ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (١- ٥) [سورة التحريم (٦٦) : الآيات ١ الى ٥]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤)عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥)
التفسير:
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»..
نداء كريم، من رب كريم، إلى نبى كريم، يؤثر على نفسه، حتى ليحرم ما أحل الله له، فى سبيل مرضاة أزواجه اللائي تظاهرن عليه، وكدن له هذا الكيد الذي توعدهن الله عليه، ودعاهن إلى التوبة منه.. ففى هذا الاستفهام
ويذكر المفسرون لهذه الآية وما بعدها أسبابا لنزولها.. ومن الأسباب التي يذكرونها، والتي نراها أقرب إلى مفهوم الآيات من غيرها- ما بروى من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أهديت له مارية القبطية، أدخلها ذات مرة حجرة زوجه، حفصة بنت عمر، وكانت حفصة غائبة، فلما جاءت، ووجدت النبي، ومارية فى حجرتها، غضبت، وقالت فيما قالت للنبىّ:
إنه ما اتخذ حجرتها مأوى لمارية، دون حجرات غيرها من نسائه، إلا لهوا نها عليه.. فأرضاها النبىّ الكريم، وحلف لها ألا يقرب مارية بعد هذا، وأوصاها ألا تتحدث بما كان إلى أحد من نسائه، حتى لا تثير غيرتهن فى أمر قد قضى النبي قضاءه فيه، وهو تحريم مارية..
قالوا، ولكن الذي حدث، هو أن حفصة أذاعت هذا السر، وأفضت به إلى عائشة- رضى الله عنها وعن أزواج رسول الله جميعا- وكان من هذا حديث متصل يدور بين أزواج النبي تألّم منه النبي، وضاق به صدره فآلى «١» من نسائه جميعا، ألا يقربهن شهرا.
وفى هذا نزلت الآية: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ» والآيات التي بعدها..
وإنما هو دعوة من الله سبحانه وتعالى- فى لطف ورفق- إلى النبي صلوات الله وسلامه عليه ألا يحرم ما أحل الله له، وألا يشق على نفسه بالأخذ باليمين الذي حلف بها، وقد جعله الله سبحانه وتعالى فى سعة من أمره، بالتحلّه من هذه اليمين، وذلك بالكفارة عنها.
وقوله تعالى: «تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ» حال من فاعل الفعل «تحرم» وهو النبي صلوات الله وسلامه عليه، أي لم تحرم ما أحل الله لك، مبتغيا بهذا التحريم مرضاة أزواجك.
قوله تعالى: «وَاللَّهُ غَفُورٌ» - هو دعوة للنبى الكريم إلى أن يتحلل من يمينه التي حلفها بألا يقرب (مارية).. فالله سبحانه يغفر له هذه اليمين بالكفارة عنها، والله- سبحانه- غفور، وهو سبحانه «رحيم» وإن أولى الناس برحمة الله، هو رسول الله، فليرحم الرسول الكريم نفسه، ولا يشقّ عليها بهذا التحريم لما أحل الله له، فى سبيل مرضاة أزواجه، إذ كانت مرضاتهن عدوانا على حق النبي، فى التمتع بما أحل الله له.
وقوله تعالى:
«قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» هو بيان لبعض آثار مغفرة الله ورحمته، وهو ما فرضه سبحانه، وقضى به، من التحلل من الأيمان بالكفارة عنها، إذا كان التحلل من اليمين خيرا من إمضائها..
وفى هذا يقول الرسول الكريم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفّر عن يمينه، ثم ليفعل الذي هو خير».
فى هذا إشارة إلى- مارية- التي كانت مولاة وملك يمين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن زوجا له بعد.. وأن مارية، وغيرها من نساء النبي على سواء عند الله، لأنهن جميعا من موالى الله سبحانه وتعالى.. فلم ينظرن إلى «مارية» هذه النظرة التي يرينها فيها أبعد من أن تأخذ مكانها معهن فى بيت رسول الله؟
وقوله تعالى:
«وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ» أي أن الله سبحانه- وهو مولاكم- هو العليم بكن وبمن هو أولى عنده بالفضل والإحسان.. «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى» (٣٢: النجم).. وهو سبحانه الحكيم فى تقديره وتدبيره، وفى وضع كل مخلوق بموضعه المناسب له.
قوله تعالى:
«وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» تعرض هذه الآية الحديث الذي أسرّه النبي إلى بعض أزواجه، وهو- كما أشرنا من قبل- الحديث الذي أسرّ به النبىّ إلى «حفصة» وطلب إليها ألا تخبر أحدا من نسائه، وأنه التقى «بمارية» فى حجرتها..
وقوله تعالى: «فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ» أي أخبرت به غيرها، وأعلنته بعد أن كان مستورا، وأظهرته بعد أن كان خافيا..
وقوله تعالى: «وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ» أي أعلم الله النبىّ بهذا الخبر الذي أذاعته حفصة، على ما كان يجرى بين نسائه من حديث بشأنه.
وقوله تعالى: «عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ» - هو جواب «لمّا» أي لما أذاعت «حفصة» هذا السرّ، وأعلم الله النبىّ بما حدث: «عرّف بعضه وأعرض عن بعض» أي كشف النبي عن بعض هذا الحديث الذي أذاعته حفصة، ولم يذكر لها كل ما دار بينها وبين من أفضت لها به، وما اتفقتا عليه من كيد فيما بينهما.. وذلك حتى لا يجرح شعورها، ولا يخدش حياءها، فلم يصرح لها بكل ما عرف، بل أخبرها بهذا فى إشارة دالة غير فاضحة.. فإن الكريم لا يستقصى.. ومن أكرم من سيد الكرماء عليه الصلاة والسلام؟
وقوله تعالى: «فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» أي حين علمت حفصة من النبي أنه يعلم كثيرا مما دبرت هى وصاحبتها من كيد، سألت النبي عمن أنبأه بهذا الحديث الذي كان بينها وبين صاحبتها، والذي لم يكن معهما من شهد ما تحدث به، فقال لها النبي- صلوات الله وسلامه عليه- «نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ» أي الذي أخبرنى بما أسررتما، هو الله سبحانه، وهو العليم بكل شىء، الخبير بما فى السرائر من خير أو شر.
قوله تعالى:
«إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ»..
وقوله تعالى: «فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما» هو سبب متصل بالشرط: «إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ» أي إن تبتما إلى الله، إذ قد صغت قلوبكما، أي مالت عن قصد السبيل.. ويكون الشرط دعوة آمرة بالتقوى، أي توبا إلى الله فقد صغت قلوبكما..
فإن تبتما إلى الله غفر الله لكما.. فجواب الشرط محذوف..
وفى جمع القلوب، مع أن المخاطب مثنى إشارة إلى أن القلبين قد أصبحا قلوبا، لما وقع فيهما من خواطر مختلفة، ذهب كل خاطر بشطر منها.. فكان كل قلب مجموعة من القلوب..
وقوله تعالى:
«وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ.. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ»..
أي وإن لم تتوبا إلى الله، وتمضيا فيما أنتما فيه من كيد للنبىّ ومن تظاهر بينكما وتساند فى الكيد له- فإن الله هو مولاه الذي يدفع عنه هذا الكيد وجبريل، ظهير له، وناصر، بما ينزل عليه من آيات ربه، وكذلك كل صالح من المؤمنين.. هو ظهير للنبىّ، ومدافع عنه.. ثم الملائكة جميعا، هم عون النبىّ فى
وفى إفراد صالح المؤمنين، إشارة إلى أن الذي يكون فى هذا الركب الكريم الذي ينتظم الملائكة، لا بد أن يكون على درجة عالية من الإيمان، يكاد يرتفع بها إلى عالم الملائكة.. وهذا نفرر قليل من المؤمنين، يعدّون فردا فردا..
وقوله تعالى: «وَجِبْرِيلُ» مبتدأ، وقوله تعالى: «وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ» معطوف عليه..
وقوله تعالى: «بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ» - خبر للمبتدأ.. أي أن هؤلاء جميعا، هم بعد أن يدخل النبىّ فى ولاية الله سبحانه وتعالى له، يكونون سندا وعونا للنبىّ..
قوله تعالى:
«عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً»..
هو تهديد لأزواج النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- إن لم يستقم أمرهن معه، وقد دعاهن الله سبحانه إلى التوبة، ثم تهددهن إن هن تظاهرن على النبىّ أن الله سبحانه هو مولاه، ولن يتخلى عنه، وقد جعل له من جبريل ومن صالح المؤمنين، ومن الملائكة أعوانا وجندا يسندونه، ويشدون ظهره..
والأوصاف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى فى الآية النساء اللاتي يختارهن الله سبحانه للنبىّ- هى أوصاف، وسمات، قائمة فعلا فى أزواج النبىّ، وأن كل واحدة منهن تتميز بصفة ظاهرة من هذه الصفات، هى الغالبة على أحوالها..
فمنهن من غلبت عليها صفة الإسلام، الذي هو سمة للسلام، والموادعة واللطف، ومنهن من غلبت عليها صفة الإيمان، ومنهن من غلبت عليها صفة القنوت وهكذا..
وهذا يعنى أن زوجات النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- قد تخيرهن الله سبحانه من أهل الإيمان والكمال، كما يقول سبحانه: «وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ» (٢٦: النور).. أما الاستبدال بخير منهن، فإن هذا إنما يكون فى حال هنّ فيها خارج بيت النبوة، وذلك إذا لم يتبن إلى الله، ولم يصلحن ما أفسدن من علاقة بينهن وبين النبىّ، بعد هذا الغبار الذي أثاره هذا الحديث الذي ذاع بينهن.. أما وهنّ فى بيت النبوة لم يخرجن من هذا الحمى الطهور، فإنهن خير نساء خارج بيت النبوة..
هذا، وفى العطف بالواو بعد ذكر تلك الصفات السبع الأولى من غير عطف- يشير إلى أمرين:
أولهما: قطع هذه الرتابة التي امتدت وطالت، بذكر تلك الصفات على نغم واحد.. «مُسْلِماتٍ.. مُؤْمِناتٍ.. قانِتاتٍ.. تائِباتٍ» عابدات..
سائحات ثيبات..
ذلك أن من إعجاز النظم القرآنى، أنه يوقظ المشاعر والمدارك، بهذه الطّرقة الخفيفة، التي تجىء بعد هذا التوقيع التعالي، المتشابه من النغم، الذي من شأنه
وثانيا: أن هذه الصفات السبع التي سبقت حرف العطف، يمكن أن تكون فى مجموعها مما تتصف به المرأة الواحدة، فتجمع بين الإسلام، والإيمان، والقنوت، والتوبة، والتعبد، والسياحة، أي الصوم، والثيوبة..
أو البكورة.. أما أن تكون ثيبا وبكرا فهذا محال.. ولهذا جاء العطف هنا، فكانت الثيوبة مع ما سبقها من صفات، مما يمكن أن تكون عليه حال بعض النساء.. وكانت البكورة مع ما سبقها أن تكون لبعض آخر منهن..
وقد جاء على هذا الأسلوب من النظم قوله تعالى: فى سورة التوبة:
«التَّائِبُونَ.. الْعابِدُونَ.. الْحامِدُونَ.. السَّائِحُونَ.. الرَّاكِعُونَ.. السَّاجِدُونَ.. الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ.. وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ» (الآية: ١١٢).. فقد جاء العطف بعد سبع صفات، فى سرد لم يتوسطه حرف عطف، كما أن المعطوف لم يكن آخر ما يعطف، بل عطفت عليه صفة أخرى..
وهذا يقوى من الرأى للقائل بأن رتابة السرد، هى التي تقضى بهذا العطف عند بلوغ حد معين من المسرودات، لا يتجاوز سبع كلمات..
الآيات: (٦- ٩) [سورة التحريم (٦٦) : الآيات ٦ الى ٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩)
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ».
مناسبة هذه الاية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، قد عرضت لهذا الحدث الذي وقع فى بيت النبىّ، حيث هناك أطهر النفوس وأكرمها، ومع هذا فإن النفس البشرية، لم تسلم من العوارض التي تظهر فى سمائها الصافية حينا بعد حين، فتحتاج إلى محاسبة ومراجعة، حتى تنقشع هذه السحب عن سمائها، ويعود إليها صفاؤها، وإشراقها..
فإذا كان هذا فى بيت النبوة، فما ظنك بما يقع فى آفاق النفوس خارج هذا البيت الكريم، من زلات، وهزات، تتصدع لها النفوس، وتضلّ معها العقول؟
وإذن، فالأمر يحتاج إلى مراقبة دائمة من الإنسان لنفسه، وحراسة واعية من الآفات التي تتهدد إيمانه، وترعى مواطن الخير فيه..
ووقاية الإنسان نفسه، من النار، هى فى أن يستقيم على شريعة الله، ويقف عند حدود أوامرها ونواهيها.. ففى ذلك سلامته من عذاب السعير..
أما وقاية أهله، فتكون بنصحه لهم، وإرشادهم إذا ضلّوا، وتنبيههم إذا غفلوا.. ثم قبل هذا كله، يجب أن يكون هو القدوة الحسنة لهم، فى طاعة الله، وفى اتقاء حرماته.. لأن الخطاب هنا إنما هو لرأس الجماعة، فى الأسرة، ونحوها، كالأب، والأخ الأكبر، والعالم، وذوى الوجاهة والمكانة فى هذا المجتمع الصغير.. فهو هنا مسئول مسئولية الراعي عن رعيته، كما يقول الرسول الكريم: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته».
وفى قوله تعالى: «وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ» - إشارة إلى قوة الطاقة الحرارية لهذه النّار، التي تجعل الحجارة وقودا لها، كما توقد نار الدنيا بالحطب..
وقوله تعالى: «عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ» - هو عرض لخزنة جهنم وحرّاسها، وما هم عليه من غلظة وشدّة.. فهم بهذه الغلظة وتلك الشدة يتعاملون مع أعنى المجرمين، وأضل الضالين.. وهم بما يطلع على أهل النار من غلظتهم وشدتهم- هم عذاب إلى عذاب! قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ.. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ».
هو خطاب للكافرين الذين سيردون هذه النار، وسيكونون حطبا ووقودا لها- خطاب لهم بألا يعتذروا فى هذا اليوم، يوم القيامة، فإنه لا يقبل منهم عذر، فهذا وقت الجزاء بما عمل العاملون، وقد عملوا هم السوء، فكان
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
هو دعوة إلى المؤمنين عامة، أن يتوبوا إلى الله، وأن يرجعوا إليه كلّما بعدوا قليلا أو كثيرا عنه، بما اقترفوا من آثام، وما اجترحوا من سيئات..
فإن التوبة تغسل الحوبة، وهى الأسلوب الذي يصالح به العبد ربّه، ويفتح به أبواب رحمته ورضوانه.
والتوبة النصوح، هى التوبة الصادرة عن قلب مفعم بالندم، وعن ضمير مثقل بما خالطه من إثم، ومن وراء ذلك عزيمة صادقة، ونيّة منعقدة على عدم العودة لما كان منه التوبة..
وقوله تعالى: «عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ».
عسى، وإن كانت أسلوبا يفيد الرجاء، فإن هذا الأسلوب إذا تعلق بالله سبحانه وتعالى، كان معناه الوجوب، والوقوع.. لأن الرجاء إنما يكون فى حقّ من لا يقدر، والله سبحانه قادر على كل شىء.. أما استعمال أسلوب الترجّى فى جانب الله سبحانه وتعالى، فهو منظور فيه إلينا، وإلى أنه ينبغى أن نقيم أمرنا مع الله على رجاء، فلا يأس من رحمته، ولا قطع بالنجاة من عذابه، وبهذا يكون العبد المؤمن على صلة دائمة بالله، يرجو رحمته، ويخشى عذابه..
وقوله تعالى: «يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» ظرف متعلق بقوله تعالى «وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ» أي يدخلكم الجنات يوم لا يخزى الله النبىّ والذين آمنوا معه..
ونفى الخزي عن النبىّ والذين آمنوا معه، هو إدخالهم الجنة، وعرضهم يوم القيامة فى معرض التشريف والتكريم، حيث يعرض الكافرون معرض الخزي والهوان..
ولقد كان من دعاء المؤمنين ما أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله: «رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ» (١٩٤: آل عمران) وهو الدعاء الذي دعا به إبراهيم ربّه.. فى قوله تعالى على لسانه: «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ» (٨٧- ٨٩: الشعراء)..
وقوله تعالى: «نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» - هو حال من أحوال المؤمنين فى هذا اليوم، وذلك أنهم وهم سائرون إلى الجنة، يتقدمهم نور يسعى بين أيديهم، ونور يشع فى أيمانهم، وهو الكتاب الذي سجلت فيه أعمالهم، فكانت تلك الأعمال- لحسنها- نورا يسعى بين أيديهم.. ثم إنهم وهم فى طريقهم إلى الجنة، مع هذا النور الذي يسعى بين أيديهم كما يسعى الخدم بين يدى الضيوف القادمين على مضيف كريم- إنهم وهم فى الطريق إلى الجنة، يكونون على إشفاق من أن ينقطع عنهم النور الهادي، فيسألون ربهم قائلين:
وقد غفر الله لهم، وأتم لهم نورهم، فمضى معهم نورهم إلى أن دخلوا جنات النعيم..
جعلنا الله منهم، وألحقنا بهم..»
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ»..
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة قد توعدت الكافرين بالنار التي وقودها الناس والحجارة، وأنهم إذا اعتذروا وهم على طريق النار فلن يقبل منهم عذر، لأن الله إنما أخذهم بهذا العذاب الغليظ لما ارتكبوا من منكر غليظ هو الكفر..
وإذ كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- هو دعوة الحق إلى الإيمان بالله، وإذ كان الكافرون هم الذين يقفون فى وجه هذه الدعوة، ويصدون الناس عن سبيل الله، فقد ناسب أن يقوم النبي فى هذه الحياة الدنيا بما يملك من وسائل الردع والكبت، للكافرين.. فهو- صلوات الله وسلامه عليه.. سلطان الله، وبهذا السلطان يودّب العصاة، ويأخذ المجرمين..
ولهذا ناسب أن تأخذ الآية الكريمة مكانها هنا..
الآيات: (١٠- ١٢) [سورة التحريم (٦٦) : الآيات ١٠ الى ١٢]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢)
قوله تعالى:
«ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ»..
مناسبة هذه الآية وما بعدها، لما سبقها من آيات، هى أن السورة قد عرضت لمواقف كانت من أزواج النبي، عليه الصلاة والسلام، وقد كادت هذه المواقف تخرجهن من بيت النبوة، وتحرمهن هذا المكان الكريم اللائي هن فيه، محفوفات برحمة الله ورضوانه- فناسب ذلك أن تجىء هنا تلك الآيات التي تعرض أحوالا مختلفة لبعض النساء.. حيث كان بعضهن فى بيت النبوة، فلما لم يستقمن على طريق الحق والخير، أخذهن الله ببأسه، وألقى بهن خارج بيت النبوة، يتخبطن فى ظلمات الضلال والكفر، وكانت عاقبتهن الخسران، والوبال، والعذاب فى نار جهنم، ولم يغن عنهن حرم النبوة اللائي تحصنّ فيه ظاهرا، وهتكن ستره باطنا..
والمثل البارز هنا، ما كان من امرأة النبيين الكريمين: نوح ولوط، «كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما» أي أخذتا طريقا غير
«وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ»..
وعلى عكس هذا، ما كان من امرأة فرعون.. حيث ضمّها إليه رجل كان من أشد عباد الله كفرا، وأبعدهم فى الضلال مذهبا.. ومع هذا فقد استنارت بصيرتها بنور الهدى، فآمنت بالله، وأبصرت طريقها إليه وسط هذا الظلام الكثيف المتراكم.. وبهذا نجت بنفسها من هذا المصير الذي صار إليه فرعون والملأ الذين معه.. «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».. وقد استجاب الله سبحانه وتعالى لها، وأدخلها فى عباده المؤمنين، وأبقى لها ذكرا خالدا فى المكرمين من عباده..
وهذه مريم ابنة عمران، التي نذرتها أمها للخدمة فى بيت الله، والعمل فى طاعته.. إنها نبتة طيبة، فى منبت طيب.. قد قام أمرها على الطريق المستقيم، وهى فى بطن أمها، فلما استقبلت الحياة احتواها بيت الله، وضمها إليه نبى من أنبياء الله، هو زكريا عليه السلام.. وهكذا كانت عناية الله تحفّ بها، وألطافه تتوالى عليها.. حتى كانت الصلاح، والتقوى، والطهر، وبهذا كانت الأنثى التي استخلصتها الإنسانية كلها، لتلقّى كلمة الله، ولتلد بنفخة من روح القدس، مولودا يتخلق فى كيانها من غير أن يشاركها فيه رجل.. وفى هذا يقول سبحانه: «وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ» (١٢: التحريم)
المجموعة الأولى: المرأة التي فسدت طبيعتها.. تكون فى بيئة طيبة، صالحة، فيغلب فسادها، وخبث ريحها، هذا الطيب الذي يهب عليها من بيئتها، فلا تتأثر به، ولا تتقبله طبيعتها التي ألفت هذا العفن الذي ينضح منها..
والمجموعة الثانية، هى المرأة التي طابت طبيعتها، وسلمت فطرتها.. تكون فى بيئة فاسدة عفنة، فلا تتقبل هذا الفساد، ولا تتأثر به، بل تظل محتفظة بفطرتها السليمة، وبينابيع الخير التي تجرى فى كيانها، فترتوى منها، وتعيش عليها.
والمجموعة الثالثة: المرأة التي طابت طبيعتها، وسلمت فطرتها.. تنشأ فى بيئة طيبة صالحة، فيزداد طيبها طيبا، وصلاحها صلاحا..
وبقي من هذا التفصيل وجه رابع، لم يذكره القرآن، وهو المرأة الفاسدة طبيعة.. تنشأ فى البيئة الفاسدة.. والسبب فى عدم ذكر هذا الوجه ظاهر، لأن النتيجة اللازمة له، لا تخرج عن حكم واحد، هو ازدياد الفساد فسادا، حين يجتمع الفساد إلى الفساد.. تماما، كما يزداد الصلاح صلاحا باجتماع الصلاح إلى الصلاح.
وهذا يعنى أمورا:
أولا: أن الذاتىّ من الأمور، يغلب العرضىّ، ويقهره.. بمعنى أن ما فى كيان الإنسان من استعداد فطرى، هو القوة العاملة فى الإنسان، وأن ظروف البيئة- مع تأثيرها القوى فى الكائن الحي، وفى الإنسان بالذات، خلقيّا، وعقليّا، ووحيّا- هذه الظروف مهما تكن، فإنها لا تقوى على طمس معالم الاستعداد الفطري المهيأ له الإنسان، سواء أكان ذلك الاستعداد طيبا أو خبيثا.. وهذا ما فهمنا عليه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ
وهذا يعنى أن ما يبتلى به المؤمنون، الذين صدق إيمانهم، هو تثبيت لهذا الإيمان، وإظهار لكرم جوهره، وصفاء عنصره..
وثالثا: أن الخير وإن كان قليلا فى كمّه، فإنه كثير فى كيفه وأن قوى الشر كلها مجتمعة، لا تستطيع أن تطفئ شعلة الإيمان التي احتواها قلب مؤمن، وإن استطاعت أن تخمد أنفاس هذا المؤمن، وتزهق روحه.. وهذه امرأة فرعون، تقهر بإيمانها جبروت هذا الجبار، وتذلّ كبرياءه، وتلفظه زوجا، وتلفظ سلطانها، ملكة غير آسفة عليه، أو على سلطانها، أو حياتها، فى سبيل الاحتفاظ بهذه الشعلة المقدسة من نور الإيمان، مضيئة فى قلبها.
[الجزء الخامس عشر]
٦٧- سورة الملكنزولها: مكية، نزلت بعد سورة الطور.
عدد آياتها: ثلاثون آية.
عدد كلماتها: ثلاثمائة وثلاثون كلمة.
عدد حروفها: ألف وثلاثمائة وثلاثة عشر حرفا.
مناسبتها لما قبلها
كانت الآيات التي ختمت بها سورة «التحريم» السابقة على هذه السورة، معرضا للصراع بين الخير والشر، والحرب بين الإيمان، والكفر- فيما كان من امرأة نوح وامرأة لوط، وخروجهما من المعركة خاسرتين كافرتين.. ثم ما كان من امرأة فرعون، وصراعها مع قوى الشر المحدقة بها من كل جهة، ثم انتصارها، وخروجها من وسط هذا الظلام المطبق، إلى حيث النور والهدى..
ثم كان مما بدئت به سورة «الملك» قوله تعالى: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» ليقرر أن نتيجة هذا الصراع بين المحقّين والمبطلين، والمحسنين والمسيئين- إنما تظهر على حقيقتها كاملة يوم القيامة، ولهذا كان مما قضت به حكمة الله سبحانه وتعالى أن يكون موت، ثم تكون حياة بعد هذا الموت، ليحاسب الناس على ما عملوا فى الدنيا، من خير أو شر..
فكان من المناسب أن تلتقى هذه الحقيقة التي قررتها سورة «الملك» مع تلك الحقيقة التي ختمت بها سورة «التحريم».. وبذلك يتأكد المراد منهما معا.