ﰡ
والمعنى : جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجابا يحول بينهم وبين فهمه وتدبره، والإيمان به، وبينه قوله :﴿ وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ﴾. [ الإسراء : ٤٧ ].
وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله :﴿ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ﴾ [ فصلت : ٥ ] فأخبر سبحانه أن ذلك جعله.
فالحجاب يمنع من رؤية الحق، والأكنة تمنع من فهمه، والوقر يمنع من سماعه.
وقال الكلبي : الحجاب هاهنا مانع يمنعهم من الوصول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذى من الرعب ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه.
ووصفه بكونه مستورا، فقيل : بمعنى ساتر، وقيل : على النسب، أي في ستر، والصحيح : أنه على بابه، أي مستورا عن الأبصار فلا يرى. ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت. والنسب في مفعول لم يشتق من فعله، كمكان محول أي ذي حول، ورجل مرطوب، أي ذي رطوبة، فأما مفعول فهو جار على فعله فهو الذي وقع عليه الفعل. كمضروب ومجروح ومستور.
وهذه خمسة أشياء : مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق.
وحقيقة الصدق في هذه الأشياء : هو الحق الثابت المتصل بالله، الموصل إلى الله، وهو ما كان به وله، من الأقوال والأعمال، وجزاء ذلك في الدنيا والآخرة.
فمدخل الصدق ومخرج الصدق : أن يكون دخوله وخروجه حقا ثابتا بالله، ولله، وفي مرضاته، متصلا بالظفر بالبغية، وحصول المطلوب، ضد مخرج الكذب ومدخله، الذي لا غاية له يوصل إليها، ولا له ساق ثابتة يقوم عليها. كمخرج أعدائه يوم بدر، ومخرج الصدق : كمخرجه صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه في تلك الغزوة. وكذلك مدخله المدينة كان مدخل صدق بالله، ولله، وابتغاء مرضاة الله. فاتصل به التأييد والظفر والنصر، وإدراك ما طلبه في الدنيا والآخرة، بخلاف مدخل الكذب الذي رام أعداؤه أن يدخلوا به المدينة يوم الأحزاب. فإنه لم يكن لله، ولا بالله، بل كان محادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يتصل به إلا الخذلان والبوار، وكذلك مدخل من دخل من اليهود المحاربين لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصن بني قريظة فإنه لما كان مدخل كذب أصابه معهم ما أصابهم.
فكل مدخل معهم ومخرج كان بالله ولله وابتغاء مرضاة الله : فصاحبه ضامن على الله. فهو مدخل صدق ومخرج صدق.
وكان بعض السلف إذا خرج من داره رفع رأسه إلى السماء، وقال : اللهم إني أعوذ بك أن أخرج مخرجا لا أكون فيه ضامنا عليك، يريد أن لا يكون المخرج مخرج صدق. ولذلك فسر مدخل الصدق ومخرجه : بخروجه صلى الله عليه وسلم من مكة، ودخوله المدينة. ولا ريب أن هذا على سبيل التمثيل. فإن هذا المدخل والمخرج من أجل مداخله ومخارجه صلى الله عليه وسلم وإلا فمداخله ومخارجه كلها مداخل صدق ومخارجه مخارج صدق، إذ هي لله وبالله وبأمره، ولابتغاء مرضاته.
وما خرج أحد من بيته ودخل سوقه أو أي مدخل آخر إلا بصدق أو بكذب. فمخرج كل واحد ومدخله لا يعدو الصدق والكذب. والله المستعان.
وأما لسان الصدق : فهو الثناء الحسن عليه صلى الله عليه وسلم من سائر الأمم بالصدق، ليس ثناء بالكذب، كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه ﴿ وجعلنا لهم لسان صدق عليا ﴾ [ مريم : ٥٠ ].
والمراد باللسان هاهنا : الثناء الحسن. فلما كان الصدق باللسان، وهو محله، أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق، جزاء وفاقا، وعبر به عنه.
فإن اللسان يراد به ثلاثة معان : هذا، واللغة، كقوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ﴾ [ إبراهيم : ٤ ] وقوله :﴿ واختلاف ألسنتكم وألوانكم ﴾ [ الروم : ٢٢ ] وقوله :﴿ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ﴾ [ النحل : ١٠٣ ] ويراد به الجارحة نفسها كقوله تعالى :﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به ﴾ [ القيامة : ١٦ ].
وأما قدم الصدق : ففسر بالجنة، وفسر بمحمد صلى الله عليه وسلم وفسر بالأعمال الصالحة.
وحقيقة القدم : ما قدموه، وما يقدمون عليه يوم القيامة، وهم قدموا الأعمال والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويقدمون على الجنة التي هي جزاء ذلك.
فمن فسره بها أراد ما يقدمون عليه، ومن فسره بالأعمال، وبالنبي صلى الله عليه وسلم فإنهم قدموها وقدموا الإيمان به بين أيديهم، فالثلاثة قدم صدق.
وأما مقعد الصدق : فهو الجنة عند الرب تبارك وتعالى.
ووصف ذلك كله بالصدق مستلزم ثبوته واستقراره، وأنه حق مستلزم لدوامه ونفعه وكمال عائدته، فإنه متصل بالحق سبحانه، كائن به وله، فهو صدق غير كذب، وحق غير باطل. ودائم غير زائل، ونافع غير ضار، وما للباطل ومتعلقاته إليه سبيل ولا مدخل.