عليكم، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية. مستأنفة. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَعْلَمُ﴾: خبره، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة. ﴿غَيْبَ السَّمَاوَاتِ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ {وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. ﴿بَصِيرٌ﴾: خبره، والجملة الابتدائية: معطوفة على جملة ﴿إن﴾. ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾. ويحتمل كون ﴿ما﴾: موصولة أو مصدرية، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد: محذوف؛ أي: بالذي تعملونه، أو صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية، أي: بعملكم، والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَا تُقَدِّمُوا﴾؛ أي: لا تتقدموا، من قولهم: مقدمة الجيش لمن تقدم منهم، قال أبو عبيدة: العرب تقول: لا تقدم بين يدي الإِمام، وبين يدي الأب؛ أي: لا تعجل بالأمر دونه، وقيل: إنّ المراد: لا تقولوا بخلاف الكتاب والسنة، ورُجّح هذا.
﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾؛ أي: إذا كلمتموه، ونطق ونطقتم فلا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته، والصوت: هو الهواء المنضغط عن قرع جسمين، فإن الهواء الخارج من داخل الإنسان إن خرج بدفع الطبع يسمى نفسًا، بفتح الفاء، وإن خرج بالإرادة، وعرض له تموج بتصادم الجسمين يسمى صوتًا، والصوت الاختياري الذي يكون للإنسان ضربان: ضرب باليد: كصوت العود، وما يجري مجراه، وضرب بالفم، فالذي بالفم ضربان: نطق وغيره، فغير النطق كصوت الناي، والنطق إما مفرد من الكلام، وإما مركب، كأحد الأنواع الثلاثة من الكلام.
402
﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ﴾ والجهر يقال: لظهور الشيء بإفراط لحاسة البصر، نحو: رأيته جهارًا، أو حاسة السمع، نحو: ﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ﴾.
﴿أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ﴾ في "المختار": حبط عمله بطل ثوابه، وبابه فهم، وحبوطًا أيضًا. اهـ. وحبط عمله كسمع وضرب حبطًا وحبوطًا: بطل عمله، وأحبطه الله: أبطله. كما في "القاموس"، وقال الراغب: أصل الحبط من الحبط: وهو أن تكثر الدابة من الكلأ، حتى تنتفخ بطنها، فلا يخرج منها شيء.
﴿وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ والشعور: العلم والفطنة، والشعر: العلم الدقيق.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ﴾ أصله: يغضضون بوزن يفعلون، نقلت حركة الضاد الأولى إلى الغين، فسكنت فأدغمت في الثانية، من الغضَّ: وهو النقصان من الطرف أو الصوت، وما في الإناء، يقال: غض طرفه: خفضه، وغض السقاء: نقص مما فيه، وغض الصوت خفضه.
﴿امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ الامتحان، افتعال، من محنت الأديم محنًا: مددته حتى أوسعته، فمعنى امتحن قلوبهم للتقوى: وسَّعها، وشرحها للتقوى؛ اهـ "قرطبي".
وفي "القاموس": محنه كمنعه اختبره كامتحنه، والاسم المحنة بالكسر. اهـ.
وقيل معناه: أخلصها للتقوى، من امتحن الذهب: إذا أذابه، وميز إبريزه من خبثه، فهو من إطلاق المقيد، وهو إخلاص الذهب، وإرادة المطلق. اهـ. "روح".
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ﴾ أصله: ينادويونك، استثقلت الضمة على الياء فحذفت، فلمّا سكنت.. التقى ساكنان، فحذفت الياء وضمت الدال لمناسبة الواو.
﴿مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ﴾؛ أي: من خارجها، سواء كان من خلفها أو من
403
قدامها، إذ إنها من المواراة: وهي الاستتار، فما استتر عنك.. فهو وراء خلفًا كان أو قدّامًا، فإذا رأيته.. لا يكون وراءك، ويرى بعض أهل اللغة: أنّ وراء من الأضداد، فتطلق تارةً على ما أمامك وأخرى على ما خلفك، والحجرات بضم الجيم وفتحها وتسكينها، واحدها حجرة: وهي القطعة من الأرض المحجورة؛ أي: الممنوعة عن الدخول فيها بحائط ونحوه، فهي فعلة بمعنى مفعولة: كما لغرفة، والقبضة. اهـ "بيضاوي".
والمراد بها: حجرات نسائه - ﷺ -، وكانت تسعة، لكل منهنّ حجرة من جريد النخل، على أبوابها المسوخ من شعر أسود، وكانت غير مرتفعة، يتناول سقفها باليد، وقد أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد رسول الله - ﷺ -، فبكى الناس لذلك، وقال سعيد بن المسيب يومئذٍ: لوددت أنهم لو تركوها على حالها، لينشأ ناس من أهل المدينة، ويقدم القادم من أهل الآفاق، فيرى ما اكتفى به رسول الله - ﷺ - في حياته، فيكون ذلك مما يزهد الناس في التفاخر والتكاثر فيها.
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا﴾؛ أي: ولو ثبت صبرهم وانتظارهم إلى خروجك إليهم.. لكان الصبر خيرًا لهم من الاستعجال، والصبر: هو حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها.
﴿فَاسِقٌ بِنَبَإٍ﴾ الفاسق: هو الخارج عن حدود الشرع من قولهم: فسق الرطب: إذا خرج من قشره، والنبأ: الخبر، قال الراغب: ولا يقال للخبر: نبأ إلا إذا كان ذا فائدة عظيمة، وبه يحصل علم أو غلبة ظنّ.
﴿فَتَبَيَّنُوا﴾ والتبين: طلب البيان والوضوح.
﴿لَعَنِتُّمْ﴾ والعنت محركة: الفساد والإثم والهلاك، ودخول المشقة على الإنسان. كما في "القاموس"، يقال: عنت فلان: إذا وقع في أمر يخاف منه التلف. كما في "المفردات". فهو من الباب الرابع مثل: طرب يطرب طربًا، ومعنى لعنتم؛ أي: لوقعتم في الجهد والهلاك.
404
﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾ والحب: انجذاب النفس إلى الشيء الذي ترغب فيه، والتحبيب: إيقاع محبة الشيء في القلب.
﴿وَكَرَّهَ﴾ من التكريه، بمعنى التبغيض، والبغض ضدّ الحب، فالبغض: نفار التفس عن الشيء الذي ترغب عنه، والتكريه: إيقاع كراهة الشيء، وبغضه في القلب.
﴿الْكُفْرَ﴾: تغطية نعم الله تعالى بالجحود لها.
﴿وَالْفُسُوقَ﴾ الخروج عن الحدّ، كما علمت، والعصيان: عدم الانقياد، من قولهم: عصت النواة؛ أي؛ صلبت واشتدت.
﴿هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ والرشاد: إصابة الحق، واتباع الطريق السويّ.
﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ﴾ مثنى طائفة، والطائفة من الناس: جماعة منهم، لكنّها دون الفرقة، ما دل عليه قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ﴾. وفيه إعلال بالإبدال، أصله: طاوفتان؛ لأنّه من الطوف، أبدلت الواو همزة في الوصف حملًا له على فعله في الإعلال.
﴿اقْتَتَلُوا﴾: افتعال من القتل، وأصل القتل: إزهاق الروح عن الجسد بأيّ سبب كان.
﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾؛ أي: فكفوهما عن القتال بالنصحية، أو بالتهديد والتعذيب.
﴿بَغَتْ﴾؛ أي: تعدت وجارت، أصله: بغي بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم لما اتصلت بالفعل تاء التأنيث الساكنة.. التقى ساكنان، فحذفت الألف، يقال: بغى عليه بغيًا: علا وظلم، وعدل عن الحق، واستطال. كما في "القاموس". وأصل البغي: طلب ما ليس بمستحق، فإنّ البغي الطلب.
﴿حَتَّى تَفِيءَ﴾؛ أي: ترجع، فإن الفيء: الرجوع إلى حالة محمودة، وفيه إعلال بالنقل، أصله: تفيىء بوزن تفعل، نقلت حركة الياء إلى الفاء، فسكنت إثر
405
كسرة فصارت حرف مدّ.
﴿إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ وأمر الله: هو الصلح؛ لأنّه مأمور به في قوله: ﴿وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾. ﴿فَاءَتْ﴾ أصله: فيأ بوزن فعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ من الصلاح، والصلاح: الحصول على الحالة المستقيمة النافعة، والإصلاح: جعل الشيء على تلك الحالة.
﴿بِالْعَدْلِ﴾؛ أي: بإزالة آثار القتال بضمان المتلفات، بحيث يكون الحكم عادلًا، حتى لا يؤدي النزاع إلى الاقتتال مرة أخرى. ﴿وَأَقْسِطُوا﴾؛ أي: واعدلوا في كل شأن من شؤونكم، وأصل الإقساط: إزالة القسي بالفتح: وهو الجور، والقاسط: الجائر، كما قال ﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (١٥)﴾.
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ والإخوة في النسب، والإخوان في الصداقة، واحدهم أخ، وقد جعلت الأخوة في الدين كالأخوة في النسب، وكأنَّ الإِسلام أب لهم، كما قال قائلهم:
أَبِيْ الإِسْلَامُ لَا أَبَ لِيْ سِوَاهُ إِذَا افْتَخَرُوْا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيْمِ
وأصل الأخ: المشارك لآخر في الولادة من الطرفين، أو من أحدهما أو من الرضاع.
﴿لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ﴾ السخرية: الاحتقار، وذكر العيوب والنقائص على وجه يضحك منه، يقال: سخر به، وسخر منه، ضحك به، ومنه، وهزىء به ومنه، والاسم: السخرية، والسخري بالضم والكسر، وقد تكون بالمحاكاة بالقول أو بالفعل أو بالإشارة أو بالضحك على كلام المسخور منه إذا غلط فيه، أو على صنعته، أو على قبح صورته، والقوم شاع إطلاقه على الرجال دون النساء، كما في الآية، وقول زهير:
وَمَا أَدْرِيْ وَسَوْفَ إِخَالُ أَدّرِيْ أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءٌ
والقوم: الرجال خاصة؛ لأنهم القوّام بأمور النساء، قال تعالى: {الرِّجَالُ
406
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} وقال النبي - ﷺ -: "النساء لحم على وضم، إلا ما ذبّ عنه الذابّون" والذابّون: هم الرجال، وهو في الأصل جمع قائم كصوم وزور، جمع صائم وزائر، وسمع تسميته بالمصدر عن بعض العرب: إذا أكلت طعامًا أحببت نومًا، وأبغضت قومًا؛ أي: قيامًا، وقال بعضهم: القوم: الجماعة من الناس، والجمع أقوام وأقاوم وأقائم وأقاويم، وقوم الرجل: أقرباؤه الذين يجتمعون معه في جدٍّ واحد.
﴿عَسَى أَنْ يَكُونُوا﴾ أصله: يكْونون بوزن يفعلون، نقلت حركة الواو إلى الكاف فسكنت بعد ضمّ، فصارت حرف مدّ، ثم حذفت نون الرفع لدخول أداة النصب.
﴿وَلَا نِسَاءٌ﴾ اسم جمع لامرأة من النسوة بالفتح: وهو الضعف، الهمزة فيه مبدلة من واوٍ لظهورها في نسوة.
﴿عَسَى أَنْ يَكُنَّ﴾ أصله: يكْونن بوزن يفعلن، النون الأولى لام الفعل، الثانية نون النسوة، أُدغمت النون الساكنة في المتحركة، ثم نقلت حركة الواو إلى الكاف قبله فسكنت الواو، فالتقى ساكنان: الواو والنون المدغمة، فحذفت الواو لذلك، فوزنه يفلن.
﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾؛ أي: لا يعب بعضكم بعضًا بقول أو إشارة باليد أو بالعين أو نحوهما، والمؤمنون كنفس واحدة، فمتى عاب المؤمن المؤمن.. فكأنما عاب نفسه، من اللمز: وهو الطعن، والضرب باللسان، وفي "المصباح": لمزه لمزًا من باب ضرب: عابه، وقرأ بها السبعة، ومن باب قتل لغة.
﴿وَلَا تَنَابَزُوا﴾ والتنابز: التعاير والتداعي بما يكرهه الشخص من الألقاب، من النبز بسكون الباء مصدر نبزه بمعنى لقبه، وأصل تنابزوا: تتنابزوا بتائين، حذفت إحداهما. وفي "السمين": التنابز تفاعل من النبز: وهو التداعي باللقب، والنزب مقلوب منه لقلة هذا وكثرة ذاك، ويقال: تنابزوا وتنازبوا: إذا دعا بعضهم بعضًا بلقب سوء. اهـ.
407
﴿بِئْسَ الِاسْمُ﴾ والاسم: الذكر، والصيت من قولهم: طار اسمه بين الناس بالكرم أو اللؤم، وليس المراد بالاسم هنا: ما يقابل اللقب والكنية، ولا ما يقابل الفعل والحرف، بل المراد به: الذكر المرتفع؛ لأنّه من السمو. اهـ "كرخي".
﴿وَمَنْ لَمْ يَتُبْ﴾ أصله: يتْوب بوزن يفعل، نقلت حركة الواو إلى التاء فسكنت فالتقى ساكنان؛ لأن آخر الفعل ساكن لمناسبة دخول الجازم، فحذفت الواو لذلك فوزنه يفل.
﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾ أصله: تتجسسوا، حذفت نون الرفع للجازم، ثم حذفت إحدى التائين للتخفيف، من التجسس: وهو البحث عن العورات والمعايب والكشف عمّا ستره الناس، تفعل من الجس لما فيه من معنى الطلب، فإن جس الخبر: طلبه، والتفحص عنه، فإذا نقل إلى باب التفعل.. يحدث معنى التكلف منضمًا إلى ما فيه من معنى الطلب، يقال: جسست الأخبار؛ أي: تفحصت عنها، وإذا تجسستها يراد به معنى التكلف كالتلمس، فإنه تفعل من اللمس: وهو المسّ باليد لتعرف حال الشيء، وفي "المفردات": أصل الجس: مس العرق، وتعرف نبضه للحكم به على الصحة والسقم، ومن لفظ الجس اشتق الجاسوس، وهو أخص من الحس؛ لأنَّه تعرف ما يدرك الحس، والجس: تعرف حال ما من ذلك، وفي "الإحياء": التجسس بالجيم في: تطلع الأخبار، وبالحاء المهملة: في المراقبة بالعين، وفي "القاموس": الجس: تفحص الأخبار كالتجسس، ومنه الجاسوس، والجسيس لصاحب سر الشر، ولا تجسسوا؛ أي: خذوا ما ظهر، ودعوا ما ستر الله تعالى، أو لا تفحصوا عن بواطن الأمور، أو لا تبحثوا عن العورات، والحاسوس: هو الجاسوس أو في الخير، وبالجيم في الشر. انتهى.
﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا﴾ أصله: يغتيب، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثمّ حذفت لالتقاء الساكنين، من الاغتياب، والغيبة بالكسر: اسم من الاغتياب، وفتح الغين غلط، إذ هو بفتحها مصدر بمعنى الغيبوبة، والغيبة والاغتياب: هو أن يتكلم إنسان خلف إنسان مستورٍ بما فيه من عيب، كما تقدم.
﴿وَقَبَائِلَ﴾ جمع قبيلة، والهمزة فيه مبدلة من ياء فعيلة المجودة في اسم
408
مؤنث، وهي حرف مدّ زائد ثالث.
﴿شُعُوبًا﴾ جمع شعب بفتح الشين: وهو أعلى طبقات النسب، كما مرّ، وسميت الشعوب؛ لأنَّ القبائل تشعبت منها، ومنه: اشتقت الشعوبية بضم الشين: وهم قوم يصغرون شأن العرب، سموا بذلك؛ لتعلّقهم بظاهر قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ﴾. وقال ابن هبيرة: في "المحكم": غلبت الشعوبية بلفظ الجمع على جيلٍ من العجم، حتى قيل لمحتقر أمر العرب: شعوبيٌّ، وإن لم يكن منهم، وأضافوا إلى الجمع لغلبته على الجيل الواحد، كقولهم؛ أنصاريّ.
﴿لِتَعَارَفُوا﴾ أصله: تتعارفوا، حذفت منه إحدى التائين. ﴿أَتْقَاكُمْ﴾ اسم تفضيل من الفعل الثلاثي وقى، والتاء فيه: مبدلة من واو، والألف فيه مبدلة من واو المبدلة من الياء في الأصل؛ لأنّ مادّة وفي فاؤها واو، ولامها ياء، أُبدلت الواو تاءً، والياء واوًا.
﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ﴾ هم سكان البادية. ﴿لَا يَلِتْكُمْ﴾؛ أي: لا ينقصكم، من لاته يليته، كباعه يبيعه، وقيل هو من ولته يلته، كوعده يعده، وعلى هذا فيه إعلال بحذف فاء الفعل المثاليّ، أصله: ولت، وقياس المضارع يولت، حذفت الواو لوقوعها بين ياءٍ مفتوحة وكسرة.
﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ من ارتاب مطاوع رابه: إذا أوقعه في الشكّ في الخير مع التهمة للمخبر، فظهر الفرق بين الريب والشك، فإنَّ الشك تردد بين نقيضين لا تهمة فيه، أصله: يرتيبون بوزن يفتعلون، حذفت نون الرفع لدخول أداة الجزم، ثم قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ﴾؛ أي: يذكرون ذلك ذكر من اصطنع لك صنيعة، وأسدى إليك نعمة، أصله: يمننون بوزن يفعلون، نقلت حركة النون الأولى إلى الميم، فسكنت فأدغمت في الثانية، وكذلك القول في: ﴿تَمُنُّوا﴾ وفي ﴿يَمُنُّ﴾.
وقوله: ﴿هَدَاكُمْ﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: هديكم، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
409
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ شبه ما وقع من بعض الصحابة من القطع في أمر من الأمور الدينيّة، قبل أن يحكم الله ورسوله به بحال من يتقدم في المشي في الطريق مثلًا لوقاحته على من يجب أن يتأخَّر عنه، ويقفو أثره تعظيمًا له، فعبر عن الحالة المشبهة بما يعبر به عن المشبه بها على طريق الاستعارة التمثيلية.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل، في قوله: ﴿وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ لوجود أداة التشبيه.
ومنها: حذف مفعول ﴿تُقَدِّمُوا﴾. كقوله: ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾. وقولهم: هو يعطي ويمنع، وفي الحذف من البلاغة ما ليس في الذكر؛ لأنّ الخيال فيه يذهب كل مذهب.
ومنها: التكرير في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإنَّ في تكريره فائدة بلاغية لطيفة: وهي إظهار الشفقة على المسترشد، وإبداء المناصحة له على آكد وجه؛ ليقبل على استماع الكلام، ويعيره باله، ولتحديد المخاطبين بالذات، وأنهم هم المعنيون بالمناصحة. وفيه أيضًا: استدعاء لتجديد الاستبصار والتيقظ، والتنبه عند كل خطاب.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ﴾ فإنه كناية من موضع خلوته - ﷺ -. ومقيله مع بعض نسائه، وقد ازدادت الكناية بإيقاع الحجرات معرفة بالألف واللام، دون الإضافة إليه، وفي ذلك من حسن الأدب ما لا يخفى.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ للدلالة على عظمهما.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ﴾ لإفادة الشمول والعموم؛ لأنّ النكرة إذا وقعت في سياق الشرط.. عمّت، كما تعمّ إذا وقعت في سياق النفي،
410
وفي هذا التنكير ردّ على من زعم أنها نزلت في الوليد بن عقبة، وهو من كبار الصحابة؛ لأنّ إطلاق الفسوق عليه بعيد، ذلك أنّ القسوق هو الخروج من الشيء والانسلاخ منه، والوليد كما يذكرون ظنّ فأخطأ، والمخطىء كما قاله الرازي: لا يسمَّى فاسقًا، فالعموم هنا هو المراد، كأنه قال: أيّ فاسق جاءكم بأي نبأ فمّحصوه، وابحثوا عنه، واعرضوه على محك التصويب والتخطئة قبل البتّ في الحكم، ولا تستعجلوا الأمور.
ومنها: الإتيان بصيغة الأمر في قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ﴾ دلالة على أنهم نزّلوا منزلة الجاهلين لمكانه؛ لتفريطهم فيما يجب من تعظيم شأنه.
ومنها: التعبير بصيغة المضارع في قوله: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ ولم يقل: لو أطاعكم لإفادة الديمومة والاستمرار على أن يعمل ما يرونه صوابًا.
ومنها: الطباق بين ﴿حَبَّبَ﴾ ﴿وَكَرَّهَ﴾، وبين الإيمان والكفر في قوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾ ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ﴾.
ومنها: أيضًا صيغة المضارع في قوله: ﴿لَوْ يُطِيعُكُمْ﴾ للدلالة على أنّ امتناع عنتهم لامتناع استمرار طاعته - ﷺ -؛ لأنّ عنتهم إنما يلزم من استمرار الطاعة فيما يعنّ لهم من الأمور.
ومنها: الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ بعد قوله: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ﴾.
ومنها: الطباق بين: ﴿اقْتَتَلُوا﴾ و ﴿أَصْلِحُوا﴾ في قوله: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾.
ومنها: مراعاة المعنى، حيث قال: ﴿اقْتَتَلُوا﴾ بواو الجمع؛ لأنّ الطائفتين في معنى القوم والناس، والقياس؛ اقتتلتا بالتثنية، ثمّ مراعاة اللفظ، حيث قال: ﴿بَيْنَهُمَا﴾ بألف التثنية.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ أصل الكلام: إنما المؤمنون كالإخوة في وجوب التراحم والتناصر، فحذف وجه الشبه وأداة التشبيه،
411
فأصبح بليغًا مع إفادة الجملة الحصر؛ أي: فالآية من التشبيه البليغ المبتنى على تشبيه الإيمان بالأب في كونه سبب الحياة كالأب.
ومنها: وضع الظاهر مقام المضمر، مضافًا إلى المأمورين للمبالغة في تأكيد وجوب الإصلاح، والتحضيض عليه؛ لأنّ مقتضى السياق أن يقال: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بينهم.
ومنها: تخصيص الاثنين بالذكر، في قوله: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ لإثبات وجوب الإصلاح فيما فوق ذلك بطريق الأولوية؛ لتضاعف الفتنة والفساد فيه.
ومنها: جناس الاشتقاق، في قوله: ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾.
ومنها: الإتيان بالجمع في قوله: ﴿لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ ﴿وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ﴾ حيث لم يقل: رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة؛ إيذانًا بإقدام غير واحد من رجالهم، وغير واحدة من نسائهم على السخرية، واستفظاعًا للشأن الذي كانوا عليه، ولأنّ مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممن يتلهّي ويستضحك، على قوله: ولا يأتي ما عليه من النهي والإنكار، فيكون شريك الساخر، وتلْوه في تحمّل الوزر، وكذلك كل من يستطيبه ويضحك منه، فيؤدّي ذلك وإن أوجده واحد إلى تكثير السخرة، وانقلاب الواحد جماعة وقومًا.
ومنها: تنكير ﴿قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾ و ﴿وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ﴾ إمّا للتعميم أو للتبعيض، والقصد إلى نهي بعضهم عن سخرية بعض.
ومنها: عطف الخاص على العامل في، قوله: ﴿وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ﴾؛ لأنّه داخل في السخرية، بجعل الخاصّ كأنه جنس آخر للمبالغة، ولهذا قيل:
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئِامٌ وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ
فالسخرية تكون باللسان وبالعين والإشارة، واللمز إنّما يكون باللسان فقط.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾ إيذانًا بأنّ من الظنون ما يجب أن يجتنب من غير تبيّن لذلك، ولا تعيين؛ لئلا يجترىء أحد على ظنّ إلا بعد تأمّل، وبعد نظر وتمحيص.
412
ومنها: الاستعارة التمثيلية الرائعة، في قوله: ﴿أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ فقد شبَّه من يغتاب غيره بمن يأكل لحم أخيه ميتًا.
وفيها مبالغات شتّى:
أوّلها: الاستفهام الذي معناه التقرير، كأنه أمر مفروغ منه، مبتوت فيه.
وثانيها: جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولًا بالمحبة.
وثالثها: إسناد الفعل إلى كل أحد للإشعار بأنّ أحدًا من الأحدين لا يحبّ ذلك.
ورابعها: أنه لم يقتصر على تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعله أكره اللحوم، وأبعثها على التقزز.
وخامسها: أنه لم يقتصر على أكل لحم الأخ حتى جعله ميتًا، ومن ثم فَصُحَتْ هذه الآية، وأكبرها أصحاب البيان.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا﴾.
ومنها: الاحتباك في قوله: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾؛ لأنّه حذف من الأول ما يقابل الثاني، ومن الثاني ما يقابل الأول، والأصل: فإن لم تؤمنوا.. فلا تقولوا: آمنّا، ولكن أسلمتم، فقولوا أسلمنا، كما مر.
ومنها: الإتيان بـ: ﴿ثُمَّ﴾ في قوله: ﴿ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾ للإشعار بأنّ اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان، ليس في حال إنشائه فقط، بل وفيما يستقبل، فهي كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾.
ومنها: قصر إفراد وتكذيب، في قوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾؛ لأن فيه تكذيبًا لأعراب بني أسد، حيث اعتقدوا الشركة، وزعموا أنهم صادقون أيضًا في دعوى الإيمان.
ومنها: الاستفهام التوبيخي في قوله: ﴿قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ﴾.
ومنها: تذييل مقرر لما قبله بقوله. ﴿وَاللَّهُ﴾ في: ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾؛
413
لأنّه تقرير لقوله: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾. وفيه أيضًا: مزيد تجهيل وتوبيخ لهم، حيث كانوا يجتهدون في ستر أحوالهم وإخفائها.
ومنها: في قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا...﴾ الآية. فن سماه صاحب "الصناعتين" الاستدراك، وغيره يسميه الاستثناء، هو يتضمن ضربًا من المحاسن زائدًا على ما يدل عليه المدلول اللغويّ، فإن الكلام لو اقتصر فيه على ما دون الاستدراك.. لكان منفّرا لهم؛ لأنّهم ظنّوا الإقرار بالشهادتين من غير اعتقادهما إيمانًا، فأوجبت البلاغة تبيين الإيمان، فاستدرك ما استدركه من الكلام، ليعلم أنّ الإيمان موافقة القلب للسان، ولأنّ انفراد اللسان بذلك يسمّى إسلامًا لا إيمانًا، وزاده إيضاحًا بقوله: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾. وبعضهم يدخل هذا النوع في نطاق فنّ يقال له: جمع المختلفة والمؤتلفة، فإنّهم ظنّوا أنّ الإيمان العمل باللسان ودن العمل بالجنان، فجاء قوله تعالى: ﴿وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ مؤتلفًا لقولهم: ﴿آمَنَّا﴾ وهم يعتقدون أنّ الإيمان مجرد الإقرار باللسان، وخالف ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا﴾ وائتلف به قوله مبيّنًا حقيقة الإيمان، وأنه خلاف ما ظنّوا: ﴿وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدّة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) فرغت من تفسير هذه السورة الكريمة، تمام الساعة الرابعة من يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر الربيع الأول المبارك، من شهور سنة ألف وأربع مئة وخمس عشرة سنة، من سني الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التحيات، ٢٥/ ٣/ ١٤١٥ وصلى الله وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين، آمين يا ربّ العالمين آمين.
414
خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة
مباحث هذه السورة قسمان:
قسم: بين النبيّ - ﷺ - وأمته.
وقسم: يخصّ أمّته، وهو: إما ترك للرذائل، وإما تحلية بالفضائل.
والقسم الأول:
١ - أن لا يقضي المؤمنون في أمر قبل أن يقضي الله ورسوله فيه.
٢ - الهيبة والإجلال لرسول الله - ﷺ -، وأن لا تتجاوز أصواتهم صوته.
٣ - أن لا يخاطبوه باسمه وكنيته. كما يخاطب بعضهم بعضًا، بل يخاطبونه بالنبيّ والرسول.
٤ - أنّ الذين يخفضون أصواتهم عند رسول الله أولئك هم المتقون.
٥ - أنّ من نادوه من وراء الحجرات: كعيينة بن حصن، ومن معه أكثرهم لا يعقلون.
٦ - ذمّ المنّ على الله ورسوله - ﷺ - بالإيمان.
والقسم الثاني هو:
١ - أن لا نسمع كلام الفاسق، حتى نثبّت منه، وتظهر الحقيقة.
٢ - إذا بغت إحدى طائفتين من المؤمنين على أخرى.. وجب قتال الباغية حتى تفيء إلى أمر الله.
٣ - حبب الصلح بين المؤمنين.
٤ - النهي عن السخرية واللمز والتنابز.
٥ - النهي عن سوء الظنّ بالمسلم، وعن تتبع العورات المستورة، وعن الغيبة والنميمة.
415
٦ - الناس جميعًا سواسية، مخلوقون من ذكر وأنثى، لا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلا بالتقوى.
والله أعلم
* * *
416
سورة ق
سورة ق مكّية كلّها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، نزلت بعد المرسلات، وروي عن ابن عباس وقتادة: أنها مكية، إلا آية، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨)﴾ فمدنية، وهي أوّل المفصل على الصحيح، وقيل: أوّله من الحجرات، كما هي عند الشافعية.
وهي خمس وأربعون آيةً، وثلاث مئة وسبع وخمسون كلمةً، وألف وأربع مئة وأربعة وتسعون حرفًا، وسمّيت سورة ق؛ لبدايتها بحرف ق.
الناسخ والمنسوخ: قال محمد بن حزم: وجميعها محكم، إلا آيتين.
إحداهما: قوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ...﴾ (الآية ٣٩)، نسخ الصبر بآية السيف.
الثانية: قوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ (٤٥ الآية)، نسخ بآية السيف.
مناسبتها لما قبلها (١): أنه أشار في آخر السورة السابقة إلى أنّ إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانًا حقًّا، وذلك يقتضي إنكار النبوّة، وإنكار البعث، وافتتح هذه السورة بما يتعلّق بذلك، وعبارة أبي حيان (٢): مناسبتها لآخر ما قبلها: أنه تعالى أخبر أنّ أولئك الذين قالوا: آمنا لم يكن إيمانهم حقًّا، وانتفاء إيمانهم دليل على إنكار نبوّة الرسول - ﷺ -، فقال: ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾. وعدم الإيمان أيضًا يدل على إنكار البعث؛ فلذلك أعقبه به.
(١) المراغي.
(٢) البحر المحيط.
417
فضلها: ومن فضائلها: ما أخرجه مسلم وغيره عن جابر بن سمرة: أنه - ﷺ - كان يقرأ سورة ق في الركعة الأولى من صلاة الفجر.
ومنها: ما أخرجه أحمد ومسلم، وأبو داود والنسائي عن أبي واقد الليثي: أنه - ﷺ - كان يقرأ في العيد بقاف واقتربت.
ومنها: ما أخرجه أبو داود، والبيهقي وابن ماجه عن أم هشام ابنة حارثة قالت: ما أخذت ق والقرآن المجيد إلا من في رسول الله - ﷺ - كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر، إذا خطب الناس وكل ذلك دليل على أنه كان يقرأ بها في المجامع الكبيرة: كالعيدين والجمع؛ لاشتمالها على ابتداء الخلق، والبعث والنشور والمعاد والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب، وروي (١) عنه - ﷺ -: أنه قال: "من قرأ سورة ق.. هوَّن الله عليه ثأرات الموت، وسكراته".
والله أعلم
* * *
(١) االبيضاوي.
418

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (١٧) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠)﴾.
المناسبة
قد قدّمنا آنفًا بيان مناسبة أوّل هذه السورة لآخر السابقة، وأما قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لما ذكر (١) أنهم استبعدوا البعث، فقالوا: رجع
(١) المراغي.
419
بعيد.. أردف ذلك بالدليل الذي يدحض كلامهم، فإنَّ من خلق السماء، وزينها بالكواكب، وبسط الأرض، وجعل فيها رواسي، وأنبت فيها صنوف النبات، وجعل ذلك تذكرةً وتبصرةً لأولي الألباب، ونزّل من السماء ماءً فأنبت به ناضر الجنان، والزرع المختلف الأصناف والألوان، والنخل الباسق ذا الطلع المتراكم بعضه فوق بعض رزقًا لعباده، وأحيا به الأرض الموات، أفلا يستطيع من هذا شأنه أن يخرج الناس من قبورهم بعد بلاهم، وبعد أن يصيروا عظامًا ورفاتًا، وينشئهم خلقًا آخر في حياة أخرى، وعالم غير هذا العالم؟
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه وتعالى لمَّا ذكر تكذيب المشركين للرسول - ﷺ -.. أردف ذلك بذكر المكذبين للرسل من قبله، وبيان ما آل إليه أمرهم، تسليةً لرسوله - ﷺ -، وعبرة لهم، وتنبيهًا إلى أنَّ حاله معهم كحال من تقدمه من الرسل، كُذبوا، فصبروا، فأهلك الله مكذبيهم، ونصرهم، وأعلى كلمتهم، كما قال: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾. وقال: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (١٧١) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (١٧٣)﴾.
ثم ذكر الدليل على البعث الذي أنكرته الأمم التي كذّبت رسلها، بأنّ من خلق العالم بادىء ذي بدءٍ.. فهو على إعادته أقدر.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنّ الله سبحانه لما استدلَّ على إمكان البعث بقوله: ﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ﴾.. أردف ذلك دليلًا آخر على إمكانه، وهو علمه بما في صدورهم، وعدم خفاء شيء من أمرهم عليه، فإنَّ من كان كذلك لا يبعد أن يعيدهم كرةً أخرى.
ثم أخبر بانهم سيعلمون بعد الموت أنّ ما جاء به الدين حقّ لا شكّ فيه، وأنه يوم القيامة تأتي كل نفس ومعها ملكان:
أحدهما: سائق لها إلى المحشر.
420
Icon