تفسير سورة المجادلة

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه الجصاص . المتوفي سنة 370 هـ

قوله عز وجل :﴿ قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا ﴾ إلى قوله :﴿ وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾.
روى سفيان عن خالد عن أبي قلابة قال :" كان طلاقهم في الجاهلية الإيلاءَ والظهارَ، فلما جاء الإسلام جعل الله في الظهار ما جعل فيه وجعل في الإيلاء ما جعل فيه ".
وقال عكرمة :" كانت النساء تحرم بالظهار حتى أنزل الله :﴿ قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا ﴾ الآية ".
وأما المجادلة التي كانت في المرأة، فإن عبدالله بن محمد حدثنا قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال : أخبرنا عبدالرزاق قال : أخبرنا معمر عن أبي إسحاق في قوله :﴿ قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا ﴾ :" في امرأة يقال لها خويلة ".
وقال عكرمة : بنتُ ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت، قالت إن زوجها جعلها عليه كظهر أمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" ما أُرَاكِ إلاّ قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ " وهو يومئذ يغسل رأسه، فقالت : انظر جعلني الله فداك يا نبي الله ! قال :" ما أُرَاكِ إِلاّ قَدْ حَرُمْتِ عليه " فأعادت ذلك مراراً، فأنزل الله :﴿ قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا ﴾ إلى قوله :﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ﴾.
قال قتادة :" حرّمها ثم يريد أن يعود لها فيطأها فتحرير رقبة من قبل أن يتماسّا ".
قال أبو بكر : قوله عليه السلام :" ما أراك إلا قد حرمت عليه " يحتمل أن يريد به تحريم الطلاق على ما كان عليه حكم الظهار، ويحتمل أن يريد به تحريم الظهار ؛ والأوْلى أن يكون المراد تحريم الطلاق لأن حكم الظهار مأخوذ من الآية والآية نزلت بعد هذا القول، فثبت أن مراده تحريم الطلاق ورفع النكاح ؛ وهذا يوجب أن يكون هذا الحكم قد كان ثابتاً في الشريعة قبل نزول آية الظهار وإن كان قبل ذلك من حكم أهل الجاهلية. فإن قيل : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم فيها بالطلاق بقوله :" ما أُراكِ إلا قد حرمت " فكيف حكم فيها بعينها بالظهار بعد حكمه بالطلاق بذلك القول بعينه في شخص بعينه ؟ وإنما النسخ يوجب الحكم في المستقبل بخلاف الأول في الماضي. قيل له : لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالطلاق وإنما علّق القول فيه فقال :" ما أُرَاكِ إلا قد حرمت " فلم يقطع بالتحريم، وجائز أن يكون الله تعالى قد أعلمه قبل ذلك أنه سينسخ هذا الحكم وينقله من الطلاق إلى تحريم الظهار الآن، فجوّز النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل الله الآية فلم يُثْبِتِ الحكم فيه، فلما نزلت الآية حكم فيها بموجبها.
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ القَوْلِ وَزُوراً ﴾، يعني والله أعلم في تشبيهها بظهر الأم، لأن الاستمتاع بالأمّ محرم تحريماً مؤبداً، وهي لا تحرم عليه بهذا القول تحريماً مؤبداً، فكان ذلك منكراً من القول وزوراً.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ ﴾ ؛ وذلك خطاب للمؤمنين يدل على أن الظهار مخصوص به المؤمنون دون أهل الذمة. فإن قيل : فقد قال الله :﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لما قَالُوا ﴾ ولم يخصص المذكورين في الثانية. قيل له : المذكورين في الآية الثانية هم المذكورون في الآية الأولى، فوجب أن يكون خاصّاً في المسلمين دون غيرهم.
وأما قوله :﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ﴾ فقد اختلف الناس فيه، فرَوَى معمر عن طاوس عن أبيه :﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ﴾ قال :" الوطء، فإذا حَنَثَ فعليه الكفارة ".
وهذا تأويل مخالف للآية ؛ لأنه قال :﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾. وقد رَوَى سفيان عن ابن أبي نجيح عن طاوس قال :" إذا تكلم بالظهار لزمه ".
ورُوي عن ابن عباس :" أنه إذا قال أنت عليَّ كظهر أمي لم تحلّ له حتى يكفّر ". ورُوي عن ابن شهاب وقتادة :" إذا أراد جماعها لم يَقْرَبْها حتى يكفر ".
وقد اختلف فقهاء الأمصار في معنى العَوْدِ، فقال أصحابنا والليث بن سعد :" الظهار يوجب تحريماً لا يرفعه إلا الكفارة " ومعنى العَوْدِ عندهم استباحة وطئها فلا يفعله إلا بكفارة يقدّمها. وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف :" لو وطئها ثم ماتت لم يكن عليه كفَّارة ".
وقال الثوري :" إذا ظاهر منها لم تحلّ له إلا بعد الكفّارة، وإن طلّقها ثم تزوجها لم يطأها حتى يكفّر "، وهذا موافق لقول أصحابنا.
وقال ابن وهب عن مالك :" إذا أجمع بعد الظهار على إمساكها وإصابتها فقد وجبت عليه الكفارة، فإن طلقها بعد الظهار ولم يُجْمعْ على إمساكها وإصابتها فلا كَفارةَ عليه، وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسّها حتى يكفّر كفارة الظهار ".
وذكر ابن القاسم عنه أنه إذا ظاهر منها ثم وطئها ثم ماتت فلا بدّ من الكفارة لأنه وطىء بعد الظهار.
وقال أشهب عن مالك :" إذا أجمع بعد الظهار على إمساكها وإصابتها وطلب الكفّارة فماتت امرأته فعليه الكفارة ".
وقال الحسن :" إذا أجمع رأيُ المظاهر على أن يجامع امرأته فقد لزمته الكفارة وإن أراد تركها بعد ذلك ؛ لأن العَوْدَ هو الإجماع على مجامعتها ".
وقال عثمان البتّي فيمن ظاهر من امرأته ثم طلقها قبل أن يطأها قال :" أرى عليه الكفارة راجَعَها أو لم يراجِعْها، وإن ماتت لم يصل إلى ميراثها حتى يكفّر ".
وقال الشافعي :" إن أمكنه أن يطلقها بعد الظهار فلم يطلّق فقد وجبت الكفارة ماتت أو عاشت ".
وحُكي عن بعض من لا يُعَدُّ خِلافاً أن العَوْدَ أن يعيد القول مرتين.
قال أبو بكر : روت عائشة وأبو العالية أن آية الظهار نزلت في شأن خولة حين ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بعتق رقبة فقال : لا أجد، فقال :" صُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ " قال : لو لم آكل في اليوم ثلاث مرات كاد أن يُغْشَى على بصري، فأمره بالإطعام. وهذا يدل على بطلان قول من اعتبر العزم على إمساكها ووطئها ؛ لأنه لم يسأله عن ذلك، وبطلان قول من اعتبر إرادة الجماع ؛ لأنه لم يسأله، وبطلان قول من اعتبر الطلاق ؛ لأنه لم يقل هل طلقتها، وبطلان قول من اعتبر إعادة القول ؛ لأنه لم يسأله هل أعدت القول مرتين ؛ فثبت قول أصحابنا وهو أن لفظ الظهار يوجب تحريماً ترفعه الكفارة.
ومعنى قوله تعالى :﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ﴾ يحتمل وجهين، أحدهما : ذكر الحال الذي خرج عليه الخطاب، وهو أنه قد كان من عادتهم في الجاهلية الظهار.
فقال :﴿ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ ﴾ قبل هذه الحال ﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ﴾ والمعنى : ويعودون بعد الإسلام إلى ذلك، كما قال تعالى :﴿ فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد ﴾ [ يونس : ٤٦ ] ومعناه : والله شهيد، فيكون نفس القول عوداً إلى العادة التي كانت لهم في ذلك، كما قال :﴿ حتى عاد كالعرجون القديم ﴾ [ يس : ٣٩ ] والمعنى : حتى صار كذلك، وكما قال أمية بن أبي الصلت :
* هَذِي المَكَارِمُ لا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ * شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالا *
معناه : صارا كذلك لأنهما في الثدي لم يكونا كذلك. وكما قال لبيد :
* وَما المَرْءُ إلاّ كالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ * يَحُورُ رَمَاداً بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ *
ويحور يرجع، وإنما معناه ههنا يصير رماداً ؛ كذلك :﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ﴾ أنهم يصيرون إلى حال الظهار الذي كان يكون مثله منهم في الجاهلية.
والوجه الآخر : أنه معلوم أن حكم الله في الظهار إيجابُ تحريم الوطء موقتاً بالكفارة، فإذا كان الظهار مخصوصاً بتحريم الوطء دون غيره ولا تأثير له في رفع النكاح وجب أن يكون العَوْدُ هو العَوْد إلى استباحة ما حرّمه بالظهار، فيكون معناه : يعودون للمقول فيه، كقوله عليه السلام :" العَائِدُ في هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَعُودُ في قَيْئِهِ " وإنما هو عائد في الموهوب، وكقولنا : اللهم أنت رجاؤنا، أي مَنْ رَجَوْنَا ؛ وقال تعالى :﴿ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ﴾ [ الحجر : ٩٩ ] يعني : الموقن به. وقال الشاعر :
* أَخْبِرْ مَنْ لاقَيْتَ أَنْ قَدْ وَفَيْتُمْ * وَلو شِئْتَ قَالَ المُنَبِّؤُونَ أَسَاؤُوا *
* وإِنِّي لرَاجِيكُمْ على بُطْءِ سَعْيِكُمْ * كما فِي بُطُونِ الحَامِلاتِ رَجَاءُ *
يعني مَرْجُوّاً. وكذلك قوله :﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ﴾ معناه : لما حرموا، فيستبيحونه فعليهم الكفارة قبل الاستباحة. ويبطل قول من اعتبر البقاء على النكاح من وجهين، أحدهما : أن الظهار لا يوجب تحريم العقد والإمساك فيكون العَوْدُ إمساكها على النكاح، لأن العود لا محالة قد اقتضى عَوْداً إلى حكم معنى قد تقدم إيجابه، فلا يجوز أن يكون للإمساك على النكاح فيه تأثير. والثاني : أنه قال :﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ ﴾ و " ثم " يقتضي التراخي، ومن جعل العود البقاء على النكاح فقد جعله عائداً عقيب القول بلا تراخٍ وذلك خلاف مقتضى الآية، وأما من جعل العَوْدَ العزيمة على الوطء فلا معنى لقوله أيضاً ؛ لأن موجب القول هو تحريم الوطء لا تحريم العزيمة، والعزيمةُ على المحظور وإن كانت محظورة فإنما تعلق حكمها بالوطء، فالعزيمة على الانفراد لا حكم لها. وأيضاً لا حظ للعزيمة في سائر الأصول ولا تتعلق بها الأحكام، ألا ترى أن سائر العقود والتحريم لا يتعلق بالعزيمة فلا اعتبار بها ؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ الله عَفَا لأُمَّتي عما حدَّثَتْ به أَنْفُسَهَا ما لم يَتَكَلَّمثوا به أَوْ يَعْمَلوا به ".
فإن قيل : هلاّ كان العود إعادة القول مرتين، لأن اللفظ يصلح أن يكون عبارة عنه كما قال الله تعالى :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ] ومعناه لفعلوا مثل ما نهوا عنه ! قيل له : هذا خطأ من وجهين، أحدهما : أن إجماع السلف والخلف جميعاً قد انعقد بأن هذا ليس بمراد، فقائله خارج عن نطاق الإجماع. والثاني : أنه يجعل قوله :﴿ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا ﴾ تكراراً للقول واللفظ مرتين، والله تعالى لم يقل ثم يكررون القول مرتين، ففيه إثبات معنى لا يقتضيه اللفظ ولا يجوز أن يكون عبارة عنه، وإن حملته على أنه عائد لمثل القول ففيه إضمار لمثل ذلك القول وذلك لا يجوز إلا بدلالة، فالقائل بذلك خارج عن الإجماع ومخالف لحكم الآية ومقتضاها.
فإن قيل : وأنت إذا حملته على تحريم الوطء وأن تقديم الكفارة لاستباحة الوطء فقد زلت عن الظاهر. قيل له : إذا كان الظهار قد أوجب تحريم الوطء فالذي يستبيحه منه هو الذي حرمه بالقول، فجاز أن يكون ذلك عَوْداً لما قال ؛ إذ هو مستبيح لذلك الوطء الذي حرمه بعينه وكان عوداً لما قال من إيجاب التحريم. ومن جهة أخرى أن الوطء إذا كان مستحقاً بعقد النكاح وحكم الوطء الثاني كالأول في أنه مستحق بسبب واحد ثم حرمه بالظهار، جاز أن يكون الإقدام على استباحته عوداً لما حرّم فكان هذا المعنى مطابقاً للفظ.
فإن قيل : إن كانت الاستباحة هي الموجبة للكفارة فليس يخلو ذلك من أن يكون العزيمة على الاستباحة وعلى الإقدام على الوطء أو إيقاع الوطء، فإن كان المراد الأوّل فهذا يُلْزِمك إيجابَ الكفارة بنفس العزيمة قبل الوطء كما قال مالك والحسن بن صالح، وإن كان المراد إيقاع الوطء فواجب أن لا تلزمه الكفارة إلا بعد الوطء، وهذا خلاف الآية وليس هو قولك أيضاً. قيل له : المعنى في ذلك هو ما قد بيَّنا من الإقدام على استباحة الوطء، فقيل له : إذا أردت الوَطْءَ وعدت لاستباحة ما حرمته فلا تطأْ حتى تكفر، لا أن الكفارة واجبة ولكنها شرط في رفع التحريم، كقوله تعالى :﴿ فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ﴾ [ النحل : ٩٨ ] يعني فقدِّم الاستعاذة قبل القراءة، وقوله :﴿ إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ﴾ [ المائدة : ٦ ] والمعنى : إذا أردتم القيام وأنتم مُحْدِثُون فقدّموا الغسل، وقوله :﴿ إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ﴾ [ المجادلة : ١٢ ]، وكقوله :﴿ إِذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ﴾ [ الطلاق : ١ ] والمعنى : إذا أردتم ذلك.
قال أبو بكر : قد ثبت بما قدّمنا أن الظهار لا يوجب كفارة وإنما يوجب تحريم الوطء ولا يرتفع إلا بالكفارة، فإذا لم يُرِدْ وَطْأَها فلا كفّارة عليه، وإن ماتت أو عاشت فلا شيء عليه، إذ كان حكم الظهار إيجاب التحريم فقط موقتاً بأداء الكفارة، وأنه متى لم يكفِّرْ فالوطء محظور عليه فإن وَطِىءَ سقط الظهار والكفارة، وذلك لأنه علق حكم الظهار وما أوجب به من الكفارة بأدائها قبل الوطء لقوله :﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾، فمتى وقع المَسِيسُ فقد فات الشرط فلا تجب الكفارة بالآية ؛ لأن كل فرض محصور بوقت أو معلق على شرط فإنه متى فات الوقت وعُدِمَ الشرط لم يجب باللفظ الأول واحتيج إلى دلالة أخرى في إيجاب مثله في الوقت الثاني. فهذا حكم الظهار إذا وقع المسيس قبل التكفير، إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً ظاهر من امرأته فوطئها قبل التكفير ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له :" اسْتَغْفِرِ الله ولا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ " فصار التحريم الذي بعد الوطء واجباً بالسنة.
وقد اختلف السلف فيمن وطىء ما الذي يجب عليه من الكفارة بعده، فقال الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم وابن المسيب :" ليس عليه إلا كفارة واحدة "، وكذلك قول مجاهد وطاوس وابن سيرين في آخرين. وقد رُوي عن عمرو بن العاص وقبيصة بن ذؤيب والزهري وقتادة :" عليه كفارتان ".
قال : ورُوي عن ابن عباس أن رجلاً قال : يا رسول الله ظاهرت من امرأتي فجامعتها قبل أن أكفر ؟ فقال :" اسْتَغْفِرِ الله ولا تَعُدْ حَتّى تُكَفِّرَ " فلم يوجب عليه كفارتين بعد الوطء.
واختلف الفقهاء في توقيت الظهار، فقال أصحابنا والثوري والشافعي :" إذا قال أنت عليَّ كظهر أمي اليوم بطل الظهار بمضيِّ اليوم "، وقال ابن أبي ليلى ومالك والحسن بن صالح :" هو مظاهر أبداً ". قال أبو بكر : تحريم الظهار لا يقع إلا موقّتاً بأداء الكفارة، فإذا وَقَّته المظاهرُ وجب توقيته لأنه لو كان مما لا يُتَوَقَّت لما انحلّ ذلك التحريم بالتكفير ك
قال أبو بكر : لما قال تعالى :﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ﴾ كان ذلك عموماً في حَظْرِ جميع ضروب المسيس من لَمْس بيد أو غيرها، وأيضاً لما قال :﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ﴾ فألزمه حكم التحريم لتشبيهه بظهرها، وجب أن يكون ذلك التحريم عامّاً في المباشرة والجماع كما أن مباشرة ظهر الأمّ ومَسِّه محرم عليه.
وأيضاً حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا زياد بن أيوب قال : حدثنا إسماعيل قال : حدثنا الحكم بن أبان عن عكرمة : أن رجلاً ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفِّر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، قال :" فاعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ " ؛ ورواه معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال :" لا تَقْرَبْها حَتَّى تُكَفِّرَ "، وذلك يمنع المسيس والقبلة.
في ظهار المرأة من زوجها :
قال أصحابنا :" لا يصحّ ظهار المرأة من زوجها "، وهو قول مالك والثوري والليث والشافعي.
وذكر الطحاويّ عن ابن أبي عمران عن عليّ بن صالح عن الحسن بن زياد أنها إذا قالت لزوجها أنْتَ عليَّ كظهر أمي أو كظهر أخي كانت مظاهرةً من زوجها، قال عليّ : فسألتُ محمد بن الحسن فقال : ليس عليها شيءٌ، فأتيتُ أبا يوسف فذكرت له قوليهما فقال : هذان شَيْخَا الفقه أخْطَئا، هو تحريمٌ عليها كفّارَةُ يَمينٍ كقولها أنْتَ عليَّ حرام. وقال الأوزاعي :" هي يمين تكفّرها " ، وقال الحسن بن صالح :" تُعْتِقُ رقبة وتكفّر بكفّارة الظهار، فإن لم تفعل وكفّرت يميناً رَجَوْنا أن يجزيها " ، وروى مغيرة عن إبراهيم قال : خطب مصعب بن الزبير عائشة بنت طلحة فقالت : هو عليها كظهر أبيها إن تزوجته، فلما وَلي الإمارة أرسل إليها، فأرسلت تسأل والفقهاء يومئذ بالمدينة كثير، فأفتوها أن تعتق رقبة وتزوَّجه ؛ وقال إبراهيم : لو كانت عنده يعني عند زوجها يوم قالت ذلك ما كان عليها عِتْقُ رقبة، ولكنها كانت تملك نفسها حين قالت ما قالت.
ورُوي عن الأوزاعي أنها إذا قالت :" إن تزوجتهُ فهو عليَّ كظهر أبي " كانت مظاهرةً، ولو قالت وهي تحت زوج كان عليها كفّارة يمين. قال أبو بكر : لا يجوز أن تكون عليها كفارة يمين لأن الرجل لا تلزمه بذلك كفارة يمين وهو الأصل، فكيف يلزمها ذلك ! كما أن قول الرجل :" أنت طالق " لا يكون غير طالق، كذلك ظهارها لا يلزمها به شيء ولا يصح منها ظهار بهذا القول ؛ لأن الظهار يوجب تحريماً بالقول وهي لا تملك ذلك كما لا تملك الطلاق إذْ كان موضوعاً لتحريم يقع بالقول.
واختلفوا فيمن قال أنت عليّ كظهر أبي، فقال أصحابنا والأوزاعي والشافعي :" ليس بشيء "، وقال مالك :" هو مظاهر ". قال أبو بكر : إنما حكم الله تعالى بالظهار فيمن شبّهها بظهر الأمّ ومن جَرَى مجراها من ذوات المحارم التي لا يجوز له أن يستبيح النظر إلى ظهرها بحال، وهو يجوز له النظر إلى ظهر أبيه والأبُ والأجنبيُّ في ذلك سواء، ولو قال :" أنتِ عليّ كظهر الأجنبيّ " لم يكن شيئاً، فكذلك ظهر الأب.
واختلفوا فيمن ظاهر مراراً، فقال أصحابنا والشافعي :" عليه لكل ظهار كفّارةٌ إلا أن يكون في مجلس واحد وأراد التكرار فتكون عليه كفارة واحدة ". وقال مالك :" من ظاهر من امرأته في مجالس متفرقة فليس عليه إلا كفّارة واحدة، وإن ظاهر ثم كفَّر ثم ظاهر فعليه الكفارة أيضاً ". وقال الأوزاعي :" عليه كفّارةٌ واحدةٌ وإن كان في مقاعد شتَّى ".
قال أبو بكر : الأصل أن الظهار لما كان سبباً لتحريم ترفعه الكفارة أن تجب بكل ظهار كفارةٌ، إلا أنهم قالوا إذا أراد التكرار في مجلس واحد فعليه كفارة واحدة، لاحتمال اللفظ لما أراد من التكرار. فإن قيل : قوله :﴿ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ﴾ يقتضي إيجاب كفارة واحدة وإن ظاهر مراراً ؛ لأن اللفظ لا يختصّ بالمرة الواحدة دون المرار الكثيرة.
قيل له : لما كانت الكفارة في رفع التحريم متعلقة بحرمة اللفظ أشْبَهَ اليمينَ، فمتى حلف مراراً لزمه لكل يمين كفارة إذا حنث، ولم يكن قوله :﴿ فكفارته إطعام عشرة مساكين ﴾ [ النساء : ٢٣ ] موجباً للاقتصار بالأيمان الكثيرة على كفارة واحدة.
واختلفوا في المُظَاهِرِ هل يجبر على التكفير ؟ فقال أصحابنا :" لا ينبغي للمرأة أن تَدَعَهُ يَقْرَبُها حتى يكفّر ". وذكر الطحاوي عن عباد بن العوام عن سفيان بن حسين قال : سألت الحسن وابن سيرين عن رجل ظاهر من امرأته فلم يكفر تهاوناً، قال : تَسْتَعدي عليه ؛ قال : وسألت أبا حنيفة، فقال : تستعدي عليه. وقال مالك :" عليها أن تمنعه نفسها ويَحُول الإمام بينه وبينها ". وقول الشافعي يدلّ على أنه يحكم عليه بالتكفير. قال أبو بكر : قال أصحابنا :" يجبر على جماع المرأة فإن أبى ضَرَبته "، رواه هشام ؛ وهذا يدلّ على أنه يجبر على التكفير ليوفيها حقَّها من الجماع.
واختلفوا في الرقبة الكافرة عن الظهار، فقال عطاء ومجاهد وإبراهيم وإحدى الروايتين عن الحسن :" يُجزي الكافر "، وهو قول أصحابنا والثوري والحسن بن صالح، ورُوي عن الحسن :" أنه لا يجزي في شيء من الكفارات إلا الرقبة المؤمنة "، وهو قول مالك والشافعي.
قال أبو بكر : ظاهر قوله :﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ يقتضي جواز الكافرة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم للمظاهر :" أَعْتِقْ رَقَبَةً " ولم يشترط الإيمان، ولا يجوز قياسها على كفّارة القتل لامتناع جواز قياس المنصوص بعضه على بعض، ولأن فيه إيجاب زيادة في النص وذلك عندنا يوجب النسخ.
واختلفوا في جواز الصوم مع وجود رقبة للخدمة، فقال أصحابنا :" إذا كانت عنده رقبة للخدمة ولا شيء له غيرها أو كان عنده دراهم ثمن رقبة ليس به غيرها لم يُجْزِهِ الصوم "، وهو قول مالك والثوري والأوزاعي. وقال الليث والشافعي :" من له خادم لا يملك غيره فله أن يصوم "، قال الله :﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ ﴿ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ﴾ فأوجب الرقبة بدياً على واجدها ونقله إلى الصوم عند عدمها، فلما كان هذا واجداً لها لم يُجْزِهِ غيره.
فإن قيل : هو بمنزلة من معه ماء يخاف على نفسه العطش فيجوز له التيمم. قيل له : لأنه مأمور في هذه الحال باستبقاء الماء وهو محظور عليه استعماله وليس بمحظور عليه عند الجميع عِتْقُ هذه الرقبة، فعلمنا أنه واجد.
واختلفوا في عِتْقِ أمّ الولد والمدَبَّر والمكاتَب ونحوهم في الكفارة، فقال أصحابنا :" لا يجوز عِتْقُ أمّ الولد والمدبر والمكاتب إذا كان قد أدَّى شيئاً عن الكتابة، ولا المدبر، فإن لم يكن أدَّى شيئاً أجزأه، وإن اشترى أباه ينوي به عن كفارته جاز، وكذلك كل ذي رحم محرم، ولو قال : كل عبد أشتريه فهو حرّ، ثم اشترى عبداً ينويه عن كفارته لم يُجْزِهِ ". وقال زفر :" لا يجزي المكاتب وإن لم يكن أدَّى شيئاً ". وقال مالك :" لا يجزي المكاتب ولا المدبر ولا أم الولد ولا معتق إلى سنين عن الكفارة ولا الولد والوالد ". وقال الأوزاعي :" لا يجزي المكاتب ولا المدبر ولا أم الولد ". وقال عثمان البتّي :" يجزي المدبر وأم الولد في كفارة الظهار واليمين ". وقال الليث :" يجزي أن يشتري أباه فيعتقه بالكفارة التي عليه ". وقال الشافعي :" لا يجزي من إذا اشتراه عتق عليه، ويجزي المدبر ولا يجزي المكاتب وإن لم يؤدِّ شيئاً، ويجزي المعتق إلى سنين ولا تجزي أم الولد ".
قال أبو بكر : أما أم الولد والمدبر فإنهما لا يجزيان من قِبَلِ أنهما قد استحقَّا العتق من غير جهة الكفارة، ألا ترى أن ما ثبت لهما من حق العتاق يمنع بيعهما ولا يصح فسخ ذلك عنهما ؟ فمتى أعتقهما فإنما عجّل عِتْقاً مستَحقّاً، وليس كذلك من قال له المولى :" أنت حرّ بعد شهر أو سنة " لأنه لم يثبت له حق بهذا القول يمنع بيعه، ألا ترى أنه يجوز له أن يبيعه ؟ وأما المكاتب فإنه وإن لم يجز بيعه فإن الكتابة يلحقها الفسخ، وإنما لا يجوز بيعه كما لا يجوز بيع الآبق والعبد المرهون والمستأجر فلا يمنع ذلك جواز عتقه عن الكفارة، فإن أعتق المكاتب قبل أن يؤدي شيئاً فقد أسقط المال فصار كمن أعتق عبداً غير مُكَاتِبٍ، وإن كان قد أدَّى شَيئاً لَمْ يَجُزْ مِنْ قِبَلِ أن الأداء لا ينفسخ بعتقه فقد حصل له عن عتقه بَدَلٌ فلا يجزي عن الكفارة، وأما إذا اشترى أباه فإنه يجزي إذا نوى لأن قبوله للشِّرَى بمنزلة قوله أنت حرّ ؛ والدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدَهُ إِلاّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ "، ومعلوم أن معناه : يعتقه بشرائه إياه، فجعل شراءه بمنزلة قوله :" أنت حرّ " فأجزأ، بمنزلة من قال لعبده : أنت حرّ.
واختلفوا في مقدار الطعام، فقال أصحابنا والثوري :" لكلّ مسكين نِصْفُ صاعٍ بُرٌّ أو صاعُ تمرٍ أو شعيرٍ ". وقال مالك :" مُدٌّ بمُدِّ هشام، وهو مدَّان إلا ثلثاً بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وذلك من الحنطة، وأما الشعير فإن كان طعام أهل بلده فهو مثل الحنطة وكذلك التمر، وإن لم يكونا طعام أهل البلد أطعمهم من كل واحد منهما وسطاً من شبع الشعير والتمر ".
وقال الشافعي :" لكل مسكين مُدٌّ من طعام بلده الذي يقتات حنطة أو شعير أو أرز أو تمر أو أَقِطُّ، وذلك بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعتبر مُدٌّ أُحْدِثَ بعده ". حدثنا محمد بن بكر قال : حدثنا أبو داود قال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن سليمان الأنباري قالا : حدثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر قال : كنت امرءاً أُصيب من النساء، وذكر قصة ظهاره من امرأته وأنه جامع امرأته وسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال :" حَرِّرْ رَقَبَةً "، فقلت : والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها ! وضربتُ صفحة رقبتي، قال :" فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ "، قال : وهل أصبت الذي أصبت إلاّ من الصيام ؟ قال :" فَأَطْعِمْ وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ بَيْنَ سِتّينَ مِسْكِيناً "، قلت : والذي بعثك بالحق نبياً لقد بتنا وحشين وما لنا طعام ! قال :" فانْطَلِقْ إلى صَاحِبِ صَدَقَةِ بني زُرَيْقٍ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ فأَطْعِمْ سِتّينَ مِسْكِيناً وَسْقاً مِنْ تَمْرٍ، وكُلْ أَنْتَ وعِيَالُكَ بَقِيَّتَها ".
فإن قيل : رَوَى إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار : أن خولة بنت مالك بن ثعلبة ظاهر منها زوجُها أوس بن الصامت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" مُرِيهِ فَلْيَذْهَبْ إلى فُلانٍ فإنَّ عِنْدَهُ شَطْرَ وَسْقٍ فَلْيَأْخُذْهُ صَدَقَةً عليه ثمَّ يَتَصَدَّق به على سِتِّينَ مِسْكِيناً ". وروى عبدالله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن معمر بن عبدالله بن حنظلة عن يوسف بن عبدالله بن سلام عن خوله :" أن زوجها ظاهر منها، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يتصدّق بخمسة عشر صاعاً على ستّين مسكيناً " ، قيل له : قد روينا حديث محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء وأنه أمره بأن يطعم وسقاً من تمر ستين مسكيناً، وهذا أوْلى لأنه زائد على خبرك. وأيضاً فجائز أن يكون ال

باب كيف يحيّى أهل الكتاب :


قال الله تعالى :﴿ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله ﴾، روى سعيد عن قتادة عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذْ أتى عليهم يهوديّ، فسلّم عليهم فردّوا عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( هَلْ تَدْرُونَ ما قال ؟ ) قالوا : سلّم يا نبيَّ الله ! قال :( قالَ سَامٌ عَلَيْكُمْ أَيْ تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ ). وقال نبي الله صلى الله عليه وسلم :( إِذا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ فقُولُوا عَلَيْكَ أَيْ عَلَيْكَ مَا قُلْتَ )، وحدثنا عبدالباقي بن قانع قال : حدثنا إسحاق بن الحسين قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا : سفيان عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إِذَا لَقِيتُمُ المُشْرِكِينَ في الطَّرِيقِ فلا تَبْدَؤُوهُمْ بالسَّلامِ واضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ ).
قال أبو بكر : قد رُوي في حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون بقولهم السام أنكم تسأمون دينكم، ورُوي أنهم يريدون به الموت ؛ لأن السَّامَ اسمٌ من أسماء الموت.
قال أبو بكر : ذكر هشام عن محمد عن أبي حنيفة قال :( نرى أن نردّ على المشرك السلام ولا نرى أن نبدأه )، وقال محمد :( وهو قول العامة من فقهائنا ). وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا عمرو بن مرزوق قال : حدثنا شعبة عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال : صحبنا عبدالله في سفر ومعنا أناس من الدهاقين، قال : فأخذوا طريقاً غير طريقنا، فسلّم عليهم، فقلت لعبدالله : أليس هذا تكره ؟ قال : إنه حقُّ الصُّحبة. قال أبو بكر : ظاهره يدل على أن عبدالله بدأهم بالسلام لأن الرَّدَّ لا يُكْرَهُ عند أحد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( إذا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فقُولُوا وعَلَيْكُمْ ). قال أبو بكر : وإنما كره الابتداء لأن السلام من تحية أهل الجنة، فكره أن نبدأ به الكافر إذ ليس من أهلها، ولا يكره الردّ على وجه المكافأة، قال الله تعالى :﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردّوها ﴾ [ النساء : ٨٦ ]. وحدثنا عبدالباقي قال : حدثنا الحسن بن المثنَّى قال : حدثنا عثمان قال : حدثنا عبدالواحد قال : حدثنا سليمان الأعمش قال : قلت لإبراهيم : أختلف إلى طبيب نصراني أسلّمُ عليه ؟ قال : نعم، إذا كانت لك إليه حاجة فسلِّمْ عليه.
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا في المَجَالِسِ فَافْسَحُوا ﴾ قال قتادة :" كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم فقيل لهم تفسحوا ". وقال ابن عباس :" هو مجلس القتال ". قال قتادة :﴿ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا ﴾ قال :" إذا دُعيتم إلى خير "، وقيل : انْشُزُوا أي ارتفعوا في المجلس ؛ ولهذا ذكر أهل العلم لأنهم أحقّ بالرفعة. وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يرفع مجلس أهل العلم على غيرهم ليبيّن للناس فضلهم ومنزلتهم عنده، وكذلك يجب أن يُفعل بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى :﴿ يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُوا الأَحْلاَمِ والنُّهَى ثمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثم الّذين يَلُونَهُمْ " فرتب أُولي الأحلام والنُّهَى في أعلى المراتب، إذ جعلهم في المرتبة التي تلي النبوة.
قوله تعالى :﴿ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ﴾، رَوَى لَيثٌ عن مجاهد قال : قال علي :" إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم، ثم نُسخت ". ورَوَى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قال :" إن المسلمين أكثروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل حتى شقّوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فلما نزلت :﴿ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ﴾ كفَّ كثير من المسلمين عن المسألة، فأنزل الله :﴿ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ﴾ الآية، فوسع لهم ".
قال أبو بكر : قد دلّت الآية على أحكام ثلاثة، أحدها : تقديم الصدقة أمام مناجاتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لمن يجد، والثاني : الرخصة في المناجاة لمن لا يجد الصدقة بقوله :﴿ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فإنّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾، فهذا يدل على أن المسألة كانت مباحة لمن لم يجد الصدقة، والثالث : وجوب الصدقة أمام المسألة بقوله :﴿ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ ﴾. حدثنا عبدالله بن محمد قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال : أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن أيوب عن مجاهد في قوله :﴿ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ﴾ الآية، قال علي رضي الله عنه :" ما عمل بها أحد غيري حتى نُسخت وما كانت إلا ساعة ".
قوله تعالى :﴿ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ الله ورَسُولَهُ ﴾. قال أبو بكر : المحادَّةُ أن يكون كل واحد منهما في حَدٍّ وحَيِّزٍ غير حدّ صاحبه وحيّزه، فظاهره يقتضي أن يكون المراد أهْلَ الحرب لأنهم في حدّ غير حدّنا، فهو يدل على كراهة مناكحة أهل الحرب وإن كانوا من أهل الكتاب ؛ لأن المناكحة توجب المودة، قال الله تعالى :﴿ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ﴾ [ الروم : ٢١ ].
Icon