﴿ بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ ﴾.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله كان لا يعرف فضل السورة حتى ينزل عليه ﴿ بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ ﴾.
وقد افتتح بها الصحابة كتاب الله، ولهذا تُستحب في أول كل قولٍ وعمل لقوله عليه السلام :« كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم » فتستحب في أول الوضوء لقوله عليه السلام :« لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه » وتستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وأوجبها آخرون وتستحب عند الأكل لقوله عليه السلام :« قل : بسم الله، وكلْ بيمينك وكلْ ممّا يليك »، وتستحب عند الجماع لقوله عليه السلام :« لو أنَّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إنْ يُقدَّر بينهما ولدٌ لم يضره الشيطان أبداً ».
والمتعلق بالباء في قوله ﴿ بِسمِ الله ﴾ منهم من قدّره باسم تقديره : باسم الله ابتدائي، ومنهم من قدّره بفعل تقديره : أبدأ باسم الله، أو ابتدأت باسم الله، وكلاهما صحيح فإن الفعل لا بدَّ له من مصدر، فلك أن تقدّر الفعل ومصدره، فالمشروعُ ذكر اسم الله في الشروع في ذلك كله تبركاً وتيمناً واستعانة على الإتمام والتقبل، ويدل للأول قوله تعالى :﴿ بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا ﴾ [ هود : ٤١ ] ويدل للثاني في قوله تعالى :﴿ اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ ﴾ [ العلق : ١ ].
و ﴿ الله ﴾ علم على الربّ تبارك وتعالى يقال إنه ( الاسم الأعظم ) لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى :﴿ هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم ﴾ [ الحشر : ٢٢ ] الآيات، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات كما قال تعالى :﴿ وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا ﴾ [ الأعراف : ١٨٠ ]، وقال تعالى :﴿ قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى ﴾ [ الإسراء : ١١٠ ] وفي الصحيحين :« إنّ لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة ».
وهو اسم لم يسمّ به غيره تبارك وتعالى ولهذا لا يعرف له - في كلام العرب - اشتقاقٌ فهو اسم جامد وقد نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم ( الشافعي ) و ( الغزالي ) و ( إمام الحرمين ) وقيل : إنه مشتقٌّ من أله يأله لاهةً، وقد قرأ ابن عباس ﴿ ويذرك وإلاهتك ﴾ أي عبادتك، وقيل : مشتقٌّ من وله إذا تحيّر، لأنه تعالى يحير في الفكر في حقائق صفاته، وقيل : مشتقٌّ من ألهتُ إلى فلان : أي سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلاّ إلى ذكره، الأرواح لا تفرح إلا بمعرفته، لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره، قال تعالى :﴿ أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب ﴾ [ الرعد : ٢٨ ]، قد اختار الرازي أنه اسم غير مشتق البتة، وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء.
وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن لأنه أكّد به، والمؤكِّدُ لا يكون إلا أقوى من المؤَكَّد، والجواب أن هذا ليس من باب التأكيد وإنما هو من باب النعت ولا يلزم ما ذكروه، فإن قيل : فإذا كان الرحمن أشد مبالغة فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد قيل : إنه لمّا تسمّى غيره بالرحمن جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك، فإنه لا يوصف ب ﴿ الرحمن الرَّحِيمِ ﴾ إلا الله تعالى، كذا رواه ابن جرير عن عطاء ووجهه بذلك والله أعلم.
والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره كاسم ( الله ) و ( الرحمن ) و ( الخالق ) و ( الرازق ) ونحو ذلك وأما ( الرحيم ) فإن الله وصف به غيره حيث قال في حقّ النبي :﴿ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ]، كما وصف غيره ببعض أسمائه فقال في حق الإنسان :﴿ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ [ الإنسان : ٢ ].
قال ابن كثير : وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر، لأنه اشتهر عند كثير من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية، والشكر لا يكون إلا على المتعدية، ويكون بالجَنَان، واللسان، والأركان كما قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة | يدي ولساني والضمير المحجّبا |
وفي الحديث الشريف عن رسول الله ﷺ أنه قال :« أفضلُ الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمدُ لله »، وعنه ﷺ أنه قال :« ما أنعم الله على عبدٍ نعمة فقال : الحمد لله، إلاّ كان الذي أعطَى أفضل مما أخذ » وعن ابن عمر أن رسول الله حدَّثهم « أن عبداً من عباد الله قال : يا رب لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى الله فقالا : يا ربنا إن عبداً قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله - وهو أعلم بما قال عبده - ماذا قال عبدي؟ قالا : يا رب إنه قال : لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما : اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها ».
والألف واللام في ﴿ الحمد ﴾ لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث :« اللهم لك الحمد كلُّه، ولك الملك كلُّه، وبيدك الخير كلُّه، وإليك يرجع الأمر كلُّه » الحديث.
﴿ رَبِّ العالمين ﴾ الربُّ هو المالك المتصرف، ويطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح، وكلُّ ذلك صحيح في حق الله تعالى، ولا يستعمل الرب لغير الله إلا بالإضافة، تقول : ربُّ الدار، وأما الرب فلا يقال إلا لله عزّ وجلّ.
وقال الفراء وأبو عبيد : العالم عبارة عمّا يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين، ولا يقال للبهائم عالم.
وقال الزجاج : العالم كلُّ ما خلق الله في الدنيا والآخرة. قال القرطبي : وهذا هو الصحيح أنه شامل لكل العالمين قال تعالى :﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٣-٢٤ ]. والعالم مشتقٌ من العلامة، لأنه دال على وجود خالقه وصانعه وعلى وجدانيته جلَّ وعلا كما قال ابن المعتز :
فيا عجباً كيف يعصي الإله... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
والمَلِكُ في الحقيقة هو الله تعالى، فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز، وفي الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال :« يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون ».
و ﴿ الدين ﴾ : الجزاء والحساب كما قال تعالى ﴿ أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ﴾ [ الصافات : ٥٣ ] أي مجزيون محاسبون، وفي الحديث :« الكَيّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت » أي حاسب نفسه، وعن عمر رضي الله عنه :« حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ».
وفي الشرع : هي ما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، وقدّم المفعول وكرّر للإهتمام والحصر، أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين يرجع كله إلى هذين المعنيين، فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرءٌ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عزّ وجلّ، وهذا المعنى في غير آيةٍ من القرآن :﴿ فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ [ هود : ١٢٣ ] ﴿ قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ [ الملك : ٢٩ ]. وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة، لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى فلهذا قال :﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ بكاف الخطاب، وفي هذا دليلٌ على أن أول السورة خبرٌ من الله تعالى بالثناء على نفسه بجميل صفاته الحسنى، وإرشادٌ لعباده بأن يثنوا عليه بذلك.
وإنما قدّم ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ على ﴿ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ لإن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والأصل أن يقدم ما هو الأهم فالأهم، فإن قيل : فما معنى النون في ﴿ نَعْبُدُ ﴾ و ﴿ نَسْتَعِينُ ﴾ فإن كانت للجمع فالداعي واحد، وإن كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام؟ وقد أجيب : بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد، والمصلي فردٌ منهم ولا سيما إن كان في جماعة أو إمامهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خُلقوا لأجلها وتوسَّط لهم بخير، و ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ ﴾ ألطفُ في التواضع من ( إيَّاك عبدنا )، لما في الثاني من تعظيم نفسه من جعل نفسه وحده أهلاً لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته، ولا يثني عليه كما يليق به، والعبادة مقام عظيم يَشْرُف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى كما قال بعضهم :
لا تدعني إلا بيا عبدها... فإنه أشرف أسمائي
وقد سمّى رسوله ﷺ بعبده في أشرف مقاماته فقال :﴿ الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب ﴾ [ الكهف : ١ ] وقال :﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ ﴾ [ الجن : ١٩ ] وقال :﴿ سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ﴾ [ الإسراء : ١ ] فسماه عبداً عند إنزاله عليه، وعند قيامه للدعوة، وإسرائه به.
والهداية هاهنا : الإرشاد والتوفيق وقد تُعدَّى بنفسها ﴿ اهدنا الصراط ﴾ وقد تعدى بإلى ﴿ فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم ﴾ [ الصافات : ٢٣ ] وقد تُعدى باللام ﴿ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ] أي وفقنا وجعلنا له أهلاً، وأمّا ﴿ الصراط المستقيم ﴾ فهو في لغة العرب : الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه، ثم تستعير العرب الصراط في كل قول وعمل وصف باستقامة أو اعوجاج، واختلفت عبارات المفسرين من السلف الخلف في تفسير ﴿ الصراط ﴾ وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو ( المتابعة لله وللرسول )، فروي أنه كتاب الله، وقيل : إنه الإسلام، قال ابن عباس : هو دين الله الذي لا اعوجاج فيه، وقال ابن الحنفية : هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره، وقد فسّر الصراط بالإسلام في حديث ( النوالس بن سمعان ) عن رسول الله ﷺ أنه قال :« ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مفتَّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداعٍ يدعوا من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويْحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجْه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم » وقال مجاهد : الصراط المستقيم : الحق، وهذا أشمل ولا منافاة بينه وبين ما تقدم، قال ابن جرير رحمه الله : والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أن يكون معنياً به وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل، وذلك هو الصراط المستقيم لأن من وُفِّق لما وِّفق له من أنعم عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين فقد وفّق للإسلام.
( فإن قيل ) : فكيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وهو متصف بذلك؟.
فالجواب : أن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها واستمراه عليها، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونه والثبات والتوفيق، فقد أمر تعالى الذين آمنوا بالإيمان :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ﴾ [ النساء : ١٣٦ ] والمراد الثباتُ والمداومةُ على الأعمال المعينة على ذلك والله أعلم.
وقوله تعالى ﴿ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين ﴾ بالجر على النعت، والمعنى : اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمتَ عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة، غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين علموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق، وأكد الكلام ب ( لا ) ليدل على أن ثَمَّ مسلكين فاسدين وهما : طريقة اليهود، وطريقة النصارى، فجيء ب ( لا ) لتأكيد النفي وللفرق بين الطريقتين ليجتنب كل واحدٍ منهما، فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهودُ فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى، لكن أخصُّ أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم :﴿ مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ ﴾ [ المائدة : ٦٠ ]، وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم :﴿ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل ﴾ [ المائدة : ٧٧ ]، وبهذا وردت الأحاديث والآثار، فقد روي عن عدي بن حاتم أنه قال : سألت رسول الله ﷺ عن قوله تعالى :﴿ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم ﴾ قال : هم اليهود ﴿ وَلاَ الضآلين ﴾ قال : النصارى. ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها :( آمين ) ومعناه : اللهم استجب، لما روي عن أبي هريرة أنه قال :« كان رسول الله إذا تلا ﴿ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين ﴾ قال : آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول ».