" بسم الله " اسم عزيز إذا تجلى لقلب عبد بوصف جماله تجمعت أفكاره على بساط جوده فلم يتفرق بسواه.
ومن تجلى لسره بنعت جلاله اندرجت جملته، واستهلك في وجوده فلم يشعر بكرائم دنياه ولا بعظائم عقباه.
وكم لم من إنعام ! وكم له من إحسان ! وكم في أمثالهم :" جرى الوادي فطم على القري ".
ﰡ
تَسْبَحُ في بحارِ توحيد الحقِّ أسرارُ أهلِ التحقيق، وبَحْرُهم بلا شاطئ ؛ فبعد ما حصلوا فيها فلا خروجَ ولا براحَ، فحازت أيديهم جواهرَ التفريد فرصَّعوها في تاج العرفان كي يَلْبَسُوه يومَ اللِّقاء.
﴿ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعِزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾.
﴿ الْمَلِكِ ﴾ : الملك المتفرِّد باستحقاق الجبروت.
﴿ الْقُدُّوسِ ﴾ : المُنزَّهُ عن الدرك والوصول : فليس بيد الخَلْقِ إلاَّ عرفان الحقائق بنعت التعالي، والتأمل في شهود أفعاله، فأمَّا الوقوف على حقيقة أنِّيته - فقد جَلَّتْ الصمديةُ عن إشرافٍ عليه، أو طمعِ إدراكٍ في حالٍ رؤيته، أو جواز إحاطةٍ في العِلْم به. . فليس إلا قالة بلسانٍ مُسْتَنْطقٍ، وحالة بشهودِ حقِّ مستغرق.
وقُلْنَ بنا :
نحن الأهِلَّة إنما | نُضيءُ لِمَنْ يَسْرِي بليلٍ ولا نَقْرِي |
جرَّده كلِّ تكلُّفٍ لِتَعَلُّمٍ، وعن الاتصافِ بتطَلُّبٍ. ثم بَعَثَه فيهم وأظْهَرَ عليه من الأوصاف ما فاق الجميع.
فكما أيْتَمَهُ في الابتداء عن أبيه وأمِّه، ثم آواه بلُطْفِه - وكان ذلك أبلغَ وأتمَّ - فإنه كذلك أفرده عن تكلُّفِه العلم - ولكن قال :﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ﴾ [ النساء : ١١٣ ].
وقال :﴿ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكَتَابُ وَلاَ الإِيَمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً ﴾ [ الشورى : ٥٢ ] ألبسه لباسَ العِزَّة، وتوجَّه بتاج الكرامة، وخَلَعَ عليه حُسْنَ التولِّي. لتكونَ آثارُ البشرية عنه مندرجة، وأنوارُ الحقائقِ عليه لائحة.
يقصد به هنا النبوة، يؤتيها ﴿ مَن يَشَاءُ ﴾ ؛ وفي ذلك ردٌّ على مَنْ قال : إنها تُُسْتَحَقُّ لكثرة طاعة الرسول - وردٌّ على من قال : إنها لتخصيصهم بطينتهم ؛ فالفضل ما لا يكون مُسْتَحَقّاً، والاستحقاق فَرضٌ لا فضل.
ويقال :﴿ فَضْلُ اللَّهِ ﴾ هنا هو التوفيق حتى يؤمِنوا به.
ويقال : هو الأُنْسُ بالله، والعبدُ يَنْسَى كلَّ شيء إذا وَجَدَ الأُنْسَ.
ويقال : قَطَعَ الأسباب، - بالجملة - في استحقاق الفضل، إذا أحاله على المشيئة.
﴿ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا ﴾ : ثم لم يعملوا بها.
ويلْحَقُ بهؤلاء في الوعيد - من حيث الإشارة - الموسومون بالتقليد في أي معنى شِئتَ : في علم الأصول، وممَّا طريقُه أدلةُ العقول، وفي هذه الطريقة ممَّا طريقُه المنازلات.
هذا من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم، فَصَرْفُ قلوبِهم عن تمنِّي الموتِ إلى هذه المدة دَلَّ على صِدْقِه صلوات الله عليه.
ويقال : من علامات المحبة الاشتياقُ إلى المحبوب ؛ فإذا كان لا يَصِلُ إلى لقائه إلا بالموتِ فتمنِّيه - لا محالة - شرطٌ، فأخبر أنهم لا يتمنونه أبداً. . وكان كما أخبر.
الموتُ حَتْمٌ مَقْضِيٌّ. وفي الخبر :" مَنْ كَرَهَ لقاء الله كَرِهَ الله لقاءه ". والموتُ جِسْرٌ والمقصدُ عند الله. . ومَنْ لم يَعِشْ عفيفاً فَلْيَمُتْ ظريفاً.
أوْجَبَ السَّعْيَ يومَ الجمعة إذا نودِيَ لها، وأمَرَ بِتَركِ البيع.
ومنهم من يحمله على الظاهر ؛ أي تَرْك المعاملة مع الخَلْقِ، ومنهم من يحمله عليه وعلى معنىً آخر : هو تَرْكُ الاشتغال بملاحظة الأعراض، والتناسي عن جميع الأغراض إلا معانقة الأمر ؛ فمنهم مَنْ يسعى إلى ذِكْرِ الله، ومنهم من يسعى إلى الله، بل يسعون إلى ذِكْرِ الله جَهْراً بِجَهْرٍ، ويسعون إلى الله تعالى سِرًّا بسِرٍّ.
إنما ينصرف مَنْ كان له جَمْعٌ يرجع إليه، أو شغْلٌ يقصده ويشتغل به - ولكن. . . مَنْ لا شُغْلَ له ولا مأوى. . فإلى أين يرجع ؟ وإنما يقال :﴿ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ ﴾ إذا كان له أرَبٌ. . فأمَّا مَنْ سَكَنَ عن المطالبات، وكُفِيَ داءَ الطَّلَبِ. . فما لَه وابتغاء ما ليس يريده ولا هو في رِقِّه ؟ !
مَنْ أسَرَتْهُ أخطارُ الأشياء استجاب لكلِّ داعٍ جَرَّه إليه لَهْوٌ أو حَمَلَه عليه سهوٌ ومَنْ مَلَكَه سلطانُ الحقيقة لم ينحرف عن الحضور، ولم يلتفت في حال الشهود. ﴿ قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ ﴾ وما عند الله للعُبَّاد والزُّهَّاد - غداً - خيرٌ مما نالوه في الدنيا نقداً. وما عند الله للعارفين - نقداً - من واردات القلوب وبواده الحقيقية خيرٌ مما يُؤمَّل المستأنفِ في الدنيا والعُقْبى.