تفسير سورة التحريم

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة التحريم من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً (٥)
شرح الكلمات:
لم تحرم ما أحل الله لك: أي لم تحرم جاريتك مارية التي أحلها لك.
تبتغي مرضات أزواجك: أي بتحريمها.
قد فرض لكم تحلة أيمانكم: أي شرع لكم تحليلها بالكفارة المذكورة في سورة المائدة.
وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه: هي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.
حديثا: هو تحريم مارية وقوله لها لا تفشيه.
فلما نبأت به: أي نبأت حفصة عائشة أي أختبرها به ظناً منها أنه لا حرج في ذلك باجتهادٍ.
وأظهره الله عليه: أي اطلعه عليه أي على المنبأ به.
عرف بعضه: أي لحفصة.
وأعرض عن بعض: أي تكرما منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إن تتوبا إلى الله: أي حفصة وعائشة رضي الله عنهما تقبل توبتكما.
فقد صغت قلوبكما: أي مالت إلى تحريم مارية أي سركما ذلك.
وإن تظاهرا عليه: أي تتعاونا أي على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يكرهه.
فإن الله هو مولاه: أي ناصره.
وصالح المؤمنين: أي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
والملائكة بعد ذلك ظهير: أي ظهراء وأعوان له.
قانتات: أي عابدات.
سائحات: أي صائمات أو مهاجرات.
معنى الآيات:
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ١ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ
١ روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا، قالت فتواطأت أنا وحفصة إن أيتنا دخل عليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلتقل إني أجد منك ريح مغافير: أكلت مغافير: فدخل على إحداهما فقالت له ذلك فقال بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له. فنزل {لم تحرم ما أحل الله لك﴾ إلى ﴿إن تتوبا﴾، المغافير جمع مغفور بقلة من البقول.
384
رَحِيمٌ} في هذا عتاب من الله تعالى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ حرم جاريته مارية ترضية١ وذلك أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلا بها في بيت إحدى نسائه فاطلعت عليه فقالت يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي فجعلها أي مارية عليه حراماً ترضية لصاحبة الحجرة والفراش. فأنزل الله تعالى هذه الآيات مشتملة على هذه القصة فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ﴾ يعني جاريته مارية القبطية أم إبراهيم. ﴿تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ أي تطلب رضاهن ﴿وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ بك فلا لوم عليك بعد هذا ولا عتاب فجاريتك لا تحرم عليك وكفر عن يمينك. إذ قال لها هي علي ٢حرام ووالله لا أطؤها.
وقوله تعالى ﴿قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ٣ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ أي ما تحللون به من أيمانكم إذا حلفتم وهي ما جاء في سورة المائدة من قوله تعالى ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ وقوله تعالى والله مولاكم أي متولي أمركم وناصركم. وهو العليم بأحوال عباده الحكيم في قضائه وتدبيره لخلقه.
وقوله تعالى ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ﴾ أي أذكر إذ أسر النبي لبعض أزواجه حديثا وهي حفصة بنت عمر رضي الله عنها إذ قال لها لقد حرمت فلانة ووالله لا أطأها وطلب منها أن لا تفشي هذا السر. فحدثت به عائشة وكانت متصافية معها توادها.
فأطلع الله رسوله على ذلك. فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه لحفصة وأعرض عن بعض تكرماً منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالت أي حفصة من أنبأك هذا؟ قال نبأني العليم الخبير. وقوله: إن تتوبا إلى الله أي حفصة وعائشة فقد صغت قلوبكما أي مالت إلى تحريم مارية أي سركما كذلك. وجواب الشرط تقديره تقبل توبتكما. وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ﴾ أي تتعاونا عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يكرهه، فإن تعاونكما يا حفصة وعائشة رضي الله عنكما لن يضره شيئاً فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين أبو بكر وعمر، والملائكة بعد ذلك ظهير له أي ظهراء وأعوان له عن كل من يؤذيه أو يريده بسوء.
١ ترضية لبعض أزواجه أي طلباً لرضاها وهي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.
٢ اختلف أهل العلم فيمن حرم شيئاً فإن كان غير الزوجة فالجمهور على أنه لا يحرم ولا كفارة عليه، وبعض يقول عليه كفارة يمين: أما الزوجة فقد بلغت الأقوال فيها ثمانية عشر قولاً أعدلها أن من حرم زوجته بلفظ أنت حرام أو بالحرام إن نوى طلاقها فعليه طلقة، وإن لم ينو طلاقها فإن عليه كفارة يمين كما في صحيح مسلم عن ابن عباس قال: إذا حرم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفرها، وقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.
٣ تحلة اليمين كفارتها أي من حلف على شيء وأراد أن يعود إليه فليكفر عن يمينه وليأت ما حلف عليه.
385
وقوله تعالى ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ﴾، وفي هذا تخويف شديد لأمهات المؤمنين وتأديب رباني كبير لهن إذ وعد رسوله أنه لو طلقهن لأبدله خيراً منهن ﴿مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ﴾ أي١ صائمات أو مهاجرات، ﴿ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً﴾ أي بعضهن ثيبات وبعضهن أبكاراً إلا أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يطلقهن والله تعالى لم يبدله فهن زوجاته في الدنيا زوجاته في الآخرة هذا وأنبه إلى أن خلافاً كبيراً بين أهل التفسير في الذي حرمه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على نفسه وعاتبه ربه عليه. وأحله الله له هل هو شراب كان يحبه، أو هو جاريته مارية ومن٢ الجائز أن يكون غير ما ذكر؛ لأن الله تعالى لم يذكر نوع ما حرم رسوله على نفسه، وإنما قال لم تحرم ما أحل الله لك. والجمهور على أن المحرم مارية، وفي البخاري أنه العسل والله أعلم فلذا استغفر الله تعالى أن أكون قد قلت عليه أو على رسوله ما لا يرضيهما أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله إن ربي غفور رحيم.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبشريته الكاملة.
٢- أخذ الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى من هذه الآية أن من قال لزوجته أنت حرام أو حرمتك وهو لم ينو طلاقها أن عليه كفارة يمين لا غير، وذكر القرطبي في هذه المسألة ثمانية عشر قولاً للفقهاء أشدها البتة وأرفقها أن فيها كفارة يمين كما هو مذهب الإمامين الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى.
٣- كرامة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ربه.
٤- فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦) يَا أَيُّهَا
١ قيل سمي الصائم سائحاً لأن السائح لا زاد معه فكذلك الصائم لا زاد معه.
٢ نعم من الجائز أن يكون غير ما ذكر ولكن بتتبع لروايات وأقوال العلماء سلفاً وخلفاً ثبت أن الأمر يدور بين أن ما حرمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على نفسه ترضية هو جاريته مارية، أو العسل لا غيرهما.
386
الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨)
شرح الكلمات:
قوا أنفسكم وأهليكم: أي اجعلوا لها وقاية بطاعة الله والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ناراً وقودها الناس والحجارة: أي توقد بالكفار والأصنام التي تعبد من دون الله، لا بالحطب ونحوه.
لا تعتذروا اليوم: أي لأنه لا ينفعكم اعتذار، يقال لهم هذا عند دخولهم النار.
توبة نصوحا: أي توبة صادقة بأن لا يعاد إلى الذنب ولا يراد العود إليه.
يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا: أي بإدخالهم النار.
يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم: أي أمامهم ومن كل جهاتهم على قدر أعمالهم.
ربنا أتمم لنا نورنا: أي إلى الجنة، لأن المنافقين ينطفيء نورهم.
معنى الآيات:
قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ١ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ هذا نداء الله إلى عباده المؤمنين يعظهم وينصح لهم فيه أن يقوا أنفسهم وأهليهم٢ من زوجة وولد، ناراً عظيمة، وقودها
١ قال علي رضي الله عنه ومجاهد وقتادة: قوا أنفسكم بأفعالكم، وقوا أهليكم بوصيتكم. قال ابن العربي هذا هو الصحيح لما يعطيه العطف الذي يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل كقول الشاعر:
علفتها تبناً وماء بارداً
أي وسقيتها ماءً بارداً
٢إن الوقاية لا تتم إلا بالإيمان وصالح الأعمال بعد اجتناب الشرك والمعاصي، وهذا يتطلب العلم بذلك وتوطين النفس على العمل بما يعلم من ذلك فعلا لما يفعل وتركاً لما يترك فليأخذ العبد نفسه وأهله بهذا نصحاً له ولهم حتى يقي نفسه ويقي أهله.
387
أي ما توقد به الناس من المشركين والحجارة التي هي أصنامهم التي كانوا يعبدونها يقون أنفسهم بطاعة الله ورسوله تلك الطاعة التي تزكي أنفسهم وتؤهلهم لدخول الجنة بعد النجاة من النار.
وقوله تعالى ﴿عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ أي على النار قائمون عليها وهم الخزنة التسعة عشرة غلاظ القلوب١ والطباع شداد البطش إذا بطشوا ولا يعصون الله أي لا يخالفون أمره، وينتهون إلى ما يأمرهم به وهو معنى ويفعلون ما يأمرون. وقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ٢﴾ هذا يقال لأهل النار ينادون ليقال لهم: لا تعتذروا اليوم حيث لا ينفع الاعتذار. وإنما تجزون ما كنتم تعملون الحسنة بالحسنة والسيئة بالسيئة.
وقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾ هذا هو النداء الثاني الذي ينادي فيه الله تعالى عباده المؤمنين يأمرهم فيه بالتوبة العاجلة النصوح التي لا يعود صاحبها إلى الذنب كما لا يعود البن إلى٣ الضرع، ويعدهم ويبشرهم يعدهم بتكفير سيئاتهم، ويبشرهم بالجنة دار النعيم المقيم فيقول ﴿عَسَى٤ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ﴾ أي بعد ذلك ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ أي بإدخالهم الجنة. وقوله تعالى ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ أي وهم مجتازون الصراط يسألون ربهم أن يبقي٥ لهم نورهم لا يقطعه عنهم حتى يجتازوا الصراط وينجوا الصراط وينجوا من السقوط في جهنم كما يسألونه أن يغفر لهم ذنوبهم التي قد يردون بها إلى النار بعد اجتياز الصراط.
وقولهم: إنك على كل شيء قدير هذا توسل منهم لقبول دعائهم حيث توسلوا بصفة القوة والقدرة لله تعالى فقالوا إنك على كل شيء قدير فأتمم لنا نورنا واغفر لنا.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- وجوب العناية بالزوجة والأولاد وتربيتهم وأمرهم بطاعة الله ورسوله ونهيهم عن ترك ذلك.
٢- وجوب التوبة الفورية على كل من أذنب من المؤمنين والمؤمنات وهي الإقلاع من الذنب فوراً
١ قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة، وروى مرفوعاً ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب.
٢ لأن عذرهم لا ينفعهم. والقصد من هذا النهي هو تحقيق اليأس منهم.
٣ قال القرطبي اختلف في تحديد التوبة النصوح على ثلاث وعشرين قولاُ وقدم ما في التفسير على تلك الأقوال.
٤ عسى من الله تعالى واجبة، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
٥ قال ابن عباس ومجاهد: هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين.
388
أي تركه والتخلي عنه، ثم العزم على أن لا يعود إليه في صدق، ثم ملازمة الندم والاستغفار كلما ذكر ذنبه استغفر ربه وندم على فعله وإن كان الذنب متعلقاً بحق آدمي كأخذ ماله أو ضرب جسمه أو انتهاك عرضه وجب التحلل منه حتى يعفو ويسامح.
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (١٢)
شرح الكلمات:
جاهد الكفار: أي بالسيف.
والمنافقين: أي باللسان.
واغلظ عليهم: أي أشدد عليهم في الخطاب ولا تعاملهم باللين.
فخانتاهما: أي في الدين إذ كانتا كافرتين.
فلم يغنيا عنهما: أي نوح ولوط عن امرأتيهما.
من الله شيئاً: أي من عذاب الله شيئاً وإن قل.
امرأة فرعون: أي آسيا بنت مزاحم آمنت بموسى.
389
أحصنت فرجها: أي حفظته فلم يصل إليه الرجال لا بنكاح ولا زنا.
فنفخنا فيه من روحنا: أي نفخنا في كم درعها بواسطة جبريل الملقب بروح القدس.
وصدقت بكلمات ربها: أي بولدها عيسى أنه كلمة الله وعبده ورسوله.
معنى الآيات:
في الآية الأولى (٩) يأمر تعالى رسوله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدما ناداه بعنوان النبوة تشريفاً وتكريماً يأمره بجهاد الكفار والمنافقين فالكفار بالسيف، وشن الغارات١ عليهم حتى يسلموا، والمنافقون بالقول الغليظ والعبارة البليغة المخيفة الحاملة للوعيد والتهديد. وقوله تعالى: ﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ أي أشدد وطأتك على الفريقين على المنافقين باللسان، وعلى الكافرين بالسنان. ومأواهم٢ جهنم وبئس المصير إذا ماتوا على نفاقهم وكفرهم، أو من علم الله موتهم على ذلك. وقوله تعالى في الآية الثانية (١٠) ضرب الله مثلاً في عدم انتفاع الكافر بقرابة المؤمن مهما كانت درجة القرابة عنده. وهو امرأة نوح٣ وامرأة لوط إذ كانت كل واحدة منهما تحت نبي رسول فخانتاهما في٤ دينهما فكانتا كافرتين فامرأة نوح تفشي سر من يؤمن بزوجها وتخبر به الجبابرة من قوم نوح حتى يبطشوا به وكانت تقول لهم إن زوجها مجنون، وامرأة لوط كانت كافرة وتدل المجرمين على ضيوف لوط إذا نزلوا عليه في بيته وذلك في الليل بواسطة النار، وفي النهار بواسطة الدخان. فلما كانتا كافرتين لم تغن عنهما قرابتهما بالزوجية شيئاً. ويوم القيامة يقال لهما: ادخلا النار مع الداخلين من قوم نوح وقوم لوط. هذا مثل آخر في عدم تضرر المؤمن بقرابة الكافر ولو كانت القرابة الزوجية وما أقواها، وهو –المثل- امرأة فرعون الكافر الظالم آسيا بنت مزاحم كانت قد آمنت بموسى مع من آمن فلما عرف فرعون إيمانها أمر بقتلها فلما علمت بعزم الطاغية على قتلها قالت في مناجاتها لربها: رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله الذي هو الكفر والظلم حتى لا أكون كافرة بك ولا ظالمة لأحد من خلقك، ونجني من القوم الظالمين أي من عذابهم فشدت أيديها وأرجلها لتلقى عليها صخرة عظيمة إن هي أصرت على الإيمان فرفعت بصرها إلى السماء فرأت بيتها في الجنة ففاضت روحها شوقاً إلى الله وإلى بيتها في الجنة وقد
١ من المعلوم أن الكفار يدعون إلى الإسلام أولاً مبيناً لهم ما فيه من الهدي والخير وما يجلبه لأهله من الكمال والإسعاد، فإن أبوا فليقاتلوا.
٢ ومأواهم جهنم هذا عائد على الفريقين الكافرين والمنافقين معاً.
٣ قال مقاتل اسم امرأة نوح والهة واسم امرأة لوط والعة وروي مرفوعاً بضعف أن اسم امرأة نوح واغلة وامرأة لوط والهة والله أعلم.
٤ الإجماع أن خيانة المرأتين كانت في الدين ولم تكن في العرض وإنما هي في الكفر والنفاق.
390
رأته فوصلت الصخرة إليها بعد أن فاضت روحها فنجاها الله من عذاب القتل الذي أراده لها١ فرعون وعصابته الظلمة الكافرون.
وقوله تعالى ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها. عطف تعالى مريم على آسيا ليكون المثل مكوناً من امرأتين مؤمنتين، كالمثل الأول كان مكوناً من امرأتين كافرتين فقال عز وجل ومريم بنت عمران التي أحصنت فرجها عن الرجال في الوقت الذي عم البغاء والزنا ديار بني إسرائيل كما هي الحال اليوم في ديار اليهود وأمثالهم قد لا تسلم امرأة من الزنا بها فلم يضر بذلك مريم لما كانت عفيفة طاهرة بل أكرمها الله لما أحصنت فرجها بأن أرسل إليها روحه جبريل عليه السلام وأمره أن ينفخ في كم درعها فسرت النفخة بقدرة الله تعالى في جسمها فحملت بعيسى الذي كان بكلمة الله كن فكان في ساعة وصول هواء النفخة وولدته للفور كرامة الله للتي أحصنت فرجها خوفاً من الله وتقربا إليه، وما ضرها أن العهر والزنا قد انتشر حولها ما دامت هي طاهرة كما لم يضر كفر فرعون آسيا الطاهرة. وكما لم ينفع إيمان وصلاح نوح ولوط امرأتيهما الكافرتين الخائنتين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما ما بغت امرأة نبي قط، وهو كما قال فوالله ما زنت امرأة نبي قط لولاية الله تعالى لأنبيائه فكيف يخزيهم ويذلهم حاشاه تعالى أن يخزي أولياءه أو يذلهم فالمراد من الخيانة المذكورة في قوله تعالى فخانتاهما الخيانة في الدين وإفشاء الأسرار.
وقوله تعالى: وصدقت بكلمات ربها أي بشرائعه وبكتبه٢ التي أنزلها على رسله، وكانت من القانتين٣ أي المطيعين لله تعالى الضارعين له المخبتين.
١ قال يحيى بن سلام: ما ضربه الله مثلا للذين كفروا يحذر به عائشة وحفصة رضي الله عنهما من مخالفتهما حين تظاهرتها على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما ضرب به تعالى مثلا لامرأة فرعون ومريم بنت عمران ضربه ترغيباً لعائشة وحفصة في التمسك بالطاعة والثبات عليها والصحيح أنه حث لكل المؤمنين على الصبر في الشدة مهما كانت.
٢ قرأ نافع وكتابه وجائز أن يكون الإنجيل وهو كتاب ابنها عيسى عليه السلام وجائز أن يكون المراد به ما كتبه الله وقدره وقرأ حفص وكتبه بالجمع أي آمنت بسائر كتب الله تعالى المنزلة وعليه فالكتاب في قراءة نافع اسم جنس صادق على جميع كتب الله تعالى المنزلة.
٣ لم قال من القانتات؟ لأنه أراد من القوم القانتين وهم المكثرون من العبادة وفي هذا ثناء عليها وعلى قومها الصالحين وأنها نبتت طيبة في نبات طيب كقول القائل: وهل ينبت الخطي إلا وشيجه.
391
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- وجوب الجهاد في الكفار بالسيف وفي المنافقين باللسان، وعلى حكام المسلمين القيام بذلك لأنهم خلفاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمته.
٢- تقرير مبدأ: لا تزر وازرة وزر أخرى. فالكافر لا ينتفع بالمؤمن يوم القيامة.
٣- والمؤمن لا يتضرر بالكافر ولو كانت القرابة روحية نبوة أو إنسانية أو أبوة أو بنوة فإبراهيم لم يضره كفر آزر، ونوح لم يضره كفر طنعان ابنه، كما أن آزر وكنعان لم ينفعهما إيمان وصلاح الأب والإبن.
هذا وقرابة المؤمن الصالح تنفع المؤمن دون الصالح لقوله تعالى والذين آمنوا واتبعهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم.
392
Icon