تفسير سورة طه

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة طه من كتاب تفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1419 هـ

بسم الله الرحمان الرحيم
يقول الحق سبحانه في بداية سورة طه١ :
﴿ طه ( ١ ) ﴾.
تكلمنا كثيرا عن الحروف المقطعة في بدايات السور، ولا مانع هنا أن نشير إلى ما ورد في ( طه ). فالبعض يرى أنها حروف متصلة، وهي اسم من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، وآخرون يرون أنها حروف مقطعة مثل ( الم ) ومثل ( يس ) فهي حروف مقطعة، إلا أنها صادفت اسما من الأسماء كما في ( ن ) حرف وهو اسم للحوت :﴿ وذا النون إذ ذهب مغاضبا.. ( ٨٧ ) ﴾ ( الأنبياء ) و ( ق ) حرف، وهو اسم لجبل اسمه جبل قاف.
إذن : لا مانع أن تدل هذه الحروف على اسم من الأسماء، فتكون ( طه ) اسما٢ من أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم خاصة، وأن بعدها :
﴿ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ( ٢ ) ﴾ ( طه ).
لكن تلاحظ هنا مفارقة، حيث نطق الطاء والهاء بدون الهمزة، مع أنها حروف مقطعة مثل ألف لام ميم، لكن لم ينطق الحرف كاملا، لأنهم كانوا يستثقلون الهمز فيخففونها، كما في ذئب يقولون : ذيب وفي بئر، يقولون : بير، وهذا النطق يرجح القول بأنها اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم.
وسبق أن أوضحنا أن فواتح السور بالحروف المقطعة تختلف عن باقي آيات القرآن، فكل آيات القرآن من بدايته لنهايته بنيت على الوصل، وإن كان لك أن تقف ؛ لذلك فكل المصاحف تبنى على الوصل في الآيات وفي السور، فتنطق آخر السورة على الوصل ببسم الله الرحمن الرحيم في السورة التي بعدها.
تقول :﴿ هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ( ٩٨ ) ﴾ ( مريم )، ( بسم الله الرحمن الرحيم ) حتى في آخر سور القرآن ونهايته تقول :﴿ من الجنة والناس ( ٦ ) ﴾ ( الناس ) :( بسم الله الرحمن الرحيم ) مع أنها آخر كلمة في القرآن، وماذا سيقول بعدها ؟ لكنها جاءت على الوصل إشارة إلى أن القرآن موصول أوله بآخره. لا ينعزل بعضه عن بعض، فإياك أن تجفوه، أو تظن أنك أنهيته، لأن نهايته موصولة ببدايته، فنقرأ ﴿ من الجنة والناس ﴾ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) الحمد لله رب العالمين..
إذن : فالقرآن كله في كل جملة وكل آية وكل سورة مبني على الوصل، إلا في فواتح السور بالحروف المقطعة تبنى على الوقف ( ألف – لام – ميم )، وهذا وجه من وجوه الإعجاز، وأن القرآن ليس ميكانيكا، بل كلام معجز من رب العالمين.
لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم أوضح استقلالية هذه الحروف بذاتها، فقال : تعلموا هذا القرآن، فإنكم تؤجرون بتلاوته، بكل حرف عشر حسنات، أما إني لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، بكل حرف عشر حسنات ). ٣
١ سورة (طه) هي السورة رقم ٢٠ في ترتيب المصحف الشريف. عدد آياتها (١٣٥) آية، وهي سورة مكية في قول الجميع: نزلت قبل إسلام عمر رضي الله عنه، وهي السورة رقم (٤٤) في ترتيب نزول القرآن، وقد نزلت بعد سورة مريم وقبل سورة الواقعة. وهي سورة مكية، وقد استثني منها آيتان هما: ﴿فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى (١٣٠) ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى (١٣١)﴾ ('طه).
فقد ذكر السيوطي في: (الإتقان في علوم القرآن) (١ / ٤٢) أنهما مدنيتان..

٢ قال ابن عباس: معنى (طه) أي: يا رجل. ذكره البيهقي. وقاله الحسن وقال عكرمة هو بالسريانية كذلك. ذكره المهدي. وحكى الطبري: أنه بالنبطية يا رجل. وهنا قول السدي وسعيد بن جبير. (تفسير القرطبي ٦ / ٤٣٣٧)..
٣ أخرجه الدارمي في سننه (٢ / ٤٢٩) فضائل القرآن – باب: من قرأ القرآن من حديث عبد الله بن مسعود..
يقول الحق سبحانه :﴿ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ( ٢ ) ﴾.
الشقاء : هو التعب والنصب والكد، فالحق سبحانه ينفي عن رسوله صلى الله عليه وسلم التعب بسبب إنزال القرآن عليه، إذن : فما المقابل ؟ المقابل : أنزلنا عليك القرآن لتسعد، تسعد أولا بأن اصطفاك لأن تكون أهلا لنزول القرآن عليك، وتسعد بأن تحمل نفسك أولا على منهج الله وفعل الخير كل الخير.
فلماذا – إذن – جاءت كلمة ﴿ لتشقى ( ٢ ) ﴾ ( طه ) ؟.
هذا كلام الكفار أمثال أبي جهل، ومطعم بن عدي، والنضر بن الحارث، والوليد بن المغيرة حينما ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له :
لقد أشقيت نفسك بهذه الدعوة١.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن الله بعثني رحمة للعالمين )٢.
فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسعد ويسعد معه قومه والناس أجمعين لا ليشقى ويشقي معه الناس. لكن من أين جاء الكفار بمسألة الشقاء هذه ؟ المؤمن لو نظر إلى منهج الله الذي نزل به القرآن لوجده يتدخل في إراداته واختياراته، ويقف أمام شهواته، فيأمره بما يكره وما يشق على نفسه، ويمنعه مما يألف ومما يحب.
إذن : فمنهج الله ضد مرادات الاختيار، وهذا يتعب النفس ويشق عليها إذا عزلت الوسيلة عن غايتها، فنظرت إلى الدنيا والتكليف منفصلا عن الآخرة والجزاء.
أما المؤمن فيقرن بين الوسيلة والغاية، ويتعب في الدنيا على أمل الثواب في الآخرة، فيسعد بمنهج الله، لا يشقى به أبدا.
كالتلميذ الذي يتحمل مشقة الدرس والتحصيل ؛ لأنه يستحضر فرحة الفوز والنجاح آخر العام.
من هنا رأى هؤلاء الكفار في منهج الله مشقة وتعبا، لأنهم عزلوا الوسيلة عن غايتها ؛ لذلك شعروا بالمشقة، في حين شعر المؤمنون بلذة العبادة ومتعة التكليف من الله، وهذه المسألة هي التي جعلتهم يتخذون آلهة لا مطالب لها، ولا منهج، ولا تكليف، آلهة يعبدونها على هواهم، ويسيرون في ظلها على حل شعورهم.
لذلك أوضح القرآن أنهم مغفلون في هذه المسألة، فقال :﴿ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ( ٢ ) ﴾ ( طه ).
أو يكون الشقاء : تعرضه لعتاة قريش وصناديدها الذين سخروا منه، وآذوه وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم، يشتمونه ويرمونه بالحجارة، وهو صلى الله عليه وسلم يشقي نفسه بدعوتهم والحرص على هدايتهم.
والحق تبارك وتعالى ينفي الشقاء بهذا المعنى أيضا :﴿ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ( ٢ ) ﴾ ( طه ) : أي : لتشقي نفسك معهم، إنما أنزلناه لتبلغهم فحسب٣، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن كثيرا في مثل قوله تعالى :﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ( ٦ ) ﴾ ( الكهف )، وقوله :﴿ إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( ٤ ) ﴾ ( الشعراء ).
وسبق أن ضربنا لذلك – مثلا – ولله المثل الأعلى – برجل عنده عبدان : ربط أحدهما إليه بحبل، وأطلق الآخر حرا، فإذا ما دعاهما فاستجابا لأمره، فأيهما أطوع له، وأكثر احتراما لأمره ؟
لا شك الحر الطليق ؛ لأنه جاء مختارا، في حين كان قادرا على العصيان، وكذلك ربك – تبارك وتعالى – يريد منك أن تأتيه حرا مختارا مؤمنا، وأنت قادر ألا تؤمن.
والبعض يحلو لهم نقد الإسلام واتهام الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقولون : إن رسول الله يخطئ والله يصوب له، ونتعجب : وما يضيركم أنتم ؟ طالما أن ربه هو الذي يصوب له، هل أنتم الذين صوبتم لرسول الله ؟ ! ثم من أخبركم بخطأ رسول الله ؟ أليس هو الذي أخبركم ؟ أليس هذا من قوة أمانته في التبليغ ويجب أن تحمد له ؟.
إذن : فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستنكف أن يربيه ربه ؛ لذلك يقول :( إنما أنا بشر يرد علي – يعني من الحق – فأقول : أنا لست كأحدكم، ويؤخذ مني فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم ).
وقد تمحك هؤلاء كثيرا في قصة عبد الله بن أم مكتوم، حينما انشغل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبار قريش، والمتأمل في هذه القصة يجد أن ابن أم مكتوم كان رجلا مؤمنا جاء ليستفهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، فالكلام معه ميسور وأمر سهل، أما هؤلاء فهم رؤوس الكفر وكبار القوم، ولديهم مع ذلك لدد في خصومتهم للإسلام، ، والنبي صلى الله عليه وسلم يحرص على هدايتهم ويرهق نفسه في جدالهم أملا في أن يهدي الله بهم من دونهم.
إذن : النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف اختار لنفسه الأصعب، وربه يعاتبه على ذلك، فهو عتاب لصالحه، له لا عليه٤.
١ قال مقاتل: قال أبو جهل والنضر بن الحارث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنك لتشقى بترك ديننا، وذلك لما رأياه من طول عبادته واجتهاده، فأنزل الله تعالى هذه ا لآية: ﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى (٢)﴾ (طه) (ذكره الواحدي النيسابوري في أسباب النزول ص ١٧٤)}..
٢ أخرجه أحمد في مسنده (٥ / ٢٥٧) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وتمامه: (إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين وأمرني أن أمحق المزامير والكفارات يعني البرابط والمعازف والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية)..
٣ أخرج الترمذي في سننه (٣٣١٨) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما من حديث طويل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إنما بعثني الله مبلغا، ولم يبعثني معنتا) قال الترمذي: (هذا حديث حسن صحيح)..
٤ وفي هذا يقول الحق سبحانه: ﴿عبس وتولى (١) أن جاءه الأعمى (٢) وما يدريك لعله يزكى (٣) أو يذكر فتنفعه الذكر (٤) أما من استغنى (٥) فأنت له تصدى (٦) وما عليك ألا يزكى (٧) وأما من جاءك يسعى (٨) وهو يخشى (٩) فأنت عنه تلهى (١٠) كلا إنها تذكرة (١١) فمن شاء ذكره (١٢)﴾ (عبس)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى ( ٣ ) ﴾.
أي : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى، وإنما أنزلناه ( تذكرة ) أي : تذكيرا ( لمن يخشى ) الخشية : خوف بمهابة ؛ لأن الخوف قد يكون خوفا دون مهابة، أما الخوف من الله فخوف ومهابة معا.
تنزيلا : مصدر أي أنزلناه تنزيلا، وقد ورد في نزول القرآن : أنزلناه، ونزلناه ونزل، يقول تعالى :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ( ١ ) وما أدراك ما ليلة القدر ( ٢ ) ليلة القدر خير من ألف شهر ( ٣ ) تنزل الملائكة والروح فيها.. ( ٤ ) ﴾ ( القدر ) : لأن القرآن أخذ أدوارا عدة في النزول، فقد كان في اللوح المحفوظ، فأراد الله له أن يباشر القرآن مهمته في الوجود، فأنزله من اللوح المحفوظ مرة واحدة إلى السماء الدنيا. فأنزله – أي الله تعالى – ثم تنزل مفرقا حسب الأحداث من السماء الدنيا على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نزل به جبريل :﴿ نزل به الروح الأمين ( ١٩٣ ) ﴾ ( الشعراء ).
وقوله تعالى :﴿ مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى ( ٤ ) ﴾ ( طه ).
خص السماوات والأرض، لأنها من أعظم خلق الله، وقد أعدهما الله ليستقبلا الإنسان، فالإنسان طرأ على كون معد جاهز لاستقباله، فكان عليه ساعة أن يرى هذا الكون المعد لخدمته بأرضه وسمائه، ولا قدرة له على تسيير شيء منها، كان عليه أن يعمل عقله، ويستدل بها على الموجد سبحانه وتعالى.
كأن الحق - تبارك وتعالى – يقول لك : إذا كان الخالق سبحانه قد أعد لك الكون بما يقيم حياتك المادية، أيترك حياتك المعنوية بدون عطاء ؟.
والخالق عز وجل خلق هذا الكون بهندسة قيومية عادلة حكيمة توفر لخليفته في الأرض استبقاء حياته، وتعطيه كل ما يحتاج إليه بقدر دقيق، واستبقاء الحياة يحتاج إلى طعام، وشراب وهواء، وقد أعطاها الله للإنسان بحكمة بالغة.
فالطعام يحتاجه الإنسان، ويستطيع أن يصبر عليه شهرا، دون أن يأكل، ويحتاج إلى الماء ولكن لا يستطيع أن يصبر عليه أكثر من عشرة أيام، ويحتاج إلى الهواء ولكن لا يصبر عليه لحظة تستغرق عدة أنفاس.
لذلك، فمن رحمته تعالى بعباده أن يمتلك بعض الناس القوت، فالوقت أمامك طويل لتحتال على كسبه، وقليلا ما يملك أحد الماء، أما الهواء الذي لا صبر لك عليه، فمن حكمة الله أنه لا يملكه أحد، وإلا لو منع أحد عنك الهواء لمت قبل أن يرضى عنك.
فمن حكمة الله أن خلق جسمك يستقبل مقومات استبقاء الحياة فترة من الزمن تتسع للحيلة وللعطف من الغير، وحين تأكل يأخذ الجسم ما يحتاجه على قدر الطاقة المبذولة، وما فاض يختزن في جسمك على شكل دهن يغذي الجسم حين لا يتوفر الطعام.
ومن عجائب قدرة الله أن هذه المادة الدهنية تتحول تلقائيا إلى أي مادة أخرى يحتاجها الجسم، فإن احتاج الحديد تتحول كيماويا إلى الحديد، وإن احتاج الزرنيخ تتحول كيماويا إلى زرنيخ، وهي في الواقع مادة واحدة، فمن يقدر على هذه العملية غيره تعالى ؟.
وبعد أن أعطاك ما يستبقي حياتك من الطعام والشراب والهواء أعطاك ما يستبقي نوعك بالزواج والتناسل.
وقوله تعالى :﴿ السماوات العلى ( ٤ ) ﴾ ( طه ) : العلا : جمع عليا، كما نقول في جمع كبرى : كبر ﴿ إنها لإحدى الكبر ( ٣٥ ) ﴾ ( المدثر ).
وهكذا تكتمل مقومات التكوين العالي لخليفة الله في الأرض، فكما أعطاه ما يقيم حياته ونوعه بخلق السماوات والأرض، أعطاه ما يقيم معنوياته بنزول القرآن الذي يحرس حركاتنا من شراسة الشهوات، فالذي أنزل القرآن هو الذي خلق الأرض والسماوات العلا.
والصفة البارزة في هذا التكوين العالي للإنسان هي صفة الرحمانية ؛ لذلك قال بعدها :﴿ الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ( ٥ ) ﴾.
فالآية السابقة أعطتنا مظهرا من مظاهر العطف والرحمة، وهذه تعطينا مظهرا من مظاهر القهر والغلبة، واستواء الرحمن – تبارك وتعالى – على العرش يؤخذ في إطار﴿ ليس كمثله شيء.. ( ١١ ) ﴾( الشورى )وسبق أن تكلمنا في الصفات المشتركة بين الحق سبحانه وبين خلقه، فلك سمع وبصر، ولله سمع وبصر، لكن إياك أن تظن أن سمع الله كسمعك، أو أن بصره كبصرك.
كذلك في مسألة الاستواء على العرش، فللحق سبحانه استواء على عرشه، لكنه ليس كاستوائك أنت على الكرسي مثلا١.
والعرش في عرف العرب هو سرير الملك، وهل يجلس الملك على سريره ليباشر أمر مملكته ويدير شئونها إلا بعد أن يستتب له الأمر ؟
وكذلك الخالق – جل وعلا – خلق الكون بأرضه وسمائه، وخلق الخلق، وأنزل القرآن لينظم حياتهم، وبعد أن استتب له الأمر لم يترك الكون هكذا يعمل ميكانيكيا، ولم ينعزل عن كونه وعن خلقه ؛ لأنهم في حاجة إلى قيوميته تعالى في خلقه.
ألم يقل الحق سبحانه في الحديث القدسي :( يا عبادي، ناموا ملء جفونكم، لأني قيوم لا أنام )٢.
فكون الله ليس آلة تعمل من تلقاء نفسها، وإنما هو قائم بقيوميته عليه لا يخرج عنها ؛ لذلك كانت المعجزات التي تخرق نواميس الكون دليلا على هذه القيومية.
١ قال القرطبي في تفسيره (٦ / ٤٣٤١): (الذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن وغيره أنه مستو على عرشه بغير حد ولا كيف، كما يكون استواء المخلوقين. وقال ابن عباس: يريد خلق ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة وبعد القيامة). وقال ابن كثير في تفسيره (٣ / ١٤٢): (المسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف: إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل)..
٢ أورد ابن كثير في تفسيره (١ / ٣٠٩) عن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟ قال: اتقوا الله، فناداه ربه عز و جل: يا موسى سألوك هل ينام ربك؟ فخذ زجاجتين في يديك، فقم الليلة. فعل موسى، فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ثم انتعش فضبطهما، حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا. فقال: يا موسى لو كنت أنام لسقطت السماوات والأرض فهلكت كما هلكت الزجاجتان في يديك).
.

ثم يقول الحق سبحانه :﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ( ٦ ) ﴾.
الحق – تبارك وتعالى – يمتن بما يملكه سبحانه في السموات وفي الأرض وما تحت الثرى، والله تعالى لا يمتن إلا بملكية الشيء النفيس الذي ينتفع به.
وكأنه سبحانه يلفت أنظار خلقه إلى ما في الكون من مقومات حياتهم المادية ليبحثوا عنها، ويستنبطوا ما ادخره لهم من أسرار وثروات في السموات والأرض، والناظر في حضارات الأمم يجد أنها جاءت إما من حفريات الأرض، أو من أسرار الفضاء الأعلى في عصر الفضاء.
ولو فهم المسلمون هذه الآية منذ نزلت لعلموا أن في الأرض وتحت الثرى وهو :( التراب ) كنوزا وثروات ما عرفوها إلا في العصر الحديث بعد الاكتشافات والحفريات، فوجدنا البترول والمعادن والأحجار الثمينة، كلها تحت الثرى مطمورة تنتظر من ينقب عنها وينتفع بها.
وقد أوضح العلماء أن هذه الثروات موزعة في أرض الله بالتساوي، بحيث لو أخذت قطاعات متساوية من أراض مختلفة لوجدت أن الثروات بها متساوية : هذه بها ماء، وهذه مزروعات، وهذه معادن، وهذه بترول وهكذا، فهي أشبه بالبطيخة حين تقسمها إلى قطع متساوية من السطح إلى المركز.
لذلك يقول تعالى :﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ( ٢١ ) ﴾ ( الحجر ).
إذن : فالخير موجود ينتظر القدر ليظهر لنا وننتفع به.
ثم يقول تبارك وتعالى :﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ( ٧ ) ﴾.
الحق – سبحانه وتعالى – حينما يطلب من رسوله أن يذكر يريد منه أن يذكر تذكيرا مرتبطا بنيته، لا ليقطع العتب عن نفسه، فالمسألة ليست جهرا بالتذكير.
وإذا كان الله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم : إنني سأحرس سرك كما أحرس علانيتك، وأن الجهر عندي مثل السر، بل وأخفى من السر، وهو صلى الله عليه وسلم مؤتمن على الرسالة فإنه تعالى يقول أيضا لأمته : إياكم أن تقولوا كلاما ظاهره فيه الرحمة، ونيتكم مستقرة عليه ؛ لأن الله كما يعلم الجهر يعلم السر، وما هو أخفى من السر.
وتكلمنا عن الجهر، وهو أن تسمع من يريد أن يسمع، والسر : أن تخص واحدا بأن تضع في أذنه كلاما لا تحب أن يشيع عند الناس، وتهمس في أذنه بأنك المأمون على هذا الكلام، وأنت ترتاح نفسيا حينما تلقي بسرك إلى من تثق فيه، وتأمن ألا يذيعه، وهناك في حياة كل منا أمور تضيق النفس بها، فلا بد لك أن تنفس عن نفسك، كما قال الشاعر :
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
فأنت – إذن – في حاجة لمن يسمع منك ليريحك، وينفس عنك، ولا يفضحك بما أسررت إليه.
ومعنى :﴿ وأخفى ( ٧ ) ﴾ ( طه ) : أي : أخفى من السر، فإن كان سرك قد خرج من فمك إلى أذن سامعك، فهناك ما هو أخفى من السر، أي : ما احتفظت به لنفسك ولم تتفوه به لأحد.
لذلك يقول تعالى :﴿ وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ( ١٣ ) ﴾ ( الملك ) : أي : مكنوناتها قبل أن تصير كلاما.
وقال أيضا :﴿ ونعلم ما توسوس به نفسه.. ( ١٦ ) ﴾ ( ق ) : فوسوسة النفس، وذات الصدور هي الأخفى من السر، فلدينا – إذن - جهر، وسر، وأخفى من السر، لكن بعض العارفين يقول : وهناك في علم الله ما هو أخفى من الأخفى، فما هو ؟ يقول : إنه تعالى يعلم ما سيكون في النفس قبل أن يكون.
وبعد ذلك جاء الحق سبحانه بالكلمة التي بعث عليها الرسل جميعا :﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى ( ٨ ) ﴾.
هذه الكلمة ( لا إله إلا هو ) هي قمة العقيدة، وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم :( خير ما قلته أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله )١.
وما دام لا إله إلا الله، فهو سبحانه المؤتمن عليك، فليس هناك إله آخر يعقب عليه، فاعمل لوجهه يكفك كل الأوجه وتريح نفسك أن تتنازعك قوى شتى ومختلفة، ويغنيك عن كل غنى.
وحينما دخل أعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتكلم مع أبي بكر – رضي الله عنه – لم يفهم من كلامهما شيئا، فقال : يا رسول الله أنا لا أحسن دندنتك ولا دندنة أبي بكر، أنا لا أعرف إلا : لا إله إلا الله محمد رسول الله. فقال صلى الله عليه وسلم :( حولها ندندن يا أخا العرب )٢.
فهي الأساس والمركز الذي يدور حوله الإسلام.
وكلمة ( الله ) علم على واجب الوجود بكل صفات الكمال له، فهو الله الموجود، الله القادر، الله العالم، الله الحي، الله المحيي، الله الضار. فكل هذه صفات له سبحانه، لكن هذه الصفات لما بلغت حد الكمال فيه تعالى أصبحت كالاسم العلم، بحيث إذا أطلق الخالق لا ينصرف إلا له، والرازق لا ينصرف إلا له.
وقد يشترك الخلق مع الخالق في بعض الصفات، كما في قوله تعالى :﴿ وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم.. ( ٨ ) ﴾ ( النساء ).
فالإنسان أيضا يرزق، لكن رزقه من باطن رزق الله، فهو سبحانه الرازق الأعلى، ومن بحره يغترف الجميع.
وكما في قوله تعالى :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ( ١٤ ) ﴾ ( المؤمنون )، وقال تعالى :﴿ وتخلقون إفكا.. ( ١٧ ) ﴾ ( العنكبوت ).
ومعنى ذلك أن هناك خالقين غيره سبحانه، ومعنى الخلق :
الإيجاد من عدم، فالذي جاء بالرمل وصنع منه كوبا فهو خالق للكوب، فأنت أوجدت شيئا من عدم، والله تعالى أوجد شيئا من عدم، ولكنك أوجدت من موجود الله قبل أن توجد أنت، فهو – إذن – أحسن الخالقين في حين لم يضن عليك ربك بأن ينصفك ويسميك خالقا، وهذا يوجب عليك أن تنصفه سبحانه وتقول ﴿ أحسن الخالقين ( ١٤ ) ﴾ ( المؤمنون ).
وأيضا، فإن الله تعالى إذا احترم إيجادك لمعدوم فسماك خالقا له، ولم يضن عليك فأعطاك صفة من صفاته إنما أخبرك أنه أحسن الخالقين، لأنك توجد معدوما يظل على إيجادك ويجمد على هذه الحالة، لكن الخالق – سبحانه وتعالى – يوجد معدوما ويمنحه الحياة، ويجعله يلتقي بمثله وينجب، فهل يستطيع الإنسان الذي أوجد كوبا أن يجعل منه ذكرا وأنثى ينتجان لنا الأكواب ؟ ! وهل يكبر الكوب الصغير، أو يتألم إن كسر مثلا ؟ !.
إذن : فالخالق سبحانه هو أحسن الخالقين، وكذلك هو خير الرازقين، وخير الوارثين، وخير الماكرين.
وقوله تعالى :﴿ له الأسماء الحسنى ( ٨ ) ﴾ ( طه ) : الحسنى : صيغة تفضيل للمؤنث مثل : كبرى، تقابل ( أحسن ) للمذكر. إذن : فهناك أسماء حسنة هي أسماء الخلق، أما أسماء الله فحسنى ؛ لأنها بلغت القمة في الكمال، ولأن الأسماء والصفات التي تنطبق عليها موجودة في الخالق الأعلى سبحانه، فحين تقول في أسماء الله تعالى ( الرازق ) فهي الصفة الحسنى لا الحسنة.
لذلك لما أراد رجل يدعى ( سعد ) أن يشاور أباه في خطبة ابنته حسنى وقد تقدم لها رجلان : حسن وأحسن. فقال له أبوه ( فحسنى يا سعد للأحسن ).
وقال تعالى :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة.. ( ٢٦ ) ﴾ ( يونس ) : فلم يقل : حسنة، لأنهم أحسنوا فاستحقوا الحسنى بل وزيادة.
وأسماء الله تعالى هي في الحقيقة صفات، إلا أنها أطلقت على الحق – تبارك وتعالى – أصبحت أسماء، ولك أن تسمي فتاة زنجية ( قمر ) وتسمي قزما ( الطويل ) لأن الاسم إذا أطلق علما على الغير انحل عن معناه الأصلي ولزم العلمية فقط، لكن أسماء الله بقيت على معناها الأصلي حتى بعد أن أصبحت علما على الله تعالى، فهي – إذن – أسماء حسنى.
وبعد أن تكلم الحق – تبارك وتعالى – عن الرسول الخاتم صاحب المنهج الخاتم – فليس بعده نبي وليس بعد منهجه منهج – أراد سبحانه أن يسليه تسلية تبين مركزه في موكب الرسالات، وأن يعطيه نموذجا لمن سبقوه من الرسل، وكيف أن كل رسول تعب على قدر رسالته، فإن كانت الرسالات السابقة محدودة الزمان محدودة المكان، ومع ذلك تعب أصحابها في سبيلها، فما بالك برسول جاء لكل الزمان ولكل المكان ؟ لا بد أنه سيواجه من المتاعب مثل هؤلاء جميعا.
إذن : فوطن نفسك يا محمد على أنك ستلقى من المتاعب والصعاب ما يناسب عظمتك في الرسالة وخاتميتك للأنبياء، وامتداد رسالتك في الزمان إلى أن تقوم الساعة، وفي المكان إلى ما اتسعت الأرض.
لذلك اختار الحق – تبارك وتعالى – لرسوله صلى الله عليه وسلم نبيا من أولي العزم ؛ لأنه جاء لبني إسرائيل وجاء لفرعون، وقد كان بنو إسرائيل قوما ماديين، أما فرعون فقد ادعى الألوهية، اختار موسى – عليه السلام – ليقص على رسول الله قصته ويسليه فيما يواجهه من متاعب الدعوة، كما قال تعالى :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين ( ١٢٠ ) ﴾ ( هود ).
وقال تعالى :﴿ قل ما كنت بدعا٣من الرسل.. ( ٩ ) ﴾ ( الأحقاف ).
فأنت يا محمد كغيرك من الرسل، وقد وجدوا من المشقة على قدر رسالاتهم، وسوف تجد أنت أيضا من المشقة على قدر رسالتك. ونضرب لذلك مثلا بالتلميذ الذي يكتفي بالإعدادية وآخر بالثانوية أو الجامعة، وآخر يسعى للدكتوراة، فلا شك أن كلا منهم يبذل من الجهد على قدر مهمته. لذلك يقول تعالى :﴿ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ٤مُوسَى ( ٩ ) ﴾.
١ أخرجه الترمذي في سننه (٣٥٨٥) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (خير الدعاء يوم عرفة...............) الحديث بتمامه. قال الترمذي: (هذا حديث غريب من هذا الوجه)..
٢ أخرج أحمد في مسنده (٣ / ٤٧٤) وابن ماجه في سننه (٣٨٤٧) وأبو داود في سننه (٧٩٢) عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لرجل: كيف تقول في الصلاة؟ قال: أتشهد. ثم أقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (حولها ندندن)..
٣ أي: ما كنت غريبا ولا عجيبا ولا كنت على غير مثال سابق، فأنا مثل الرسل السابقين. (القاموس القويم ١ / ٥٧)..
٤ قال القرطبي في تفسيره (٦ / ٤٣٤٣): (قال أهل المعاني: هو استفهام وإثبات وإيجاب معناه: أليس قد أتاك؟ وقيل: معناه قد أتاك. قاله ابن عباس)..
إذا جاء الاستفهام من الله تعالى فاعلم أنه استفهام على غير حقيقته، فلا يراد هنا طلب الفهم، لأن أخبار محمد تأتيه من ربه – عز وجل – فكيف يستفهم منه. إنما المراد بالاستفهام هنا التشويق لما سيأتي كما تقول لصاحبك : هل بلغك ما حدث بالأمس ؟ فيشوقه لسماع ما حدث.
والحديث أي : الخبر عنه سواء أكان بالوحي، أو بغير الوحي، كأن حكيت له قصة موسى عليه السلام.. فهل بلغتك هذه القصة ؟
اسمعها الآن مني :﴿ إِذْ١رَءا نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ٢ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ( ١٠ ) ﴾.
١ قال ابن عباس وغيره: هذا حين قضى الأجل وسار بأهله وهو مقبل من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق. وقال وهب بن منبه: استأذن موسى شعيبا في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله بغنمه، وولد له في الطريق غلام في ليلة شاتية باردة مثلجة، وقد حاد عن الطريق وتفرقت ماشيته، فقدح موسى النار فلم تور المقدحة شيئا إذ بصر بنار من بعيد على يسار الطريق. قاله القرطبي في تفسيره (٦ / ٤٣٤٣)..
٢ القبس: الشعلة من النار (اللسان – مادة: قبس)..
نلحظ هنا أن السياق لم يذكر قصة موسى من أولها لما قال تعالى :﴿ وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه.. ( ٧ ) ﴾ ( القصص ) ثم خروجه من المدينة خائفا وذهابه إلى شعيب.. الخ، وإنما قصد إلى مناط الأمر، وهي الرسالة مباشرة.
وقوله :﴿ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ( ١٠ ) ﴾ ( طه ) : آنست : أي : أبصرت، وشعرت بشيء يستأنس به ويفرح به ويطمأن إليه، ومقابلها ( توجست ) للشر الذي يخاف منه كما في قوله :﴿ فأوجس في نفسه خيفة موسى ( ٦٧ ) ﴾ ( طه ).
( لعلي ) رجاء أن أجد فيها القبس، وهو شعلة النار التي تتخذ من النار إن أدركت النار وهي ذات لهب، فتأخذ منها عودا مشتعلا مثل الشمعة.
وفي سياق آخر قال :( جذوة )١ وهي النار حينما ينطفئ لهبها ويبقى منها جمرات يمكن أن تشعل منها النار. وفي موضع آخر قال :﴿ سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس.. ( ٧ ) ﴾ ( النمل ).
وهذه كلها صور متعددة، وحالات للنار، ليس فيها تعارض كما يحلو للبعض أن يقول، فموسى عليه السلام حينما قال :﴿ لعلي آتيكم.. ( ١٠ ) ﴾ ( طه ) : يرجو أن يجد القبس، لكن لا يدري حال النار عندما يأتيها، أتكون قبسا أم جذوة ؟.
وقد طلب موسى – عليه السلام – القبس لأهله ؛ لأنهم كانوا في ليلة مطيرة شديدة البرد، وهم غرباء لا يعلمون شيئا عن المكان، فهو غير مطروق لهم فيسيرون لا يعرفون لهم اتجاها، فماذا يفعل موسى عليه السلام ومعه زوجته وولده الصغير وخادمه ؟
إنهم في أمس الحاجة للنار، إما للتدفئة في هذا الجو القارس، وإما لطلب هداية الطريق، لذلك قال :﴿ أو أجد على النار هدى ( ١٠ ) ﴾ ( طه ) أي : هاديا يدلنا على الطريق.
وفي موضع آخر قال :﴿ لعلي آتيكم منها بخبر.. ( ٢٩ ) ﴾ ( القصص ) لذلك لما أبصر موسى عليه السلام النار أسرع إليها بعد أن طمأن أهله :﴿ امكثوا إني آنست نارا.. ( ١٠ ) ﴾ ( طه ).
وهذه المسألة من قصة موسى كانت مثار تشكيك من خصوم الإسلام، حيث وجدوا سياقات مختلفة لقصة واحدة، فمرة يقول :﴿ امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم.. ( ١٠ ) ﴾ ( طه )، وفي موضع آخر يقول :﴿ لعلي آتيكم منها بخبر.. ( ٢٩ ) ﴾ ( القصص ).
ومرة يقول :( قبس ) وأخرى يقول :( بشهاب قبس ) ومرة ( بجذوة ) ومرة يقول :﴿ أو أجد على النار هدى ( ١٠ ) ﴾ ( طه ) ومرة يقول :﴿ لعلي آتيكم منها بخبر.. ( ٢٩ ) ﴾ ( القصص ).
والمتأمل في الموقف الذي يعيشه الآن موسى وامرأته وولده الصغير وخادمه في هذا المكان المنقطع وقد اكفهر عليهم الجو، يجد اختلاف السياق هنا أمرا طبيعيا، فكل منهم يستقبل الخبر من موسى بشكل خاص، فلما رأى النار وأخبرهم بها أراد أن يطمئنهم فقال :﴿ سآتيكم.. ( ٧ ) ﴾ ( النمل ) : فلما رآهم متعلقين به يقولون : لا تتركنا في هذا المكان قال :﴿ امكثوا.. ( ١٠ ) ﴾ ( طه ) وربما قال هذه لزوجه وولده وقال هذه لخادمه. فلا بد أنهم راجعوه. فاختلفت الأقوال حول الموقف الواحد.
كذلك في قوله : قبس أو جذوة لأنه حين قال :﴿ لعلي آتيكم.. ( ١٠ ) ﴾ ( طه ) : يرجو أن يجد هناك القبس، لكن لعله يذهب فيجد النار جذوة. وفي مرة أخرى يجزم فيقول :﴿ سآتيكم.. ( ٧ ) ﴾ ( النمل )
إذن : هي لقطات مختلفة تكون نسيج القصة الكاملة، وتعددت الكلمات لأن الموقف قابل للمراجعة، ولا ينتهي بكلمة واحدة.
١ وذلك في قوله: ﴿لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون (٢٩)﴾ (القصص)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى ( ١١ ) ﴾.
يقال : إن موسى عليه السلام لما أتاها وجد نورا يتلألأ في شجرة، لكن لا خضرة الشجرة تؤثر في النور فتبهته، ولا النور يطغى على خضرة الشجرة فيمنع عنها الخضرة، فهي – إذن – مسألة عجيبة لا يقدر عليها إلا الله.
فكانت هذه النار هي أول الإيناس لموسى في هذا المكان الموحش، وكأن المنظر العجيب الذي رآه إعداد إلهي لموسى حتى يتلقى عن ربه، فليست المسألة مجرد منظر طبيعي.
وقوله تعالى :﴿ نودي يا موسى.. ( ١١ ) ﴾ ( طه ) : أي : في هذه الدهشة ﴿ نودي.. ( ١١ ) ﴾ ( طه ) فالذي يناديه يعرفه تماما ؛ لذلك ناداه باسمه ﴿ يا موسى.. ( ١١ ) ﴾ ( طه ) : وما دام الأمر كذلك فطمع الخير فيه موجود، وبدأ موسى يطمئن إلى مصدر النداء، ويأنس به، ويبحث عن مصدر هذا الصوت، ولا يعرف من أين هو ؛ لذلك اعتبرها مسألة عجيبة مثل منظر الشجرة التي ينبعث منها النور.
فساعة أن كلمه ربه :﴿ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.. ( ١٢ ) ﴾ ( طه ) : أزال ما في نفسه من العجب والدهشة لما رآه وسمعه، وعلم أنها من الله تعالى فاطمأن واستبشر أن يرى عجائب أخرى.
ونلحظ في قوله تعالى :﴿ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.. ( ١٢ ) ﴾ ( طه ) : أن الحق – تبارك وتعالى – حينما يتحدث عن ذاته تعالى يتحدث بضمير المفرد ﴿ إِنِّي أَنَا رَبُّكَ.. ( ١٢ ) ﴾ ( طه )، وحينما يتحدث عن فعله يتحدث بصيغة الجمع، كما في قوله عز وجل :﴿ إنا أنزلناه في ليلة القدر ( ١ ) ﴾ ( القدر ) ﴿ إنا نحن نزلنا الذكر.. ( ٩ ) ﴾ ( الحجر )، ﴿ إنا نحن نرث الأرض ومن عليها.. ( ٤٠ ) ﴾ ( مريم ).
فلماذا تكلم عن الفعل بصيغة الجمع، في حين يدعونا إلى توحيده وعدم الإشراك به ؟ قالوا : الكلام عن ذاته تعالى لا بد فيه من التوحيد، كما في :﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ( ١٤ ) ﴾ ( طه )
لكن في الفعل يتكلم بصيغة الجمع، لأن الفعل يحتاج إلى صفات متعددة وإمكانات شتى، يحتاج إلى إرادة تريده، وقدرة على تنفيذه وإمكانات وعلم وحكمة.
إذن : كل صفات الحق تتكاتف في الفعل ؛ لذلك جاء الحديث عنه بصيغة الجمع، ويقولون في النون في قوله :﴿ نزلنا الذكر.. ( ٩ ) ﴾ ( الحجر )، ﴿ نرث الأرض.. ٤٠ ) ﴾ ( مريم ) : أنها : نون التعظيم.
وقد جاء الخطاب لموسى بلفظ الربوبية :﴿ إني أنا ربك.. ( ١٢ ) ﴾ ( طه ) : لإيناس موسى ؛ لأن الربوبية عطاء، فخطابه ( بربك ) أي الذي يتولى رعايتك وتربيتك، وقد خلقك من عدم، وأمدك من عدم، ولم يقل : إني أنا الله ؛ لأن الألوهية مطلوبها تكليف وعبادة وتقييد للحركة بافعل كذا ولا تفعل كذا.
وقوله تعالى :﴿ إني أنا ربك.. ( ١٢ ) ﴾ ( طه ) : أي : ربك أنت بالذات لا الرب المطلق ؛ لأن الرسل مختلفون عن الخلق جميعا، فلهم تربية مخصوصة، كما قال تعالى :﴿ ولتصنع على عيني ( ٣٩ ) ﴾ ( طه ) وقال :﴿ واصطنعتك١لنفسي ( ٤١ ) ﴾ ( طه ).
إذن : فالحق تبارك وتعالى يربي الرسل تربية تناسب المهمة التي سيقومون بها.
وقوله تعالى :﴿ فاخلع نعليك.. ( ١٢ ) ﴾ ( طه ) : هذا أول أمر، وخلع النعل للتواضع وإظهار المهابة، ولأن المكان مقدس والعلة ﴿ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ( ١٢ ) ﴾ ( طه ) : فاخلع نعليك حتى لا تفصل جسمك عن تربة هذا المكان المقدس الطاهر، ولا تجعل نعليك يحولان بينك وبين مباشرة ذرات هذا التراب.
ومن ذلك ما نراه في مدينة رسول الله من أناس يمشون بها حافيي الأقدام، يقول أحدهم : لعلي أصادف بقدمي موضع قدم رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله :﴿ طوى ( ١٢ ) ﴾ ( طه ) اسم الوادي٢وهذا كلام عام جاء تحديده في موضع آخر، فقال سبحانه :﴿ فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة.. ( ٣٠ ) ﴾ ( القصص )
والبعض يرى في الآية تكرارا. وليست الآية كذلك، إنما هو تأسيس لكلام جديد يوضح ويحدد مكان الوادي المقدس طوى أين هو، فإن قلت : أين طوى ؟ يقول لك : في الواد الأيمن : لكن الواد الأيمن نفسه طويل، فأين منه هذا المكان ؟ يقول لك : عند البقعة المباركة من الشجرة٣.
إذن : فالآية الثانية تحدد لك المكان، كما تقول أنت : أسكن في حي كذا، وفي شارع كذا، في رقم كذا.
١ أي: علمتك وربيتك وأنعمت عليك لتكون صنيعة لي تخدمني وتؤدي الرسالة التي أكلفك إياها واخترتك لها. (القاموس القويم (١ / ٣٨٤))..
٢ قاله ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وقال الضحاك: هو واد عميق مستدير مثل الطوى.
وقاله الحسن: ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين. وذكر المهدوي عن ابن عباس: أنه قيل له (طوى) لأن موسى طواه بالليل، إذ مر به فارتفع إلى أعلى الوادي. فكأنه قال: (إنك بالواد المقدس) الذي طويته طوى، أي تجاوزته فطويته بسيرك. (ذكره القرطبي في تفسيره ٦ / ٤٣٤٧). قال ابن كثير في تفسيره (٣ / ١٤٤): (الأول أصح كقوله: ﴿إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى (١٦)﴾ (النازعات)..

٣ قال ابن كثير في تفسيره (٣ / ٣٨٨): (هذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة، والجبل الغربي عن يمينه، والنار وةجدها تضطرم في شجرة خضراء في لحف الجبل مما يلي الوادي فوقف باهتا في أمرها)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ( ١٣ ) ﴾.
أي : وإن كنت ربا لك وربا للكافرين فسوف أزيدك خصوصية لك ﴿ وأنا اخترتك ( ١٣ ) ﴾ أي : للرسالة، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
لذلك لم نزل القرآن على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما اعترض كفار مكة على القرآن، ولم يجدوا فيه عيبا فيما يدعو إليه من أخلاق فاضلة ومثل عليا، ولم يجدوا فيه مأخذا في أسلوبه، وهم أمة ألفت الأسلوب الجيد، وعشقت آذانها فصاحة الكلام، فتوجهوا بنقدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا :﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين١عظيم ( ٣١ ) ﴾ ( الزخرف ).
فكل اعتراضهم أن ينزل القرآن على محمد بالذات ؛ لذلك رد عليهم القرآن بما يكشف غباءهم في هذه المسألة، فقال :﴿ أهم يقسمون رحمت ربك ( ٣٢ ) ﴾ ( الزخرف ) : كيف ونحن قد قسمنا بينهم معيشتهم الأدنى :﴿ نحن قسمنا بينهم معيشتهم ( ٣٢ ) ﴾ ( الزخرف ).
وهم يريدون أن يقسموا رحمة الله فيقولون : نزل هذا على هذا، وهذا على هذا ؟
ثم يقول تعالى :﴿ فاستمع لما يوحى ( ١٣ ) ﴾ ( طه ) : مادة : سمع منها : سمع، واستمع وتسمع. قولنا : سمع أي مصادفة وأنت تسير في الطريق تسمع كلاما كثيرا. منه ما يهمك وما لا يهمك، فليس على الأذن حجاب يمنع السمع كالجفن للعين، مثلا حين ترى منظرا لا تحبه.
إذن : أنت تسمع كل ما يصل إلى أذنك، فليس لك فيه خيار.
إنما : استمع. أن تتكلف السماع، والمتكلم حر في أن يتكلم أو لا يتكلم.
وتسمع : أي : تكلف أشدا تكلفا لكي يسمع.
لذلك ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حين يخبر أنه ستعم بلوى الغناء، وستنتشر الأجهزة التي ستشيع هذه البلوى، وتصبها في كل الآذان رغما عنها يقول :( من تسمع إلى قينة٢صب الآنك في أذنيه ).
أي : تكلف أن يسمع، وتعمد أن يوجه جهاز الراديو أو التليفزيون إلى هذا الغناء ؛ ولم يقل : سمع، وإلا فالجميع يناله من هذا الشر رغما عنه.
وهنا قال تعالى :( فاستمع ) ولم يقل : تسمع : لأنه لا يقترح على الله تعالى أن يتكلم، ومعنى : استمع أي : جند كل جوارحك، وهيئ كل حواسك لأن تسمع، فإن كانت الأذن للسمع، فهناك حواس أخرى يمكن أن تشغلها عن الانتباه، فالعين تبصر، والأنف يشم، واللسان يتكلم.
فعليك أن تجند كل الحواس لكي تسمع، وتستحضر قلبك لتعي ما تسمعه، وتنفذ ما طلب منك ؛ لذلك حين تخاطب صاحبك فتجده منشغلا عنك تقول : كأنك لست معنا. لماذا ؟ لأن جارحة من جوارحه شردت، فشغلته عن السماع٣.
وقوله تعالى :﴿ لما يوحى ( ١٣ ) ﴾ ( طه ) : الوحي عموما : إعلام بخفاء من أي لأي في أي، خيرا كان أم شرا، أما الوحي الشرعي فهو : إعلام من الله إلى رسول أرسله بمنهج خير للعباد، فإن كان الوحي من الله إلى أم موسى مثلا، أو إلى الحواريين فليس هذا من الوحي الشرعي. وهكذا تحددت من أي لأي في أي.
لكن، كيف ينزل الوحي من الله تعالى على الرسول ؟ كيف تلتقي الألوهية في علوها بالبشرية في دنوها ؟ إذن : لا بد من واسطة ؛ لذلك قال تعالى :﴿ الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس.. ( ٧٥ ) ﴾ ( الحج )
فالمصطفى من الملائكة يتقبل من الله، ويعطي للمصطفى من البشر، لأن الأعلى لا يمكن أن يلتقي بالأدنى مباشرة :﴿ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء.. ( ٥١ ) ﴾ ( الشورى ).
فاستعداد الإنسان وطبيعته لا تؤهله لهذا اللقاء، كيف ولما تجلى الحق – سبحانه وتعالى – للجبل جعله دكا، ومن عظمته سبحانه أننا لا نراه ولا نتكلم معه مباشرة، ولا نحسه بأي حاسة من حواسنا، ولو حس الإله بأي حاسة ما استحق أن يكون إلها.
وكيف يحس الحق – تبارك وتعالى – ومن خلقه وصنعته ما لا يحس، كالروح مثلا ؟ فنحن لا نعلم كنهها، ولا أين هي، ولا نحسها بأي حاسة من حواسنا، فإذا كانت الروح المخلوقة لم نستطع أن ندركها، فكيف ندرك خالقها ؟
الحق الذي يدعيه الناس ويتمسحون فيه، ويفخر كل منهم أنه يقول كلمة الحق، وكذلك العدل وغيرها من المعاني : أتدركها، أتعرف لها شكلا ؟ فكيف –إذن – تطمع في أن تدرك الخالق عز وجل ؟
إذن : من عظمته سبحانه أنه لا تدركه الحواس، ولا يلتقي بالخلق لقاء مباشرا، فالمصطفى من الملائكة يأخذ عن الله، ويعطى للمصطفى من الخلق، ثم المصطفى من الخلق يعطي للخلق، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم يجهد، ويتصبب جبينه عرقا في أول الوحي.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يحجب الوحي عن رسوله فترة ليستريح من مباشرة الملك له، وبانقطاع الوحي تبقى لرسول الله حلاوة ما أوحي إليه ويتشوق إلى الوحي من جديد، فيهون عليه ما يلاقي في سبيله من مشقة، لأن انشغال القلب بالشيء ينسي متاعبه.
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي يسمع حوله دوي كدوي النحل٤، ولو صادف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع رجله على أحد أصحابه حين نزول الوحي عليه فكان الصحابي يشعر كأنها جبل، وإن نزل الوحي وهو على دابة كانت تنخ وتئن من ثقله٥.
وقد مثلنا للواسطة بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية بالتيار الكهربائي حين نوصله بمصباح صغير لا يتحمل قوة التيار، فيضعون له جهازا ينظم التيار، ويعطي للمصباح على قدر حاجته وإلا يحترق.
١ المقصود بالقريتين مكة والطائف. وقد اختلفوا في تعيين الرجل المقصود من كل قرية لينزل عليه القرآن. ذكر غير واحد منهم قتادة أنهم أرادوا بذلك الوليد بن المغيرة وعروة ابن مسعود الثقفي. وعن مجاهد: أنهم يعنون عتبة بن ربيعة، نقله ابن كثير في تفسيره (٤ / ١٢٧)، ثم قال: (والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان).
.

٢ القينة: الأمة المغنية، تكون من التزين لأنها تزين، قال أبو منصور: إنما قيل للمغنية قينة إذا كان الغناء صناعة لها، وذلك من عمل الإماء دون الحرائر. (لسان العرب – مادة: قين)..
٣ قال سفيان بن عيينة: أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر، فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بنية صادقة على ما يحب الله أفهمه كما يحب، وجعل له في قلبه نورا. ذكره القرطبي في تفسيره (٦ / ٤٣٤٨)..
٤ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل). أخرجه أحمد في مسنده (١ / ٣٤)، والحاكم في مستدركه (٢ / ٣٩٢) وقال: (حديث صحيح الإسنادج ولم يخرجاه).
.

٥ عن أسماء بنت يزيد قالت: إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ نزلت عليه المائدة كلها وكادت من ثقلها تدق عضد الناقة. أورده ابن كثير في تفسيره لسورة المائدة (٢ / ٢) وعزاه الإمام أحمد..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ( ١٤ ) ﴾.
في الآية قبل السابقة خاطبه ربه :﴿ إني أنا ربك ( ١٢ ) ﴾ ( طه ) ليطمئنه ويؤنسه بأنه المربي العطوف، يعطي حتى الكافر الذي يعصاه، لكن هنا يخاطبه بقوله :﴿ إنني أنا الله ( ١٤ ) ﴾ ( طه ) أي : صاحب التكاليف، والمعبود المطاع في الأمر والنهي، وأول هذه التكاليف وقمتها، والينبوع الذي يصدر عنه كل السلوك الإيماني :
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ( ١٤ ) ﴾ ( طه ) :
لذلك قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم :( خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله )١.
وما دام لا إله إلا هو فلا يصح أن نتلقى الأمر والنهي إلا منه، ولا نعتمد إلا عليه، ولا يشغل قلوبنا غيره، وهو سبحانه يريد منا أن نكون وكلاء :﴿ وتوكل على الحي الذي لا يموت ( ٥٨ ) ﴾ ( الفرقان )
فالناصح الفطن الذي لا يتوكل على أحد غير الله، فربما توكلت على أحد غيره، فأصبحت فلم تجده، وصدق الشاعر حين قال :
اجعل بربك كل عزك **** يستقر ويثبت
فإذا اعتززت بمن يموت**** فإن عزك ميت
فكأن الحق سبحانه في قوله :﴿ لا إله إلا أنا ( ١٤ ) ﴾ ( طه ) يقول لموسى : لا تخف، فلن تتلقى أوامر من غيري، كما قال سبحانه في آية أخرى :﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ( ٤٢ ) ﴾ ( الإسراء ).
أي : لذهب هؤلاء الذين يدعون الألوهية إلى الله يجادلونه أو يتوددون إليه، ولم يحدث شيء من هذا.
ويشترط فيمن يعطي الأوامر ويشرع ويقنن ألا ينتفع بشيء من ذلك، وأن تكون أوامره ونواهيه لمصلحة المأمورين، ومن هنا يختلف قانون الله عن قانون البشر الذي يدخله الهوى وتخالطه المصالح والأغراض، فمثلا إن كان المشرع والمقنن من العمال انحاز لهم ورفعهم فوق الرأسماليين، وإن كان من هؤلاء رفعهم فوق العمال.
وكذلك ألا يغيب عنه شيء يمكن أن يستدرك فيما بعد، وهذه الشروط لا توجد إلا في التشريع الإلهي. فله سبحانه صفات الكمال قبل أن يخلق الخلق.
لذلك قال بعدها :﴿ فاعبدني ( ١٤ ) ﴾ ( طه ) بطاعة أوامري واجتناب نواهي، فليس لي هوى فيما آمرك به، إنما هي مصلحتك وسلامتك.
ومعنى العبادة : الناس يظنون أنها الصلاة والزكاة والصوم والحج، إنما للعبادة معنى أوسع من ذلك بكثير، فكل حركة في الحياة تؤدي إلى العبادة، فهي عبادة كما نقول في القاعدة : كل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فالصلاة مثلا لا تتم إلا بستر العورة، وعليك أن تتأمل قطعة القماش هذه التي تستر بها عورتك : كم يد ساهمت فيها منذ كانت بذرة في الأرض، إلى أن أصبحت قماشا رقيقا يستر عورتك ؟ فكل واحد من هؤلاء كان في عبادة وهو يؤدي مهمته في هذه المسألة.
كذلك رغيف العيش الذي تأكله، صنبور المياه الذي تتوضأ منه، كم وراءها من أياد وعمال ومصانع وعلماء وإمكانات جندت لخدمتك، لتتمكن من أداء حركتك في الحياة ؟
لذلك، فالحق – تبارك وتعالى – حينما يحدثنا عن الصلاة يوم الجمعة يقول :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ( ٩ ) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ( ١٠ ) ﴾ ( الجمعة ).
وهكذا أخرجنا إلى الصلاة من عمل، وبعد الصلاة أمرنا بالعمل والسعي والانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله، فمخالفة الأمر في :﴿ فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ( ٩ ) ﴾ ( الجمعة ) كمخالفة الأمر في :﴿ فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ( ١٠ ) ﴾ ( الجمعة )
وخص البيع هنا ؛ لأن البائع أحرص على بيعه من المشتري على شرائه، وربما كان من مصلحة المشتري ألا يشتري.
فالإسلام – إذن – لا يعرف التكاسل، ولا يرضى بالتنبلة والقعود، ومن أراد السكون فلا ينتفع بحركة متحرك.
وسيدنا عمر – رضي الله عنه – حينما رأى رجلا يقيم بالمسجد لا يفارقه سأل : ومن ينفق عليه ؟ قالوا : أخوه، قال : أخوه أعبد منه. لماذا ؟ لأنه يسهم في حركة الحياة ويوسع المنفعة على الناس.
إذن : فكل عمل نافع عبادة شريطة أن تتوفر له النية، فالكافر يعمل وفي نيته أن يرزق نفسه، فلو فعل المؤمن كذلك، فما الفرق بينهما ؟ المؤمن يعمل، نعم ليقوت نفسه، وأيضا لييسر لإخوانه قوتهم وحركة حياتهم. فسائق التاكسي مثلا إذا عمل بمبلغ يكفيه، ثم انصرف إلى بيته، وأوقف سيارته، فمن للمريض الذي يحتاج من يوصله للطبيب ؟ والبائع لو اكتسب رزقه ثم أغلق دكانه من يبيع للناس ؟
إذن : اعمل لنفسك، وفي بالك أيضا مصلحة الغير وحاجتهم، فإن فعلت ذلك فأنت في عبادة، تعمل على قدر طاقتك، لا على قدر حاجتك، ثم تأخذ حاجتك من منتوج الطاقة، والباقي يرد على الناس إما في صورة صدقة، وإما بثمن، وحسبك أن يسرت له السبيل.
إذن : نقول : العبادة كل حركة تؤدي خدمة في الكون نيتك فيها لله.
ثم يقول تعالى :﴿ وأقم الصلاة لذكري ( ١٤ ) ﴾ ( طه ) فلماذا خص الصلاة دون سائر العبادات ؟
قالوا : لأن الصلاة هي العبادة الدائمة التي لا تنحل عن المؤمن، ما دام فيه نفس، فالزكاة مثلا تسقط عن الفقير، والصيام يسقط عن المريض، والحج يسقط عن غير المستطيع، أما الصلاة فلا عذر أبدا يبيح تركها، فتصلي قائما أو قاعدا أو مضطجعا، فإن لم تستطع تصلي، ولو إيماء برأسك أو بجفونك، فإن لم تستطع فحسبك أن تخطرها على قلبك، ما دام لك وعي، فهي لا تسقط عنك بحال.
كذلك، فالصلاة عبادة متكررة : خمس مرات في اليوم والليلة، لتذكرك باستمرار إن أنستك مشاغل الحياة رب هذه الحياة، وتعرض نفسك على ربك وخالقك خمس مرات كل يوم. وما بالك بآلة تعرض على صانعها هكذا، أيمكن أن يحدث بها عطل أو عطب ؟
أما الزكاة فهي كل عام، أو كل محصول، والصوم شهر في العام، والحج مرة في العمر.
لذلك، كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما حزبه٢أمر قام إلى الصلاة٣ليعرض نفسه على ربه وخالقه عز وجل، ونحن نصنع هذا في الصنعة المادية حين نعرض الآلة على صانعها ومهندسها الذي يعرف قانون صيانتها.
وفي الحديث الشريف :( وجعلت قرة عيني في الصلاة )٤.
وسبق أن ذكرنا أن للصلاة أهميتها ؛ لأنها تذكرك بربك كل يوم خمس مرات، وتذكرك أيضا بنفسك، وبقدر الله في الآخرين حين ترى الرئيس ومرؤوسه جنبا إلى جنب في صفوف الصلاة، فإن جئت قبل رئيسك جلست في الصف الأول، وجلس هو خلفك، ثم تراه وهو منكسر ذليل لله تعالى، وهو يعرف أنك تراه على هذه الهيئة فيكون ذلك أدعى لتواضعه معك وعدم تعاليه عليك بعد ذلك.
وكم رأينا من أصحاب مناصب وقيادة يبكون عند الحرم، ويتعلقون بأستار الكعبة وعند الملتزم، وهو العظيم الذي يعمل له الناس ألف حساب. ففي الصلاة – إذن – استطراق للعبودية لله تعالى.
لذلك من أخطر ما مني به المسلمون أن تجعل في المسجد أماكن خاصة لنوعية معينة يخلى لها المكان، ويصاحبها الحرس حتى في بيت الله، ثم يأتي في آخر الوقت ويجلس في الصف الأول، وآخر يفرش سجادته ليحجز بها مكانا لحين حضوره، فيجد المكان خاليا.
وينبغي على عامة المسلمين أن يرفضوا هذا السلوك، وعليك أن تنحي سجادته جانبا، وتجلس أنت، لأن أولوية الجلوس بأولوية الحضور، فقد صفها الله في المسجد إقبالا عليه. وهذه العادة السيئة توقع صاحبها في كثير من المحظورات، حيث يتخطى رقاب الناس، ويميز نفسه عنهم دون حق، ويحدث انتقاص عبودي في بيت الله.
ولأهمية الصلاة ومكانتها بين العبادات تميزت في فرضها بما يناسب أهميتها، فكل العبادات فرضت بالوحي إلا الصلاة، فقد استدعى الحق رسوله الصدق ليبلغه بها مباشرة لأهميتها.
وقد ضربنا لذلك مثلا – ولله المثل الأعلى – بالرئيس إذا أراد أن يبلغ مرؤوسه أمرا يكتب إليه، فإن كان الأمر مهما اتصل به تليفونيا، فإن كان أهم استدعاه إليه ليبلغه بنفسه. ولما قربه الله إليه بفرض الصلاة جعل الصلاة تقربا لعباده إلى الله.
وقوله :﴿ وأقم الصلاة لذكري ( ١٤ ) ﴾ ( طه ) : أقام الشيء : جعله قائما على أسس محكمة، فإقامة الصلاة أن تؤديها محكمة كاملة الأركان غير ناقصة.
﴿ لذكري ( ١٤ ) ﴾ ( طه ) : أي : لتذكري ؛ لأن دوام ورتابة النعمة قد تنسيك المنعم، فحين تسمع نداء ( الله أكبر )، وترى الناس تهرع إلى بيوت الله لا يشغلهم عنها شاغل تتذكر إن كنت ناسيا، وينتبه قلبك إن كنت غافلا.
١ أخرجه الترمذي في سننه (٣٥٨٥) من حديث عبد الله بن عمرو بنن العاص وتمامه: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) قال الترمذي: (هذا حديث غريب من هذا الوجه)..
٢ حز به الأمر يحزبه: نابه واشتد عليه. وأمر حازب وحزيب: شديد وفي الحديث: كان إذا حزبه أمر صلى، أي إذا نزل به هم أو أصابه غم. (لسان العرب – مادة: حزب)..
٣ عن حذيفة رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حز به أمر صلى) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٥ / ٣٨٨) وأبو داود في سننه ((١٣١٩)..
٤ أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٣ / ١٢٨، ١٩٩، ٢٨٥) والنسائي في سننه (٧ / ٦١) والحاكم في مستدركه (٢ / ١٦٠) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي من حديث أنس بن مالك، وتمام الحديث: (حبب إلي من الدنيا: النساء والطيب..........) الحديث..
ثم يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ١ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( ١٥ ) ﴾.
أي : مع ما سبق وطن نفسك على أن الساعة آتية لا محالة، والساعة هنا هي عمر الكون كله، أما أعمار المكين في الكون فمتفاوتة، كل حسب أجله، فمن مات فقد قامت قيامته وانتهت المسألة بالنسبة له.
إذن : نقول : الساعة نوعان : ساعة لكل منا، وهي عمره وأجله الذي لا يعلم متى سيكون، وساعة للكون كله، وهي القيامة الكبرى.
فقوله تعالى :﴿ إن الساعة آتية ( ١٥ ) ﴾ ( طه ) أي : اجعل ذلك في بالك دائما، وما دام الموت سينقلك إليها سريعا فإياك أن تقول : سأموت قريبا، أما القيامة فبعد آلاف أو ملايين السنين، لأن الزمن ملغى بعد الموت، كيف ؟
الزمن لا يضبطه إلا الحدث، فإن انعدم الحدث فقد انعدم الزمن، كما يحدث لنا في النوم، وهل تستطيع أن تحدد الوقت الذي نمته ؟ لذلك قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ( ٤٦ ) ﴾ ( النازعات ) :
والعبد٢الذي أماته الله مائة عام لما بعثه قال : يوما أو بعض يوم، وكذلك قال أهل الكهف بعد ثلاثمائة سنة وتسع٣، لأن يوما أو بعض يوم هي أقصى ما يمكن تصوره للنائم حين ينام ؛ لذلك نقول :( من مات فقد قامت قيامته )٤.
ومن حكمته سبحانه أن أخفى الساعة، أخفاها للفرد، وأخفاها للجميع، وربما لو عرف الإنسان لقال : أفعل ما أريد ثم أتوب قبل الموت ؛ لذلك أخفاها الحق – تبارك وتعالى – لنكون على حذر أن نلقى الله على حال معصية.
وكذلك أخفى الساعة الكبرى، حتى لا تأخذ ما ليس لك من خلق الله، وتنتفع به ظلما وعدوانا، وتعلم أنك إن سرقت سترجع إلى الله فيحاسبك، فما دمت سترجع إلى الله فاستقم وعدل من سلوكك، كما يقول أهل الريف ( ارع مساوي ).
وقوله تعالى :﴿ آتية ( ١٥ ) ﴾ ( طه ) أي : ليس مأتيا بها، فهي الآتية، مع أن الحق تبارك وتعالى – هو الذي سيأتي بها، لكن المعنى ( آتية ) كأنها منضبطة ( أوتوماتيكيا )، فإن جاء وقتها حدثت.
وقوله تعالى :﴿ أكاد أخفيها ( ١٥ ) ﴾ ( طه ) : كاد : أي : قرب مثل : كاد زيد أن يجيء أي : قرب لكنه لم يأت بعد، فالمراد : أقرب أن أخفيها، فلا يعلم أحد موعدها، فإذا ما وقعت فقد عرفناها. كما قال تعالى :﴿ إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو.. ( ١٨٧ ) ﴾ ( الأعراف ) : وقد تكون ﴿ أخفيها ( ١٥ ) ﴾ ( طه ) بمعنى آخر، فبعض الأفعال الثلاثية تعطى عكس معناها عند تضعيف الحرف الثاني منها، كما في : مرض أي : أصابه المرض، ومرضه الطبيب. أي : عالجه وأزال مرضه، وقشرت الشيء، أي : جعلت له قشرة، وقشرت البرتقالة أزلت قشرها.
ومن ذلك قوله تعالى :﴿ تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا ( ٨٥ ) ﴾ ( يوسف ) والحرض : هو الهلاك. من : حرض مثل : تعب.
وقوله تعالى :﴿ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال ( ٦٥ ) ﴾ ( الأنفال ) :
ومعنى ( حرض ) حثهم على القتال، الذي يزيل عنهم الهلاك أمام الكفار ؛ لأنهم إن لم يجاهدوا هلكوا، فحرض : هلك، وحرض : أزال الهلاك.
وقد يأتي مضاد الفعل بزيادة الهمزة على الفعل مثل :﴿ وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ( ١٥ ) ﴾ ( الجن ) فالقاسط من قسط. أي : الجائر بالكفر.
أما في قوله تعالى :﴿ إن الله يحب المقسطين ( ٤٢ ) ﴾ ( المائدة ) : فالمقسط من أقسط : العادل الذي يزيل الجور. وإن كانت المادة واحدة هي ( قسط ) فالمصدر مختلف نقول : قسط قسطا أي : عدل، وقسط قسطا وقسوطا يعني : جار. فهذه الهمزة في أقسط تسمى ( همزة الإزالة ).
ومن الفعل الثلاثي قسط يستعمل منها، القسط والميزان والفرق بين قسط وأقسط : أي : عدل من أول الأمر وبادئ ذي بدء، إنما أقسط : إذا وجد ظلما فرفعه وأزاله، فزاد على العدل أن أزال جورا.
وأيضا الفعل ( عجم ) عجم الأمر : أخفاه، وأعجمه : أزال خفاءه. ومن ذلك كلمة المعجم الذي يزيل خفاء الكلمات ويوضحها.
وكذلك في قوله تعالى :﴿ أكاد أخفيها.. ( ١٥ ) ﴾ ( طه ) : خفى بمعنى : استتر وأخفاها : أزال خفاءها، ولا يزال خفاء الشيء إلا بإعلانه.
ثم يقول تعالى :﴿ لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ( ١٥ ) ﴾ ( طه ) :
وإلا لو لم يكن في الآخرة حساب وجزاء لكان الذين أسرفوا على أنفسهم وعربدوا في الوجود أكثر حظا من المؤمنين الملتزمين بمنهج الله، لذلك في نقاشنا مع الشيوعيين قلنا لهم : لقد قتلتم من أدركتموه من أعدائكم من الرأسماليين، فما بال من مات ولم تدركوه ؟ وكيف يفلت منكم هؤلاء ؟
لقد كان أولى بكم أن تؤمنوا بمكان آخر لا يفلت منه هؤلاء، وينالون فيه جزاءهم، إنها الآخرة التي تجزى فيها كل نفس بما تسعى.
١ ذكرت هنا بدون لام التوكيد، أما في سورة غافر، فقد قال سبحانه: ﴿إن الساعة لآتية لا ريب فيها............... (٥٩)﴾ (غافر) بإثبات لام التوكيد، لأن المخاطبين في سورة غافر هم الكفار، فاحتاجوا إلى تأكيد الخبر. (فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن لأبي يحيى زكريا الأنصاري – ص ٢٦٠) بتصرف..
٢ هو عزير عليه السلام، قال قال تعالى في حقه: ﴿أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم........................... (٢٥٩)﴾ (البقرة).
٣ وفي ذلك يقول تعالى: ﴿وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم...................(١٩)﴾ (الكهف)..
٤ ذكره العجلوني في كشف الخفاء (حديث رقم ٢٦١٨) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وتمامه: (أكثروا ذكر الموت، فإنكم إن ذكرتموه في غنى كدره عليكم، وإن ذكرتموه في ضيق وسعه عليكم، الموت القيامة)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ( ١٦ ) ﴾.
كأن الحق تبارك وتعالى يعطي لموسى – عليه السلام – مناعة لما سيقوله الكافرون الذين يشككون في الآخرة ويخافون منها، وغرضهم أن يكون هذا كذبا فليست الآخرة في صالحهم، ومن حظهم إنكارها.
فإياك أن تصغي إليهم حين يصدونك عنها، يقولون :﴿ أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون ( ١٦ ) أو آباؤنا الأولون ( ١٧ ) ﴾ ( الصافات ).
ولماذا يستبعدها هؤلاء ؟ أليس الذي خلقهم من لا شيء بقادر على أن يعيدهم بعد أن صاروا عظاما ؟
والحق سبحانه يقول :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ( ٢٧ ) ﴾ ( الروم )
وهذا قياس على قدر أفهامكم وما تعارفتم عليه من هين وأهون، أما بالنسبة للحق – تبارك وتعالى – فليس هناك هين وأهون منه، لأن أمره بين الكاف والنون.
لكن لماذا يصد الكفار عن الآخرة، والإيمان بها ؟ لأنهم يعلمون أنهم سيجازون بما عملوا، وهذه مسألة صعبة عليهم، ومن مصلحتهم أن تكون الآخرة كذبا.
وصدق أبو العلاء المعري حين قال :
زعم المنجم والطبيب كلاهما****لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر****أو صح قولي فالخسار عليكما
أي : أن المؤمن بالبعث إن لم يكسب فلن يخسر، أما أنتم أيها المنكرون فخاسرون.
وقوله تعالى :﴿ فتردى ( ١٦ ) ﴾ ( طه ) أي : تهلك من الردى، وهو الهلاك.
وهكذا جاء الكلام من الله تعالى لموسى – عليه السلام – أولا : البداية إيمانا بالله وحده لا شريك له، وهذه القمة الأولى، ثم جاء بالقمة الأخيرة، وهي البعث فالأمر – إذن – منه بداية، وإليه نهاية :﴿ إنني أنا الله لا إله إلا أنا.. ( ١٤ ) ﴾ ( طه ) إلى أن قال :﴿ إن الساعة آتية أكاد أخفيها.. ( ١٥ ) ﴾ ( طه ).
وبعد ذلك شرح لنا الحق – سبحانه – بدء إيحائه لرسوله موسى عليه السلام١.
ما : استفهامية. والتاء بعدها إشارة لشيء مؤنث، هو الذي يمسكه موسى في يده، والكاف للخطاب، كأنه قال له : ما هذا الشيء الذي معك ؟ والجواب عن هذا السؤال يتم بكلمة واحدة : عصا.
أما موسى – عليه السلام – فهو يعرف أن الله تعالى هو الذي يسأل، ولا يخفى عليه ما في يده، ولكنه كلام الإيناس ؛ لأن الموقف صعب، ويريد ربه أن يطمئنه ويؤنسه.
وإذا كان الإيناس من الله، فعلى العبد أن يستغل هذه الفرصة ويطيل أمد الاستئناس بالله عز وجل، ولا يقطع مجال الكلام هكذا بكلمة واحدة ؛ لذلك رد موسى عليه السلام :
﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ( ١٨ ) ﴾.
١ قال أبو يحيى زكريا الأنصاري في كتابه: (فتح الرحمن) (ص ٢٦٠): (إن قلت: ما فائدة سؤاله تعالى لموسى، مع أنه أعلم بما في يده؟ قلت: فائدته تأنيسه وتخفيف ما حصل عنده من دهشة الخطاب وهيبة الإجلال وقت التكلم معه أو اعترافه بكونه عصا وازدياد علمه بذلك فلا يعترضه شك إذا قلبها الله ثعبانا أنها كانت عصا ثم انقلبت ثعبانا بقدرة الله تعالى)..
قال موسى :﴿ هي عصاي ( ١٨ ) ﴾ ( طه )، ثم يفتح لنفسه مجالا آخر للكلام :﴿ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ( ١٨ ) ﴾ ( طه ) وهنا يرى موسى أنه تمادى وزاد، فيحاول الاختصار :﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ( ١٨ ) ﴾ ( طه ).
وكان موسى ينتظر سؤالا يقول : وما هذه المآرب ؟ ليطيل أنسه بربه، وإذا كان الخطاب مع الله فلا ينهيه إلا زاهد في الله.
وللعصا تاريخ طويل مع الإنسان، فهي لازمة من لوازم التأديب والرياضة، ولازمة من لوازم الأسفار، ولها أهميتها في الرعي.. الخ وهنا يذكر موسى – عليه السلام – بعض هذه الفوائد – يقول :
﴿ أتوكأ عليها ( ١٨ ) ﴾ ( طه ) أي : أعتمد عليها، وأستند عندما أمشي، والإنسان يحتاج إلى الاعتماد على عصا عند السير وعند التعب، لأنه يحتاج إلى طاقتين : طاقة للحركة والمشي، وطاقة لحمل الجسم والعصا تساعده في حمل ثقل جسمه، خاصة إن كان متعبا لا تقوى قدماه على حمله.
فقوله :﴿ أتوكأ عليها ( ١٨ ) ﴾ ( طه ) أي : أعتمد عليها حين المشي وحين أقف لرعي الغنم فأستند عليها، والاتكاء يراوح الإنسان بين قدميه فيريح القدم التي تعبت، وينتقل من جنب إلى جنب.
والإنسان إذا ما استقر جسمه على شيء لمدة طويلة تنسد مسام الجسم في هذا المكان، ولا تسمح بإفراز العرق، فيسبب ذلك ضررا بالغا نراه في المرضى الذين يلازمون الفراش لمدة طويلة، ويظهر هذا الضرر في صورة قرحة يسمونها " قرحة الفراش " ؛ لذلك ينصح الأطباء هؤلاء المرضى بأن يغيروا من وضعهم، فلا ينامون على جنب واحد.
لذلك شاءت قدرة الله عز وجل أن يقلب أهل الكهف في نومهم من جنب إلى جنب، كما قال سبحانه :﴿ ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال.. ( ١٨ ) ﴾ ( الكهف ).
لذلك إذا وقف الإنسان طويلا، أو جلس طويلا ولم يجد له متكأ تراه قلقا غير مستقر، ومن هنا كان المتكأ من مظاهر النعمة والترف في الدنيا وفي الآخرة، كما قال تعالى في شأن امرأة العزيز :﴿ واعتدت لهن متكأ.. ( ٣١ ) ﴾ ( يوسف ).
وقال عن نعيم الآخرة :﴿ متكئين على سرر مصفوفة.. ( ٢٠ ) ﴾ ( الطور ).
وقال :﴿ متكئين على فرش بطائنها من استبرق١.. ( ٥٤ ) ﴾ ( الرحمن ).
وقال الحق تبارك وتعالى :﴿ متكئين على رفرف٢خضر وعبقري٣حسان ( ٧٦ ) ﴾ ( الرحمن )
فالاتكاء وسيلة من وسائل الراحة، وعلى الإنسان أن يغير متكأه من جنب إلى جنب حتى لا يتعرض لما يسمى ب " قرحة الفراش ".
ومن فوائد العصا :﴿ وأهش بها على غنمي.. ( ١٨ ) ﴾ ( طه ) : أي : أضرب بها أوراق الشجر فتتساقط فتأكلها الغنم والماشية ؛ لأن الراعي يمشي بها في الصحراء، فتأكل من العذي، وهو النبات الطبيعي الذي لم يزرعه أحد، ولا يسقيه إلا المطر، فإن انتهى هذا العشب اتجه الراعي إلى الشجر العالي فيسقط ورقه لتأكله الغنم، فيحتاج إلى العصا ليؤدي بها هذه المهمة.
إذن : قوله :﴿ أتوكأ عليها.. ( ١٨ ) ﴾ ( طه ) لراحته هو، و ﴿ أهش بها على غنمي.. ( ١٨ ) ﴾ ( طه ) لخدمة الرعية، وفيها سياسة إدارة الرزق كلها للماشية وللناس، ورعي الغنم وسياستها تدريب على سياسة الأمة بأسرها ؛ لذلك ما بعث الله من نبي إلا ورعى الغنم ليتعلم من سياسة الماشية سياسة الإنسان.
وفي الحديث الشريف :( ما بعث الله من نبي إلا ورعى الغنم، وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة )٤.
ولما أحس موسى – عليه السلام – أنه أطال في خطاب ربه عز وجل أجمل فقال :﴿ ولي فيها مآرب أخرى ( ١٨ ) ﴾ ( طه ) أي : منافع.
وقد حاول العلماء٥جزاهم الله عنا خيرا البحث في هذه المآرب الأخرى التي لم يذكرها موسى عليه السلام، فتأملوا حال الرعاة، وما وظيفة العصا في حياتهم فوجدوا لها منافع أخرى غير ما ذكر.
من هذه المنافع أن الراعي البدائي يضع عصاه على كتفه ويعلق عليها زاده من الطعام والشراب، وبعض الرعاة يستغل وقته أيضا في الصيد، فيحتاج إلى أدوات مثل : القوس، والنبل، والسهام والمخلاة التي يجمع فيها صيده، فتراه يضع عصاه على كتفه هكذا بالعرض، ويعلق عليها هذه الأدوات من الجانبين فإذا ما اشتدت حرارة الشمس ولم يجد ظلالا غرز عصاه في الأرض، وألقى بثوبه عليها فجعل منها مثل الخيمة أو المظلة تقيه حرارة الجو. فإن احتاج للماء ذهب للبئر، وربما وجده غائر الماء لا يبلغه الدلو فيحتاج للعصا يربطها ويطيل بها الحبل، إلى غير ذلك من المنافع.
وبعض العلماء يقولون : لقد كان موسى عليه السلام ينتظر أن يسأله ربه عن هذه المآرب ليطيل الحديث معه، لكن الحق سبحانه لم يسأله عن ذلك ؛ لأنه سينقله إلى شيء أهم من مسألة العصا، فما ذكرته يا موسى مهمة العصا معك، أما أنا فأريد أن أخبرك بمهمتها معي :
١ الإستبرق: الديباج الغليظ وهو من الحرير الطبيعي، ويصلح شتاء لأنه مدفئ وللملابس الخارجية. (القاموس القويم ١ / ١٨). قال عبد الله بن مسعود في تفسير هذه الآية (الرحمن ٤٥): (هذه البطائن، فكيف لو رأيتم الظواهر؟)..
٢ الرفرف: الثياب العريضة أو الرقيقة من الحرير، وهي هنا كناية عن النعيم أي: على فرش حريرية جميلة خضر. (القاموس القويم ١ / ٢٧١)..
٣ العبقري: هو هذه البسط التي فيها الأصباغ والنقوش (لسان العرب – مادة: عبقر)..
٤ أخرجه البخاري في صحيحه (٢٢٦٢)، وابن ماجة في سننه (٢١٤٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن حجر في الفتح (٤ / ٤٤١): (قال سويد أحد رواته: يعني كل شاة بقراريط. يعني القيراط الذي هو جزء من الدينار أو الدرهم)..
٥ منهم ابن عباس الذي قال: إذا انتهيت إلى رأس بئر الرشا وصلته بالعصا، وإذا أصابني حر الشمس غرزتها في الأرض وألقيت عليها ما يظلني، وإذا خفت شيئا من هوام الأرض قتلته بها، وإذا مشيت ألقيتها على عاتقي وعلقت عليها القوس والكنانة والمخلاة. وأقاتل بها السباع عن الغنم. (انظر: تفسير القرطبي ٦ / ٤٣٦٠، ٤٣٦١)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ( ١٩ ) ﴾.
ارم بها على الأرض، وهو هنا إلقاء الدربة والتمرين على لقاء فرعون، وهنا خرجت العصا عن ناموسها الذي يعلمه موسى عليه السلام، فلم تعد للتوكؤ والهش على الغنم، ولكنها تنتقل من جنس الخشب إلى جنس الحيوان فتصير حية، قال الحق سبحانه :﴿ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ( ٢٠ ) ﴾.
وهذه نقلة كبيرة في مسألة العصا، فقد كان في الإمكان لإثبات المعجزة أن تتحول العصا، وهي عود جاف من الخشب إلى شجرة خضراء، لكن الحق – تبارك وتعالى – يجري لموسى هذه المعجزة ؛ لأنه سيحتاج إليها فيما بعد، ولو تحولت العصا إلى شجرة خضراء فسوف تستقر في مكانها، أما حين تتحول إلى حية فهي حيوان متحرك، تجري هنا وهناك، وهذا ما سيحتاجه موسى في معركته القادمة.
ألقى موسى عصاه ﴿ فإذا هي.. ( ٢٠ ) ﴾ ( طه ) : إذا هنا فجائية كما تقول : خرجت فإذا أسد بالباب. وحينما ألقى موسى العصا سرعان ما تحولت وهي جافة يابسة إلى حية، وحية تسعى ليست جامدة ميتة، أليست هذه مفاجأة ؟
وطبيعي أن يخاف موسى – عليه السلام – مما رآه، فطمأنه ربه فقال :﴿ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى ( ٢١ ) ﴾.
أي : أمسكها بيدك، وسوف نعيدها في الحال ﴿ سيرتها الأولى ( ٢١ ) ﴾ ( طه ) أي : كما كانت عصا يابسة جافة في يدك، وقال :﴿ لا تخف.. ( ٢١ ) ﴾ ( طه ) لما ظهر عليه من أمارات الخوف، وقد أخبر عن خوفه في آية أخرى :﴿ فأوجس في نفسه خيفة موسى ( ٦٧ ) ﴾ ( طه ).
وكانت هذه المسألة تدريبا لموسى –عليه السلام – وتجربة، فللعصا مهمة في رسالته، وسوف تكون هي معجزته في صراعه مع فرعون حين يضرب بها البحر١ وفي دعوته لبني إسرائيل حين يضرب بها الحجر فيتفجر منه الماء٢.
وقد عالج القرآن هذه القصة في لقطات مختلفة، فمرة يقول عن العصا كأنها ثعبان، ومرة يقول : حية. وأخرى يقول : جان، لذلك اعترض البعض على هذه الاختلافات، فأيها كانت العصا ؟
الحقيقة أنها صور مختلفة للعصا حينما انقلبت، فمن ناحية قتلتها المميتة هي حية، ومن ناحية ضخامتها هي ثعبان، ومن ناحية خفة حركتها هي جان، وكل هذه الخصائص كانت في العصا، وحين تجمع كل هذه اللقطات تعطيك الصورة الكاملة للعصا بعد أن صارت حية.
فآيات القرآن – إذن – تتكامل لترسم الصورة المرادة للحق تبارك وتعالى.
١ قال تعالى: ﴿فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم (٦٣)﴾ (الشعراء)..
٢ وذلك قوله تعتالى: ﴿وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا................. (٦٠)﴾ (البقرة).
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى ( ٢٢ ) ﴾.
اليد معروفة، والجناح للطائر، ويقابله في الإنسان الذراع بداية من العضد، والحق سبحانه حينما أوصانا بالوالدين قال :﴿ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة.. ( ٢٤ ) ﴾ ( الإسراء ) يعني : تواضع لهما، ولا تتعال عليهما.
وفي موضع آخر قال تعالى :﴿ اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء.. ( ٣٢ ) ﴾ ( القصص ).
والجيب : طوق القميص، سمي جيبا ؛ لأنهم كانوا في الماضي يجعلون الجيب الذي يضعون به النقود أو خلافه في داخل الثوب، ليكون بعيدا عن يد السارق، فإذا ما احتاج الإنسان شيئا في جيبه يدخل يده من طوق القميص ليصل إلى الجيب فسمي الطوق جيبا.
وهذا من مظاهر التكامل بين الآيات.
والمعنى هنا : اضمم كف يدك اليمنى، وأدخله من طوق قميصك إلى تحت عضدك الأيسر ﴿ تخرج بيضاء من غير سوء.. ( ٢٢ ) ﴾ ( طه ) : أي : ساعة أن تخرج يدك تجدها بيضاء، لها ضوء ولمعان وبريق وشعاع.
ومعلوم أن موسى – عليه السلام – كان أسمر اللون، كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم حينما طلب منه أن يصف الرسل الذين لقيهم في رحلة الإسراء والمعراج، فقال :( أما موسى، فرجل آدم١طوال، كأنه من رجال أزدشنوءة.. ) ( ٢ )٢.
أي : أسمر شديد الطول ؛ لأن طوال يعني : أكثر طولا من الطويل.
ومن هنا كان بياض اليد ونورها في سمرة لونه آية من آيات الله، ولو كان موسى أبيض اللون ما ظهر بياض يده.
وقوله :﴿ من غير سوء.. ( ٢٢ ) ﴾ ( طه ) : أي : من غير مرض، فقد يكون البياض في السمرة مرضا – والعياذ بالله – كالبرص مثلا. فنفى عنه ذلك.
وقوله تعالى :﴿ آية أخرى ( ٢٢ ) ﴾ ( طه ) أي : معجزة، لكنه لم يقل شيئا عن الآية الأولى، فدل ذلك على أن العصا كانت الآية الأولى، واليد الآية الأخرى.
١ الأدمة: السمرة. والآدم من الناس: الأسمر. قال ابن الأثير: الأدمة في الناس: السمرة الشديدة. وقيل: هو من أدمة الأرض وهو لونها. قال: وبه سمى آدم أبو البشر. (لسان العرب – مادة: آدم)..
٢ حديث متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (٣٣٩٤)، ومسلم في صحيحه (١٦٥) كتاب الإيمان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وشنوءة: حي من اليمن ينسبون إلى شنوءة وهو عبد الله بن كعب، ولقب شنوءة لشنآن (بغض) كان بينه وبين أهله. (فتح الباري ٦ / ٤٢٩)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ( ٢٣ ) ﴾.
أي : نريك الآيات العجيبة عندنا ؛ لتكون مقدمة لك، فحين نأمرك بشيء من هذا القبيل فاعلم أن الذي يأمرك رب لن يغشك، ولن يتخلى عنك، وسوف يؤيدك وينصرك، فلا ترتع ولا تخف أو تتراجع.
وكأن الحق – تبارك وتعالى – يعد نبيه موسى للقاء مرتقب مع عدوه فرعون الذي ادعى الألوهية.
ثم بعد هذه الشحنة والتجربة العملية يقول له :
﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ( ٢٤ ) ﴾.
فلماذا أرسله إلى فرعون أولا، ولم يرسله إلى قومه ؟ قالوا : لأن فرعون فعل فعلا فظيعا، حيث ادعى الألوهية، وهي القمة في الاعتداء، ثم استعبد بني إسرائيل، فلا بد أن نصفي الموقف أولا مع فرعون.
لذلك حدثت معجزة العصا في ثلاثة مواقف :
الأول : وكان لدربة موسى ورياضته على هذه العملية، وكانت هذه المرة بين موسى وربه – عز وجل – تدريبا، حتى إذا أتى وقت مزاولتها أمام فرعون لم يتهيب منها أو يتراجع، بل باشرها بقلب ثابت واثق.
والثاني : كان مع فرعون بمفرده ترويعا له.
والثالث : مع السحرة تجميعا.
فكل موقف من هذه المواقف كان لحكمة وله دور، وليس في المسألة تكرار كما يدعي البعض.
وقوله تعالى :﴿ إنه طغى ( ٢٣ ) ﴾ ( طه ) : الطغيان : مجاوزة الحد، ومجاوزة الحد يكون بأخذ ما ليس لك والمبالغة في ذلك، وليته أخذ من المساوي له من العباد، إنما أخذ ما ليس له من صفات الله عز وجل.
ولما سمع موسى اسم فرعون، تذكر ما كان من أمره في مصر، وأنه تربى في بيت هذا الفرعون الذي ادعى الألوهية، فكيف سيواجهه.
كما تذكر قصة الرجل الذي وكزه فقتله١، ثم خرج منها خائفا يترقب، فلما شعر موسى أن العبء ثقيل قال :﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ( ٢٥ ) ﴾.
١ وذلك في قوله تعالى: ﴿ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه......................... (١٥)﴾ (القصص)..
كأنه قال : يا رب أنا سأنفذ أوامرك ؛ لكني لا أريد أن أقبل على هذه المهمة وأنا منقبض الصدر من ناحيتها ؛ لأن انقباض الصدر من الشيء يهدر الطاقة ويبددها، ويعين الأحداث على النفس.
لذلك دعا موسى بهذا الدعاء :﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ( ٢٥ ) ﴾ ( طه ) : ليوفر قوته لأداء هذه المهمة الصعبة التي تحتاج إلى مجهود يناسبها، ومعنى ذلك أنه انقبض صدره من لقاء فرعون للأسباب التي ذكرت.
ثم قال :﴿ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ( ٢٦ ) ﴾.
لأن شرح الصدر في هذه المسألة لا يكفي، فشرح الصدر من جهة الفاعل، وقد يجد من القابل لددا شديدا وعنادا ؛ لذلك قال بعدها :﴿ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ( ٢٦ ) ﴾ ( طه ) : فلا أجد لددا وطغيانا من فرعون، فتيسير الأمر من جهة القابل للفعل بعد شرح الصدر عند الفاعل.
لأن الكلام وتبليغ الرسالة يحتاج إلى منطق ولسان منطلق بالكلام، وكان موسى – عليه السلام – لديه رتة١أو حبسة في لسانه، فلا ينطلق في الكلام.
وكانت هذه الرتة أيضا في لسان الحسين بن علي – رضي الله عنهما – وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع الحسين يضحك ويقول :( ورثها عن عمه موسى ).
وتلحظ دقة التعبير في قوله :﴿ من لساني ( ٢٧ ) ﴾ ( طه ) : ولم يقل : احلل عقدة لساني. فقد يفهم منها أنه متمرد على قدر الله من حبسه لسانه، إنما هو لا يعترض ويطلب مجرد جزء من لسانه، يمكنه من القيام بمهمته في التبليغ.
١ الرتة: بالضم: عجلة في الكلام وقلة أناة: وقيل: هو أن يقلب اللام ياء. والأرت: الذي في لسانه عقدة وحبسة، ويجعل في كلامه فلا يطاوعه لسانه. (لسان العرب – مادة: رتت)..
هذه هي العلة في طلبه، ولولاها ما طلب انطلاقة اللسان، والفقه هو أن يفهموا الكلام والحديث عنه.
ويواصل موسى – عليه السلام – ما يراه معينا له على أداء مهمته :
وزيرا : أي معينا وظهيرا. والحق – سبحانه وتعالى – لما أراد أن يخوف الناس من الآخرة قال :﴿ كلا لا وزر ( ١١ ) إلى ربك يومئذ المستقر ( ١٢ ) ﴾ ( القيامة ).
أي : لا ملجأ ولا معين تفزع إليه إلا الله، فالوزير من ( وزر )، ويطلب الوزير حين لا يستطيع صاحب الأمر القيام به بمفرده، فيحتاج إلى من يعينه على أمره، وهو وزير إن كان ناصحا أمينا يعين صاحبه بصدق، فإن كان غاشا لئيما يعمل لصالح نفسه، فليس بوزير، بل هو ( وزر )، ومنه قوله تعالى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى.. ( ١٨ ) ﴾ ( فاطر ).
وفي الحديث النبوي الشريف :( خير الملوك ملك جعل الله له وزيرا، إن نسي ذكره، وإن نوى على خير – مجرد نية – أعانه، وإن أراد شرا كفه.. )١.
تلك علامات الوزير الناصح للرعية كما بينتها سياسة السماء، لأن لكل حاكم بطانتين : واحدة تأمر بالمعروف، وأخرى تأمر بالمنكر كما جاء في الحديث الشريف. ٢
فإن كانت هذه هي سياسة السماء، فماذا عن سياسة البشر ؟
يقول أنو شروان : إياكم أن تفهموا أن أحدا منا يستغنى عن أحد، فلكل واحد مهمته، فإن زدت في شيء فقد نقصت في أشياء، جعلها الله في غيرك ليكمل بها نقصك، فالمعايشة مشتركة، لكن هذه المشاركة تفرضها الضرورة لا التفضل، وإلا لو لم يتفضل عليك غيرك فما تفعل ؟
وسبق أن ضربنا مثلا لحاجة الناس بعضهم لبعض، قلنا : ماذا يحدث لو امتنع رجال الصرف الصحي أو الكناسون عن العمل لعدة أيام ؟ أما لو غاب الوزراء لعدة أيام فلن يحدث شيء.
إذن : لا تظن أنك أفضل من الآخرين ؛ لأن لكل منهم مهمة يؤديها، فإن كنت خيرا منه في هذه فهو خير منك في هذه ؛ لأن مجموع مواهب كل إنسان يساوي مجموع مواهب الآخر، فإن قلت : فلماذا وجد التفاوت بين الناس ؟
قالوا : لتكون هناك ضرورة في حاجة بعضنا لبعض، فلو تساوى الجميع لقلنا لجماعة منا : تفضلوا بكنس الشوارع يوم كذا فلن يتفضلوا، أما إن ألجأتهم الحاجة إلى مثل هذا العمل فسوف يسارعون إليه، كما نرى الآن في أشق المهن وأصعب المهام التي ينفر منها الناس بل ويحتقرونها ترى صاحبها مقبلا عليها حريصا على القيام بها، رغم ما فيها من مشقة، بل ويغضب إن لم يجد فرصة للعمل، لماذا ؟ لأنه مصدر قوته وقوت عياله.
وبهذه النظرة لا يتعالى أحد أو يستكبر ليحدث في المجتمع توازن استطراقي.
وقوله :﴿ من أهلي ( ٢٩ ) ﴾ ( طه ) : أي : ليكون مأمونا علي.
وهذا المطلب من موسى – عليه السلام – يشير لأدب عال من آداب النبوة، وقد اختار الله موسى للرسالة، فلماذا يشرك معه أخاه في هذه المهمة ؟ إذن : موسى لا يريد أن يفخر بالرسالة، أو يتعالى بها، أو يطغى، إنما يريد أن يقوم بها على أكمل وجه ؛ لذلك يحاول أن يكمل ما فيه من نقص بأخيه ليعينه على تبليغ رسالته، ولو أراد الاستئثار بالرسالة ما طلب هذا الطلب.
وهذا نموذج يجب أن يحتذى، فإن كلفت بأمر فوق طاقتك فلا غبار عليك أن تستعين عليه بغيرك، فهذا دليل على إخلاصك للمهمة التي كلفت بها.
١ عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ولى منكم عملا فأراد الله به خيرا جعل له وزيرا صالحا، إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه) أخرجه النسائي في سننه (٧ / ١٥٩)..
٢ لفظ الحديث: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصمه الله، أخرجه البخاري في صحيحه (٧١٩٨)، وكذا أحمد في مسنده (٣ / ٣٩). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه..
فاختار أخاه هارون ليعينه في مهمة الرسالة.
ثم أوضح العلة في ذلك، فقال في آية أخرى :﴿ وأخي هارون هو أفصح مني لسانا.. ( ٣٤ ) ﴾ ( القصص ) :
وهكذا يتكامل موسى وهارون ويعوض كل منهما النقص في أخيه. ويقال : إن هارون – عليه السلام – كان يمتاز على موسى في أمور أخرى، فكان به لين وحلم، وكان موسى حادا سريع الغضب، فكان هارون للين، وموسى للشدة.
ويتضح هذا حينما عاد موسى إلى قومه، وقد تركهم في صحبة أخيه هارون فعبدوا العجل فاشتد غضبه، كما قال تعالى :﴿ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا.. ( ١٥٠ ) ﴾ ( الأعراف ) :
ثم احتد على أخيه، وجذبه من ذقنه، وظهرت حدته. وقسوته. فماذا قال هارون ؟ ﴿ قال ابن أم.. ( ١٥٠ ) ﴾ ( الأعراف ) : ليستعطفه ويذكره برأفة الأم وحنانها ﴿ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي.. ( ٩٤ ) ﴾ ( طه )، كأنه يقول لأخيه : اضربني كما تريد، لكن لا تروعني في لحيتي، وفي رأسي.
إذن : فالفصاحة في هارون تجبر العقدة في لسان موسى، واللين يجبر الشدة والحدة، وأيضا فإن موسى – عليه السلام – كان أسمر اللون، أجعد الشعر، أقنى١الأنف، أما هارون فكان أبيض اللون، مرسل الشعر، وسيم التقاطيع والملامح، ترتاح له الأبصار، فمن لم يرتح لموسى ارتاح لهارون.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن ينزل الوحي عليه في صورة دحية٢الكلبي، وكان – رضي الله عنه – وسيما، ترتاح العين لرؤيته، فكان جبريل – عليه السلام – ينزل عليه في هذه الصورة ليؤنسه.
وموسى – عليه السلام – مع ما تميز به أخوه هارون عليه من هذه الصفات لم يحقد على أخيه، ولم ينظر إليه على أنه أفضل منه، إنما جعل صفات أخيه مكملة لصفاته، والجميع من أجل أداء الرسالة وتبليغها على وجهها الأكمل، فلم ينظر إلى نفسه ونجاحه هو، وإنما إلى نجاح المهمة التي كلفه الله بها.
ويجب أن يشيع هذا الخلق بين الناس، فإن رأيت خصلة خير في غيرك، أو وجها من وجوه الكمال في غيرك، فاحمد الله عليها، واعلم أنها سيعود عليك نفعها، وستجبر ما عندك من نقص فلا تحقد عليه ؛ لأنه سيتحمل ما فيك من قصور، وتنتفع أنت بخيره.
١ قنى الأنف قنا: ارتفع وسط قصبة الأنف وضاق منخراه، فهو أقنى، وهي قنواء. (المعجم الوجيز – مادة: قنا)..
٢ صحابي مشهور، أول مشاهده الخندق وكان يضرب به المثل في حسن الصورة وكان جبريل ينزل على صورته وشهد اليرموك، وقد نزل دمشق وسكن المزة وعاش إلى خلافة معاوية. (الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر العسقلاني ٢ / ١٦٢)..
ثم يقول الحق سبحانه أن موسى – عليه السلام – قال :﴿ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ( ٣١ ) ﴾.
الأزر : القوة. وكأن موسى – عليه السلام – عرف أن حمل الرسالة إلى فرعون وإلى قومه من بعده عملية شاقة، فقال الله : أعطني أخي يساعدني في هذه المشقة.
قوله :( واشركه ) أي : أنت يا رب. ليس أنا الذي أشركه تفضلا مني عليه، فأراد موسى – عليه السلام – أن يكون الفضل من الله، وأن يكون التكليف أيضا من الله حتى لا يعترض هارون أو يتضجر عند مباشرة الدعوة.
لذلك لما ذهبا إلى فرعون قالا :﴿ إنا رسولا ربك.. ( ٤٧ ) ﴾ ( طه ) : ولم يقل موسى : إن هارون تابع له بل هو مثله تماما مرسل من الله، وإذا تكلم موسى تكلم عنه وعن هارون.
فلما دعا موسى على قومه :﴿ ربنا اطمس١على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ( ٨٨ ) ﴾ ( يونس ).
جاءت الإجابة من الله :﴿ قال قد أجيبت دعوتكما.. ( ٨٩ ) ﴾ ( يونس )، لأن الدعاء كان من موسى، وهارون يؤمن عليه، والمؤمن أحد الداعيين.
١ طمس الشيء: تغيرت صورته أو انمحى أثره. ومعنى الآية: أي: أنزل عليها ما يمحوها ويهلكها. (القاموس القويم ١ / ٤٠٦)..
ثم يقول الحق سبحانه عن هارون وموسى أنهما قالا :﴿ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ( ٣٣ ) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ( ٣٤ ) ﴾.
فهذه هي العلة في مشاركة هارون لأخيه في مهمته، لا طلبا لراحة نفسه، وإنما لتتضافر جهودهما في طاعة الله، وتسبيحه وذكره.
والتسبيح : تقديس الله وتنزيهه ذاتا وصفاتا وأفعالا، ذاتا فلا ذات مثل ذاته تعالى :﴿ ليس كمثله شيء.. ( ١١ ) ﴾ ( الشورى ) لا في الذات، ولا في الصفات ولا في الأفعال، فلا تقل : إن سمع الله كسمعك، أو أن بصره تعالى كبصرك، أو أن فعله كفعلك.
والمعنى : نسبحك ونقدسك تقديسا يرفعك إلى مستوى الألوهية الثابتة لك، فلا نزيد شيئا من عندنا.
وقوله :﴿ نسبحك كثيرا ( ٣٣ ) ﴾ ( طه ) أي : دائما، فكأن التسبيح يورث المسبح لذة في نفسه، والطاعة من الطائع تورثه لذة في نفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(... وجعلت قرة عيني في الصلاة )١.
وكان صلى الله عليه وسلم ( إذا حز به أمر قام إلى الصلاة )٢.
١ أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٢ / ١٢٨، ١٩٩، ٢٨٥) والنسائي في سننه (٧ / ٦١) والحاكم في مستدركه (٢ / ١٦٠) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي من حديث أنس بن مالك. وتمام الحديث: (حبيب إلي من الدنيا: النساء والطيب...............) الحديث..
٢ عن حذيفة رضي الله عنه قال: (كن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حز به أمر صلى) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٥ / ٣٨٨) وأبو داود في سننه (١٣١٩)..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:ثم يقول الحق سبحانه عن هارون وموسى أنهما قالا :﴿ كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ( ٣٣ ) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ( ٣٤ ) ﴾.
فهذه هي العلة في مشاركة هارون لأخيه في مهمته، لا طلبا لراحة نفسه، وإنما لتتضافر جهودهما في طاعة الله، وتسبيحه وذكره.
والتسبيح : تقديس الله وتنزيهه ذاتا وصفاتا وأفعالا، ذاتا فلا ذات مثل ذاته تعالى :﴿ ليس كمثله شيء.. ( ١١ ) ﴾ ( الشورى ) لا في الذات، ولا في الصفات ولا في الأفعال، فلا تقل : إن سمع الله كسمعك، أو أن بصره تعالى كبصرك، أو أن فعله كفعلك.
والمعنى : نسبحك ونقدسك تقديسا يرفعك إلى مستوى الألوهية الثابتة لك، فلا نزيد شيئا من عندنا.
وقوله :﴿ نسبحك كثيرا ( ٣٣ ) ﴾ ( طه ) أي : دائما، فكأن التسبيح يورث المسبح لذة في نفسه، والطاعة من الطائع تورثه لذة في نفسه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(... وجعلت قرة عيني في الصلاة )١.
وكان صلى الله عليه وسلم ( إذا حز به أمر قام إلى الصلاة )٢.
١ أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٢ / ١٢٨، ١٩٩، ٢٨٥) والنسائي في سننه (٧ / ٦١) والحاكم في مستدركه (٢ / ١٦٠) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي من حديث أنس بن مالك. وتمام الحديث: (حبيب إلي من الدنيا: النساء والطيب...............) الحديث..
٢ عن حذيفة رضي الله عنه قال: (كن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا حز به أمر صلى) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (٥ / ٣٨٨) وأبو داود في سننه (١٣١٩)..

فأنت قيوم علينا، مطلع على أفعالنا، أنؤديها على الوجه الأكمل، أم نقصر فيها ؟
ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ( ٣٦ ) ﴾.
سؤل : أي : الشيء المسئول مثل ( خبز ) أي : مخبوز، فالمراد : أعطيناك ما سألت، بل وأعطيناك قبل أن تسأل، بل وقبل أن تعرف كيف تسأل :
( مننا ) من المنة، وهي العطاء بلا مقابل على خلاف الجزاء، وهو العطاء مقابل عمل ﴿ مرة أخرى ( ٣٧ ) ﴾ ( طه ) : إذن : هناك مرة أولى، لكن المراد بالمنة هنا ما حدث من الوحي إلى أم موسى وهو صغير، فهي في الحقيقة المنة الأولى إنما قال هنا﴿ مرة أخرى ( ٣٧ ) ﴾ ( طه ) : هذا ترتيب ذكرى حسب ذكر الأحداث.
فمتى كانت هذه المنة ؟
إذ : يعني وقت أن أوحينا إلى أمك ما يوحى. فكانت هذه هي المنة الأولى عليك حين ولدت في عام، يقتل فيه فرعون الذكور، فمننا عليك لما قلنا لأمك :﴿ فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ( ٧ ) ﴾ ( القصص ).
ومعنى :﴿ ما يوحى ( ٣٨ ) ﴾ ( طه ) : أي أمرا عظيما لك أن تقدره أنت فتذهب فيها نفسك كل مذهب، كما جاء في قوله تعالى :﴿ فغشيهم من اليم ما غشيهم ( ٧٨ ) ﴾ ( طه ).
ويفصل الحق سبحانه هذا الوحي لأم موسى، فيقول تعالى :﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ١فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ٢عَلَى عَيْنِي ( ٣٩ ) ﴾ :
هذا ما أوحينا به إلى أم موسى.
واليم : البحر الكبير، سواء أكان مالحا أم عذبا، فلما تكلم الحق سبحانه عن فرعون قال :﴿ فأغرقناهم في اليم.. ( ١٣٦ ) ﴾ ( الأعراف ) : والمراد : البحر الأحمر، أما موسى فقد ولد في مصر وألقي تابوته في النيل، وكان على النيل قصر فرعون.
وبالله.. أي أم هذه التي تصدق هذا الكلام : إن خفت على ولدك فألقيه في اليم ؟ وكيف يمكن لها أن تنقذه من هلاك مظنون وترمي به في هلاك متيقن ؟
ومع ذلك لم تتردد أم موسى لحظة في تنفيذ أمر الله، ولم تتراجع، وهذا هو الفرق بين وارد الرحمن ووارد الشيطان، وارد الرحمن لا تجد النفس له ردا، بل تتلقاه على أنه قضية مسلمة، فوارد الشيطان لا يجرؤ أن يزاحم وارد الرحمن، فأخذت الأم الوليد وألقته كما أوحى إليها ربها.
وتلحظ في هذه الآيات أن آية القصص لم تذكر شيئا عن مسألة التابوت :﴿ فإذا خفت عليه فألقيه في اليم.. ( ٧ ) ﴾ ( القصص ) هكذا مباشرة.
قالوا : لأن الحق سبحانه تكلم عن الغاية التي تخيف، وهي الرمي في اليم، وطبيعي في حنان الأم أن تحتال لولدها وتعمل على نجاته، فتصنع له مثل هذا التابوت، وتعده إعدادا مناسبا للطفو على صفحة الماء.
فالكلام هنا لإعداد الأم وتهيئتها لحين الحادثة، وفرق بين الخطاب للإعداد قبل الحادثة والخطاب حين الحادثة، فسوف يكون للأمومة ترتيب ووسائل تساعد على النجاة، فصنعت له صندوقا جعلت فيه مهدا لينا واحتاطت للأمر، ثم يطمئنها الحق سبحانه على ولدها :﴿ ولا تخافي ولا تحزني.. ( ٧ ) ﴾ ( القصص ) فسوف ننجيه ؛ لأن له مهمة عندي ﴿ إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ( ٧ ) ﴾ ( القصص )
فإذا ما جاء وقت التنفيذ جاء الأمر في عبارات سريعة متلاحقة :﴿ أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل.. ( ٣٩ ) ﴾ ( طه ).
لذلك، تجد السياق في الآية الأولى هادئا رتيبا يناسب مرحلة الإعداد، أما في التنفيذ فقد جاء السياق سريعا متلاحقا يناسب سرعة التنفيذ، فكأن الحق سبحانه أوحى إليها : أسرعي إلى الأمر الذي سبق أن أوحيته إليك، هذا الكلام في الحبكة الأخيرة لهذه المسألة.
وقوله تعالى :﴿ فليلقه اليم بالساحل.. ( ٣٩ ) ﴾ ( طه ) : أي : تحمله الأمواج وتسير به، وكأن لديها أوامر أن تدخله في المجرى الموصل لقصر فرعون.
فعندنا – إذن – لموسى ثلاثة إلقاءات : إلقاء الرحمة والحنان في التابوت، وإلقاء التابوت في اليم تنفيذا لأمر الله، وإلقاء اليم للتابوت عند قصر فرعون.
وقوله تعالى :﴿ يأخذه عدو لي وعدو له.. ( ٣٩ ) ﴾ ( طه ) :( عدو لي ) أي : لله تعالى : لأن فرعون ادعى الألوهية، ( وعدو له ) أي : لموسى، لأنه سيقف في وجهه ويوقفه عند حده.
وفي الآية إشارة إلى إنفاذ إرادته سبحانه، فإذا أراد شيئا قضاه، ولو حتى على يد أعدائه وهم غافلون، فمن يتصور أو يصدق أن فرعون في جبروته وعتوه وتقتيله للذكور من أولاد بني إسرائيل هو الذي يضم إليه موسى ويرعاه في بيته، بل ويحبه ويجد له قبولا في نفسه.
وهل التقطه فرعون بداية ليكو ن له عدوا ؟ أم التقطه ليكو ن ابنا ؟ كما قالت زوجته آسية :﴿ قرت٣عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون ( ٩ ) ﴾ ( القصص ).
إذن : كانت محبة، إلا أنها آلت إلى العداوة فيما بعد، آلت إلى أن يكون موسى هو العدو الذي ستربيه بنفسك وتحافظ عليه ليكون تقويض ملكك على يديه ؛ لذلك سيقول فرعون :﴿ ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ( ١٨ ) ﴾ ( الشعراء ).
ومسألة العداوة هذه استغلها المشككون في القرآن واتهموه بالتكرار في قوله تعالى :﴿ يأخذه عدو لي وعدو له.. ( ٣٩ ) ﴾ ( طه ). ثم قال في آية أخرى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا.. ( ٨ ) ﴾ ( القصص )
والمتأمل في الآيتين يجد أن العداوة في الآية الأولى من جانب فرعون لموسى وربه تبارك وتعالى، أما العداوة في الآية الثانية فمن جانب موسى لفرعون، وهكذا تكون العداوة متبادلة، وهذا يضمن شراستها واستمرارها، وهذا مراد في هذه القصة.
أما إن كانت العداوة من جانب واحد، فلربما تسامح غير العدو وخجل العدو فتكون المصالحة. والعداوة بين موسى وفرعون ينبغي أن تكون شرسة ؛ لأنها عداوة في قضية القمة، وهي التوحيد.
ولكن، لماذا لم يلفت مجيء موسى على هذه الحالة انتباه فرعون فيسأل عن حكايته ويبحث في أمره ؟ إنها إرادة الله التي لا يعجزها شيء، فتحبه زوجة فرعون، وتقول :﴿ قرة عين لي ولك.. ( ٩ ) ﴾ ( القصص ) ؛ لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى بعدها :﴿ وألقيت عليك محبة مني.. ( ٣٩ ) ﴾ ( طه ) :
فأحبته آسية امرأة فرعون لما رأته، وأحبه فرعون لما رآه، وهذه محبة من الله بلا سبب للمحبة، لأن المحبة لها أسباب بين الناس، فتحب شخصا لأنك توده، أو لأنه قريب لك أو صديق، أو أسدى لك معروفا، وقد يكون الحب من الله دون سبب من هذه الأسباب، فلا سبب له إلا إرادة الله.
فمعنى :﴿ وألقيت عليك محبة مني.. ( ٣٩ ) ﴾ ( طه ) : وليس فيك ما يوجب المحبة، وليس لديك أسبابها، خاصة وقد كان موسى عليه السلام أسمر اللون، أجعد الشعر، أقنى الأنف، أكتف٤، وكأن هذه الخلقة جاءت تمهيدا لهذه المحبة، وإثباتا لإرادة الله التي طوعت فرعون لمحبة موسى، كما قال تعالى :﴿ واعلموا أن الله يحول٥بين المرء وقلبه.. ( ٢٤ ) ﴾ ( الأنفال ).
وهكذا، حول الله قلب فرعون، وأدخل فيه محبة موسى ليمرر هذه المسألة على هذا المغفل الكبير، فجعله يأخذ عدوه ويربيه في بيته، ولم يكن في موسى الوسامة والجمال الذي يجذب إليه القلوب.
ثم يقول سبحانه :﴿ ولتصنع على عيني ( ٣٩ ) ﴾ ( طه ) أي : تربى على عين الله وفي رعايته، وإن كان الواقع أنه يربى في بيت فرعون، فالحق – تبارك وتعالى – يرعاه، فإن تعرض لشيء في التربية تدخل ربه عز وجل ليعلمه ويربيه.
ومن هذه المواقف أن فرعون كان يجلس وزوجته آسية، ومعهما موسى صغير يلعب، فإذا به يمسك بلحية فرعون ويجذبها بشدة أغاظته، فأمر بقتله، فتدخلت امرأته قائلة : إنه ما يزال صغيرا لا يفقه شيئا، إنه لا يعرف التمرة من الجمرة.
فأتوا له بتمرة وجمرة ليمتحنوه، فأزاح الله يده عن التمرة إلى الجمرة ليفوت المسألة على هذا المغفل الكبير، بل وأكثر من هذا، فأخذها موسى رغم حرارتها حتى وضعها في فمه، فلدغت لسانه، وسببت له هذه العقدة في لسانه التي اشتكى منها فيما بعد.
وكأن الحق – تبارك وتعالى – يطمئن نبيه موسى – عليه السلام - : لا تخف، فأنت تحت عيني وفي رعايتي، وإن فعلوا بك شيئا سأتدخل، وفي آية أخرى قال :﴿ واصطنعتك لنفسي ( ٤١ ) ﴾ ( طه )
فأنا أرعاك وأحافظ عليك ؛ لأن لك مهمة عندي.
١ التابوت: هو الصندوق الذي يحرز فيه المتاع. (لسان العرب – مادة: تبت) قال القرطبي في تفسيره (٦ / ٤٣٦٨): (قال مقاتل: مؤمن آل فرعون هو الذي صنع التابوت ونجره، وكان اسمه حزقيل، وكان التابوت من جميز)..
٢ الصنع: معناه الإحداث والإنشاء ويكون بقصد وإرادة وتدبير، وقوله تعالى في قصة موسى: ﴿ولتصنع على عيني (٣٩)﴾ (طه). أي: تربى محروسا بعنايتي، وقوله تعالى ﴿واصطنعتك لنفسي (٤١)﴾ (طه). أي: علمتك وربيتك وأنعمت عليك لتكون صنيعة لي تخدمني وتؤدي الرسالة التي أكلفك إياها واحترتك لها. (القاموس القويم (١ / ٢٨٤)..
٣ أي: مبعث سرور لي ولك. (القاموس القويم ٢ / ١١٢). وقيل: أقر الله عينك أي: بلغك أمنيتك حتى ترضى نفسك وتسكن عينك فلا تستشرف إلى غيره. (لسان العرب – مادة: قرر)..
٤ الكتف: عيب يكون في الكتف، وهو انفراج في أعالي كتف الإنسان والأكتف هو الذي انضمت كتفاه على وسط كاهله قبيحة. (لسان العرب – مادة: كتف)..
٥ قال ابن عباس: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان، رواه الحاكم في مستدركه موقوفا، وقال: صحيح ولم يخرجاه. قال ابن كثير في تفسيره (٢ / ٢٩٨): (وكذا قال مجاهد وسعيد وعكرمة والضحاك وأبو صالح وعطية وغيرهم)..
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ( ٤٠ ) ﴾.
إذن : كان لأخت موسى دور في قصته، كما قال تعالى في موضع آخر :﴿ وقالت لأخته قصيه١فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون ( ١١ ) ﴾ ( القصص ).
والمراد : تتبعيه بعد أن علمت نجاته من اليم، فتتبعته، وعرفت أنه في بيت فرعون، ثم حرم الله عليه المراضع، فكان يعاف المرضعات، وهنا تدخلت أخته لتقول :﴿ هل أدلكم على من يكفله.. ( ٤٠ ) ﴾ ( طه ) وهذا الترتيب لا يقدر عليه إلا الله.
ويقول تعالى :﴿ فرجعناك إلى أمك.. ( ٤٠ ) ﴾ ( طه ) : حين نستقرئ مادة ( رجع ) في القرآن نجدها تأتي مرة لازمة كما في :﴿ ولما رجع موسى إلى قومه.. ( ١٥٠ ) ﴾ ( الأعراف ).
وتأتي متعدية كما في :﴿ فرجعناك إلى أمك.. ( ٤٠ ) ﴾ ( طه )، وفي :﴿ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم.. ( ٨٣ ) ﴾ ( التوبة ).
والفرق بين اللازم والمتعدي أن اللازم رجع بذاته، أما المتعدي فقد أرجعه غيره، فالرجوع أن تصير إلى حال كنت عليها وتركتها ؛ فإن رجعت بنفسك دون دوافع حملتك على الرجوع فالفعل لازم، فإن كانت هناك أمور دفعتك للرجوع فالفعل متعد.
ومثل : رجعك : أرجعك، إلا أن رجعك : الرجوع – في ظاهر الأمر منك من دون دوافع منك. وأرجعك : أي رغما عن إرادتك.
وقوله :﴿ كي تقر عينها.. ( ٤٠ ) ﴾ ( طه ) : تقر العين : أي تثبت، لأن التطلعات إما أن تكون معنوية أو حسية، فالإنسان لديه أمان يتطلع إلى تحقيقها، فإذا ما تحققت نقول : لم يعد يتطلع إلى شيء.
وكذلك في الشيء الحسي، فالعرب يقولون للشيء الجميل : قيد النواظر. أي : يقيد العين فلا تتحول عنه ؛ لأن الإنسان لا يتحول عن الجميل إلا إذا رأى ما هو أجمل، وهذا ما يسمونه قرة العين، يعني الشيء الحسن الذي تستقر عنده العين ؛ ولا تطلب عليه مزيدا في الحسن.
ثم يقول تعالى :﴿ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا.. ( ٤٠ ) ﴾ ( طه ) : وهذه منة أخرى من منن الله تعالى على موسى عليه السلام، فمنن الله عليه كثيرة كما قال :﴿ ولقد مننا عليك مرة أخرى ( ٣٧ ) ﴾ ( طه ) فهي مرة، لكن هناك مرات.
ومسألة القتل هذه وردت في قوله تعالى :﴿ ودخل المدينة على حين٢غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه.. ( ١٥ ) ﴾ ( القصص ).
وخرج من المدينة٣خائفا يترقب الناس لئلا يلحقوا به فيقتلوه، وهذا معنى :﴿ فنجيناك من الغم.. ( ٤٠ ) ﴾ ( طه ) : أي : من القتل، أو من الإمساك بك ﴿ وفتناك فتونا.. ( ٤٠ ) ﴾ ( طه ) : أي : عرضناك لمحن كثيرة، ثم نجيناك منها، أولها : أنك ولدت في عام يقتل فيه الأطفال، ثم رمتك أمك في اليم، ثم ما حدث منه مع فرعون لما جذبه من ذقنه.
ثم يقول تعالى :﴿ فلبثت سنين٤في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى ( ٤٠ ) ﴾ ( طه ) : ذكر الله تعالى مدة مكثه في أهل مدين على أنها من مننه على موسى مع أنه كان فيها أجيرا، وقال عن نفسه :﴿ رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ( ٢٤ ) ﴾ ( القصص ).
وفي مدين تعرف على شعيب عليه السلام، وتزوج من ابنته وأنجب منها ولدا، وموسى في هذا كله غريب عن وطنه، بعيد عن أمه، فلما أراد الله له الرسالة شوقه إلى وطنه ورؤية أمه، وقدر له العودة ؛ فقال تعالى :﴿ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ٥يَا مُوسَى ( ٤٠ ) ﴾ ( طه ).
أي : على قدر من اصطفائك، فقدر الله هو الذي حرك في قلبك الشوق للعودة، وحملك على أن تمشي في الطريق غير المأهول، وتتحمل مشقة البرد وعناء السفر، قدر الله هو الذي حرك فيك خاطر الشوق لأمك، ففي طريق العودة وفي طوى أنت على موعد مع الاصطفاء والرسالة.
لذلك، فإن الشاعر الذي مدح الخليفة قال له :
جاء الخلافة أو كانت له قدرا****كما أتى ربه موسى على قدر
١ القص: اتباع الأثر. قال ابن كثير في تفسيره (٣ / ٣٨١): أي: (اتبعي أثره وخذي خبره وتطلبي شأنه من نواحي البلد)..
٢ أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أن فرعون ركب مركبا وليس عنده موسى، فلما جاء موسى عليه السلام قيل له: إن فرعون قد ركب، فركب في أثره. فأدركه المقيل (وقت الظهيرة) بأرض يقال لها منف، فدخلها نصف النهار، وقد تغلقت أسواقها، وليس في طرقها أحد، وهي التي يقول الله تعالى: ﴿ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها................. (١٥)﴾ (القصص). (أورده السيوطي في الدر المنثور ٦ / ٣٩٧)..
٣ هي مدينة منف، وهي تقع الآن على مسافة ٢٨ كم جنوب القاهرة قرب ميت رهينة بالبدرشين بالجيزة وبها أهرامات سقارة، وكانت منف المدينة الأولى في مصر حتى بنيت مدينة الإسكندرية، وكانت منف حصنا قويا، وكانت تصنع بها أسلحة القتال وتبنى فيها سفن الأسطول. (معجم الحضارة المصرية القديمة – تأليف جورج بوزنر وآخرون – ترجمة أمين سلامة – الهيئة المصرية العامة للكتاب)..
٤ قال قتادة: مكث عشر سنسن، أورده السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٥٧٩) وعزاه لعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وقال وهب: لبثت عند شعيب ثماني وعشرين سنة، منها عشر مهر امرأته صفورا ابنة شعيب وثماني عشرة أقامها عنده حتى ولد له عنده..
٥ قال مجاهد: أي على موعد. وقال قتادة: على قدر الرسالة والنبوة أوردهما ابن كثير في تفسيره (٣ / ١٥٣)..
ثم يقول الحق سبحانه لموسى :﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ( ٤١ ) ﴾.
أي : نجيتك وحافظت عليك ؛ لأنني أعدك لمهمة عندي، هي إرسالك رسولا بمنهجي إلى فرعون وإلى قومك.
وقد حاول العلماء إحصاء المطالب التي طلبها موسى عليه السلام من ربه فوجدوها ثمانية :﴿ قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ( ٢٥ ) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ( ٢٦ ) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي ( ٢٧ ) يَفْقَهُوا قَوْلِي ( ٢٨ ) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي ( ٢٩ ) هَارُونَ أَخِي ( ٣٠ ) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ( ٣١ ) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ( ٣٢ ) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا ( ٣٣ ) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا ( ٣٤ ) ﴾ ( طه ).
ثم وجدوا أن الله تعالى أعطاه ثمانية أخرى دون سؤال منه :﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ( ٣٨ ) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ( ٣٩ ) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ( ٤٠ ) ﴾. ( طه ).
فإن كان موسى عليه السلام قد طلب من ربه ثمانية مطالب فقد أعطاه ربه عز وجل ثمانية أخرى دون أن يسألها موسى، ليجمع له بين العطاء بالسؤال، والعطاء تكرما من غير سؤال، لأنك إن سألت الله فأعطاك دل ذلك على قدرته تعالى في إجابة طلبك، لكن إن أعطاك بدون سؤال منك دل ذلك على محبته لك.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا ( ١ )١فِي ذِكْرِي ( ٤٢ ) ﴾.
﴿ بآياتي.. ( ٤٢ ) ﴾ ( طه ) : الآيات هنا هي المعجزات الباهرات التي تبهر فرعون، فلن تذهبا مجردين، بل معكما دليل على صدق الرسالة التي تحملونها إليه :﴿ لا تنيا في ذكري ( ٤٢ ) ﴾ ( طه ) : من التواني أي : الفتور أو التقصير، لأنني أعددتكما الإعداد المناسب لهذه المهمة الشاقة، فإياكم والتهاون فيها، فإن حدث منكما تقصير فهو تقصير في الأداء، لا في الإعداد.
ومعنى :﴿ في ذكري ( ٤٢ ) ﴾ ( طه ) : أي : لأكن دائما على بالكما، فأنا الذي أرسلت، وأنا الذي أيدت بالمعجزات، وأنا الذي أرعاكما وأرقبكما، وأنا الذي سأجازيكما فلا يغب ذلك عنكما.
١ في قراءة ابن مسعود: (ولا تهنا في ذكري) وتحميدي وتمجيدي وتبليغ رسالتي. (القرطبي في تفسيره ٦ / ٤٣٧١)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ( ٤٣ ) ﴾.
وهل هناك طغيان فوق ادعاء أنه رب ؟ وقد قال تعالى في موضع آخر :﴿ وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين ( ٨٣ ) ﴾ ( يونس ) : والمسرف : هو الذي يتجاوز الحدود، وهو قد تجاوز في إسرافه وادعى الألوهية، فعلا في الأرض علو طاغية من البشر على غيره من البشر المستضعفين.
هذا لفرعون بعد أن طغى، ومن الذي حكم عليه بالطغيان. ؟ حين تحكم أنت عليه بالطغيان فهو طغيان يناسب قدرات وإمكانات البشر، أما أن يقول عنه الحق تبارك وتعالى :﴿ إنه طغى ( ٤٣ ) ﴾ ( طه ) فلا بد أنه تجاوز كل الحدود، وبلغ قمة الطغيان، فربنا هو الذي يقول.
فقوله :﴿ فقولا له قولا لينا.. ( ٤٤ ) ﴾ ( طه ) : فلا بد أن تعطيه فسحة كي يرى حججك وآياتك، ولا تبادره بعنف وغلظة، وقالوا : النصح ثقيل، فلا ترسله جبلا، ولا تجعله جدلا، ولا تجمع على المنصوح شدتين : أن تخرجه مما ألف بما يكره، بل تخرجه مما ألف بما يحب.
وهذا منهج في الدعوة واضح وثابت، كما في قوله تعالى :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.. ( ١٢٥ ) ﴾ ( النحل ).
لأنه تخلعه مما اعتاد وألف، وتخرجه عما أحب من حرية واستهتار في الشهوات والملذات، ثم تقيده بالمنهج، فليكن ذلك برفق ولطف.
وهذه سياسة يستخدمها البشر الآن في مجال الدواء، فبعد أن كان الدواء مرا يعافه المرضى، توصلوا الآن إلى برشمة الدواء المر وتغليفه بطبقة حلوة المذاق حتى تتم عملية البلع، ويتجاوز الدواء منطقة المذاق.
وكذلك الحال في مرارة الحق والنصيحة، عليك أن تغلفها بالقول اللين اللطيف.
وقوله :﴿ لعله يتذكر أو يخشى ( ٤٤ ) ﴾ ( طه ) : لعل : رجاء، فكيف يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ لعله يتذكر أو يخشى ( ٤٤ ) ﴾ ( طه ) وفي علمه تعالى أنه لن يتذكر ولن يخشى، وسيموت كافرا غريقا ؟
قالوا : لأن الحق سبحانه يريد لموسى أن يدخل على فرعون دخول الواثق من أنه سيهتدي، لا دخول اليائس من هدايته، لتكون لديه الطاقة الكافية لمناقشته وعرض الحجج عليه، أما لو دخل وهو يعلم هذه النتيجة لكان محبطا لا يرى من كلامه فائدة، كما يقولون ( ضربوا الأعور على عينه قال خسرانة خسرانة ).
فالحق سبحانه يعلم ما سيكون من أمر فرعون، لكن يريد أن يقيم الحجة عليه ﴿ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.. ( ١٦٥ ) ﴾ ( النساء ).
وقوله :﴿ يتذكر أو يخشى ( ٤٤ ) ﴾ ( طه ) كأن الإنسان إذا ما ترك شراسة تفكيره، وغمة شهواته في نفسه، لا بد أن يهتدي بفطرته إلى وجود الله أو ( يتذكر ) عالم الذر، والعهد الذي أخذه الله عليه يوم أن قال :﴿ ألست بربكم قالوا بلى شهدنا.. ( ١٧٢ ) ﴾ ( الأعراف ).
والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم :( كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه١ )٢.
فلو تذكر الإنسان، وجرد نفسه من هواها لا بد له أن يهتدي إلى وجود الله، لكن الحق – سبحانه وتعالى – جعل للغفلة مجالا، وأرسل الرسل للتذكير ؛ لذلك قال :﴿ رسلا مبشرين ومنذرين.. ( ١٦٥ ) ﴾ ( النساء ) ولم يقل : بادئين.
أما مسألة الإيمان بالله فكان ينبغي أن تكون واضحة معروفة للناس أن هناك إيمانا بإله خالق قادر فقط ينتظرون ما يطلبه منهم وما يتعبدهم به. ماذا تفعل ؟ وماذا تترك ؟ وهذه هي مهمة الرسل.
وسبق أن ضربنا مثلا برجل انقطعت به السبل في صحراء دوية٣، لا يجد ماء ولا طعاما، حتى أشرف على الهلاك، ثم غلبه النوم فنام، فلما استيقظ إذا بمائدة عليها ألوان الطعام والشراب. بالله قبل أن يمد يده للطعام، ألا يسأل : من أتى إليه به ؟
وهكذا الإنسان، طرأ على كون معد لاستقباله : أرض، وسماء، وشمس، وقمر، وزرع، ومياه، وهواء. أليس جديرا به أن يسأل : من الذي خلق هذا الكون البديع ؟ فلو تذكرت ما طرأت عليه من الخير في الدنيا لانتهيت إلى الإيمان.
فمعنى :﴿ يتذكر.. ( ٤٤ ) ﴾ ( طه ) : أي : النعم السابقة فيؤمن بالمنعم ﴿ أو يخشى ( ٤٤ ) ﴾ ( طه ) يخاف العقوبة اللاحقة، فيؤمن بالله الذي تصير إليه الأمور في الآخرة.
١ المجوسية نحلة تقول بالأصلين النور والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور، وأن الشر من فعل الظلمة،. ويقال: تمجس الرجل وتمجسوا: صاروا مجسوا. ومجسوا أولادهم: صيروهم كذلك. (لسان العرب – مادة: مجس)..
٢ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٤٧٧٥)، ومسلم في صحيحه (٢٦٥٨) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٣ الصحراء اىلدوية: إذا كانت بعيدة الأطراف مستوية واسعة. (لسان العرب – مادة: دوى)..
ثم يقول الحق تبارك وتعالى عنهما :﴿ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى ( ٤٥ ) ﴾.
الخوف : شعور في النفس يحرك فيه المهابة من شيء، ومم يخافان ؟ ﴿ أن يفرط علينا.. ( ٤٥ ) ﴾ ( طه ) يفرط : أي : يتجاوز الحد.. ومضادها : فرط يعني : قصر في الأمر، لذلك يقولون : الوسط فضيلة بين إفراط وتفريط.
ومن أفرط يقولون : فرس فارط عندما يسبق في المضمار.
ويقولون : حاز قصب السبق، وكانوا يضعون في نهاية المضمار قصبة يركزونها في الأرض، والفارس الذي يلتقطها أولا هو الفائز، والفرس فارط يعني : سبق الحد المعمول له، لا مجرد أن يسبق غيره.
لذلك عندما يحدثنا القرآن عن الحدود، يقول مرة :﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها.. ( ٢٢٩ ) ﴾ ( البقرة ) أي : إياك أن تسبق الحد الذي وضع لك ومرة أخرى يقول :﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها.. ( ١٨٧ ) ﴾ ( البقرة )
ففي المحللات قال :﴿ فلا تعتدوها.. ( ٢٢٩ ) ﴾ ( البقرة ) قفوا على الحد لا تسبقوه، وفي المحرمات قال :﴿ فلا تقربوها.. ( ١٨٧ ) ﴾ ( البقرة ) لأنك لو اقتربت منها وقعت فيها.
فالمعنى إذن ﴿ يفرط علينا.. ( ٤٥ ) ﴾ ( طه ) : يتجاوز الحد، وربما عاجلنا بالقتل قبل أن نقول شيئا فيسبق قتله لنا كلامنا له.
وقوله تعالى :﴿ أو أن يطغى ( ٤٥ ) ﴾ ( طه ) : فلا يكتفي بقتلنا، بل ويخوض في حق ربنا، أو يقول كلاما لا يليق، كما سبق له أن ادعى الألوهية.
ومن واجب الدعاة ألا يصلوا مع المدعوين إلى درجة أن يخوضوا في حق الله تبارك وتعالى ؛ لذلك فالحق سبحانه يؤدب المؤمنين به بأدب الدعوة في مجابهة هؤلاء فيقول :﴿ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا١بغير علم.. ( ١٠٨ ) ﴾ ( الأنعام ).
١ عدا عليه يعدو عدوا وعدوانا: ظلمه وصال عليه مثل اعتدى عليه. (القاموس القويم ٢ / ١١). قال ابن عباس في هذه الآية: (قالوا (أي: المشركين): يا محمد لتنتهين عن سبك آلهتنا أو لنهجون ربك فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم) (ذكره ابن كثير في تفسيره ٢ / ١٦٤)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ( ٤٦ ) ﴾.
أي : لن أسلمكما ولن أترككما، وأنا معكما أسمع وأرى، لأن الحركة إما قول يسمع، أو فعل يرى، فاطمئنا ؛ لأننا سنحفظكما وقد قال تعالى :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ( ١٧١ ) إنهم لهم المنصورون ( ١٧٢ ) وإن جندنا لهم الغالبون ( ١٧٣ ) ﴾ ( الصافات ).
وهذه سنة من سنن الله تعالى، فإن رأيت جندا من الجنود منسوبين لله تعالى وهزموا، فاعلم أنهم انحلوا عن الجندية لله، وإلا فوعد الله لجنوده لا يمكن أن يتخلف أبدا.
والدليل على ذلك ما حدث للمسلمين في أحد، صحيح أن المسلمين هزموا في هذه الغزوة ؛ لأنهم انحرفوا عن أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفوه عندما قال للرماة :( لا تتركوا أماكنكم على أي حال من الأحوال )١، لكن بمجرد أن رأوا بوادر النصر تركوا أماكنهم، ونزلوا لجمع الغنائم، فالتف من خلفهم خالد بن الوليد وألحق بهم الهزيمة، وإن انهزم المسلمون فقد انتصر الإسلام، لأنهم لما خالفوا أوامر رسولهم انهزموا، وبالله لو انتصروا مع المخالفة أكان يستقيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بعد ذلك ؟
ففي الآية التي معنا يطمئنهم الحق – تبارك وتعالى – حتى لا يخافا، فقدرة الله ستحفظهما، وسوف تتدخل إن لزم الأمر كما تدخلت في مسألة التمرة والجمرة، وهو صغير في بيت فرعون.
١ أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٢ / ٢٠٩) ضمن حديث طويل عن غزوة أحد من حديث موسى بن عقبة، وفيه: (أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسين رجلا من الرماة فجعلهم نحو خيل العدو، وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير، وقال لهم: أيها الرماة إذا أخذنا منازلنا من القتال فإن رأيتم خيل المشركين تحركت وانهزم أعداء الله فلا تتركوا منازلكم، إني أتقدم إليكم أن لا يفارقن رجل منكم مكانه واكفوني الخيل، فوعز إليه فأبلغ، ومن نحوهم كان الذي نزل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ والذي أصابه)..
ثم يقول لهما الحق سبحانه وتعالى :﴿ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ( ٤٧ ) ﴾.
ونلحظ هنا أنهما لم يواجهاه بما ادعاه من الألوهية مرة واحدة، إنما أشارا إلى مقام الربوبية ﴿ رسولا ربك.. ( ٤٧ ) ﴾ ( طه ) وهذه هزة قوية تزلزل فرعون، ثم تحولا إلى مسألة أخرى، وهي قضية بني إسرائيل، وكان فرعون يسخرهم في خدمته ويعذبهم ويشق عليهم.
﴿ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ.. ( ٤٧ ) ﴾ ( طه ) فقد جئنا لنأخذ أولادنا وننقذهم من هذا العذاب ﴿ قد جئناك بآية.. ( ٤٧ ) ﴾ ( طه ) أي : معجزة ﴿ من ربك.. ( ٤٧ ) ﴾ ( طه ) : فأعادوا عليه هذه الكلمة مرة أخرى.
وقد علمهما الحق سبحانه كيف يدخلون على فرعون ؟ وكيف يتحدثون معه في أمر لا يمس كبرياءه وألوهيته.
وبنو إسرائيل هم البقية الباقية من يوسف عليه السلام وإخوته، لما جاءوا إلى مصر في أيام العزيز١الذي قرب يوسف وجعله على خزائن الأرض، كما قال تعالى في قصة يوسف :﴿ وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين٢أمين ( ٥٤ ) قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ( ٥٥ ) ﴾ ( يوسف ).
وقوله :﴿ والسلام على من اتبع الهدى ( ٤٧ ) ﴾ ( طه ) : وهذه ليست تحية ؛ لأنك تحيي من كان متبعا للهدى، وتدعو له بالسلام، فإن لم يكن كذلك فهي نهاية للكلام.
لذلك كان يكتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتبه إلى المقوقس عظيم القبط، وإلى هرقل عظيم الروم، يقول :( اسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين٣ والسلام على من اتبع الهدى )٤.
١ العزيز: عزيز مصر في زمن يوسف، وهو وزيرها، قال محمد بن إسحاق: اسمه أطفير ابن رويحيب، وكان على خزائن مصر، وكان الملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق (أي: الهكسوس). (ذكره ابن كثير في تفسيره ٢ / ٤٧٣)..
٢ أي: عظيم عندنا ثابت المنزلة. (القاموس القويم ٢ / ٢٣٢)..
٣ اختلفوا في المراد بالأريسيين على أقوال، أصحها وأشهرها أنهم الأكارون أي الفلاحون والزراعون، ومعناه: إن عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون بانقيادك، وهذا هو القول الصحيح، شرح النووي لصحيح مسلم..
٤ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (حديث ٧) كتاب بدء الوحي، وكذا مسلم في صحيحه (١٧٧٣) كتاب الجهاد والسير في حديث طويل من حديث ابن عباس في ذكر كتاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل عظيم الروم..
قال موسى وهارون لفرعون :﴿ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ( ٤٨ ) ﴾.
فأعطاه هنا القضية النهائية : جاءنا في الوحي أن من كذب وتولى فله العذاب، ومعنى :﴿ أوحي إلينا.. ( ٤٨ ) ﴾ ( طه ) أي : من ربك.
فلما سمع فرعون هذه المقولة أحب أن يدخل معهما في متاهات يشغلهم بها، ويطيل الجدل ليرتب أفكاره، وينظر ما يقول :
﴿ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى ( ٤٩ ) ﴾.
ووجه الخطاب إلى الرئيس الأصلي في هذه المهمة، وهو موسى عليه السلام١.
١ وقد يكون فرعون قد طلب الكلام من موسى لأنه يعلم أن موسى ليس فصيح اللسان ولا يكاد يفهم منه كلام بسبب العقدة التي في لسانه، ولذلك قال: ﴿أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين (٥٢)﴾ (الزخرف)..
معنى :﴿ أعطى كل شيء خلقه.. ( ٥٠ ) ﴾ ( طه ) : أي : كل ما في الوجود، خلقه الله لمهمة، فجاء خلقه مناسبا للمهمة التي خلق لها ﴿ ثم هدى ( ٥٠ ) ﴾ ( طه ) : أي : دل كل شيء على القيام بمهمته ويسره لها.
والحق سبحانه أعطى كل شيء ( خلقه ) الخلق يطلق، ويراد به المخلوق، فالمخلوق شيء لا بد له من مادة، لا بد أن يكون له صورة وشكل، له لون ورائحة، له عناصر ليؤدي مهمته.
فإذا أراد الله سبحانه خلق شيء يقدر له كل هذه الأشياء فأمد العين كي تبصر، والأنف كي يشم، واللسان كي يتذوق، ثم هدى كل شيء إلى الأمر المراد به لتمام مهمته، بدون أي تدخل فيه من أحد.
وإذا كان الإنسان، وهو المقدور للقادر الأعلى يستطيع أن يصنع مثلا القنبلة الزمنية. ويضبطها على وقت، فتؤدي مهمتها بعد ذلك تلقائيا دون اتصال الصانع بها.
فالحق سبحانه خلق كل شيء وأقدره على أن يؤدي مهمته على الوجه الأكمل تأدية تلقائية غريزية، فالحيوانات التي نتهمها بالغباء، ونقول عنها ( بهائم ) هي في الحقيقة ليست كذلك، وقد أعطانا الحق – سبحانه وتعالى – صورة لها في مسألة الغراب الذي بعثه الله ليعلم ولد آدم كيف يواري سوءة أخيه كما قال سبحانه :﴿ فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ( ٣١ ) ﴾ ( المائدة ).
فكيف صنع الغراب هذا الصنيع ؟ صنعه بالغريزة التي جعلها الله فيه، ولو تأملت الحمار الذي يضربون به المثل في الغباء حين تريده أن يتخطى ( قناة ) مثلا، تراه ينظر إليها ويقدر مسافتها، فإن استطاع أن يتخطاها قفز دون تردد، وإن كانت فوق إمكانياته تراجع، ولم يقدم مهما ضربته أو أجبرته على تخطيها، هذه هي الغريزة الفطرية.
لذلك تجد المخلوقات غير المختارة لا تخطئ ؛ لأنها محكمة بالغريزة، وليس لها عقل يدعو إلى هوى، وليس لها اختيار بين البدائل مثل العقل الإلكتروني الذي يعطيك ما أودعته فيه لا يزيد عليه ولا ينقص، أما الإنسان فيمكن أن يغير الحقيقة، ويخفي ما تريده منه، لأن له عقلا يفاضل : قل هذه، ولا تقل هذه، وهذا ما ميز الله به الإنسان عن غيره من المخلوقات.
كذلك، ترى الحيوان إذا شبع يمتنع عن الطعام ولا يمكن أن تؤكله عود برسيم واحد مهما حاولت، إنما الإنسان صاحب العقل والهوى يقول لك :( أرها الألوان تريك الأركان )، فلا مانع – بعد أن أكل حتى التخمة – من تذوق أصناف شتى من الحلوى والفاكهة وخلافه.
وفي هذه الآية يقول الحق سبحانه وتعالى أنه :﴿ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ( ٥٠ ) ﴾ ( طه )
خذ مثلا الأذن، وكيف هي محكمة التركيب مناسبة لتلقي الأصوات، ففي الأذن من الخارج تجاعيد وتعاريج تتلقى الأصوات العالية، فتخفف من حدتها حتى تصل إلى الطبلة الرقيقة هادئة، وإلا خرقتها الأصوات وأصمتها، وكذلك جعلها الله لصد الرياح حتى إذا هبت لم تجد الأذن هكذا عارية فتؤذيها.
وكذلك العين، كم بها من آيات لله، فقد خلقها الله بقدر، من هذه الآيات أن حرارتها إن زادت عن ١٢ درجة تفسد، وأرنبة الأنف إن زادت عن ٩ درجات لا تؤدي مهمتها، مع أن في الجسم عضوا حرارته ٤٠ درجة هو الكبد، والحرارة الكلية للإنسان ٣٧ درجة، تكون ثابتة في المناطق الباردة حيث الجليد كما هي في المناطق الحارة، لا ترتفع ولا تنخفض إلا لعلة أو آفة في الجسم.
إذن : كل شيء في الوجود خلقه الله بقدر وحكمة وكيفية لأداء مهمته، كما قال في آية أخرى :﴿ الذي خلق فسوى ( ٢ ) والذي قدر فهدى ( ٣ ) ﴾ ( الأعلى ).
اللسان مثلا جعل الله به حلمات متعددة، كل واحدة منها تتذوق طعما معينا، فواحدة للحلو، وواحدة للمر، وواحدة للحريف، وهكذا، وجميعها في هذه المساحة الضيقة متجاورة ومتلاصقة بقدر دقيق ومعجز.
الأنف وما فيه من مادة مخاطية عالقة لا تسيل منك، وشعيرات دقيقة، ذلك لكي يحدث لهواء الشهيق عملية تصفية وتكييف قبل أن يصل إلى الرئتين ؛ لذلك لا ينبغي أن نقص الشعيرات التي بداخل الأنف، لأن لها مهمة.
عضلة القلب وما تحتويه من أذين وبطين، ومداخل للدم، ومخارج محكمة دقيقة تعمل ميكانيكيا، ولا تتوقف ولا تتعطل لمدة ١٤٠ أو ١٢٠ سنة، تعمل تلقائيا حتى وأنت نائم، فأي آلة يمكن أن تؤدي هذه المهمة ؟
والحق سبحانه وتعالى عندما أرسل موسى وهارون بآية دالة على صدقهما إلى فرعون كانت مهمتهما الأساسية أخذ بني إسرائيل، وإنقاذهم من طغيان فرعون، وجاءت المسألة الإيمانية تبعية، أما أصل مهمة موسى فكان :﴿ فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم.. ( ٤٧ ) ﴾ ( طه ).
والحق سبحانه حين يعرض قضية الإيمان يعرضها مبدوءة بالدليل دليل البدء الذي جاء في قوله تعالى :﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ( ٥٠ ) ﴾ ( طه ) : لأن فرعون الذي ادعى الألوهية لا بد أن يكون له مألوهون، وهم خلق مثله، وهو يعتز بملكه وماله من أرض مصر ونيلها وخيراتها حتى قال :
﴿ أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي.. ( ٥١ ) ﴾ ( الزخرف ).
فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يرد عليه : ألك شيء في خلق هؤلاء المألوهين لك ؟
وما أشبه موقف فرعون أمام هذه الحجة بموقف النمروذ أمام نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما قال له :﴿ ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت.. ( ٢٥٨ ) ﴾ ( البقرة )
فلم يجد النمروذ إلا الجدل والسفسطة، فلجأ إلى حيلة المفلسين، وجاء برجلين فقال : أنا أحكم على هذا بالموت وأعفو عن هذا، لذلك لما أحس إبراهيم – عليه السلام – منه المراوغة والجدال نقله إلى مسألة لا يستطيع منها فكاكا.
﴿ قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت١الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين ( ٢٥٨ ) ﴾ ( البقرة ).
إذن : فالرد إلى قضية الخلق الأول دليل لا يمكن لأحد رده، حتى فرعون ذاته لم يدع أنه خلق شيئا، إنما تجبر وتكبر وادعى الألوهية فقط على مألوه لم يخلقه، ولم يخلق نفسه، ولم يخلق الملك الذي يعتز به.
ولما كان دليل الخلق الابتدائي هو الدليل المقنع، لم يكن لفرعون رد عليه، لذلك لما سمع هذه المسألة ﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ( ٥٠ ) ﴾ ( طه ) : لم يستطع أن ينقض هذا الدليل، فأراد أن يخرج الحوار من دليل الجد إلى مسألة أخرى يهرب إليها، مسألة فرعية لا قيمة لها :﴿ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ( ٥١ ) ﴾.
١ بهت: دهش وتحير. (القاموس القويم ١ / ٨٦) قال ابن منظور في (لسان العرب – مادة: بهت): (انقطع وسكت متحيرا عنها)..
أي : ما شأن الأمم السابقة ؟ لكن ما دخل القرون الأولى بما نتكلم فيه ؟ كلمة البال : هو الفكر، نقول : خطر ببالي. أي : بفكري، ولا يأتي في الفكر وبؤرة الشعور إلا الأمر المهم.
لكن، سرعان ما أحس موسى بمراوغة فرعون، ومحاولة الهرب من الموضوع الأساسي فسد عليه الباب. ﴿ قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ( ٥٢ ) ﴾.
فهذه المسألة ليست من اختصاصي ؛ لأن الذي يسأل عن القرون الأولى هو الذي يجازيها، وينبغي أن يعلم حالها، وما هي عليه من الإيمان أو الكفر، ليجازيها على ذلك، إذن : هذا سؤال لا موضع له، إنه مجرد هزل ومهاترة وهروب، فلا يعلم حال القرون الأولى إلا الله ؛ لأنه سبحانه هو الذي سيجازيها.
ومعنى :﴿ في كتاب.. ( ٥٢ ) ﴾ ( طه ) : أي : سجلها في كتاب، يطلع عليه الملائكة المدبرات أمرا ؛ ليمارسوا مهمتهم التي جعلهم الله لها، وليس المقصود من الكتاب أن الله يطلع عليه ويعلم ما فيه ؛ لأنه سبحانه :﴿ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى ( ٥٢ ) ﴾. } ( طه ).
ثم أرجعه موسى إلى القضية الأولى قضية الخلق، ولكن بصورة تفصيلية :
﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ( ٥٣ ) ﴾.
مهدا : من التمهيد وتوطئة الشيء ليكون صالحا لمهمته، كما تفعل في فراشك قبل أن تنام، ومن ذلك يسمى فراش الطفل مهدا ؛ لأنك تمهده له وتسويه، وتزيل عنه ما يقلقه أو يزعجه ليستقر في مهده ويستريح.
ولا بد لك أن تقوم له بهذه المهمة ؛ لأنه يعيش بغريزتك أنت، إلا أن تتنبه غرائزه لمثل هذه الأمور، فيقوم بها بنفسه ؛ لذلك لزمك في هذه الفترة رعايته وتربيته والعناية به.
فمعنى ﴿ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا.. ( ٥٣ ) ﴾ ( طه ) : أي : سواها ومهدها لتكون صالحة لحياتكم ومعيشتكم عليها.
وليس معنى مهدها جعلها مستوية، إنما سواها لمهمتها، وإلا ففي الأرض جبال ومرتفعات ووديان، وبدونها لا يستقيم لنا العيش عليها، فتسويتها تقتضي إصلاحها للعيش عليها، سواء بالاستواء أو التعرج أو الارتفاع أو الانخفاض.
فمثلا في الأرض المستوية نجد الطرق مستوية ومستقيمة، أما في المناطق الجبلية فهي متعرجة ملتوية ؛ لأنها لا تكون إلا كذلك، ولها ميزة في التوائها أنك لا تواجه الشمس لفترة طويلة، بل تراوح بين مواجهة الشمس مرة والظل أخرى.
وسبق أن ضربنا مثلا بالخطاف الذي نصنعه من الحديد، فلو جعلناه مستقيما ما أدى مهمته، إذن : فاستقامته في كونه معوجا فتقول : سويته ليؤدي مهمته، ولو كان مستقيما ما جذب الشيء المراد جذبه به.
إذن : نقول التسوية : جعل الشيء صالحا لمهمته، سواء أكان بالاعتدال أو الاعوجاج، سواء أكان بالأمت١أو بالاستقامة.
ثم يقول تعالى :﴿ وسلك لكم فيها سبلا.. ( ٥٣ ) ﴾ ( طه ) : أي طرقا ممهدة توصلكم إلى مهماتكم بسهولة.
سلك : بمعنى دخل، وتأتي متعدية، تقول : سلك فلان الطريق.
وقال تعالى :﴿ ما سلككم في سقر٢( ٤٢ ) ﴾ ( المدثر ) فالمخاطبون مسلوكون في سقر يعني : داخلون، وقال :﴿ اسلك يدك في جيبك.. ( ٣٢ ) ﴾ ( القصص ) : أي : أدخلها.
فتعديها إلى المفعول الداخل أو للمدخول فيه، فقوله :﴿ وسلك لكم فيها سبلا.. ( ٥٣ ) ﴾ ( طه ) متعدية للمدخول فيه أي : عديت المخاطب إلى المدخول فيه، فأنتم دخلتم، والسبل مدخول فيه.
إذن : المفعول مرة يكون المسلوك، ومرة يكون المسلوك فيه.
وحينما تسير في الطرق الصحراوية تجدها مختلفة على قدر طاقة السير فيها، فمنها الضيق على قدر القدم للشخص الواحد، ومنها المتسع الذي تسير فيه الجمال المحملة أو السيارات، فسلك لكم طرقا مختلفة ومتنوعة على قدر المهمة التي تؤدونها.
ثم يقول تعالى :﴿ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ( ٥٣ ) ﴾ ( طه ).
وهذه أيضا من مسألة الخلق لا يدعيها أحد ؛ لأنها دعوى مردودة على مدعيها، فأنت يا من تدعي الألوهية أخرج لنا شيئا من ذلك، أرنا نوعا من النبات فلن يقدر، وبذلك لزمته الحجة.
كما أن إنزال الماء من السماء ليس لأحد عمل فيه، لكن عندما يخرج النبات قد يكون لنا عمل مثل الحرث والبذر والسقي وخلافه، لكن هذا العمل مستمد من الأسباب التي خلقها الله لك ؛ لذلك لما تكلم عن الماء قال ( أنزل ) فلا دخل لأحد فيه، ولما تكلم عن إخراج النبات قال ( أخرجنا ) لأنه تتكاتف فيه صفات كثيرة، تساعد في عملية إخراجه، وكان الحق – تبارك وتعالى – يحترم عملك السببي ويقدره.
اقرأ قوله تعالى :﴿ أفرأيتم ما تحرثون ( ٦٣ ) أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ( ٦٤ ) ﴾ ( الواقعة ) فأثبت لهم عملا، واحترم مجهودهم، إنما لما حرثتم من أين لكم بالبذور ؟ فإذا ما تتبعت سلسلة البذور القبلية لانتهت بك إلى نبات لا قبل له، كما لو تتبعت سلسلة الإنسان لوجدتها تنتهي إلى أب، لا أب له إلا من خلقه.
وأنت بعد أن ألقيت البذرة في الأرض وسقيتها، ألك حيلة في إنباتها ونموها يوما بعد يوم ؟ أأمسكت بها وجذبتها لتنمو ؟ أم أنها قدرة القادر :﴿ الذي خلق فسوى ( ٢ ) والذي قدر فهدى ( ٣ ) ﴾ ( الأعلى )
لذلك يقول تعالى بعدها :﴿ لو نشاء لجعلناه حطاما.. ( ٦٥ ) ﴾ ( الواقعة )، فإن كانت هذه صنعتكم فحافظوا عليها.
كما حدث مع قارون حينما قال عن نعمة الله :﴿ إنما أوتيته على علم.. ( ٤٩ ) ﴾ ( الزمر ).
فما دام الأمر كذلك فحافظ عليه يا قارون بما عندك من العلم، فلما خسف الله به وبداره الأرض دل ذلك على كذبه في مقولته.
ونلحظ في قوله تعالى :﴿ لجعلناه حطاما.. ( ٦٥ ) ﴾ ( الواقعة ) : أنه مؤكد باللام، لماذا ؟ لأن لك شبهة عمل في مسألة الزرع، قد تطمعك وتجعلك مترددا في القبول. إنما حينما تكلم عن الماء قال :
﴿ أفرأيتم الماء الذي تشربون ( ٦٨ ) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ( ٦٩ ) لو نشاء جعلناه أجاجا.. ( ٧٠ ) ﴾ ( الواقعة ).
هكذا بدون توكيد ؛ لأنها مسألة لا يدعيها أحد لنفسه.
وقوله تعالى :﴿ أزواجا من نبات شتى ( ٥٣ ) ﴾ ( طه ) : لم يقل : نباتا فقط. بل أزواجا ؛ لأن الله تعالى يريد أن تتكاثر الأشياء، والتكاثر لا بد له من زوجين : ذكر وأنثى. وكما أن الإنسان يتكاثر، كذلك باقي المخلوقات ؛ لأن الحق تبارك وتعالى – خلق الأرض وقدر فيها أقواتها، ولا بد لهذه الأقوات أن تكفي كل من يعيش على هذه الأرض.
فإذا ضاقت الأرض، ولم تخرج ما يكفينا، وجاع الناس فلنعلم أن التقصير منا نحن البشر في استصلاح الأرض وزراعتها ؛ لذلك حينما حدث عندنا ضيق في الغذاء خرجنا إلى الصحراء نستصلحها، وقد بدأت الآن تؤتي ثمارها ونرى خيرها، والآن عرفنا أننا كنا في غفلة طوال المدة السابقة، فتكاثرنا ولم نكثر ما حولنا من الرقعة الزراعية.
والذكر والأنثى ليسا في النبات فحسب، بل في كل ما خلق الله :﴿ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون ( ٣٦ ) ﴾ ( يس ).
فالزوجية في كل شيء، علمته أو لم تعلمه، حتى في الجمادات، هناك السالب والموجب، والإلكترونات والأيونات في الذرة، وهكذا كلما تكاثر البشر تكاثر العطاء.
وقوله تعالى :﴿ من نبات شتى ( ٥٣ ) ﴾ ( طه ) : شتى مثل : مرضى جمع مريض فشتى جمع شتيت. يعني أشياء كثيرة مختلفة ومتفرقة، ليست في الأنواع فقط، بل في النوع الواحد هناك اختلاف.
فلو ذهبت مثلا إلى سوق التمور في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم تجد أنواعا كثيرة، مختلفة الأشكال والطعوم والأحجام، كلها تحت مسمى واحد هو : التمر وهكذا لو تأملت باقي الأنواع من المزروعات.
١ الأمت: الاختلاف في المكان ارتفاعا وانخفاضا. قال تعالى: ﴿لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (١٠٧)﴾ (طه). أي: لا ترى في الأرض يوم القيامة التواء ولا انحرافا يمينا ولا شمالا ولا ترى فيها اختلافا في الارتفاع والانخفاض. (القاموس القويم ١ / ٣٠)..
٢ قيل: سميت النار سقر لأنها تذيب الأجسام والأرواح، والاسم عربي من قولهم: سقرتة الشمس. أي: أذابته. (لسان العرب – مادة: سقر)..
ثم يذكر الحق – تبارك وتعالى – العلة في إخراج النبات :﴿ كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ( ٥٤ ) ﴾.
( كلوا ) : تدل على أن الخالق عز وجل خلق الحياة، وخلق مقومات الحياة، وأولها القوت من الطعام والشراب، وهذه المقومات تناسبت فيها الملكية مع الأهمية، فالقوت أولا، ثم الماء، ثم الهواء.
فأنت تحتاج الطعام وتستطيع أن تصبر عليه شهرا على قدر ما يختزن في جسمك من شحم ولحم، يتغذى منها الجسم في حالة فقد الطعام ؛ لأنك حين تأكل تستهلك جزءا من الطعام في حركتك، ثم يختزن الباقي في صورة دهون هي مخزن الغذاء في الجسم، فإذا ما نفذ الدهن امتص الجسم غذاءه من اللحم، ثم من العظم، فهو آخر مخازن الغذاء في جسم الإنسان.
لذلك لما أراد سيدنا زكريا عليه السلام أن يعبر عن ضعفه، قال :﴿ رب إني وهن العظم مني.. ( ٤ ) ﴾ ( مريم ).
لذلك تجد كثيرا ما يتملك الغذاء ؛ لأنك تصبر عليه مدة طويلة تمكنك من الاحتيال في طلبه، أو تمكن غيرك من مساعدتك حين يعلم أنك محصور جوعان.
أما الماء فلا تصبر عليه أكثر من ثلاثة أيام إلى عشرة ؛ لذلك قليلا ما يملك الماء لأحد.
أما الهواء فلا تصبر عليه أكر من نفس واحد، فمن رحمة الله بعباده ألا يملك الهواء لأحد، وإلا لو غضب عليك صاحب الهواء، فمنعه عنك لمت قبل أن يرضى عنك، وليس هناك وقت تحتال في طلبه.
وقوله تعالى :﴿ وارعوا أنعامكم.. ( ٥٣ ) ﴾ ( طه ) : لأنها تحتاج أيضا إلى القوت، وقال تعالى في آية أخرى :﴿ متاعا لكم ولأنعامكم ( ٣٣ ) ﴾ ( النازعات ) ثم يصب الجميع في أن يكون متاعا للإنسان الذي سخر الله له كل هذا الكون.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ( ٥٤ ) ﴾ ( طه ).
آيات : عجائب. والنهى : جمع نهية مثل قرب جمع : قربة. والنهى : العقول، وقد سماها الله تعالى أيضا الألباب، وبها تتم عملية التدبير في الاختيارات.
والعقل من العقال الذي تعقل به الدابة حتى لا تشرد منك، وكذلك العقل لم يخلق لك كي تشطح به كما تحب، إنما لتعقل غرائزك، وتحكمها على قدر مهمتها في حياتك، فغريزة الأكل مثلا لبقاء الحياة، وعلى قدر طاقة الجسم، فإن زادت كانت شراهة مفسدة.
وقد جعل حب الاستطلاع للنظر في الكون وكشف أسراره وآيات الله فيه، فلا ينبغي أن تتعدى ذلك، فتتجسس على خلق الله.
وسميت العقول كذلك النهى، لأنها تنهى عن مثل هذه الشطحات.
إذن : فلا بد للإنسان من عقل يعقل غرائزه، حتى لا تتعدى المهمة التي جعلت لها، ويوقفها عند حدها المطلوب منها، وإلا انطلقت وعربدت في الكون، لا بد للإنسان من نهية تنهاه وتقول له : لا لشهوات النفس وأهوائها. وإلا فكيف تطلق العنان لشهواتك، ولست وحدك في الكون ؟ وما الحال لو أطلق غيرك العنان لشهواتهم ؟
وسمي العقل لبا. ليشير لك إلى حقائق الأشياء لا إلى قشورها، ولتكون أبعد نظرا. وأعمق فكرا في الأمور. فحين يأمرك أن تعطي شيئا من فضل مالك للفقراء، فسطحية التفكير تقول : لا كيف أتعب وأعرق في جمعه، ثم أعطيه للفقير ؟ وهو لم يفعل شيئا ؟
أما حين تتعمق في فهم الحكمة من هذا الأمر تجد أن الحق – تبارك وتعالى – قال لك : أعط المحتاجين الآن وأنت قادر حتى إذا ما احتجت تجد من يعطيك، فقد يصير الغني فقيرا، أو الصحيح سقيما، أو القوي ضعيفا، فهذه سنة دائرة في الخلق متداولة عليهم.
وحين تنظر إلى تقييد الشرع لشهواتك، فلا تنس أنه قيد غيرك أيضا بنفس المنهج وبنفس التكاليف، فحين يقول لك : لا تنظر إلى محارم الناس وأنت فرد فهو في نفس الأمر يكون قد أمر الناس جميعا ألا ينظروا إلى حرماتك.
وهكذا جعل الخالق عز وجل آلة العقل هذه، لا لنعربد بها في الكون، إنما لنضبط بها الغرائز والسلوك، ونحرسها من شراسة الأهواء، فيعتدل المجتمع ويسلم أفراده.
وإلا فإذا سمحت لنفسك بالسرقة، فاسمح للآخرين بالسرقة منك ! ! إذن : فمن مصلحتك أنت أن يوجد تقنين ينهاك، ومنهج ينظم حياتك وحياة الآخرين.
والحق سبحانه يقول :﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ( ٥٥ ) ﴾.
نلحظ هنا أن موسى – عليه السلام – يعرض على فرعون قضايا لا تخص فرعون وحده، إنما تمنع أن يوجد فرعون آخر.
وقوله :﴿ منها.. ( ٥٥ ) ﴾ ( طه ) : أي : من الأرض التي سبق أن قال عنها :﴿ الذي جعل لكم الأرض مهدا.. ( ٥٣ ) ﴾ ( طه )
ثم ذكر لنا مع الأرض مراحل ثلاث :﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ( ٥٥ ) ﴾ ( طه )
وفي آية أخرى يذكر مرحلة رابعة، فيقول :﴿ فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ( ٢٥ ) ﴾ ( الأعراف )
بذلك تكون المراحل أربعة : منها خلقناكم، وفيها تحيون، وإليها ترجعون بالموت، ومنها نخرجكم بالبعث.
فقوله تعالى :﴿ منها خلقناكم.. ( ٥٥ ) ﴾ ( طه ) : الخلق قسمان : خلق أولي، وخلق ثانوي، الخلق الأولي في آدم عليه السلام، وقد خلق من الطين أي : من الأرض. ثم الخلق الثاني، وجاء من التناسل، وإذا كان الخلق الأولي من طين، فكل ما ينشأ عنه يعد كذلك ؛ لأنه الأصل الأول.
ويمكن أن نوجه الكلام توجيها آخر، فنقول : التناسل يتولد من ميكروبات الذكورة وبويضات الأنوثة، وهذه في الأصل من الطعام والشراب، وأصله أيضا من الأرض. إذن : فأنت من الأرض بواسطة أو بغير واسطة.
وإن كانت قضية الخلق هذه قضية غيبية، فقد ترك الخالق في كونه عقولا تبحث وتنظر في الكون، وتعطينا الدليل على صدق هذه القضية، فلما حلل العلماء طينة الأرض وجدوها ستة عشر عنصرا تبدأ بالأوكسجين، وتنتهي بالمنجنيز، وحين حللوا عناصر الإنسان وجدوها نفس العناصر الستة عشر، ليثبتوا بذلك البحث التحليلي صدق قضية الخلق التي أخبر عنها الخالق عز وجل.
وقوله :﴿ وفيها نعيدكم.. ( ٥٥ ) ﴾ ( طه ) : هذه مرحلة مشاهدة، فكل من يموت منا ندفنه في الأرض ؛ لذلك يقول الشاعر :
إن سئمت الحياة فارجع إلى****الأرض تنم آمنا من الأوصاب١
فبعد أن تنقض بنية الإنسان بالموت لا يسارع إلى مواراته التراب إلا أقرب الناس إليه، فترى المرأة التي مات وحيدها، وأحب الناس إليها، والتي كانت لا تطيق فراقه ليلة واحدة، لا تطيق وجوده الآن، بل تسارع به إلى أمه الأصلية ( الأرض ).
وذلك لأن الجسد بعد أن فارقته الروح سرعان ما يتحول إلى جيفة لا تطاق حتى من أمه وأقرب الناس إليه، أما الأرض فإنها تحتضنه وتمتص كل ما فيه من أذى.
ومن العجائب في نقض بنية الإنسان بالموت أنها تتم على عكس بنائه، فعندما تكلم الخالق عز وجل عن الخلق الأول للإنسان قال : إنه خلق من تراب، ومن طين، ومن حمأ مسنون، ومن صلصال كالفخار. وقلنا : إن هذه كلها أطوار للمادة الواحدة، ثم بعد ذلك ينفخ فيه الروح، فتدب فيه الحياة.
فإذا ما تأملنا الموت لوجدناه على عكس هذا الترتيب، كما أنك لو بنيت عمارة من عدة أدوار، فآخر الأدوار بناء أولها هدما. كذلك الموت بالنسبة للإنسان يبدأ بنزع الروح التي وضعت فيه آخرا، ثم يتصلب الجسد و ( يشضب ) كالصلصال ثم يرم، وينتن كالحمأ المسنون، ثم يتبخر ما فيه من ماء، وتتحلل باقي العناصر، فتصير إلى التراب.
ثم يقول تعالى :﴿ ومنها نخرجكم تارة أخرى ( ٥٥ ) ﴾ ( طه ) أي : مرة أخرى بالبعث يوم القيامة، وهذا الإخراج له نظام خاص يختلف عن الإخراج الأول ؛ لأنه سيبدأ بعودة الروح، ثم يكتمل لها الجسد.
هذه كلها قضايا كونية تلقى على فرعون علها تثنيه عما هو عليه من ادعاء الألوهية، والألوهية تقتضي مألوها، فالإله معبود له عابد، فكيف يدعي الألوهية، وليس له في الربوبية شيء ؟ فلا يستحق الألوهية والعبادة إلا من له الربوبية أولا، وفي الأمثال :( اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي ).
١ الوصب: الوجع والمرض، والجمع أوصاب. والوصب: دوام الوجع ولزومه. (لسان العرب – مادة: وصب)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى ( ٥٦ ) ﴾.
الآيات : الأمور العجيبة، كما نقول : فلان آية في الذكاء، آية في الحسن، آية في الكرم. يعني : عجيب في بابه، وسبق أن قسمنا آيات الله إلى : آيات كونية كالشمس والقمر، وآيات لإثبات صدق الرسل، وهي المعجزات وآيات القرآن الكريم، والتي تسمى حاملة الأحكام.
لكن آيات الله – عز وجل – كثيرة ولا تحصى، فهل المراد هنا أن فرعون رأى كل آيات الله ؟ لا ؛ لأن المراد هنا الآيات الإضافية، وهي الآيات التسعة التي جعلها الله حجة لموسى وهارون، ودليلا على صدقهما، كما قال سبحانه :
﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات.. ( ١٠١ ) ﴾ ( الإسراء ).
وهي : العصا واليد والطوفان والجراد والقمل١والضفادع والدم والسنين والنقص من الثمرات، تلك هي الآيات التي أراها الله لفرعون.
والكلية في قوله :﴿ آياتنا كلها.. ( ٥٦ ) ﴾ ( طه ) كلية إضافية. أي : كل الآيات الخاصة به كما تقول لولدك ( لقد أحضرت لك كل شيء ) وليس المقصود أنك أتيت له بكل ما في الوجود، إنما هي كلية إضافية تعني كل شيء تحتاج إليه.
ومع ذلك كانت النتيجة ﴿ فكذب وأبى ( ٥٦ ) ﴾ ( طه ) كذب : يعني نسبها إلى الكذب، والكذب قول لا واقع له، وكان تكذيبه لموسى علة إبائه ﴿ وأبى ( ٥٦ ) ﴾ ( طه ) : امتنع عن الإيمان بما جاء به موسى.
ولو ناقشنا فرعون في تكذيبه لموسى عندما قال :﴿ ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ( ٥٠ ) ﴾ ( طه )
لماذا كذبت يا فرعون ؟ الحق سبحانه قال : خلقت هذا الكون بما فيه، ولم يأت أحد لينقض هذا القول، أو يدعيه لنفسه، حتى أنت يا من ادعيت الألوهية لم تدع خلق شيء، فهي – إذن – قضية مسلم بها للخالق عز وجل لم ينازعه فيها أحد، فأنت – إذن – كاذب في تكذيبك لموسى، وفي إبائك الإيمان به.
١ القمل: حشرات صغيرة تؤذي الزرع وتضايق الناس. (القاموس القويم ٢ / ١٣٤) وهو ليس بقمل الرأس أو الجسد المعروف..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ( ٥٧ ) ﴾.
عاش المصريون قديما على ضفاف النيل ؛ لذلك يقولون : مصر هبة النيل، حتى إذا ما انحسر الماء بذروا البذور وانتظروها طوال العام، ليس لهم عمل ينشغلون به، وهذه الحياة الرتيبة عودتهم على شيء من الكسل، إلا أنهم أحبوا هذا المكان، ولو قلت لواحد منهم : اترك هذه الأرض لمدة يوم أو يومين يثور عليك ويغضب.
لذلك استغل فرعون ارتباط قومه بأرض مصر، وحاول أن يستعدي هؤلاء الذين يمثل عليهم أنه إله، يستعديهم على موسى وهارون فقال مقولته هذه :﴿ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ( ٥٧ ) ﴾ ( طه ).
وهنا ثار القوم، لا لألوهية فرعون المهددة، إنما دفاعا عن مصلحتهم الاقتصادية، وما ينتفعون به على ضفاف هذا النيل المبارك، الذي لا يضن عليهم في فيضانه ولا في انحساره، فكان القوم يسمونه : ميمون الغدوات والروحات، يجري بالزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر، له أوان.
وهكذا نقل فرعون مجال الخلاف مع موسى وهارون إلى رعيته، فأصبحت المسألة بين موسى وهارون وبين رعية فرعون ؛ لأنه خاف من كلام موسى ومما يعرضه من قضايا إن فهمها القوم كشفوا زيفه، وتنمروا عليه، وثاروا على حكمه، ورفضوا ألوهيته لهم، فأدخلهم طرفا في هذا الخلاف.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى ( ٥٨ ) ﴾.
فسمى فرعون ما جاء به موسى سحرا ؛ لذلك قال :﴿ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ.. ( ٥٨ ) ﴾ ( طه ) وهذه التسمية خاطئة في حق موسى، وإن كانت صحيحة بالنسبة لقوم فرعون. فما الفرق –إذن – بين ما جاء به موسى وما جاء به قوم فرعون ؟
السحر لا يقلب حقيقة الشيء، بل يظل الشيء على حقيقته، ويكون السحر للرائي، فيرى الأشياء على غير حقيقتها، كما قال تعالى :﴿ سحروا أعين الناس.. ( ١١٦ ) ﴾ ( الأعراف ) : فلما ألقى السحرة حبالهم كانت حبالا في الحقيقة، وإن رآها الناظر حيات وثعابين تسعى، أما عصى موسى فعندما ألقاها انقلبت حية حقيقية، بدليل أنه لما رآها كذلك خاف منها.
وقوله :﴿ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ.. ( ٥٨ ) ﴾ ( طه ) أي : نتفق على موعد لا يخلفه واحد منا ﴿ مكانا سوى ( ٥٨ ) ﴾ ( طه ) أي : مستويا ؛ لأنه سيكون مشهدا للناس جميعا فتستوي فيه مرائي النظارة، بحيث لا تحجب الرؤية عن أحد. أو ( سوى ) يعني : سواء بالنسبة لنا ولك، كما نقول : نلتقي في منتصف الطريق، لا أنا أتعب ولا أنت.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ( ٥٩ ) ﴾.
معلوم أن الحدث يحتاج إلى محدث له، ويحتاج إلى مكان يقع عليه، ويحتاج إلى زمان يحدث فيه، وقد عرفنا المحدث لهذا اللقاء، وهما موسى وهارون من ناحية، وفرعون وسحرته من ناحية.
وقد حدد فرعون المكان، فقال :﴿ مكانا سوى ( ٥٨ ) ﴾ ( طه ) : بقي الزمان لإتمام الحدث ؛ لذلك حدده موسى، فقال :﴿ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ.. ( ٥٩ ) ﴾ ( طه ) ؛ لأن الحدث لا يتم إلا في زمان ومكان.
لذلك لا نقول : متى الله ولا : أين الله ؟ فالحق – تبارك وتعالى – ليس حدثا، ومتى وأين مخلوقة لله تعالى، فكيف يحده الزمان أو المكان ؟
وقول موسى :﴿ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ.. ( ٥٩ ) ﴾ ( طه ) : ولم يقل : يوم الاثنين أو الثلاثاء مثلا، ويوم الزينة يوم يجتمع فيه كل سكان مصر، يظهر أنه يوم وفاء النيل، فيخرجون في زينتهم مسرورين بفيضان النيل وكثرة خيره وبركاته، ومازالت مصر تحتفل بهذا اليوم.
وكان القاضي لا يقضي بأمر الخراج إلا بعد أن يطلع على مقياس النيل، فإن رآه يوفي بري البلاد حدد الخراج وإلا فلا.
لكن، لماذا اختار موسى هذا اليوم بالذات ؟ لماذا لم يحدد أي يوم آخر ؟ ذلك، لأن موسى – عليه السلام – كان على ثقة تامة بنصر الله له، ويريد أن تكون فضيحة فرعون على هذا الملأ، ووسط هذا الجمع، فمثل هذا التجمع فرصة لا يضيعها موسى ؛ لأن النفس في هذا اليوم تكون مسرورة منبسطة، فهي أقرب في السرور لقبول الحق من أي وقت آخر.
وقوله :﴿ وأن يحشر الناس ضحى ( ٥٩ ) ﴾ ( طه ) أي : ضاحين، ويوم الزينة يمكن أن يكون في الصباح الباكر، أو في آخر النهار، لكن موسى متمكن واثق من الفوز، يريد أن يتم هذا اللقاء في وضح النهار، حتى يشهده الجميع.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى ( ٦٠ ) ﴾.
تولى : أي ترك موسى وانصرف ليدبر شأنه ﴿ فجمع كيده.. ( ٦٠ ) ﴾ ( طه ) : الكيد : التدبير الخفي للخصم، والتدبير الخفي هنا ليس دليل قوة، بل دليل ضعف ؛ لأنه لا قوة له على المجابهة الواضحة، مثل الذي يدس السم للآخر لعدم قدرته على مواجهته.
إذن : الكيد دليل ضعف ؛ لذلك نفهم من قوله تعالى عن النساء :﴿ إن كيدكن عظيم ( ٢٨ ) ﴾ ( يوسف ) أنه ليس دليلا على قوة المرأة، إنما دليل على ضعفها، فكما أن كيدهن عظيم، فكذلك ضعفهن عظيم.
فمعنى :﴿ فجمع كيده.. ( ٦٠ ) ﴾ ( طه ) : أدار فكره على ألوان الكيد المختلفة، ليختار منها ما هو أنكى لخصمه، كما جاء في آية أخرى في شأن نوح عليه السلام :﴿ فأجمعوا أمركم.. ٧١ ) ﴾ ( يونس )
وكأن الأمر الذي هو بصدده يتطلب وجهات نظر متعددة : نفعل كذا، أو نفعل كذا ؟ ثم ينتهي من هذه المشاورة إلى رأي يجمع كل الاحتمالات، بحيث لا يفاجئه شيء بعد أن احتاط لكل الوجوه.
فالمعنى : اتفقوا على الخطة الواضحة التي توحد آراءكم عند تحقيق الهدف.
ومن ذلك قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام :﴿ وأجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب.. ( ١٥ ) ﴾ ( يوسف ). أي : اتفقوا على هذا الرأي، وأجمعوا عليه، بعد أن قال أحدهم :﴿ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا.. ( ٩ ) ﴾ ( يوسف )، فكأن الرأي النهائي أن يجعلوه في غيابة الجب.
فهم على أية حال سلالة نبوة، لم يتأصل الشر في طباعهم ؛ لذلك يتضاءل شرهم من القتل إلى الإلقاء في متاهات الأرض إلى أهون هذه الأخطار، أن يلقوه في الجب، وهذه صفة الأخيار، أما الأشرار الذين تأصل الشر في نفوسهم وتعمق، فشرهم يتزايد ويتنامى، فيقول أحدهم : أريد أن أقابل فلانا، فأبصق في وجهه، أو أضربه، أو أقطعه، بل رصاصة تقضي عليه فيصعد ما عنده من الشر.
وبعد ذلك يرجون له النجاة، فيقولون :﴿ يلتقطه بعض السيارة.. ( ١٠ ) ﴾ ( يوسف ).
ثم يقول تعالى في شأن فرعون :﴿ ثم أتى ( ٦٠ ) ﴾ ( طه ) أي : أتى الموعد الذي سبق تحديده، مكانا وزمانا.
ثم يحدثنا الحق سبحانه عن وقائع هذا اليوم، فيقول :
﴿ قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ١بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى ( ٦١ ) ﴾.
لما رأى موسى السحرة أراد أن يحذرهم مما هم مقبلون عليه، وأن يعطيهم المناهي التي تمنعهم، فذكرهم بأن لهم ربا سيحاسبهم كما تقول لشخص، تراه مقدما على جريمة، لو فعلت كذا سأبلغ عنك الشرطة، وستعاقب بكذا وكذا، وتذكره بعاقبة جريمته.
﴿ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا.. ( ٦١ ) ﴾ ( طه ) افترى أي : جاء بالفرية، وهي تعمد الكذب ﴿ فيسحتكم بعذاب.. ( ٦١ ) ﴾ ( طه ) يعني : يستأصلكم بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ﴿ وقد خاب من افترى ( ٦١ ) ﴾ ( طه ) أي : خسر.
١ يسحتكم: يهلككم ويستأصلكم. (القاموس القويم ١ / ٣٠٤)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ( ٦٢ ) ﴾.
يبدو أن تخويف موسى لهم بقوله :﴿ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ.. ( ٦١ ) ﴾ ( طه ) قد أثر فيهم وأخافهم ﴿ فتنازعوا أمرهم.. ( ٦٢ ) ﴾ ( طه ).
أخذوا يتساومون القول ويتبادلون الآراء.
﴿ وأسروا النجوى ( ٦٢ ) ﴾ ( طه ) : تحدثوا سرا، وهذا دليل خوفهم من كلام موسى، ودليل ما فيهم من استعداد للخير، لكن انتهى رأيهم إلى الاستمرار في الشوط إلى آخره.
توقف العلماء طويلا حول هذه الآية، لأن فيها قراءتين١( إن هذان ) بسكون ( إن ) والأخرى ( إن هذان ) بالتشديد.
والقراءة التي نحن عليها قراءة حفص :﴿ إن هذان لساحران.. ( ٦٣ ) ﴾ ( طه )، و ( إن ) شرطية إن دخلت على الفعل، كما نقول : إن زارني زيد أكرمته، وتأتي نافية بمعنى ما، كما في قوله تعالى :﴿ الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم.. ( ٢ ) ﴾ ( المجادلة )
فالمعنى : ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم، كذلك في قوله تعالى :﴿ إن هذان لساحران.. ( ٦٣ ) ﴾ ( طه ) فالمعنى : ما هذان إلا ساحران، فتكون اللام في :﴿ لساحران.. ( ٦٣ ) ﴾ ( طه ) :: بمعنى إلا. كأنك قلت : ما هذان إلا ساحران.
وتأتي اللام بمعنى إلا، إذا اختلفنا مثلا على شيء، كل واحد منا يدعيه لنفسه، فيأتي الحكم يقول : لزيد أحق به، كأنه قال : ما هذا الشيء إلا لزيد. إذن : اللام تأتي بمعنى إلا.
وعلى القراءة الثانية بالتشديد ( إن هذان لساحران ) فإن حرف ناسخ ينصب المبتدأ ويرفع الخبر، تقول : إن زيدا مجتهد، أما في الآية بهذه القراءة :( إن هذان لساحران ) جاء اسم هذان بالرفع بالألف ؛ لأنه مثنى، والقاعدة تقتضي أن نقول ( هذين ).
فكيف يتم توجيه إن المشددة الناسخة وبعدها الاسم مرفوع ؟
قالوا : هذه لغة كنانة إحدى قبائل العرب، وكان لكل قبيلة لهجتها الخاصة ولغتها المشهورة فيقولون : جعجعة خزاعة، وطُمطُمانيّة حِمير٢، وتلتلة بهراء٣، وفحفحة هذيل.. الخ.
ولما نزل القرآن نزل على جمهرة اللغة القرشية ؛ لأن لغات العرب جميعها تصب في لغة قريش في مواسم الحج والشعر والتجارة وغيرها، فكانت لغة قريش هي السائدة بين لغات كل هذه القبائل، لذلك نزل بها القرآن، لكن الحق تبارك وتعالى أراد أن يكون للقبائل الأخرى نصيب، فجاءت بعض ألفاظ القرآن على لهجات العرب المختلفة للدلالة على أن القرآن ليس لقريش وحدها، ليجعل لها السيادة على العرب، وإنما جاء للجميع.
ومن لهجات القبائل التي نزل بها القرآن لهجة كنانة التي تلزم المثنى الألف في كل أحواله رفعا ونصبا وجرا٤. وشاهدهم في كتب النحو قول شاعرهم٥ :
واها لسلمى ثم واها واها****يا ليت عيناها لنا وافاها
هي المنى لو أننا نلناها****وموضع الخلخال من قدماها
إن أباها وأبا أباها **** قد بلغا في المجد غايتاها
فقال : إن أباها. ولم يقل : إن أبيها، لأنه يلزم المثنى الألف.
إذن : لم ينزل القرآن بلغة قريش على أنها لغة سيادة، وإنما لأنها تنطوي على زبدة فصاحات لغات الجزيرة كلها، وكانت لغة قريش تصفى في مواسم الشعر والأدب في عكاظ وذي المجنة وغيرها.
نعود إلى قول الحق تبارك وتعالى :﴿ قَالُوا إِنْ هَاذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا.. ( ٦٠ ) ﴾ ( طه ) ويبدو أن استدعاء فرعون لقومه على موسى وهارون جاء بنتيجة ونالت حيلته من نفوسهم ؛ لذلك يرددون نفس كلام المعلم الكبير فرعون، فيتهمون موسى وهارون بالسحر.
وقولهم :﴿ ويذهبا بطريقتكم المثلى ( ٦٣ ) ﴾ ( طه ) : طريقتهم المثلى.
أي : ما ارتضاه القوم للعيش عليه، والمذهب والطريق الذي سلكوه.
والمراد بالطريقة المثلى التي ساروا عليها أنهم اتخذوا واحدا منهم إلها يعبدونه ويأتمرون بأمره، تلك هي الطريقة المثلى٦ ! ! والمثلى : أي : الفاضلة مذكرها أمثل.
١ هناك قراءة ثالثة أوردها القرطبي في تفسيره (٦ / ٤٣٨٩) قال: (قرأ أبو عمرو): (إن هذين لساحران) ورويت عن ابن عثمان وعائشة رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة وكذلك قرأ الحسن وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وغيرهم من التابعين، ومن القراء عيسى ابن عمر وعاصم الجحدري، فيما ذكر النحاس. وهذه القراءة موافقة للإعراب مخالفة للمصحف)..
٢ الطمطمة: العجمة. ورجل طمطم بالكسر، أي: في لسانه عجمة لا يفصح. وفي صفة قريش: ليس فيهم طمطمانية حمير، شبه كلام حمير لما فيه من الألفاظ المنكرة بكلام العجم. (لسان العرب – مادة: طمطم)..
٣ تلتلة بهراء: كسرهم تاء تفعلون يقولون: تعلمون وتشهدون ونحوه. (لسان العرب – مادة: تلل)..
٤ هذا هو القول الأول من الأقوال الستة التي ذكرها القرطبي في تفسيره (٦ / ٤٣٩٠) لتوجيه قراءة (إن هذان لساحران) وقال: هي لغة بني الحارث بن كعب وزبيد وخثعم وكنانة بن زيد. وقال أبو جعفر النحاس: هذا القول من أحسن ما حملت عليه الآية، إذ كانت هذه اللغة معروفة، وقد حكاها من يرتضى علمه وأمانته..
٥ نسب هذا الشاهد لرؤبة بن العجاج، ونسبه آخرون لأبي النجم الفضل بن قدامة العجلي، وقيل: لبعض أهل اليمن، وانظر شرح شواهد ابن عقيل (ص ٧)، وشرح شذور الذهب لابن هشام الأنصاري، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد (ص٦٨)..
٦ وقد قال تعالى عن فرعون أنه قال: ﴿إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد (٢٦)﴾ (طه) (غافر). وقال في آية أخرى: ﴿قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا ما سبيل الرشاد (٢٩)﴾ (غافر)..
أي : تنبهوا واشحذوا كل أذهانكم، وكل فنونكم، وحركاتكم في السحر حتى لا يتمكنا من هذين الأمرين : إخراجكم من أرضكم، والقضاء على طريقتكم المثلى.
وهذا قول بعضهم لبعض ﴿ فأجمعوا كيدكم.. ( ٦٤ ) ﴾ ( طه ) : فلا يخفي أحد فنا من فنون السحر، وليقدم كل منا ما عنده ؛ لأن عادة أهل الحرف أن يوجد بينهم تحاسد ؛ فلا يظهر الواحد منهم كل ما عنده مرة واحدة، أو يحاول أن يخفي ما عنده حتى لا يطلع عليه الآخر، لكن في مثل هذا الموقف لا بد لهم من تضافر الجهود فالموقف حرج ستعم بلواه الجميع إن فشلنا في هذه المهمة.
وقوله :﴿ ثم ائتوا صفا.. ( ٦٤ ) ﴾ ( طه ) : يعني : مجتمعين كأنكم يد واحدة، فهذا أهيب لكم وأدخل للرعب في قلوب خصمكم، كما أننا إذا جئنا سويا لم يتمكن أحد من التراجع، فيكون بعضنا رقيبا على بعض.
﴿ وقد أفلح اليوم من استعلى ( ٦٤ ) ﴾ ( طه ) : أفلح : فاز، كما في قوله تعالى :﴿ قد أفلح المؤمنون ( ١ ) ﴾ ( المؤمنون ) : وهذا اللفظ مأخوذ من فلح الأرض ومنه الفلاحة، لأن الفلاح إذا شق الأرض أو حرثها ورعاها تعطيه خيرها، فحركته فيها حركة ميمونه مباركة.
لذلك، لما أراد الحق – تبارك وتعالى – أن يبين لنا مضاعفة الأجر والثواب على الصدقة وعلى فعل الخير ضرب لنا مثلا بالزرع، فقال تعالى :﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ( ٢٦١ ) ﴾ ( البقرة )
فإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعالى تعطي كل هذا العطاء، فما بالك بعطاء الخالق لهذه الأرض ؟ لذلك عقب المثل بقوله تعالى :﴿ والله يضاعف لمن يشاء.. ( ٢٦١ ) ﴾ ( البقرة ).
ثم أخذت كلمة الفلاح علما على كل فلاح، ولو لم يكن فيه صلة بالأرض ؛ لأن قصارى كل حركات الحياة أن تضمن للإنسان بقاء نوعه بالأكل، والأرض مصدر هذا كله، فكانت لذلك مصدرا للفوز.
وقوله :﴿ من استعلى ( ٦٤ ) ﴾ ( طه ) : أي : طلب العلو على خصمه. لكن هل الفلاح يكون لمن طلب العلو أم لمن علا بالفعل ؟ طبعا يكون لمن علا، إذن : من علا بالفعل لا بد أن يشحذ ذهنه على أن يطلب العلو على خصمه، فمهما علا الخصم استعلى عليه أي : طلب العلو، إذن : قبل علا استعلى.
ثم يقول الحق سبحانه عن السحرة :﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ( ٦٥ ) ﴾.
تلقي : ترمي. والمراد أن يرمي واحد منهم ما أعده من سحر، فاختار موسى أن يلقوا هم أولا.
لأنهم إن ألقوا سحرهم كانت للعصا مهمة حين يلقيها موسى، فأراد أن يكون للعصا حركة بعد أن تنقلب إلى ثعبان أو حية أو جان، وإلا لو ألقى هو أولا، فماذا سيكون عملها ؟
وقد ألهم الله تعالى سحرة فرعون هذا الأدب في معركتهم مع موسى، فخيروه بين أن يلقي هو، أو يلقوا هم، والله – تبارك وتعالى – يحول بين المرء وقلبه. فألهمهم ذلك مع أنهم خصومه، وأنطقهم بما يؤيد صاحب المعجزة الخالدة، فقالوا :﴿ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ( ٦٥ ) ﴾ ( طه ).
وقد اختار موسى – عليه السلام – أن يلقي أخيرا ؛ لأن التجربة التي مر بها في طوى مع ربه – عز وجل – لما قال له ربه :﴿ قال ألقها يا موسى ( ١٩ ) ﴾ ( طه ).
فلما ألقى موسى عصاه انقلبت إلى حية تسعى ورأى هو حركتها، لكن لم يكن بهذه التجربة شيء تلقفه العصا، فإذا ألقى موسى أولا وتحولت العصا حية أو ثعبانا، فما الفرق بينها وبين حبال السحرة التي تحولت أمامهم إلى حيات وثعابين ؟
إذن : لا بد من شيء يميز عصا موسى كمعجزة عن سحر السحرة وشعوذتهم ؛ لذلك اختار موسى أن يلقي هو آخرا بإلهام من الله حتى تلقف عصاه ما يأفكون، فما يلقف لا بد أن يسبق ما يلقف.
فمن حيث الحركة أمام الناظرين لا فرق بين عصا موسى وحبال السحرة وعصيهم، فكلها تتحرك، إنما تميزت عصا موسى بأنها تلقف ما يصنعون من السحر، وتتبع حبالهم وعصيهم، وتقفز هنا وهناك، فلها – إذن – عين تبصر، ثم تلقف سحرهم في جوفها، ومع ذلك تظل كما هي لا تنتفخ بطنها مثلا، وهذا هو موضع المعجزة في عصا موسى عليه السلام١.
وقوله تعالى :﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ( ٦٦ ) ﴾. ( طه ) إذن : فحركة العصى والحبال ليست حركة حقيقية، إنما هي تخيل ﴿ يخيل إليه.. ( ٦ ) ﴾ ( طه ) : فيراها تسعى، وهي ليست كذلك.
وقد قال تعالى عن هؤلاء السحرة :﴿ سحروا أعين الناس.. ( ١١٦ ) ﴾ ( الأعراف ) فجاءوا بأعمال تخيلية خادعة بأي وسيلة كانت، فالبعض يقول مثلا : إنهم وضعوا بها الزئبق، فلما حميت عليه الشمس تمدد، فصارت الأشياء تتلوى وتتحرك، فأيا كانت وسائلهم فهي مجرد تخيلات، أما الساحر نفسه فيراها حبالا على حقيقتها.
وهذا هو الفرق بين سحر السحرة، ومعجزة عصا موسى.
والسحر يختلف عن الحيل التي تعتمد على خفة الحركة والألاعيب والخدع، فالسحر أقرب ما يكون إلى الحقيقة في نظر الرائي، كما قال تعالى :﴿ واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر.. ( ١٠٢ ) ﴾ ( البقرة ).
إذن : هو فن يتعلم، يعطي التخييل بواسطة تسخير الجن، فهم الذين يقومون بكل هذه الحركات، فهي – إذن – ليست حيلا ولا خفة حركة، إنما هي عملية لها أصول وقواعد تدرس وتتعلم.
والخالق – عز وجل – حينما يعرض علينا قضية السحر، وأنه عبارة عن تسخير الشياطين لخدمة الساحر، ويجعل لكل منهما القدرة على مضرة الآخرين : الساحر بالسحر، والشياطين بما لديهم من قول التشكل في الأشكال المختلفة والنفاذ من الحواجز ؛ لأن الجن خلقوا من النار، والنار لها شفافية تنفذ خلال الجدار مثلا.
أما الإنسان فخلق من الطين، والطين له كثافة، وضربنا مثلا لنقرب هذه المسألة، قلنا : هب أنك تجلس خلف جدار، ووراء هذا الجدار تفاحة مثلا وهي من الطينية المتجمدة، أيصل إليك من التفاحة شيء ؟ إنما هو خلف الجدار نار فسوف تشعر من خلال الجدار بحرارتها. هذه – إذن – خصوصيات جعلها الخالق عز وجل للشياطين فضلا عن أنهم يرونكم من حيث لا ترونهم.
لكن، كان من لطف القدير بنا أن جعل لنا ما يحمينا من الشياطين، فجعل الحق – تبارك وتعالى – الجن حين يتشكلون في الأشكال المختلفة تحكمهم هذه الأشكال، بمعنى لو أن الشيطان تشكل لك في صورة إنسان فقد حكمته هذه الصورة، فلو أطلقت عليه الرصاص في هذه اللحظة لقتلته فعلا.
لذلك ؛ فالشيطان يخاف منك أكثر مما تخاف منه، ولا يظهرون لنا إلا ومضة ولمحة سريعة خوفا أن يكون الرائي له علم بهذه المسألة فيمسك به وساعتها لن يفلت منك.
وقد أمسك النبي صلى الله عليه وسلم شيطانا وقال٢ :( لقد هممت أن أربطه بسارية المسجد، يلعب به غلمان المدينة، إلا أنني ذكرت دعوة أخي سليمان :﴿ هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي.. ( ٣٥ ) ﴾ ( ص ) ).
إذن : الحق سبحانه أعطاهم خصوصية التشكل كما يحبون، إنما قيدهم بما يتشكلون به، كأنه يقول له : إذا تركت طبيعتك وتشكلت بصورة أخرى فارض بأن تحكمك هذه الصورة، وأن يتحكم فيك الأضعف منك، وإلا لفزعوا الناس وأرهبوهم، ولم نسلم من شرهم.
وكذلك الحال مع الساحر نفسه، فلديه بالسحر والطلاسم أن يسخر الجن يفعلون له ما يريد، وهذه خصوصية تفوق بها قدرته قدرة الآخرين، ولديه بالسحر فرصة لا تتوفر لغيره من عامة الناس، فليس بينه وبينهم تكافؤ في الفرص.
والله عز وجل يريد لخلقه أن تتكافأ فرصهم في حركة الحياة فيقول للساحر : إياك أن تفهم أن ما يسرته لك من تسخير الأقوى منك ليقدر على ما لا تقدر عليه يفيدك بشيء، أو أنك أخذت بالسحر فرصة على غيرك، بل العكس هو الصحيح فلن تجني من سحرك إلا الضرر والشقاء، فالسحر فتنة للإنسان، كما أنه فتنة للجن.
لذلك يقول تعالى :﴿ وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.. ( ١٠٢ ) ﴾ ( البقرة )
والفتنة هنا معناها أن نختبر استعماله لمدى ما أعده الله له، أيستعمله في الخير أم في الشر ؟ فإن قلت : أتعلم السحر لأستعمله في الخير : نقول : هذا كلامك ساعة التحمل. ولا تضمن نفسك ساعة الأداء. كما قلنا سابقا في تحمل الأمانة حين تقبلها ساعة التحمل، وأنت واثق من قدرتك على أدائها في وقتها، ومطمئن إلى سلامة نيتك في تحملها، أما وقت الأداء فربما يطرأ عليك ما يغير نيتك.
وكما جاء في قول الحق تبارك وتعالى :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ( ٧٢ ) ﴾ ( الأحزاب ).
فاخترن التسخير على الاختيار وحمل الأمانة ؛ لأنهن لا يضمن القيام بها.
وقد أعذر الله تعالى إلى السحرة في قوله :﴿ وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر.. ( ١٠٢ ) ﴾ ( البقرة ).
كأن الساحر مآله إلى الكفر ؛ لأنه ابن أهواء وأغيار، لا يستطيع أن يتحكم في نفسه فيسخر قوة السحر في الخير، كما أن الله تعالى إذا أراد أن يسخر القوي للخير : أيسخر الطائع ؟ أم يسخر العاصي ؟ سيسخر الطائع، والجن الطائع لا يرضى أبدا بهذه المسألة.
إذن : لن يستطيع الساحر إلا تسخير الجن العاصي، كما قال تعالى :﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم.. ( ١٢١ ) ﴾ ( الأنعام ).
لذلك نلاحظ أن كل الذين يشتغلون بهذه العملية على سمتهم الغضب، وعلى سحنتهم آثار الذنوب وشؤمها، ينفر منهم من رآهم، يعيشون في أضيق صور العيش، فترى الساحر يأخذ من هذا، ويأخذ من هذا، ويبتز الناس ويخدعهم، ومع ذلك تراه شحاذا يعيش في ضيق، ويموت كافرا مبعدا من رحمة الله حتى أولاده من بعده لا يسلمون من شؤمه، وصدق الله العظيم حين قال :﴿ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون٣برجال من الجن فزادوهم رهقا ( ٦ ) ﴾ ( الجن ).
كما أن في حياة السحرة لفتة، يجب أن نلتفت إليها، وهي أن السحرة الذين يصنعون السحر للناس ويخدعونهم : من أين يرتزقون ؟ من عامة الناس الذين لا يفهمون في السحر شيئا، ولو أنه أفلح بالسحر لأغنى نفسه عن أن تمتد يده إلى هذا، فيأخذ منه عدة جنيهات، وإلى هذا يطلب منه أشياء غريبة يوهمه أن مسألته لن تحل إلا بها.
ولماذا لم يستخدم سحره في سرقة خزينة مثلا ويريح نفسه من هذا العناء، وإن قال : كيف وهي أموال الناس والسطو عليها سرقة، فليذهب إلى الركاز٤وكنوز الأرض فليست مملوكة لأحد.
نعود إلى سحرة فرعون ؛ أيا كان سحرهم أمن نوع الألاعيب وخفة الحركة وخداع الناظرين ؟ أم من نوع السحر الذي علمته الشياطين من زمن سليمان – عليه السلام – فهو سحر لن يقف أمام معجزة باهرة جاءت على يد موسى لإثبات صدقه.
١ قال محمد بن إسحاق: جعلت – العصا – تتبع تلك الحبال والعصي واحدة واحدة، حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا، ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت، ذكره ابن كثير في تفسيره (٢ / ٢٣٧)..
٢ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٣٤٢٣)، وكذا مسلم في صحيحه (٥٤١) كتاب المساجد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وتمامه: (إن عفريتا من الجن تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي، فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم فذكرت دعوة أخي سليمان (رب هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي))..
٣ قال السدي: كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول: أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضر أنا فيه أو مالي أو ولدي أو ماشيتي، قال ابن كثير في تفسيره (٤ / ٤٢٨): (فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقا أي خوفا وإرهابا وذعرا حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم)..
٤ الركاز: ما في الأرض من المعادن في حالتها الطبيعية. (المعجم الوجيز – مادة: ركز) وذهب أحمد بن حنبل إلى أنه كل ما خرج من الأرض مما يخلق فيها من غيرها، مما له قيمة مثل: الذهب والفضة والحديد والنحاس والقار والنفط ونحو ذلك. ودليل وجوب الزكاة في الركاز قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (في الركاز الخمس) أي ٢٠% راجع: فقه السنة (١ / ٣٥٤ – ٣٥٧)..
ثم يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى ( ٦٧ ) ﴾.
أوجس : من الإيجاس، وهو تحرك شيء مخيف في القلب لا يتعدى إلى الجوارح، فإن تعدى إلى الجوارح يتحول إلى عمل نزوعي، كأن يهرب أو يجري، فالعمل النزوعي يأتي بعد الإحساس الوجداني، لذلك يقول بعدها :﴿ في نفسه.. ( ٦٧ ) ﴾ ( طه ).
وقد شعر موسى عليه السلام بالخوف لما رأى حبال السحرة وعصيهم تتحول أمام النظارة إلى حيات وثعابين، وربما اكتفى المشاهدون بما رأوه فهرجوا عليه وأنهوا الموقف على هذا قبل أن يتمكن هو من عمل شيء. فإن قلت : فلماذا لم يلق عصاه وتنتهي المسألة ؟ نقول : لأن أوامره من الله أولا بأول، وهو معه يتتبعه سماعا ورؤية، فتأتيه التعاليم جديدة مباشرة.
هذا حكم لله عز وجل يأتي موسى على هيئة برقية مختصرة ﴿ أنت الأعلى ( ٦٨ ) ﴾ ( طه ). أنت المنصور الفائز فاطمئن، لكن تتحرك في موسى بشريته : منصور كيف ؟
وهنا يأتيه الأمر العملي التنفيذي بعد هذا الوعد النظري، وكأن الحق سبحانه متتبع لكل حركات نبيه موسى، ولم يتركه يباشر هذه المسألة وحده، إنما كان معه يسمع ويرى، فيرد على السماع بما يناسبه، ويرد على الرؤية بما يناسبها. ودائما يرهف النبي سمعه وقلبه إلى ما يلقى عليه من توجيهات ربه عز وجل، لذلك خاطبه ربه بقوله :﴿ إنني معكما أسمع وأرى ( ٤٦ ) ﴾ ( طه ).
فسيأتيك الرد المناسب في حينه. إذن : الحق سبحانه لم يخبر موسى بمهمته مع فرعون ثم تركه يباشرها بنفسه، وإنما تمت هذه المسألة بتوجيهات مباشرة من الله تعالى. ﴿ وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ( ٦٩ ) ﴾.
وهذا أصل المعجزة في عصا موسى، أن تلقف وتبتلع ما يأفكون من السحر وكلمة ﴿ تلقف.. ( ٦٩ ) ﴾ ( طه ) تعطيك الصورة الحركية السريعة التي تشبه لمح البصر، تقول : تلقفته يعني : أخذته بسرعة وشدة، وهذه هي العلة في العصا أن تلقف ما صنعوا من السحر ﴿ إنما صنعوا كيد ساحر.. ( ٦٩ ) ﴾ ( طه ) والكيد : التدبير الخفي للتغلب على الخصم، لكن ماذا يفعل كيد الساحر وألاعيبه وتلفيقه أمام قدرة الرب تبارك وتعالى ؟.
ثم يقول تعالى :﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ( ٦٩ ) ﴾ ( طه ) : سبق أن تكلمنا في مسألة فلاح الساحر، وأنه مهما أوتي من قدرة على تسخير الجن لعمل شيء فوق طاقة الإنس، فلن يعطيه ذلك ميزة على غيره، ولن تكون له قدرة على شيء.
فإياكم أن تظنوا أن الله تعالى ملك مصالحكم لهؤلاء، صحيح هو يفعل، أما الإصابة والأذى فبإذن الله وتحت عنايته :﴿ وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله.. ( ١٠٢ ) ﴾ ( البقرة ) : وهذه القضية لا تنسحب على الساحر فحسب، إنما على الوجود كله، وإلى أن تقوم الساعة.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى ( ٧٠ ) ﴾.
قال الزجاج١ في هذا الموقف : عجيب أمر هؤلاء، فقد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، فإذا بهم يلقون أنفسهم للشكر والسجود.
نعم، لقد دخلوا كافرين فجرة فخرجوا مؤمنين بررة٢، لأنهم جاءوا بكل ما لديهم من الكيد، وجمعوا صفوة السحر وأساتذته ممن يعلمون السحر جيدا، ولا تنطلي عليهم حركات السحرة وألاعيبهم، فلما رأوا العصا وما فعلت بسحرهم لم يخالطهم شك في أنها معجزة بعيدة عما يصنعونه من السحر، لذلك سارعوا ولم يترددوا في إعلان إيمانهم بموسى وهارون.
وهذا يدلنا على أن الفطرة الإيمانية في النفس قد تطمسها الأهواء، فإذا ما تيقظت الفطرة الإيمانية وأزيلت عنها الغشاوة سارعت إلى الإيمان وتأثرت به.
لقد سارع السحرة إلى الإيمان، وكان له هوى في نفوسهم، بدليل أنهم سيقولون فيما بعد :﴿ وما أكرهتنا عليه من السحر.. ( ٧٣ ) ﴾ ( طه ) : فكانوا مكرهين، كانوا أيضا مسخرين، بدليل قولهم :﴿ .. إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين ( ١١٣ ) ﴾ ( الأعراف ).
كأنهم كانوا لا يأخذون على السحر أجرا، فلما كانت هذه المهمة صعبة طلبوا عليها أجرا، فهي معركة تتوقف عليها مكانته بين قومه، أما ممارستهم للسحر إرهابا للناس وتخويفا لمن تسول له نفسه الخروج والتمرد على فرعون، فكان سخرة، لا يتقاضون عليه أجرا.
لذلك لم يعارض فرعون سحرته في طلبهم، بل زادهم منحة أخرى ﴿ وإنكم لمن المقربين ( ١١٤ ) ﴾ ( الأعراف ) : فسوف تكونون سدنة الفرعونية، يريد أن يشحن هممهم، ويشحذ عزائمهم، حتى لا يدخروا وسعا في فن السحر في هذه المعركة.
إذن : فطباعهم وفطرتهم تأبى هذا الفعل، وتعلم أنه كذب وتلفيق، لكن ماذا يفعلون وكبيرهم يأمرهم به، بل ويكرههم عليه، ويلزمهم أن يعلموا غيرهم٣، لماذا ؟ لأن السحر والشعوذة والتلفيق هي رأس ماله وبضاعته التي يسعى إلى ترويجها ؛ فعليها يقوم ملكه وتبنى ألوهيته.
وقوله تعالى :﴿ فألقي السحرة سجدا.. ( ٧٠ ) ﴾ ( طه ) : فرق بين ﴿ فألقوا حبالهم وعصيهم... ( ٤٤ ) ﴾ ( الشعراء ) : وهذا منهم عمل اختياري، وبين ﴿ فألقي السحرة سجدا.. ( ٧٠ ) ﴾ ( طه ) : يعني على غير اختيارهم وعلى غير إرادتهم، كأن صولة الحق فاجأت صحوة الفطرة، فلم يملكوا إلا أن خروا لله ساجدين، فالإلقاء هنا عمل تلقائي دون تفكير منهم ودون شعور، فقد فاجأهم الحق الواضح والمعجزة الباهرة في عصا موسى، لأنها ليست سحرا فهم أعلم الناس بالسحر.
ونلحظ في هذه الآية أنها جاءت بصيغة الجمع : ألقي السحرة، قالوا : آمنا، لتدل على أنهم كانوا يدا واحدة لم يشذ منهم واحد، مما يدل على أنهم كانوا مكرهين مسخرين.
كما أن إعلان إيمانهم جاء بالفعل المرئي المشاهد للجميع ﴿ فألقي السحرة سجدا.. ( ٧٠ ) ﴾ ( طه )، ثم بالقول المسموع ﴿ قالوا آمنا برب هارون وموسى( ٧٠ ) ﴾ ( طه )، وفي آية أخرى :﴿ قالوا آمنا برب العالمين ( ٤٧ ) رب موسى وهارون ( ٤٨ ) ﴾ ( الشعراء ) :
ونعلم أن موسى – عليه السلام – هو الأصل، ثم أرسل معه أخوه هارون، ولما عرض القرآن موقف السحرة مع موسى حكى قولهم :﴿ آمنا برب هارون وموسى( ٧٠ ) ﴾ ( طه ) : وقولهم :﴿ آمنا برب العالمين ( ٤٧ ) رب موسى وهارون ( ٤٨ ) ﴾ ( الشعراء ).
لذلك كانت هذه المسألة مثار جدل من خصوم الإسلام، يقولون : ماذا قال السحرة بالضبط ؟ أقالوا الأولى أم الثانية ؟
ولك أن تتصور جمهرة السحرة الذين حضروا هذه المعركة، فكان رؤساؤهم وصفوتهم سبعين ساحرا، فما بالك بالمرؤوسين ؟ إذن : هم كثيرون٤، فهل يعقل مع هذه الكثرة وهذه الجمهرة أن يتحدوا في الحركة وفي القول ؟ أم يكون لكل منهم انفعاله الخاص على حسب مداركه الإيمانية ؟
لا شك أنهم لم يتفقوا على قول واحد، فمنهم من قال :﴿ آمنا برب هارون وموسى( ٧٠ ) ﴾ ( طه ) وآخرون قالوا :﴿ آمنا برب العالمين ( ٤٧ ) رب موسى وهارون ( ٤٨ ) ﴾ ( الشعراء ).
كذلك كان منهم سطحي العبارة، فقال :﴿ آمنا برب العالمين ( ٤٧ ) رب موسى وهارون ( ٤٨ ) ﴾ ( الشعراء ) ولم يفطن إلى أن فرعون قد ادعى الألوهية وقال أنا ربكم الأعلى فربما يفهم من قوله :﴿ رب موسى وهارون ( ٤٨ ) ﴾ ( الشعراء ) : أنه فرعون، فهو الذي ربى موسى وهو صغير.
وآخر فطن إلى هذه المسألة، فكان أدق في التعبير، وأبعد موسى عن هذه الشبهة، فقال :﴿ آمنا برب هارون وموسى( ٧٠ ) ﴾ ( طه ) : وجاء أولا بهارون الذي لا علاقة لفرعون بتربيته، ولا فضل له عليه، ثم جاء بعده بموسى.
إذن : هذه أقوال متعددة ولقطات مختلفة لمجتمع جماهيري لا تنضبط حركاته، ولا تتفق تعبيراته، وقد حكاها القرآن كما كانت فليس لأحد بعد ذلك أن يقول : إن كان القول الأول صحيحا، فالقول الآخر خطأ أو العكس.
وما أشبه هذا الموقف الآن بمباراة رياضية يشهدها الآلاف ويعلقون عليها، ترى أتتفق تعبيراتهم في وصف هذه المباراة ؟
نقول : إذن، تعددت اللقطات وتعددت الأقوال للقصة الواحدة لينقل لنا القرآن كل ما حدث.
١ هو: إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج، عالم بالنحو واللغة، ولد ٢٤١ هـ ومات في بغداد ٣١١ هـ، كان في فتوته يخرط الزجاج ومال إلى النحو، أدب القاسم ولد عبيد الله بن سليمان وزير المعتضد العباسي. (الأعلام للزركلى ١ / ٤٠)..
٢ قال ابن عباس وعبيد بن عمير: كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة. (أورده ابن كثير في تفسيره ٣ / ١٥٨)..
٣ أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وما أكرهتنا عليه من السحر........................ (٧٣)﴾ (طه) قال: أخذ فرعون أربعين غلاما من بني إسرائيل فأمر أن يعلموا السحر بالعوماء، وقال: علموهم تعليما لا يغلبهم أحد في الأرض. أورده السيوطي في (الدر المنثور ٥ / ٥٨٧)..
٤ اختلف في عدد السحرة. قال محمد بن كعب: كانوا ثمانين ألفا. وقال القاسم بن أبي برة: كانوا سبعين ألفا. وقال السدي: بضعة وثلاثين ظالفا وقال كعب الأحبار: كانوا اثني عشر ألفا. وعن ابن عباس: كانت السحرة سبعين رجلا. (أورد هذه الأقوال ابن كثير في تفسيره (٣ / ١٥٨)}..
ثم يقص الحق سبحانه رد فعل فرعون على ما حدث، فيقول :﴿ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ( ٧١ ) ﴾.
طبيعي أن يشتاط فرعون غضبا بعدما سمعه من سحرته، فقد جمعهم لينصروه فإذا بهم يخذلونه، بل ويقوضون عرشه من أساسه فيؤمنون بإله غيره، ويا ليتهم لما خذلوه سكتوا، إنما يعلنونها صريحة عالية مدوية :﴿ آمنا برب هارون وموسى ( ٧٠ ) ﴾ ( طه ).
﴿ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ.. ( ٧١ ) ﴾ ( طه ) : فمع الخيبة التي مني بها ما يزال يتمسك بفرعونيته وألوهيته، ويهرب من الاستخزاء الذي حاق به، يريد أن يعطي للقوم صورة المتماسك الذي لم تؤثر فيه هذه الأحداث، فقال :﴿ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ.. ( ٧١ ) ﴾ ( طه ) : فأنا كبيركم الذي علمكم السحر. وكان عليكم أن تحترموا أستاذيته، وقد كنت سآذن لكم.
وكلمة ( آمنتم ) مادتها : أمن. وقد أخذت حيزا كبيرا في القرآن الكريم، والأصل فيها : أمن فلان أمنا يعني : اطمأن. فليس هناك ما يخوفه. لكن هذه المادة تأتي مرة ثلاثية ( أمن ) وتأتي مزيدة بالهمزة ( آمن ).
وهذا الفعل يأتي متعديا إلى المفعول مباشرة، كما في قوله تعالى :﴿ فليعبدوا رب هذا البيت ( ٣ ) الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ( ٤ ) ﴾ ( قريش ) : يعني آمن سكان مكة من الخوف.
وقد يتعدى بالباء كما في : آمنت بالله، أو يتعدى باللام كما في قوله تعالى :﴿ فما آمن لموسى إلا ذريته من قومه.. ( ٧٣ ) ﴾ ( يونس ) : وآمن له يعني : صدقه فيما جاء به.
إذن : لدينا : آمنه يعني أعطاه الأمن، وآمن به : يعني اعتقده، وآمن له : يعني : صدقه.
وقد تأتي أمن وآمن بمعنى واحد، كما في قول سيدنا يعقوب :﴿ هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل.. ( ٦٤ ) ﴾ ( يوسف ).
فلماذا اختلفت الصيغة من آمن إلى أمن ؟
قالوا : لأن قوله :﴿ كما أمنتكم على أخيه من قبل.. ( ٦٤ ) ﴾ ( يوسف ).
كانت تجربة أولى، فجاء الفعل ( أمن ) مجردا على خلاف الحال في المرة الثانية، فقد احتاجت إلى نوع من الاحتياط للأمر، فقال :﴿ هل آمنكم عليه.. ( ٦٤ ) ﴾ ( يوسف ) فزاد الهمزة للاحتياط.
فمعنى قول فرعون :﴿ آمنتم له.. ( ٧١ ) ﴾ ( طه ) : يعني أي : صدقتموه.
وتأمل هنا بلاغة القرآن في هذا التعبير ﴿ قبل أن آذن لكم.. ( ٧١ ) ﴾ ( طه ) : ومن الذي يقولها ؟ إنه فرعون الآمر الناهي في قومه يتحدث الآن عن الإذن. وفرق بين أمر وإذن. أمر بالشيء يعني : أنه يحب ما أمر به، ويجب عليك أنت التنفيذ. أما الإذن فقد يكون في أمر لا يحبه ولا يريده، فهو الآن يأذن، لأنه لا يقدر على الأمر.
وما دمتم قد آمنتم له قبل أن آذن لكم فلا بد أن يكون هو كبيركم الذي علمكم السحر، فكان وفاؤكم له، واحترمتم هذا الكبر وساعدتموه على الفوز.
وهذا من فرعون سوء تعليل لواقع الإيمان، ففي نظره أن موسى تفوق عليهم، لا لأنه يجيد فن السحر أكثر منهم، إنما تفوق عليهم لأنهم جاملوه وتواطأوا معه ؛ لأنه كبيرهم ومعلمهم.
لذلك يتهددهم قائلا :﴿ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ.. ( ٧١ ) ﴾ ( طه )
جاء هذا التهديد والوعيد جزاء لهم ؛ لأنهم – في نظره – هزموه وخذلوه في معركته الفاصلة أمام موسى عليه السلام، ومعنى :﴿ من خلاف.. ( ٧١ ) ﴾ ( طه ) : الخلاف أن يأتي شيء على خلاف شيء آخر، والكلام هنا عن الأيدي والأرجل، فيكون المراد اليد اليمنى مع الرجل اليسرى، أو اليد اليسرى مع الرجل اليمنى.
وقوله :﴿ ولأصلبنكم في جذوع النخل.. ( ٧١ ) ﴾ ( طه ) : المعروف أن التصليب يكون على الجذوع ؛ لذلك حاول بعض المفسرين الخروج من هذا الإشكال فقالوا :( في ) هنا بمعنى ( على ). لكن هذا تفسير لا يليق بالأسلوب الأعلى للبيان القرآني، ويجب أن نتفق أولا على معنى التصليب، وهو أن تأتي بالمصلوب عليه وهو الخشب أو الحديد مثلا، ثم تأتي بالشخص المراد صلبه، وتربطه في هذا القائم رباطا قويا، ثم تشد عليه بقوة.
ولك أن تجرب هذه المسألة، فتربط مثلا عود كبريت على إصبعك، ثم تشد عليه الرباط بقوة، وسوف تجد أن العود يدخل في اللحم، ساعتها تقول : العود في إصبعك، لا على إصبعك.
إذن قوله تعالى :﴿ ولأصلبنكم في جذوع النخل.. ( ٧١ ) ﴾ ( طه ) :( في ) هنا على معناها الأصلي للدلالة على المبالغة في الصلب تصليبا قويا، بحيث يدخل المصلوب فيه، كأنه ليس عليه، بل داخل فيه.
ثم يقول :﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى ( ٧١ ) ﴾ ( طه ) : أينا : المراد فرعون وموسى، أو فرعون ورب موسى الذي أرسله ﴿ أشد عذابا وأبقى ( ٧١ ) ﴾ ( طه ) : فجمع في العذاب شدته من حيث الكيفية، ودوامه وبقاءه في الزمن. ولم يذكر القرآن شيئا عن تهديد فرعون، أفعله أم لا ؟ والأقرب أنه نفذ ما هدد به.
وكان من المفروض في تهديد فرعون أن يأخذ من قلوب السحرة ويرهبهم، فيحاولون على الأقل الاعتذار عما حدث، لكن شيئا من هذا لم يحدث، بل قالوا ما أهاجه أكثر :
الإيثار : تفضيل شيء على شيء في مجال متساو تقول : آثرت فلانا على فلان. وهما في منزلة واحدة، أو أن معك شيئا ليس معك غيره، ثم جاءك فقير فآثرته على نفسك.
ومنه قوله تعالى :﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.. ( ٩ ) ﴾ ( الحشر ).
فقولهم :﴿ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا.. ( ٧٢ ) ﴾ ( طه ) : لأنه قال ﴿ ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى ٧١ ﴾ [ طه ] أنا أم موسى ؟ فالمعركة في نظره مع موسى، فأرادوا أن يواجهوه بهذه الحقيقة التي اتضحت لهم جميعا، وهي أن المعركة ليست مع موسى، بل مع آيات الله البينات التي أرسل بها موسى، ولن نفضلك على آيات الله التي جاءتنا واضحة بينة.
ولما رأى السحرة معجزة العصا كانوا هم أكثر القوم إيمانا، وقد وضح عمق إيمانهم لما قالوا :﴿ آمنا برب هارون وموسى ( ٧٠ ) ﴾ ( طه ) : ولم يقولوا : آمنا بموسى وهارون، إذن : فإيمانهم صحيح صادق من أول وهلة.
وقد تعرضنا لهذه المسألة في قصة سليمان مع ملكة سبأ، حين قالت :﴿ وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ( ٤٤ ) ﴾ ( النمل ) : فأنا وهو مسلمان لله، ولم تقل : أسلمت لسليمان، فهناك رب أعلى، الجميع مسلم له.
إذن : فقول السحرة لفرعون :﴿ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا.. ( ٧٢ ) ﴾ ( طه ) تعبير دقيق وواع وحكيم، لا تلحظ فيه ذاتية موسى، إنما تلحظ البينة التي جاء بها موسى من الله.
لذلك يقول تعالى :﴿ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين١حتى تأتيهم البينة ( ١ ) ﴾ ( البينة )، ثم يبين عند من جاءت البينة :﴿ رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ( ٢ ) ﴾ ( البينة ).
فالارتقاء من الرسول إلى البينة إلى من أعطى له البينة، فهذه مراحل ثلاث.
والبينات : هي الأمور الواضحة التي تحسم كل جدل حولها، فلا تقبل الجدل والمهاترات ؛ لأن حجتها جلية واضحة.
وقولهم :﴿ والذي فطرنا.. ( ٧٢ ) ﴾ ( طه ) : أي : ولن نؤثرك أيضا على الله الذي فطرنا، أو تكون ﴿ والذي فطرنا.. ( ٧٢ ) ﴾ ( طه ) قسم على ما يقولون كما تقول : لن أفعل كذا والذي خلقك، فأنت تقسم ألا تفعل هذا الشيء.
وهذه حيثية عدم الرجوع فيما قالوه وهو الإيمان برب هارون وموسى.
ثم لم يفتهم الإشارة إلى مسألة التهديدات الفرعونية :﴿ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ.. ( ٧١ ) ﴾ ( طه ).
لذلك يقولون :﴿ فاقض ما أنت قاض.. ( ٧٢ ) ﴾ ( طه ) : أي : نفذ ما حكمت به من تقطيع الأيدي والأرجل، أو اقض ما أنت قاض من أمور أخرى، وافعل ما تريد فلم تعد تخيفنا هذه التهديدات ﴿ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( ٧٢ ) ﴾ ( طه ).
فأنت إنسان يمكن أن تموت في أي وقت، فما تقضي إلا مدة حياتك، وربما يأتي من بعدك من هو أفضل منك فلا يدعي ما ادعيته من الألوهية.
وهب أن من جاء من بعدك كان على شاكلتك، فحياته أيضا منتهية، وحتى لو ظل ما سننته للناس من ادعاء الألوهية إلى يوم القيامة، وامتد طغيان غيرك من بعدك، فالمسألة ستنتهي، ولو حتى بقيام الساعة.
كما سبق أن قلنا : إن نعيم الدنيا مهما بلغ فيتهدده أمران : إما أن تفوته أو يفوتك، أما نعيم الآخرة فنعيم باق دائم، لا تفوته ولا يفوتك.
١ انفك: انفصل وفارق ما كان عليه. قال تعالى: ﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين..................... (١)﴾ (البينة) أي: زائلين ومنفصلين عما هم فيه حتى جاءتهم البينة. (القاموس القويم ٢ / ٨٧)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( ٧٣ ) ﴾.
فما دمنا رجعنا من الإيمان بالبشر إلى الإيمان بخالق البشر، فهذا رشد في تفكيرنا لا يصح أن تلومنا عليه، ثم أوضحوا حيثية إيمانهم ﴿ لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ.. ( ٧٣ ) ﴾ ( طه ) فالإيمان بالله سينفعنا، وسيغفر لنا الخطايا وهي كثيرة، وسيغفر لنا ما أكرهتنا عليه من مسألة السحر، فقد صنعوا السحر مكرهين، ومارسوه مجبرين، فهو عمل لا يوافق طبيعتهم ولا تكوينهم ولا فطرتهم.
وما أكثر ما يكره الناس على أمور لا يرضونها، وينفذون أوامر وهم غير مقتنعين بها، خاصة في عصور الطغاة والجبارين، وقد سمعنا كثيرا عن السجانين في المعتقلات، فكان بعضهم تأتيه الأوامر بتعذيب فلان، فماذا يفعل وهو يعلم أنه بريء مظلوم، ولا يطاوعه قلبه في تعذيبه، فكان يدخل على المسجون ويقول له : اصرخ بأعلى صوتك، ويمثل أنه يضربه.
ثم يقولون :﴿ والله خير وأبقى ( ٧٣ ) ﴾ ( طه ) : فأنت ستزول، بل دنياك كلها ستزول بمن جاء بعدك من الطغاة، ولن يبقى إلا الله، وهو سبحانه يمتع كل خلقه بالأسباب في الدنيا، أما في الآخرة فلن يعيشوا بالأسباب، إنما بالمسبب، عز وجل دون أسباب.
لذلك إذا خطر الشيء ببالك تجده بين يديك، وهذا نعيم الآخرة، ولن تصل إليه حضارات الدنيا مهما بلغت من التطور.
لذلك في قوله تعالى :﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا.. ( ٢٤ ) ﴾ ( يونس )، فمهما ظن البشر أنهم قادرون على كل شيء في دنياهم فهم ضعفاء لا يستطيعون الحفاظ على ما توصلوا إليه.
إذن : اجعل الله – تبارك وتعالى – في بالك دائما يكن لك عوضا عن كل فائت، واستح أن يطلع عليك وأنت تعصيه. وقد ورد في الحديث القدسي :( إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم، وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم ؟ ! )١.
ولما سئل أحد العارفين : فيم أفنيت عمرك ؟ قال : في أربعة أشياء : علمت أني لا أخلو من نظر الله تعالى طرفة عين، فاستحييت أن أعصيه، وعلمت أن لي رزقا لا يتجاوزني وقد ضمنه الله لي فقنعت به، وعلمت أن علي دينا لا يؤديه عني غيري فاشتغلت به، وعلمت أن لي أجلا يبادرني فبادرته.
وقد شرح أحد العارفين هذه الأربع، فقال : اجعل مراقبتك لمن لا تخلو عن نظره إليك، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.
وهكذا جمعت هذه الأقوال الثمانية الدين كله.
١ بالبحث في كتب الحديث تبين عدم ثبوت حديث بهذا اللفظ، وإنما ثبت جملة من هذا الحديث على لسان بعض العرفين، حيث جاء في كتاب: (حيلة الأولياء) (٨ / ١٤٢) قال رجل لوهيب بن الورد قال: اتق الله أن يكون الله أهون الناظرين إليك، وجاء في كتاب جامع العلوم والحكم (١ / ٣٦) قال بعض العارفين: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك..
ثم يقدم السحرة الذين أعلنوا إيمانهم حيثيات هذا الإيمان، فقالوا :﴿ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى ( ٧٤ ) ﴾.
قوله :﴿ من يأت ربه مجرما.. ( ٧٤ ) ﴾ ( طه ) : يعني مجرما عمل الجريمة، والجريمة أن تكسر قانونا من قوانين الحق – عز وجل – كما يفعل البشر في قوانينهم، فيضعون عقوبة لمن يخرج عن هذه القوانين، لكن ينبغي أن تعين هذه الجريمة وتعلن على الناس، فإذا ما وقع أحد في الجريمة فقد أعذر من أنذر.
إذن : لا يمكن أن تعاقب إلا بجريمة، ولا توجد جريمة إلا بنص.
وقوله :( يأت ) أي : هو الذي سيأتي رغم إجرامه، ورغم ما ينتظره من العذاب، لكن لماذا خاطبوه بلفظ الإجرام ؟ لأنه قال :﴿ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ.. ( ٧١ ) ﴾ ( طه ) ولم يفعلوا أكثر من أن قالوا كلمة الحق، فأينا إذن المجرم ؟
وقوله تعالى :﴿ فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى ( ٧٤ ) ﴾ ( طه ) :
لأن الموت سيريحهم من العذاب ؛ لذلك يتمنون الموت، كما جاء في قوله تعالى :﴿ ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك.. ( ٧٧ ) ﴾ ( الزخرف ) : فيأتي رده :﴿ إنكم ماكثون ( ٧٧ ) ﴾ ( الزخرف ).
وفرق بين عذاب وموت، فالموت إنهاء للحياة، وليس بعد الموت إيلام، أما العذاب فلا ينشأ إلا مع الحياة ؛ لأنه إيلام حي.
لذلك، فالحق – تبارك وتعالى – لما عرض لهذه المسألة في قصة سليمان عليه السلام والهدهد وأن سليمان قال :﴿ لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه.. ( ٢١ ) ﴾ ( النمل ) : فالعذاب شيء، والذبح شيء آخر، لأنه إنهاء للحياة الحاسة.
ومعنى :﴿ لا يموت فيها ولا يحيى ( ٧٤ ) ﴾ ( طه ) : أن هناك مرحلة وحلقة بين الموت والحياة، حيث لا يموت فيستريح ؛ ولا يحيى حياة سالمة من العذاب، فبقاؤهم في جهنم في هذه المرحلة، التي لا هي موت ولا هي حياة.
فكأنهم كانوا يشيرون بقولهم :﴿ إنه من يأت ربه مجرما.. ( ٧٤ ) ﴾ ( طه ) : إلى فرعون، والآن يشيرون إلى أنفسهم، وما سلكوه من طريق الإيمان ﴿ وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ.. ( ٧٥ ) ﴾ ( طه )
فجمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ؛ لأن الإيمان هو الينبوع الوجداني الذي تصدر عنه الحركات النزوعية على وفق المنهج الذي آمنت به، وإلا فما فائدة أن تؤمن بشيء، ولا تعمل له، وكثيرا ما جمع القرآن بين الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
وقوله :﴿ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى ( ٧٥ ) ﴾ ( طه ) : الدرجات أي : درجات الجنة، فالجنة درجات، بعضها فوق بعض، أما النار فدركات، بعضها تحت بعض.
وقد جعل الحق - تبارك وتعالى – الجنة درجات ؛ لأن أهلها متفاوتون في الأعمال١، كما أنهم متفاوتون حتى في العمل الواحد، لأن مناط الإخلاص في العمل متفاوت.
لذلك جاء في الأثر :( الناس على خطر إلا العالمون، والعالمون على خطر إلا العاملون، والعاملون على خطر إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم ).
والعلا : جمع عليا. فما الدرجات العلا ؟.
١ أخرج ابن المبارك في الزهد (ص ٣٣) (رقم ٩٩) وأبو نعيم في الحيلة (٤ / ٢٤٧) عن عون بن عبد الله قال: إن الله ليدخل خلقا الجنة فيعطيهم حتى يملوا، وفوقهم ناس في (الدرجات العلى) فإذا نظروا إليهم عرفوهم فيقولون: يا ربنا إخواننا كنا معهم فبم فضلتهم علينا؟ فيقال: هيهات، إنهم كانوا يجوعون حين تشبعون، ويظمأون حين تروون، ويقومون حين تنامون، ويشخصون حين تخفضون..
عدن : أي إقامة. من عدن في المكان : أقام فيه، فالمراد جنات أعدت لإقامتك، وفرق بين أن تعد المكان للإقامة وأن تعد مكانا لعابر، كما أن المكان يختلف إعداده وترفه حسب المعد وإمكاناته، فالإنسان العادي يعد مكانا غير الذي يعده عظيم من العظماء، فما بالك إذن بمكان أعده لك ربك – عز وجل – بقدراته وإمكاناته ؟
وقوله :﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا.. ( ٧٦ ) ﴾ ( طه ) :
نعلم أن الماء من أهم مقومات الحياة الدنيا، فبه تنبت الأرض النبات، وفيه تذوب العناصر الغذائية، وبدونه لا تقوم لنا حياة على وجه الأرض. والحق سبحانه وتعالى ساعة ينزل مطرا من السماء قد لا ينتفع بالمطر من نزل عليه المطر، فربما نزل على جبل مثلا، فالنيل الذي نحيا على مائه يأتي من أين ؟ من الحبشة وغيرها.
لذلك جعل الخالق – عز وجل –كلمة ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا.. ( ٧٦ ) ﴾ ( طه ) رمزا للخضرة وللنضارة وللنماء وللحياة السعيدة الهانئة، حتى الإنسان وإن لم يكن محتاجا للطعام بأن كان شبعان مثلا، يجد لذة في النظر إلى الطبيعة الخضراء، وما فيها من زرع وورود وزهور، فليس الزرع للأكل فقط، بل للنظر أيضا، وإن كنت تأكل في اليوم ثلاث مرات، والأكل غذاء للجسم، فأنت تتمتع بالمنظر الجميل وتسر به كلما نظرت إليه، والنظر متعة للروح، وسرور للنفس.
وكأن الحق – تبارك وتعالى – يقول لنا : لا تقصروا انتفاعكم بنعم الله على ما تملكون، فتقول مثلا : لا آكل هذه الفاكهة لأنها ليست ملكي، لأن هناك متعة أخرى :﴿ انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه١.. ( ٩٩ ) ﴾ ( الأنعام ) : فقبل أن تأكل انظر، فالنظر متعة، وغذاء مستمر.
فقوله تعالى :﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.. ( ٧٦ ) ﴾ ( طه ) : لأن ظاهرة جريان الأنهار في الدنيا وسيلة للخضرة والخصب والإيناع، و ﴿ من تحتها.. ( ٧٦ ) ﴾ ( طه ) : أي : أن الماء ذاتي فيها، ونابع منها، ليس جاريا إليك من مكان آخر، ربما يمنع عنك أو تحرم منه.
لذلك يقول تعالى في آية أخرى :﴿ تَجْرِي تَحْتهَا الْأَنْهَارُ.. ( ١٠٠ ) ﴾ ( التوبة ) : فتحتها أنهار جارية، لكن مصدرها ومنبعها من مكان آخر.
ونسب الجريان إلى النهر، لا إلى الماء للمبالغة، فالنهر هو المجرى الذي يجري فيه الماء.
ثم يقول تعالى :﴿ خالدين فيها.. ( ٧٦ ) ﴾ ( طه ) : وهذا هو التأمين الحق للنعيم ؛ لأن آفة النعم أن تزول، إما بأن تفوتها أنت أو تفوتك هي، أما نعيم الجنة فقد سلمه الله تعالى من هذه الآفة، فهو خالد باق، لا يزول ولا يزال عنه.
﴿ وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى ( ٧٦ ) ﴾ ( طه ) : الزكاة : تطلق على الطهارة وعلى النماء، فالطهارة : أن يكون الشيء في ذاته طاهرا، والنماء : أن توجد فيه خصوصية نمو فيزيد عما تراه أنت عليه.
كما ترى مثلا الورد الصناعي والورد الطبيعي في البستان، وفيه المائية والنضارة والرائحة الطيبة والألوان المختلفة والنمو، وكلها صفات ذاتية في الورد، على خلاف الورد الصناعي فهو جامد على حالة واحدة.
وهذا هو الفرق بين صنعة البشر وصنعة الخالق للبشر، لذلك كانت صنعة الله أخلد وأبقى، وصدق الله العظيم حين قال :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ( ١٤ ) ﴾ ( المؤمنون ).
وتلحظ أنه لم يضن عليك بصفة الخلق ؛ لأنك استعملت الأسباب وأعملت الفكر، فكان لك شيء من الخلق لكن ربك أحسن الخالقين ؛ لأنك خلقت من باطن خلقته، خلقت من موجود، وهو سبحانه يخلق من عدم، خلقت شيئا جامدا لا حياة فيه، وخلق سبحانه شيئا حيا ناميا، يتكاثر بذاته.
ومن هنا سمي المال الذي تخرجه للفقراء زكاة، لأنه يطهر الباقي وينميه، ومن العجائب أن الله تعالى سمى ما يخرج من المال زكاة ونماء، وسمى زيادة الربا محقا.
فمعنى :﴿ وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى ( ٧٦ ) ﴾ ( طه ) : أي : تطهر من المعاصي، ثم نمى نفسه، ومعنى التنمية ارتقاءات المؤمن في درجات الوصول للحق، فهو مؤمن بداية، لكن يزيد إيمانه وينمو ويرتقى يوما بعد يوم، وكلما ازداد إيمانه ازداد قربه من ربه، وازدادت فيوضات الله عليه. والطهارة للأشياء سابقة على تنميتها ؛ لأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة.
إذن : زكى نفسه : طهرها أولا، ثم ينميها ثانيا، كمن يريد التجارة، فعليه أولا أن يأتي برأس المال الطاهر من حلال ثم ينميه، لكن لا تأتي برأس المال مدنسا ثم تنميه بما فيه من دنس.
وكلما نمى الإنسان إيمانه ارتقى في درجاته، فكانت له الدرجات العلا في الآخرة.
١ أينع الثمر: أدرك ونضج وحان قطافه. والوصف منه يانع، أي: ناضج. قال تعالى: ﴿انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه............ (٩٩)﴾ (الأنعام) أي: نضجه واختلاف طعمه بعد النضج. (القاموس القويم ٢ / ٣٧٣)..
كان هذا من الوحي لموسى – عليه السلام – بعد أن انتهت المعركة وانتصر فيها معسكر الإيمان، أما فرعون فقد خسر سلاحا من أهم أسلحته وجانبا كبيرا من سطوته وجبروته.
وهنا جمع موسى بني إسرائيل، وهم بقايا ذرية آل يعقوب ليذهب بهم إلى أرض الميعاد، وسرعان ما أعد فرعون جيشه وجمع جموعه، وسار خلفهم يتبعهم إلى ساحل البحر، فإذا بموسى وقومه محاصرين : البحر من أمامهم، وفرعون بجيشه من خلفهم، وليس لهم مخرج من هذا المأزق.
هذا حكم القضايا البشرية المنعزلة عن رب البشر، أما في نظر المؤمن فلها حل ؛ لأن قضاياه ليست بمعزل عن ربه وخالقه ؛ لأنه مؤمن حين تصيبه مصيبة، أو يمسه مكروه ينظر فإذا ربه يرعاه، فيلجأ إليه، ويرتاح في كنفه.
لذلك يقولون : لا كرب وأنت رب، وما دام لي رب ألجأ إليه فليست هناك معضلة، المعضلة فيمن ليس له رب يلجأ إليه.
وقد ضربنا لذلك مثلا – ولله المثل الأعلى – لو أن إنسانا معه في جيبه جنيه، فسقط منه في الطريق، فإذا لم يكن عنده غيره يحزن أما إن كان لديه مال آخر فسوف يجد فيه عوضا عما ضاع منه، هذا الرصيد الذي تحتفظ به هو إيمانك بالله.
وهنا جاء الأمر من الله تعالى لموسى – عليه السلام – ليخرجه وقومه من هذا المأزق :﴿ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا.. ( ٧٧ ) ﴾ ( طه ).
أسر : من الإسراء ليلا. أي : السير ؛ لأنه أستر للسائر.
وقوله :﴿ بعبادي.. ( ٧٧ ) ﴾ ( طه ) : كلمة ( عبد ) تجمع على ( عبيد ) و ( عباد ) والفرق بينهما أن كل من في الكون عبيد لله تعالى ؛ لأنهم وإن كانوا مختارين في أشياء، فهم مقهورون في أشياء أخرى، فالذي تعود باختياره على مخالفة منهج الله، وله دربة على ذلك، فله قهريات مثل المرض أو الموت.
أما العباد فهم الصفوة التي اختارت مراد الله على مرادها، واختياره على اختيارها، فإن خيرهم :﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ( ٢٩ ) ﴾ ( الكهف ) : خرجوا عن اختيارهم لاختيار ربهم.
لذلك نسبهم الله إليه فقال :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان.. ( ٤٢ ) ﴾ ( الحجر ) : وقال عنهم :﴿ عباد مكرمون ( ٢٦ ) ﴾ ( الأنبياء ) : وقال :﴿ وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا.. ( ٦٣ ) ﴾ ( الفرقان )
ويقول الحق سبحانه :﴿ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا.. ( ٧٧ ) ﴾ ( طه ) : أي : يابسا جافا وسط الماء.
والضرب : إيقاع شيء من ضارب بآلة على مضروب، ومنه ضرب العملة أي : سكها وختمها، فبعد أن كان قطعة معدن أصبح عملة متداولة.
وضرب موسى البحر بعصاه فانفلق البحر وانحسر الماء عن طريق جاف صالح للمشي بالأقدام، وهذه مسألة لا يتصورها قانون البشر، لذلك يطمئنه ربه ﴿ لا تخاف دركا.. ( ٧٧ ) ﴾ ( طه ) : أي : من فرعون أن يدركك ﴿ ولا تخشى ( ٧٧ ) ﴾ ( طه ) : أي : غرقا من البحر، لأن الطريق مضروب أي : معد وممهد وصالح لهذه المهمة.
وهذه معجزة أخرى لعصا موسى التي ألقاها، فصارت حية تسعى، وضرب بها البحر فانفلق فصار ما تحت العصا طريقا يابسا، وما حولها جبالا ﴿ كل فرق كالطود١العظيم ( ٦٣ ) ﴾ ( الشعراء ) وهي التي ضرب بها الحجر فانبجس٢ منه الماء.
والسياق هنا لم يذكر شيئا عن الحوار الذي دار بين موسى وقومه حينما وقعوا في هذه الضائقة، لكن جاء في لقطة أخرى من القصة حيث قال تعالى :﴿ فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ( ٦١ ) قال كلا إن معي ربي سيهدين ( ٦٢ ) ﴾ ( الشعراء ).
وبتعدد اللقطات في القرآن تكتمل الصورة العامة للقصة، وليس في ذلك تكرار كما يتوهم البعض.
فقبل أن يوحي إليه :﴿ فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا.. ( ٧٧ ) ﴾ ( طه )، قال القوم :﴿ إنا لمدركون ( ٦١ ) ﴾ ( الشعراء ). فقال ( كلا ). لكن كيف يقولها قولة الواثق وما يخافون منه محتمل أن يقع بعد لحظة ؟
نقول : لأنه لم يقل ( كلا ) من عنده، لم يقلها بقانون البشر، إنما بقانون خالق البشر ﴿ كلا إن معي ربي سيهدين ( ٦٢ ) ﴾ ( الشعراء ) : فأنا لا أغالطكم، ولست بمعزل عن السماء وتوجيه ربي.
١ الطود: الجبل الثابت العالي. (القاموس القويم ١ / ٤٠٨)..
٢ البجس: انشقاق في قربة أو حجر أو أرض ينبع منه الماء. وانبجس الماء: تفجر. قال تعالى: ﴿وأوحينا إلى موسى إذ استقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا.............. (١٦٠)﴾ (الأعراف)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ( ٧٨ ) ﴾.
قوله تعالى :﴿ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ( ٧٨ ) ﴾( طه ) : غشيهم يعني : غطاهم الماء وقد أبهم هذا الحدث للدلالة على فظاعته وهوله، وأنه فوق الحصر والوصف، كأن تقول في الأمر الذي لا تقدر على تفصيله : حصل ما حصل.
وفي لقطة أخرى لهذه الحادثة يبين الحق – تبارك وتعالى – أن موسى – عليه السلام – بعد أن عبر بقومه آمنا أراد باجتهاده وترجيحاته الإيمانية أن يضرب البحر مرة أخرى ليعود إلى سيولته فلا يتمكن فرعون من اللحاق به، لكن توجيهات ربه لها شأن آخر.
فأوحى الله إليه :﴿ واترك البحر رهوا١إنهم جند مغرقون ( ٢٤ ) ﴾ ( الدخان ).
أي : اتركه كما هو لا تعده إلى استطراق سيولته، فكما أنجيتك بالماء سأتلف عدوك بالماء، فسبحان من ينجي ويهلك بالشيء الواحد.
١ رها البحر رهوا: سكن فهو راه. فقوله: ﴿واترك البحر رهوا................................... (٢٤)﴾ (الدخان) أي: اتركه ساكن الأمواج ليغتروا فينزلوا فيه. أو: كن يا موسى هادئا مطمئنا إلى النجاة (القاموس القويم ١ / ٢٧٩)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ( ٧٩ ) ﴾.
وسبق أن قال فرعون لقومه :﴿ وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ( ٢٩ ) ﴾ ( غافر ).
فأين سبيل الرشاد الذي تحدث عنه فرعون بعد أن أطبق الله عليهم البحر ؟ لقد سقتهم إلى الهلاك، ولم تسلك بهم مناط النجاة، والهداية. فأنت – إذن كاذب – في ادعاء سبيل الرشاد، لأنك أضللتهم ما هديتهم، وأهلكتهم ما نجيتهم.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ١وَالسَّلْوَى٢( ٨٠ ) ﴾.
لله عز وجل على بني إسرائيل منن كثيرة ونعم لا تعد، كان مقتضى العبادة التي وصفهم بها ﴿ أن أسر بعبادي.. ( ٧٧ ) ﴾ ( طه ) : أن ينفذوا منهج ربهم، ويذكروا نعمه ذكرا لا يغيب عن بالهم أبدا، بحيث كلما تحركت نفوسهم إلى مخالفة ذكروا نعمة من نعم الله عليهم، تذكروا أنهم غير متطوعين بالإيمان، إنما يردون لله ما عليهم من نعم وآلاء.
والحق – تبارك وتعالى – هنا يذكرهم ببعض نعمه، ويناديهم بأحب نداء ﴿ يا بني إسرائيل.. ( ٨٠ ) ﴾ ( طه ) وإسرائيل يعني عبد الله، عبده المخلص، كما تقول لصاحبك، يا ابن الرجل الطيب.. الورع، فالحق يذكرهم بأصلهم الطيب، وينسبهم إلى نبي من أنبيائه، كأنه يلفت أنظارهم أنه لا يليق بكم المخالفة، ولا الخروج عن المنهج، وأنتم سلالة هذا الرجل الصالح.
وقوله تعالى :﴿ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ.. ( ٨٠ ) ﴾ ( طه ) : أي : من فرعون الذي استذلكم، وذبح أبناءكم، واستحيى٣نساءكم ويسخرهم في الأعمال دون أجر، وفعل بكم الأفاعيل، ثم ﴿ وواعدناكم جانب الطور الأيمن.. ( ٨٠ ) ﴾ ( طه ) : لتأخذوا المنهج السليم لحركة الحياة، إذن : خلصناكم من أذى، وواعدناكم لنعمة.
وواعدناكم.. ( ٨٠ ) } ( طه ) : واعد : مفاعلة لا تكون إلا من طرفين مثل : شارك وخاصم، فهل كان الوعد من جانبهما معا : الله عز وجل وبني إسرائيل ؟ الوعد كان من الله تعالى، لكن لم يقل القرآن : وعدناكم. بل أشرك بني إسرائيل في الوعد، وهذا ينبهنا إلى أنه إذا وعدك إنسان بشيء ووافقت، فكأنك دخلت في الوعد.
وجانب الطور الأيمن : مكان تلقي منهج السماء، وهو مكان بعيد في الصحراء، لا زرع فيه ولا ماء ؛ لذلك يضمن لهم ربهم عز وجل ما يقيتهم :﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى ( ٨٠ ) ﴾ ( طه ) :
المن : سائل أبيض يشبه العسل، يتساقط مثل قطرات بلورية تشبه الندى على ورق الأشجار، وفي الصباح يجمعونه كطعام حلو، وهذه النعمة ما زالت موجودة في العراق مثلا، وتقوم عليها صناعة كبيرة هي صناعة المن.
والسلوى : طائر يشبه طائر السمان.
وهكذا وفر لهم الحق – تبارك وتعالى – مقومات الحياة بهذه المادة السكرية لذيذة الطعم تجمع بين القشدة مع عسل النحل، وطائر شهي دون تعب منهم، و دون مجهود، بل يرونه بين أيديهم معدا جاهزا، وكان المنتظر منهم أن يشكروا نعمة الله عليهم، لكنهم اعترضوا عليها فقالوا :﴿ لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها٤ وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير.. ( ٦١ ) ﴾ ( البقرة ).
وفي سورة البقرة ذكر مع هذه النعمة التي صاحبتهم في جدب الصحراء نعمة أخرى، فقال تعالى :﴿ وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى.. ( ٥٧ ) ﴾ ( البقرة ) : أي : حميناكم من وهج الشمس وحرارتها حين تسيرون في هذه الصحراء.
ونلحظ اختلاف السياق هنا ( نزلنا )، وفي البقرة قال :( أنزلنا ) ؛ ذلك لأن الحق – تبارك وتعالى – يعالج الموضوع في لقطات مختلفة من جميع زواياه، فقوله ( أنزلنا ) تدل على التعدي الأول للفعل، وقد يأتي لمرة واحدة، إنما ( نزلنا ) فتدل على التوالي في الإنزال.
وأهل الريف في بلادنا يطلقون المن على مادة تميل إلى الحمرة الداكنة، ثم تتحول إلى السواد، تسقط على النبات، لكنها ليست نعمة، بل تعد آفة من الآفات الضارة بالنبات.
١ المن: طل ينزل من السماء يشبه العسل كان ينزل على بني إسرائيل عفوا بلا علاج فيصبحون وهو بأمنيتهم فيتناولونه. (لسان العرب - - مادة: منن)..
٢ السلوى: طائر أبيض مثل السماني. (لسان العرب – مادة: سلا). قال في القاموس القويم للقرآن الكريم (١ / ٣٢٦). (وهو السماني، وهو طائر صغير من رتبة الدجاج وجسمه ممتلئ وهو من الطيور المهاجرة من أوروبا في الشتاء إلى البلاد الدافئة، ويعود ما سلم منه في أوائل الصيف إلى موطنه في أوروبا وهو طعام جيد ولحمه كالحمام أو هو أشهى، وأهل العريش بشمال سيناء مشهورون بصيده)..
٣ استحيا النساء: استبقاهن ولم يقتلهن. (لسان العرب – مادة: حيا)..
٤ البقل: نبات عشبي يؤكل أو تركل بذوره، أو: هو كل ما اخضرت به الأرض. (القاموس القويم ١ / ٧٨).
والقثاء: الخيار، والمعروف أنه أكبر من الخيار وأطول ومختلف عنه، وهما من فصيلة واحدة. (القاموس القويم ٢ / ١٠١).
والفوم: هو الثوم. وهو من مشهيات الطعام. وفيه أقوال أخرى. (القاموس القويم ٢ / ٩٢)..

ثم يقول الحق سبحانه :﴿ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ( ٨١ ) ﴾.
الطعام والشراب والهواء مقومات الحياة التي ضمنها الله عز وجل لنا، والأمر بالأكل هنا للإباحة، وليس فرضا عليك أن تأكل إلا إذا أردت الإضراب عن الطعام إضرابا يضر بحياتك فعندها تجبر عليه.
وقوله :﴿ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ.. ( ٨١ ) ﴾ ( طه ) : خص الطيبات ؛ لأن الرزق : منه الطيب، ومنه غير الطيب، فالرزق : كل ما انتفعت به ولو كان حراما، بمعنى أن ما نلته من الحرام هو أيضا من رزقك إلا انك تعجلته بالحرام، ولو صبرت عليه وعففت نفسك عنه لنلت أضعافه في الحلال.
ثم يقول تعالى :﴿ ولا تطغوا فيه.. ( ٨١ ) ﴾ ( طه ) : وفي آية البقرة ﴿ وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( ١١٨ ) ﴾ ( النحل ) : فكأن ظلم النفس علته أنهم طغوا في الأكل من الرزق.
والطغيان : من طغى الشيء إذا زاد عن حده المألوف الذي ينتفع به، ومنه طغيان الماء إذا زاد عن الحد الذي يزيل الشرق والعطش إلى حد أنه يغرق، كما قال تعالى :﴿ إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية ( ١١ ) ﴾ ( الحاقة ) : أي : الحد الذي ينتفع به إلى العطب والهلاك.
وهكذا في أي حد، لكن كيف تتأتى مجاوزة الحد في الطعام والأقوات ؟
الحق – تبارك وتعالى – لما خلق الأرض قدر فيها أقواتها إلى يوم القيامة، فقال تعالى :﴿ وبارك فيها وقدر فيها أقواتها.. ( ١٠ ) ﴾ ( فصلت ).
فاطمئنوا إلى هذه المسألة، وإذا رأيتم الأرض لا تعطي فلا تتهموها، إنما اتهموا أنفسكم بالتقصير والتكاسل عن عمارة الأرض وزراعتها، كما أمركم الله :﴿ هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها.. ( ٦١ ) ﴾ ( هود ).
وقد غفلنا زمنا عن هذه المسألة، حتى فاجأتنا الأحداث بكثرة العدد وقلة المدد، فكان الخروج إلى الصحراء وتعميرها.
وما دام أن الخالق – عز وجل – خلق لنا أرزاقنا ومقومات حياتنا، وجعلها مناسبة لهذا الإنسان الذي كرمه وجعله خليفة له في الأرض، وجعل لهذا الرزق ولهذه المقومات حدودا حدها وبينها هي ( الحلال )، فلا ينبغي لك بعد أن تتعدى هذه الحدود، وتطغى في تناول طعامك وشرابك.
ونحن نرى حتى الآلات التي صنعها البشر، لكل منها وقودها الخاص، وإذا أعطيتها غيره لا تؤدي مهمتها، فمثلا لو وضعت للطائرة سولارا لا تتحرك، فليس هو الوقود المناسب لطبيعتها.
إذن : حدودك في مقومات حياتك الحلال، ولو استقرأنا ما أحل الله وما حرم لوجدنا الأصل في الأشياء أنها حلال، والكثير هو المحلل لك، أما المحرم عليك فهو القليل المحصور الذي يمكن تحديده.
لذلك يقول عز وجل :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم.. ( ١٥١ ) ﴾ ( الأنعام ) : ولم يقل مثلا في آية أخرى : تعالوا أتل ما أحل الله لكم ؛ لأنها مسألة تطول ولا تحصى.
إذن : ساعة أعطاك ربك قال لك : هذا رزقك الحلال الخالص، ومنه وقودك ومقومات حياتك، وبه بقاؤك ونشاط حركتك. فلا تتعد الحلال على كثرته إلى الحرام على قلته وانحصاره في عدة أنواع، بينها لك وحذرك منها.
وبالغذاء تتم في الجسم عملية ( الأيض ) يعني : الهدم والبناء، وهي عميلة مستمرة في كل لحظة من لحظاتك، فإياك أن تبني ذرة من ذراتك من الحرام ؛ لأن ذرة الحرام هذه تظل تشاغبك وتلح عليك كي توقعك في أصلها.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال :﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم ( ٥١ ) ﴾ ( المؤمنون )، وقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ( ١٧٢ ) ﴾ ( البقرة ) ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، ثم يمد يديه إلى السماء : يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك )١.
ذلك لأن ذرات بنائه غير منسجمة، لأنها نمت على وقود ما أحله الله له.
لذلك تسمع من بعض المتمحكين : ما دام أن الله خلق الخنزير فلماذا حرمه ؟ نقول : لقد فهمت أن كل مخلوق خلق ليؤكل، وهذا غير صحيح، فالله خلق البترول الذي تعمل به الآلات، أتستطيع أن تشربه كالسيارة ؟
إذن : فرق بين شيء مخلوق لشيء، وأنت توجهه لشيء آخر، هذه تسمى إحالة أي : تحويل الشيء إلى غير ما جعل له، وهذا هو الطغيان في القوت ؛ لأنك نقلت الحرام إلى الحلال.
وقد يأتي الطغيان في صورة أخرى، كأن تأكل ما أحل الله من الطيبات، لكنك تحصل عليها بطريق غير مشروع، وتعود نفسك الكسل عن الكسب الحلال، فتأخذ مجهود غيرك وتعيش عالة عليه، فإلى جانب أنك تتغذى على الحرام فأنت أيضا تزهد غيرك في الحركة والإنتاج والملك، وما فائدة أن يتعب الإنسان ويأخذ غيره ثمرة تعبه ؟
وقد أخذ الطغيان بهذا المعنى صورا متعددة في مجتمعاتنا، فيمكن أن ندرج تحته : الغصب، والخطف، والسرقة، والاختلاس، والرشوة، وخيانة الأمانة، وخداع من استأجرك إلى غير ذلك من أخذ أموال الناس بالباطل ودون وجه حق، وكل عمل من هذه التعديات له صورته.
فالخطف : أن تخطف مال غيرك دون أن يكون في متناول يد المخطوف منه ثم تفر به، فإن كان في متناول يده وأنت غالبته عليه، وأخذته عنوة فهو غصب مأخوذ من : غصب الجلد عن الشاة أي : سلخه عنها. فإن كان أخذ المال خفية وهو في حرزه فهي سرقة. وإن كنت مؤتمنا على مال بين يديك فأخذت منه خفية فهو اختلاس.. الخ.
إذن : أحل الله لك أشياء، وحرم عليك أخرى، فإن كان الشيء في ذاته حلالا فلا تأخذه إلا بحقه حتى يحترم كل منا عمل الآخر وحركته في الحياة وملكيته للأشياء، وبذلك تستقيم بنا حركة الحياة، ويسعد الجميع، ونعين المنفق، ونأخذ على يد المتسيب البلطجي.
وللإسلام منهج قويم في القضاء على مسألة البطالة، تأخذ به بعض النظم الحديثة الآن، وهو أن الشرع يأمر للقضاء على البطالة أن تحفر بئرا وتطمها : أي احفرها واردمها ثم اعط الأجير فيها أجره. كيف هذا ؟ تحفر البئر ولا تستفيد منها وتردمها فما الفائدة ؟ ولماذا لم نعط الأجير أجره دون حفر ودون ردم ؟
قالوا : حتى لا يتعود على الخمول والكسل، وحتى لا يأكل إلا من عرقه وكده، وإلا فسد المجتمع.
وللطغيان في القوت صورة أخرى، هي أن تستخدم القوت الذي جعله الله طاقة لك في حركة الحياة النافعة، فإذا بك تصرف هذه الطاقة التي أنعم الله بها عليك في معصيته.
وهكذا، كان الطغيان هو علة ﴿ وما ظلمناهم.. ( ١١٨ ) ﴾ ( النحل ) : أي : بالعقوبة ﴿ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( ١١٨ ) ﴾ ( النحل ) : أي : بالطغيان.
ثم يقول تعالى :﴿ فيحل عليكم غضبي.. ( ٨١ ) ﴾ ( طه ) : الفعل : حل، يحل يأتي بمعنى : صار حلالا، كما تقول للسارق : حلالا فيه السجن، وتأتي حل يحل بمعنى : نزل في المكان، تقول : حل بالمكان أي : نزل به. فيكون المعنى :﴿ فيحل عليكم غضبي.. ( ٨١ ) ﴾ ( طه ) : أي : صار حلالا، ووجب لكم، أو بمعنى : ينزل بكم.
وقد يكون المعنى أعم من هذا كله.
والغضب انفعال نفسي يحدث تغييرا في كيماوية الجسم، فترى الغاضب قد انتفخت أوداجه واحمر وجهه، وتغيرت ملامحه، فهذه أغيار تصاحب هذا الانفعال. فهل غضب الله عز وجل من هذا النوع ؟
بالطبع لا، لأنه تعالى ليس عنده أغيار، وإذا كان الغضب يتناسب وقدرة الغاضب على العذاب، فما بالك إن كان الغضب من الله ؟
ثم يقول تعالى :﴿ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ( ٨١ ) ﴾ ( طه ) :
مادة : هوى لها استعمالان : الأول : هوى يهوي : يعني سقط من أعلى سقوطا لا إرادة له في منعه، كأن يسقط فجأة من على السطح مثلا، ومن ذلك قوله :
* هوي الدلو أسلمها الرشاء٢ *
إذا انقطع الحبل الذي يخرج الدلو.
والآخر : هوى يهوي : أي أحب.
فيكون المعنى ﴿ فقد هوى ( ٨١ ) ﴾ ( طه ) : سقط إلى القاع سقوطا لا يبقى له قيمة في الحياة، أو هوى في الدنيا، ويهوي في الآخرة، كما جاء في قوله تعالى :﴿ فأمه هاوية ( ٩ ) ﴾ ( القارعة ) : فأمه ومصدر الحنان له هاوية، فكيف به إذا هوى في الهاوية ؟
هذه كلها عظات ومواعظ للمؤمن، يبينها الحق – سبحانه وتعالى – له – كي يبني حركة حياته على ضوئها وهداها.
ولما كان الإنسان عرضة للأغيار لا يثبت على حال يتقلب بين عافية ومرض، بين غنى وفقر، فكل ما فيه موهوب له لا ذاتي فيه، لذلك إياك أن تحزن حين يفوتك شيء من النعمة ؛ لأنها لن تبقى ولن تدوم، وهب أنك بلغت قمة النعيم، فماذا تنتظر إلا أن تزول، كما قال الشاعر :
إذا تم شيء بدا نقصه **** ترقب زوالا إذا قيل تم
فإذا تم لك الشيء، وأنت ابن أغيار، ولا يدوم لك حال فلا بد لك أن تنحدر إلى الناحية الأخرى.
فكأن نقص الإنسان في آماله في الحياة هي تميمة حراسة النعم، وما فيه من نقص أو عيب يدفع عنه حسد الحاسد، كما قال الشاعر في المدح :
شخص الأنام إلى كمالك
فاستعذ من شر أعينهم بغيب واحد
أي : أن الأعين متطلعة إليك، فاصرفها عنك، ولو بعيب واحد يذكره الناس وينشغلون به.
وفي الريف يعيش بعض الفلاحين على الفطرة، فإن رزق أحدهم بولد جميل وسيم يلفت نظر الناس إليه، تراهم يتعمدون إهمال شكله ونظافته، أو يضعون له ( فاسوخة ) دفعا للحسد وللعين.
لذلك، فالمرأة التي دخلت على الخليفة، فقالت له : أتم الله عليك نعمته، وأقر عينك، ففهم الحضور أنها تدعو له، فلما خرجت قال الخليفة : أعرفتم ما قالت المرأة ؟ قالوا : تدعو لك، قال : بل تدعو علي، فقد أرادت بقولها : أتم الله عليك نعمته تريد أزالها، لأن النعمة إذا تمت لم يبق لها إلا الزوال، وقولها : أقر الله عينك تريد : أسكنها عن الحركة.
إذن : لا تغضب إن قالوا عنك : ناقص في كذا، فهذا النقص هو تميمة الكمال، ويريدها الله لك لمصلحتك أنت.
وما دام الإنسان ابن أغيار، فلا بد أن يغفل عن منهج الله، فتكون له سقطات وهفوات تحتاج إلى غفران ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ( ٨٢ ) ﴾.
١ أخرجه أحمد في مسنده (٢ / ٣٢٨)، ومسلم في صحيحه (١٠١٥) كتاب الزكاة، والترمذي في سننه (٢٩٨٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٢ الرشاء: الحبل. وأرشى الدلو: جعل لها رشاء أي حبلا. (لسان العرب – مادة: رشا). وقد ذكر ابن منظور هذا الشرط في (لسان العرب - مادة: هوى) قال: (قال ابن برى: ذكر الرياشي عن أبي زيد أن الهوى بفتح الهاء إلى أسفل، وبضمها إلى فوق)..
غفار : صيغة مبالغة من غفر، فإذا أثبت المبالغة فالترتيب اللغوي بالتالي يثبت الأقل وهو غافر، هذا في الإثبات. وكذلك في النفي في مثل قوله تعالى :﴿ وما ربك بظلام للعبيد ( ٤٦ ) ﴾ ( فصلت ) : فنفى المبالغة في الظلم، فهل يعني ذلك أنه – تبارك وتعالى – يمكن أن يكون ظالما ؟
والشيء يبالغ فيه لأمرين : الأول : أن تبالغ في نفس الحدث، كأن تأكل رغيفا في الوجبة أو رغيفين، وآخر يأكل خمسة أرغفة، فهذه منه مبالغة في نفس الحدث وهو الأكل، والثاني : قد تكون المبالغة بتكرار الحدث، فالعادة أن نأكل ثلاث مرات، وهناك من يأكل ست وجبات، ونسميه ( أكول ) أي : كثير الأكل، لا في الوجبة الواحدة، إنما في عدد الوجبات.
فمعنى ( غفار ) غافر لي، وغافر لك، وغافر لهذا وهذا.. غافر لكل الخلق، فتكررت مغفرته عز وجل لخلقه.
وقد شرع الحق – سبحانه وتعالى – المغفرة والتوبة ليحمي المجتمعات من شرار الناس فيها، فالشرير إذا ارتكب جريمة ولم يجد له فرصة للمغفرة والتوبة، فإنه يستمرئ الجريمة، بل ويبالغ فيها.
أما إذا فتح له باب التوبة والمغفرة فإن هذا يرحم المجتمع من شراسة أصحاب السوء.
والله – عز وجل – ليس غافرا للذنوب فحسب، بل هو غفار لها، وكلما عدت إليه غفر لك، لكن وطن نفسك أنك إذا فعلت الذنب وتبت منه فلا تعد إليه، ولا ترتب وتخطط لمعصيتك على أمل أن تتوب، فما يدريك أن تعيش إلى أن تتوب ؟
والمغفرة تكون ﴿ لمن تاب وآمن.. ( ٨٢ ) ﴾ ( طه ) : وما دام قال ﴿ تاب وآمن.. ( ٨٢ ) ﴾ ( طه ) : فلا بد أن التوبة هنا عن الكفر، ثم أنشأ إيمانا بالله وبرسوله. والإيمان هو الينبوع الذي يصدر عنه السلوك البشري، وهذا يقتضي أن تسمع كلامه وتنفذ أوامره، وتجتنب نواهيه، وهذا هو المراد بقوله :﴿ وعمل صالحا.. ( ٨٢ ) ﴾ ( طه ).
لكن، أليس العمل الصالح هداية ؟ فلماذا قال بعدها :﴿ ثم اهتدى ( ٨٢ ) ﴾ ( طه ) : قالوا١ : لأن الهداية أن تستمر على هذا العمل الصالح، وان تستزيد منه، كما قال تعالى :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى.. ( ١٧ ) ﴾ ( محمد )
١ قال سفيان الثوري وقتادة وغيرهما، وقد ذكره القرطبي في تفسيره (٦ / ٤٤٠٤) وذكر بعده سبعة أقوال أخرى:
أي: لم يشك في إيمانه. قاله ابن عباس، وذكره الماوردي والمهدوي
أقام على السنة والجماعة. قاله ابن عباس أيضا، وذكره الثعلبي.
أخذ بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قاله أنس، وذكره المهدوي.
أصاب العمل. قاله ابن زيد، ذكره المهدوي.
تعلم العلم ليهتدي كيف يفعل. قاله ابن زيد.
علم أن لذلك ثوابا وعليه عقابا، قاله الشعبي ومقاتل والكلبي والفراء.
اهتدى في ولاية أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قاله ثابت البناني.
ثم قال القرطبي: (والقول الأول أحسن هذه الأقوال – إن شاء الله – وإليه يرجع سائرها)..

ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ١يَا مُوسَى ( ٨٣ ) ﴾.
نقول : ما أعجلك ؟ يعني : ما أسرع بك ؟ لماذا جئت قبل موعدك ؟ وكان موسى عليه السلام على موعد مع ربه – عز وجل – ليتلقى عنه المنهج، والمفروض في هذا اللقاء أن يأتي معه مجموعة من صفوة قومه ورؤسائهم، فتعجل موسى موعد ربه، وذهب دون قومه، فقال له :﴿ وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى ( ٨٣ ) ﴾ ( طه ) أي : أسرعت وتعجلت وجئت بدونهم.
١ قال القرطبي في تفسيره (٦ / ٤٤٠٦): (قال قوم: أراد بالقوم السبعين الذين اختارهم، وكان موسى لما قرب من الطور سبقهم شوقا إلى سماع كلام الله) وقد قال تعالى: ﴿واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا............ (١٥٥)﴾ (الأعراف)..
فقال موسى عليه السلام :﴿ قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ( ٨٤ ) ﴾.
أي : قادمين خلفي وسيتبعونني، أما أنا فقد ﴿ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ( ٨٤ ) ﴾ ( طه ) : تعجلت في المثول بين يديك لترضى.
وقد تعجل موسى إلى ميقات ربه، وسبق قومه لحكمة، فالإنسان حين يأمر غيره بأمر فيه مشقة على النفس وتقييد لشهواتها، لا بد أن يبدأ بنفسه يقول : أنا لست بنجوة عن هذا الأمر، بل أنا أول من أنفذ ما آمركم به وسوف أسبقكم إليه.
لذلك يقول القائد الفاتح طارق بن زياد١ لجنوده :( واعلموا أني إذا التقى الفريقان مقبل بنفسي على طاغية القوم – لزريق – فقاتله إن شاء الله، فإن قتلته فقد كفيتم أمره ) وهكذا تكون القيادة قدوة ومثلا كما يقولون في الأمثال ( اعمل كذا وإيدي في إديك ) وهنا يقول : يدي قبل يديك.
فموسى عليه السلام يقول :﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ( ٨٤ ) ﴾ ( طه ) : ترضى أن منهجك يطبق من جهتي كرسول مؤتمن عليه، ومن جهة قومي، لأنهم حين يروني قد تعجلت للقائك في الموعد يعلمون أن في ذلك خيرا لهم، وإلا ما سبقتهم إليه. وبذلك يسود منهج الله ويمكن في الأرض. وإذا ساد منهج الله رضي الله – عن خليفته في الأرض.
١ هو: طارق بن زياد الليثي بالولاء، فاتح الأندلس، أصله من البربر، أسلم على يد موسى بن نصير، فكان من أشد رجاله ولد نحو ٥٠ هـ، تغلغل في أرض الأندلس. وتوفي عام ١٠٢ هـ. (الأعلام – للزركلي – ٣ / ٢١٧)..
ثم يخبر الحق – تبارك وتعالى – نبيه موسى – عليه السلام – بما كان من قومه بعد مفارقته لهم من مسألة عبادة العجل. ﴿ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ( ٨٥ ) ﴾.
الفتنة : ليست مذمومة في ذاتها ؛ لأن الفتنة تعني الاختبار، ونتيجته هي التي تحمد أو تذم، كما لو دخل التلميذ الامتحان فإن وفق فهذا خير له، وإن أخفق فهذا خير للناس، كيف ؟
قالوا : لأن هناك أشياء إن تحققت مصلحة الفرد فيها انهدمت مصلحة الجماعة، فلو تمكن التلميذ المهمل الكسول من النجاح دون مذاكرة ودون مجهود، فقد نال انتفاعا شخصيا، وإن كان انتفاعا أحمق، إلا أنه سيعطي الآخرين إشارة، ويوحي لهم بعدم المسئولية، ويفرز في المجتمع الإحباط والخمول، وكفى بهذا خسارة للمجتمع.
وقد جاءت الفتنة بهذا المعنى في قول الحق تبارك وتعالى :﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ( ٢ ) ﴾ ( العنكبوت ).
إذن : لا بد من الاختبار لكي يعطى كل إنسان حسب نتيجته، فإن سأل سائل : وهل يختبر الله عباده ليعلم حالهم ؟ نقول : بل ليعلم الناس حالهم، وتتكشف حقائقهم فيعاملونهم على أساسها : هذا منافق، وهذا مخلص، وهذا كذاب، فيمكنك أن تحتاط في معاملتهم.
إذن : الاختبار لا ليعلم الله، ولكن ليعلم خلق الله.
أو : لأن الاختبار من الله لقطع الحجة على المختبر، كأن يقول : لو أعطاني الله مالا فسأفعل به كذا وكذا من وجوه الخير، فإذا ما وضع في الاختبار الحقيقي وأعطي المال أمسك وبخل، ولو تركه الله دون مال لقال : لو عندي كنت فعلت كذا وكذا.
فهناك علم واقع من الله، أو علم من خلق الله لكل من يفتن، فإن كان محسنا يقتدون به، ويقبلون عليه، ويحبونه ويستمعون إليه، وإلا انصرفوا عنه. فالاختبار - إذن - قصده المجتمع وسلامته.
وقد سمى الحق سبحانه ما حدث من بني إسرائيل في غياب موسى من عبادة العجل سماه فتنة، ثم نسبها إلى نفسه ﴿ فتنا.. ( ٨٥ ) ﴾ ( طه ) : أي : اختبرنا.
ثم يقول تعالى :﴿ وأظلهم السامري ( ٨٥ ) ﴾ ( طه ) : أضلهم : سلك بهم غير طريق الحق، وسلوك غير طريق الحق قد يكون للذاتية المحضة، فيحمل الإنسان فيها وزر نفسه فقط، وقد تتعدى إلى الآخرين فيسلك بهم طريق الضلال، فيحمل وزره ووزر غيره ممن أضلهم.
وفي هذه المسألة يقول تعالى :﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم.. ( ٢٥ ) ﴾ ( النحل )
مع أن الله تعالى قال في آية أخرى :﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى.. ( ١٨ ) ﴾ ( فاطر ).
وهذه من المسائل التي توقف عندها بعض المستشرقين، محاولين اتهام القرآن وأسلوبه بالتناقض، وما ذلك منهم إلا لعدم فهمهم للغة القرآن واتخاذها صناعة لا ملكة، ولو فهموا القرآن لعلموا الفرق بين أن يضل الإنسان في ذاته، وبين أن يتسبب في إضلال غيره.
والسامري١ : اسمه موسى السامري، ويروى أن أمه وضعته في صحراء لا حياة فيها، ثم ماتت في نفاسها، فظل الولد بدون أم ترعاه، فكان جبريل عليه السلام يتعهده ويربيه إلى أن شب٢.
وقد عبر الشاعر عن هذه اللقطة وما فيها من مفارقات بين موسى عليه السلام وموسى السامري، فقال :
إذا لم تصادف في بنيك عناية****فقد كذب الراجي وخاب المؤمل
فموسى الذي رباه جبريل كافر****وموسى الذي رباه فرعون مرسل
١ قال ابن عباس: كان السامري من قوم يعبدون البقر، فوقع بأرض مصر فدخل في دين بني إسرائيل بظاهره، وفي قلبه ما فيه من عبادة البقر: وقيل: كان رجلا من القبط. وكان جارا لموسى آمن به وخرج معه. وقيل: كان عظيما من عظماء بني إسرائيل، من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام. (تفسير القرطبي ٦ / ٤٤٠٧)..
٢ قال ابن عباس: في قوله تعالى عن السامري: ﴿قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول..................... (٩٦)﴾ (طه): (عرف السامري جبريل، لأن أمه حين خافت أن يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه، فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه، في واحدة لبنا، وفي الأخرى عسلا، وفي الأخرى سمنا، فلم يزل يغذوه حتى نشأ، فلما عاينه في البحر عرفه)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي ( ٨٦ ) ﴾.
رجع : تستعمل لازمة، مثل : رجع فلان إلى الحق. ومتعدية مثل :﴿ فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستئذنوك للخروج.. ( ٨٣ ) ﴾ ( التوبة ) : والمعنى فيهما مختلف.
هنا رجع موسى أي : حين سمع ما حدث لقومه من فتنة السامري ﴿ غضبان أسفا.. ( ٨٦ ) ﴾ ( طه ) أي : شديد الحزن على ما حدث ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا.. ( ٨٦ ) ﴾ ( طه ) : الوعد الحسن أن الله يعطيهم التوراة، وفيها أصول حركة الحياة، وبها تحسن حياتنا في الدنيا، ويحسن ثوابنا في الآخرة.
وقوله :﴿ أفطال عليكم العهد.. ( ٨٦ ) ﴾ ( طه ).
يعني : أطال عهدي بكم، وأصبح بعيدا لدرجة أن تنسوه، ولم أغب عنكم إلا مدة يسيرة. قال الله عنها :﴿ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر.. ( ١٤٢ ) ﴾ ( الأعراف ).
ثم يقول :﴿ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي ( ٨٦ ) ﴾ ( طه ).
وما دام أن عهدي بكم قريب لا يحدث فيه النسيان، فلا بد أنكم تريدون العصيان، وتبغون غضب الله، وإلا فالمسألة لا تستحق، فبمجرد أن أغيب عنكم تنتكسون هذه النكسة، وإن كان هذا حال القوم ورسولهم ما زال بين أظهرهم، فما بالهم بعد موته ؟
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( أذلك وأنا بين ظهرانيكم ؟ )١.
أي : ما هذا الذي يحدث منكم، وأنا مازلت موجودا بينكم ؟
وقوله :﴿ فأخلفتم موعدي ( ٨٦ ) ﴾ ( طه )، وفي آية أخرى قال :﴿ بئسما خلفتموني من بعدي.. ( ١٥٠ ) ﴾ ( الأعراف ) : فكأنه كان له معهم وعد وكلام، فقد أوصاهم قبل أن يفارقهم أن يسلكوا طريق هارون، وأن يطيعوا أوامره إلى أن يعود إليهم، فهارون هو الذي سيخلفه من بعده في قومه، وهو شريكه في الرسالة، وله مهابة الرسول وطاعته واجبة.
هذا هو الوعد الذي أخلفوه مع نبيهم موسى – عليه السلام – ﴿ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ( ٨٧ ) ﴾.
١ أخرج النسائي في سننه (٦ / ١٤٢) كتاب الطلاق من حديث محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبانا، ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين ظهرانيكم حتى قام رجل وقال: يا رسول اله، ألا أقتله..
مادة ( ملك ) لها صور ثلاثة، لكل منها معنى، وليست بمعنى واحد كما يدعي البعض، فتأتي ملك بفتح الميم، وملك بكسرها، وملك بضم الميم، وجميعها تفيد الحيازة والتملك، إلا أن ملك تعني تملك الإنسان لنفسه وذاته وإرادته، دون أن يملك شيئا آخر مما حوله.
وملك : لتملك ما هو خارج عن ذاتك.
وملك : أن تملك شيئا، وتملك من ملكه.
إذن : هذه الثلاثة ليست مترادفات بمعنى واحد. فقوله تعالى :﴿ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا.. ( ٨٧ ) ﴾ ( طه ) : أي : بإرادتنا، بل أمور أخرى خارجة عن إرادتنا حملتنا على إخلاف الوعد، فما هذه الأمور الخارجة عن إرادتكم ؟
قالوا :﴿ وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ.. ( ٨٧ ) ﴾ ( طه ).
( أوزرا ) جمع وزر، وهو الشيء الثقيل على النفس، ويطلق الوزر على الإثم، لأنه ثقيل على النفس ثقلا يتعدى إلى الآخرة أيضا، حيث لا ينتهي ألم الحمل فيها ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ وساء لهم يوم القيامة حملا ( ١٠١ ) ﴾ ( طه ).
وكانت هذه الأوزار من زينة القوم : أي : قوم فرعون. وقالوا : إنهم كانوا في أعيادهم يستعيرون الحلي من جيرانهم ومعارفهم من قوم فرعون يتزينون بها. فلماذا لم يردوا الأمانات هذه إلى أصحابها قبل أن يخرجوا إلى الميقات الذي واعدهم عليه ؟
قالوا : لأنهم أرادوا أن يسروا ساعة خروجهم حتى لا يستعد لهم أعداؤهم، ويصدوهم عن الخروج فأعجلوا عن ردها.
وقال قوم : إن هذه الزينات والحلي كانت مما قذف به البحر بعد أن غرق فرعون وقومه، لكن هذا القول مردود ؛ لأنهم إن أخذوها بعد أن ألقى بها البحر فسوف تكون أسلابا لا أوزارا.
ثم يقول تعالى :﴿ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ( ٨٧ ) ﴾ ( طه ).
إذا أطلقت الزينة تنصرف عادة إلى الذهب. والقذف هو الرمي بشدة، وكأن الرامي يتأفف أن يحمل المرمى، وفي ذلك دلالة على أن بني إسرائيل ما يزال عندهم خميرة إيمان، فتألموا وحزنوا لأنهم لم يردوا الأمانات إلى أهلها.
لذلك دخل عليهم السامري من هذه الناحية، فأفهمهم : إنكم لن تبرأوا من هذه المعصية إلا أن ترموا بهذه الزينة في النار١، وهو يقصد شيئا آخر، هو أن ينصهر الذهب، ويخرج ما فيه من الشوائب ﴿ فكذلك ألقى السامري ( ٨٧ ) ﴾ ( طه ) : أي : ألقى ما معه من الحلي، لكن فرق بين القذف والإلقاء، الإلقاء فيه لطف وتمهل، فهو كبيرهم ومعلمهم.
١ أورد القرطبي في تفسيره (٦ / ٤٤٠٨) نحو هذا من قول قتادة: إن السامري قال لهم حين استبطأ القوم موسى: إنما احتبس عليكم من أجل ما عندكم من الحلي، فجمعوه ودفعوه إلى السامري فرمى به في النار، وصاغ لهم منه عجلا، ثم ألقى عليه قبضة من أثر فرس الرسول وهو جبريل عليه السلام..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ١فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ( ٨٨ ) ﴾.
أي : أخرج لهم من هذا الذهب المنصهر ﴿ عجلا جسدا.. ( ٨٨ ) ﴾ ( طه ) : كلمة جسد وردت أيضا في القرآن في قصة سليمان عليه السلام، حيث قال تعالى :﴿ ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ( ٣٤ ) ﴾ ( ص ).
وقد أعطى الله سليمان ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعده، فسخر له الطير والجن والإنس، والريح يأتمرون بأمره، ويبدوا أنه أخذه شيء من الزهو أو الغرور، فأراد الحق سبحانه أن يلفته إلى مانح هذا الملك ويذكره بأن هذا الملك لا يقوم بذاته، إنما بأمر الله القادر على أن يقعدك على كرسيك جسدا، لا حركة فيه ولا قدرة له حتى على جوارحه وذاته.
كما ترى الرجل – والعياذ بالله – قد أصابه شلل كلي أقعده جسدا، لا حركة فيه، ولا إرادة على جوارحه. فإذا لم تكن له إرادة على جارحة واحدة من جوارحه، أفتكون له إرادة على الخارج عنه من طير أو إنس أو جن ؟
فلا تغتر بأن جعل الله لك إمرة على كل الأجناس ؛ لأنه قادر أن يسلبك هذا كله.
ويروى٢ أن سليمان – عليه السلام – ركب بساط الريح يحمله إلى حيث يريد، كما قال تعالى :﴿ ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر.. ( ١٢ ) ﴾ ( سبأ ) : فداخله شيء من الفخر والزهو، فسمع من تحته من يقول : يا سليمان – هكذا دون ألقاب – أمرنا أن نطيعك ما أطعت الله، ثم رده حيث كان.
لذلك استغفر سليمان – عليه السلام – وأناب.
وكذلك نرى الإنسان ساعة أن يموت أول ما ينسى منه اسمه، فيقولون : الجثة : الجثة هنا : ماذا فعلتم بالجثة، ثم تنسى هذه أيضا بمجرد أن يوضع في نعشه فيقولون الخشبة : أين الخشبة الآن، انتظروا الخشبة.. سبحان الله بمجرد أن يأخذ الخالق – عز وجل – سره من العبد صار جثة، وصار خشبة، فما هذه الدنيا التي تكون نهايتها هكذا ؟
ففي قوله تعالى :﴿ عجلا جسدا له خوار.. ( ٨٨ ) ﴾ ( طه ) : أي : لا حركة فيه، فهو مجرد تمثال. صنع على هيئة معينة، بحيث يستقبل الريح، فيحدث فيه صفيرا يشبه الخوار : أي صوت البقر.
لكن، لماذا فكر السامري هذا التفكير، واختار مسألة العجل هذه ؟
قالوا : لأن السامري استغل تشوق بني إسرائيل. وميلهم إلى الصنمية والوثنية، وأنها متأصلة فيهم. ألم يقولوا لنبيهم عليه السلام وما زالت أقدامهم مبتلة من البحر بعد أن أنجاهم الله من فرعون، وكان جديرا بهم شكر الله، فإذا بهم يقولون وقد أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم :﴿ يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة.. ( ١٣٨ ) ﴾ ( الأعراف ).
فجاءهم بهذا العجل، وقد ترقى به من الصنمية، فجعله جسدا، وجعل له خوارا وصوتا مسموعا.
ثم يقول تعالى :﴿ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ( ٨٨ ) ﴾ ( طه ) : أي : نسي السامري خميرة الإيمان في نفسه، ونسى أن هذا العمل خروج عن الإيمان إلى الكفر، وليته يكفر في ذاته، إنما هو يكفر ويكفر الناس. لا بد له أنه نسى، فلو كان على ذكر من الإيمان ومن عاقبة عمله وخيبة ما أقدم عليه ما فعل٣.
١ الخوار: صوت الثور وما اشتد من صوت البقفرة والعجل، وقد خار يخور: صاح. (لسان العرب – مادة: خور)..
٢ أخرج الخطيب البغدادي فغي رواية مالك عن سعيد بن المسيب – رضي اله عنه – قال: كان سليمان عليه السلام يركب الريح من اصطخر، فيتغذى بيت المقدس، ثم يعود فيتعشى باصطخر. أورده السيوطي في الدر المنثور (٦ / ٦٧٧)..
٣ وقد قيل في هذه الآية تأويل آخر ذكره القرطبي في تفسيره (٦ / ٤٤٠٩) وابن كثير في تفسيره (٣ / ١٦٢) ومؤدى هذا أنه من كلام السامري عن موسى أنه ضل وذهب يطلب إلهه وهو هنا. وعن ابن عباس قال: (أي فنسى موسى أن يذكر لكم أنه إلهه)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ( ٨٩ ) ﴾.
أي : كيف يعبدون هذا العجل، وهو لا يرد عليهم جوابا، ولا يملك لهم شيئا، كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ واتل عليهم نبأ إبراهيم ( ٦٩ ) إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون ( ٧٠ ) قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين ( ٧١ ) قال هل يسمعونكم إذ تدعون ( ٧٢ ) أو ينفعوكم أو يضرون ( ٧٣ ) ﴾ ( الشعراء ).
فمن كان لديه ذرة من عقل لا يقدم على هذه المسألة ؛ لذلك فالحق – سبحانه – يناقش هؤلاء :﴿ كيف تكفرون بالله.. ( ٢٨ ) ﴾ ( البقرة ).
أي : أخبرونا بالطريق الذي يحملكم على الكفر، كأنها مسألة عجيبة لا يقبلها العقل ولا يقرها. ألم يخطر ببال هؤلاء الذين عبدوا العجل أنه لا يرد عليهم إن سألوه، ولا يملك لهم ضرا إن كفروا به، ولا نفعا إن آمنوا به وعبدوه.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ( ٩٠ ) ﴾.
وكان هارون – عليه السلام – خليفة لأخيه في غيبته، كما قال تعالى :﴿ وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ( ١٤٢ ) ﴾ ( الأعراف ).
اخلفني واعمل الصالح، فكان هذا تفويضا من موسى لأخيه هارون أن يقضي في القوم بما يراه مناسبا، وأن يقدر المصلحة كما يرى. وقد شفع هذا التفويض لهارون أمام أخيه بعد ذلك.
فقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ.. ( ٩٠ ) ﴾ ( طه ).
وهكذا وعظهم هارون على قدر استطاعته، وبين لهم أن مسألة العجل هذه اختبار من الله. وكان تقديره في هذه القضية ألا يدخل مع هؤلاء في معركة ؛ لأن القوم كانوا جميعا ثلاثمائة ألف، عبد العجل منهم اثنا عشر ألفا، ولو جعلها هارون – عليه السلام – معركة لأفنى كل هذا العدد.
لذلك اكتفى بالوعظ ﴿ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَانُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ( ٩٠ ) ﴾ ( طه ). كما أخذتم العهد عند موسى.
﴿ لن نبرح.. ( ٩١ ) ﴾ ( طه ) : أي : سنظل على هذا الحال، البعض يظن أنها للمكان فقط، إنما هي حسب ما تتعلق به، تقول : لا أبرح سائرا حتى أصل لغرضي، ولا أبرح هذا المكان فقد تكون للمكان، وقد تكون للحال. كما ورد في القرآن :
- للمكان والإقامة في قوله :﴿ فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي.. ( ٨٠ ) ﴾ ( يوسف ).
- وللحال في قوله تعالى :﴿ وإذا قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين.. ( ٦٠ ) ﴾ ( الكهف ) أي : لا أبرح السير.
فالمعنى :﴿ لن نبرح عليه عاكفين.. ( ٩١ ) ﴾ ( طه ) : سنظل على عبادته حتى يرجع موسى، فلن نمكث هذه الفترة دون إله.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ( ٩٢ ) ﴾.
هذا حوار دار بين موسى وأخيه هارون ﴿ ما منعك.. ( ٩٢ ) ﴾ ( طه ) : وقد وردت هذه الكلمة في القرآن بأسلوبين : الأول : قوله تعالى :﴿ ما منعك أن تسجد.. ( ٧٥ ) ﴾ ( ص ) : أي : ما منعك من السجود.
والآخر :﴿ ما منعك ألا تسجد.. ( ١٢ ) ﴾ ( الأعراف ) : أي : ما منعك أن لا تسجد، لأن المانع قد يكون قهرا عنك، وأنت لا تريد أن تفعل وقد يأتي آخر فيقنعك أن تفعل. فمرة يرغمك : أنت لا تريد أن تسجد يقول لك : اسجد. إذن : منعك أن تسجد يعني قهرا عنك، لكن أقنعك أن تسجد أنت باختيارك فقد منعك ألا تسجد.
إذن : مرة من النفس، ومرة من الغير، وهكذا يلتقي الأسلوبان.
فقوله :﴿ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ( ٩٢ ) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ( ٩٣ ) ﴾ ( طه ) : أي : من إتباعي، لكن هل موسى عليه السلام هنا يستفهم ؟ الحقيقة أنه لا يريد الاستفهام، فقد تخاطب إنسانا بذنب، وأنت لا تعلم ذنبه، إنما تخاطبه بصورة الذنب لتسمع الرد منه، فيكون ردا على من يعترض عليه.
ومن ذلك ما كان من سيدنا عمر – رضي الله عنه – عند الحجر الأسود، فلما قبله قال :( اللهم إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك )١.
إذن : قبله عمر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله، إلا أنه جاء بهذا الكلام ليعطينا الجواب المستمر على مر التاريخ لكل من يسأل عن تقبيل الحجر.
وهنا أثارها موسى شبهة ؛ كي نسمع نحن الجواب، ولنسمع الرد من صاحب الشأن باقيا سائرا في طول الأزمان.
١ أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (١٢٧٠) كتاب الحج. قال النووي في شرحه: (وإنما قال: وإنك لا تضر ولا تنفع، لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها ورجاء نفعها.)..
هذا حوار دار بين موسى وأخيه هارون ﴿ ما منعك.. ( ٩٢ ) ﴾ ( طه ) : وقد وردت هذه الكلمة في القرآن بأسلوبين : الأول : قوله تعالى :﴿ ما منعك أن تسجد.. ( ٧٥ ) ﴾ ( ص ) : أي : ما منعك من السجود.
والآخر :﴿ ما منعك ألا تسجد.. ( ١٢ ) ﴾ ( الأعراف ) : أي : ما منعك أن لا تسجد، لأن المانع قد يكون قهرا عنك، وأنت لا تريد أن تفعل وقد يأتي آخر فيقنعك أن تفعل. فمرة يرغمك : أنت لا تريد أن تسجد يقول لك : اسجد. إذن : منعك أن تسجد يعني قهرا عنك، لكن أقنعك أن تسجد أنت باختيارك فقد منعك ألا تسجد.
إذن : مرة من النفس، ومرة من الغير، وهكذا يلتقي الأسلوبان.
فقوله :﴿ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ( ٩٢ ) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ( ٩٣ ) ﴾ ( طه ) : أي : من إتباعي، لكن هل موسى عليه السلام هنا يستفهم ؟ الحقيقة أنه لا يريد الاستفهام، فقد تخاطب إنسانا بذنب، وأنت لا تعلم ذنبه، إنما تخاطبه بصورة الذنب لتسمع الرد منه، فيكون ردا على من يعترض عليه.
ومن ذلك ما كان من سيدنا عمر – رضي الله عنه – عند الحجر الأسود، فلما قبله قال :( اللهم إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك )١.
إذن : قبله عمر، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله، إلا أنه جاء بهذا الكلام ليعطينا الجواب المستمر على مر التاريخ لكل من يسأل عن تقبيل الحجر.
وهنا أثارها موسى شبهة ؛ كي نسمع نحن الجواب، ولنسمع الرد من صاحب الشأن باقيا سائرا في طول الأزمان.
١ أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (١٢٧٠) كتاب الحج. قال النووي في شرحه: (وإنما قال: وإنك لا تضر ولا تنفع، لئلا يغتر بعض قريبي العهد بالإسلام الذين كانوا ألفوا عبادة الأحجار وتعظيمها ورجاء نفعها.)..
إذن : صاحب خطاب موسى لأخيه هارون فعل نزوعي وحركة، فهمناها من قول هارون ﴿ ياَ بْنَؤمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي.. ( ٩٤ ) ﴾ ( طه ).
ثم ذكر العلة :﴿ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ( ٩٤ ) ﴾ ( طه ) يقصد قول أخيه :﴿ اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ( ١٤٢ ) ﴾ ( الأعراف ).
فذكره التفويض الذي أعطاه إياه، وقد اجتهد هارون حسب رؤيته للموقف، ونأى بالقوم عن معركة ربما انتهت بالقضاء على خلية الإيمان في بني إسرائيل، اجتهد في إطار ﴿ وأصلح ( ١٤٢ ).. ﴾ ( الأعراف )
إذن : أثار موسى هذه القضية مع أخيه، لا ليسمع هو الرد، وإنما ليسمع الدنيا كلها على مر التاريخ.
ثم ينقل موسى الخطاب إلى رأس هذه الفتنة :
﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ( ٩٥ ) ﴾.
أي : ما شأنك ؟ وما قصتك ؟
والخطب : يقال في الحدث المهم الذي يسمونه الحدث الجلل، والذي يقال فيه ( خطب )، فليس هو الحدث العابر الذي لا يقف عنده أحد.
ومن ذلك قوله تعالى :﴿ ما خطبكن إذ راودتن١يوسف عن نفسه.. ( ٥١ ) ﴾ ( يوسف ).
وما حكاه القرآن من قول موسى – عليه السلام – لابنتي شعيب :﴿ ما خطبكما.. ( ٢٣ ) ﴾ ( القصص )
١ راوده على الشيء مراودة: طلبه منه بجهد وحيلة ومساومة، وقوله تعالى ﴿وراودته التي هو في بيتها عن نفسه................ (٢٣)﴾ (يوسف): أي: طلبت منه نفسه في محاولة ومخادعة، ليتجاوز وينزل عن كبرياء نفسه وشرفها وعفتها، وهي كناية عن طلب المعاشرة الجنسية. (القاموس القويم ١ / ٢٨١)..
ثم يقول الحق سبحانه عن السامري :﴿ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا١ وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ( ٩٦ ) ﴾.
مادة : بصر منها أبصرت للرؤية الحسية، وبصرت للرؤية العلمية أي : بمعنى علمت.
فمعنى :﴿ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ.. ( ٩٦ ) ﴾ ( طه ) : يعني : اقتنعت بأمرهم غير مقتنعين به، فأنا فعلت وهم قلدوني فيما فعلت من مسألة العجل.
وقد أدى به اجتهاده إلى صناعة العجل ؛ لأنه رأى قومه يحبون الأصنام. وسبق أن طلبوا من موسى أن يجعل لهم إلها لما رأوا قوما يعبدون الأصنام، فانتهز السامري فرصة غياب موسى، وقال لهم : سأصنع لكم ما لم يستطع موسى صناعته، بل وأزيدكم فيه. لقد طلبتم مجرد صنم من حجارة إنما أنا سأجعل لكم عجلا جسدا من الذهب، وله صوت وخوار مسموع.
وقوله :﴿ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا.. ( ٩٦ ) ﴾ ( طه ) : قبض على الشيء : أخذه بجمع يده. ومثلها : قبص٢.
وقوله :﴿ من أثر الرسول.. ( ٩٦ ) ﴾ ( طه ) : للعلماء في هذه المسألة روايات متعددة. منها : أن السامري حين كان جبريل عليه السلام يتعهده وهو صغير، كان يأتيه على جواد فلاحظ السامري أن الجواد كلما مر على شيء اخضر مكان حافره، ودبت الحياة فيه، لذلك : فأصحاب هذا القول رأوا أن العجل كان حقيقيا، وله صوت طبيعي ليس مجرد مرور الهواء من خلاله٣.
ورأي آخر يقول :﴿ من أثر الرسول.. ( ٩٦ ) ﴾ ( طه ) : الرسول كما نعلم هو المبلغ لشرع الله المباشر للمبلغ، أما جبريل فهو رسول للرسول، ولم يره أحد فأطلقت الرسول على حامل المنهج إلى المتكلم به، لكنها قد تطلق ويراد بها التهكم، كما جاء في قوله تعالى :﴿ هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله.. ( ٧ ) ﴾ ( المنافقون ) : فيقولون : رسول الله تهكما لا إيمانا بها.
وكذلك في قوله تعالى :﴿ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق.. ( ٧ ) ﴾ ( الفرقان )
إذن : قد يراد بها التهكم.
لكن، ما المراد بأثر الرسول ؟ الرسول جاء ليبلغ شرعا من الله، وهذا هو أثره الذي يبقى من بعده. فيكون المعنى : قبضت قبضة من شرع الرسول، قبضة من قمته، وهي مسألة الإله الواحد الأحد المعبود، لا صنم ولا خلافه.
وقوله تعالى :﴿ فنبذتها.. ( ٩٦ ) ﴾ ( طه ) : أي : أبعدتها وطرحتها عن مخيلتي، ثم تركت لنفسي العنان في أن تفكر فيما وراء هذا.
بدليل أنه قال بعدها :﴿ وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ( ٩٦ ) ﴾ ( طه ) : أي : زينتها لي، وألجأتني إلى معصية. فلا يقال : سولت لي نفسي الطاعة، إنما المعصية وهي أن يأخذ شيئا من أثر الرسول ووحيه الذي جاء به من الله، ثم يطرحه عن منهجه ويبعده عن فكره، ثم يسير بمحض اختياره.
١ نبذ الشيء: ألقاه ورماه. (القاموس القويم ٢ / ٢٥١) والنبذ: طرحك الشيء من يدك أمامك أو رواءك. (لسان العرب – مادة: نبذ)..
٢ وهي قراءة للحسن البصري. فقد أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أنه كان يقرؤها (فقبصت) بالصاد، قال: والقبص بأطراف الأصابع. (أورده السيوطي في الدر المنثور ٥ / ٥٩٦)..
٣ لهذا قالوا: معنى ﴿فقبضت أثرا من قبضة من أثر الرسول......................... (٩٦)﴾ (طه) أي: من أثر فرسه. قال ابن كثير في تفسيره (٣ / ١٦٣): (هذا هو المشهور عند كير من المفسرين أو أكرهم)..
ثم يقول الحق سبحانه :
﴿ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ( ٩٧ ) ﴾.
كان رد موسى – عليه السلام – على هذه الفعلة من السامري : جزاؤك أن تذهب، ويكون قولك الملازم لك :﴿ لا مساس.. ( ٩٧ ) ﴾ ( طه ) : والمساس أي : المس. المعنى يحتمل : لا مساس مني لأحد، أو لا مساس من أحد لي.
ذلك لأن الذين يفترون الكذب ويدعون أن لهم رسالة ولهم مهمة الأنبياء، حظهم من هذا كله أن تكون لهم سلطة زمنية ومكانة في قلوب الناس، وأن يكون لهم مذهب وأتباع وأشياع.
لذلك تراهم دائما – في سبيل الوصول إلى هذه الغاية – يتحللون من المنهج الحق، ويستبدلونه بمناهج حسب أهوائهم، فيميلون إلى تسهيل المنهج وتبسيطه، ويعطون لأتباعهم حرية ما أنزل الله بها من سلطان، كالذي خرج علينا يبيح للناس الاختلاط بين الرجال والنساء.
ومن العجيب أن تجد لهذه الأفكار أنصارا يؤمنون بها ويطبقونها، لا من عامة الناس، بل من المثقفين وأصحاب المناصب. فكيف تحجب عنهم المرأة، وهي نصف المجتمع ؟
إذن : ما أجمل هذا الدين وما أيسره على الناس، فقد جاء على وفق أهوائهم وشهواتهم، ووسع لهم المسائل، فالنفس تميل بطبعها إلى التدين ؛ لأنها مفطورة عليه، لكن تريد هذا الدين سهلا لا مشقة فيه. حتى وإن خالف منهج الله.
لذلك تجد مثلا مسيلمة وسجاح وغيرهما من مدعي النبوة يخففون عن أتباعهم تكاليف الشرع في الصلاة والصوم، أما الزكاة فهي ثقيلة على النفس فلا داعي لها، وإلا فما الميزة التي جاءوا بها ليتبعهم الناس ؟ وما وسائل التشجيع لإتباع الدين الجديد.
وهكذا يصبح لهؤلاء سلطة زمنية ومكانة، وأتباع وجمهور، إذن : الذي أفسد حياته أن يجد العز والمكانة في انصياع الناس له وتبعيتهم لأفكاره، فيعاقبه الله بهم، ويجعل ذله على أيديهم وفتنته من ناحيتهم، فهم الذين أعانوه على هذا الباطل، فإذا به يكرههم ويبتعد بنفسه عنهم، لدرجة أن يقول :﴿ لا مساس.. ( ٩٧ ) ﴾ ( طه ) كأنه يفر منهم يقول : إياك أن تقرب مني أو تمسني.
لقد تحول القرب والمحبة إلى بعد وعداوة، هذه الجمهرة التي كانت حوله وكان فيها عزه وتسلطه يفر منها الآن، فهي سبب كبوته، وهي التي أعانته على معصية الله.
وهكذا، كانت نهاية السامري أن ينعزل عن مجتمعه، ويهيم على وجهه في البراري، ويفر من الناس، فلا يمسه أحد، بعد أن صدمه الحق، وواجهته صولته.
وما أشبه هذا الموقف بما يحدث لشباب متفوق مستقيم يغريه أهل الباطل، ويجذبونه إلى طريقهم، وبعد أن انخرط في سلكهم وذاق لذة باطلهم وضلالهم إذا به يصحوا على صدمة الحق التي تفيقه، ولكن بعد أن خسر الكثير، فتراه بعد ذلك يفر من هذه الصحبة وينأى بنفسه عن مجرد الاقتراب منهم.
لذلك من الذين اختاروا دينهم وفق أهوائهم عبدة الأصنام، فإن كانت العبادة أن يطيع العابد معبوده، فما أيسر عبادة الأصنام ؛ لأنها آلهة بدون تكليف، وعبادة بدون مشقة، لا تقيد لك حركة، ولا تمنعك من شهوة، وإلا فماذا أعدت الأصنام من ثواب لمن عبدها ؟ وما أعدت من عذاب لمن كفر بها ؟
فكأن الحق – تبارك وتعالى – قال للسامري : ستعاقب بنفس المجتمع الذي كنت تريد منه العزة والسلطة والسيطرة والذكر، فتتبرأ أنت منهم وتفرمن جوارهم، ولا تتحمل أن يمسك أحد منهم، فهم سبب بلائك، ومصدر فتنتك، كما قال تعالى :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ( ٦٧ ) ﴾ ( الزخرف )
فأخلاء الباطل، وصحبة السوء الذين يجتمعون على معصية الله في سهرات محرمة عليهم أن يحذروا هذا اللقاء، أما الخلة الحقيقية الصادقة فهي للمتقين، الذين يأتمرون بالحق، ويتواصون بطاعة الله.
وفرق بين من يقاسمك الكأس ومن يكسرها ويريقها قبل أن تذوقها، فرق بين من يلهيك عن الصلاة ومن يحثك عليها، فرق بين من يسعدك الآن بمعصية ومن يحملك على مشقة الطاعة، فانظر وتأمل.
ثم يقول :﴿ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ.. ( ٩٧ ) ﴾ ( طه ) : أي : ما ينتظرك من عذاب الآخرة.
﴿ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ( ٩٧ ) ﴾ ( طه ).
( عاكفا ) أي : مقيما على عبادته، والاعتكاف : الإقامة في المسجد، والانقطاع عن المجتمع الخارجي.
ومعنى :﴿ لنحرقنه.. ( ٩٧ ) ﴾ ( طه ) : أي : نصيره كالمحروق، بأن نبرده بالمبرد حتى يصبح فتاتا وذرات متناثرة، بحيث يمكن أن نذروه في الهواء ﴿ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ( ٩٧ ) ﴾ ( طه ) : أي : نذروه كما يفعل الفلاحون حين يذرون الحبوب لفصل القشر عنها بآلة تسمى ( المنسف )١ تشبه الغربال، وقد استبدلوا هذه الأدوات البدائية الآن بآلات ميكانيكية حديثة تؤدي نفس الغرض.
ذلك لأن إله السامري كان هذا العجل الذي اتخذه من ذهب، فلا يناسبه الحرق في النار، إنما نريد له عملية أخرى، تذهب به من أصله، فلا نبقي له على أثر. وهذا هو إلهك الذي عبدته إن أفلح كان يدافع عن نفسه ويحمي روحه.
١ ذكره ابن منظور في (لسان العرب – مادة: نسف) فقال: (نسف الشيء، وهو نسيف: غربله، والنسف: تنقية الجيد من الرديء. ويقال لمنخل مطول. المنسف. والمنسفة: الغربال)..
وبعد أن بين الحق – سبحانه – وجه البطلان فيما فعله السامري، ومن تبعه من القوم، عاد ليذكرهم بمنطقه الحق وجادة الطريق، وأن كل ما فعلوه هراء في هراء :
﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ( ٩٨ ) ﴾.
الحق – تبارك وتعالى – حينما يقول :﴿ لا إله إلا هو.. ( ٩٨ ) ﴾ ( طه ). نقولها نحن هكذا، ونشهد بها، فقد تعلمناها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي سمعها من ربه ونقلها إلينا، فهي الشهادة بالوحدانية الحقة، شهادة من الله لذاته أولا :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم.. ( ١٨ ) ﴾ ( آل عمران )
فهذه شهادة الذات للذات قبل أن يخلق شاهدا يشهد بها، ثم شهدت له بذلك الملائكة شهادة المشهد أنه لا إله غيره، ثم شهد بذلك أولوا العلم شهادة استدلال بالمخلوقات التي رأوها على أبدع نظام وأعجبه، ولا يمكن أن ينشأ هذا كله إلا عن إله قادر.
وقد سلمت لله تعالى هذه الدعوى ؛ لأنها قضية صادقة شهد بها سبحانه لنفسه، وشهد بها الملائكة وأولو العلم ولم يقم لها معارض يدعيها لنفسه.
وإلا – والعياذ بالله – أين ذلك الإله الذي أخذ الله تعالى منه الألوهية ؟ فإما أن يكون لا يعلم، أو علم بذلك ولم يعترض، وفي كلتا الحالتين لا يستحق أن يكون إلها، والدعوى إذا لم تجبه بمعارض فقد سلمت لصاحبها، إلى أن يوجد المعارض.
وكأن الحق سبحانه قال : لا إله إلا أنا، وأنا خالق الكون كله ومدبر أمره، ولم يأت أحد حتى من الكفار يدعي شيئا من هذا. وقد ضربنا لهذه المسألة مثلا – ولله المثل الأعلى - : هب أنه نزل عندك مجموعة ضيوف وزوار، وبعد انصرافهم وجدت حافظة نقود فسألت عن صاحبها، فلم يدعها أحد إلى أن قال أحد منهم : هي لي. إذن : فهو صاحبها، وهو أحق بها حيث لم يقم له معارض.
لذلك يقول تعالى :﴿ قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا ( ٤٢ ) ﴾ ( الإسراء )
يعني إن كان هناك آلهة أخرى فلا بد أن يذهبوا إلى صاحب العرش، إما ليخضعوا له ويستلهموا منه القدرة على فعل الأشياء، أو ليحاسبوه ويحاكموه : كيف يدعي الألوهية وهم آلهة ؟ ولم يحدث شيء من هذا كله، ولا أقام أحد دليلا على أنه إله، والدعوى إذا لم يقم عليها دليل فهي باطلة.
وينفي الحق سبحانه وجود آلهة أخرى، فيقول في موضع آخر :﴿ ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض.. ( ٩١ ) ﴾ ( المؤمنون ).
فهذا إله للسماء، وهذا إله للأرض، وهذا للجن، وهذا للإنس.. الخ. وبذلك تكون الميزة في أحدهم نقصا في الآخر، والقدرة في أحدهم عجزا في الآخر، وهذا لا يليق في صفات الألوهية.
ونلحظ هنا في قوله تعالى :﴿ إنما إلهكم الله.. ( ٩٨ ) ﴾ ( طه ) : أن كلمة ( إله ) لا تعني ( الله )، وإلا لو كان إلها بمعنى الله لأصبح المعنى : إنما الله الله.
إذن : هناك فرق بين اللفظين : الله علم على واجب الوجود الأعلى، أما الإله فهو المعبود المطاع فيما يأمر، فالمعنى : أن المعبود المطاع فيما يأمر به هو الله خالق هذا الوجود، وصاحب الوجود الأعلى.
فالله تعالى هو المعبود المطاع بحق، لأن هنا معبودا ومطاعا لكن بالباطل، كالذين يعبدون الشمس والقمر والأشجار والأحجار ويسمونهم آلهة، فإذا كانت العبادة إطاعة أمر ونهي المعبود، فبماذا أمرتهم هذه الآلهة ؟ وعن أي شيء نهتهم ؟ وماذا أعدت لمن عبدها أو لمن كفر بها ؟ إذن : هي معبودة، لكن بالباطل، لأنها آلهة بلا منهج.
وكلمة ﴿ إنما.. ( ٩٨ ) ﴾ ( طه ) : لا تأتي إلا استدراكا على باطل، وتريد أن تصوبه، كأن تقول : إنما الذي حضر زيد، فلا تقولها إلا لمن ادعى أن حضر غير زيد، فكأنك تقول : لا، فلان لم يحضر، إنما الذي حضر زيد.
فلا بد أن قوله تعالى :﴿ إنما إلهكم الله.. ( ٩٨ ) ﴾ ( طه ) : جاء ردا على كلام قيل يدعى أن هناك إلها آخر، وإنما لا تقال إلا إذا ادعي أمر يخالف ما بعدها، فتنفي الأمر الأول، وتثبت ما بعدها.
وهنا يقول :﴿ إنما إلهكم الله.. ( ٩٨ ) ﴾ ( طه ) لأن السامري لما صنع لهم العجل قال :﴿ هذا إلهكم وإله موسى.. ( ٨٨ ) ﴾ ( طه ) : فكذبه الله واستدرك بالحق على الباطل :﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.. ( ٩٨ ) ﴾ ( طه ).
ثم أضاف الحق – تبارك وتعالى – ما يفرق بين إله الحق وإله الباطل، فقال :﴿ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ( ٩٨ ) ﴾ ( طه ) : لأنه سبحانه هو الإله الحق، وهذه أيضا رد على السامري وما اتخذه إلها من دون الله. فالعجل الذي اتخذه لا علم عنده، وكذلك السامري الذي أمر الناس بعبادته، فلو كان عنده علم لعرف أن عجله سيحرق وينسف وتذروه الرياح، ولعرف العاقبة التي انتهى إليها من قولهم للقوم ( لا مساس )، وأنه سينزل به عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، فلو علم هذه الحقائق ما أقدم على هذه المسألة.
ووسع علم الله لكل شيء يعني : من أطاع ومن عصى، لكن من رحمته تعالى بنا ألا يحاسبنا عما علم منا، بل يعلمنا حين ندعوه أن نقول :﴿ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما.. ( ٧ ) ﴾ ( غافر ) : فسبقت رحمته تعالى سيئاتنا وذنوبنا، وسبقت عذابه ونقمته، وفي موضع آخر يقول عز وجل :﴿ ورحمتي وسعت كل شيء.. ( ١٥٦ ) ﴾ ( الأعراف ).
فلو وقفنا عند ﴿ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ( ٩٨ ) ﴾ ( طه ) : لأتعبتنا هذه المسألة : لأنه سيجازينا عن السيئة وعن الحسنة، ومن يطيق هذا ؟
ثم يبين الحق سبحانه حكمة القصص في القرآن، والقصص لون من التاريخ، وليس مطلق التاريخ، القصص تاريخ لشيء مشهود يهمني وتفيدني معرفته، وإلا فمن التاريخ أن نقول : كان في مكان كذا رجل يبيع كذا، وكان يفعل كذا أو كذا.
إذن : فالقصص حدث بارز، وله تأثيره فيمن سمعه، وبه تحدث الموعظة، ومنه تؤخذ العبرة.
والتاريخ هو ربط الأحداث بأزمنتها، فحين تربط أي حدث بزمنه فقد أرخت له، فإذا كان حدثا متميزا نسميه قصة تروى، فإن كانت قصة شهيرة تعلو على القصص كله نسميها سيرة، لذلك خص باسم السيرة تاريخ قصة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن القصص شيء مميز، أما السيرة فهي أميز. ورسول الله خاتم الأنبياء ؛ لذلك نقول عن تاريخه سيرة ولا نقول قصة ؛ لأن واقعه في الحياة كان سيرا على منهج الله، وعليه نزل القرآن، وكان خلقه القرآن.
والقصص يأتي مرة بالحدث، ثم تدور حوله الأشخاص، أو يأتي بشخصية واحدة تدور حولها الأحداث، فإذا أردت أن تؤرخ للثورة العرابية مثلا وضعت الحدث أولا، ثم ذكرت الأشخاص التي تدور حوله، فإن أردت التأريخ لشخصية عرابي وضعت الشخصية أولا، ثم أدرت حولها الأحداث.
وقصص القرآن يختلف عن غيره من الحكايات والقصص التي نسمعها ونحكيها من وضع البشر وتأليفهم، فهي قصص مخترعة تبنى على عقدة وحلها، فيأخذ القاص حدثا، ثم ينسج حوله أحداثا من خياله.
وبذلك يكونون قد أخذوا من القصص اسمه، وعدلوا عن مسماه، فهم يسمون هذا النسيج قصة، وليست كذلك ؛ لأن قصة من قص الأثر أي : مشى على أثره وعلى أقدامه، لا يميل عنها ولا يحيد هنا أو هناك.
فالقصة - إذن – التزام حدثي دقيق لا يتحمل التأليف أو التزييف، وهذا هو الفرق بين قصص القرآن الذي سماه الحق سبحانه وتعالى :﴿ القصص الحق.. ( ٦٢ ) ﴾ ( آل عمران )، و ﴿ أحسن القصص.. ( ٣ ) ﴾ ( يوسف ) وبين قصص البشر وتآليفهم.
القصص الحق وأحسن القصص ؛ لأنه ملتزم بالحقيقة لا يتجاوزها، وله غاية سامية أسمى من قصص دنياكم، فقصص الدنيا غايته وخلاصته – إن أفلح – أن يحميك من أحداث الدنيا، أما قصص القرآن فحمايته أوسع ؛ لأنه يحميك في الدنيا والآخرة.
فإن رأيت في قصص القرآن تكرارا فاعلم أنه لهدف وغاية، وأنها لقطات شتى لجوانب الحدث الواحد، فإذا ما تجمعت لديك كل اللقطات أعطتك الصورة الكاملة للحدث.
وهنا يقول تعالى :﴿ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا ( ٩٩ ) ﴾.
وفي موضع آخر قال تعالى :﴿ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك.. ( ١٢٠ ) ﴾ ( هود )
فكأنه فؤاده صلى الله عليه وسلم كان في حاجة إلى تثبيت ؛ لأنه سيتناول كل أحداث الحياة، وسيتعرض لما تشيب لهوله الرؤوس، ألم يقل الحق تبارك وتعالى عن الرسل قبله :﴿ وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله.. ( ٢١٤ ) ﴾ ( البقرة ).
ألم يضطهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ويضربوا ويحاصروا في الشعب بلا مأوى ولا طعام، حتى أكلوا الجلود وأوراق الشجر١ ؟
فهذه أحداث وشدائد تضطرب النفس البشرية حين تستقبلها، ولا بد لها من تأييد السماء لتثبت على الإيمان ؛ لذلك يقص الحق – تبارك وتعالى – على رسوله قصص من سبقوه في موكب الرسالات ليقول له : لست يا محمد بدعا من الرسل، فقد تحملوا من المشاق كيت وكيت، وأنت سيدهم، فلا بد أن تتحمل من المشاق ما يتناسب ومكانتك، فوطن نفسك على هذا.
فقوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ.. ( ٩٩ ) ﴾ ( طه ) :( كذلك ) : أي : كما قصصنا عليك قصة موسى وهارون وفرعون والسامري نقص عليك قصصا آخر من أنباء من سبقوك من الرسل.
وأنباء : جمع نبأ، وهو الخبر الهام العظيم، فلا يقال للأمر التافه نبأ، ومن ذلك قوله تعالى عن يوم القيامة :﴿ عم يتساءلون ( ١ ) عن النبأ العظيم ( ٢ ) ﴾ ( النبأ )، إنما يقال :( خبر ) في أي شيء.
ثم يقول تعالى :﴿ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا ( ٩٩ ) ﴾ ( طه ).
وأكد الإتيان بأنه ﴿ من لدنا.. ( ٩٩ ) ﴾ ( طه ) : أي : من عندنا، فلم يقل مثلا : آتيناك ذكرا. وهذا له معنى، لأن كل الكتب التي نزلت على الرسل السابقين نزلت ورويت بالمعنى. ثم صاغها أصحابها بألفاظ من عند أنفسهم، أما القرآن فهو الكتاب الوحيد الذي نزل بلفظه ومعناه ؛ لذلك قال :﴿ من لدنا.. ( ٩٩ ) ﴾ ( طه ) أي : مباشرة من الله لرسوله.
والمتأمل في تبليغ الرسول وتلقيه عن ربه يجد أنه يحافظ على لفظ القرآن، لا يخفى منه حرفا واحدا، كما في قوله تعالى مثلا :﴿ قل هو الله أحد ( ١ ) ﴾ ( الإخلاص ) : فكان يكفي في تبليغ هذه العبارة أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أحد، لكنه يقول نص ما جاءه من ربه مباشرة.
أرأيت لو قلت لولدك : اذهب إلى عمك وقل له : أبي سيزورك غدا، ألا يكفي أن يقول الولد : أبي سيزورك غدا ؟
إذن : فالقرآن الذي بين أيدينا هو نفسه كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لم يتغير فيه حرف واحد لا بالزيادة ولا بالنقصان ؛ لأنه نص الإعجاز، وما دام نص الإعجاز فلا بد أن يظل كما قاله الله.
ومعنى :﴿ ذكرا ( ٩٩ ) ﴾ ( طه ) : للذكر معان متعددة، فيطلق الذكر، ويراد به القرآن، كما في قوله تعالى :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( ٩ ) ﴾ ( الحجر ).
ويطلق ويراد به الصيت والشرف والجاه في الدنيا، كما في قوله تعالى :﴿ لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم.. ( ١٠ ) ﴾ ( الأنبياء ) : أي : شرفكم ورفعتكم بين الناس، وقال :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك.. ( ٤٤ ) ﴾ ( الزخرف ).
وقد يقول قائل : كيف يكون القرآن ذكرا وشرفا للعرب، وقد أبان عجزهم، وأظهر ما فيهم من عي ؟ وهل يكون للمغلوب صيت وشرف ؟
نقول : كونهم مغلوبين للحق شهادة بأنهم أقوياء، فالقرآن أعجز العرب وهم أمة فصاحة وبلاغة وبيان، والحق – سبحانه وتعالى – حين يتحدى لا يتحدى الضعيف، إنما يتحدى القوي، ومن الفخر أن تقول : غلبت البطل الفلاني، لكن أي فخر في أن تقول : غلبت أي إنسان عادي ؟
وكذلك يطلق الذكر على كل كتاب أنزله الله تعالى، كما قال لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( ٤٣ ) ﴾ ( النحل ) : أي : أهل الذكر قبلكم، وهم أهل التوراة وأهل الإنجيل.
ويطلق الذكر، ويراد به فعل العمل الصالح والجزاء من الله عليه، كما قال تعالى :﴿ فاذكروني أذكركم................. ( ١٥٢ ) ﴾ ( البقرة ) : أي : اذكروني بالطاعة أذكركم بالخير.
ويأتي الذكر بمعنى التسبيح والتحميد، وبمعنى التذكر والاعتبار، فله – إذن – معان متعددة يحددها السياق.
لكن، لماذا اختار كلمة ( ذكر ) ولم يقل مثلا كتابا ؟
قالوا : لأن الذكر معناه أن تذكر الشيء بداية ؛ لأنه أمر مهم لا ينسى، وهو ذكر لأنه يستلهم، ومن الذكر الاعتبار والتذكير، والشيء لا يذكر إلا إذا كان له أهمية، هذه الأهمية تتناسب مع الأمر من حيث مدة أهميته ومقدار أهميته، وكل ذكر لشيء في الدنيا قصارى أمره أن يعطيك خير الدنيا، أما القرآن فهو الذكر الذي يعطيك خيري الدنيا والآخرة ؛ لذلك فهو أهم ذكر يجب أن يظل على بالك لا ينسى أبدا.
إذن : فالقرآن ذكر ذكر أولا، وذكر يذكر ثانيا، ويستلهم ذكرا يشمل الزمن كله في الدنيا وفي الآخرة.
١ أورد هذا البيهقي في كتابه: (دلائل النبوة) (٢ / ٢١١ – ٢١٤) وملخصه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل في شعب بني عبد المطلب لخوف عمه أبي طالب عليه من قتل المشركين له علانية، فاجتمع المشركون وأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للقتل، وكتبوا صحيفة وعهودا ومواثيق، فلبث بنو هاشم ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء والجهد حتى أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمه أن الله قد أخبره أن الصحيفة قد أكلتها الأرضة فلم تدع فيها اسما هو لله تعالى إلا أكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان. فلما أفسد الله صحيفة مكرهم خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورهطه فعاشوا وخالطوا الناس..
ثم يصف الحق تبارك وتعالى هذا الذكر، فيقول :
﴿ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا ( ١٠٠ ) ﴾.
أعرض : نعرف أن الطول أبعد المسافات، وأن العرض أقصر المسافات ؛ لذلك لما أراد الحق سبحانه أن يصور لنا اتساع ملكه سبحانه قال :﴿ جنة عرضها السماوات والأرض.. ( ١٣٣ ) ﴾ ( آل عمران )
فأتى بالأوسع للأقل، فإن كان عرضها السموات والأرض، فما بالك بطولها ؟ لا بد أنه لا نهاية له.
والإنسان منا له طول، وله عرض، ولا يميز العرض إلا الكتفان، ودائما مرآهما من الخلف، لا من الأمام، لذلك نجد الخياط إذا أراد أن يقيس لك الثوب قاسه من الخلف، فعرض الإنسان مؤخرته من أعلى.
وبذلك يكون أعرض عن كذا، يعني : تركه وذهب بعيدا عنه، أو : أعطاه ظهره وانصرف عنه.
ومن ذلك ما نقوله :( اديني عرض كتافك ) يعني : در وجهك وانصرف عني، فإن كان جالسا نقول ( انفض طولك أو اطول ) أي : قم وأرني طولك، كي تريني عرض أكتافك وتنصرف عني.
والحق – سبحانه وتعالى – يعطينا صورة من الإعراض للذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله، فيقول :﴿ يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ( ٣٥ ) ﴾ ( التوبة ).
وهكذا ترى ترتيب العذاب حسب ترتيب الإعراض، فأول ما واجه السائل قطب جبهته، وكشر وبدت عليه ملامح الغضب والضيق، ثم أدار له جنبه، ثم أعطاه ظهره وانصرف عنه.
والوزر : الحمل الثقيل، وليته في الدنيا فيمكنك أن تتخلص منه، إما بأن يوضع عنك، وإما أن تفوته بالموت، إنما الوزر هنا في الآخرة، لذلك فهو وزر ثقيل لا ينحط عنك ولا تفوته بالموت، فهو حمل لا نهاية له ولا أمل في الخلاص منه، فهو ثقيل ممتد الإيلام، فقد يكون الحمل ثقيلا إلا أنه محبب إلى النفس، كمن يحمل شيئا نافعا له، أما هنا فحمل ثقيل مكروه.
وبعد ذلك يستدرك به على العقوبة، فالذي يأثم يقال : أتى وزرا.
ساء : قبح ذلك الحمل يوم القيامة ؛ لأن الحمل قد لا يكون قبيحا إن كان خيرا، وإن كان شرا فقد يحمله صاحبه في الدنيا ويزول عنه أما الوزر فحمل سيء قبيح، لأنه في دار الخلد التي لا نهاية لها.
فمتى يكون ذلك ؟. ﴿ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ( ١٠٢ ) ﴾.
وهو يوم القيامة، والصور : هو البوق الذي ينفخ فيه النفخة الأولى والثانية، كما جاء في قوله تعالى :﴿ ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ( ٦٨ ) ﴾ ( الزمر ).
وقوله تعالى :﴿ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا ( ١٠٢ ) ﴾ ( طه ) :
أي : نجمعهم ونسوقهم زرقا، والزرقة هي لونهم، كما ترى شخصا احتقن وجهه، وازرق لونه بسبب شيء تعرض له، هذه الزرقة نتيجة لعدم السلام والانسجام في كيماوية الجسم من الداخل، فهو انفعال داخلي يظهر أثره على البشرة الخارجية، فكأن هول القيامة وأحداثها تحدث لهم هذه الزرقة.
والبعض١يفسر ﴿ زرقا ( ١٠٢ ) ﴾ ( طه ) : أي : عميا، ومن الزرقة ما ينشأ عنها العمى، ومنها المياه الزرقاء التي تصيب العين وقد تسبب العمى.
١ قاله الكلبي والفراء. ذكره القرطبي في تفسيره (٦ / ٤٤١٨) وقد ذكر القرطبي أقوالا أخرى في تأويل (زرقا):
(- عطشا قد ازرقت أعينهم من شدة العطش. قاله الأزهري.
- الطمع الكاذب إذا أعقبه الخيبة، يقال: ابيضت عيني لطول انتظاري لكذا.
- شخوص البصر من شدة الخوف)..

أي : في هذه الحال التي يحشرون فيها زرقا ﴿ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ.. ( ١٠٣ ) ﴾ ( طه ) : أي : يسرون الكلام، ويهمس بعضهم إلى بعض، لا يجرؤ أحد منهم أن يجهر بصوته من هول ما يرى، والخائف حينما يلاقي من عدوه ما لا قبل له به يخفي صوته حتى لا ينبهه إلى مكانه، أو : لأن الأمر مهول لدرجة الهلع الذي لا يجد معه طاقة للكلام، فليس في وسعه أكثر من الهمس.
فما وجه التخافت ؟ وبم يتخافتون ؟
يسر بعضهم إلى بعض ﴿ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا ( ١٠٣ ) ﴾ ( طه ) : يقول بعضهم لبعض : ما لبثنا في الدنيا إلا عشرة أيام، ثم يوضح القرآن بعد ذلك أن العشرة هذه كلامهم السطحي، بدليل قوله في الآية بعدها :﴿ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ( ١٠٤ ) ﴾ ( طه ).
فانتهت العشرة إلى يوم واحد، ثم ينتهي اليوم إلى ساعة في قوله تعالى حكاية عنهم :﴿ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة.. ( ٥٥ ) ﴾ ( الروم ) : فكل ما ينتهي فهو قصير.
إذن : أقوال متباينة تميل إلى التقليل ؛ كأن الدنيا على سعة عمرها ما هي إلا ساعة :﴿ كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار.. ( ٣٥ ) ﴾ ( الأحقاف ).
وما هذا التقليل لمدة لبثهم في الدنيا إلا لإفلاسهم وقلة الخير الذي قدموه فيها، لقد غفلوا فيها، فخرجوا منها بلا ثمرة ؛ لذلك يلتمسون لأنفسهم عذرا في انخفاض الظرف الزمني الذي يسع الأحداث، كأنه لم يكن لديهم وقت لعمل الخير ! !
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا ( ١٠٤ ) ﴾.
الحق – تبارك وتعالى – يقص على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا ما سيكون من أمر هؤلاء المجرمين في الآخرة، فإذا ما وقعت القيامة جاءت الصورة كما حكاها الله لرسوله هي هي، ذلك لأن الله تعالى وسع كل شيء علما.
وهذا القول الذي حكاه القرآن عنهم أمر في اختيارهم، وقد سمعوا ذلك من رسول الله، وبوسعهم ألا يقولوا، لكن إذا جاءت القيامة فسوف يقولونه بالحرف الواحد لا يغيرون منه شيئا.
وقوله :﴿ أمثلهم طريقة.. ( ١٠٤ ) ﴾ ( طه ) : يعني : أحسنهم حكما.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ( ١٠٥ ) ﴾.
تكلمنا عن ( يسألونك ) في قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الخمر والميسر.. ( ٢١٩ ) ﴾ ( البقرة )
والسؤال استفهام يعني : طلب فهم يحتاج إلى جواب، والسؤال إما أن يكون من جاهل لعالم، كالتلميذ يسأل أستاذه ليعلم الجواب، أو : من عالم لجاهل، كالأستاذ يسأل تلميذه ليعرف مكانته من العلم وإقراره بما يعلم.
وهذه المسألة حلت لنا إشكالا كان المستشرقون يوغلون فيه، يقولون : بينما الحق – تبارك وتعالى – يقول :﴿ فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان ( ٣٩ ) ﴾ ( الرحمن )، يقول في آية أخرى :﴿ وقفوهم إنهم مسئولون ( ٢٤ ) ﴾ ( الصافات ) : فالأولى تنفي السؤال، والثانية تثبته، لذلك اتهموا القرآن بالتضارب بين آياته.
وهؤلاء معذورون، فليست لديهم الملكة العربية لفهم الأداء القرآني، وبيان هذا الإشكال أن السؤال يرد في اللغة إما لتعلم ما جهلت، وإما لتقرير المجيب بما تعلم أنت ليكون حجة عليه.
فالحق سبحانه حين يقول :﴿ وقفوهم إنهم مسئولون ( ٢٤ ) ﴾ ( الصافات ) : أي : سؤال إقرار، لا سؤال استفهام، فحين ينفي السؤال، ينفي سؤال العلم من جهة المتكلم، وحين يثبت السؤال فهو سؤال التقرير.
والحدث مرة ينفى، ومرة يثبت، لكن جهة النفي منفكة عن جهة الإثبات، فمثلا الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ وما رميت إذ رميت.. ( ١٧ ) ﴾ ( الأنفال ).
فنفى الأمر في الأولى، وأثبته في الثانية، والحدث واحد، والمثبت له والمنفي عنه واحد هو محمد صلى الله عليه وسلم. فكيف نخرج من هذا الإشكال ؟ أرمى الرسول أم لم يرم ؟
ولتوضيح هذه المسألة ضربنا مثلا بالأب الذي جلس بجوار ولده كي يذاكر دروسه، فأخذ الولد يذاكر، ويقلب صفحات الكتاب، وحين أراد الأب اختبار مدى ما حصل من معلومات لم يجد عنده شيئا، فقال الولد : ذاكرت وما ذاكرت. ذاكرت يعني : فعلت فعل المذاكر، وما ذاكرت لأنك لم تحصل شيئا.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رمى، أيمكنه أن يوصل هذه الرمية إلى أعين الجيش كله ؟ إذن : فرسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ قبضة من التراب ورمى بها ناحية الجيش، إنما قدرة الله هي التي أوصلت حفنة التراب هذه وذرتها في أعين الأعداء جميعا.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى :﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( ٢٦ ) ﴾ ( الجاثية ) : فنفت عنهم العلم، وفي آية أخرى :﴿ يعلمون ظاهرا١من الحياة الدنيا.. ( ٧ ) ﴾ ( الروم ) : فأثبتت لهم علما.
نعود إلى قوله تعالى :﴿ ويسألونك عن الجبال.. ( ١٠٥ ) ﴾ ( طه ) : وحينما استعرضنا ( يسألونك ) في القرآن الكريم وجدنا جوابها مسبوقا ب ( قل ) كما في قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس.. ( ٢١٩ ) ﴾ ( البقرة ).
وقوله تعالى :﴿ يسألونك عن الأهلة٢قل هي مواقيت للناس والحج.. ( ١٨٩ ) ﴾ ( البقرة ) وهكذا في كل الآيات، ما عدا قوله تعالى هنا ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ( ١٠٥ ) ﴾ ( طه ) فاقترن الفعل ( قل ) بالفاء، لماذا ؟
قالوا : لأن السؤال في كل هذه الآيات سؤال عن شيء وقع بالفعل، فكان الجواب بقل. مثل :﴿ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى.. ( ٢٢٢ ) ﴾ ( البقرة )، أما ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ.. ( ١٠٥ ) ( طه ) قال في الجواب :{ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ( ١٠٥ ) ﴾ ( طه ) ؛ لأنه حدث لم يقع بعد.
والحق – سبحانه وتعالى – يخبر رسوله صلى الله عليه وسلم أنه سيسأل هذا السؤال، فكأن الفاء هنا دلت على شرط مقدر، بمعنى : إن سألوك بالفعل فقال : كذا وكذا.
إذن : السؤال عن الجبال لم يكن وقت نزول الآية، أما الأسئلة الأخرى فكانت موجودة، وسئلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول آياتها.
وقد تأتي إجابة السؤال بدون ( قل ) كما في قوله تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب.. ( ١٨٦ ) ﴾ ( البقرة ) : ولم يقل هنا ( قل أو فقل ) لأنها تدل على الواسطة بين الله تعالى وبين عباده، وكأن الحق – سبحانه – يوضح أنه قريب من عباده حتى عن الجواب بقل.
وقد تتعجب : كيف تأتي في القرآن كل هذه الأسئلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن القرآن كتاب منهج جاء بتكاليف قد تشق على الناس، لأنه يلزمهم بأمور تخالف ما يشتهون، فكان المفروض ألا يسألوا عن الأمور التي لم ينزل فيها حكم.
نقول : دلت أسئلتهم هذه على عشقهم لأحكام الله وتكاليفه، فالأشياء التي كانت عادات لهم في الجاهلية يريدون الآن أن يؤدوها على طريقة الإسلام على أنها، عبادة، لا مجرد عادة جاهلية.
مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن السؤال فقال :( دعوني ما تركتكم، إنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم )٣.
ومع ذلك سألوا وأرادوا أن تبنى حياتهم على منهج القرآن من الله، لا على أنه إلف عادة لهم في الجاهلية، إذن : هذه الأسئلة ترسيم للأمر من جانب الحق سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى :﴿ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ( ١٠٥ ) ﴾ ( طه ) : تكلمنا عن هذا المعنى في قوله تعالى :﴿ لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا ( ٩٧ ) ﴾ ( طه ) : فالمراد : نفتتها ونذروها في الهواء، وأكد النسف، فقال :﴿ نسفا ( ٩٧ ) ﴾ ( طه ) : ليؤكد أن الجبل سيتفتت إلى ذرات صغيرة يذروها الهواء.
فقد يتصور البعض أن الجبال تهد، وتحول إلى كتل صخرية كما نفجر نحن الصخور الآن إلى قطع كبيرة ؛ لذلك أكد على النسف، وأن الجبال ستكون ذرات تتطاير ؛ لذلك قال في آية أخرى :﴿ وتكون الجبال كالعهن المنفوش ( ٥ ) ﴾ ( القارعة ) : أي : كالصوف المندوف.
لكن، لماذا ذكر الجبال بالذات ؟
قالوا : لأن الإنسان يرى أنه ابن أغيار في ذاته، وابن أغيار فيما حوله مما يخدمه من حيوان أو نبات، فيرى الحيوان يموت أو يذبح، ويرى النبات يذبل ثم يجف ويتفتت، والإنسان نفسه يموت وينتهي.
إذن : كل ما يراه حوله بين فيه التغيير والانتهاء، إلا الجبال يراها راسية ثابتة، لا يلحقها تغيير ظاهر على مر العصور.
لذلك يضرب بها المثل في الثبات، كما في قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ( ٤٦ ) ﴾ ( إبراهيم ).
فالجبال مظهر للثبات، فقد يتساءل عن هذا الخلق الثابت المستقر، ماذا سيفعل الله به ؟
١ قال ابن كثير في تفسيره (٣ / ٤٢٧): (أي أكثر الناس ليس لهم علم إلا بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها، فهم حذاق أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون في أمور الدين وما ينفعهم في الدار الآخرة كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة)..
٢ الأهلة: جمع هلال. والهلال: القمر في أول ظهوره في أول الشهر العربي. (القاموس القويم ٢ / ٣٠٥)..
٣ أخرجه البخاري في صحيحه (٧٢٨٨) والدارقطني في سننه (٢ / ٢٨١) بلفظ (دعوني)، وقد أخرجه أحمد في مسنده (٢ / ٣١٣، ٤٨٢، ٤٩٥)، ومسلم في صحيحه (١٣٣٧) بلفظ (ذروني) عن أبي هريرة رضي الله عنه..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا ( ١٠٦ ) ﴾ :
﴿ قَاعًا صَفْصَفًا ( ١٠٦ ) ﴾ ( طه ) : أرضا مستوية ملساء لا نبات فيها ولا بناء، والضمير في ﴿ فيذرها.. ( ١٠٦ ) ﴾ ( طه ) : يعود على الأرض لا على الجبال ؛ لأن الجبال لا تكون قاعا صفصفا١، أما الأرض مكان الجبال فتصير ملساء مستوية، لا بناء فيها ولا جبال، فالأرض شيء والجبال فوقها شيء آخر.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين٢وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ( ٩ ) وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ( ١٠ ) ﴾ ( فصلت ).
فالضمير في :﴿ وبارك فيها وقدر فيها أقواتها.. ( ١٠ ) ﴾ ( فصلت ) : لا يعود على الأرض، إنما على الجبال٣. لأن الجبال في الحقيقة هي مخازن القوت ومصدر الخصب للأرض، التي هي مصدر القوت، فالإنسان مخلوق من الأرض، واستبقاء حياته من الأرض، فالنبات قوت للإنسان وللحيوان، والنبات والحيوان قوت للإنسان.
إذن : لا بد للأرض من خصوبة تساعدها وتمدها بعناصر الغذاء، ولو أن الخالق – عز وجل – جعل الأرض هكذا طبقة واحدة بها المخصبات لانتهت هذه الطبقة بعد عدة سنوات، ولأجدبت الأرض بعد ذلك.
إذن : خلق الله الجبال لحكمة، وجعلها مصدرا للخصب الذي يمد الأرض مددا دائما ومستمرا ما بقيت الحياة على الأرض، ومن هنا تتضح لنا حكمة الخالق - سبحانه – في أن تكون الجبال صخرا أصم، فإذا ما تعرضت لعوامل التعرية على مر السنين تتفتت منها الطبقة الخارجية نتيجة لتغير الظروف المناخية من حرارة وبرودة.
ثم تأتي الأمطار وتعمل في الصخر عمل المبرد، وتكون ما يسمى بالغرين٤، فتحمل هذا الفتات إلى الوديان ومجاري الأنهار، وتوزعه على طبقة الأرض، فتزيدها خصبا تدريجيا كل عام، وإلا لو كانت الجبال هشة غير متماسكة لانهالت في عدة أعوام، ولم تؤد هذا الغرض. لذلك نقول : إن الجبال هي مصدر القوت، وليست الأرض.
ألا ترى أن خصوبة الوادي والدلتا جاءت من طمى النيل، والغرين الذي يحمله الماء من أعالي أفريقيا. وهذا الغرين الذي ينحت من الجبال هو الذي يسبب الزيادة في رقعة اليابسة، وتستطيع أن تلاحظ هذه الظاهرة في المدن المطلة على البحر، فبعد أن كانت على شاطئه أصبحت الآن داخل اليابسة.
وقد مثلنا سابقا للجبل بأنه مثلث قاعدته إلى أسفل، والوادي مثلث قاعدته إلى أعلى، فكل نحت في الجبل زيادة في الوادي، وكأن الخالق – عز وجل – جعل هذه الظاهرة لتتناسب مع زيادة السكان في الأرض.
وقد حذف العائد في ﴿ فيذرها.. ( ١٠٦ ) ﴾ ( طه ) : اعتمادا على ذهن السامع ونباهته إلى أنه لا يكون إلا ذلك، كما في قوله تعالى :﴿ قل هو الله أحد ( ١ ) ﴾ ( الإخلاص ) : فلم يذكر عائد الضمير ( هو ) لأنه إذا قيل لا ينصرف إلا إلى الحق سبحانه وتعالى، وإن لم يتقدم اسمه.
وكما في قوله تعالى :﴿ حتى توارت بالحجاب ( ٣٢ ) ﴾ ( ص ) : والمراد : الشمس التي غابت، ففاتت سليمان – عليه السلام - الصلاة، ولم تذكر الآية شيئا عن الشمس٥.
كذلك في :﴿ ما ترك على ظهرها من دابة.. ( ٤٥ ) ﴾ ( فاطر ) : أي : على الأرض ولم تذكرها الآية، كذلك هنا ( فيذرها ) أي الأرض.
١ الأرض الصفصف: الملساء المستوية. وقال الفراء: الصفصف الذي لا نبات فيه، (لسان العرب – مادة صفصف)..
٢ قال ابن كثير في تفسيره (٤ / ٩٣): (يعني: يوم الأحد ويوم الإثنين)..
٣ قال قتادة ومجاهد: خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها. وقال السدي والحسن: أرزاق أهلها ومصالحهم. (تفسير القرطبي ٩ / ٦٠٠٧)..
٤ الغرين: الطين الذي يحمله السيل فيبقى على وجه الأرض رطبا أو يابسا. قال الأصمعي: الغرين أن يجيء السيل فيثبت على الأرض، فإذا جفت رأيت الطين رقيقا على وجه الأرض قد تشقق. (لسان العرب – مادة: غرن)..
٥ ذكره السيوطي في كتابه: (الإتقان في علوم القرآن) (٣ / ١٨٦) ضمن أمثلة (حذف الفاعل) في فصل (أنواع الحذف)، وقال: (لا يجوز إلا في فاعل المصدر)..
أي : كأنها مستوية على ( ميزان الماء ) لا ترى فيها اعوجاجا ولا ( أمتا ) يعني : منخفض ومرتفع، فهي مستوية استواء تاما، كما نفعل نحن في الجدار، ونحرص على استوائه.
لذلك نرى المهندس إذا أراد استلام مبنى من المقاول يعتمد إما على شعاع الضوء ؛ لأنه مستقيم ويكشف له أدنى عيب في الجدار أو على ذرات التراب ؛ لأنها تسقط على استقامتها، وبعد عدة أيام تستطيع أن تلاحظ من ذرات التراب ما في الجدار من التواءات أو نتوءات.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ( ١٠٨ ) ﴾.
الداعي : المنادي، كالمؤذن الذي كثيرا ما دعا الناس إلى حضرة الله تعالى في الصلاة، فمنهم من أجاب النداء، ومنهم من تأبى وأعرض، أما الداعي في الآخرة، وهو الذي ينفخ في الصور فلن يتأبى عليه أحد، ولن يمتنع عن إجابته أحد.
وقوله :﴿ لا عوج له.. ( ١٠٨ ) ﴾ ( طه ) : لأننا نرى داعي الدنيا حين ينادي في جمع من الناس، يتجه يمينا ويتجه يسارا، ويدور ليسمع في كل الاتجاهات، فإذا لم يصل صوته إلى كل الآذان استيعابا يستعمل مكبر الصوت مثلا، أما الداعي في الآخرة فليس له عوج هنا أو هناك ؛ لأنه يسمع الجميع، ويصل صوته إلى كل الآذان، دون انحراف أو ميل.
ثم يقول تعالى :﴿ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ( ١٠٨ ) ﴾ ( طه ) : هذا الهمس الذي قال عنه في الآيات السابقة :﴿ يتخافتون بينهم.. ( ١٠٣ ) ﴾ ( طه ) : ونعرف أن كل تجمع كبير لا تستطيع أن تضبط فيه جلبة الصوت، فما بالك بجمع كجمع القيامة من لدن آدم عليه السلام حتى قيام الساعة، ومع ذلك :﴿ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ( ١٠٨ ) ﴾ ( طه ) : فلماذا كتمت هذه الأصوات التي طالما قالت ما تحب، وطالما كان لها جلبة وضجيج ؟
الموقف الآن مختلف، والهول عظيم، لا يجرؤ أحد من الهول على رفع صوته، والجميع كل منشغل بحاله، مفكر فيما هو قادم عليه، فإن تحدثوا تحدثوا سرا ومخافتة : ماذا حدث ؟ ماذا جرى ؟
وكذلك نحن في أوقات الشدائد لا نستطيع الجهر بها، كما حدث لما مات سعد زغلول١- رحمه الله – وكان أحمد شوقي٢وقتها في لبنان، فسمع الناس يتخافتون، ويهمس بعضهم إلى بعض بأن سعدا قد مات، ولا يجرؤ أحد أن يجهر بها لهول هذا الحادث على النفوس، فقال شوقي :
يطأ الآذان همسا والشفاها
قلت يا قوم اجمعوا أحلامكم
كل نفس في وريديها رداها
١ هو سعد باشا بن إبراهيم زغلول، زعيم نهضة مصر السياسية، ولد في (إبيانة) من قرى (الغربية) عام ١٨٥٧م، دخل الأزهر سنة ١٨٧٤م، اتصل بالسيد جمال الدين الأفغاني، تولى وزارة المعارف، فالحقانية. انتخب عام ١٩١٩ م رئيسا للوفد المصري للمطالبة بالاستقلال فنفاه الإنجليز إلى مالطة. توفي عام ١٩٢٧م عن ٧٠ عاما. (الأعلام للزركلي ٣ / ٨٣)..
٢ هو: أمير الشعراء أحمد شوقي: أشهر شعراء العصر الحديث، ولد بالقاهرة ١٨٦٨م نشأ في ظل البيت المالك بمصر، درس الحقوق بفرنسا، عالج أكثر فنون الشعر: مديحا وغزلا ورثاء ووصفا، ثم تناول الأحداث السياسية، توفي عام ١٩٣٢ م. (الأعلام للزركلي ١ / ١٣٧)..
ثم يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ( ١٠٩ ) ﴾.
والشفاعة تقتضي مشفوعا له وهو الإنسان، وشافعا وهو الأعلى منزلة، ومشفوعا عنده : والمشفوع عنده لا يسمح بالشفاعة هكذا ترتجلها من نفسك، إنما لا بد أن يأذن لك بها، وأن يضعك في مقام ومرتبة الشفاعة، وهذا شرط في الشافع.
وقوله تعالى :{ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا ( ١٠٩ ) ( طه ) : هذه للمشفوع له، أن يقول قولا يرضى الله عنه – وإن قصر في جهة أخرى – وخير ما يقوله العبد ويرضى عنه الله أن يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهذه مقولة مرضية عند الله، وهي الأمل الذي يتعلق به، والبشرى لأهل المعاصي ؛ لأنها كفيلة أن تدخلهم في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان لديك خصلة سيئة، أو نقطة ضعف في تاريخك تراها عقبة فلا تيأس، وانظر إلى زاوية أخرى في نفسك تكون أقوى، فأكثر بها الحسنات، لأن الحسنات يذهبن السيئات.
معنى :﴿ ما بين أيديهم.. ( ١١٠ ) ﴾ ( طه ) : ما أمامهم، ويعلم ما خلفهم، أما أنت فلا تحيط به علما، ولا تعرف إلا ما يخبرك به، إلا أن تكون هناك مقدمات تستنبط منها، لأن ما ستره الحق في الكون كثير، منه ما جعل الله له مقدمات، فمن ألم بهذه المقدمات يصل إليها.
ومع ذلك لا يقال له : علم غيبا. إنما اكتشف غيبا بمقدمات أعطاها له الحق سبحانه وتعالى، كما نعطي التلميذ تمرينا هندسيا، ونذكر له المعطيات، فيستدل بالمعطيات على المطلوب.
والكون ملئ بالأشياء والظواهر التي تأملناها وبحثناها ولم نعرض عنها وجدنا فيها كثيرا من الأسرار، فبالنظر في ظواهر الكون اكتشفوا عصر البخار ويسروا الحركة على الناس، وبالنظر في ظواهر الكون اكتشف أرشميدس قانون الأجسام الطافية، واكتشفوا البنسلين.. الخ.
هذه كلها ظواهر موجودة في كون الله، كانت تنتظر من ينقب عنها ويكتشفها ؛ لذلك ينعى علينا الحق تبارك وتعالى :﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ( ١٠٥ ) ﴾ ( يوسف ).
فلو التفتوا إليها الالتفات الحق لانتفعوا بها.
لكن هناك أشياء استأثر الله تعالى بعلمها، وقد يعطيها لمن أحب من عباده، ويطلعهم عليها، أو تظل في علم الله لا يعرفها أحد.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ( ١١١ ) ﴾.
الوجه أشرف وأكرم شيء في تكوين الإنسان، وهو الذي يعطي الشخص سمته المميزة، لذلك يحميه الإنسان ويحفظه، ألا ترى لو أصاب وجهك غبار أو تراب أو طين مثلا تمسحه بيدك، لم تزد على أنك جعلت ما في وجهك في يدك لماذا ؟ لأنه أشرف شيء فيك.
لذلك، كان السجود لله تعالى في الصلاة علامة الخضوع والخشوع والذلة والانكسار له عز وجل، ورضيت أن تضع أشرف جزء فيك على الأرض وتباشر به التراب، والإنسان لا يعنو بوجهه إلا لمن يعتقد اعتقادا جازما بأنه يستحق هذا السجود، وأن السجود له وحده يحميه من السجود لغيره، كما قال الشاعر :
والسجود الذي تجتويه من ألوف السجود فيه نجاة
فاسجد لواحد يكفك السجود لسواه، واعمل لوجه واحد يكفك كل الأوجه.
وقوله :﴿ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ( ١١١ ) ﴾ ( طه ) : حمل : يعني أخذه عبئا ثقيلا عليه. والظلم في أصله أن تأخذ خيرا ليس لك لتنتفع به وتزيد ما عندك، فأنت في الظاهر تزداد كما تظن، إنما الحقيقة أنك تحمل نفسك وزرا وحملا ثقيلا، سوف تنوء به، وازددت إثما لا خيرا.
والظلم مراتب ودرجات، أدناها أن تأخذ ما ليس لك وإن كان حقيرا لا قيمة له، أو تظلم غيرك بأن تتناوله في عرضه، ثم ترقى الظلم إلى أن تصل به إلى القمة، وهو الشرك بالله، كما قال سبحانه :﴿ إن الشرك لظلم عظيم ( ١٣ ) ﴾ ( لقمان ) :
وهو عظيم ؛ لأنك أخذت حقا لله تعالى، وأعطيته لغيره.
إذن : فحاول أن تسلم من هذه الآفة، لأن الله قال فيها :﴿ إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.. ( ٤٨ ) ﴾ ( النساء ).
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ( ١١٢ ) ﴾.
الصالحات : هي الأعمال التي تعود بالخير عليك أو على غيرك، وأضعف الإيمان في العمل الصالح أن تترك الصالح في ذاته على صلاحه فلا تفسده، كأن تجد بئرا يشرب منه الناس فلا تطمسه ولا تلوثه. فإن رقيت العمل الصالح فيمكنك أن تزيد من صلاحه، فتبني حوله جدارا يحميه أو تجعل له غطاء.. الخ.
ومن رحمة الله بنا أنه سبحانه حينما حثنا على العمل الصالح قال :﴿ من الصالحات.. ( ١١٢ ) ﴾ ( طه ) ومن هنا للتبعيض، فيكفي أن تفعل بعض الصالحات ؛ لأن طاقة الإنسان لا تسع كل الصالحات ولا تقوى عليها، فحسبك أن تأخذ منها طرفا، وآخر يأخذ طرفا، فإذا ما تجمعت كل هذه الأطراف من العمل الصالح من الخلق كونت لنا الصلاح الكامل.
كما سبق أن ذكرنا أن ليس بوسع أحد منا أن يجمع الكمال المحمدي في أخلاقه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول :( الخير في – حقا – وفي أمتي إلى يوم القيامة )١.
ففي كل فرد من أفراد الأمة خصلة من خصال الخير، بحيث إذا تجمعت خصال الكمال في الخلق أعطتنا الكمال المحمدي.
وقوله :﴿ وهو مؤمن.. ( ١١٢ ) ﴾ ( طه ) : لأن الإيمان شرط في قبول العمل الصالح، فإن جاء العمل الصالح من غير المؤمن أخذ أجره في الدنيا ذكرا وشهرة وتخليدا لذكراه، فقد عمل ليقال وقد قيل، وانتهت المسألة.
ثم يقول تعالى :﴿ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ( ١١٢ ) ( طه ) : والظلم غير الظلم في قوله تعالى :{ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ( ١١١ ) ﴾ ( طه ) : فالظلم هنا من الإنسان لنفسه أو لغيره، إنما { فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ( ١١٢ ) ( طه ) : أي : ظلما يقع عليه، بألا يأخذ حقه على عمله، بمعنى أننا لا نعاقبه على سيئة لم يعملها، ولا نضيع عليه ثواب حسنة عملها، لأن الحق سبحانه لا يظلم الناس مثقال ذرة.
﴿ ولا هضما ( ١١٢ ) ﴾ ( طه ) : الهضم يعني النقصان، فلا ننقصه أجره وثوابه، ومنه هضم الطعام، فكمية الطعام التي نأكلها تهضم ثم تمتص، وتتحول إلى سائل دموي، فتأخذ حيزا أقل، ومنه نقول : فلان مهضوم الحق. يعني : كان له حق فلم يأخذه.
لكن، ما فائدة عطف ( هضما ) على ( ظلما ) فنفي الظلم نفي للهضم ؟ نقول : لأنه مرة يبطل الثواب نهائيا، ومرة يقلل الجزاء على الثواب.
١ قال العلجوني في كشف الخفاء (١ / ٤٧٦): (قال في المقاصد: قال شيخنا: لا أعرفه، ولكن معناه صحيح، يعني في حديث: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا١فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ( ١١٣ ) ﴾.
( كذلك ) أي : كالإنزال الذي أنزلناه إلى الأمم السابقة، فكما أرسلنا إليهم رسلا أرسلنا إلى الأمم المعاصرة لك رسلا، إلا أن فارق الرسالات أنهم بعثوا لزمان محدود، في مكان محدود، وبعثت للناس كافة، وللزمان كافة إلى أن تقوم الساعة.
ونفهم من كلمة :﴿ أنزلناه.. ( ١١٣ ) ﴾ ( طه ) : أن المنزل أعلى من المنزل عليه، فالإنزال من شيء عال، وكأن الحق – تبارك و تعالى – يلفت أنظارنا ويصعد هممنا، فيقول : لا تهبطوا إلى مستوى تشريع الأرض ؛ لأنه يقنن للحاضر ويجهل المستقبل، ويتحكم فيه الهوى فتغيب عنه أشياء فيحتاج إلى استدراك.
لذلك، حين ينادينا إلى منهجه العلوي يقول :﴿ قل تعالوا.. ( ١٥١ ) ﴾ ( الأنعام ) : يعني : اعلوا وخذوا منهجكم من أعلى، لا من الأرض.
﴿ قرآنا.. ( ١١٣ ) ﴾ ( طه ) : يعني : مقروء، كما قال :﴿ كتابا.. ( ١٠ ) ﴾ ( الأنبياء ) : يعني : مكتوب، ليحفظ في الصدور وفي السطور، وقال ﴿ قرآنا عربيا.. ( ١١٣ ) ﴾ ( طه ) : مع أن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل إلى الناس كافة في امتداد الزمان والمكان، والقرآن نزل معجزة للجميع.
قالوا : لأنه صلى الله عليه وسلم هو المباشر لهذه الأمة العربية التي ستستقبل أول دعوة له، فلا بد أن تأتي المعجزة بلسانها، كما أن معجزة القرآن ليست للعرب وحدهم، إنما تحد للإنس والجن على امتداد الزمان والمكان.
كما قال سبحانه :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله.. ( ٨٨ ) ﴾ ( الإسراء ) :
فالقرآن تحد لكل الأجناس : الروسي، والأمريكي، والياباني، والدنيا كلها، ومعهم الجن أيضا. لكن لماذا والجن أيضا داخل في مجال التحدي ؟
قالوا : لأن العرب قديما كانوا يعتقدون أن لكل شاعر أو خطيب مفوه شيطانا يمده ويوحي إليه ؛ لذلك أدخل الجن أيضا في هذا المجال.
وقد يقول قائل : وكيف نتحدى بالقرآن غير العرب وهو بلسان عربي، فهو حجة على العرب دون غيرهم ؟
نقول : وهل إعجاز القرآن من حيث أسلوبه العربي وأدائه البياني فقط ؟ لا، فجوانب الإعجاز في القرآن كثيرة لا تختلف فيها اللغات، فهل تختلف اللغات في التقنين لخير المجتمع ؟ ألم يأت القرآن بمنهج في أمة بدوية أمية يغزو أكبر حضارتين معاصرتين له، هما حضارة فارس في الشرق، وحضارة الروم في الغرب ؟ ألم تكن هذه الظاهرة جديرة بالتأمل والبحث ؟
ثم الكونيات التي تحدث القرآن عنها منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا، وما زال العلم الحديث يكتشفها الآن.
إذن : طبيعي أن يأتي القرآن عربيا لأنه نزل على رسول عربي، وفي أمة عربية، والحق سبحانه يقول :﴿ وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم.. ( ٤ ) ﴾ ( إبراهيم ).
فهم الذين يستقبلون الدعوة، وينفعلون لها، ويقتنعون بها، ثم ينساحون بها في شتى بقاع الأرض، ومن العجيب أنهم بدعوة القرآن أقنعوا الدنيا التي لا تعرف العربية، أقنعوها بالمبادئ والمناهج التي جاء بها القرآن ؛ لأنها مبادئ ومناهج لا تختلف عليها اللغات.
ثم يقول تعالى :﴿ وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ.. ( ١١٣ ) ﴾ ( طه ) : أي : حينما ينذر القرآن بشيء يصرف هذا الإنذار على أوجه مختلفة، ويكرر الإنذار لينبه أهل الغفلة.
يعني : لونا فيه كل أساليب الوعد والوعيد، فكل أسلوب يصادف هوى في نفس أحد المستقبلين، فخاطبنا الأهواء كلها بكل مستوياتها، فالعالم والجاهل ومتوسط الفكر، الكل يجد في القرآن ما يناسبه ؛ لأنه يشرع للجميع، للفيلسوف وللعامي، فلا بد أن يكون في القرآن تصريف لكل ألوان الملكات ليقنع الجميع.
وفي القرآن وعد ووعيد، فلكل منهما أهل، ومن لم يأت بالإغراء بالخير يأتي بأن ينزعه بالقوة والجبروت، كما قال الشاعر :
أناة فإن لم تغن عقب بعدها وعيد****فإن لم يغن أغنت عزائمه
وفي الأثر :( إن الله ليزع٢بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ).
والإنذار والتخويف نعمة من الله، كما ورد في سورة الرحمن، حيث يقول تعالى :﴿ مرج البحرين يلتقيان ( ١٩ ) بينهما برزخ لا يبغيان ( ٢٠ ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( ٢١ ) ﴾ ( الرحمن ) : فهذه نعم من الله.
أما في قوله :﴿ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران ( ٣٥ ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( ٣٦ ) ﴾ ( الرحمن ) : فما النعمة في النار والشواظ ؟
النعمة أن ينذرك الله بها ويحذرك منها، قبل أن تقع فيها، ويعظك بها وأنت ما زلت في فترة المهلة والتدارك، فلا يأخذك على غرة ولا يتركك على غفلتك. كما تحذر ولدك : إن أهملت دروسك فسوف تفشل في الامتحان فيحتقرك زملاؤك، ويحدث لك كيت وكيت، فلم يترك ولده على غفلته وإهماله، إلى أن يداهمه الامتحان ويفاجئه الفشل، أليست هذه نعمة ؟ أليست نصيحة مهمة ؟
والتصريف : يعني التحويل والتغيير بأساليب شتى لتناسب استقبال الأمزجة المختلفة عند نزول القرآن لعلها تصادف وعيا واهتماما ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ( ١١٣ ) ﴾ ( طه ).
﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ.. ( ١١٣ ) ﴾ ( طه ) : الاتقاء عادة يكون للشر والمعاصي المهلكة، أو يحدث لهم الذكر والشرف والرفعة بفعل الخيرات، وهذا من ارتقاءات الطاعة.
ذلك لأن التكليف قسمان : قسم ينهاك عن معصية، وقسم يأمرك بطاعة، فينهاك عن شرب الخمر، ويأمرك بالصلاة، فهم يتقون الأول، ويحدث لهم ذكرا يوصيهم بعمل الثاني. وما دام القرآن نازلا من أعلى فلا بد أن يقول بعدها :
﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ( ١١٤ ) ﴾.
١ أي: بينا ما فيه من التخويف والتهديد والثواب والعقاب. (قاله القرطبي في تفسيره ٦ / ٤٤٢٥)..
٢ الوزع: كف النف عن هواها. ومعنى الأثر: أن من يكف عن ارتكاب العظائم مخالفة السلطان أكثر ممن تكفه مخافة القرآن والله تعالى، فمن يكفه السلطان عن المعاصي أكثر ممن يكفه القرآن بالأمر والنهي والإنذار. (لسان العرب – مادة: وزع)..
﴿ تعالى.. ( ١١٤ ) ﴾ ( طه ) : تنزه وارتفع عن كل ما يشبه الحادث، تعالى ذاتا، فليست هناك ذات كذاته، وتعالى صفاتا فليست هناك صفة كصفته، فإن وجدت صفة في الخلق تشبه صفة في الخالق سبحانه، فخذها في ضوء ﴿ ليس كمثله شيء.. ( ١١ ) ﴾ ( الشورى ).
فالحق سبحانه لا يضن على عبده أن يسميه خالقا إن أوجد شيئا من عدم، إنما لما تكلم عن خلقه سبحانه، قال :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ( ١٤ ) ﴾ ( المؤمنون ).
فأنت خالق، لكن ربك أحسن الخالقين، فأنت خلقت من موجود أما ربك عز وجل فقد خلق من العدم، أنت خلقت شيئا جامدا على حالة واحدة، والله خلق خلقا حيا ناميا، يحس ويتحرك ويتكاثر، وسبق أن مثلنا لذلك – ولله المثل الأعلى – بصانع الأكواب الزجاجية من الرمال، وأوضحنا الفرق بين خلق وخلق.
وقوله تعالى :﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ.. ( ١١٤ ) ﴾ ( طه ) : تلفتنا إلى ضرورة التطلع إلى أعلى في التشريع، فما الذي يجبرك أن تأخذ تشريعا من عبد مثلك ؟ ولماذا لا يأخذ هو تشريعك ؟ إذن : لا بد أن يكون المشرع أعلا من المشرع له.
ومن ألفاظ تنزيه الله التي لا تقال إلا له سبحانه كلمة ( سبحان الله ) أسمعت بشرا يقولها لبشر ؟ وهنا كفرة وملاحدة ومنكرون للألوهية ومعاندون، ومع ذلك لم يقلها أحد مدحا في أحد.
كذلك كلمة ( تعالى وتبارك ) لا تقال إلا لله، فنقول :( تباركت ربنا وتعاليت ) أي : وحدك لا شريك لك.
فقوله :﴿ فتعالى الله.. ( ١١٤ ) ﴾ ( طه ) : علا قدره وارتفع التنزيه ارتفاعا لا يوصل إليه، أما التعالي في البشر فيما بينهم فأمر ممقوت ؛ أما تعالى الحق سبحانه فمن مصلحة الخلق، وهذه اللفتة يعبر عنها أهل الريف، يقولون :( اللي ملوش كبير يشتري له كبير ) ؛ لأن الكبير هو الذي سيأخذ بيد الضعيف ويدك طغيان القوي، فإذا لم يكن لنا كبير نختلف ونضيع.
إذن : من مصلحة الكون كله أن يكون الله متعاليا، والحق ليس متعاليا علينا، بل متعال من أجلنا ولصالحنا، فأي متعال أو جبار من البشر عندما يعلم أن الله أعلى منه يندك جبروته وتعاليه ؛ وأي ضعيف يعلم أن له سندا أعلى لا يناله أحد، فيطمئن ويعيش آمنا وبذلك يحدث التوازن الاجتماعي بين الناس.
ونحن نحب عبوديتنا لله عز وجل، وإن كانت العبودية كلمة بغيضة مكروهة حين تكون عبودية الخلق للخلق فيأخذ السيد خير عبده، إلا أن العبودية لله شرف وكرامة ؛ لأن العبد لله هو الذي يأخذ خير سيده، فأنا عبد الله وعبوديتي له لصالحي أنا، ولن أزيد في ملكه شيئا، ولن ينتفع من ورائي بشيء ؛ لأنه سبحانه زاول ملكه وزاول سلطانه في الكون قبل أن يخلق الخلق، فبقدرته وعظمته خلق، وقبل أن توجد أنت أيها الإنسان الطاغي المتمرد أوجد لك الكون كله بما فيه.
فأنت بإيمانك لن تزيد شيئا في ملك الله، كما جاء في الحديث القدسي :( يا عبادي إنكم لن تملكوا نفعي فتنفعوني، ولن تملكوا ضري فتضروني.. )١فأنا إن تصرفت فيكم فلمصلحتكم، لا يعود علي من ذلك شيء.
وقوله تعالى :﴿ الملك الحق.. ( ١١٤ ) ﴾ ( طه ) : لأن هناك ملوكا كثيرين، أثبت الله لهم الملك وسماهم ملوكا، كما قال سبحانه :﴿ وقال الملك ائتوني به.. ( ٥٠ ) ﴾ ( يوسف )، وقال :﴿ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك... ( ٢٥٨ ) ﴾ ( البقرة ).
إذن : في الدنيا ملوك، لكنهم ليسوا ملوكا بحق، الملك بحق هو الله ؛ لأن ملوك الدنيا ملوك في ملك موهوب لهم من الله، فيمكن أن يفوت ملكه، أو يفوته الملك، وأي ملك هذا الذي لا يملكه صاحبه ؟
أي ملك هذا الذي يسلب منك بانقلاب أو بطلقة رصاص ؟
إذن : الملك الحق هو لله، وإن ملك بعض الخلق شئون بعض لمصلحتهم، فهو سبحانه الذي يهب الملك، وهو الذي ينزعه إن أراد :﴿ تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء.. ( ٢٦ ) ﴾ ( آل عمران ).
فالحق سبحانه له الملك الحق، ويهب من ملكه لمن يشاء، لكن يظل الملك وما ملكه في قبضة الله ؛ لأنه سبحانه قيوم على خلقه لا يخرج أحد عن قيوميته.
وقد نسمع من يسب الملوك والرؤساء، ومن يخوض في حقهم، وهو لا يدري أن ملكهم من الله، فهو سبحانه الذي ملكهم وفوضهم، ولم يأخذ أحد منهم ملكا رغما عن الله، فلا تعترض على اختيار الله واحترم من فوضه الله في أمرك، واعلم أن في ذلك مصلحة البلاد والعباد، ومن يدريك لعل الطاغية منهم يصبح غدا واحدا من الرعية.
إذن : الحق سبحانه ملك بعض الناس أمر بعض : هذا يتصرف في هذا، وهذا يملك هذا لتسير حركة الكون، فإذا كانت القيامة، قال عز وجل :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ( ١٦ ) ﴾ ( غافر ) هذا هو الملك الحق.
ومن عظمته في التعالي أنه يريحك هو سبحانه بعمله لك، فيقول لك : نم ملء جفونك، فأنا لا تأخذني سنة ولا نوم، نم فلك رب قيوم قائم على أمرك يرعاك ويحرسك.
ومن معاني :﴿ الملك الحق.. ( ١١٤ ) ﴾ ( طه ) : أي : الثابت الذي لا يتغير، وكل ظاهرة من ظواهر القوة في الكون تتغير إلا قوة الحق – تبارك وتعالى – لذلك يلقي سبحانه أوامره وهو واثق أنها ستنفذ ؛ لأنه سبحانه ملك حق، بيده ناصية الأمور كلها، فلو لم يكن سبحانه كذلك، فكيف يقول للشيء : كن فيكون ؟ فلا يعصاه أحد، ولا يخرج عن طوعه مخلوق، فيقول له : كن فلا يكون.
فالحق – تبارك وتعالى – أنزل القرآن عربيا، وصرف فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ؛ لأنه من حقه أن يكون له ذلك، لأنه ملك حق ليس له هوى فيما شرع ؛ لذلك يجب أن تقبل تشريعه، فلا يطعن في القوانين إلا أن تصدر عن هوى، فإن قنن رأسمالي أعطى الامتياز للرأسماليين، وإن قنن فقير أعطى الامتياز للفقراء، والله عز وجل لا ينحاز لأحد على حساب أحد.
وأيضا يجب في المقنن أن يكون عالما بمستجدات الأمور في المستقبل، حتى لا يستدرك أحد على قانون فيغيره كما يحدث معنا الآن، وتضطرنا الأحداث إلى تغيير القانون، لأننا ساعة شرعناه غابت عنا هذه الأحداث، ولم نحتط لها ؛ لذلك لا استدراك على قانون السماء أبدا.
وطالما أن الحق سبحانه وتعالى هو ﴿ الملك الحق.. ( ١١٤ ) ﴾ ( طه ) : فلا بد أن يضمن للخلق أن يصلهم الكتاب والمنهج كما قاله سبحانه، لا تغيير فيه ؛ لذلك قال عز وجل :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( ٩ ) ﴾ ( الحجر ).
نحن الذين سنحفظه ؛ لأن البشر جربوا في حفظ مناهج السماء، ولم يكونوا أمناء عليها، فغيروا في التوراة وفي الإنجيل وفي الكتب المقدسة، إما بأن يكتموا بعض ما أنزل الله، وإما أن ينسوا بعضه، والذي ذكروه لم يتركوه على حاله بل حرفوه. وإن قبل منهم هذا كله فلا يقبل منهم أن يفتروا على الله فيؤلفون من عندهم، ويقولون :﴿ هو من عند الله وما هو من عند الله......... ( ٧٨ ) ﴾ ( آل عمران ).
ذلك لأن الحفظ للمنهج كان موكولا للبشر تكليفا، والتكليف عرضة لأن يطاع، ولأن يعصى، كما قال تعالى :﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله.. ( ٤٤ ) ﴾ ( المائدة ).
أي : طلب منهم أن يحفظوها بهذا الأمر التكليفي، فعصوه نسيانا، وكتمانا، وتحريفا، وزيادة، لذلك تولى الحق – تبارك وتعالى – حفظ القرآن ؛ لأنه الكتاب الخاتم الذي لا استدراك عليه، وضمن سبحانه للقرآن ألا يحرف بأي وجه من أوجه التحريف.
فاطمئنوا إلى أن القرآن كتاب الله الذي بين أيديكم هو كلام الله الذي جاء من علمه تعالى في اللوح المحفوظ الذي قال عنه :﴿ في كتاب مكنون٢ ( ٧٨ ) لا يمسه إلا المطهرون ( ٧٩ ) ﴾ ( الواقعة )
ثم نزل به الروح الأمين، وهو مؤتمن عليه لم يتصرف فيه، ثم نزل على قلب سيد المرسلين الذي قال الله عنه :﴿ ولو تقول علينا بعض الأقاويل ( ٤٤ ) لأخذنا منه باليمين ( ٤٥ ) ﴾ ( الحاقة ).
إذن : حفظ القرآن علما في اللوح المحفوظ، وحفظ في أمانة من نزل به من السماء، وحفظ في من استقبله وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فلا حجة لنا بعد أن جمع الحق – سبحانه وتعالى – للقرآن كل ألوان الحفظ.
لذلك كان ولا بد حين ينزل الله القرآن على رسوله أن يقول له :﴿ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ( ١١٤ ) ﴾ ( طه ) فليست هناك حقيقة بعد هذا أبدا، وليس هناك شيء ثابت ثبوت الحق سبحانه وتعالى.
ثم يقول تعالى :﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ.. ( ١١٤ ) ﴾ ( طه ) : وهذه مقدمات ليطمئن رسول الله على حفظ القرآن ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي، فيحاول إعادته كلمة كلمة. فإذا قال الوحي مثلا :﴿ قل أوحي إلي.. ( ١ ) ﴾ ( الجن ). فيأخذ الرسول في تكرارها في سره ويرددها خلف جبريل عليه السلام مخافة أن ينساها لشدة حرصه على القرآن٣.
فنهاه الله عن هذه العجلة ﴿ ولا تعجل بالقرآن.. ( ١١٤ ) ﴾ ( طه ) : أي : لا تتعجل، ولا تنشغل بالتكرار والترديد، فسوف يأتيك نضجها حين تكتمل، فلا تخش أن يفوتك شيء منه طالما أنني تكلفت بحفظه ؛ لذلك يقول له في موضع آخر :﴿ سنقرئك فلا تنسى ( ٦ ) ﴾ ( الأعلى ).
فاطمئن ولا تقلق على هذه المسألة ؛ لأن شغلك بحفظ كلمة قد يفوت عليك أخرى.
والعجلة أن تخرج الحدث قبل نضجه، كأن تقطف الثمرة قبل نضجها وقبل أوانها، وعند الأكل تفاجأ بأنها لم تستو بعد، أو تتعجل قطفها وهي صغيرة لا تكفي شخصا واحدا، ولو تركتها لأوانها لكانت كافية لعدة أشخاص.
والقرآن كلام في مستوى عال من البلاغة، وليس كلاما مألوفا له يسهل عليه حفظه ؛ لذلك كان حريصا على الحفظ والتثبيت.
وفي آية أخرى يوضح الحق سبحانه هذه المسألة :﴿ لا تحرك به لسانك لتعجل به ( ١٦ ) إن علينا جمعه وقرآنه ( ١٧ ) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ( ١٨ ) ﴾ ( القيامة ) : أي : لما تكتمل الآيات فلك أن تقرأها كما تحب.
وهذه الظاهرة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، نبي ينزل عليه عدة أرباع من القرآن، أو السورة كاملة، ثم حين يسرى عنه الوحي يعيدها كما أنزلت عليه، ولك أن تأتي بأكثر الناس قدرة على الحفظ، واقرأ عليه لمدة عشر دقائق مثلا من أي كتاب أو أي كلام، ثم اطلب منه إعادة ما سمع فلن يستطيع.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان يأمر الكتبة بكتابة القرآن، ثم يمليه عليهم كما سمعه، لا يغير منه حرفا واحدا، بل ويملي الآيات في موضعها من السور المختلفة فيقول :( ضعوا هذه في سورة كذا، وهذه في سورة كذا )٤.
ولو أن السورة نزلت كاملة مرة واحدة لكان الأمر إلى حد ما سهلا، إنما تنزل الآيات متفرقة، فإذا ما قرأ صلى الله عليه وسلم في الصلاة مثلا قرأ بسورة واحدة نزلت آياتها متفرقة، هذه نزلت اليوم، وهذه نزلت بالأمس، وهكذا، ومع ذلك يقرؤها مرتبة آية آية.
وقوله تعالى عدها :﴿ ثم إن علينا بيانه ( ١٩ ) ﴾ ( القيامة ) : وخاطب النبي في آية أخرى :﴿ وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم.. ( ٤٤ ) ﴾ ( النحل ) : فالبيان من الله تعالى والتبيين من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعنى :﴿ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ.. ( ١١٤ ) ﴾ ( طه ) : أي : انتظر حتى يسرى عنك، لكن كيف يعرف الرسول ذلك ؟ كيف يعرف أن الحالة التي تعتريه عند نزول الوحي قد زالت ؟ والصحابة يصفون حال النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول الوحي عليه فيقولون : كنا نسمع حول رأسه كغطيط النح
١ أخرجه أحمد في مسنده (٥ / ١٥٤)، ومسلم في صحيحه (٢٥٧٧)، وابن ماجة في سننه (٤٢٥٧) من حديث أبي ذر رضي الله عنه..
٢ قوله: ﴿في كتاب مكنون (٧٨)﴾ (الواقعة). قيل: هو اللوح المحفوظ. وقيل: هو القرآن يصونه المؤمن مكتوبا أو يصونه في قلبه محفوظا. (القاموس القويم ٢ / ١٧٦)..
٣ أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي. قاله السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٦٠٢). وأورد القرطبي نحو هذا في تفسيره (٦ / ٤٤٢٥). وكذا تفسير ابن كثير (٣ / ١٦٧)..
٤ أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٧ / ١٥٣) من حديث عثمان بن عفان – رضي الله عنه – أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يأتي عليه الزمان تنزل عليه السور، ذوات عدد، فكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من كان يكتبه، فيقول: (ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا). وكذا أخرجه الترمذي في سننه (٥ / ٢٧٢)، والحاكم في مستدركه (٢ / ٢٢١، ٣٣٠)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ( ١١٥ ) ﴾.
كأن الحق – تبارك وتعالى – يعزي رسوله صلى الله عليه وسلم ويخفف عنه ما يعانيه من كفر القوم وعنادهم بقوله له : اقبلهم على علاتهم، فهم أولاد آدم، والعصيان أمر وارد فيهم، وسبق أن عهدنا إلى أبيهم فنسى، فإذا نسى هؤلاء فأقبل منهم فهم أولاد ( نساي ).
لذلك، إذا أوصيت أحدا بعمل شيء فلم يقم به، فلا تغضب، وارجع الأمر إلى هذه المسألة، والتمس له عذرا.
وقوله :﴿ عهدنا إلى آدم.. ( ١١٥ ) ﴾ ( طه ) : أي : أمرنا ووصينا ووعظنا، وقلنا كل شيء.
﴿ من قبل.. ( ١١٥ ) ﴾ ( طه ) : هذه الكلمة لها دور في القرآن، وقد حسمت لنا مواقف عدة، منها قوله هنا عن آدم والمراد : خذ لهم أسوة من أبيهم الذي كلفه الله مباشرة، ليس بواسطة رسول، وكلفه بأمر واحد، ثم نهاه أيضا عن أمر واحد : كل من كل الجنة إلا هذه الشجرة، هذا هو التكليف، ومع ذلك نسى آدم ما أمر به.
إذن : حينما يأتي التكليف بواسطة رسول، وبأمور كثيرة، فمن نسي من ولد آدم فيجب أن نعذره ونلتمس له عذرا، ولكثرة النسيان في ذرية آدم قال تعالى :﴿ وإني لغفار.. ( ٨٢ ) ﴾ ( طه ) : بالمبالغة ؛ لأن الجميع عرضة للنسيان وعرضة للخطأ، فالأمر – إذن – يحتاج إلى مغفرة كثيرة.
كذلك جاءت ( من قبل ) في قوله تعالى :﴿ فلم تقتلون أنبياء الله من قبل.. ( ٩١ ) ﴾ ( البقرة )
فكان لها دور ومغزى، فلو قال الحق سبحانه : فلم تقتلون أنبياء الله ؟ فحسب، فربما جرأهم على الاعتداء على رسول الله أن يقتلوه، أو يفهم منها رسول الله أنه عرضة للقتل كما حدث مع سابقيه من الأنبياء. لذلك قيدها الحق – تبارك وتعالى – وجعلها شيئا من الماضي الذي لن يكون، فهذا شيء من قبل، وليس هذا زمانه.
وقوله :﴿ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ( ١١٥ ) ﴾ ( طه ) : أي : نسي العهد، هذه واحدة. ﴿ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ( ١١٥ ) ﴾ ( طه ) : ليس عنده عزيمة قوية تعينه على المضي والثبات في الأمر.
فالحق – تبارك وتعالى – يريد أن يعطينا فكرة بأنه سبحانه حين يأمر بأمر فيه نفع لك تتهافت عليه، أما إذا أمر بشيء يقيد شهواتك تأبيت وخالفت، ومن هنا احتاج التكليف إلى عزيمة قوية تعينك على المضي فيه والثبات عليه، فإن أقبلت على الأمر الذي يخالف شهوتك نظرت فيه وتأملت : كيف أنه يعطيك شهوة عاجلة زائلة لكن يعقبها ذل آجل مستمر، فالعزم هنا ألا تغريك الشهوة.
ألا ترى أن الله تعالى سمى الرسل أصحاب الدعوات والرسالات الهامة في تاريخ البشرية ﴿ أولو العزم.. ( ٣٥ ) ﴾ ( الأحقاف ) : لأنهم سيتحملون مشاق ومهام صعبة تحتاج إلى ثبات وصبر على التكاليف.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى :﴿ خذوا ما آتيناكم بقوة.. ( ٢٣ ) ﴾ ( البقرة ) : أي : عزيمة تدفع إلى الطاعات، وتمنع من المعاصي.
ومسألة نسيان العبد للمنهيات التي يترتب عليها عقاب وعذاب أثارت عند الناس مشكلة في القضاء والقدر، فتسمع البعض يقول : ما دام أن الله تعالى كتب علي هذا الفعل فلم يعاقبني عليه ؟
ونعجب لهذه المقولة، ولماذا لم تقل أيضا : لماذا يثيبني على هذا الفعل، ما دام قد كتبه علي ؟ لماذا توقفت في الأولى و ( بلعت ) الأخرى، بالطبع ؛ لأن الأولى ليست في صالحك. إذن. عليك أن تتعامل مع ربك معاملة واحدة، وتقيس الأمور بمقياس واحد.
والعهد الذي أخذه الله على آدم أن يأكل رغدا من كل نعيم الجنة كما يشاء إلا شجرة واحدة حذره من مجرد الاقتراب منها هو وزوجه :﴿ ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ( ٣٥ ) ﴾ ( البقرة )
وهذه المسألة تلفتنا إلى أن المحللات كثيرة لا تعد ولا تحصى أما المحرمات فقليلة معدودة محصورة ؛ لذلك حينما يحدثنا الحق سبحانه عن التكليف يقول :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم.. ( ١٥١ ) ﴾ ( الأنعام ) : فالمحرمات هي التي يمكن حصرها، أما المحللات فخارجة عن نطاق الحصر.
ونلحظ أن الله تعالى حينما يحذرنا من المحرمات لا يحذرنا من مباشرتها، بل من مجرد الاقتراب منها ﴿ ولا تقربا هذه الشجرة.. ( ٣٥ ) ﴾ ( البقرة )، ولم يقل : لا تأكلا منها ؛ ليظل الإنسان بعيدا عن منطقة الخطر ومظنة الفعل.
وحينما يحدثنا ربنا عن حدوده التي حدها لنا يقول في الحد المحلل :﴿ تلك حدود الله فلا تعتدوها.. ( ٢٢٩ ) ﴾ ( البقرة )، وفي الحد المحرم يقول :﴿ تلك حدود الله فلا تقربوها.. ( ١٨٧ ) ﴾ ( البقرة ) ذلك لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.
وقد كان للعلماء كلام طويل حول ما نسيه آدم عليه السلام، فمنهم من قال : نسي ( كل من هذه ولا تقرب هذه )، وعلى هذا الرأي لم ينس آدم لأنه نفذ الأمر فأكل مما أحله الله له، أما كونه أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها فليس في هذه أيضا نسيان ؛ لأن إبليس ذكره بهذا النهي فقال :﴿ ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين ( ٢٠ ) ﴾ ( الأعراف ).
فحينما أكل آدم من الشجرة لم يكن ناسيا ما نهاه الله عنه.
إذن : ما المقصود بالنسيان هنا ؟
المقصود أن آدم – عليه السلام – نسي ما أخبره الله به من عداوة إبليس – لعنه الله – حين قال له :﴿ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ( ١١٧ ) ﴾ ( طه ).
والفكر البشري لا بد أن تفوته بعض المسائل، ولو كان عند الإنسان يقظة وحذر ما انطلى عليه تغفيل إبليس، فتراه يذكر آدم بالنهي ولم يدعه في غفلته ثم يحاول إقناعه : إن أكلتما من هذه الشجرة فسوف تكونا ملكين، أو تكونا من الخالدين.
وما دمت أنت يا إبليس بهذا الذكاء، فلماذا لم تأكل أنت من الشجرة وتكون ملكا أو تكون من الخالدين ؟ لماذا تضاءلت فصرت أرنبا تقول :﴿ أنظرني إلى يوم يبعثون ( ١٤ ) ﴾ ( الأعراف ).
إذن : هذا نموذج من تغفيل إبليس لآدم وذريته من بعده، يلفتنا الله تعالى إليه يقول : تيقظوا واحذروا، فعداوته لكم مسبقة منذ سجد الجميع لآدم تكريما، وأبى هو أن يسجد.
فكان على آدم أن يحذره عدوه، وأن يتحصن له بسوء الظن فيه، فينظر في قوله ويفكر في كلامه ويفتش في اقتراحه.
والبعض يقول : إن خطأ آدم ناتج عن نسيان، فهو خطأ غير متعمد، والنسيان مرفوع، كما جاء في الحديث الشريف :( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )١.
فهل كان النسيان قديما لا يرفع، ورفع لهذه الأمة إكراما لها ؟ فأصحاب هذا القول يلتمسون العذر لآدم عليه السلام، لكن كيف وقد كلفه ربه مباشرة، وكلفه بأمر واحد، فالمسألة لا تحتمل نسيانا، فإذا نسي آدم مع وحدة التكليف وكونه من الله مباشرة، فهذا على أية حال جريمة.
١ أخرجه ابن ماجة في سننه (٢٠٤٥) والدارقطني في سننه (٤ / ١٧٠) والحاكم في مستدركه (٢ / ١٩٨) وصححه على شرط الشيخين عن ابن عباس، ولكن إسناد ابن ماجة منقطع..
ثم يقص الحق سبحانه علينا قصة آدم مع إبليس :
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى ( ١١٦ ) ﴾.
الحق – تبارك وتعالى – يقص علينا قصة آدم عليه السلام، لكن نلاحظ أنه سبحانه أعطانا مجمل القصة وموجزها في قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ( ١١٥ ) ﴾ ( طه ) وأصل القصة وترتيبها الطبيعي أنه سبحانه يقول : خلقت آدم بيدي وصورته، وكذا وكذا، ثم أمرت الملائكة بالسجود له ثم قلت له : كذا....
وعرض القصة بهذه الطريقة أسلوب من أساليب التشويق، يصنعه الآن المؤلفون والكتاب في قصصهم، فيعطوننا في بداية القصة لقطة لنهايتها ؛ لإثارة الرغبة في تتبع أحداثها، ثم يعود فيعرض لك القصة من بدايتها تفصيلا، إذن : هذا لون من ألوان الإثارة والتشويق والتنبيه.
ومن ذلك أسلوب القرآن في قصة أهل الكهف، حيث ذكر القصة موجزة فقال :﴿ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ١كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ( ٩ ) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ( ١٠ ) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ( ١١ ) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ( ١٢ ) ﴾. ( الكهف ).
ثم أخذ في عرضها تفصيلا :﴿ نحن نقص عليك نبأهم بالحق.. ( ١٣ ) ﴾ الكهف ).
وقد جاء هذا الأسلوب كثيرا في قصص القرآن، ففي قصة لوط – عليه السلام – يبدأ بنهاية القصة وما حاق بهم من العذاب :﴿ كذبت قوم لوط بالنذر ( ٣٣ ) إنا أرسلنا عليهم حاصبا٢إلا آل لوط نجيناهم بسحر٣ ( ٣٤ ) ﴾ ( القمر ).
ثم يعود إلى تفصيل الأحداث :﴿ ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ( ٣٦ ) ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ( ٣٧ ) ﴾ ( القمر ).
ومن أبرز هذه المواضع قوله تعالى في قصة موسى وفرعون :﴿ ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ( ١٠٣ ) ﴾ ( الأعراف ). أي : من بعد موكب الرسالات إلى فرعون وملئه فظلموا بها، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين، هذا مجمل القصة، ثم يأخذ في قص الأحداث بالتفصيل :﴿ وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين ( ١٠٤ ) ﴾ الأعراف )
وهكذا أسلوب القرآن في قصة آدم عليه السلام، يعطينا مجمل القصة، ثم يفصلها :﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ( ١١٦ ) ﴾ ( طه ) : يعني : اذكر إذ قلنا للملائكة :﴿ اسجدوا لآدم.. ( ٣٤ ) ﴾ ( البقرة )
وقبل أن نخوض في قصة أبينا آدم - عليه السلام – يجب أن نشير إلى أنها تكررت كثيرا في القرآن، لكن هذا التكرار مقصود لحكمة، ولا يعني إعادة الأحداث، بل هي لقطات لجوانب مختلفة من الحدث الواحد تتجمع في النهاية لتعطيك القصة الكاملة من جميع زواياها.
كما أن الهدف من قصص القرآن تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه سيمر بكثير من الأحداث والشدائد، سيحتاج في كل منها إلى تثبيت، وهذا الغرض لا يتأتى إذا سردنا القصة مرة واحدة، كما في قصة يوسف عليه السلام مثلا.
قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا.. ( ١١٦ ) ﴾ ( طه ) : البعض يعترض يقول : كيف تسجد الملائكة لبشر ؟ نعم، هم سجدوا لآدم، لكن ما سجدوا من عند أنفسهم، بل بأمر الله لهم، فالمسألة ليست سجودا لآدم، بقدر ما هي طاعة لأمر الله. ولقائل هذا الكلام : أأنت ملكي أكثر من الملك ؟ يعني : أأنت رباني أكثر من الرب ؟
وما معنى السجود ؟ السجود معناه : الخضوع، كما جاء في قوله تعالى :﴿ ورفع أبويه٤على العرش وخروا له سجدا.. ( ١٠٠ ) ﴾ ( يوسف ) : أي : سجود تعظيم وخضوع، لا سجود عبادة.
وآدم – عليه السلام – هو خليفة الله في الأرض، لكنه ليس الوحيد عليها، فعلى الأرض مخلوقات كثيرة منها المحس، كالشمس والقمر والنجوم والهواء والماء والأرض والجبال، وكل ما فيه مصلحة لهذا الخليفة، ومنها ما هو خفي كالملائكة التي تدير خفى هذا الكون، فمنهم الحفظة والكتبة، ومنهم المكلفون بالريح وبالمطر.. الخ من الأمور التي تخدم الخلق، فلا بد – إذن – أن يخضع الجميع لهذا المخدوم الآتي.
وقد يحلو للبعض أن يقول : لقد ظلمنا آدم حين عصى ربه، فأنزلنا من الجنة إلى الأرض. نقول : يجب أن نفهم عن الله تعالى، فالحق – تبارك وتعالى – لم يخلق آدم للجنة التي هي دار الخلد، إنما خلقه ليكون خليفة له في الأرض، كما قال سبحانه :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة.. ( ٣٠ ) ﴾ ( البقرة )
فأول بلاغ من الله عن آدم أنه خالقه للأرض لا للجنة. والجنة، وإن كانت تطلق على دار الخلد ودار النعيم الأخروي فهي تطلق أيضا على حدائق وبساتين الدنيا، كما جاء في قول الحق سبحانه :
﴿ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها٥ مصبحين ( ١٧ ) ﴾ ( القلم ).
وقوله :﴿ واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب.. ( ٣٢ ) ﴾ ( الكهف ).
إذن : تطلق الجنة على شيء في الدنيا يضم كل ما تطلبه النفس وسموها الجنة ؛ لأنها تستر بشجرها وكثافتها من يدخل فيها، أو جنة لأنها تكفي الإنسان ولا تحوجه إلى شيء غيرها.
فلا تظلموا آدم بأنه أخرجكم من الجنة ؛ لأنه لم يكن في جنة الخلد، إنما في مكان أعده الله له، وأراد أن يعطيه هذا المكان درسا، ويدربه على القيام بمهمته في الحياة وخلافته في الأرض.
أرأيت ما نفعله الآن من إقامة معسكرات للتدريب في شتى مجالات الحياة، وفيها نتكفل بمعيشة المتدرب وإقامته ورعايته.
إنها أماكن معدة للتدريب على المهام المختلفة، رياضية، أو علمية، أو عسكرية.. الخ.
هكذا كانت جنة آدم مكانا لتدريبه قبل أن يباشر مهمته كخليفة لله في الأرض، فأدخله الله في هذه التجربة العملية التطبيقية، وأعطاه فيها نموذجا للتكليف بالأمر والنهي، وحذره من عدوه الذي سيتربص به وبذريته من بعده، وكشف له بعض أساليبه في الإضلال والإغواء.
وهذه هي خلاصة منهج الله في الأرض، وما من رسول إلا وجاء بمثل هذا المنهج : أمر، ونهي، وتكليف، وتحذير من الشيطان ووسوسته حتى يخرجنا عن أمر الله ونهيه.
وبعد هذا ( الكورس ) التدريبي في الجنة علم آدم بالتطبيق العملي أن الشيطان عدوه، وأنه سيغريه ويخدعه، ثم بعد هذه التجربة أنزله الله ليباشر مهمته في الأرض، فيكون من عدوه على ذكر وحذر.
والبعض يقف طويلا عند مسألة عصيان آدم : كيف يعصى الله وهو نبي ؟ ويذكرون قوله تعالى :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ( ١٢١ ) ﴾ ( طه ).
نقول : ما دام أن آدم – عليه السلام – هو خليفة الله في أرضه، ومنه أنسال الناس جميعا إلى أن تقوم الساعة، ومن نسله الأنبياء وغير الأنبياء، من نسله الرسل والمرسل إليهم. إذن : فهو بذاته يمثل الخلق الآتي كله بجميع أنواعه المعصومين وغير المعصومين.
كما أن آدم – عليه السلام – مر بهذه التجربة قبل أن ينبأ، ومر بها بعد أن نبئ، بدليل قوله تعالى :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ( ١٢١ ) ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ( ١٢٢ ) ﴾ ( طه ).
فكان الاجتباء والعصمة بعد التجريب، ثم لما أهبط آدم وعدوه إلى الأرض خاطبه ربه :﴿ فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ( ٣٨ ) ﴾ ( البقرة ).
وهكذا بدأت مرحلة جديدة في حياة آدم عليه السلام، ومثل آدم الدورين : دور العصمة والنبوة بعدما اجتباه ربه، ودور البشر العادي غير المعصوم والمعرض للنسيان وللمخالفة كأي إنسان من أناس الأرض.
ينبغي – إذن – أن نفهم أن آدم خلق للأرض وعمارتها، وقد هيأها الله لآدم وذريته من بعده، وأعدها بكل مقومات الحياة ومقومات بقاء النوع، فمن أراد ترف الحياة فليعمل عقله في هذه المقومات وليستنبط منها ما يريد.
لقد ذكرنا أن في الكون ملكا وملكوتا : الملك هو الظاهر الذي نراه ونشاهده، والملكوت ما خفي عنا وراء هذا الملك، ومن الملكوت أشياء تؤدي مهمتها في حياتنا دون أن نراها، فمثلا ظاهرة الجاذبية الأرضية التي تتدخل في أمور كثيرة في حياتنا، كانت في حجاب الملكوت لا نراها ولا نعرف عنها شيئا، ثم لما اهتدت إليها العقول واكتشفتها عرفنا أن هناك ما يسمى بالجاذبية.
ومن الملكوت الملائكة الموكلون، كما قال تعالى :( له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله.. ( ١١ ) } ( الرعد ).
ومنهم الكتبة :﴿ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ( ١٨ ) ﴾ ( ق ).
فلما خلق الله آدم، وخلق الملائكة الموكلين بمصالحه في الأرض أمرهم بالسجود له ؛ لأنهم سيكونون في خدمته، فالسجود طاعة لأمر الله، وخضوع للخليفة الذي سيعمر الأرض.
وقوله تعالى :﴿ إلا إبليس أبى ( ١١٦ ) ﴾ ( طه ) وفي آية أخرى٦ :
﴿ إلا إبليس أبى استكبر.. ( ٧٤ ) ﴾ ( ص ).
وقد أوضح الحق سبحانه سبب رفض إبليس للسجود لآدم بقوله :﴿ استكبرت أم كنت من العالين ( ٧٥ ) ﴾ ( ص )
أي : لا سبب لامتناعك إلا الاستكبار على السجود، أو تكون من العالين. أي : الملائكة الذين لم يشملهم الأمر بالسجود، فكأن الأمر كان لملائكة خاصة هم الموكلون بخدمة آدم، أما العالون فهم الملائكة المهيمون، ولا علاقة لهم بآدم، وربما لا يدرون به.
ومن الأساليب التي أثارت جدلا حول بلاغة القرآن لدى المستشرقين قوله تعالى :﴿ ما منعك أن تسجد.. ( ٧٥ ) ﴾ ( ص ) وقوله في موضع آخر :﴿ ما منعك ألا تسجد.. ( ١٢ ) ﴾ ( الأعراف )، فأي التعبيرين بليغ ؟ وإن كان أحدهما بليغا فالآخر غير بليغ.
وهذا كله ناتج عن قصور في فهم لغة القرآن، وعدم وجود الملكة العربية عند هؤلاء، فهناك فرق بين أنك تريد أن تسجد ويأتي من يقول لك : لا تسجد، وبين أن يقنعك شخص بألا تسجد.
فقوله :﴿ ما منعك أن تسجد.. ( ٧٥ ) ﴾ ( ص ) : كنت تريد السجود وواحد منعك، وقوله :﴿ ما منعك ألا تسجد.. ( ١٢ ) ﴾ ( الأعراف ) يعني : أمرك ألا تسجد، وأقنعك وأنت اقتنعت.
ومن المسائل التي أثيرت حول هذه القصة : أكان إبليس من الملائكة فشمله الأمر بالسجود ؟ وكيف يكون من الملائكة وهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون ؟ وإذا لم يكن ملكا فماذا أدخله في الأمر ؟
ولتوضيح هذه المسألة نقول : خلق الله الثقلين : الجن والإنس، وجعلهم مختارين في كثير من الأمور، ومقهورين في بعض الأمور، ليثبت طلاقة قدرته تعالى في خلقه، فإن كنت مختارا في أمور التكليف وفي استطاعتك أن تطيع أو أن تعصي، فليس في اختيارك أن تكون صحيحا، أو مريضا، طويلا أو قصيرا، فقيرا أو غنيا، ليس في اختيارك أن تحيا أو تموت.
والحق – تبارك وتعالى – لا يكلفك بافعل كذا ولا تفعل كذا، إلا إذا خلقك صالحا للفعل ولعدم الفعل، هذا في أمور التكليف وما عداه أمور قهرية لا اختيار لك فيها هي القدريات.
لذلك نقول للذين ألفوا التمرد وتعودوا الخروج على أحكام الله في التكليفات : لماذا لا تتمردوا أيضا على القدريات ما دمتم قد ألفتم المخالفة ؟ إذن : أنت مقهور وعبد رغما عنك.
لذلك، إذا كان المختار طائعا يلزم نفسه بمنهج ربه، بل ويتنازل عن اختياره لاختيار الله، فمنزلته عند الله كبيرة، وهو أفضل من الملك، لأن الملك يطي
١ الرقيم: قيل: هو كتاب كان معهم. وقيل: اسم واد بفلسطين كان فيه كهفهم. (القاموس القويم ١ / ٢٧٣)..
٢ أي: عذابا يحصبهم أي: يرميهم بحجارة من سجيل. ويقال للريح التي تحمل التراب والحصى: حاصب. (لسان العرب – مادة: حصب)..
٣ السحر: آخر الليل قبيل الصبح. والجمع: أسحار. وقيل: هو من ثلث الليل الآخر إلى طلوع الفجر. (لسان العرب – مادة: سحر.).
٤ قال السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنما كان أبوه وخالته، وكانت أمه قد ماتت قديما. وقال محمد بن إسحاق وابن جرير: كان أبوه وأمه يعيشان. قال ابن جرير: ولم يقم دليل على موت أمه، قال ابن كثير في تفسيره (٢ / ٤٩١) بعد سرد هذه الأقوال: (ظاهر القرآن يدل على حياتها، وهذا الذي نصره هو المتصور الذي يدل عليه السياق)..
٥ الصرم: القطع ماديا، كقطع الثمار، أي: يقطعون ثمارها، قال تعالى: ﴿فأصبحت كالصريم (٢٠)﴾ (القلم) أي: أصبحت حديقتهم بعد احتراقها كالليل المسود، أو صارت كالأرض التي قطعت أشجارها ولا نبات فيه). (القاموس القويم ١ / ٣٧٥)..
٦ وفي آية ثالثة جمع بين الإباء والاستكبار في قوله تعالى: ﴿إلا إبليس أبى واستكبر................... (٣٤)﴾ (البقرة)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ( ١١٧ ) ﴾.
قوله تعالى :﴿ ولزوجك.. ( ١١٧ ) ﴾ ( طه ) : كلمة الزوج لا تعني اثنين كما يظن البعض، الزوج فرد واحد معه مثله، فليس صحيحا أن نقول : توأم إنما توأمان، فكل منهما توأم للآخر ؛ لذلك يقول تعالى :﴿ ومن كل شيء خلقنا زوجين.. ( ٤٩ ) ﴾ ( الذاريات ).
ملحظ آخر في قوله تعالى :﴿ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ.. ( ١١٧ ) ﴾ ( طه ) : الخطاب لآدم وزوجه يحذرهما من إغواء إبليس وكيده، ثم يقول ﴿ فتشقى ( ١١٧ ﴾ ( طه ) : بصيغة الإفراد، ولم يقل : فتشقيا. لماذا ؟ لأن مسئولية الكدح والحركة للرجل أما المرأة فهي السكن المريح المنشط لصاحب الحركة، على خلاف ما نرى في مجتمعنا من الحرص على عمل المرأة بحجة المساعدة في تبعات الحياة.
فقد أعددت لك الجنة، وجعلت لك فيها كل ما تحتاجه، وأبحت لك كل نعيمها ونهيتك عن شيء واحد١منها، ولك علينا ﴿ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ( ١١٨ ) ﴾ ( طه ) : فلن تجوع فيها ؛ لأن فيها كل الثمرات ﴿ وكلا منها رغدا حيث شئتما.. ( ٣٥ ) ﴾ ( البقرة ).
ونلحظ هنا أن الله تعالى تكفل لهما بشيء ظاهر يلبي غريزة ظاهرة، هي اللباس والتستر، وغريزة باطنة هي غريزة الطعام.
١ وهي الشجرة التي قال عنها الحق سبحانه: ﴿ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (٣٥)﴾ (البقرة)، وقد أورد ابن كثير في تفسيره (١ / ٧٩). ستة أقوال عن هذه الشجرة، فقال:
هي الكرم، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي والشعبي.
هي الحنطة، زعمته يهود.
هي السنبلة. قاله ابن عباس.
هي البر. قاله ابن عباس أيضا.
هي النخلة. قاله أبو مالك.
هي التينة. قاله مجاهد وقتادة وابن جرير..

ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ( ١١٩ ) ﴾.
( تظمأ ) يعني : تعطش، و ( تضحى ) : أي : لا تتعرض لحرارة الشمس اللافحة، فتكفل لها ربهما أيضا بغريزة باطنة هي العطش، وغريزة ظاهرة هي ألا تلفحك حرارة الشمس.
ثم يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى ( ١٢٠ ) ﴾.
نلحظ أن الحق سبحانه اختار لعمل الشيطان اسما يناسب الإغراء بالشيء. وهي كلمة ( الوسوسة ) وهي في الأصل صوت الحلي – أي : الذهب الذي تتحلى به النساء، كما نقول : نقيق الضفادع، وصهيل الخيل، وخوار البقر، ونهيق الحمير، وثغاء الشاة، وخرير الماء، وحفيف الشجر.
وكذلك الوسوسة اسم لصوت الحلي الذي يجذب الأسماع، ويغري بالتطلع إليه، وكأن الحق سبحانه يحذرنا أن الشيطان سيدخل لنا من طريق الإغراء والتزيين.
فما الذي وسوس به إلى آدم ؟
﴿ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى ( ١٢٠ ) ﴾ ( طه ).
ونعجب لإبليس : ما دمت تعرف شجرة الخلد والملك الذي لا يبلى، لماذا لم تأكل أنت منها وتحوز هذه الميزة ؟
أي : بعد أن أكلا من هذه الشجرة ظهرت لهما سوآتهما، والسوأة هي العورة أي : المكان الذي يستحيي الإنسان أن ينكشف منه، والمراد القبل والدبر في الرجل والمرأة، ولكل من القبل والدبر مهمة، وبهما يتخلص الجسم من الفضلات، الماء من ناحية الكلى والحالب والمثانة عن طريق القبل، وبقايا وفضلات الطعام الناتجة عن حركة الهضم وعملية الأيض، وهذه تخرج عن طريق الدبر.
لكن، متى أحس آدم وزوجه بسوءاتهما، أبعد الأكل عموما من شجر الجنة، أم بعد الأكل من هذه الشجرة بالذات ؟
الحق – تبارك وتعالى – رتب ظهور العورة على الأكل من الشجرة التي نهاهما عنها ﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا.. ( ١٢١ ) ﴾ ( طه ) : فقبل الأكل من هذه الشجرة لم يعرفا عورتيهما، ولم يعرفا عملية الإخراج هذه ؛ لأن الغذاء كان طاهيه ربه، فيعطي القدرة والحياة دون أن يخلف في الجسم أي فضلات.
لكن، لما خالفوا وأكلوا من الشجرة بدأ الطعام يختمر وتحدث له عملية الهضم التي نعرفها، فكانت المرة الأولى التي يلاحظ فيها آدم وزوجه مسألة الفضلات، ويلتفتان إلى عورتيهما : ما هذا الذي يخرج منها ؟
وهنا مسألة رمزية ينبغي الالتفات إليها، فحين ترى عورة في المجتمع فاعلم أن منهجا من مناهج الله قد عطل.
إذن : لم يعرف آدم وزوجه فضلات الطعام وما ينتج عنه من ريح وأشياء منفرة قذرة إلا بعد المخالفة، وهنا تحيرا، ماذا يفعلان ؟ ولم يكن أمامهما إلا ورق الشجر ﴿ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ.. ( ١٢١ ) ﴾ ( طه ).
أي : أخذا يلصقان الورق على عورتيهما لسترها هكذا بالفطرة، وإلا ما الذي جعل هاتين الفتحتين عورة دون غيرهما من فتحات الجسم كالأنف والفم مثلا ؟
قالوا : لأن فتحتي القبل والدبر يخرج منهما شيء قذر كريه يحرص المرء على ستره، ومن العجيب أن الإنسان وهو حيوان ناطق فضله الله، وحين يأكل يأكل باختيار، أما الحيوان فيأكل بغريزته، ومع ذلك يتجاوز الإنسان الحد في مأكله ومشربه، فيأكل أنواعا مختلفة، ويأكل أكثر من حاجته ويأكل بعدما شبع، على خلاف الحيوان المحكوم بالغريزة.
ولذلك ترى رائحة الفضلات في الإنسان قذرة منفرة، ولا فائدة منها في شيء، أما فضلات الحيوان فلا تكاد تشم لها رائحة، ويمكن الاستفادة منها فيجعلونها وقودا أو سمادا طبيعيا. وبعد ذلك نتهم الحيوان ونقول : إنه بهيم.. الخ.
وقوله تعالى :﴿ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ( ١٢١ ) ﴾ ( طه ) : أي : فيما قبل النبوة، وفي مرحلة التدريب، والإنسان في هذه المرحلة عرضة لأن يصيب، ولأن يخطئ، فإن أخطأ في هذه المرحلة لا تضربه بل تصوب له الخطأ. كالتلميذ في فترة الدراسة، إن أخطأ صوب له المعلم، أما في الامتحان فيحاسبه.
ومعنى ﴿ فغوى ( ١٢١ ) ﴾ ( طه ) : يعني : لم يصب الحقيقة، كما يقولون لمن تاه في الصحراء غاو أي : تائه. ثم تأتي المرحلة الأخرى : مرحلة العصمة.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ( ١٢٢ ) ﴾.
إذن : مثل آدم دور الإنسان العادي الذي يطيع ويعصي، ويسمع كلام الشيطان، لكن ربه شرع له التوبة كما قال سبحانه :﴿ فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه.. ( ٣٧ ) ﴾ ( البقرة ).
إذن : عصى آدم وهو إنسان عادي وليس وهو نبي كما يقول البعض.
فقوله :﴿ ثم اجتباه.. ( ١٢٢ ) ﴾ ( طه ) : هذه بداية لمرحلة النبوة في حياة آدم عليه السلام، و ( ثم ) تعني الترتيب مع التراخي ﴿ اجتباه.. ( ١٢٢ ) ﴾ ( طه ) اصطفاه ربه.
ولم يقل الحق سبحانه : ثم اجتباه الله، إنما﴿ اجتباه ربه.. ( ١٢٢ ) ﴾ ( طه ) : لأن الرب المتولي للتربية والرعاية، ومن تمام التربية الإعداد للمهمة، ومن ضمن إعداد آدم لمهمته أن يمر بهذه التجربة، وهذا الترتيب في الجنة.
﴿ وهدى ( ١٢٢ ) ﴾ ( طه ) : المراد بالهداية قوله :﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ( ١٢٣ ) ﴾.
أي : اهبطا إلى الأرض وامضوا فيها على ضوء التجربة الماضية، واعلما أن هناك أمرا ونهيا وعدوا يوسوس ويزين ويغوي حتى يظهر عوراتكم، وكأنه – عز وجل – يعطي آدم المناعة الكافية له ولذريته من بعده لتستقيم لهم حركة الحياة في ظل التكاليف ؛ لأن التكاليف إما أمر وإما نهي، والشيطان هو الذي يفسد علينا هذه التكاليف.
ومع ذلك لا ننسى طرفا آخر هو النفس الأمارة التي تحركك نحو المعصية والمخالفة. إذن : ليس عدوك الشيطان فحسب فتجعله شماعة تعلق عليها كل معاصيك، فهناك معاص لا يدخل عليك الشيطان بها إلا عن طريق النفس، وإلا إبليس لما غوى، من أغواه ؟ ومن وسوس له ؟
وقوله :﴿ اهبطا.. ( ١٢٣ ) ﴾ ( طه ) : بصيغة التثنية أمر لاثنين : آدم مطمور فيه ذريته، وإبليس مطمور فيه ذريته فقوله :﴿ اهبطا.. ( ١٢٣ ) ﴾ ( طه ) : إشارة إلى الأصل، وقوله في موضع آخر :﴿ اهبطوا.. ( ٣٨ ) ﴾ ( البقرة ) إشارة إلى ما يتفرع عن هذا الأصل.
وقوله :﴿ بعضكم لبعض عدو.. ( ٣٦ ) ﴾( البقرة ) : أي : بعض عدو للبعض الآخر، وكلمة ( بعض ) لها دور كبير في القرآن، والمراد : أنت عدو الشيطان إن كنت طائعا، والشيطان عدوك إن كنت طائعا. فإن كنت عاصيا فلا عداوة إذن ؛ لأن الشيطان يريدك عاصيا. وحين لا يعين البعض تكون العداوة متبادلة، فالبعض شائع في الجميع.
كما في قوله تعالى :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات.. ( ٣٢ ) ﴾ ( الزخرف ) : فمن المرفوع ؟ ومن المرفوع عليه ؟ أصحاب النظرة السطحية يفهمون أن الغني مرفوع على الفقير.
والمعنى أوسع من هذا بكثير، فكل الخلق بالنسبة للحق سبحانه سواء، ومهمات الحياة تحتاج قدرات كثيرة ومواهب متعددة ؛ لذلك لا تتجمع المواهب في شخص، ويحرم منها آخر، بل ينشر الخالق – عز وجل – المواهب بين خلقه، فهذا ماهر في شيء، وذاك ماهر في شيء آخر، وهكذا ليحتاج الناس بعضهم لبعض، ويتم الربط بين أفراد المجتمع، ويحدث بينهما الانسجام اللازم لحركة الحياة.
إذن : كل بعض في الوجود مرفوع في شيء، ومرفوع عليه في شيء آخر، فليكن الإنسان مؤدبا في حركة حياته لا يتعالى على غيره لأنه نبغ في شيء، ولينظر إلى ما نبغ فيه الآخرون، وإلى ما تميزوا به حتى لا يسخر قوم من قوم، عسى أن يكونوا خيرا منهم، وربما لديهم من المواهب ما لم يتوفر لك.
لكن ما دام بعضكم لبعض عدوا أي : آدم مطمور فيه ذريته، وإبليس مطمور فيه ذريته، فمن سيكون الحكم ؟ الحكم بينهما منهج الله :﴿ فإما يأتينكم مني هدى.. ( ١٢٣ ) ﴾ ( طه ) : فإياكم أن تجعلوا الهدى من عندكم ؛ لأن الهدى إن كان من عندكم فلن ينفع ولن يفلح.
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ( ١٢٣ ) ﴾ ( طه ) : فكأن هدى الله ومنهجه هو ( كتالوج ) سلامة الإنسان وقانون صيانته. ألا ترى الصانع من البشر حين يرفق بصنعته ( كتالوجا ) يضم تعليمات عن تشغيلها وصيانتها، فإن اتبعت هذه التعليمات خدمتك هذه الآلة وأدت لك مهمتها دون تعطل.
وكما أن هذا ( الكتالوج ) لا يضعه إلا صانع الآلة، فكذلك الخالق – عز وجل – لا يضع لخلقه قانونهم وهديهم إلا هو سبحانه، فإن وضعه آخر فهذا افتئات على الله عز وجل، كما لو ذهبت إلى الجزار تقول له : ضع لي التعليمات اللازمة لصيانة ( الميكروفون ) ! !
إذن : الفساد في الكون يحدث حينما نخرج عن منهج الله، ونتعدى على قانونه وتشريعه، ونرتضي بهدي غير هديه ؛ لذلك يقول تعالى بعدها :﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ( ١٢٣ ) ﴾ ( طه ) : فإن كانت هذه نتيجة من اتبع هدى الله وعاقبة السير على منهجه تعالى، فما عاقبة من أعرض عنه ؟.
والإعراض : هو الانصراف، وأن تعطيه عرض أكتافك كما ذكرنا من قبل.
وقوله :﴿ معيشة ضنكا.. ( ١٢٤ ) ﴾ ( طه ) : الضنك هو الضيق الشديد الذي تحاول أن تفلت منه هنا أو هناك فلا تستطيع، والمعيشة الضنك هذه تأتي من أعرض عن الله، لأن من آمن بإله إن عزت عليه الأسباب لا تضيق به الحياة أبدا ؛ لأنه يعلم أن له ربا يخرجه مما هو فيه.
أما غير المؤمن فحينما تضيق به الأسباب وتعجزه لا يجد من يلجأ إليه فينتحر. المؤمن يقول : لي رب يرزقني ويفرج كربي، كما يقول عز وجل :﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( ٢٨ ) ﴾ ( الرعد ).
لذلك يقولون : لا كرب وأنت رب، وإذا كان الولد لا يحمل هما في وجود أبيه فله أب يكفيه متاعب الحياة ومشاقها، فلا يدري بأزمات ولا غلاء أسعار، ولا يحمل هم شيء، فما بالك بمن له رب ؟
وسبق أن ضربنا مثلا – ولله المثل الأعلى -، قلنا : هب أن معك جنيها ثم سقط من جيبك، أو ضاع منك فسوف تحزن عليه إن لم يكن معك غيره، فإن كان معك غيره فلن تحزن عليه، فإن كان لديك حساب في البنك فكأن شيئا لم يحدث. وهكذا المؤمن لديه في إيمانه بربه الرصيد الأعلى الذي يعوضه عن كل شيء.
والحق – تبارك وتعالى – أعطانا مثالا لهذا الرصيد الإيماني في قصة موسى عليه السلام مع فرعون، حينما حوصر موسى وقومه بين البحر من أمامهم وفرعون بجنوده من خلفهم، وأيقن القوم أنهم مدركون، ماذا قال نبي الله موسى ؟
قال :﴿ كلا إن معي ربي سيهدين ( ٦٢ ) ﴾ ( الشعراء ) : هكذا بملء فيه يقولها قولة الواثق مع أنها قولة يمكن أن تكذب بعد لحظات، لكنه الإيمان الذي تطمئن به القلوب، والرصيد الذي يثق فيه كل مؤمن.
إذن : من آمن بالله واتبع هداه فلن يكون أبدا في ضنك أو شدة، فإن نزلت به شدة فلن تخرج عزمه عن الرضى، واللجوء إلى ربه.
ومن آيات الإعجاز القرآني في مسألة الضيق، قوله تعالى :﴿ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء.. ( ١٢٥ ) ﴾ ( الأنعام ).
فمن أين عرف محمد صلى الله عليه وسلم أن من يصعد في السماء يضيق صدره ؟ وهل صعد أحد إلى السماء في هذا الوقت وجرب هذه المسألة ؟ ومعنى ضيق الصدر أن حيز الرئة التي هي آلة التنفس يضيق بمرض أو مجهود زائد أو غيره، ألا ترى أنك لو صعدت سلما مرتفعا تنهج١، معنى ذلك أن الرئة وهي خزينة الهواء لا تجد الهواء الكافي الذي يتناسب والحركة المبذولة، وعندها تزداد حركة التنفس لتعوض نقص الهواء.
والآن وبعد غزو الفضاء عرفنا مسألة ضيق التنفس في طبقات الجو العليا مما يضطرهم إلى أخذ أنابيب الأوكسجين وغيرها من آلات التنفس.
١ النهج والنهيج: تواتر النفس من شدة الحركة. (لسان العرب – مادة: نهج)..
وكلمة ﴿ أعمى.. ( ١٢٥ ) ﴾ ( طه )، جاءت في قوله تعالى :﴿ ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ( ٧٢ ) ﴾ ( الإسراء ).
والمراد بالعمى ألا تدرك المبصرات، وقد توجد المبصرات ولا تتجه لها بالرؤية، فكأنك أعمى لا ترى، وكذلك المعرض عن الآيات الذي لا يتأملها، فهو أعمى لا يراها.
لذلك في الآخرة يقول تعالى :﴿ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما.. ( ٩٧ ) ﴾ ( الإسراء ) : فساعة يبعث الكافرون يفزعون بالبعث الذي كانوا ينكرونه ويضطربون اضطرابا، يحاول كل منهم أن يرى منفذا، وطريقا للنجاة، ولكن هيهات، فقد سلبهم الله منافذ الإدراك كلها، وسد في وجوههم كل طرق النجاة، والإنسان يهتدي إلى طريقه بذاته وبعيونه، فإن كان أعمى أمكنه أن ينادي على من يأخذ بيده، فإن كان أيضا أبكم، فلربما سمع من يناديه ويحذره ويدله، فإن كان أصم لا يسمع ؟
إذن : سدت أمامه كل وسائل النجاة، فهو أعمى لا يبصر النجاة بذاته، وأبكم لا يستطيع أن يستغيث بمن ينقذه، وهو أيضا أصم لا يسمع من يتطوع بإرشاده أو تحذيره.
وقد وجد كثير من المشككين في هذه الآية شيئا ظاهريا يطعنون به على أسلوب القرآن، حيث يقول هنا :﴿ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى.. ( ١٢٥ ) ﴾ ( طه )، وفي موضع آخر يقول :﴿ ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها.. ( ٥٣ ) ﴾ ( الكهف ) : فنفى عنهم الرؤية في آية، وأثبتها في آية أخرى.
وفات هؤلاء المتمحكين أن الإنسان بعد البعث يمر بمراحل عدة : فساعة يحشرون من قبورهم يكونون عميا حتى لا يهتدوا إلى طريق النجاة، لكن بعد ذلك يريهم الله بإيلام آخر ما يتعذبون به من النار.
وهذا الذي حاق بهم كفاء لما صنعوه، فقد قدموا هم العمى والصمم والبكم في الدنيا، فلما دعاهم الرسول إلى الله صموا آذانهم، واستغشوا ثيابهم.
﴿ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ( ١٢٦ ) ﴾.
أي : نعاملك كما عاملتنا، فننساك كما نسيت آياتنا.
والآيات جمع آية، وهي الأمر العجيب، وتطلق على الآيات الكونية التي تلفت إلى المكون سبحانه، وتطلق على المعجزات التي تؤيد الرسل، وتثبت صدق بلاغهم عن الله، وإن كانت الآيات الكونية تلفت إلى قدرة الخالق – عز وجل – وحكمته، فالرسول هو الذي يدل الناس على هذه القوة، وعلى صاحب هذه الحكمة والقدرة التي يبحث عنها العقل.
أيها المؤمن هذه القوة هي الله، والله يريد منك كذا وكذا، فإن أطعته فلك من الأجر كذا وكذا، وإن عصيته فعقابك كذا وكذا. ثم يؤيد الرسول بالمعجزات التي تدل على صدقه في البلاغ عن ربه.
وتطلق الآيات على آيات الكتاب الحاملة للأحكام وللمنهج.
وأنت كذبت بكل هذه الآيات ولم تلتفت إليها، فلما نسيت آيات الله كان جزاءك النسيان جزاء وفاقا. والنسيان هنا يعني الترك، وإلا فالنسيان الذي يقابله الذكر معفى عنه ومعذور صاحبه.
أما قوله :﴿ وكذلك اليوم تنسى ( ١٢٦ ) ﴾ ( طه ) : أي تنسى في النعيم وفي الجنة، لكنك لا تنسى في العقاب والجزاء.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ( ١٢٧ ) ﴾.
قوله تعالى :﴿ كذلك.. ( ١٢٧ ) ﴾ ( طه ) : أي : مثل هذا الجزاء ﴿ نجزي من أسرف.. ( ١٢٧ ) ﴾ ( طه ) والإسراف : تجاوز الحد في الأمر الذي له حد معقول، فالأكل مثلا جعله الله لاستبقاء الحياة، فإن زاد عن هذا الحد فهو إسراف.
دخلك الذي يسره الله لك يجب أن تنفق منه في حدود، ثم تدخر الباقي لترقى به في الحياة، فإن أنفقته كله فقد أسرفت، ولن تتمكن من أن ترقي نفسك في ترف الحياة.
ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين.. ( ٢٧ ) ﴾ ( الإسراء ).
وللإسلام نظرته الواعية في الاقتصاديات، فالحق يريد منك أن تنفق، ويريد منك ألا تسرف وبين هذين الحدين تسير دفة المجتمع، ويدور دولاب الحياة، فإن بالغت في حد منهما تعطلت حركة الحياة، وارتبك المجتمع وبارت السلع.
وقد أوضح الحق سبحانه هذه النظرة في قوله :﴿ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا١وكان بين ذلك قواما ( ٦٧ ) ﴾ ( الفرقان ).
فربك يريد منك أن تجمع بين الأمرين ؛ لأن التقتير والإمساك يعطل حركة الحياة، والإسراف يجمد الحياة ويحرمك من الترقي، والأخذ بأسباب الترف ؛ لذلك قال تعالى :﴿ فتقعد ملوما محسورا ( ٢٩ ) ﴾ ( الإسراء )
وقد يكون الإسراف من ناحية أخرى : فربك عز وجل خلقك، وخلق لك مقومات حياتك، وحدد لك الحلال والحرام، فإذا حاولت أنت أن تزيد في جانب الحلال مما حرمه الله عليك، فهذا إسراف منك، وتجاوز للحد الذي حده لك ربك، تجاوزت الحد فيما أحل لك، وفيما حرم عليك.
وقد يأتي الإسراف من ناحية أخرى : فالشيء في ذاته قد يكون حلالا، لكن أنت تأخذه من غير حله.
فإذا نقلنا المسألة إلى التكاليف وجدنا أن الله تعالى أحل أشياء وحرم أشياء، فلا تنقل شيئا مما حرم إلى شيء أحل، ولا شيئا مما أحل إلى شيء حرم، كما قال سبحانه :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق.. ( ٣٢ ) ﴾ ( الأعراف ).
وخاطب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك.. ( ١ ) ﴾ ( التحريم )
إذن : فربك لا يضيق عليك، وينهاك أن تضيق على نفسك وتحرم عليها ما أحل لها، كما يلومك على أن تحلل ما حرم عليك لأن ذلك في صالحك.
وكما يكون الإسراف في الطعام والشراب وهما من مقومات استبقاء الحياة، يكون كذلك في استبقاء النوع بالزواج والتناسل، إلى أن تقوم الساعة، فجعل الحق سبحانه للممارسة الجنسية حدودا تضمن النسل والاستمتاع الحلال، فمن تعدى هذه الحدود فقد أسرف.
ومن رحمته تعالى أنه يغفر لمن أسرف على نفسه شريطة أن يكون مؤمنا :﴿ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله.. ( ٥٣ ) ﴾ ( الزمر ).
وقوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ.. ( ١٢٧ ) ﴾ ( طه ) : فأنزل الإسراف منزلة تالية لعدم الإيمان ؛ لذلك قال بعدها :﴿ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ.. ( ١٢٧ ) ﴾ ( طه ) : لأنه حين ينقل الحلال إلى الحرام، أو الحرام إلى الحلال، فكأنه عطل آيات الله.
ثم يقول تعالى :﴿ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ( ١٢٧ ) ﴾ ( طه ) : إذن : فالكلام هنا عن الدنيا، فلا تظن أن الله يؤخر للكافر كل العذاب، فهناك أشياء تعجل له في الدنيا لا تؤخر.
وأول ما لا يؤخر ويعجل الله به في الدنيا عقوبة الظلم، فلا يمكن أن يموت الظالم قبل أن يرى المظلوم ما صنعه الله به، وإلا فالذين لا يؤمنون بالقيامة ولا بالجزاء كانوا فجروا في الخلق وعاثوا في الأرض، فمن حكمة الله أن نرى لكل ظالم مصرعا حتى تستقيم حركة الحياة، ولو لم يكن الإنسان مؤمنا.
والحق سبحانه حين يريد أن يعذب يتناسب تعذيبه مع قدرته تعالى، كما أن ضربة الطفل غير ضربة الشاب القوي، إذن : ما يناله من عذاب في الحياة هين لأنه من الناس، أما عذاب الآخرة فشيء آخر ؛ لأنه عذاب من الله يتناسب مع قدرته تعالى.
﴿ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ( ١٢٧ ) ﴾ ( طه ) : أبقى : لأن عذاب الدنيا ينتهي بالموت، أو بأن يرضى عنك المعذب ويرحمك، وقد يتوسط لك أحد فيزيل عنك العذاب، أما في الآخرة فلا شيء من ذلك، ولا مفر من العذاب ولا ملجأ.
١ قتر الرجل على عياله: ضيق عليهم في النفقة، والقتر والإقتار والتقتير كله بمعنى واحد: هو التضييق الذي هو نقيض الإسراف. (القاموس القويم ٢ / ١٠٠)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ( ١٢٨ ) ﴾.
الهداية : الدلالة والبيان، وتهديه أي : تدله على طريق الخير.
والاستفهام في :﴿ أفلم يهد لهم.. ( ١٢٨ ) ﴾ ( طه ) : والاستفهام يرد مرة لتعلم ما تجهل، أو يرد للتقرير بما فعلت.
فالمراد : أفلم ينظروا إلى الأمم السابقة وما نزل بهم لما كذبوا رسل الله ؟ كما قال في آية أخرى :﴿ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين ( ١٣٧ ) ﴾ ( الصافات ).
وقال سبحانه :﴿ والفجر ( ١ ) وليال عشر ( ٢ ) والشفع والوتر ( ٣ ) والليل إذا يسر ( ٤ ) هل في ذلك قسم لذي حجر١ ( ٥ ) ألم تر كيف فعل ربك بعاد ( ٦ ) إرم ذات العماد ( ٧ ) التي لم يخلق مثلها في البلاد ( ٨ ) وثمود الذين جابوا٢الصخر بالواد ( ٩ ) وفرعون ذي الأوتاد ( ١٠ ) ﴾ ( الفجر ).
ألا ترون كل هذه الآيات في المكذبين ؟ ألا ترون أن الله ناصر رسله ؟ ولم يكن سبحانه ليبعثهم، ثم يتخلى عنهم، ويسلمهم، كما قال سبحانه :﴿ وإن جندنا لهم الغالبون ( ١٧٣ ) ﴾ ( الصافات )، وقال :﴿ ولينصرن الله من ينصره.. ( ٤٠ ) ﴾ ( الحج ).
وبعد هذا كله يعرض المكذبون، وكأنهم لم يروا شيئا من هذه الآيات.
وساعة ترى ( كم ) فاعلم أنها للشيء الكثير الذي يفوق الحصر، كما تقول لصاحبك : كم أعطيتك، وكم ساعدتك. أي : مرات كثيرة، فكأنك وكلته ليجيب هو بنفسه، ولا تستفهم منه إلا إذا كان الجواب في صالحك قطعا.
فمعنى :﴿ أفلم يهد لهم.. ( ١٢٨ ) ﴾ ( طه ) : يعني : يبين لهم ويدلهم على القرى الكثيرة التي كذبت رسلها، وماذا حدث لها وحاق بها من العذاب، وكان عليهم أن يتنبهوا ويأخذوا منهم عبرة ولا ينصرفوا عنها.
وقوله تعالى :﴿ يمشون في مساكنهم.. ( ١٢٨ ) ﴾ ( طه )، كقوله :﴿ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين ( ١٣٧ ) ﴾ ( الصافات ) فليس تاريخا يحكى إنما واقع ماثل ترونه بأعينكم، وتسيرون بين أطلاله ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى ( ١٢٨ ) ﴾ ( طه ) : أي : عجائب لمن له عقل يفكر.
وكلمة ( النهى ) جمع نهية، وهي العقل، وهذه الكلمة تحل لنا إشكالات كثيرة في الكفر، فالبعض يظن أن الله تعالى خلق لنا العقل لنرتع به في مجالات الفكر كما نشاء، وننفلت من كل القيود.
إنما العقل من العقال الذي يعقل به البعير حتى لا ينفلت منك، وكذلك عقلك يعقلك، وينظم حركتك حتى لا تسير في الكون على هواك، عقلك لتعقل به الأمور فتقول : هذا صواب، وهذا خطأ. قبل أن تقدم عليه.
فالسارق لو عقل ما يفعل ما أقدم على سرقة الناس، وما رأيك لو أبحنا للناس جميعا أن يسرقوك، وأنت فرد، وهم جماعة ؟
الحق ساعة يعقل بصرك أن يمتد لما حرم عليك فلا تقل : ضيق علي، لأنه أمر الآخرين أن يغضوا أبصارهم عن محارمك، والغير أكثر منك، إذن : فأنت المستفيد. فإن أردت أن تعربد في أعراض الناس، فأبح لهم أن يعربدوا في أعراضك.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه شاب يشكو عدم صبره على غريزة الجنس، يريد أن يبيح له الزنا والعياذ بالله، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يلقنه درسا يصرفه عن هذه الجريمة، فماذا قال له ؟
قال :( يا أخا العرب، أتحب هذا لأمك ؟ أتحب هذا لأختك ؟ أتحب هذا لزوجتك ؟ ) والشاب يقول في كل مرة : لا يا رسول الله جعلت فداك. ولك أن تتصور ماذا ينتاب الواحد منا إن سمع سيرة أمه وأخته وزوجته في هذا الموقف.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم للشاب بعد أن هزه هذه الهزة العنيفة :( كذلك الناس لا يحبون ذلك لأمهاتهم، ولا لزوجاتهم، ولا لأخواتهم، ولا لبناتهم ).
وهنا قال الشاب :( فوالله ما همت نفسي لشيء من هذا إلا وذكرت أمي وزوجتي وأختي وابنتي )٣.
إذن : فالعقل هو الميزان، وهو الذي يجري المعادلة، ويوازن بين الأشياء، وكذلك إن جاء بمعنى النهى أو اللب فإنها تؤدي نفس المعنى : فالنهى من النهي عن الشيء، واللب أي : حقيقة الشيء وأصله، لا أن يكون سطحي التفكير يشرد منك هنا وهناك.
١ الحجر: العقل؛ لأنه يمنع صاحبه ويحجره عما لا يليق به. (القاموس القويم ١ / ١٤٤)..
٢ جابه يجوبه: قطعه. جابوا: أي قطعوا الصخر ونحتوه وصنعوا منه بيوتهم وأصنامهم. (القاموس القويم ١ / ١٣٥)..
٣ أخرجه أحمد في مسنده (٥ / ٢٥٦، ٢٥٧)، والطبراني في معجمه الكبير (٨ / ١٩٠، ٢١٥) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا له قائلا: (اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه) فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ( ١٢٩ ) ﴾.
الكلام عن آيات الله في المكذبين للرسل وما حاق بهم من العذاب وقد مر عليها القوم دون أن يعتبروا بها، أو يرتدعوا، أو يخافوا أن تكون نهايتهم كنهاية سابقيهم، وربما قال هؤلاء القوم : ها نحن على ما نحن عليه دون أن يصيبنا شيء من العذاب : لا صعق ولا مسخ ولا ريح، فبماذا تهددنا ؟
لذلك يوضح لهم الحق - سبحانه وتعالى – هذه المسألة : ما منعنا أن نفعل بكم ما فعلنا بسابقيكم من المكذبين بالرسل، ما منعنا من إذلالكم وتدميركم إلا شيء واحد هو كلمة سبقت من الله.
﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ( ١٢٩ ) ﴾ ( طه ).
فما هذه الكلمة التي سبقت من الله، ومنعت عنهم العذاب ؟
المراد بالكلمة قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ( ٣٣ ) ﴾ ( الأنفال ).
فهذه الكلمة التي سبقت منى هي التي منعت عنكم عذابي، والرسول صلى الله عليه وسلم يوضح هذه المسألة فيقول :( بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا )١.
فإن قال قائل : الله يهدد الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم بأن ينزل بهم ما أنزل بالمكذبين من الأمم السابقة، وها هم كفار مكة يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أن يحدث لهم شيء.
نقول : لأن لهم أمانين من العذاب، الكلمة التي سبقت، والأجل المسمى عند الله ﴿ وأجل مسمى ( ١٢٩ ) ﴾ ( طه ) فلكل واحد أجل معلوم.
ومعنى :﴿ لكان لزاما.. ( ١٢٩ ) ﴾ ( طه ) : أي : لزم لزاما أن يحيق بهم ما حاق بالأمم السابقة.
١ أخرجه البخاري في صحيحه (٣٢٣١، ٧٣٨٩)، وكذا مسلم في صحيحه (١٧٩٥) من حديث عائشة رضي الله عنها..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ( ١٣٠ ) ﴾.
فما دام أن القوم يكذبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم في مأمن من العذاب، فلا بد أن يتمادوا في تكذيبهم، ويستمروا في عنادهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لذلك يتوجه الحق – سبحانه وتعالى – إلى الناحية الأخرى فيعطي رسوله صلى الله عليه وسلم المناعة اللازمة لمواجهة هذا الموقف ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ.. ( ١٣٠ ) ﴾ ( طه ) : لأن لك بكل صبر أجرا يتناسب مع ما تصبر عليه.
والصبر قد يكون ميسورا سهلا في بعض المواقف، وقد يكون شديدا وصعبا ويحتاج إلى مجاهدة ؛ فمرة يقول الحق لرسوله صلى الله عليه وسلم : اصبر. ومرة يقول : اصطبر١.
فما الأقوال التي يصبر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قولهم له : ساحر. وقولهم : شاعر وقولهم : مجنون وكاهن، كما قالوا عن القرآن : أضغاث أحلام. وقالوا : أساطير الأولين. فاصبر يا محمد على هذا كله ؛ لأن كل قولة من أقوالهم تحمل معها دليل كذبهم.
فقولهم عن رسول الله : ساحر، فمن الذي سحره رسول الله ؟ سحر المؤمنين به، فلماذا إذن – لم يسحركم أنتم أيضا، وتنتهي المسألة. إذن : بقاؤكم على عناده والكفر به دليل براءته من هذه التهمة.
وقولهم : شاعر، كيف وهم أمة صناعتها الكلام، وفنون القول شعره ونثره، فكيف يخفى عليهم أسلوب القرآن ؟ والشعر عندهم كلام موزون ومقفى، فهل القرآن كذلك ؟ ولو جاء هذا الاتهام من غيركم لكان مقبولا. أما أن يأتي منكم أنتم يا من تجعلون للكلام أسواقا ومعارض كمعارض الصناعات الآن، فهذا غير مقبول منكم.
وسبق أن قلنا : إنك إذا قرأت مقالا مثلا، ومر بك بيت من الشعر تشعر به وتحس أذنك أنك انتقلت من نثر إلى شعر، أو من شعر إلى نثر، فخذ مثلا قول ابن زيدون٢ :
( هذا العذل محمود عواقبه، وهذه النبوة غمرة ثم تنجلي، ولن يريبني من سيدي أن أبطأ سيبه، أو تأخر غير ضنين غناؤه، فأبطأ الدلاء فيضا أملؤها، وأثقل السحائب مشيا أحلفها. ومع اليوم غد، ولكل أجل كتاب، له العتب في احتباله، ولا عتب عليه في اغتفاله.
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا،
فأفعاله اللائي سررن ألوف )
على الفور تحس أذنك أنك انتقلت من نثر إلى شعر.
فإذا ما قرأت في القرآن مثلا قوله تعالى :﴿ وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين ( ٣٠ ) فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم ( ٣١ ) قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم.. ( ٣٢ ) ﴾ ( يوسف ) :
فهل أحسست بانتقال الأسلوب من نثر إلى شعر، أو من شعر إلى نثر ؟ ومع ذلك لو وزنت ﴿ فذالكن الذي لمتنني فيه.. ( ٣٢ ) ﴾ ( يوسف ) : لوجدت لها وزنا شعريا.
وقوله تعالى :﴿ نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ( ٤٩ ) ﴾ ( الحجر ).
لو أردتها بيتا شعريا تقول ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ). ومع ذلك تقرأها في سياقها، فلا تشعر أنها شعر ؛ لأن الأسلوب فريد من نوعه، وهذه من عظمة القرآن الكريم، كلام فذ لوحده غير كلام البشر.
أما قولهم :( مجنون ) فالمجنون لا يدري ما يفعل، ولا يعقل تصرفاته ولا يسأل عنها، ولا نستطيع أن نتهمه بشيء فنقول عنه مثلا ؛ كذاب أو قبيح، لأن آلة الاختيار عنده معطلة، وليس لديه انسجام في التصرفات، فيمكن أن يضحك في وجهك، ثم يضربك في نفس الوقت، يمكن أن يعطيك شيئا ثم يتفل في وجهك.
والمجنون ليس له خلق، والحق سبحانه يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ ن والقلم وما يسطرون ( ١ ) ما أنت بنعمة ربك بمجنون ( ٢ ) وإن لك لأجرا غير ممنون ( ٣ ) وإنك لعلى خلق عظيم ( ٤ ) ﴾ ( القلم )
والخلق هو الملكة المستقرة للخير، فكيف يكون محمد مجنونا، وهو على خلق عظيم ؟ ثم هل جربتم عليه شيئا مما يفعله المجانين ؟
أما قولهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم افترى هذا القرآن، كيف وأنتم لم تسمعوا منه قبل البعثة شعرا أو خطبا ولم يسبق أن قال شيئا مثل هذا ؟ كيف يفتري مثل هذا الأسلوب المعجز، وليس عنده صنعة الكلام ؟ وإن كان محمد قد افترى القرآن فلماذا لا تفترون أنتم مثله وتعارضونه ؟
﴿ قل فأتوا بسورة مثله.. ( ٣٨ ) ﴾ ( يونس ).
وهكذا تقوم من نفس أقوالهم الأدلة على كذبهم وادعائهم على رسول الله.
ثم يقول تعالى :﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا.. ( ١٣٠ ) ﴾ ( طه ).
والتسبيح هو التنزيه لله تعالى، وهو صفة لله قبل أن يخلق من يسبحه وينزهه ؛ لذلك يقول تعالى في استهلال سورة الإسراء :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده.. ( ١ ) ﴾ ( الإسراء ) ؛ لأن العملية مخالفة لمنطق القوانين، فقال : نزه فعل الله عن أفعالك.
إذن : فسبحان معناها أن التنزيه ثابت لله، ولو لم يوجد المنزه، فلما خلق الله الكون سبحت السموات والأرض وما فيهن لله.
فإذا كان التسبيح ثابتا لله قبل أن يوجد المسبح، ثم سبح لله أول خلقه، ولا يزالون يسبحون، فأنت أيضا سبح باسم ربك الأعلى. أي : نزهه سبحانه ذاتا وصفاتا وأفعالا وأقوالا عما تراه من المخلوقات.
ومعنى :﴿ بحمد ربك.. ( ١٣٠ ) ﴾ ( طه ) : لأن من لوازم الخلق أن يكون مختلفا في الأهواء والأغراض والمصالح، يتشاكلون ويتحاربون على عرض زائل، فمنهم الظالم والمظلوم، والقوي والضعيف.
إذن : لا بد من وجود واحد لا توجد فيه صفة من هذه الصفات، ليضع القانون والقسطاس المستقيم الذي ينظم حياة الخلق، فهذا التنزه عن مشابهة الأحداث كلها، وعن هذه النقائض نعمة يجب أن نشكر الله ونحمده على وجودها فيه، نحمده على أنه ليس كمثله شيء، فذلك يجعل الكون كله طائعا، إنما لو مثله شيء فلربما تأبى على الطاعة في ( كن فيكون ).
والتسبيح والتنزيه يعني أن المقياس الذي يضبط العالم ليس كمقياس العالم، إنما أصلح وأقوى، وهذا في صالحك أنت، فساعة أن تسبح الله اذكر أن التسبيح نعمة، فاحمد الله على أنه لا شيء مثله. سبح تسبيحا مصحوبا بحمد ربك ؛ لأن تنزيهه إنما يعود بالخير على من خلق، وهذه نعمة تستحق أن تحمد الله عليها.
ومثال ذلك – ولله المثل الأعلى – رب الأسرة، هذا الرجل الكبير العاقل صاحب كلمة الحق والعدل بين أفرادها، وصاحب المهابة بينهم تراهم جميعا يحمدون الله على وجوده بينهم ؛ لأنه يحفظ توازن الأسرة، وينظم العلاقات بين أفرادها. ألم نقل في الأمثال ( اللي ملوش كبير يشتري له كبير ) ؟
حتى وإن كان هذا الكبير متعاليا ؛ لأن تعاليه لصالح أفراد أسرته، حيث يستلزم كل واحد منهم حدوده.
لذلك من أسماء الله تعالى : المتعال المتكبر، وهذه الصفة وإن كانت ممقوتة بين البشر لأنها بلا رصيد، فهي محبوبة لله تعالى ؛ لأنها تجعل الجميع دونه سبحانه عبدا له، فتكبره سبحانه وتعاليه بحق :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ( ٨٢ ) ﴾ ( يس ).
إذن : لا يحفظ التوازن في الكون إلا قوة مغايرة للخلق.
وقوله :﴿ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى ( ١٣٠ ) ﴾ [ طه ].
أي : تسبيحا دائما متواليا، كما أن نعم الله عليك متوالية لا تنتهي، فكل حركة من حركاتك نعمة، النوم نعمة، والاستيقاظ نعمة، الأكل نعمة، والشرب نعمة، البصر والسمع، كل حركة من حركات الأحداث نعمة تستحق الحمد، وكل نعمة من هذه ينطوي تحتها نعم.
خذ مثلا حركة اليد التي تبطش بها، وتأمل كم هي مرنة مطواعة لك كما شئت دون تفكير منك، أصابعك تتجمع وتمسك الأشياء دون أن تشعر أنت بحركة العضلات وتوافقها، وربما لا يلتفت الإنسان إلى قدرة الله في حركة يده، إلا إذا أصابها شلل والعياذ بالله، ساعتها يعرف أنها عملية صعبة، ولا يقدر عليها إلا الخالق عز وجل.
لذلك، فالحق – سبحانه وتعالى – يعطينا زمن التسبيح، فيعيشه في كل الوقت ﴿ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ.. ( ١٣٠ ) ﴾ ( طه ).
وآناء : جمع ّإني، وهو الجزء من الزمن، وهذا الجزء يترقى حسب تنبهك لتسبيح التحميد، فمعنى التسبيح آناء الليل، يعني أجزاء الليل كله، فهل يعني هذا أن الإنسان لا عمل له إلا التسبيح ؟
المناطقة يقولون عن الجزء من الوقت : مقول بالتشكيك، فيمكن أن تجزئ الليل إلى ساعات، فتسبح كل ساعة، أو تترقى فتسبح كل دقيقة، أو تترقى فتسبح كل ثانية، وهكذا حسب مقامات المسبح الحامد وأحواله.
فهناك من عباد الله من لا يفتر عن تسبيحه لحظة واحدة، فتراه يسبح الله في كل حركة من حركاته ؛ لأنه يعلم أنه لا يؤديها بذاته بدليل أنها قد تسلب منه في أي وقت.
إذن : فأجزاء الوقت تختلف باختلاف المقامات والأحوال، ألا تراهم في وحدة القياس يقيسون بالمتر، ثم بالسنتيمتر، ثم بالملليمتر، وفي قياس الوقت توصل اليابانيون إلى أجهزة تحدد جزءا من سبعة آلاف جزء من الثانية.
ثم يقول :﴿ وأطراف النهار.. ( ١٣٠ ) ﴾ ( طه ) : ليستوعب الزمن كله ليله ونهاره، والمقامات والأحوال كلها، لذلك يقول بعض العارفين في نصائحه التي تضمن سلامة حركة الحياة :
( اجعل مراقبتك لمن لا تخلو عن نظره إليك ) فهذا الذي يستحق المراقبة، وعلى المرء أن ينتبه لهذه المسألة، فلا تكن مراقبته لمن يغفل عنه، أو ينصرف، أو ينام عنه.
( واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك ) فإذا شربت كوب ماء فقل : الحمد لله أن أرواك، فساعة تشعر بنشاطها في نفسك قل : الحمد لله. وساعة أن تخرجها عرقا أو بولا قل : الحمد لله، وهكذا تكون موالاة حمد الله، والمداومة على شكره.
( واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه ) فطالما أنك لا تستغني عنه، فهو الأولى بطاعتك.
( واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه ) وإلا فأين يمكنك أن تذهب ؟
لكن، لماذا أطلق زمن التسبيح بالليل، فقال :﴿ آناء الليل.. ( ١٣٠ ) ﴾ ( طه ) : وحدده في النهار فقال :﴿ وأطراف النهار.. ( ١٣٠ ) ﴾ ( طه ) ؟
قالوا : لأن النهار عادة يكون محلا للعمل والسعي، فربما شغلك التسبيح عن عملك، وربنا يأمرنا أن نضرب في الأرض ونسهم في حركة الحياة، والعمل يعين على التسبيح، ويعين على الطاعة، ويعينك أن تلبي نداء : الله أكبر.
ألا تقرأ قول الله – عز وجل – في سورة الجمعة :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ( ٩ ) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ( ١٠ ) ﴾ ( الجمعة ).
ذلك لأن حركة الحياة هي التي تعينك على أداء فرض ربك عليك.
فأنت مثلا تحتاج في الصلاة إلى ستر العورة، فانظر إلى هذا الثوب الذي تستر به عورتك : كم يد ساهمت فيه ؟ وكم حركة من حركات الحياة تضافرت في إخراجه على هذه الصورة ؟
أما في الليل فأنت مستريح، يمكنك التفرغ فيه لتسبيح الله في أي وقت من
١ وذلك في قوله تعالى: ﴿وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها.................. (١٣٢)﴾ (طه). (القاموس القويم ١ / ٣٦٧)..
٢ هو: أحمد بن عبد الله بن غالب بن زيدون، المخزومي الأندلسي، أبو الوليد، وزير كاتب شاعر، من أهل قرطبة، ولد ٣٩٤ هـ، انقطع إلى ابن جهور (من ملوك الطوائف بالأندلس) فكان السفير بينه وبين الأندلس، فأعجبوا به، كانت له مراسلات، وله ديوان شعر. توفي عام ٤٦٣ هـ عن ٦٩ عاما. (الأعلام للزركلي ١ / ١٥٨)..
ثم يقول الحق سبحانه١ :﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( ١٣١ ) ﴾.
بعد أن قال الحق سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ فاصبر على ما يقولون.. ( ١٣٠ ) ﴾ ( طه ) حذره أن ينظر إلى هؤلاء الجبابرة والمعاندين على أنهم في نعمة تمتد عينه إليها. ومعنى مد العين ألا تقتصر على مجرد النظر على قدر طاقتها، إنما يوجهها باستزادة ويوسعها لترى أكثر مما ينبغي، ومد العين يأتي دائما بعد شغل النفس بالنعمة وتطلعها إليها، فكأن الله يقول : لا تشغل نفسك بما هم فيه من نعيم ؛ لأنه زهرة الدنيا التي سرعان ما تفنى.
وقوله :﴿ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ.. ( ١٣١ ) ﴾ ( طه ) : الأزواج لا يراد بها هنا الرجل والمرأة، إنما تعني الأصناف المقترنة، كما في قوله تعالى :﴿ وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم.. ( ٢٥ ) ﴾ ( فصلت ).
كل واحد له شيطان يلازمه لا يفارقه. هذه هي الزوجية المرادة، كذلك في قوله تعالى :﴿ قال قائل منهم إني كان لي قرين ( ٥١ ) ﴾ ( الصافات ).
والزهرة إشارة إلى سرعة النهاية والحياة القصيرة. وهي زهرة لحياة دنيا، وأي وصف لها أقل من كونها دنيا ؟ وهذا الذي أعطيناهم من متاع الدنيا الزائل فأخذوا يزهون به، ما هو إلا فتنة واختبار ﴿ لنفتنهم فيه.. ( ١٣١ ) ﴾ ( طه ) والاختبار يكون بالخير كما يكون بالشر، يقول تعالى :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة.. ( ٣٥ ) ﴾ ( الأنبياء )
ويقول تعالى :﴿ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن ( ١٥ ) ﴾ ( الفجر )
ويشكر أنه عرفها لله ﴿ وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه يقول ربي أهانن ( ١٦ ) ﴾ ( الفجر ).
وهنا يصحح لهم الحق سبحانه هذه الفكرة، يقول : كلاكما كاذب في هذا القول، فلا النعمة دليل الإكرام، ولا سلبها دليل الإهانة :﴿ كلا بل لا تكرمون اليتيم ( ١٧ ) ولا تحاضون على طعام المسكين ( ١٨ ) وتأكلون التراث٢أكلا لما ( ١٩ ) ﴾ ( الفجر ).
فهب أن الله أعطاك نعمة ولم تؤد شكرها وحقها، فأي إكرام فيها ؟
ثم يقول تعالى :﴿ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( ١٣١ ) ﴾ ( طه ) : أي : لا تشغل بالك بما أعطاهم الله ؛ لأنه سبحانه سيعطيك أعظم من هذا. ورزق ربك خير من هذا النعيم الزائل وأبقى وأخلد ؛ لأنه دائم لا ينقطع في دار البقاء التي لا تفوتها ولا تفوتك، أما هؤلاء فنعيمهم موقوت، إما أن يفوتهم بالفقر، أو يفوتوه هم بالموت.
١ أخرج الواحدي في أسباب النزول (ص ١٧٤) عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ضيفا نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدعاني فأرسلني إلى رجل من اليهود يبيع طعاما يقول لك محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نزل بنا ضيف ولم يلق عندنا بعض الذي يصلحه. فبعني كذا وكذا من الدقيق أو اسلفني إلى هلال رجب، فقال اليهودي: لا أبيعه ولا أسلفه إلا برهن، قال: فرجعت إليه فأخبرته، قال: والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض، ولو أسلفني أو باعني لأديت إليه، اذهب بدرعي إليه، ونزلت هذه الآية تعزية له عن الدنيا، وذكره السيوطي في الدر المنثور (٥ / ٦١٢) وعزاه لابن أبي شيبة والبزار وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن جرير. قال القرطبي في تفسيره (٦ / ٤٤٣٨): (قال ابن عطية: هذا معترض أن يكون سببا، لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لأنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بهذه القصة التي ذكرت)..
٢ التراث: ما يتركه الميت من مال فيورث عنه. قال تعالى: ﴿وتأكلون التراث أكلا لما (١٩)﴾ (الفجر) أي: تأكلون ما ترثونه أكلا لما جامعا للحلال والحرام، وهو تصوير للطمع والحرص الشديد على الدنيا. (القاموس القويم ٢ / ٢٢٩)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ( ١٣٢ ) ﴾.
هنا يعطينا الحق – تبارك وتعالى – منهجا لإصلاح المجتمع وضمان انسجامه، منهج يبدأ بالوحدة الأولى وهو رب الأسرة، فعليه أن يصلح نفسه أولا، ثم ينظر إلى الوحدة الثانية، وهي الخلية المباشرة له وأقرب الناس إليه وهم أهله وأسرته، فهو مركز الدائرة فإذا أصلح نفسه، فعليه أن يصلح الدوائر الأخرى المباشرة له.
فقوله تعالى :﴿ وأمر أهلك بالصلاة.. ( ١٣٢ ) ﴾ ( طه ) : لتستقيم الوحدة الأولى في بناء الكون، فإذا ما صلحت الوحدة الأولى في بناء الكون، فأمر كل واحد أهله بالصلاة، استقام الكون كله وصلح حال الجميع.
والمسألة هنا لا تقتصر على مجرد الأمر وتنتهي مسئوليته عند هذا الحد إنما ﴿ واصطبر علها.. ( ١٣٢ ) ﴾ ( طه ) : لأن في الصلاة مشقة تحتاج إلى صبر، فالصلاة تحتاج إلى وقت تأخذه من حركة الحياة التي هي سبب الخير والنفع لك، فلا بد – إذن – من صبر عليها.
وفرق بين اصبر واصطبر ؛ اصبر الفعل العادي، إنما اصطبر فيها مبالغة أي : تكلف حتى الصبر وتعمده.
ومن ذلك أن تحرص على أداء الصلاة أمام أولادك لترسخ في أذهانهم أهمية الصلاة، فمثلا تدخل البيت فتجد الطعام قد حضر فتقول لأولادك : انتظروني دقائق حتى أصلي، هنا يلتفت الأولاد إلى أن الصلاة أهم حتى من الأكل، وتغرس في نفوسهم مهابة التكليف، واحترام فريضة الصلاة، والحرص على تقديمها على أي عمل مهما كان.
وكان سيدنا عمر – رضي الله عنه – يقوم من الليل يصلي ما شاء الله له أن يصلي حتى يؤذن للفجر، فيوقظ أهله للصلاة فإن أبوا رش في وجوههم الماء١، لأن الصلاة خير من النوم، فالنوم في مثل هذا الوقت فيه راحة للبدن، أما الصلاة فهي أفضل وأعظم، ويكفي أنك تكون فيها في حضرة الله تعالى.
وهب أن رب الأسرة غاب عنها لمدة شهر أو عام، ثم فجأة قالوا : أبوكم جاء، فترى الجميع يهرولون إليه، وهكذا لله المثل الأعلى، إذا دعاك، فلا تتخلف عن دعوته، بل هرول إليه، وأسرع إلى تلبية ندائه، ولك أن تتصور واحدا يناديك وأنت لا ترد عليه ولا تجيبه، أعتقد أنه شيء غير مقبول، ولا يرضاه صاحبك.
إذن : عليك أن تعود أولادك احترام هذا النداء، وبمجرد أن يسمعوا ( الله أكبر ) يلبون النداء، لا يقدمون عليه شيئا آخر، فالله لا يبارك في عمل ألهاك عن نداء ( الله أكبر )، لأنك انشغلت بالنعمة عن المنعم عز وجل.
لذلك، إن أردت أن تعرف خير عناصر المجتمع فانظر إلى أسبقيتهم إلى إجابة نداء ( الله أكبر )، فإن أردت أن تعرف من هو أعلى منه منزلة، فانظر إلى آخرهم خروجا من المسجد، وليس كذلك من يأتي الصلاة دبرا، وبمجرد السلام يسرع إلى الانصراف.
ويروى أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عاب على أحد الصحابة إسراعه في الانصراف من المسجد بعد السلام، فتعمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يناديه في إحدى المرات، قال :( أزهدا فينا ) ؟
وهل هناك من يزهد في رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم والجلوس معه ؟ فقال الرجل : لا يا رسول الله، ولكن لي زوجة بالبيت تنتظر ثوبي هذا لتصلي فيه، فيدعو له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصرف الرجل إلى زوجته، فإذا بها تقول له : تأخرت بقدر كذا تسبيحة، فقال : لقد استوقفني رسول الله وحدث كذا وكذا، فقالت له : شكوت ربك لمحمد ؟
ثم يقول تعالى :﴿ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ.. ( ١٣٢ ) ﴾ ( طه ).
إذن : ما الذي يشغلك عن حضرة ربك، الرزق :﴿ لا نسألك رزقا.. ( ١٣٢ ) ﴾ ( طه ) : فالذي لا يستطيع العمل نوجه إليه من الأغنياء من يطرق بابه ويعطيه، فالغني شرط في إيمانه الفقير، وليس شرطا في إيمان الفقير الغني.
وكأن الحق سبحانه يعطينا إشارة إلى ضرورة البحث عن الفقير، والطرق على بابه لإعطائه حقه في مال الغني، لا ينتظره حتى يسأل، ويريق ماء وجهه وهو يطلب حقا من حقوقه في مجتمع الإيمان.
وقوله :﴿ نحن نرزقك.. ( ١٣٢ ) ﴾ ( طه ) : أي : لا نسألك رزقا ثم نتركك إنما لا نسألك ثم نحن نرزقك، فاطمئن إلى هذه المسألة.
﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ( ١٣٢ ) ﴾ ( طه ) : لأنك إذا تأزمت معك أمور الحياة تلجأ إلى الله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال إلى الصلاة، وتأزم الأمور يأتي حينما نفقد نحن الأسباب المعطاة من الله، فإذا فقدت الأسباب وضاقت بك الحيل لم يبق لك إلا أن تلجأ إلى المسبب سبحانه، كما يقول في آية أخرى :
﴿ ومن يتق الله يجعل له مخرجا ( ٢ ) ويرزقه من حيث لا يحتسب.. ( ٣ ) ﴾ ( الطلاق ).
١ أخرجه ابن ماجة في سننه (٣٣٦) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت رش في وجهها الماء، رحم الله المرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فصلى، فإن أبى رشت في وجهه الماء)..
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ( ١٣٣ ) ﴾.
مرت بنا ( لولا ) في قوله تعالى :﴿ ولولا كلمة سبقت.. ( ١٩ ) ﴾ ( يونس ) وتعني : امتناع التعذيب لوجود الكلمة، أما ( لولا ) هنا فتعني : هلا، للحث والطلب ﴿ لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ.. ( ١٣٣ ) ﴾ ( طه ) : كما في :﴿ ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله.. ( ٣٩ ) ﴾ ( الكهف ).
فكأن القرآن لا يعجبهم، مع أنهم أمة بلاغة وبيان، وأمة فصاحة وكلام، والقرآن يخجلهم لفصاحته وبلاغته، فأي آية تريدونها بعد هذا القرآن ؟
﴿ وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ.. ( ١٣٣ ) ﴾ ( طه ) : كدليل صدق على بلاغة عن الله كالمعجزات الحسية التي حدثت لمن قبله من الرسل، كما قال تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا ( ٩٠ ) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ( ٩١ ) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ( ٩٢ ) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ( ٩٣ ) ﴾ ( الإسراء ) :
إذن : فالآيات من الله لا دخل لي فيها ولا أختارها، وها هو القرآن بين أيديكم يخبركم بما كان في الأمم السابقة ﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( ٤٣ ) ﴾ ( النحل ).
وقال تعالى :﴿ قد أفلح من تزكى ( ١٤ ) وذكر اسم ربه فصلى ( ١٥ ) بل تؤثرون الحياة الدنيا ( ١٦ ) والآخرة خير وأبقى ( ١٧ ) إن هذا لفي الصحف الأولى ( ١٨ ) صحف إبراهيم وموسى ( ١٩ ) ﴾ ( الأعلى )
وقال تعالى :﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح.. ( ١٦٣ ) ﴾ ( النساء ).
لذلك يقول تعالى بعدها :﴿ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى ( ١٣٣ ) ﴾ ( طه ).
فالقرآن جاء جامعا ومهيمنا على الكتب السابقة، وفيه ذكر لكل ما حدث فيها من معجزات حسية، وهل شاهد هؤلاء معجزة عيسى عليه السلام في إبراء الأكمه والأبرص ؟ هل شاهدوا عصا موسى أو ناقة صالح ؟
لقد عرفوا هذه المعجزات عندما حكاها لهم القرآن، فصارت خبرا من الأخبار، وليست مرأى، والمعجزة الحسية تقع مرة واحدة، من رآها آمن بها، ومن لم يرها فهي بالنسبة له خبر، ولولا أن القرآن حكاها ما صدقها أحد منهم.
لكن هؤلاء يريدون معجزة حسية تصاحب رسالة محمد العامة للزمان والمكان، ولو كانت معجزة محمد حسية لكانت لمن شاهدها فقط، والحق سبحانه يريدها معجزة دائمة لامتداد الزمان والمكان، فمن آمن بمحمد نقول له : هذه هي معجزته الدائمة الباقية إلى أن تقوم الساعة.
لذلك، كان القرآن معجزة لكل القرون، ولو أفنى القرآن معجزته مرة واحدة للمعاصرين له فحسب لاستقبلته القرون الآتية بلا إعجاز، لكن شاءت إرادة الله أن يكون إعجاز القرآن سرا مطمورا فيه، وكل قرن يكتشف من أسراره على قدر التفاتهم إليه وتأملهم فيه، وهكذا تظل الرسالة محروسة بالمعجزة.
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ( ١٣٤ ) ﴾.
يقول تعالى : أنا قطعت عليهم الحجة ؛ لأنني لو أهلكتهم على فترة من الرسل لقالوا : لماذا لم تبقنا إلى أن يأتينا رسول، فلو جاءنا رسول لآمنا به قبل أن نقع في الذل والخزي، فمعنى : ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبل أن يأتي القرآن لقالوا : ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا لآمنا به واهتدينا.
وهذه مجرد كلمة هو قائلها، وكما قال عنهم الحق سبحانه :
﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ( ٢٨ ) ﴾ ( الأنعام ) : إنها مجرد كلمة تنقذهم من الإشكال.
وقولهم :﴿ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ( ١٣٤ ) ﴾ ( طه ) : الذل : ما يعتري الحي مما ينشأ عنه انكساره بعد أن كان متعاليا، والذل يكون أولا بالهزيمة، وأذل من الهزيمة الأسر، لأنه قد يهزم ثم يفر، وأذل منهما القتل، إذن : الذل يكون في الدنيا أمام المشاهدين له والمعاصرين لانكساره بعد تعاليه.
أما الخزي : نخزي يعني : يصيبنا الخزي، وهو تخاذل النفس بعد ارتفاعها. ومن ذلك يقولون : أنت خزيت، يعني : كنت تنتظر شيئا فوجدت خلافه.
ومنه قوله تعالى :﴿ ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة.. ( ١٩٤ ) ﴾ ( آل عمران ) : فإن عجل لهم الذل في الدنيا، فإن الخزي مؤخر في الآخرة حتى تكون فضيحتهم على رؤوس الأشهاد، كما يقولون ( فضيحة بجلاجل ) حيث يشهد خزيهم أهل الموقف جميعا.
وكلمة ( الخزي ) هذه لها معنا موقف طريف أيام كنا صغارا نحفظ القرآن على يد سيدنا فضيلة الشيخ حسن زغلول – عليه رحمة الله – وكان رجلا مكفوف البصر، وكنا ( نستلخمه ) فإذا وجدنا فرصة تلفتنا منه وهربنا من تصحيح اللوح الذي نحفظه، فالذي يحفظ بمفرده هكذا من المصحف يكون عرضة للخطأ.
ومن ذلك ما حدث فعلا من زميل لنا كان اسمه الشيخ محمد حسن عبد الباري، وقد حضر مدير المدرسة فجأة، وأراد أن يسمع لنا، وكان الشيخ عبد الباري لم يصحح لوحه الذي سيقرأ منه فقرأ :( إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) فقرأها بالراء بدلا من الزاي، فضحك الشيخ طويلا – رحمه الله – وقال : يا بني المعنى صحيح، لكن الرواية ليست هكذا.
فكنا نأخذها على الشيخ عبد الباري، فمن أراد أن يغيظه قال :( إنك من تدخل النار.. ) ويسكت ! !
فشاء الله تعالى أن يتعرض كل منا لموقف مشابه يؤخذ عليه، وقد أخذ علي مثل هذا حين قرأت دون أن لأصحح اللوح أول سورة الشورى :( حم عسق ) وقد سبق لي أن عرفت ( حم ) لكن لم يمر بي ( عسق ) فقرأت :( حم عسق ) بالوصل، فصار الشيخ عبد الباري كلما قلت له :( إنك من تدخل النار.. ) يقول :( حم )
فقلنا سبحان الله :
من يعب يوما بشيء **** لم يمت حتى يراه
إذن : فقول هؤلاء :﴿ رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ( ١٣٤ ) ﴾ ( طه ). تمحك منهم : لولا أرسلت لنا رسولا لاتبعناه من قبل أن نذل في الدنيا هزيمة، أو أسرا، أو قتلا، ونخزى في الآخرة بفضيحة علنية على رؤوس الأشهاد.
التربص : التحفز لوقوع شيء بالغير، تقول : فلان يتربص بي يعني : يلاحظني ويتابعني، ينتظر مني هفوة أو خطأ، فقوله :﴿ قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا.. ( ١٣٥ ) ﴾ ( طه ) : فكل منا يتربص بالآخر، لأننا أعداء، كل منا ينتظر من الآخر هفوة ويترقب ماذا يحدث له.
وقد أوضح سبحانه وتعالى توجيهات التربص منه ومنهم في آية أخرى :﴿ قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين.. ( ٥٢ ) ﴾ ( التوبة ).
ماذا تنتظرون إلا إحدى الحسنيين : إما أن نموت في قتالكم شهداء، أو ننتصر عليكم ونذلكم، فأي تربص يحدث شرف لنا، إما النصر أو الشهادة، فكلاهما حسنى، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا، فكلاهما سوءة.
وما دام الأمر كذلك فتربصوا بنا كما تحبون، ونحن نتربص بكم كما نريد، لأن تربصنا بكم يفرحنا، وتربصكم بنا يؤلمكم ويحزنكم.
ومعنى :﴿ قل.. ( ١٥٣ ) ﴾ ( طه ) : هنا أن القول ﴿ كل متربص.. ( ١٣٥ ) ﴾ ( طه ) : ليست من عند محمد، فليس في يده زمام الكون ولا يعلم الغيب، فهو قول الله الذي قال له ( قل ) يا محمد ﴿ كل متربص فتربصوا.. ( ١٣٥ ) ﴾ ( طه )
إذن : قيلت ممن يملك أزمة الأمور وأعنتها، ولا يخرج شيء عن مراده تعالى، وربما لو قلت لكم من عندي تقولون : كلام بشر لا يملك من الأمور شيئا. إذن : خذوها لا بمقياس كلام البشر. إنما بمقياس من يملك زمام أقضية البشر كلها.
ثم يقول تعالى :﴿ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ( ١٣٥ ) ﴾ ( طه ) : متى سيحدث هذا ؟ ساعة تقوم الساعة حيث الانصراف، إما إلى جنة، وإما إلى نار، ساعتها ستعلمون من أصحاب الصراط السوي : نحن أم أنتم ؟ لكنه سيكون علما لا ينفع ولا يجدي، فقد جاء بعد فوات الأوان، جاء وقت الحساب لا وقت العمل وتلافي الأخطاء.
إنه علم لا يترتب عليه عمل ينجيكم، فقد انتهى وقت العمل، وهكذا يكون علما يزيد حسرتهم، ويؤذيهم ولا ينفعهم.
والصراط : الطريق المستقيم. والسوي : المستقيم الذي لا عوج فيه ولا أمت.
وقال بعدها :﴿ ومن اهتدى ( ١٣٥ ) ﴾ ( طه ) : لأنه قد يوجد الصراط السوي، ولا يوجد من يسلكه ؛ فالمراد : الصراط السوي ومن اهتدى إليه وسلكه.
وقد يظن ظان أن مسألة التربص هذه قد تطول، فيقطع الحق سبحانه هذا الظن بقوله في أول سورة الأنبياء الآتية بعد :﴿ اقترب للناس حسابهم.. ( ١ ) ﴾ ( الأنبياء ).
وهكذا تنسجم السورتان، ويتصل المعنى بين الآيات.
Icon