تفسير سورة العلق

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة العلق من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

عن عائشة قالت :« أول ما بدىء به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبّب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فيتزود لمثلها حتى فجأه الوحي، وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه، فقال : اقرأ، قال رسول الله ﷺ :» فقلت : ما أنا بقارىء قال فأخذني فغطّني، حتى بلغ من الجهد، ثم أرسلاني فقال : اقرأ، فقالت : ما أنا بقاىء، فغطّني الثانية، حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ، فقلت : ما أنا بقارىء، فغطّني الثالثة حتى بلغ من الجهد، ثم أرسلني، فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق حتى بلغ ما لم يعلم «. قال : فرجع بها ترجف بوادره، حتى دخل على خديجة فقال :» زمّلوني زمّلوني «، فزمَّلوه حتى ذهب عنه الروع فقال : يا خديجة :» مالي «؟! وأخبرها الخبر، وقال :» قد خشيت على نفسي «. فقالت له :» كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق «، ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ( ورقة بن نوفل ) بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان أمرأ قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت خديجة : أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة : ابن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول الله ﷺ بما رأى فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى، ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً حين جئت به إلاّ عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي » فأول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات، وهن أول رحمة رحم الله بها العباد، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة، وأن من كرمه تعالى أن علّم الإنسان ما لم يعلم فشرّفه وكرّمه بالعلم، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة، والعلم تارة يكون في الأذهان، وتارة يكون في اللسان، وتارة يكون في الكتابة بالبنان، ذهني، ولفظي، ورسمي، فلهذا قال :﴿ اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم * الذى عَلَّمَ بالقلم * عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾، وفي الآثر : من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يكن يعلم.
يخبر تعالى عن الإنسان، أنه ذوأشر وبطر وطغيان، إذا رأة نفسه قد استغنى وكثر ماله، ثم تهدده وتوعده ووعظه فقال :﴿ إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى ﴾ أي إلى الله المصير والمرجع، وسيحاسبك على مالك من أين جمعته وفيم صرفته، عن عبد الله بن مسعود قال : منهومان لا يشبعان : صاحب العلم وصاحب الدنيا، ولا يستويان، فأما صاحب العلم فيزداد رضى الرحمن، وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان، قال، ثم قرأ عبد الله :﴿ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى ﴾، وقال الآخر :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء ﴾ [ فاطر : ٢٨ ]، وقد روى هذا مرفوعاً إلى رسول الله ﷺ :« منهومان لا يشبعان : طالب علم، وطالب الدنيا »، ثم قال تعالى :﴿ أَرَأَيْتَ الذي ينهى * عَبْداً إِذَا صلى ﴾ نزلت في ( أبي جهل ) لعنه الله، توعد النبي ﷺ على الصلاة عند البيت، فوعظه تعالى بالتي هي أحسن أولاً. فقال :﴿ أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الهدى ﴾ أي فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريق المستقيمة في فعله ﴿ أَوْ أَمَرَ بالتقوى ﴾ بقوله وأنت تزجره وتتوعده على صلاته؟ ولهذا قال :﴿ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى ﴾ ؟ أي أما علم هذا الناهي لهذا المتهدي أن الله يراه ويسمع كلامه، وسيجازيه على فعله أتم الجزاء، ثم قال تعالى متوعداً ومتهدداً ﴿ كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ ﴾ أي لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد ﴿ لَنَسْفَعاً بالناصية ﴾ أي لنسمنّها سواداً يوم القيامة، ثم قال :﴿ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ﴾ يعني ناصية ( أبي جهل ) كاذبة في مقالها، خاطئة في أفعالها، ﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ﴾ أي قومه وعشيرته أي ليدعهم يستنصر بهم، ﴿ سَنَدْعُ الزبانية ﴾ وهم ملائكة العذاب حتى يعلم من يغلب، أحزبنا أو حزبه؟ روى البخاري عن ابن عباس قال، قال أبو جهل :« لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه، فبلغ النبي ﷺ فقال :» لئن فعل لأخذته الملائكة « » عن ابن عباس قال :« كان رسول الله ﷺ يصلي عند المقام. فمّر به أبو جهل بن هشام. فقال : يا محمد ألم أنهك عن هذا؟ وتوعّده فأغلظ له رسول الله ﷺ وانتهره. فقال : يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي نادياً، فأنزل الله :﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزبانية ﴾ وقال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته » وروى ابن جرير : عن أبي هريرة قال؛ « قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم، قال، فقال : واللات والعزى لئن رأتيه يصلي كذلك لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه في التراب، فأتى رسول الله ﷺ وهو يصلي ليطأ على رقبته، قال : فما فجأهم منه إلاّ وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال : فقيل له مالك؟ فقال : إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة! قال، فقال رسول الله ﷺ :» لو دنا من لاختطفته الملائكة عضواً عضواً «، قال : وأنزل الله :﴿ كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى ﴾ »
2723
إلى أخر السورة، وقوله تعالى :﴿ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ ﴾ يعني يا محمد لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وكثرتها، وصلِّ حيث شئت ولا تبالِهِ، فإن الله حافظك وناصرك وهو يعصمك من الناس، ﴿ واسجد واقترب ﴾ كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :« أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء » وتقدم أيضاً « أن رسول الله ﷺ كان يسجد في ﴿ إِذَا السمآء انشقت ﴾ و ﴿ اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ ﴾ ».
2724
Icon