تفسير سورة الحجرات

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة الحجرات
تقديم الكتاب والسنة والأدب مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم
أمر الله عز وجل بالتزام أحكام القرآن والسنة، ونهى عن تقديم شيء على كلام الله ورسوله، وألزم المؤمنين بتعظيم النبي صلّى الله عليه وسلّم في خطابهم له، من غير رفع الصوت، وفي ترك مناداتهم له كرعاة الشاء باسمه المجرد عن وصف الرسالة بقولهم: «يا محمد، يا محمد» من خارج حجرات (غرف) زوجاته، تأدبا معه بالآداب العالية المشتملة على التوقير والتعظيم، وهذا صريح في الآيات الآتية، في مطلع سورة الحجرات المدنية بالإجماع من أهل التأويل:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
«١» «٢» «٣» «٤» [الحجرات: ٤٩/ ١- ٥].
يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله لا تتقدموا بقول أو حكم قبل حكم الله
(١) أي لا تتقدموه ولا تسبقوه بالقول والحكم.
(٢) أي لا تكلموه بصوت مرتفع كالجهر فيما بينكم.
(٣) أي لئلا تبطل أو يضيع ثواب أعمالكم.
(٤) أي من خلف أو من خارج الغرف المحاطة بالحيطان.
2468
ورسوله، فربما أخطأتم، واتقوا الله في كل أموركم، وراقبوه في تجاوز ما لم يأذن به الله تعالى ورسوله، فإن الله سميع لأقوالكم، عليم بأفعالكم ونياتكم. وهذا نهي صريح عن مخالفة القرآن والسنة.
نزلت- كما
روى البخاري والترمذي وغيرهما- لما قدم وفد بني تميم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، لو أمّرت الأقرع بن حابس، وقال عمر رضي الله عنه:
يا رسول الله، بل أمّر القعقاع بن معبد، فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، وارتفعت أصواتهما، فنزلت الآية في ذلك.
وأكّد الله تعالى الأدب السابق بغض الصوت، فيا أيها المؤمنون، إذا خاطبتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلا ترفعوا أصواتكم فوق صوته، لأن ذلك يدل على ترك الاحترام والأدب، وخاطبوه بالسكينة والوقار والصوت الهادئ، خلافا لعادتكم مع بعضكم برفع الصوت، والجهر غير المعتاد بالقول، ولا تقولوا: يا محمد، ويا أحمد، ولكن:
يا نبي الله، أو يا رسول الله، توقيرا له، واحتراما لرسالته، نهاكم الله عن رفع الصوت المزعج، خشية أن يذهب ثواب أعمالكم، أو وقوعكم في الكفر، من حيث لا تشعرون بذلك. أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كانوا يجهرون له بالكلام، ويرفعون أصواتهم، فأنزل الله: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ الآية.
ثم رغب القرآن في خفض الصوت، فقال الله تعالى: إن الذين يخفضون أصواتهم أثناء مكالمة النبي صلّى الله عليه وسلّم أو في مجالسه، أخلص الله قلوبهم للتقوى، وجعلها أهلا ومحلا لها، أو اختبرها وطهّرها كما يمتحن الذهب بالنار، فيسّرها وهيأها للتقوى، ولهم مغفرة لذنوبهم، وثواب عظيم على تأدبهم بخفض الصوت وسائر الطاعات. نزلت- كما أخرج ابن جرير- في ثابت بن قيس الذي آلى على نفسه ألا يرفع صوته أبدا على صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ
2469
تألّى أبو بكر ألا يكلم رسول الله إلا كأخي السرار (أي كصاحب السر) فأنزل الله تعالى في أبي بكر: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ.
وروى الإمام أحمد عن مجاهد قال: كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين، رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي الله عنه: إن الذين لا يشتهون المعصية ولا يعملون بها أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
ثم ذمّ الله تعالى الذين ينادون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، من خارج حجرات (بيوت) نسائه، كما يفعل أجلاف الأعراب، فقال الله مرشدا لهم إلى ما هو الخير والأفضل: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ.. أي إن الذين ينادونك أيها النبي من بعيد، من وراء بيوت نسائك، وهم جفاة بني تميم، أكثرهم جهال، لا يعقلون الأصول والآداب الاجتماعية، ولا يقدّرون ما يجب لك من الاحترام والتعظيم. وقوله: أَكْثَرُهُمْ يراد به في أكثر أحوالهم لا يعقلون أو أكثرهم لا كلهم لا يعقلون.
أخرج الطبراني وأبو يعلى بسند حسن عن زيد بن أرقم قال: جاء ناس من العرب إلى حجر النبي صلّى الله عليه وسلّم، فجعلوا ينادون: يا محمد، يا محمد، فأنزل الله: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ الآية.
وفي مصحف ابن مسعود: «أكثرهم بنو تميم لا يعقلون».
وليتهم لو صبروا حتى تخرج إليهم كالمعتاد، لكان لهم في ذلك الخير والمصلحة في الدنيا والآخرة، لما فيه من رعاية حسن الأدب مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورعاية قدره الشريف، والعمل بما يستحقه من الإعظام والاحترام، والله غفور (كثير المغفرة) لذنوب عباده، رحيم (واسع الرحمة) بهم، لا يؤاخذ مثل هؤلاء، فيما فرض منهم من إساءة الأدب، جهلا وعادة قبيحة، فهم يحتاجون إلى التعليم، وهذا حث على التوبة، وترجية لهم وإعلام بقبول توبة التائب، وغفرانه ورحمته لمن أناب ورجع.
2470
التثبت من نقل الأخبار
تناقل الأخبار آفة المجتمعات، فقد يكون بعضها إشاعة، أو كذبا، وقد يكون هناك كثير من المبالغة في الخبر وتضخيمه، وغالبا ما يكون نقل الخبر بحاجة ماسة إلى الدقة في النقل، وضبط اللفظ، وفهم المراد، وتأويل المسموع، لذا كان لا بد من الكتابة أو التدوين أو التسجيل ليكون الخبر صحيحا أو مطابقا للواقع، وقد يكون الخبر كله ملفقا أو موضوعا لدوافع سياسية أو مناصرة اتجاه معين أو لبذر بذور الفرقة، وتأجيج نار الخلاف بين الناس، الأقارب أو الأباعد، لذا أوجب القرآن التثبت من الأخبار، تحقيقا للمصلحة العامة أو الخاصة، ومنعا من إيقاع الفتنة، وزرع الفرقة، فقال الله تعالى:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٦ الى ٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
«١» «٢» «٣» «٤» [الحجرات: ٤٩/ ٦- ٨].
سبب نزول الآية- فيما
أخرجه ابن جرير الطبري وأحمد وغيرهما بسند جيد عن ابن عباس- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق مصدّقا (جابيا للصدقات) وكان معاديا لهم، فأراد إذايتهم، فرجع من بعض طريقه، وكذب عليهم، وقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إنهم قد منعوا الصدقة وطردوني وارتدوا، فغضب النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهمّ بغزوهم، ونظر في ذلك، وبعث خالد بن الوليد إليهم، فورد وفدهم
(١) خارج عن حدود الدين والشرع.
(٢) لوقعتم في المشقة والعنت أي الجهد والهلاك والإثم.
(٣) مخالفة الشرع، والخروج عن الطاعة. [.....]
(٤) الثابتون على الدين، العاملون لصالح الدين والدنيا.
2471
منكرين لذلك، فنزلت الآية بهذا السبب.
وهي وإن نزلت خاصة في هؤلاء القوم، فهي عامة إلى يوم القيامة، ما نسخها شيء.
ومعناها: يا أيها الذين صدقوا بالله ورسوله، إن أتاكم فاجر، لا يبالي بالكذب، بخبر فيه إضرار بأحد، فتبينوا الحقيقة، وتثبتوا من الأمر، ولا تتعجلوا بالحكم حتى تتبصروا في صحة الخبر، لتظهر الحقيقة، خشية أن تصيبوا قوما بالأذى، وتلحقوا بهم ضررا لا يستحقونه، وأنتم جاهلون حالهم، فتصيروا على ما حكمتم عليهم بالخطإ نادمين على ذلك.
وفي تنكير (فاسق) و (نبأ) دلالة على العموم في الفساق والأنباء، مما يدل على أن شهادة الفاسق لا تقبل، وأن خبر الواحد العدل حجة.
وعليكم أيها المؤمنون تعظيم قائدكم، فاعلموا أن معكم رسول الله، فعظموه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم، ولا تقولوا قولا باطلا، ولا تتسرعوا بالحكم على الناس من غير تبيّن حقيقة الخبر، ولو أطاعكم في كثير من الأخبار التي تخبرونه بها باجتهادكم وتقدمكم بين يديه، لأدى ذلك إلى الوقوع في العنت: وهو المشقة والإثم والهلاك.
ولكن الله تعالى أنعم عليكم بنعم كثيرة، فلا تتقدموا في الأمور، واقنعوا بإنعام الله تعالى عليكم، وحبّب، أي قرّب الإيمان إلى بعضكم وحسّنه وخلقه في قلوبكم، وكرّه إليكم الكفر (جحود الخالق وتكذيب الرسل) والفسوق (الخروج عن حدود الدين) والعصيان (المخالفة وعدم الطاعة) أي جعل هذه الثلاثة مكروهة في قلوبكم، بما وصف من العقاب عليها، هؤلاء الذين قبلوا هذه النصائح واستقاموا على طريق الحق ومقتضى الشرع، وأدب الدين، وشكروا الله على ذلك، هم الراشدون المهديون، الذين لم يتورطوا في اتهام غيرهم دون تثبت. وقوله أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ التفات من الخطاب إلى الغيبة.
2472
وإن تحبيب الإيمان إليكم، وتكريه الأمور الثلاثة المتقدمة تفضل الله بها عليكم تفضلا وإنعاما من لدنه، والله عليم بكل الأمور الحادثة والمستقبلة، حكيم في تدبير شؤون خلقه، وفي أقواله وأفعاله، وشرعه وقدره. وقوله: فَضْلًا مصدر مؤكد بنفسه، لأن ما قبله هو بمعناه، إذ التحبيب والتزيين هو نفس الفضل.
كان قتادة رحمه الله يقول: قد قال الله تعالى لأصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وأنتم والله أسخف رأيا، وأطيش أحلاما، فليتّهم رجل نفسه، ولينتصح كتاب الله تبارك وتعالى.
إن في هذا الأدب وهو التثبّت من الأخبار المنقولة، والروايات المروية، فائدة عظيمة للأفراد والجماعات، فكم من خبر مفترى ولّد أحقادا ومنازعات، واتهامات باطلة، فيندم ناقل الخبر لتركه التأمل والتأني،
قال عليه الصلاة والسّلام: «التأني من الله، والعجلة من الشيطان» «١».
فض المنازعات الداخلية (البغاة)
تقع الصراعات أو المنازعات الداخلية المسلحة عادة في كل زمان ومكان، بسبب بعض الشبهات أو التأويلات، من فئات تستبد بها الأهواء أحيانا، أو الجنوح أحيانا، أو مناصرة لحق يرونه، وظلم يبغون رفعه، وتتكبد الأمة خسارة كبيرة في القضاء على الثورات المسلحة والفتن الداخلية، ولو احتكموا إلى القرآن بمعانيه الدقيقة، لما نشب بينهم شيء من الخلاف، وقد أنزل الله تعالى في قرآنه حكما سديدا في هؤلاء في الآيات الآتية:
(١) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بن مالك، وهو ضعيف.
2473

[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٩ الى ١٠]

وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
«١» «٢» «٣» «٤» [الحجرات: ٤٩/ ٩- ١٠].
سبب نزول هذه الآية- فيما
أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وغيرهم- عن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا نبي الله، لو أتيت عبد الله بن أبيّ، فانطلق إليه على حمار، وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة، فبال الحمار، فقال: إليك عني، فو الله، لقد آذاني نتن حمارك، فقال عبد الله بن رواحة: والله، إن بول حماره أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل منهما أصحابه، فوقع بينهما حرب بالجريد والأيدي والنعال، فأنزل الله فيهم وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا...
والمعنى: إذا تقاتلت جماعتان من المسلمين، فعلى ولي الأمر الإصلاح بينهما بالنصح والدعوة إلى الله والإرشاد، وإزالة الشبه، ورفع أسباب الخلاف. والتعبير ب (إن) للدلالة على ندرة الواقعة، والخطاب لولاة الأمور، ويفيد الوجوب. وهو يدل على أن المعصية، وإن عظمت- لا تخرج من الإيمان.
فإن اعتدت أو تجاوزت إحدى الجماعتين على الأخرى، ولم تتقبل النصيحة، فعلى المسلمين أن يقاتلوا الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى حكم الله وترك البغي، ويكون القتال بالسلاح وغيره، يفعل الوسيط ما يحقق المصلحة، وهي الفيئة، فإن تحقق
(١) الطائفة: الجماعة من الناس.
(٢) بغت: ظلمت، والبغي: الظلم وتجاوز الحد.
(٣) ترجع إلى الحالة السوية.
(٤) اعدلوا في كل الأمور، من الإقساط: وهو الحكم بالعدل، وإزالة القسط وهو الجور، والقاسط: الجائر.
2474
المطلوب سلما بغير سلاح، كان مسرفا في الزيادة، وإن تعين السلاح، فعل حتى الفيئة.
فإن رجعت الفئة الباغية عن بغيها، ورضيت بأمر الله وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم، وتؤدي ما يجب عليها للأخرى، حتى لا يتجدد القتال بينهما مرة أخرى، واعدلوا أيها الوسطاء في الحكم بينهما، إن الله يحب العادلين ويجازيهم أحسن الجزاء. وهذا أمر بالعدل في كل الأمور، روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما- فيما
أخرج ابن أبي حاتم والنسائي- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ، بين يدي الرحمن عز وجل، بما أقسطوا في الدنيا».
ثم أمر الله بالإصلاح في كل نزاع، لأن الله جعل بين المؤمنين أخوة في الدين، يجمعهم أصل واحد، وهو الإيمان، فيجب الإصلاح بين كل أخوين متنازعين، وقاعدة الإصلاح قائمة على تقوى الله، لذا أمر الله بعدئذ بالتقوى في هذا الإصلاح وفي كل أمر، بأن يلتزم الجميع بالحق والعدل، والبعد عن الظلم، ورقابة الله وخشيته، فإن المتنازعين إخوة في الدين، والإسلام سوّى بين جميع المؤمنين، لعلكم ترحمون أيها المتخاصمون بسبب التقوى: وهي التزام الأوامر، واجتناب النواهي، وقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ إنما المفيدة للحصر: تفيد أنه لا أخوة إلا بين المؤمنين، لأن الإسلام هو الرباط الجامع بين أتباعه، وهذا يدل على أن أخوة الدين أقوى وأمتن وأخلد من أخوة النسب، كما ذكر القرطبي وغيره.
وليست الفئة الباغية كافرة، قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أمشركون هم أهل صفّين والجمل؟ قال: لا، من الشرك فرّوا، قيل: أفمنافقون؟ قال: لا، لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا. قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.
2475
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «حكم الله تعالى في الفئة الباغية ألا يجهز على جريح، ولا يطلب هارب، ولا يقتل أسير» «١».
ولا ضمان في أثناء القتال بين الفئتين المتحاربتين، فإذا لم يقع قتال، نفّذت الأحكام العادية العامة، فيجب القصاص من القاتل عمدا، وتجب الدية في القتل الخطأ، والكفارة.
إن تحكيم كتاب الله والرضا بما فيه، وإفهام المتأولين خطأ تأويلهم هو قاعدة حل المنازعات الداخلية في الإسلام، ولو طبقت هذه القاعدة لما وجدنا اقتتالا قائما بين المسلمين.
الآداب الاجتماعية ووحدة الشعوب في الإنسانية
الدين رباط جامع بين العقيدة والعبادة، والمعاملة، والأخلاق أو الآداب، وليست الآداب مجرد صفات ترفيه أو كمالية في الإسلام، وإنما هي من صلب الدين، يحكمها مبدأ الحلال والحرام، والثواب والعقاب، والرضا والسخط، خلافا لما يظن بعض الناس خطأ أن الأخلاق صفة كمالية لا تخضع للحساب والعقاب، ومن المعلوم أن تقدم المجتمعات ورقيها إنما يكون بالأخلاق السوية والآداب العالية، لذا كانت سورة الحجرات كلها في الأخلاق والمبادئ الاجتماعية والإنسانية، ومنها هذه الآيات:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١١ الى ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
«٢» «٣» «٤» «٥»
(١) ذكره القرطبي.
(٢) لا يهزأ ولا يحتقر.
(٣) لا يطعن ولا يعب بعضكم بعضا.
(٤) لا تتداعوا بالمكروه من الألقاب.
(٥) ساء الاتصاف بالفسق بعد توافر الإيمان بسبب سواء الآداب.
2476
«١» «٢» [الحجرات: ٤٩/ ١١- ١٣].
ينهى الله تعالى عن السخرية واحتقار الناس، والنهي يفيد التحريم، فيا أيها المصدقون بالله ورسوله، لا يهزأ رجال من آخرين، فربما كان المهزوء به عند الله خيرا من المستهزئ أو الساخر، ولا تهزأ نساء من نساء أخريات، فلربما كانت المهزوء بها أفضل وأكرم عند الله من المستهزئة، ولا يطعن ولا يعب بعضكم بعضا بقول أو فعل أو إشارة، ولا تتداعوا بالألقاب التي يسوء الشخص سماعها، ساء الوصف الذي يوصف به الرجل: وهو الفسق والفجور، بعد اتصافه بالإيمان، فالإيمان فضيلة زاجرة عن ضده وهو الفسق والكفر، ومن لم يتب عما نهى الله عنه من هذه الأوصاف الثلاثة (وهي السخرية، واللمز أو التعييب، والتنابز بالألقاب) فهو من الظالمين أنفسهم وغيرهم، لأن الإصرار على المنهي عنه كفر وظلم.
قال الضحاك: نزلت في وفد بني تميم الذين نزلت الآية الأولى من سورة الحجرات فيهم، استهزءوا بفقراء الصحابة، مثل عمار وخبّاب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم.
وآية وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ نزلت كما
قال ابن عباس في صفية بنت حييّ بن
(١) لا تبحثوا عن العورات والمعايب ولا تكشفوها.
(٢) الشعب: أعظم ما يوجد من جماعات الناس من نسب واحد، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الأسرة والفصيلة، وهم قرابة الرجل الأدنون.
2477
أخطب، أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، إن النساء يعيّرنني، ويقلن لي: يا يهودية بنت يهوديين!! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هلا قلت: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد» فأنزل الله هذه الآية.
وآية وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ نزلت- كما أخرج أصحاب السنن الأربعة عن أبي جبيرة بن الضحاك- قال: كان الرجل منا يكون له الاسمان والثلاثة، فيدعى ببعضها، فعسى أن يكرهه، فنزلت: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ.
ثم أمر الله باجتناب سوء الظن، وحرمه، فيا أيها المصدقون بالله ورسوله، ابتعدوا عن كثير من الظن، فبعض الظن وهو ظن السوء بأهل الخير موقع في الإثم، لنهي الله عنه، وكل رشيد يحترس من سوء الظن ويسد ذرائعه، ثم نهى الله عن التجسس، فلا تبحثوا عن عورات المسلمين ومعايبهم، وتذيعوا أسرارهم ومثالبهم، والتجسس: البحث عما هو مكتوم، من العيوب. والتحسس: البحث عن الأخبار، والاستماع لحديث القوم وهم له كارهون، ثم حرم الله الغيبة: وهي ذكرك أخاك بما يكره، فلا يذكر بعضكم بعضا في غيبته بما يسيء إليه، صراحة أو إشارة، لما فيه من الأذى بالمغتاب، وهو يتناول كل ما يؤذي الآخرين، سواء في الدين أو الدنيا، في الخلق أو الخلق، في المال أو الولد أو الزوجة أو الخادمة أو اللباس ونحو ذلك.
وشبه الله تعالى الغيبة بأكل لحم الإنسان الميت للتنفير، وهو ما يكرهه كل إنسان، وإذا كان يكرهه، فالغيبة مثله، فهي كأكل جثة الإنسان، وهذا تنفير وتوبيخ وتقبيح شديد، فضلا عن كونه محرما شرعا، أي إن الغيبة حرام شراعا، وقبيحة عقلا وعرفا ودينا.
أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال: زعموا أن آية وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً نزلت في سلمان الفارسي، أكل ثم رقد، فذكر رجل أكله ورقاده، فنزلت.
2478
وتجوز الغيبة عند رفع الظلم وفي الشهادة والقضاء والاستشارة والتحذير من الفاسق، ثم جاءت آية الشعوب «١» الإنسانية، فيا أيها الناس- والنداء هنا بصفة الناس وما قبلها بصفة الإيمان- لقد خلقناكم جميعا من أصل واحد، ومن نفس واحدة، من آدم وحواء، فأنتم متساوون، لأن نسبكم واحد، وأباكم واحد، وأمكم واحدة، فلا تفاخر بالأنساب، فالكل سواء، وقد جعلناكم شعوبا (أمما كبيرة) وقبائل دونها للتعارف لا للتناكر، ولا للتفاخر بالأنساب، إن أكرمكم وأفضلكم عند الله بالتقوى أو بعمل صالح، فدعوا التناكر والتفاخر، إن الله عليم بكم وبأعمالكم، خبير بأحوالكم وأموركم.
أخرج الترمذي والدارمي وأحمد عن أبي بكر: «قيل: يا رسول الله، من خير الناس؟ قال: من طال عمره، وحسن عمله».
وحكى الزهراوي: أن سبب نزول هذه الآية غضب الحارث بن هشام، وعتّاب ابن أسيد، حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة.
الإيمان والإسلام
لا تنهض الأمة كلها ولا ترتقي، أو تسمو طفرة واحدة، وإنما تحتاج لفترة زمنية أو تدرج زمني لتشمل التربية جميع أفرادها وجماعاتها، وهكذا كان شأن الأمة الإسلامية في صدر الإسلام، لم يكن الجميع على المنهج الأفضل المطلوب، وإنما هناك تفاوت، فالذين لازموا الرسول صلّى الله عليه وسلّم استناروا بأدبه وأدب القرآن، والذين بعدوا عنه، لم يتنوروا بعد بأخلاق الإسلام، لذا بعد أن حرض القرآن على التقوى، قالت
(١) الشعب: أعظم جماعات الناس من نسب واحد. [.....]
2479
الأعراب (جماعة من سكان البادية وهم بنو أسد) أول ما دخلوا في الإسلام: لنا النسب الشريف، فلنا الشرف، فذمّهم الله تعالى، وأوضح ضعف إيمانهم، كما تصور الآيات الآتية:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١٤ الى ١٨]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الحجرات: ٤٩/ ١٤- ١٨].
آية قالَتِ الْأَعْرابُ نزلت- كما ذكر الواحدي عن مجاهد- في نفر من بني أسد ابن خزيمة، قدموا المدينة في سنة جدبة، وأظهروا الشهادتين، ولم يكونوا مؤمنين في السرّ، وكانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، فأعطنا من الصدقة، وجعلوا يمنون عليه، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية.
والمعنى: قال جماعة من الأعراب سكان البادية، وهم بنو أسد أول ما دخلوا الإسلام: صدقنا بالله ورسوله وآمنا في قلوبنا، فقال الله لهم: لَمْ تُؤْمِنُوا أي لم تصدقوا بقلوبكم، ولكن قولوا: أسلمنا، أي انقدنا لك يا رسول الله، واستسلمنا،
(١) الإيمان: التصديق بالقلب، والإسلام: إعلان أركان الإسلام فهو أعم.
(٢) لم ينقصكم من أعمالكم شيئا.
(٣) لم يقعوا في الشك والتهمة.
(٤) يعدون النعم اعتدادا بها وإظهارا لفضل صاحبها.
(٥) إما مفعول به صريح أو مفعول لأجله.
2480
وسالمناك فلا نحاربك، والإيمان بعد لم يدخل في قلوبكم، والله كثير المغفرة لمن تاب وأناب وأخلص العمل، واسع الرحمة فلا يعذب بعد التوبة.
دلت الآية على أن الإيمان: الذي هو التصديق بالقلب مع اطمئنان النفس أخص من الإسلام: الذي هو الاستسلام والانقياد لله تعالى، الذي يعصم أو يحقن الدم. ثم بيّن القرآن حقيقة الإيمان، إنما المؤمنون الإيمان الخالص: هم الذين صدقوا بالله ورسوله تصديقا تاما في القلب، وإقرارا باللسان، ثم لم يشكوا ولم يترددوا في إيمانهم، بل ثبتوا على حال واحدة، وهي التصديق المحض بالحق مع الاطمئنان النفسي، والأمن الذاتي، وجاهدوا بالأموال والأنفس حق الجهاد، من أجل طاعة الله وابتغاء رضوانه، قاصدين بجهادهم وجه الله وإعلاء كلمته ودينه، أولئك المتصفون بهذه الصفات المذكورة هم الصادقون في إيمانهم.
ثم أمر الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بتوبيخهم وبيان حقيقة أمرهم بقوله: قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي قل أيها الرسول لهم: أتخبرون الله بما في ضمائركم من الدين، أو بقولكم: آمَنَّا وهو يعلم منكم خلاف ذلك، لأنه العليم بكل شيء في السماوات والأرض وما بينهما، فكيف يجهل حقيقة ما تدّعونه من الإيمان؟
ثم ذكر الله سبحانه أن إسلامهم لم يكن لله، فإنهم يمتنون بإسلامهم، أي يعدّون إسلامهم منّة ونعمة عليك أيها النبي، حيث قالوا: جئناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان، أي إنا آمنّا بك، واتّبعناك ولم نحاربك، كما فعلت محارب وحصفة وهوازن وغطفان وغيرهم، فنزلت هذه الآية فيهم، أي في بني أسد، كما حكى الطبري وغيره.
قل أيها النبي: لا تعدّوا أيها الأعراب إسلامكم منّة علي، فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم، بل الله يمتن عليكم، حين وفقكم للإيمان، بزعمكم إذ تقولون: آمنا، فقد
2481
لزمكم أن الله تعالى مانّ عليكم إن صدقتم في ادعائكم الإيمان. وفي هذا إيماء إلى أنهم كاذبون في ادعائهم الإيمان.
ثم أكد الله تعالى علمه بكل شيء بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ.. أي إن الله تعالى عليم بما ظهر وما غاب في جميع أنحاء السماوات والأرض، ومن جملة ذلك: ما يسّره كل إنسان في نفسه، والله مطلع على كل شيء من أعمالكم، فهو مجازيكم بالخير خيرا، وبالشر شرا، وهذه الآية تؤكد الإخبار بعلم الله بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات، ليترسخ ذلك في الأذهان ويستقر في أصائل القلوب.
لقد أوضحت هذه الآيات: أن المؤمنين هم الذين يصدقون بقلوبهم أن الله تعالى هو الخالق والقادر والعالم بكل شيء، والرازق صاحب الفضل، والذي لا أول له ولا نهاية، وكل شيء هالك إلا وجهه، وهم يصدقون برسالة رسول الله وأنه خاتم النبيين، وإمام المرسلين، والمبلغ وحي ربه عليه، وأنه عبد الله ورسوله إلى الناس جميعا، لا إلى العرب خاصة، ولم يشكّوا في شيء، وإنما كان إيمانهم كالجبال الرواسي راسخا في القلب، ويقينا تاما لا يشوبه شيء، وأنهم يجاهدون في سبيل الله جهادا بالنفس والمال.
وأما الإسلام: فهو الإعلان باللسان عن أركانه، من النطق بالشهادتين، وتنفيذ واجباته، من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا.
2482
Icon