ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون ( ١ ) ﴾ :اسمها سورة ( النور )١، وإذا استقرأنا موضوع المسمى أو المعنون له بسورة ( النور ) تجد النور شائعا في كل أعطافها- لا أقول آياتها ولا أقول كلماتها- ولكن النور شائع في كل حروفها، لماذا ؟.
قالوا : لأن النور من الألفاظ التي يدل عليها نطقها ويعرفها أكثر من أي تعريف آخر، فالناس تعرف النور بمجرد نطق هذه الكلمة، والنور لا يعرف إلا بحقيقة ما يؤديه، وهو ما تتضح به المرئيات، وتتجلى به الكائنات، فلولا هذا النور ما كنا نرى شيئا.
إذن : يعرف النور بخاصيته، وهو الذي يجعل لك قدرة على أن ترى المرئيات، بدليل أنها إن كانت في ظلمة لا تراها. إذن : فالنور لا يرى، ولكن نرى به الأشياء، فالله تعالى نور السماوات والأرض ينورهما لنا، لكن لا نراه سبحانه.
لكن، هل كل الأشياء مرائي ؟ أليس منها المسموع والمشموم والمتذوق ؟ قالوا : نعم، لكن الدليل الأول على كل هذه وفعل الحوادث هي المرئيات ؟ لأن كل أدلة الكون مرئية نراها أولا، ثم حين تسمع، وحين تشم، وحين تلمس، وحين تميز الثقيل من الخفيف، أو القريب من البعيد. فهذا كله فرع ما يوجد فيك، بعد ما تؤمن أن الله الذي أوجدك هو الذي أوجد لك كل شيء، فإذا ما نظرت إلى النور وجدت النور أمرا حسيا ترى به الأشياء.
وكانوا في الماضي يعتقدون أن الإنسان يبصر الأشياء بشعاع يخرج من العين، فيسقط على الشيء فتراه، إلى أن جاء العالم الإسلامي الحسن بن الهيثم، وأبطل هذه النظرية وقال : إن الشعاع ياتي من المرئي إلى العين فتراه، وليس العكس، واستدل على ذلك بأن الشيء إن كان في الظلام لا نراه، ونحن في النور، فلو أن الشعاع يخرج منك لرأيته.
وفي ضوء هذه النظرية فهمنا قوله تعالى :﴿ وجعلنا آية النهار مبصرة.. ( ١٢ ) ﴾ [ الإسراء ] : فهي مبصرة، لأن الشعاع يأتي من هناك، فكأنها هي التي ترى.
لكن، ما نفع هذا النور الحسي للإنسان الخليفة في الأرض ؟ أنت حين ترى الأشياء تتعامل معها تعاملا يعطيك خيرها ويكف عنك شرها، ولو لم تر الأشياء ما أمكنك التعامل معها، وإلا فكيف تسير في مكان مظلم فيه ما يؤذيك مثل الثعابين أو زجاج متكسر ؟.
إذن : لا تستطيع أن تهتدي إلى مواضع قدمك، وتأخذ خير الأشياء، وتتجنب شرها إلا بالنور الحسي، كذلك إن سرت في ظلمة وعلى غير هدى، فلا بد أن تصطدم بأقوى منك فيحطمك، أو بأضعف منك فتحطمه.
لذلك سمى الحق- تبارك وتعالى- المنهج الذي يهديك في دروب الحياة نورا.
والناس حين لا يوجد النور الرباني الإلهي يصنعون لأنفسهم أنوارا على قدر إمكاناتهم وبيئاتهم بداية من المسرجة ولمبة الجاز، وكان الناس يتفاوتون حتى في هذه- حتى عصر الكهرباء والفلوروسنت والنيون وخلافه من وسائل الإضاءة التي يتفاوت فيها الناس تفاوتا كبيرا، هذا في الليل، فإذا ما أشرقت الشمس أطفأ الجميع أنوارهم ومصابيحهم، لماذا ؟ لأن مصباح الله قد ظهر واستوى فيه الجميع لا يتميز فيه أحد عن أحد.
وكذلك النور المعنوي نور المنهج الذي يهديك إن كان لله فيه توجيه، فأطفئ مصابيح توجيه البشر لا يصح أن تستضيء بنور ونور ربك موجود، بل عليك أن تبادر وتأخذ ما تقدر عليه من نور ربك، فكما أخذت نور الله الحسي فألغيت به كل الأنوار، فخذ نور الله في القيم، خذ نور الله في الأخلاق وفي المعاملات وفي السلوك يغنيك هذا عن أي نور من أنوار البشر ومناهجهم.
ألا ترى النمرود كيف بهت حينما قطع عليه إبراهيم- عليه السلام- جدله وألجأه إلى الحجة التي لا يستطيع الفكاك منها، حين قال له :﴿ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب.. ( ٢٥٨ ) ﴾ [ البقرة ].
والحق- تبارك وتعالى- يفيض من أنواره وصفات كماله على خلقه الذين جعلهم خلفاء له سبحانه في الأرض، فقال :﴿ إني جاعل في الأرض خليفة.. ( ٣٠ ) ﴾ [ البقرة ] : والخليفة في الأرض ليس جيلا واحدا خلقه الله واستخلفه في الأرض إلى قيام الساعة، إنما الخليفة أجيال وأنسال تتوالى، يموت واحد ويولد آخر في حلقات موصولة الأنسال لا الذوات.
والخليفة لا ينجح في خلافته إلا إذا سار فيها على وفق مراد من استخلفه، وآفة الناس في خلافتهم لله في الأرض أن يعتبروا أنفسهم أصلاء لا خلفاء، فالخليفة في ذهنه دائما هذه الخلافة، لذلك يلتفت إلى الأصل، وينظر ماذا يريد منه من استخلفه.
والحق- تبارك وتعالى- جعل له خليفة في الأرض لتظهر عليه سمات قدرته تعالى وصفات كماله، فالله تعالى قادر، الله عالم، الله حكيم، الله غني، الله رحيم، الله غفور.. الخ وهو سبحانه يعطي من صفاته ويفيض منها على خلقه وخليفته في أرضه بعضا من هذه الصفات، فيعطيك من قدرته قدرة، ومن رحمته رحمة، ومن غنائه غنى، لكن تظل الصفة في يده تعالى إن شاء سلبها، ألا ترى القوي قد يصير ضعيفا، والغني قد يصير فقيرا ؟.
ذلك لنعلم أن هذه الصفات ليست ذاتية فينا، وأن هذه الهبات ليست أصلا عندنا، إنما هي فيض من فيض الله وهبة من هباته سبحانه، لذلك علينا أن نستعملها وفق مراده تعالى، فإن أعطاك ربك القدرة فإنما أفاض بها عليك لتفيض أنت بها على غيرك، أعطاك العلم لتنثره على الناس، أعطاك الغنى لترعى حق الفقير.
إذن : ما دام أن الله تعالى أفاض عليك من صفات الكمال واحتفظ هو سبحانه بملكية هذه الصفات، فإن شاء سلبها منك، فعليك أن تستغل الفرصة وتنتهز وجود هذه الخصلة عندك، فتثمرها فيما أراده الله منك قبل أن تسلب، حتى إذا سلبت منك نالتك من غيرك.
فتصدق وأنت غني لتنال صدقة الآخرين إن أصابك الفقر، وأكرم اليتيم لتجد من يكرم يتيمك من بعدك، فإن قابلت أحداث الحياة بهذه النظرة اطمأن قلبك، وأمنت من حوادث الزمن، واستقبلت الأحداث بالرضا، وكيف تهتم وأنت في مجتمع يرعاك كما رعيته، ويحملك كما حملته، ويتعاون معك كما تعاونت معه ؟
وصدق الله تعالى حين قال :﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ( ٩ ) ﴾ [ النساء ].
إذن : الحق- تبارك وتعالى- يريد من خليفته في أرضه أن يكون جماعا لصفات الكمال التي تسعد الخلق بآثار الخالق فيهم، وهذه هي الخلافة الحقة.
وسورة النور جاءت لتحمل نور المعنويات، نور القيم، نور التعامل، نور الأخلاق، نور الإدارة والتصرف، وما دام أن الله تعالى وضع لنا هذا النور فلا يصح للبشر أن يضعوا لأنفسهم قوانين أخرى، لأنه كما قال سبحانه :﴿ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ( ٤٠ ) ﴾ [ النور ] : فلو لم تكن هذه الشمس ما استطاع أحد أن يصنع لنفسه نورا أبدا.
فالحق- تبارك وتعالى- يريد لخليفته في أرضه أن يكون طاهرا شريفا كريما عزيزا، لذلك وضع له من القوانين ما يكفل له هذه الغاية، وأول هذه القوانين وأهمها قانون التقاء الرجل والمرأة التقاء سليما في وضح النهار، لينتج عن هذا اللقاء نسل طاهر جدير بخلافة الله في أرضه، لذلك أول ما تكلم الحق سبحانه في هذه السورة تكلم عن مسألة الزنى.
والعجيب أن تأتي هذه السورة بعد سورة ( المؤمنون ) التي قال الله في أولها ﴿ قد أفلح المؤمنون ( ١ ) ﴾ [ المؤمنون ] : ثم ذكر من هؤلاء المؤمنين المفلحين ﴿ والذين هم لفروجهم حافظون ( ٥ ) ﴾ [ المؤمنون ]، وهنا قال :﴿ الزانية والزاني.. ( ٢ ) ﴾ [ النور ]، فجاء بالمقابل الذين هم لفروجهم حافظون.
نفهم من هذا أنه لا يلتقي رجل وامرأة إلا على نور من الله وهدى من شريعته الحكيمة، لأنه عز وجل هو خالق الإنسان، وهو أعلم بما يصلحه، وهو خالق ذراته، ويعلم كيف تنسجم هذه الذرات بعضها البعض، وهو سبحانه خالق ملكات النفس، ويعلم كيف تتعايش هذه الملكات ولا تتنافر.
إذن : طبيعي إن أردت أن تنشئ خليفة في الكون على غير مراد الله وعلى غير مواصفات الحق، لا بد أن يضطرب الكون وتتصارع فيه ملكات النفس، وماذا تنتظر من هذا الخليفة إن جاء في الظلام ؟ ساعتها تظهر أمراض النسل من وأد الأولاد وقتلهم حتى في بطون الأمهات، وقد يتشكك الرجل في ولده، فيبغضه ويهمله ويتركه للتشرد.
إذن : لن تستقيم هذه المسألة إلا حين يأتي الخليفة وفق مواصفات ربه، وأن يلتقي الزوجان على ما شرع الله في وضح النهار، لا أن يندس كل منهما على الآخر في ظلمة الإثم، فيحدث المحظور الذي تختلط به الأنساب، ويتفكك رباط المجتمع.
إن من أقسى تجارب الحياة على المرء أن يشك في نسبة ولده إليه، وأن تعتصره هذه الفكرة، فيهمل ولده وفلذة كبده، وينفق هنا وهناك ويحرمه على خلاف النسل الطاهر، حيث يتلهف الأب لولده، ويجوع ليشبع، ويتعرى ليلبس.
فالحق سبحانه يريد النسل المحضون بالأبوين في أبوة صحيحة شرعية وأمومة صحيحة شرعية اجتمعا على نور الله.
ولك أن تجري مقارنة بين امرأة حملت سفاحا وأخرى حملت حملا شرعيا طاهرا، ستجد الأولى تحمله على مضض وكره، وتود أن تتخلص منه وهو جنين في بطنها، فإن تحاملت على نفسها إلى حين ولادته تخلصت منه في ليلتها ولو بإلقائه على قارعة الطريق.
أما صاحبة الحمل الشرعي فتتلهف على الولد، وإن تأخر بعض الوقت صارت قلقة تدور بين الأطباء، فإن أكرمها الله بالحمل طارت به فرحا وفخرا، وحافظت عليه في مشيتها وحركاتها ونومها وقيامها إلى حين الوضع، فتتحمل آلامه راضية ثم تحتضنه وترضعه وتعيش حياتها في خدمته ورعايته.
فالله يريد أن يأتي خليفته في أرضه من إخصاب طاهر على أعين الناس جميعا وفي نور الله المعنوي، يريد للزوج أن يأتي من الباب في ضوء هذا النور، لا أن يتلصص في الظلام من باب الخدم.
لذلك يتوعد الحق- سبحانه وتعالى- من يخالف هذا المنهج ويريد أن يفسد شرف الخلافة التي يريدها الله طاهرة، ويدنس النسل، ويوغر الصدور بالأحقاد والعداوات، ويزرع الشك في نفوس الخلق، وجرائم العرض لا يقتصر ضررها على العداوات الشخصية إنما تتعدى هذه إلى الإضرار بالمجتمع كله.
وانظر إلى الإيدز الذي يهدد المجتمعات الآن، وهو ناتج عن الالتقاء الغير الشرعي، وخطر الإيدز لا يقتصر على طرفيه إنما يتعداهما إلى الغير، إذن : من صالح المجتمع كله أن نقيم حد الزنا حتى لا يستشري هذا الداء.
ونعجب من هؤلاء الذين يهاجمون شرع الله في مسألة الحدود حين تقضي برجم الزاني المحصن حتى الموت، ألا يعلم هؤلاء أننا نضحي بواحد لنحفظ سلامة الملايين في صحة وعافية ؟ ألا يرون ما يحدث مثلا في وباء الطاعون الذي أعجز العلماء حتى الآن، ولم يجدوا له علاجا، وكيف أن الشرع أمرنا إن نزل الطاعون بأرض ألا نذهب إليها، وأمر من فيها ألا يخرجوا منها، لماذا ؟ لنحصر هذا الوباء حتى لا يستشري بين الناس.
كذلك الحال في مسألة الزنا، لأن الزاني لا يقتصر شره عليه وحده، إنما يتعدى شره إلى المجتمع كله، مع مراعاة أن الشرع فرق بين الزاني المحصن وغير المحصن، وكذلك الزانية، ففي حالة الإحصان تتعدد الماءات في المكان الواحد، لذلك سئلنا في سان فرانسيسكو : لماذا أبحتم تعدد الزوجات، ولم تبيحوا تعدد الأزواج ؟ هذا منهم على سبيل قياس الرجل على المرأة : لماذا لا تتزوج المرأة وتجمع بين أربعة رجال ؟.
قلت
﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ( ٢ ) ﴾ :
قلنا : إن الحق سبحانه تناول هذه المسألة حرصا على سلامة النشء، وطهارة هذا الإنسان الذي جعله الله خليفة له في الأرض، وحين نتأمل السياق القرآني في هذه الآية نجد أن كلمة الزاني تدل على كل من الأنثى والذكر، ففي اللغة الاسم الموصول : الذي للمفرد المذكر، والتي للمفردة المؤنثة، واللذان للمثنى المذكر، واللتان للمثنى المؤنث، والذين لجمع الذكور، واللائي لجمع الإناث.
لكن هناك أسماء تدل على كل هذه الصيغ مثل : من، ما، ال، تقول : جاء من أكرمني، وجاءت من أكرمتني، وجاء من أكرموني.
فكذلك ( ال ) في ( الزاني ) تدل على المؤنث وعلى المذكر، لكن الحق سبحانه ذكرهما صراحة ليزيل ما قد يحدث عند البعض من خلاف، أيهما السبب في هذه الجريمة، هذا الخلاف الذي وقع فيه حتى الأئمة والفقهاء، فهناك من يقول : الزاني واطئ وفاعل، والمرأة موطوءة، فالفعل للرجل لا للمرأة، فهو وحده الذي يتحمل هذه التبعة.
لذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه يحكي أن رجلا ذهب للنبي ( ص ) وقال : يا رسول الله وطئت امرأتي في رمضان. فقال له النبي ( ص ) : " كفر " ١.
وأخذ الشافعي من هذا الحديث أن الكفارة إنما تكون على الرجل دون المرأة، وإلا لقال له الرسول : كفرا.
لكن يجب أن نفرق بين وطئ وجامع : الوطء فعل الرجل حتى وإن كانت الزوجة كارهة رافضة، أما الجماع فهو حال الرضا والقبول من الطرفين، وفي هذه الحالة تكون الكفارة عليهما معا، لذلك صرح الحق تبارك وتعالى بالزاني والزانية ليزيل هذه الشبهة وهذا الخلاف.
وأرى في هذه المسألة أن الذي استفتى رسول الله هو الرجل، ولو كانت المرأة لقال لها أيضا : كفري، فالحكم خاص بمن استفتى.
والمتأمل في آيات الحدود يجد مثلا في حد السرقة قوله تعالى ﴿ والسارق والسارقة.. ( ٣٨ ) ﴾ [ المائدة ] : فبدأ بالمذكر، أما في حد الزنا فقال :﴿ الزانية والزاني.. ( ٢ ) ﴾ [ النور ] : فبدأ بالمؤنث، لماذا الاختلاف في التعبير القرآني ؟.
قالوا : لأن دور المرأة في مسألة الزنا أعظم ومدخلها أوسع، فهي التي تغري الرجل وتثيره وتهيج عواطفه، لذلك أمر الحق- تبارك وتعالى- الرجال بغض البصر وأمر النساء بعدم إبداء الزينة، ذلك ليسد نوافذ هذه الجريمة ويمنع أسبابها.
أما في حالة السرقة فعادة يكون عبء النفقة ومؤنة الحياة على كاهل الرجل، فهو المكلف بها، لذلك يسرق الرجل، أما المرأة فالعادة أنها في البيت تستقبل، وليس من مهمتها توفير تكاليف الحياة، لكن لا مانع مع ذلك أن تسرق المرأة أيضا، لذلك بدأ في السرقة بالرجل.
إذن : بمقارنة آيات القرآن تجد الكلام موزونا دقيقا غاية الدقة، لكل كلمة ولكل حرف عطاؤه، فهو كلام رب حكيم، ولو كانت المسألة مجرد تقنين عادي ما التفت إلى مثل هذه المسائل.
ثم يأتي الحد الرادع لهذه الجريمة ﴿ فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة.. ( ٢ ) ﴾ [ النور ] : اجلدوا : أمر، لكن لمن ؟ لم يقل أيها الحاكم أو القاضي، لأن الأمر هنا للأمة كلها، فأمر إقامة الحدود منوط بالأمة كلها، لكن أتنهض الأمة بأسرها وتعددها بفعل واحد في كل مكان ؟.
قالوا : الأمة مثل النائب العام للوالي، عليه أن يختار من يراه أهلا للولاية لينفذ له ما يريد، ومن ولى قاضيا فقد قضى، وما دام الأمر كذلك فإياك أن تولي القضاء من لا يصلح للقضاء، لأن التبعة- إذن- ستكون عليك إن ظلم أو جار، فالواو والألف في ﴿ فاجلدوا.. ( ٢ ) ﴾ [ النور ] : تدل على معان كبيرة، فالأمة في مجموعها لا تستطيع أن تجلد كل زان أو زانية، لكن حين تولي إمامها بالبيعة، وحين تختاره ليقيم حدود الله، فكأنها هي التي أقامت الحدود وهي التي نفذت.
لذلك النبي ( ص ) يقول : " من ولى أحدا أمرا وفي الناس خير منه لا يشم رائحة الجنة " ٢.
لماذا ؟ لأنك حين تولي أمور الناس من لا يصلح لها في وجود من يصلح إنما تشيع الفساد في المجتمع، ولا تظن أنك تستطيع أن تخفي شيئا عن أعين الناس، فلهم من الوعي والانتباه ما يفرقون به بين الكفء وغيره، وإن سكتوا وتغافلوا فإنهم يتساءلون من ورائك : لماذا ولى هذا، وترك من هو أكفأ منه، لا بد أن له مؤهلات أخرى، دخل بها من الباب الخلفي، ولماذا لا نفعل مثله ؟ عندها تسود الفوضى وتضيع الحقوق وينتشر الإحباط والتكاسل والخمول، ويحدث خلل في المجتمع وتتعطل المصالح.
ومع هذا كله لا نستطيع أن نلوم الوالي حين يختار من لا يصلح قبل أن نلوم أنفسنا أولا، فنحن الذين اخترناه ودلسنا في البيعة له، فسلطه الله علينا ليدلس هو أيضا في اختياره، أما لو أدى كل منا واجبه في اختيار من يصلح ما وصل إلى مراتب القيادة من يدلس على الناس، وبذلك تستقيم الأمور، ويتقرب الإنسان للولاية بالعمل وبالجد والإخلاص والأمانة والصدق والتفاني في خدمة المجتمع.
ومن رحمة الله تعالى بالخلق أن يقذف الإخلاص وحب العمل ويزرع الرحمة بالخلق في بعض القلوب، لذلك ترى في كل مصلحة أو في كل مكتب موظفا متواضعا يحب الناس ويحرص على قضاء مصالحهم، تراه يرتدي نظارة سميكة يرى من خلالها بصعوبة، وهو دائما منكب على الأوراق والملفات، ويقصده الخلق لقضاء مصالحهم : يا فلان أفندي، أعطني كذا، واكتب لي كذا، وقد وسع الله صدره للناس فلا يرد أحدا.
هذه المسائل كلها نفهمها من الواو والألف في ﴿ فاجلدوا.. ( ٢ ) ﴾ [ النور ] : أما الجلد فهو الضرب، نقول : جلده : يعني ضرب جلده، ورأسه : يعني ضرب رأسه، وظهره : ضرب ظهره. والجلد ضرب بكيفية خاصة، بحيث لا يقطع لحما ولا يكسر عظما، لأن الضربة حسب قوتها وحسب الآلة المستخدمة في الضرب، فمن الضرب ما يكسر العظم ولا يقطع الجلد، ومنه ما يقطع الجلد ولا يكسر العظم، ومنه ما يؤلم دون هذا أو ذاك.
ثم يقول سبحانه :﴿ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله.. ( ٢ ) ﴾ [ النور ] : تحذير من الرحمة الحمقاء، الرحمة في غير محلها، وعلى حد قول الشاعر :
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما**** فليقس أحيانا على من يرحم
فالرأفة لا تكون في حدود الله، ارأفوا بهم في مسائلكم الخاصة فيما بينكم، وعجيب أن تدعوا الرأفة في مسائل الحدود وأنتم من ناحية أخرى تضربون وتسرقون أموال الناس، وتنتهكون حرماتهم، وتثيرون بينهم الفتنة والحروب، فأين الرأفة إذن.
إذن : لا مجال للرحمة وللرأفة في حدود الله، فلسنا أرحم بالخلق من الخالق، وما وضعت الحدود حبا في تعذيب الناس، إنما وضعت وشدد عليها لتمنع الوقوع في الجريمة التي تستوجب الحد، فقطع يد واحدة تمنع قطع آلاف الأيدي.
والذين يتهمون الإسلام بالقسوة والبشاعة في تطبيق الحدود أنسوا ما فعلوه في هيروشيما، وما زالت آثاره حتى الآن، أنسوا الحروب التي يشعلونها في أنحاء العالم، والتي تحصد آلاف الأرواح ؟ أهي الرحمة الحمقاء التي لا معنى لها ؟ أم هي الكراهية لحدود الله ؟.
ونذكر في الماضي أنه كان يخرج مع فوج الحجيج قوة حماية وحراسة من الجيش، تحمي الحجيج من قطاع الطرق، وكانوا يسمون بعثة الحج هذه ( المحمل )، فلما أقامت السعودية حكم الله وطبقت الحدود أمنت الطرق، واستغنى الناس عن هذه الحراسات مع اتساعها وتشعب طرقها ووعورتها بين الجبال والوديان والصحاري الشاسعة التي لا يمكن أن تحكمها أو تحرسها عين بشر، لا بد لها من تقنين الخالق عز وجل.
ومع ذلك حين أحصوا الأيدي التي قطعت وجدوها قليلة جدا، وأغلبها من خارج المملكة- وأذكر أنني قلت مرة في خطبة عرفة : ارجعوا إلى حكامكم وقولوا لهم : اقطعوا يد السارق، فالذي لا يقطع يد السارق في نيته أن يسرق، لذلك يخاف على يده، فحين تذكر له مسألة قطع يد السارق ترتجف يده. والذين يعارضون حدود الله هم أنفسهم يسيرون على مبدأ أن هلاك الثلث جائز لإصلاح الثلثين، لكن تقف حدود الله غصة في حلوقهم.
والجلد مائة جلدة يخص الزاني غير المحصن يعني غير المتزوج، أما المتزوج فله حكم آخر لم يأت في كتاب الله، إنما أتى في سنة رسول الله ( ص )، ذلك لأن القرآن الكريم ليس كتاب منهج فقط، إنما كتاب منهج ومعجزة ومعه أصول، من هذه الأصول أنه قال في آية من آياته، إننا وكلنا رسول الله في أن يشرع للناس.
والحكم الذي يؤخذ من القول عرضة لأن نتمحك فيه ونقف أمامه نقلب ألفاظه أو نؤوله، أما إن أخذ الحكم من فعل المشرع، فليس فيه شك أو تمحك، وليس قابلا للتأويل لأنه فعل، وقد فعل الرسول ورجم الزاني والزانية المحصنين في قصة ماعز والغامدية، لأنه مفوض من الله.
ولا بد أن نفرق بين الحدين، ففي حد الأمة إن زنت يقول تعالى :﴿ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب.. ( ٢٥ ) ﴾ [ النساء ] : البعض فهم من الآية أنها تشمل حدي الرجم والجلد، فقالوا : في الجلد يمكن أن تجلد خمسين جلدة، لكن كيف نجزئ الرجم ؟ وما دام الرجم لا يجزأ فليس عليها رجم.
ولو تأمل هؤلاء نص الآية لخرجوا من هذا الخلاف، فالحق سبحانه وتعالى لم يقل ﴿ فعليهن نصف ما على المحصنات.. ( ٢٥ ) ﴾ [ النساء ] : وسكت، إنما قال ﴿ من العذاب.. ( ٢٥ ) ﴾ [ النساء ] : فخص بذلك حد الجلد، لأن العذاب إيلام حي، أما الرجم فهو إزهاق حياة، فهما متقابلان.
ألا ترى قول القرآن في قصة سليمان عليه السلام والهدهد :﴿ لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه.. ( ٢١ ) ﴾ [ النمل ] : فالعذاب غير الذبح.
إذن : تجزئة الحد في الجلد فقط، أما الرجم فلا يجزأ، فإن زنت الأمة المحصنة رجمت.
وقوله تعالى :﴿ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر.. ( ٢ ) ﴾ [ النور ] : هذا كلام موجع، وإهاجة لجماعة المؤمنين، فهذا هو الحكم، وهذا هو الحد قد شرعه الله، فإن كنتم مؤمنين بالله وبالحساب والعقاب فطبقوا شرع الله، وإلا فراجعوا إيمانكم بالله وباليوم الآخر لأننا نشك في صدق هذا الإيمان.
وكأن الحق- تبارك وتعالى- يهيجنا ويثيرنا على أهل هذه الجريمة، لنأخذ على أيديهم ونخوفهم بما شرع الله من الحدود.
فالمعنى : إن كنتم تؤمنون بالله إلها حكيما مشرعا، خلق خلقا، ويريد أن يحمي خلقه ويطهره ليكون أهلا لخلافته في الأرض الخلافة الحقة، فاتركوا الخالق يتصرف في كونه وفي خلقه على مراده عز وجل، فالخلق ليس خلقكم لتتدخلوا فيه.
ثم يقول تعالى :﴿ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ( ٢ ) ﴾ [ النور ] : فالأمر لا يقف عند حد التعذيب والجلد، إنما لا بد أن يشهد هذا العذاب جماعة من المؤمنين، والطائفة هم الجماعة وأقلها أربعة لماذا ؟ قالوا : لأن النفس قد تتحمل الإهانة إن كانت سرا لا يطلع عليها أحد، فلا يؤلمه أن تعذبه أشد العذاب بينك وبينه، إنما لا يتحمل أن تشتمه أمام الناس. إذن : فمشاهدة الحد إهانة لصاحبه، وهي أيضا زجر للمشاهد، ونموذج عملي رادع.
لذلك يقولون : الحدود زواجر وجوابر، زواجر لمن شاهدها أي : تزجره عن ارتكاب ما يستوجب هذا الحد، وجوابر لصاحب الحد تجبر ذنبه وتسقط عنه عقوبة الآخرة، فلا يمكن أن يستوي من أقر وأقيم عليه الحد بمن لم يقر، ولأن الزنا لم يثبت بشهود أبدا، وإنما بإقرار
٢ عن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: "من ولي من أمر المسلمين شيئا فأمر عليهم أحدا محاباة فعليه لعنة الله لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا حتى يدخله جهنم" أخرجه أحمد في مسنده (١/٦)..
﴿ { الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ( ٣ ) ﴾ :
﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة.. ( ٣ ) ﴾ [ النور ] : لأن الزواج يقوم على التكافؤ، حتى لا يستعلي أحد الزوجين على الآخر، والزاني فيه خسة، فلا يليق به إلا خسيسة مثله يعني : زانية، أو أخس وهي المشركة، لأن الشرك أخس من الزنا، لأن الزنا مخالفة أمر توجيهي من الله، أما الشرك فهو كفر بالله، لذلك فالمشركة أخبث من الزانية. وما نقوله في زواج الزاني نقوله في زواج الزانية ﴿ والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك.. ( ٣ ) ﴾ [ النور ] : وهنا يعترض البعض : كيف إن كانت الزانية مسلمة : أينكحها مشرك ؟ قالوا : التقابل هنا غرضه التهويل والتفظيع فقط لا الإباحة، لأن المسلمة لا يجوز أن تتزوج مشركا أبدا، فالآية توبيخ لها : يا خسيسة، لا يليق بك إلا خسيس مثلك أو أخس.
وأرى أن النص محتمل لانفكاك الجهة، لأن التي زنت تدور بين أمرين : إما أنها أقبلت على الزنا وهي تعلم أنه محرم، فتكون عاصية باقية على إسلامها، أو أنها ردت حكم الزنا واعترضت عليه فتكون مشركة، وفي هذه الحالة يستقيم لنا فهم الآية.
ثم يقول تعالى :﴿ وحرم ذلك على المؤمنين ( ٣ ) ﴾ [ النور ] : فهذا سبب طهر الأنسال أن يحرم الله تعالى الزنا، فيأتي الخليفة طاهر النسل والعنصر، محضونا بأب وأم، مضموما بدفء العائلة، لا يتحملون عليه نسمة الهواء، لأنه جاء من وعاء طيب طاهر نظيف.
- أخرج أحمد في مسنده (٢/١٥٩، ٢٢٢) عن عبد الله بن عمر أن رجلا من المؤمنين استأذن رسول الله (ص) في امرأة يقال لها أم مهزول كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه فاستأذن رسول الله (ص) أو ذكر له أمرها. فقرأ عليه رسول الله (ص) هذه الآية. وأخرجه كذلك الواحدي في أسباب النزول (ص ١٨٠).
- أخرج الترمذي في سننه (٣١٧٧) وأبو داود في سننه (٢٠٥١) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد وكان رجلا يحمل الأساري من مكة حتى يأتي بهم المدينة وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وأنه قال لرسول الله (ص): أنكح عناقا، أنكح عناقا؟ فأمسك رسول الله (ص) فلم يرد علي شيئا حتى نزلت الآية، فقال رسول الله (ص): "يا مرثد، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة فلا تنكحها".
.
﴿ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ( ٤ ) ﴾ :
الرمي : قذف شيء بشيء، والمحصنات : جمع محصنة من الإحصان، وهو الحفظ، ومنه قولنا : فلان عنده حصانة برلمانية مثلا. يعني : تكفل القانون بحفظه، لذلك إن أرادوا محاسبته أو مقاضاته يرفعون عنه الحصانة أولا، ومنه أيضا كلمة الحصن وهو الشيء المنيع الذي يحمي من بداخله.
يقول تعالى :﴿ وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم.. ( ٨٠ ) ﴾ [ الأنبياء ] : يعني : الدروع التي تحمي الإنسان وتحفظه في الحرب.
والمحصنات : تطلق على المتزوجة، لأنها حصنت نفسها بالزواج أن تميل إلى الفاحشة، وتطلق أيضا على الحرة، لأنهم في الماضي كانت الإماء هن اللائي يدعين لمسألة البغاء، إنما لا تقدم عليها الحرائر أبدا.
لذلك فإن السيدة هندا١ التي نسيدها الآن بعد إسلامها، وهي التي لاكت كبد سيدنا حمزة في غزوة أحد، لكن لا عليها الآن، لأن الإسلام يجب ما قبله. لما سمعت السيدة هند رسول الله ( ص ) ينهى النساء عن الزنا قالت : أو تزني حرة٢ ؟، لأن الزنا انتشر قبل الإسلام بين البغايا من الإماء، حتى كانت لهن رايات يرفعنها على بيوتهن ليعرفن بها.
والمعنى : يرمون المحصنات بما ينافي الإحصان، والمراد الزنا ﴿ ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة.. ( ٤ ) ﴾ [ النور ] : وهذا يسمى حد القذف، أن ترمي حرة بالزنا وتتهمها بها، ففي هذه الحالة عليك أن تأتي بأربعة شهداء يشهدون على ما رميتها به، فإن لم تفعل يقام عليك أنت حد القذف ثمانين جلدة، ثم لا ينتهي الأمر عند الجلد، إنما لا تقبل منك شهادة بعد ذلك أبدا.
﴿ ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا.. ( ٤ ) ﴾ [ النور ] : لماذا ؟ لأنه لم يعد أهلا لها، لأنه فاسق ﴿ وأولئك هم الفاسقون ( ٤ ) ﴾ [ النور ] : والفاسق لا شهادة له، وهكذا جمع الشارع الحكيم على القاذف حد الجلد، ثم أسقط اعتباره من المجتمع بسقوط شهادته، ثم وصفه بعد ذلك بالفسق، فهو في مجتمعه ساقط الاعتبار ساقط الكرامة.
هذا كله ليزجر كل من تسول له نفسه الخوض في أعراض الحرائر واتهام النساء الطاهرات، لذلك عبر عن القذف بالرمي، لأنه غالبا ما يكون عن عجلة وعدم بينة، فالحق- تبارك وتعالى- يريد أن يحفظ مجتمع الإيمان من أن تشيع فيه الفاحشة، أو مجرد ذكرها والحديث عنها.
٢ أورده ابن كثير في تفسيره (٤/٣٥٣) في تفسير آية ﴿يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين.. (١٢)﴾ [الممتحنة] وفيه أنها قالت: يا رسول الله وهل تزني امرأة حرة؟ قال: "لا والله ما تزني الحرة"..
﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ( ٥ ) ﴾ :
اختلف العلماء في معنى الاستثناء هنا : أهو استثناء من الفسق ؟ أم استثناء من عدم قبول الشهادة ؟.
ذكرنا أن مشروعية التوبة منة وتكرم من الحق- تبارك وتعالى- لأنه لو لم تشرع التوبة كان من يقع في معصية مرة، ولا تقبل منه توبة يتجرأ على المعصية ويكثر منها، ولم لا ؟ فلا رادع له للإقلاع.
إذن : حين يشرع الله التوبة إنما يحمي المجتمع من الفاقدين الذين باعوا أنفسهم، وفقدوا الأمل في النجاة. فمشروعية التوبة كرم، وقبولها كرم آخر، لذلك يقول الحق سبحانه :﴿ ثم تاب عليهم ليتوبوا.. ( ١١٨ ) ﴾ [ التوبة ] : أي : شرع لهم التوبة ليتوبوا فيقبل منهم.
وقوله تعالى :﴿ وأصلحوا.. ( ٥ ) ﴾ [ النور ] : تدل على أن من وقعت منه سيئة عليه أن يتبعها بحسنة، وقد ورد في الحديث الشريف : " وأتبع السيئة الحسنة تمحها.... " ١ لذلك تجد الذين أسرفوا على أنفسهم في ناحية ما، حينما يكبرون ويحبون التوبة تراهم شغوفين بحب الخير وعمل الطاعات، يريدون أن يكفروا بها ما سبق من السيئات، على خلاف من حافظ على نفسه، ونأى بها عن المعاصي، فتراه باردا من ناحيتها يفعل الخير على قدر طاقته.
وكأن الحق- تبارك وتعالى- يحذر عباده : يا عبادي احذروا : من أخذ مني شيئا خلسة أو ترك لي حكما، أو تجرأ علي بمعصية سيتعب فيما بعد، ويلاقي الأمرّين : لأن السيئة ستظل وراءه تطارده وتجهده لأغفرها له، وسيحتاج لكثير من الحسنات وأفعال الخير ليجبر بها تقصيره في حق ربه.
﴿ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ( ٦ ) والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ( ٧ ) ﴾ :
بعد أن تكلم الحق- تبارك وتعالى- عن الذين يرمون المحصنات، وبين حكم القذف، أراد أن يبين حكم الرمي إن كان من الزوج لزوجته، لأن الأمر هنا مختلف، وربما يكون بينهما أولاد منه أو من غيره، فعليه أن يكون مؤدبا بأدب الشرع، ولا يجرح الأولاد برمي أمهم ولا ذنب لهم.
لذلك شرع الحق- سبحانه وتعالى- في هذه الحالة حكما خاصا بها هو الملاعنة، وقد سميت هذه الآية آية اللعان.
ويروى أن هلال بن أمية ذهب إلى رسول الله ( ص ) وقال له : يا رسول الله إني رأيت فلانا على بطن زوجتي، فإن تركته لآتي بأربعة شهداء لقضى حاجته وانصرف، وإن قتلته فقد اعتديت عليه٢.
إذن : ما حل هذا اللغز ؟.
وينبغي أن نعلم أن الله تعالى لا ينزل التشريع والحكم بداية، إنما يترك في الكون من أقضية الحياة وأحداثها ما يحتاج لهذا الحكم، بحيث ينزل الحكم فيصادف الحاجة إليه، كما يقولون : موقع الماء من ذي الغلة الصادي، يعني : حين ينزل الحكم يكون له موضع فيتلقفه الناس، ويشعرون أنه نزل من أجلهم بعد أن كانوا يستشرفون لحكم في مسألة لم يأت فيها حكم.
وقد شرع الله تعالى حكم الملاعنة أو اللعان خاصة، لهذه الحالة التي يلاحظ فيها الزوج شيئا على أهله، وقد يضع يده عليه، لكن لا يستطيع أن يأتي عليه بشهود ليثبت هذه الحالة، لذلك جعله الشارع الحكيم يقوم وحده بهذه الشهادة، ويكررها أربع مرات بدل الشهداء الأربع.
يقول : أشهد الله أنني صادق فيما رميت به امرأتي، يقولها أربع مرات، وفي الخامسة يقول : ولعنة الله علي إن كنت كاذبا، وهكذا ينتهي دور الزوج في الملاعنة.
٢ لفظ الحديث عند الإمام أحمد في مسنده (١/٢٣٨) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن هلال بن أمية- وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم- جاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه وسمع بأذنيه فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني" الحديث..
( يدرأ ) أي : يدفع العذاب عن الزوجة أن تشهد هي الأخرى أربع شهادات بالله، تقول : أشهد الله أنه كاذب فيما رماني به، وفي الخامسة تقول : غضب الله علي إن كان هو من الصادقين. فإن امتنعت الزوجة عن هذه الشهادة فقد ثبت عليها الزنا، وإن حلفت فقد تعادلا، ولم يعد كل منهما صالحا للآخر، وعندها يفرق الشرع بينهما تفريقا نهائيا لا عودة بعده، ولا تحل له أبدا١.
﴿ ولولا١ فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ( ١٠ ) ﴾ :
أي : لولا هذا لفضحتم ولتفاقمت بينكم العداوة، لكن عصمكم فضل الله في هذا التشريع الحكيم المناسب لهذه الحالة.
والقذف جريمة بشعة في حق المجتمع كله، تشيع فيه الفاحشة وتتقطع الأواصر، هذا إن كان للمحصنات البعيدات، وهو أعظم إن كان للزوجة، لكن ما بالك إن وقع مثل هذا القول على أم ليست أما لواحد، إنما هي أم لجميع المؤمنين، هي أم المؤمنين السيدة عائشة- رضي الله عنها وأرضاها- فكانت مناسبة أن يذكر السياق ما كان من قذف السيدة عائشة، والذي سمي بحادثة الإفك، لماذا ؟.
لأن الله تعالى يريد أن يعطينا الأسوة في النبوة نفسها، ويريد أن يسلي عائشة صاحبة النسب العريق وأم المؤمنين، وقد قيل فيها ما قيل، لذلك ستظل السيدة عائشة أسوة لكل شريفة ترمى في عرضها، ويحاول أعداؤها تشويه صورتها، نقول لها : لا عليك، فقد قالوا مثل هذا في عائشة.
وتقوم آيات الإفك دليلا على صدق رسول الله ( ص )- في البلاغ عن ربه، فذكر أنهم يرمون المحصنات، ويرمون زوجاتهم، والأفظع من ذلك أن يرموا زوجة النبي وأم المؤمنين.
﴿ إن الذين جاءوا بالإفك عصبة١ منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي٢ تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( ١١ ) ﴾ :
الإفك : لدينا نسب ثلاث للأحداث : نسبة ذهنية، ونسبة كلامية حين تتكلم، ونسبة خارجية. فحين أقول : محمد مجتهد. هذه قضية ذهنية، فإن نطقت بها فهي نسبة كلامية، فهل هناك شخص اسمه محمد ومجتهد، هذه نسبة خارجية، فإن وافقت النسبة الكلامية النسبة الخارجية، فالكلام صدق، وإن خالفت فالكلام كذب.
فالصدق أن تطابق النسبة الكلامية الواقع، والكذب ألا تطابق النسبة الكلامية الواقع، والكذب قد يكون غير متعمد، وقد يكون متعمدا، فإن كان متعمدا فهو الإفك، وإن كان غير متعمد كأن أخبره شخص أن محمدا مجتهد وهو غير ذلك، فالخبر كاذب، لكن المخبر ليس كاذبا.
فالإفك- إذن- تعمد الكذب، ويعطى ضد الحكم، كأن تقول : محمد مجتهد. وأنت تعلم أنه مهمل، لذلك كان الإفك أفظع أنواع الكذب، لأنه يقلب الحقائق ويختلق واقعا مضادا لما لم يحدث.
يقول تعالى :﴿ والمؤتفكة أهوى ( ٥٣ ) ﴾ [ النجم ] : وهي القرى التي جعل الله عاليها سافلها، وكذلك الإفك يغير الواقع، ويقلبه رأسا على عقب.
والعصبة : الجماعة التي ترتبط حركتها لتحقيق غاية متحدة، ومن ذلك نقول : عصابة مخدرات، عصابة سرقات، يعني : جماعة اتفقوا على تنفيذ حدث لغاية واحدة، ومنه قوله تعالى في سورة يوسف :﴿ ونحن عصبة.. ( ١٤ ) ﴾ [ يوسف ].
وما دام أهل الإفك عصبة فلا بد أن لهم غاية واحدة في التشويه والتبشيع، وكان رئيسهم عبد الله بن أبي بن سلول، وهو شيخ المنافقين، ومعذور في أن يكون كذلك، ففي اليوم الذي دخل فيه رسول الله ( ص ) المدينة كانوا يصنعون لعبد الله بن أبي تاجا لينصبوه ملكا على المدينة٣، فلما فوجئ برسول الله واجتماع الناس عليه وانفضاضهم من حوله بقيت هذه في نفسه.
لذلك فهو القائل :﴿ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.. ( ٨ ) ﴾ [ المنافقون ] : يقصد أنه الأعز، فرد عليه الحق- تبارك وتعالى- صدقت، لكن العزة ستكون لله وللرسول وللمؤمنين، وعليه فالخارج منها أنت.
وهو أيضا القائل :﴿ لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا.. ( ٧ ) ﴾ [ المنافقون ] : والعجيب أنه يعترف أن محمدا رسول الله، ويقولها علانية، ومع ذلك ينكرها بأعماله وتصرفاته، ويحدث تشويها في الفكر وفي أداء العبارة.
وما دام أن الحق سبحانه سمى هذه الحادثة في حق أم المؤمنين عائشة إفكا فلا بد أنهم قلبوا الحقائق وقالوا ما يناقض الواقع.
والقصة حدثت في غزوة بني المصطلق، وكان ( ص ) إذا أراد غزوة أجرى قرعة بين زوجاته، من تخرج منهن معه. وهذا ما تقتضيه عدالته ( ص )، وفي هذه الغزوة أقرع بينهن فخرج السهم لعائشة فخرجت معه، وبعد الغزوة وأثناء الاستعداد للعودة قالت السيدة عائشة : ذهبت لأقضي حاجتي في الخلاء، ثم رجعت إلى هودجي ألتمس عقدا لي من ( جزع ظفار )٤ وهو نوع نفيس.
فلما عادت السيدة عائشة وجدت القوم قد ذهبوا، ولم تجد هودجها فقالت في نفسها لا بد أنهم سيفتقدونني وسيعودون. لكن كيف حمل القوم هودج عائشة ولم تكن فيه ؟ قالوا : لأن النساء كن خفافا لم يثقلن، وكانت عائشة نحيفة، لذلك حمل الرجال هودجها دون أن يشعروا أنها ليست بداخله. ثم نامت السيدة عائشة في موضع هودجها تنتظر من يأتيها، وكان من عادة القوم أن يتأخر أحدهم بعد الرحيل ليتفقد المكان ويعقب عليه، عله يجد شيئا نسيه القوم أو شخصا تخلف عن الركب.
وكان هذا المعقب هو صفوان بن المعطل٥، فلما رأى شبح إنسان نائم فاقترب منه، فإذا هي عائشة رضي الله عنها، فأناخ ناقته بجوارها، وأدار وجهه حتى ركبت وسار بها دون أن ينظر إليها وعف نفسه، بدليل أن القرآن سمى ما قالوه إفكا يعني : مناقضا للواقع، فصفوان لم يفعل إلا نقيض ما قالوا.
ولما قدم صفوان يقود ناقته بعائشة رآه بعض أهل النفاق فاتهموها، وقالوا في حقهما ما لا يليق بأم المؤمنين، وقد تولى هذه الحملة رأس النفاق في المدينة عبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش امرأة طلحة بن عبيد الله وأخت زينب بنت جحش، فروجوا هذا الاتهام وأذاعوه بين الناس.
ثم يقول سبحانه :﴿ لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم.. ( ١١ ) ﴾ [ النور ] : لكن ما الخير في هذا الكلام وفي إذاعته ؟ قالوا : لأن القرآن حين تتهم عائشة وتنزل براءتها من فوق سبع سموات في قرآن يتلى ويتعبد به إلى يوم القيامة، وحين يفضح قوم على لسان القرآن، لا بد أن يعتبر الآخرون، ويخافوا إن فعلوا مخالفة أن يفتضح أمرهم، لذلك جاء هذا الموقف درسا عمليا لمجتمع الإيمان.
نعم، أصبحت هذه الحادثة خيرا، لأنها نوع من التأييد لرسول الله ولدعوته، فالحق- تبارك وتعالى- يؤيد رسوله في الأشياء المسرة ليقطع أمل أعدائه في الانتصار عليه، ولو بالتدليس، وبالمكر ولو بالإسرار والكيد الخفي، ففي ذروة عداء قريش لرسول الله كان إيمان الناس به يزداد يوما بعد يوم.
وقد ائتمروا له وكادوا له ليلا ليلة الهجرة، فلم يفلحوا، فحاولوا أن يسحروه، وفعلا صنعوا له سحرا، ووضعوه في بئر ذروان في مشط ومشاطة، فأخبره بذلك جبريل عليه السلام، فبعث رسول الله ( ص ) عليا فجاء به٦.
إذن : عجزوا في المواجهة، وعجزوا في التبييت والكيد، وعجزوا حتى في استخدام الجن والاستعانة به، وهنا أيضا عجزوا في تشويه صورة النبوة والنيل من سمعتها، وكأن الحق سبحانه يقول لأعدائه : اقطعوا الأمل فلن تنالوا من محمد أبدا، ومن هنا كانت حادثة الإفك خيرا لجماعة المؤمنين.
ومع ذلك، لم يجرؤ أحد أن يخبر السيدة عائشة بما يقوله المنافقون في حقها، لكن تغير لها رسول الله ( ص )، فلم يعد يداعبها كعادته، وكان يدخل عليها فيقول : " كيف تيكم " وقد لاحظت عائشة هذا التغير لكن لا تعرف له سببا إلى أن تصادف أن سارت هي وأم مسطح أحد هؤلاء المنافقين، فعثرت فقالت : تعس مسطح فنهرتها عائشة : كيف تدعو على ابنها، فقالت : إنك لا تدرين ما يقول ؟ عندها ذهبت السيدة عائشة إلى أمها وسألتها عما يقوله الناس فأخبرتها.
لذلك لما نزلت براءة عائشة في القرآن قال لها أبو بكر : قومي فاشكري رسول الله، فقالت : بل أشكر الله الذي برأني٧.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم.. ( ١١ ) ﴾ [ النور ] :
عادة ما يستخدم الفعل ( كسب ) المجرد في الخير، والفعل اكتسب المزيد الدال على الافتعال في الشر، لماذا ؟ قالوا : لأن فعل الخير يتمشى وطبيعة النفس، وينسجم مع ذراتها وتكوينها، فالذي يقدم على عمل الخير لا يقاوم شيئا في نفسه، ولا يعارض ملكة من ملكاته، أو عادة من العادات.
وهذه نلاحظها حتى في الحيوانات، ألا ترى القطة : إن وضعت لها قطعة لحم تجلس بجوارك وتأكلها، وإن أخذتها منك خطفا تفر بها هاربة وتأكلها بعيدا عنك. إذن : في ذاتية الإنسان وتكوينه- وحتى في الحيوان- ما يعرف به الخير والشر، والصواب والخطأ.
وأنت إن نظرت إلى ابنتك أو زوجتك تكون طبيعيا مطمئنا، لأن ملكات النفس معك موافقة لك لا تعارضك في هذا الفعل، فإن حاولت النظر إلى ما لا يحل لك تختلس النظرة وتسرقها، وتحاول سترها حتى لا يلحظها أحد، وقد ترتبك ويتغير لونك، لماذا ؟ لأنك تفعل شيئا غير طبيعي، لا حق لك فيه، فتعارضك ملكات نفسك، وذرات تكوينك. فالأمر الطبيعي تستجيب له النفس تلقائيا، أما الخطأ والشر فيحتاج إلى افتعال، لذلك عبر عن المكر والتبييت والكيد ب ( اكتسب ) الدال على الافتعال.
وقوله تبارك وتعالى :﴿ والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( ١١ ) ﴾ [ النور ] :
تولى كبر الشيء : يعني قام به وله حظ وافر فيه، أو نقول : هو ضالع فيه، والمقصود هنا عبد الله بن أبي الذي قاد هذه الحملة، وتولى القيام بها وترويجها ﴿ له عذاب عظيم ( ١١ ) ﴾ [ النور ] : أي : يناسب هذه الجريمة.
٢ قال ابن كثير في تفسيره (٣/٢٧٢): "الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله ابن أبي بن سلول قبحه الله ولعنه وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث وقال ذلك جماعة وغير واحد. وقيل: المراد به حسان بن ثابت وهو قول غريب"..
٣ ذكره ابن هشام في السيرة النبوية (٢/٥٨٤) "أن قومه كانوا قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم، فجاءهم الله تعالى برسوله (ص) وهم على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن، ورأى أن رسول الله (ص) قد استلبه ملكا فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن"..
٤ الجزع والجزع: نوع من الخرز اليماني، وهو الذي فيه بياض وسواد تشبه به الأعين، وظفار: قرية من قرى حمير منسوبة إلى ظفار أسد مدينة باليمن [لسان العرب- مادتا: جزع، ظفر]..
٥ هو: صفوان بن المعطل بن رحضة السلمي الذكواني، أبو عمرو: صحابي شهد الخندق والمشاهد كلها، وحضر فتح دمشق، واستشهد بأرمينية. وقيل: في سميساط. روى عن النبي (ص) حدثين. توفي عام ١٩ ه (الأعلام للزركلي ٣/٢٠٦). وقال الحاكم في مستدركه (٣/٥١٨) "مات بشمشاط سنة ستين وقبره هناك"..
٦ حديث متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (٣٢٦٨)، وكذا مسلم في صحيحه (٢١٨٩) كتاب السلام أن رسول الله (ص) قال: "جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للذي عند رجلي، أو الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطة. قال: وجف طلعة ذكر. فأين هو؟ قال: في بئر ذي ذروان"..
٧ قصة حادثة الإفك وردت بطولها في صحيح البخاري (حديث ٤٧٥٠)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٧٧٠)، وأحمد في مسنده (٦/٥٩، ٦٠) من حديث عائشة رضي الله عنها..
يوجهنا الحق- تبارك وتعالى- إلى ما ينبغي أن يكون في مثل هذه الفتنة من ثقة المؤمنين بأنفسهم وبإيمانهم، وأن يظنوا بأنفسهم خيرا وينأوا بأنفسهم عن مثل هذه الاتهامات التي لا تليق بمجتمع المؤمنين، فكان على أول أذن تسمع هذا الكلام على أول لسان ينطق به أن يرفضه، لأن الله تعالى ما كان ليدلس على رسوله وصفوته من خلقه، فيجعل زوجته محل شك واتهام فضلا عن رميها بهذه الجريمة البشعة.
﴿ لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( ١٢ ) ﴾ [ النور ] : كان من المنتظر قبل أن تنزل المناعة في القرآن أن تأتي من نفوس المؤمنين أنفسهم، فيردون هذا الكلام.
و( لولا ) أداة للحض والحث، وقال :﴿ المؤمنون والمؤمنات.. ( ١٢ ) ﴾ [ النور ] : لأنه جال في هذه الفتنة رجال ونساء، والقرآن لا يحثهم على ظن الخير برسول الله أو بزوجته، وإنما ظن الخير بأنفسهم هم، لأن هذه المسألة لا تليق بالمؤمنين، فما بالك بزوجة نبي الله ورسوله ( ص ) ؟.
﴿ وقالوا.. ( ١٢ ) ﴾ [ النور ] : أي : قبل أن ينزل القرآن ببراءتها ﴿ هذا إفك مبين ( ١٢ ) ﴾ [ النور ] : يعني : كذب متعمد واضح بين لأنه في حق من ؟ في حق أم المؤمنين التي طهرها الله واختارها زوجة لرسوله ( ص ).
﴿ لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( ١٣ ) ﴾ :
وسبق أن ذكرت الآيات حكم القذف، وأن على من يرمي المحصنة بهذه التهمة عليه أن يأتي بأربعة شهداء ليثبت صدق ما قال، فإن لم يأت بهم فهو كاذب عند الله، ويجب أن يقام عليه حد القذف.
﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم ( ١٤ ) ﴾ :
﴿ أفضتم.. ( ١٤ ) ﴾ [ النور ] : أن تندفع إلى الشيء اندفاعا تقصد فيه السرعة، ومعنى السرعة أن يحدث الحدث الكبير زمنا أقل مما يتصور له، كالمسافة تمشيها في دقيقتين، فتسرع لتقطعها في دقيقة واحدة، كأنهم أسرعوا في هذا الكلام لما سمعوه، كما يقولون : خب فيها ووضع.
لكن، لماذا تفضل الله عليهم ورحمهم، فلم يمسهم العذاب، ولم يجازهم على افترائهم على أم المؤمنين ؟.
قالوا : لأن الحق- تبارك وتعالى- أراد من هذه المسألة العبرة والعظة، وجعلها للمؤمنين وسيلة إيضاح، فليس المراد أن ينزل الله بهم العذاب، إنما أن يعلمهم ويعطيهم درسا في حفظ أعراض المؤمنين.
انظر إلى بلاغة الأداء القرآني في التعبير عن السرعة في إفشاء هذا الكلام وإذاعته دون وعي ودون تفكير، فمعلوم أن تلقي الأخبار يكون بالأذن لا بالألسنة، لكن من سرعة تناقل هذا الكلام فكأنهم يتلقونه بألسنتهم، كأن مرحلة السماع بالأذن قد ألغيت، فبمجرد أن سمعوا قالوا.
﴿ وتقولوا بأفواهكم ما ليس لكم به علم ( ١٥ ) ﴾ [ النور ] :﴿ بأفواهكم.. ( ١٥ ) ﴾ [ النور ] يعني : مجرد كلام تتناقله الأفواه، دون أن يدققوا فيه، لذلك قال بعدها ﴿ ما ليس لكم به علم.. ( ١٥ ) ﴾ [ النور ] : وهذا الكلام ليس هينا كما تظنون، إنما هو عظيم عند الله، لأنه تناول عرض مؤمن، وللمؤمن حرمته، فما بالك إن كان ذلك في حق رسول الله ؟.
﴿ ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( ١٦ ) ﴾ :
هذا ما كان يجب أن تقابلوا به هذا الخبر، أن تقولوا لا يجوز لنا ولا يليق بنا أن نتناقل مثل هذا الكلام. وكلمة ﴿ سبحانك.. ( ١٦ ) ﴾ [ النور ] : تقال عند التعجب من حدوث شيء. والمعنى : سبحان الله ننزهه ونجله ونعليه أن يسمح بمثل هذا الكذب الشنيع في حق رسوله ( ص )، فهذا كلام لا يصح أن نتكلم به ولو حتى بالنفي، فإن كان الكلام بالإثبات جريمة فالكلام بالنفي فيه مظنة أن هذا قد يحدث.
كما لو قلت : الورع فلان، أو الشيخ فلان لا يشرب الخمر، فكأنه رغم النفي جعلته مظنة ذلك، فلا يصح أن ينسب إليه السوء ولو بالنفي، فذلك ذم في حقه لا مدح.
كذلك التحدث بهذه التهمة لا يليق بأم المؤمنين، ولو حتى بالنفي، ومعنى ﴿ بهتان عظيم ( ١٦ ) ﴾ [ النور ] : كذب يبهت سامعه، ويدهشه لفظاعته، وشناعته. فنحن نأنف أن نقول هذا الكلام، ولو كنا منكرين له.
الوعظ : أن تأتي لقمة الأشياء فتعظ بها، كالرجل حينما يشعر بنهايته يحاول أن يعظ أولاده ويوصيهم، لكن لا يوصيهم بكل أمور الحياة، إنما بالأمور الهامة التي تمثل القمة في أمور الحياة. ووعظ الحق- تبارك وتعالى- لعباده من لطفه تعالى ورحمته، يعظكم، لأنه عزيز عليه أن يؤاخذكم بذنوبكم.
وتذييل الآية بهذا الشرط :﴿ إن كنتم مؤمنين ( ١٧ ) ﴾ [ النور ] : حث وإهاجة لجماعة المؤمنين، لينتهوا عن مثل هذا الكلام، وألا يقعوا فيه مرة أخرى، وكأنه تعالى يقول لهم : إن عدتم لمثل هذا فراجعوا إيمانكم، لأن إيمانكم ساعتها سيكون إيمانا ناقصا مشكوكا فيه.
الوعظ : أن تأتي لقمة الأشياء فتعظ بها، كالرجل حينما يشعر بنهايته يحاول أن يعظ أولاده ويوصيهم، لكن لا يوصيهم بكل أمور الحياة، إنما بالأمور الهامة التي تمثل القمة في أمور الحياة. ووعظ الحق- تبارك وتعالى- لعباده من لطفه تعالى ورحمته، يعظكم، لأنه عزيز عليه أن يؤاخذكم بذنوبكم.
وتذييل الآية بهذا الشرط :﴿ إن كنتم مؤمنين ( ١٧ ) ﴾ [ النور ] : حث وإهاجة لجماعة المؤمنين، لينتهوا عن مثل هذا الكلام، وألا يقعوا فيه مرة أخرى، وكأنه تعالى يقول لهم : إن عدتم لمثل هذا فراجعوا إيمانكم، لأن إيمانكم ساعتها سيكون إيمانا ناقصا مشكوكا فيه.
﴿ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة١ في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ١٩ ) ﴾ :
﴿ يحبون.. ( ١٩ ) ﴾ [ النور ] : الحب عمل قلبي، والكلام عمل لساني، وترجمة عملية لما في القلب، فالمعنى : الذين يحبون هذا ولو لم يتكلموا به، لأن لهذه المسألة مراحل تبدأ بالحب وهو عمل القلب، ثم التحدث، ثم السماع دون إنكار.
ولفظاعة هذه الجريمة ذكر الحق سبحانه المرحلة الأولى منها، وهي مجرد عمل القلب الذي لم يتحول إلى نزوع وعمل وكلام إذن : المسألة خطيرة.
والبعض يظن أن إشاعة الفاحشة فضيحة للمتهم وحده، نعم هي للمتهم، لكن قد تنتهي بحياته، وقد تنتهي ببراءته، لكن المصيبة أنها ستكون أسوة سيئة في المجتمع.
وهذا توجيه من الحق- سبحانه وتعالى- إلى قضية عامة وقاعدة يجب أن تراعى، وهي : حين تسمع خبرا يخدش الحياء أو يتناول الأعراض أو يخدش حكما من أحكام الله، فإياك أن تشيعه في الناس، لأن الإشاعة إيجاد أسوة سلوكية عند السامع لمن يريد أن يفعل، فيقول في نفسه : فلان فعل كذا، وفلان فعل كذا، ويتجرأ هو أيضا على مثل هذا الفعل، لذلك توعد الله تعالى من يشيع الفاحشة وينشرها ويذيعها بين الناس ﴿ لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة.. ( ١٩ ) ﴾ [ النور ].
والحق- تبارك وتعالى- لم يعصم أحدا من المعصية وعمل السيئة، لكن الأسوء من السيئة إشاعتها بين الناس، وقد تكون الإشاعة في حق رجل محترم مهاب في مجتمعه مسموع الكلمة وله مكانة، فإن سمعت في حقه ما لا يليق فلربما زهدك ما سمعت في هذا الشخص، وزهدك في حسناته وإيجابياته فكأنك حرمت المجتمع من حسنات هذا الرجل.
وهذه المسألة في التعليل الذي يستر الله به غيب الخلق عن الخلق، إذن : ستر غيب الناس عن الناس نعمة كبيرة تثري الخير في المجتمع وتنميه، ويجعلك تتعامل مع الآخرين، وتنتفع بهم على علاتهم، وصدق الشاعر الذي قال :
فخذ بعلمي ولا تركن إلى عملي واجن الثمار وخل العود للنار.
﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم ( ٢٠ ) ﴾ :
انظر كم فضل من الله تعالى تفضل به على عباده في هذه الحادثة، ففي كل مرحلة من مراحل هذه القضية يقول سبحانه :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته.. ( ٢٠ ) ﴾ [ النور ] : وهذا دليل على أن ما حدث كان للمؤمنين نعمة وخير، وإن ظنوه غير ذلك.
لكن أين جواب لولا ؟ الجواب يفهم من السياق وتقديره : لفضحتم ولهلكتم، وحصل لكم كذا وكذا، ولك أن تقدره كما تشاء. وما منع عنكم هذا كله إلا فضل الله ورحمته.
وفي موضع آخر يوضح الحق سبحانه منزلة هذا الفضل :﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ( ٥٨ ) ﴾ [ يونس ] : فالحق- سبحانه وتعالى- شرع منهجا ويحب من يعمل به، لكن فرحة العبد لا تتم بمجرد العمل، وإنما بفضل الله ورحمته في تقبل هذا العمل. إذن : ففضل الله هو القاسم المشترك في كل تقصير من الخلق في منهج الخالق عز وجل.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى١ منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( ٢١ ) ﴾ :
كأن الشيطان له خطوات متعددة ليست خطوة واحدة، وقد أثبت الله عداوته لبني آدم، وهي عداوة مسببة ليست كلاما نظريا، إنما هو عدو بواقعة ثابتة، حيث امتنع عن السجود لآدم، وعصى أمر الله له، بل وأبدى ما في نفسه وقال :﴿ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ( ١٢ ) ﴾ [ الأعراف ].
وقال :﴿ أأسجد لمن خلقت طينا ( ٦١ ) ﴾ [ الإسراء ] : وهكذا علل امتناعه بأنه خير، وكأن عداوته لآدم عداوة حسد لمركزه ومكانته عند ربه.
والحق- تبارك وتعالى- حينما يخبرنا بعداوة الشيطان من خلال امتناعه عن السجود، إنما يحذرنا منه، وينبهنا إلى خطره ويربي فينا المناعة من الشيطان، لأن عداوته لنا عداوة مركزة، ليست عداوة يمارسها هكذا كيفما اتفق، إنما هي عداوة لها منهج ولها خطة.
فأول هذه الخطة أنه عرف كيف يقسم، فدخل على الإنسان من باب عزة الله عن خلقه، فقال :﴿ فبعزتك لأغوينهم جميعا ( ٨٢ ) ﴾ [ ص ].
فلو أرادنا ربنا- عز وجل- مؤمنين ما كان للشيطان علينا سبيل، إنما تركنا سبحانه للاختيار، فدخل علينا الشيطان من هذا الباب، لذلك قال بعدها :﴿ إلا عبادك منهم المخلصين ( ٤٠ ) ﴾ [ الحجر ] : فمن اتصف بهذه الصفة فليس للشيطان إليه سبيل.
إذن : مسألة العداوة هذه ليست بين الحق سبحانه وبين الشيطان، إنما بين الشيطان وبني آدم.
فقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا.. ( ٢١ ) ﴾ [ النور ] : نداء : يا من آمنتم بإله كأنه يقول : تنبهوا إلى شرف إيمانكم به، وابتعدوا عما يضعف هذا الإيمان، أو يفت في عضد المؤمنين بأي وسيلة، وتأكدوا أن الشيطان له خطوات متعددة.
﴿ لا تتبعوا خطوات الشيطان.. ( ٢١ ) ﴾ [ النور ] : فإن وسوس لك من جهة، فتأبيت عليه ووجد عندك صلابة في هذه الناحية وجهك إلى ناحية أخرى، وزين لك من باب آخر، وهكذا يظل بك عدوك إلى أن يوقعك، فهو يعلم أن لكل إنسان نقطة ضعف في تكوينه، فيظل يحاوره إلى أن يصل إلى هذه النقطة.
والشيطان : هو المتمرد العاصي من الجن، فالجن مقابل الإنس، فمنهم الطائع والعاصي، والعاصي منهم هو الشيطان، وعلى قمتهم إبليس، لذلك يقول تعالى في سورة الكهف :﴿ إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه.. ( ٥٠ ) ﴾ [ الكهف ].
وسبق أن ذكرنا أنك تستطيع أن تفرق بين المعصية من قبل النفس والمعصية من قبل الشيطان، فالنفس تلح عليك في معصية بعينها لا تتعداها إلى غيرها، أما الشيطان فإنه يريدك عاصيا على أي وجه من الوجوه، فإن امتنعت عليه في معصية جرك إلى معصية أخرى أيا كانت.
ثم يقول سبحانه :﴿ ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر.. ( ٢١ ) ﴾ [ النور ] : ولك أن تسأل : أين جواب ( من ) الشرطية هنا ؟ قالوا : حذف الجواب لأنه يفهم من السياق، ودل عليه بذكر علته والمسبب له، وتستطيع أن تقدر الجواب : من يتبع خطوات الشيطان يذقه ربه عذاب السعير، لأن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر، فمن يتبع خطواته، فليس له إلا العذاب، فقام المسبب مقام جواب الشرط.
والكلام ليس كلام بشر، إنما هو كلام رب العالمين. وأسلوب القرآن أسلوب راق يحتاج إلى فكر واع يلتقط المعاني، وليس مجرد كلام وحشو.
ألا ترى بلاغة الإيجاز في قوله تعالى من سورة النمل :﴿ اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون ( ٢٨ ) ﴾ [ النمل ].
ثم يقول تعالى بعدها :﴿ قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ( ٢٩ ) ﴾ [ النمل ].
وتأمل ما بين هذين الحدثين من أحداث حذفت للعلم بها، فوعي القارئ ونباهته لا تحتاج أن نقول له فذهب الهدهد.. وو إلخ فهذه أحداث يرتبها العقل تلقائيا.
وقد أوضح الشيطان نفسه هذه الخطوات وأعلنها، وبين طرقه في الإغواء، ألم يقل :﴿ لأقعدن لهم صراطك المستقيم ( ١٦ ) ﴾ [ الأعراف ] : فلا حاجة للشيطان بأصحاب الصراط المعوج لأنهم أتباعه، فالشيطان لا يذهب إلى الخمارة مثلا، إنما يذهب إلى المسجد ليفسد على المصلين صلاتهم، لذلك البعض ينزعج من الوساوس التي تنتابه في صلاته، وهي في الحقيقة ظاهرة صحية في الإيمان، ولولا أنك في طاعة وعبادة ما وسوس لك.
لكن مصيبتنا أن الشيطان يعطينا فقط طرف الخيط، فنسير نحن خلفه ( نكر في الخيط كرا ) ولو أننا ساعة ما وسوس لنا الشيطان استعذنا بالله من الشيطان الرجيم، كما أمرنا ربنا تبارك وتعالى :﴿ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله.. ( ٢٠٠ ) ﴾ [ الأعراف ].
إذن : إياك أن تقبل منه طرف الخيط، لأنك لو قبلته فلن تقدر عليه بعد ذلك.
ومن خطوات الشيطان أيضا قوله :﴿ ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.. ( ١٧ ) ﴾ [ الأعراف ]
إذن : للشيطان في إغواء الإنسان منهج وخطة مرسومة، فهو يأتي الإنسان من جهاته الأربع : من أمامه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله. لكن لم يذكر شيئا عن أعلى وأسفل، لأن الأولى تشير إلى علو الربوبية، والأخرى إلى ذل العبودية، حين ترفع يديك إلى أعلى بالدعاء، وحين تضع جبهتك على الأرض في سجودك، لذلك لا يأتيك عدوك من هاتين الناحيتين.
ثم يقول تعالى :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء.. ( ٢١ ) ﴾ [ النور ].
قلنا : إن فضل الجزاء يتناوبه أمران : جزاء بالعدل حين تأخذ ما تستحقه، وجزاء بالفضل حينما يعطيك ربك فوق ما تستحق، لذلك ينبغي أن نقول في الدعاء : اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل، وبالإحسان لا بالميزان، وبالجبر لا بالحساب. فإن عاملنا ربنا- عز وجل- بالعدل لضعنا جميعا.
لكن، في أي شيء ظهر هذا الفضل ؟ ظهر فضل الله على هذه الأمة في أنه تعالى لم يعذبها بالاستئصال، كما أخذ الأمم السابقة، وظهر فضل الله على هذه الأمة في أنه تعالى أعطاها المناعة قبل أن تتعرض للحدث، وحذرنا قديما من الشيطان قبل أن نقع في المعصية، وقبل أن تفاجئنا الأحداث، فقال سبحانه :﴿ فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك.. ( ١١٧ ) ﴾ [ طه ] : وإلا لغرق الإنسان في دوامة المعاصي.
لأن التنبيه للخطر قبل وقوعه يربي المناعة في النفس، فلم يتركنا ربنا- عز وجل- في غفلة إلى أن نقع في المعصية، كما نحصن نحن أنفسنا ضد الأمراض لنأخذ المناعة اللازمة لمقاومتها.
وقوله تعالى :﴿ ما زكى منكم من أحد أبدا.. ( ٢١ ) ﴾ [ النور ] :( زكى ) تطهر وتنقى وصفى ﴿ ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( ٢١ ) ﴾ [ النور ]، وقال :﴿ سميع عليم ( ٢١ ) ﴾ [ النور ] لأنه تعالى سبق أن قال :﴿ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.. ( ١٩ ) ﴾ [ النور ] : ذلك في ختام حادثة الإفك التي هزت المجتمع الإسلامي في قمته، فمست رسول الله ( ص ) وصاحبه الصديق وزوجته أم المؤمنين عائشة وجماعة من الصحابة.
لذلك قال تعالى ( والله سميع ) لما قيل ( عليم ) [ النور : ٢١ ] : بما تكنه القلوب من حب لإشاعة الفاحشة.
﴿ ولا يأتل٢ أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ( ٢٢ ) ﴾ :
تورط في حادثة الإفك جماعة من أفاضل الصحابة ممن طبع على الخير، لكنه فتن بما قيل وانساق خلف من روجوا لهذه الإشاعة، وكان من هؤلاء مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر الصديق، وكان أبو بكر ينفق عليه ويرعاه لفقره، فلما قال في عائشة ما قال وخاض في حقها أقسم أبو بكر ألا ينفق عليه، وقد كان يعيش وأهله في سعة أبي بكر وفضله، لأن هذه الفتنة جعلت بعض أهل الخير يضن به.
وهذا نموذج لمن ينكر الجميل ولا يقدر صنائع المعروف، وهذا الفعل يزهد الناس في الخير، ويصرفهم عن عمل المعروف، والله تعالى يريد أن يصحح لنا هذه المسألة، فهذه نظرة لا تتفق وطبيعة الإيمان، لأن الذي يعصى الله فيك لا تكافئه إلا بأن تطيع الله فيه.
وحين تترك من أساء إليك لعقاب الله وتعفو عنه أنت، فإنما تركته للعقاب الأقوى، لأنك إن عاقبته عاقبته بقدرتك وطاقتك، وإن تركت عقابه لله عاقبه بقدر طاقته تعالى وقدرته.
إذن : العافي أقسى قلبا من المنتقم، وسبق أن مثلنا لذلك بالأخ حين يتعدى على أخيه الأصغر، فيأتي الأب فيجد صغيره مهانا مظلوما، فيأخذه في حضنه، ويحاول إرضاءه وتعويضه عما لحقه من ظلم أخيه، كذلك الحال في هذه المسألة ولله المثل الأعلى.
ومن هنا يجب عليك أن تسر بمن جعل الله في جانبك، وتحسن إليه، لا أن ترد له الإساءة بمثلها.
إذن : نزلت هذه الآية في مسطح بن أثاثة حين أقسم أبو بكر ألا ينفق عليه وعلى أهله، وأن يمنع عنه عطاءه وبره، نزلت لتصحح للصديق هذه النظرة وتوجه انتباهه إلى جانب الخير الباقي عند الله لا عند الناس.
فقال تعالى :﴿ ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة.. ( ٢٢ ) ﴾ [ النور ] :
﴿ يأتل.. ( ٢٢ ) ﴾ [ النور ] ائتلى مثل اعتلى تماما، ومنها تألى يعني : حلف وأقسم، يوجه الحق- تبارك وتعالى- الصديق أبا بكر، ويذكر لفظ ﴿ أولوا.. ( ٢٢ ) ﴾ [ النور ] : الدال على الجماعة لتعظيمه لما له من فضل ومنزلة في الإسلام، ففي كل ناحية له فضل، لذلك أعطاه وصفين مثل ما أعطى للنبي ( ص )، فقال للصديق :﴿ وليعفوا وليصفحوا.. ( ٢٢ ) ﴾ [ النور ]، وقال للنبي ( ص ) :﴿ فاعف عنهم واصفح.. ( ١٣ ) ﴾ [ المائدة ].
كذلك، ألا ترى الصديق ثاني اثنين في الغار، وثاني اثنين في أمور كثيرة، فهو ثاني اثنين في الهجرة، وثاني اثنين في قبول دعوة الإسلام الأولى، لذلك صدق سيدنا رسول الله ( ص ) حين قال عن الصديق : " كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفرسي رهان ". يعني : في التسابق في الخير " فسبقته إلى النبوة فاتبعني : ولو سبقني إليها لاتبعته " ٣.
ولما كان لأبي بكر أفضال كثيرة في زوايا متعددة لم يخاطبه بصيغة المفرد، إنما بصيغة الجمع تكريما وتعظيما.
ألا ترى الصديق مع ما عرف عنه من الحلم ورقة القلب لما انتقل رسول الله ( ص ) إلى الرفيق الأعلى وحدثت مسألة الردة يقف ويقول : " والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونها لرسول الله لجالدتهم بالسيف، لو لم أجد إلا الذر " ٤.
هذا موقف الصديق رقيق القلب، لين الجانب، صاحب الرحمة والحنان، الذي تقول عنه ابنته " إنه رجل بكّاء٥ " يعني : كثير البكاء. في حين يعارضه في أمر الحرب عمر مع ما عرف عنه من الشدة والقسوة على الكفار. لكن هذا التناقض في موقف كل منهما يقوم دليلا على أن الإسلام ليس طبعا غالبا على المسلم إنما موقف يعود المسلم إليه، فموقف الردة هو الذي جعل من الصديق أسدا شجاعا قاسي القلب، ولو أن عمر في مكانه من المسئولية وفعل كما فعل الصديق لقالوا : شدة ألفها الناس من عمر.
فكأن الإسلام لا يريد أن يطبع المسلم على طبع خاص يظل عليه، إنما الموقف هو الذي يطبعك إيمانيا، وهذا ما ذكرناه في قوله تعالى :﴿ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.. ( ٢٩ ) ﴾ [ الفتح ].
فالمسلم ليس مفطورا لا على الشدة وحدها، ولا على الرحمة وحدها، إنما عليه أن يتصرف في كل موقف بما يناسبه على ضوء ما شرع الله.
فقوله تعالى :﴿ أولوا الفضل منكم والسعة.. ( ٢٢ ) ﴾ [ النور ] : يقول للصديق : أنت رجل فاضل صديق، وعندك سعة فلا تعطي ولا تؤثر على نفسك من ضيق، ولا يليق بالفاضل أن يقطع صلته ورحمه لمثل هذا الخطأ الذي وقع فيه مسطح، خاصة أنه أخذ جزاءه كما شرع الله، وعوقب بحد القذف ثمانين جلدة، وليس لك أن تعاقبه بعد ذلك.
ومن سماحة الإسلام أن من وقع في حد وعوقب به لا يجوز لأحد أن يعيره بذنبه، لأنه تاب وأناب وطهره الله منه بالحد، وانتهت المسألة، وليس لأحد أن يدخل بين العبد وربه.
فكأن الحق- تبارك وتعالى- يقول : ارجع إلى فضلك يا أبا بكر، وعد أنت إلى سعتك، وكن موصول المروءة، ولا تقطع رحمك، يريد- سبحانه وتعالى- أن يصفي ما في النفوس من آثار هذه الفتنة التي زلزلت المجتمع المؤمن في المدينة.
ولا يليق بذي الفضل والسعة أن يعامل الناس بالعدل، فصحيح أن مسطح كان يستحق هذه القطيعة وهذا الحرمان، إنما هذا الجزاء لا يليق بالصديق صاحب الفضل والسعة.
ولو أجريت إحصاء للمؤمنين بإله وللكافرين في الكون، ستعلم أن المؤمنين قلة والكافرين كثرة، فهل قال الله تعالى لجنود خيره في الكون : أعطوا من آمن، واتركوا من كفر ؟ وكأن الحق- تبارك وتعالى- يعطينا مثلا في ذاته عز وجل، فكما أنه يعطي من كفر به ويرزقه، بل ربما كان أحسن حالا ممن آمن، فأنت كذلك لا تمنع عطاءك عمن أساء إليك.
لذلك يقول سبحانه في آية أخرى :﴿ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ( ٢٢٤ ) ﴾ [ البقرة ] :
فإن كنت بارا بأحد وبدر منه شيء فلا تحلف بالله أنك لا تبره، فقد تهدأ ثورتك عليه، وتريد أن تبره، وتتحجج بحلفك، إذن : لا تجعلوا الله عرضة لحلف يمنعكم من المعروف.
ثم يقول سبحانه :﴿ أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله.. ( ٢٢ ) ﴾ [ النور ] : صحيح أن مسطح من ذوي قربى أبي بكر ومن المساكين، لكن يعطيه الله نيشانا آخر، فلم يخرجه ما قال من وصف المهاجر، ولم يخرجه ذنبه من هذا الشرف العظيم.
فمن فضل الله تعالى على عباده أن السيئة لا تحبط الحسنة، إنما الحسنة بعد السيئة تحبطها، كما قال عز وجل :﴿ إن الحسنات يذهبن السيئات.. ( ١١٤ ) ﴾ [ هود ].
فرغم ما وقع فيه مسطح، فقد أبقاه الله في العتب على أبي بكر، وتحنين قلبه، وأبقاه في المهاجرين.
﴿ وليعفوا وليصفحوا.. ( ٢٢ ) ﴾ [ النور ] : العفو : ترك العقوبة على الذنب، لكن قد تعفو عن المذنب ثم تؤنبه، وتمن عليه بعفوك، وتذكره دائما أنه لا يستحق منك هذا العفو، لذلك يحثنا ربنا- تبارك وتعالى- على الصفح بعد العفو، والصفح : ترك المن وعدم ذكر الزلة لصاحبها حتى تصبح العقوبة عنده أهون من عفوك عنه.
ذلك لأن الحق سبحانه حينما يشرع للبشر ما ينظم العلاقات بينهم يراعي جميع ملكات النفس، لا يقتصر على الملكات العالية فحسب، إنما لكل الملكات التي تنتظم الخلق جميعا، وليأخذ كل منا على قدر إيمانه وامتثاله لأمر ربه.
وفي ذلك يقول سبحانه :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ( ١٢٦ ) ﴾ [ النحل ] : ولو تأملنا حقيقة المثلية في رد الإساءة لوجدناها صعبة في تقديرها، فإن ضربك شخص ضربة، أعندك القدرة التي ترد بها هذه الضربة بمثلها تماما بنفس الطريقة، وبنفس القوة، وبنفس الألم، بحيث لا تكون أنت معتديا ؟ إنك لو تأملت هذه المثلية لفضلت العفو بدل الدخول في متاهات أخرى.
وسبق أن ذكرنا قصة المرابي الذي اشترط على المدين إن تأخر في السداد أن يقطع رطلا من لحمه، ولما تأخر الرجل في السداد خاصمه عند القاضي، وأخبره بما كان بينهما من شرط، وكان القاضي ذكيا فقال للمرابي : خذ السكين واقطع رطلا من لحمه، لكن إن زاد أخذناه منك، وإن نقص أخذناه منك، فتراجع المرابي لأنه لا يستطيع تقدير هذه المسألة.
فإن انصرفنا عن المعاقبة بالمثل وسعنا العفو، وانتهت المسألة على خير ما يكون.
وفي مرتبة أخرى يقول سبحانه :﴿ والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ( ١٣٤ ) ﴾ [ آل عمران ] :
فالحق- تبارك وتعالى- يجعل لنا مراتب في رد السيئة، فالعقاب بالمثل مرتبة، وكظم الغيظ مرتبة، والعفو مرتبة، والصفح مرتبة، وأعلى ذلك كله مرتبة الإحسان إلى من أساء إليك ﴿ والله يحب المحسنين ( ١٣٤ ) ﴾ [ آل عمران ].
ثم يجعل الحق سبحانه من نفسه أسوة لعباده فيقول :﴿ ألا تحبون أن يغفر الله لكم.. ( ٢٢ ) ﴾ [ النور ] : فكما تحب أن يغفر الله لك ذنبك، فلماذا لا تغفر أنت لمن أساء إليك ؟ وكأن ربنا- عز وجل- يريد أن يصلح ما بيننا، لذلك لما نزلت هذه الآية في شأن أبي بكر قال : أحب يا رب، أحب يا رب، أحب يا رب٦.
ومعنى ﴿ ألا.. ( ٢٢ ) ﴾ [ النور ] : أداة للحض وللحث على هذا الخلق الطيب ﴿ والله غفور رحيم ( ٢٢ ) ﴾ [ النور ] : فمن تخلق بأخلاق الله تعالى فليكن له غفران، وليكن لديه رحمة، ومن منا لا يريد أن يتصف ببعض صفات الله، فيتصف بأنه غفور ورحيم ؟.
٢ يأتل: معناه يحلف. وقالت فرقة: معناه يقصر. [القرطبي ٦/٤٧٤٣]..
٣ عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله (ص): "إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر" أخرجه البخاري في صحيحه (٣٦٥٤)..
٤ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٧٢٨٤، ٧٢٨٥)، وكذا مسلم في صحيحه (٢٠) كتاب الإيمان من حديث أبي هريرة بلفظ: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله (ص) لقاتلتهم على منعه"..
٥ أخرجه البخاري في صحيحه (٤٧٦) كتاب الصلاة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "وكان أبو بكر رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن"..
٦ ذكر ابن كثير في تفسيره (٣/٢٧٦) أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: بلى والله إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا. ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال: لا أنزعها منه أبدا، في مقابلة ما كان قال، والله لا أنفعه بنافعة أبدا..
﴿ إن الذين يرمون المحصنات١ الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ( ٢٣ ) ﴾ :
نلحظ أن الآيات تحدثت عن حد القذف وما كان من حادثة الإفك، ثم ذكرت آية العتاب لأبي بكر في مسألة الرزق، ثم عاد السياق إلى القضية الأساسية : قضية القذف، فلماذا دخلت مسألة الرزق في هذا الموضوع.
قالوا : لأن كل معركة فيها خصومة قد يكون لها آثار تتعلق بالرزق، والرزق تكفل الله به لعباده، لأنه سبحانه هو الذي استدعاهم إلى الوجود، سواء المؤمن أو الكافر، وحين تعطي المحتاج فإنما أنت مناول عن الله، ويد الله الممدودة بأسباب الله.
والحق تبارك وتعالى يحترم ملكية الإنسان مع أنه سبحانه رازقه ومعطيه، لكن طالما أعطاه صار العطاء ملكا له، فإن حثه على النفقة بعد ذلك يأخذها منه قرضا، لذلك يقول سبحانه :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا.. ( ٢٤٥ ) ﴾ [ البقرة ] : فإن أنفق الموسر على المعسر جعله الله قرضا، وتولى سداده بنفسه، ذلك لأن الله تعالى لا يرجع في هبته، فطالما أعطاك الرزق، فلا يأخذه منك إلا قرضا.
لذلك يقول تعالى :﴿ ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه.. ( ٣٨ ) ﴾ [ محمد ].
وفي موضع آخر يقول عن الأموال :﴿ إن يسألكموها فيحفكم٢ تبخلوا ويخرج أضغانكم ( ٣٧ ) ﴾ [ محمد ] : لأن الإنسان تعب في جمع المال وعرق في سبيله، وأصبح عزيزا عليه، لذلك يبخل به، فأخذه الله منه قرضا مردودا بزيادة، وكان الرزق والمال بهذه الأهمية لأنه أول مناط لعمارة الخليفة في الأرض، لذلك ترك الحديث عن القضية الأساسية هنا، وذكر هذه الآية التي تتعلق بالرزق.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى :﴿ حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى.. ( ٢٣٨ ) ﴾ [ البقرة ] : وقد ذكرت وسط مسائل تتعلق بالعدة والكفارة، وعدة المتوفى عنها زوجها، فما علاقة الصلاة بهذه المسائل ؟
قالوا : لأن النزاعات التي تحدث غالبا ما تغير النفس البشرية وتثير حفيظتها، فإذا ما قمت للوضوء والصلاة تهدأ نفسك وتطمئن. وتستقبل مسائل الخلاف هذه بشيء من القبول والرضا.
نعود إلى قوله تعالى :﴿ إن الذين يرمون المحصنات الغافلات.. ( ٢٣ ) ﴾ [ النور ] : المحصنة : لها إطلاقات ثلاث، فهي المتزوجة لأن الإحصان : الحفظ وكأنها حفظت نفسها بالزواج، أو هي العفيفة، وإن لم تتزوج فهي محصنة في ذاتها، والمحصنة هي أيضا الحرة، لأن عملية البغاء والزنا كانت خاصة بالإماء.
﴿ والغافلات.. ( ٢٣ ) ﴾ [ النور ] : جمع غافلة، وهي التي لا تدري بمثل هذه المسائل، وليس في بالها شيء عن هذه العملية، ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف أن رسول الله ( ص ) سأل بريرة خادمة السيدة عائشة : " ما تقولين في عائشة يا بريرة ؟ " فقالت : تعجن العجين ثم تنام بجانبه فتأتي الدواجن فتأكله وهي لا تدري٣. وهذا كناية عن الغفلة لأنها ما زالت صغيرة لم تنضج نضج المراهقة ومع نضج المراهقة نضج اليقين والإيمان.
وتلحظ هذه الغفلة في البنت الصغيرة حين تقول لها : أتتزوجين فلانا ؟ تقول : لا أنا أتزوج فلانا، ذلك لأنها لا تدري معنى العلاقة الزوجية، إنما حينما تكبر وتفهم مثل هذه الأمور فإن ذكرت لها الزواج تستحي وتخزي أن تتحدث فيه، لأنها عرفت ما معنى الزواج.
لذلك لما أمرنا الشرع باستئذان البنت للزواج جعل إذنها سكوتها، فإن سكتت فهذا إذن منها، ودليل على فهمها لهذه العلاقة، إنما إن قالت : نعم أتزوجه لأنه جميل و.. و.. ، فهذا يعني أنها لم تفهم بعد معنى الزواج.
إذن : الغافلة حتى عن مسائل الزواج والعلاقات الزوجية، ولا تدري شيئا عن مثل هذه الأمور كيف تفكر في الزنا ؟.
ثم يذكر ربنا- تبارك وتعالى- جزاء هذه الجريمة :﴿ لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ( ٢٣ ) ﴾ [ النور ].
وإن كانت الغافلة هي التي ليس في بالها مثل هذه الأمور، ولا تدري شيئا حتى عن الزواج والعلاقات الزوجية بين الرجل والمرأة، فكيف نقول : إنها تفكر في هذه الجريمة ؟
واللعن : هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، وأيضا الطرد والإبعاد عن حظيرة المؤمنين، لأن القاذف حكمه أن يقام عليه الحد، ثم تسقط شهادته، ويسقط اعتباره في المجتمع الذي يعيش فيه، فجمع الله عليه الخزي في الدنيا بالحد وإسقاط الاعتبار، إلى جانب عذاب الآخرة، فاللعن في الدنيا لا يعفيه من عذاب الآخرة.
وقلنا : إن العذاب : إيلام حي، وقد يوصف العذاب مرة بأليم، ومرة بمهين، ومرة بعظيم٤، هذه الأوصاف تدور بين العذاب والمعذب، فمن الناس من لا يؤلمه الجلد، لكن يهينه، فهو في حقه عذاب مهين لكرامته، أما العذاب العظيم فهو فوق ما يتصوره المتصور، لأن العذاب إيلام من معذب لمعذب، والمعذب في الدنيا يعذب بأيدي البشر وعلى قدر طاقته، أما العذاب في الآخرة فهو بجبروت الله وقهر الله، لذلك يوصف بأنه عظيم.
٢ أحفاه: ألح عليه في السؤال أو طالبه بقوة وإلحاح. قال تعالى: ﴿إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا.. (٣٧)﴾ [محمد] أي: إن يجهدكم بطلبها ويلح عليكم تبخلوا. [القاموس القويم ١/١٦٣]..
٣ قطعة من حديث طويل عن حادثة الإفك أخرجه البخاري في صحيحه (٥/٢٦٩- ٢٧٢- بشرح فتح الباري) عن عائشة رضي الله عنها وفيه "أن علي بن أبي طالب قال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله (ص) بريرة فقال: يا بريرة هل رأيت فيها شيئا يريبك؟ فقالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها قط أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن العجين فتأتي الدواجن فتأكله"..
٤ ورد وصف العذاب بالأليم في ٧٢ موضعا في القرآن منها: ﴿ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون (١٠)﴾ [البقرة]، ﴿والظالمين أعد لهم عذابا أليما (٣١)﴾ [الإنسان]..
﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ( ٢٤ ) ﴾ :
نعلم جميعا أن اللسان هو الذي يتكلم، فماذا أضافت الآية :﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم.. ( ٢٤ ) ﴾ [ النور ] : قالوا : في الدنيا يتكلم اللسان وينطق، لكن المتكلم في الحقيقة أنت، لأنه ما تحرك إلا بمرادك له، فاللسان آلة خاضعة لإرادتك، إذن : فهو مجرد آلة، أما في الآخرة فسوف ينطق اللسان على غير مراد صاحبه، لأن صاحبه ليس له مراد الآن.
ولتقريب هذه المسألة : ألا ترى كيف يخرس الرجل اللبيب المتكلم، ويمسك لسانه بعد طلاقته، بسبب مرض أو نحوه، فلا يستطيع بعدها الكلام، وهو ما يزال في سعة الدنيا. فما الذي حدث ؟ مجرد أن تعطلت عنده آلة الكلام، فهكذا الأمر في الآخرة تتعطل إرادتك وسيطرتك على جوارحك كلها، فتنطق وتتحرك، لا بإرادتك، إنما بإرادة الله وقدرته.
فالمعنى ﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم.. ( ٢٤ ) ﴾ [ النور ] : أي : شهادة ونطقا على مراد الله، لا على مراد أصحابها.
ولم نستبعد نطق اللسان على هذه الصورة، وقد قال تعالى :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ( ٨٢ ) ﴾ [ يس ] : وقد جعل فيك أنت أيها الإنسان نموذجا يؤكد صدق هذه القضية. فقل لي : ماذا تفعل إن أردت أن تقوم الآن من مكان ؟ مجرد إرادة القيام ترى نفسك قد قمت دون أن تفكر في شيء، ودون أن تستجمع قواك وفكرك وعضلاتك، إنما تقوم تلقائيا دون أن تدري حتى كيفية هذا القيام، وأي عضلات تحركت لأدائه.
ولك أن تقارن هذه الحركة التلقائية السلسة بحركة الحفار أو الأوناش الكبيرة، وكيف أن السائق أمامه عدد كبير من العصي والأذرع، لكل حركة في الآلة ذراع معينة.
فإذا كان لك هذه السيطرة وهذا التحكم في نفسك وفي أعضائك، فكيف تستبعد أن يكون لربك- عز وجل- هذه السيطرة على خلقه في الآخرة ؟.
إذن : فاللسان محل القول، وهو طوع إرادتك في الدنيا، أما في الآخرة فقد شلت هذه الإرادة ودخلت في قوله تعالى :﴿ لمن الملك اليوم لله الواحد القهار ( ١٦ ) ﴾ [ غافر ].
ثم يقول سبحانه :﴿ وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ( ٢٤ ) ﴾ [ النور ] : وهذه جوارح لم يكن لها نطق في الدنيا، لكنها ستنطق اليوم. ويحاول العلماء تقريب هذه المسألة فيقولون : إن الجارحة حين تعمل أي عمل يلتقط لها صورة تسجل ما عملت، فنطقها يوم القيامة أن تظهر هذه الصورة التي التقطت.
والأقرب من هذا كله أن نقول : إنها تنطق حقيقة، كما قال تعالى حكاية عن الجوارح :﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون ( ٢١ ) ﴾ [ فصلت ] :
ومعنى :﴿ الذي أنطق كل شيء ﴾ أن لكل شيء في الكون نطقا يناسبه، كما نطقت النملة وقالت :﴿ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم.. ( ١٨ ) ﴾ [ النمل ]، ونطق الهدهد، فقال :﴿ أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين ( ٢٢ ) ﴾ [ النمل ].
وقد قال تعالى عن نطق هذه الأشياء :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم.. ( ٤٤ ) ﴾ [ الإسراء ].
لكن، إن أراد الله لك أن تفقه نطقهم فقهك كما فقه سليمان عليه السلام، حين فهم عن النملة :﴿ فتبسم ضاحكا من قولها.. ( ١٩ ) ﴾ [ النمل ] : كما فهم عن الهدهد، وخاطبه في قضية العقيدة.
وإن كان النطق عادة يفهم عن طريق الصوت، فلكل خلق نطقه الذي يفهمه جنسه، لذلك نسمع الآن مع تقدم العلوم عن لغة للأسماك، ولغة للنحل... إلخ.
وسبق أن قلنا : إن الذين قالوا من معجزات النبي ( ص ) أن الحصى سبح في يده، نقول : عليكم أن تعدلوا هذه العبارة، قولوا : سمع رسول الله ( ص ) تسبيح الحصى في يده، وإلا فالحصى مسبح في يده ( ص )، كما هو مسبح في يد أبي جهل.
ولو سألت هذه الجوارح : لم شهدت علي وأنت التي فعلت ؟ لقالت لك : فعلنا لأننا كنا على مرادك مقهورين لك، إنما يوم ننحل عن إرادتك ونخرج عن قهرك، فلن نقول إلا الحق.
﴿ يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ( ٢٥ ) ﴾ :
قوله :﴿ يومئذ.. ( ٢٥ ) ﴾ [ النور ] : أي : يوم أن تحدث هذه الشهادة، وهو يوم القيامة ﴿ يوفيهم الله دينهم الحق.. ( ٢٥ ) ﴾ [ النور ] : الدين : يطلق على منهج الله لهداية الخلق، ويطلق على يوم القيامة، ويطلق على الجزاء.
فالمعنى : يوفيهم الجزاء الذي يستحقونه ﴿ الحق.. ( ٢٥ ) ﴾ [ النور ] : أي : العدل الذي لا ظلم فيه ولا تغيير، فليس الجزاء جزافا، إنما جزاء بالحق، لأنه لم يحدث منه توبة، ولا تجديد إيمان، لذلك لا بد أن يقع بهم ما حذرناهم منه وأخبرناهم به من العقاب، وليس هناك إله آخر يغير هذا الحكم أو يؤخره عنهم.
لذلك بعد أن قال تعالى :﴿ تبت يدا أبي لهب١ وتب ( ١ ) ما أغنى عنه ماله وما كسب ( ٢ ) سيصلى نارا ذات لهب ( ٣ ) وامرأته٢ حمالة الحطب ( ٤ ) في جيدها حبل من مسد ( ٥ ) ﴾ [ المسد ].
قال بعدها :﴿ قل هو الله أحد ( ١ ) الله الصمد ( ٢ ) لم يلد ولم يولد ( ٣ ) ولم يكن له كفوا أحد ( ٤ ) ﴾ [ الإخلاص ] : يعني : ليس هناك إله آخر يغير هذا الكلام، فما قلته سيحدث لا محالة.
ثم يقول تعالى :﴿ ويعلمون أن الله هو الحق المبين ( ٢٥ ) ﴾ [ النور ]، و ﴿ الحق.. ( ٢٥ ) ﴾ [ النور ] : هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، فكل ما عدا الله تعالى متغير، إذن : فالله بكل صفات الكمال فيه سبحانه لا تغيير فيه، لذلك يقولون : إن الله تعالى لا يتغير من أجلنا، ولكن يجب أن نتغير نحن من أجل الله، كما قال سبحانه :﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. ( ١١ ) ﴾ [ الرعد ].
فالله هو الحق الثابت، هذا بالبراهين العقلية وبالواقع، وقد عرفنا الكثير من البراهين العقلية، أما الواقع فإلى الآن لم يظهر من يقول أنا الله ويدعي هذا الكون لنفسه، وصاحب الدعوى تثبت له إن لم يقم عليها معارض ومعنى ﴿ المبين ( ٢٥ ) ﴾ [ النور ] : الواضح الظاهر الذي تشمل أحقيته الوجود كله.
٢ هي: أم جميل، واسمها أروى بنت حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان، وكانت عونا لزوجها أبي لهب على كفره وجحوده وعناده، فلهذا تكون يوم القيامة عونا عليه في عذابه في نار جهنم، فتحمل الحطب فتلقي على زوجها ليزداد على ما هو فيه. [قاله ابن كثير في تفسيره ٤/٥٦٤]..
﴿ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ( ٢٦ ) ﴾ :
قلنا في تفسير ﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك.. ( ٣ ) ﴾ [ النور ] : أن الزواج يقوم على التكافؤ، حتى لا يستعلي طرف على الآخر، ومن هذا التكافؤ قوله تعالى :﴿ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات.. ( ٢٦ ) ﴾ [ النور ].
ثم يقول سبحانه :﴿ أولئك.. ( ٢٦ ) ﴾ [ النور ] : أي : الذين دارت عليهم حادثة الإفك، وخاض الناس في حقهم، وهما عائشة وصفوان ﴿ مبرءون مما يقولون.. ( ٢٦ ) ﴾ [ النور ] : أي : مما يقال عنهم، بدليل هذا التكافؤ الذي ذكرته الآية، فمن أطيب من رسول الله ( ص )، وكما ذكرنا أن الله تعالى ما كان ليدلس على رسوله ( ص ) ويجعل من زوجاته من تحوم حولها الشبهات.
إذن : فلا بد أن تكون عائشة طيبة طيبة تكافئ وتناسب طيبة رسول الله، لذلك برأها الله مما يقول المفترون.
وقوله :﴿ لهم مغفرة ورزق كريم ( ٢٦ ) ﴾ [ النور ] : مغفرة نزلت من السماء قبل القيامة، ورزق كريم، صحيح أن الرزق كله من الله بكرم، لكن هنا يراد الرزق المعنوي للكرامة وللمنزلة وللسمو، لا الرزق الحسي الذي يقيم قوام البدن من أكل وشرب وخلافه.
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا١ وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون ( ٢٧ ) ﴾ :
كلمة بيت : نفهم منها أنه ما أعد للبيتوتة، حيث يأوي إليه الإنسان آخر النهار ويرتاح فيه من عناء اليوم، ويسمى أيضا الدار، لأنها تدور على مكان خاص بك، لذلك كانوا في الماضي لا يسكنون إلا في بيوت خاصة مستقلة لا شركة فيها مثل العمارات الآن، يقولون : بيت من بابه، حيث لا يدخل ولا يخرج عليك أحد، وكان السكن بهذه الطريقة عصمة من الريبة، لأنه بيتك الخاص بأهلك وحدهم لا يشاركهم فيه أحد.
لكن هناك أمور تقتضي أن يدخل الناس على الناس، لذلك تكلم الحق- تبارك وتعالى- هنا عن آداب الاستئذان وعن المبادئ والنظم التي تنظم هذه المسألة، لأن ولوج البيوت بغير هذه الآداب، ودون مراعاة لهذه النظم يسبب أمورا تدعو إلى الريبة والشك، لذلك في الفلاحين حتى الآن : إذا رأوا شخصا غريبا يدخل حارة٢ لا علاقة له بها لا بد أن يسأل : لماذا دخل هنا ؟.
إذن : فشرع الله لا يحرم المجتمع من التلاقي، إنما يضع لهذا التلاقي حدودا وآدابا تنفي الريبة والشبهة التي يمكن أن تأتي في مثل هذه المسائل.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في آداب الاستئذان :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها.. ( ٢٧ ) ﴾ [ النور ] :
﴿ حتى تستأنسوا.. ( ٢٧ ) ﴾ [ النور ] : من الأنس والاطمئنان، فحين تجلس وأهلك في بيتك، وأقبل عليك غريب لا تعرفه، إذا لم يقدم لك ما تأنس به من الحديث أو الاستئذان لا بد أن تحدث منه وحشة ونفور إذن : على المستأذن أن يحدث من الصوت ما يأنس به صاحب الدار، كما نقول : يا أهل الله، أو نطرق الباب، أو نتحدث مع الولد الصغير ليخبر من بالبيت.
ذلك لأن للبيوت حرمتها، وكل بيت له خصوصياته التي لا يحب صاحب البيت أن يطلع عليها أحد، إما كرامة لصاحب البيت، وإما كرامة للزائر نفسه، فالاستئذان يجعل الجميع يتحاشى ما يؤذيه.
لذلك قال تعالى بعدها :﴿ ذلكم خير لكم.. ( ٢٧ ) ﴾ [ النور ] : أي : خير للجميع، للزائر وللمزور، فالاستئذان يمنع أن يتجسس أحد على أحد، يمنع أن ينظر أحد إلى شيء يؤذيه، وهب أن أبا الزوجة أراد زيارتها ودخل عليها فجأة فوجدها في شجار مع زوجها، فلربما اطلع على أمور لا ترضيه، فيتفاقم الخلاف.
ثم تختم الآية بقوله تعالى :﴿ لعلكم تذكرون ( ٢٧ ) ﴾ [ النور ] : يعني : احذروا أن تغفلوا هذه الآداب، أو تتهاونوا فيها، كمن يقولون : نحن أهل أو أقارب لا تكليف بيننا، لأن الله تعالى الذي شرع لكم هذه الآداب أعلم بما في نفوسكم، وأعلم بما يصلحكم.
بل ويتعدى هذا الأدب الإسلامي من الغريب إلى صاحب البيت نفسه، ففي الحديث الشريف " نهى أن يطرق المسافر أهله بليل " ٣ إنما عليه أن يخبرهم بقدومه حتى لا يفاجئهم وحتى يستعد كل منهما لملاقاة الآخر.
٢ الحارة: كل محلت دنت منازلهم فهم أهل حارة. [قاله ابن منظور في لسان العرب- مادة: حير]..
٣ عن جابر بن عبد الله قال، قال رسول الله (ص): "إذا أطال أحدكم الغيبة فلا يطرق أهله ليلا". أخرجه البخاري في صحيحه (٥٢٤٤) ومسلم في صحيحه (٣/١٥٢٨) كتاب الإمارة..
﴿ فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ( ٢٨ ) ﴾ :
فإذا استأذنت على بيت ليس فيه أحد، فلا تدخل، لأنك جئت للمكين لا للمكان، إلا إذا كنت تريد الدخول لتتلصص على الناس وتتجسس عليهم.
وقوله تعالى :﴿ حتى يؤذن لكم.. ( ٢٨ ) ﴾ [ النور ] : كيف والدار ليس فيها أحد ؟.
ربما كان صاحب الدار خارجها، فلما رآك تستأذن نادى عليك من بعيد : تفضل. فلا بد أن يأذن لك صاحب الدار أو من ينوب عنه في الإذن، لأنه لا يأذن إلا وقد أمن خلو الطريق مما يؤذيك، أو مما يؤذي أهل البيت.
ثم يقول سبحانه :﴿ وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم.. ( ٢٨ ) ﴾ [ النور ] : لأنك إن تمسكت بالدخول بعد أن قال لك : ارجع فقد أثرت الريبة في نفسه، فعليك أن تمتثل وتحترم رغبة صاحب الشأن، فهذا هو الأزكى والأفضل، ألا ترى قول رسول الله ( ص ) : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ١.
﴿ والله بما تعملون عليم ( ٢٨ ) ﴾ [ النور ] : أي : عالم سبحانه بدخائل النفوس ووساوس الصدور، فإن قال لك صاحب الدار ارجع فوقفت أمام الباب ولم تنصرف، فإنك تثير حولك الظنون والأوهام، وربك- عز وجل- يريد أن يحميك من الظنون ودخائل النفوس.
﴿ ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ( ٢٩ ) ﴾ :
سأل الصديق أبو بكر رضي الله عنه رسول الله ( ص ) : يا رسول الله نحن قوم أهل تجارة، نذهب إلى بلاد ليس لنا فيها بيوت ولا أهل، ونضطر لأن ننزل في أماكن ( عامة كالفنادق ) نضع فيها متاعنا ونبيت بها، فنزلت هذه الآية١.
و﴿ جناح.. ( ٢٩ ) ﴾ النور ] : يعني : إثم أو حرج، وهذه خاصة بالأماكن العامة التي لا يسكنها أحد بعينه، والمكان العام له قوانين في الدخول غير قوانين البيوت والأماكن الخاصة، فهل تستأذن في دخول الفندق أو المحل التجاري أو الحمام... إلخ، هذه أماكن لا حرج عليك في دخولها دون استئذان.
فمعنى ﴿ غير مسكونة.. ( ٢٩ ) ﴾ [ النور ] : أي : لقوم مخصوصين ﴿ فيها متاع لكم.. ( ٢٩ ) ﴾ [ النور ] : كأن تنام فيها وتأكل وتشرب وتضع حاجياتك، فالمتاع هنا ليس على إطلاقه إنما مقيد بما أحله الله وأمر به، فلا يدخل في المتاع المحرمات.
لذلك قال بعدها :﴿ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ( ٢٩ ) ﴾ [ النور ] : يعني : في تحديد الاستمتاع، فلا تأخذه على إطلاقه فتدخل فيه الحرام، وإلا فالبغايا كثيرا ما يرتادون مثل هذه الأماكن، لذلك يحصنك ربك، ويعطيك المناعة اللازمة لحمايتك.
﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ( ٣٠ ) ﴾ :
تحدثت سورة النور من أولها عن مسألة الزنا والقذف والإحصان، وحذرت من اتباع خطوات الشيطان التي تؤدي إلى هذه الجريمة، وتحدثت عن التكافؤ في الزواج، وأن الزاني للزانية، والزانية للزاني، والخبيثون للخبيثات والطيبون للطيبات.
وهذا منهج متكامل يضمن سلامة المجتمع والخليفة لله في أرضه، فالله تعالى يريد مجتمعا تضئ فيه القيم السامية، مجتمعا يخلو من وسائل ( العكننة ) والمخالفة والشحناء والبغضاء، فلو أننا طبقنا منهج الله الذي ارتضاه لنا لارتاح الجميع في ظله.
ومسألة غض البصر التي يأمرنا بها ربنا- عز وجل- في هذه الآية هي صمام الأمان الذي يحمينا من الانزلاق في هذه الجرائم البشعة، ويسد الطريق دونها، لذلك قال تعالى :﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.. ( ٣٠ ) ﴾ [ النور ] :
وقلنا : إن للإنسان وسائل إدراكات متعددة، وكل جهاز إدراك له مناط : فالأذن تسمع الصوت، والأنف يشم الرائحة، واللسان للكلام، ولذوق المطعومات، والعين لرؤية المرئيات، لكن أفتن شيء يصيب الإنسان من ناحية الجنس هي حاسة البصر، لذلك وضع الشارع الحكيم المناعة اللازمة في طرفي الرؤية في العين الباصرة وفي الشيء المبصر، فأمر المؤمنين بغض أبصارهم، وأمر المؤمنات بعدم إبداء الزينة، وهكذا جعل المناعة في كلا الطرفين.
وحين تتأمل مسألة غض البصر تجدها من حيث القسمة العقلية تدور حول أربع حالات : الأولى : أن يغض هو بصره ولا تبدي هي زينتها، فخط الفتنة مقطوع من المرسل ومن المستقبل، الثانية : أن يغض هو بصره وأن تبدي هي زينتها، الثالثة : أن ينظر هو ولا تبدي هي زينتها. وليس هناك خطر على المجتمع أو فتنة في هذه الحالات الثلاث فإذا توفر جانب انعدم الآخر. إنما الخطر في القسمة الرابعة : وهي أن ينظر هو ولا يغض بصره، وأن تتزين هي وتبدي زينتها، ففي هذه الحالة فقط يكون الخطر.
إذن : فالحق- تبارك وتعالى- حرم حالة واحدة من أربع حالات، ذلك لأن المحرمات هي الأقل دائما، وهذا من رحمة الله بنا، بدليل قوله تعالى :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم.. ( ١٥١ ) ﴾ [ الأنعام ] : فالمحرمات هي المحصورة المعدودة، أما المحللات فهي فوق الحصر والعد، فالأصل في الأشياء أنها حلال، وإذا أراد الحق سبحانه تحريم شيء نص عليه، فانظر إلى هذه المعاملة الطيبة من ربك عز وجل.
وكما أمر الرجل بغض بصره، كذلك أمرت المرأة بغض بصرها، لأن اللفتة قد تكون أيضا للرجل ذي الوسامة و.. و فإن كان حظ المرأة في رجل تتقحمه العين، فلربما نظرت إلى غيره، فكما يقال في الرجال يقال في النساء.
هذا الاحتياط وهذه الحدود التي وضعها الله عز وجل وألزمنا بها إنما هي لمنع هذه الجريمة البشعة التي بدئت بها هذه السورة، لأن النظر أول وسائل الزنا، وهو البريد لما بعده، ألا ترى شوقي رحمه الله حين تكلم عن مراحل الغزل يقول :
نظرة فابتسامة فسلام**** فكلام فموعد فلقاء
فالأمر بغض البصر ليسد منافذ فساد الأعراض، ومنع أسباب تلوث النسل، ليأتي الخليفة لله في الأرض طاهرا في مجتمع طاهر نظيف شريف لا يتعالى فيه أحد على أحد، بأن له نسبا وشرفا، والآخر لا نسب له.
ذلك ليطمئن كل إنسان على أن من يليه في الخلافة من أبناء أو أحفاد إنما جاءوا من طريق شرعي شريف، فيجتهد كل إنسان في أن ينشئ أطفاله تنشئة فيها شفقة، فيها حنان ورحمة، لأنه واثق أنه ولده، ليس مدسوسا عليه، وأغلب الظن أن الذين يهملون أطفالهم ولا يراعون مصالحهم يشكون في نسبهم إليهم.
ولا يصل المجتمع إلى هذا الطهر إلا إذا ضمنت له الصيانة الكافية، لئلا تشرد منه غرائز الجنس، فيتعدى كل نظر على ما لا يحل له، لأن النظر بريد إلى القلوب، والقلوب بريد إلى الجنس، فلا يعف الفرج إلا بعفاف النظر.
ونلحظ في قوله تعالى :﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.. ( ٣٠ ) ﴾ [ النور ] : دقة بلاغ الرسول عن ربه- عز وجل- وأمانته في نقل العبارة كما أنزلت عليه، ففي هذه الآية كان يكفي أن يقول رسول الله : غضوا أبصاركم، لكنه التزم بنص ما أنزل عليه، لأن القرآن لم ينزل للأحكام فقط، وإنما القرآن هو كلام الله المنزل على رسوله والذي يتعبد بتلاوته، فلا بد أن يبلغه الرسول كما جاءه من ربه.
لذلك قال في البلاغ عن الله ( قل ) وفي الفعل ( يغضوا ) دلالة على ملحظية ( قل )، فالفعل ( يغضوا ) مضارع لم تسبقه أداة جزم، ومع ذلك حذفت منه النون، ذلك لأنه جعل ( قل ) ملحظية في الأسلوب.
والمعنى : إن تقل لهم غضوا أبصاركم يغضوا، فالفعل- إذن- مجزوم في جواب الأمر ( قل ).
إذن ﴿ قل.. ( ٣٠ ) ﴾ [ النور ] : تدل على أمانة الرسول في البلاغ، وعلى أن القرآن ما نزل للأحكام فحسب، إنما هو أيضا كلام الله المعجز، لذلك نحافظ عليه وعلى كل لفظة فيه، وكأن رسول الله ( ص ) يقول : ما أتيت لكم بشيء من عندي، ومهمتي أن أبلغكم ما قاله الله لي.
وقوله :﴿ للمؤمنين.. ( ٣٠ ) ﴾ [ النور ] : فما داموا مؤمنين بإله حكيم، وقد دخلوا حظيرة الإيمان باختيارهم لم يرغمهم عليه أحد، فلا بد أن يلتزموا بما أمرهم ربهم به وينفذوه بمجرد سماعه.
والغض : النقصان، يقال : فلان يغض من قدر فلان يعني : ينقصه، فكيف يكون النقصان في البصر ؟ أينظر بعين واحدة ؟ قالوا : البصر له مهمة، وبه تتجلى المرائي، والعين مجالها حر ترى كل ما أمامها سواء أكان حلالا لها أو محرما عليها.
فنقص البصر يعني : قصره على ما أحل، وكفه عما حرم، فالنقص نقص في المرائي وفي مجال البصر، فلا تعطي له الحرية المطلقة فينظر إلى كل شيء، إنما توقفه عند أوامر الله فيما يرى وفيما لا يرى.
و﴿ من.. ( ٣٠ ) ﴾ [ النور ]، في قوله تعالى :﴿ من أبصارهم.. ( ٣٠ ) ﴾ [ النور ] : البعض يرى أنها للتبعيض كما تقول : كل من هذا الطعام يعني : بعضا منه، فالمعنى : يغضوا بعض البصر، لأن بعضه حلال لا أغض عنه بصري، وبعضه محرم لا أنظر إليه.
أو : أن ﴿ من.. ( ٣٠ ) ﴾ [ النور ] : هنا لتأكيد العموم في أدنى مراحله، وسبق أن تكلمنا عن ( من ) بهذا المعنى، ونحن كلما توغلنا في التفسير لا بد أن تقابلنا أشياء ذكرناها سابقا، ونحيل القارئ عليها.
قلنا : فرق بين قولك : ما عندي مال، وقولك : ما عندي من مال. ما عندي مال، يحتمل أن يكون عندك مال قليل لا يعتد به، لكن ما عندي من مال نفي لجنس المال مهما قل، فمن تعني بداية ما يقال له مال.
فالمعنى هنا :﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم.. ( ٣٠ ) ﴾ [ النور ] : يعني : بداية ما يقال له بصر، ولو لمحة خاطفة، ناهيك عن التأمل وإدامة البصر.
وقلنا : إن الشرع لا يتدخل في الخواطر القلبية والهواجس، إنما يتدخل في الأعمال النزوعية التي يترتب عليها فعل، قلنا : لو مررت ببستان فرأيت به وردة جميلة، فأعجبت بها وسررت وانبسطت لها أسارير نفسك، كل هذا مباح لك لا حرج عليك فيه، فإن تعدى الأمر ذلك فمددت إليها يدك لتقطفها، هنا يتدخل الشرع يقول لك : قف، فليس هذا من حقك لأنها ليست لك.
هذه قاعدة عامة في جميع الأعمال لا يستثنى منها إلا النظر وحده، وكأن ربنا- عز وجل- يستسمحنا فيه، هذه المسألة من أجلنا ولصالحنا نحن ولراحتنا، بل قل رحمة بنا وشفقة علينا من عواقب النظر وما يخلفه في النفس من عذابات ومواجيد.
ففي نظر الرجل إلى المرأة لا نقول له : انظر كما تحب واعشق كما شئت، فإن نزعت إلى ضمة أو قبلة قلنا لك : حرام. لماذا ؟ لأن الأمر هنا مختلف تماما، فعلاقة الرجل بالمرأة لها مراحل لا تنفصل إحداها عن الأخرى أبدا.
فساعة تنظر إلى المرأة هذا إدراك، فإن أعجبتك وانبسطت لها أساريرك، فهذا وجدان، لا بد أن يترك في تكوينك تفاعلا كيماويا لا يهدأ، إلا بأن تنزع فإن طاوعت نفسك في النزوع فقد اعتديت، وإن كبت في داخلك هذه المشاعر أصابتك بعقد نفسية ودعتك إلى أن تبحث عن وسيلة أخرى للنزوع، لذلك رحمك ربك من بداية الأمر ودعاك إلى منع الإدراك بغض البصر.
لذلك بعد أن أمرنا سبحانه بغض البصر قال :﴿ ويحفظوا فروجهم.. ( ٣٠ ) ﴾ [ النور ] : لأنك لا تملك أن تفصل النزوع عن الوجدان، ولا الوجدان عن الإدراك، وإن أمكن ذلك في الأمور الأخرى، فحين نمنعك عن قطف الوردة التي أعجبتك لا يترك هذا المنع في نفسك أثرا ولا وجدا، على خلاف ما يحدث إن منعت عن امرأة أعجبتك، وهيجك الوجدان إليها.
وحفظ الفروج يكون بأن نقصرها على ما أحله الله وشرعه فلا أنيله لغير محلل له، سواء كان من الرجل أو من المرأة، أو : أحفظه وأصونه أن يرى، لأن رؤيته تهيج إلى الشر وإلى الفتنة.
﴿ ذلك أزكى لهم.. ( ٣٠ ) ﴾ [ النور ] : يعني : أطهر وأسلم وأدعى لراحة النفس، لأنه إما أن ينزع فيرتكب محرما، ويلج في أعراض الناس، وإما ألا ينزع فيكدر نفسه ويؤلمها بالصبر على ما لا تطيق.
ثم يقول سبحانه :﴿ إن الله خبير بما يصنعون ( ٣٠ ) ﴾ [ النور ] : فهو سبحانه خالق هذه النفس البشرية، وواضع مسألة الشهوة والغريزة الجنسية التي هي أقوى الغرائز ليربط بها بين الرجل والمرأة، وليحقق بها عملية النسل وبقاء الاستخلاف في الأرض، ولو لم تربط هذه العلاقة بالشهوة الملحة لزهد الكثيرون في الزواج وفي الإنجاب وما يترتب عليه من تبعات.
ألا ترى المرأة وما تعانيه من آلام ومتاعب في مرحلة الحمل، وأنها ترى الموت عند الولادة، حتى أنها لتقسم أنها لا تعود، لكن بعد أن ترى وليدها وتنسى آلامها سرعان ما يعاودها الحنين للإنجاب مرة أخرى، إنها الغريزة التي زرعها الله في النفس البشرية لدوام بقائها.
وللبعض نظرة فلسفية للغرائز : خاصة غريزة الجنس، حيث جعلها الله تعالى أقوى الغرائز، وربطها بلذة أكثر أثرا من لذة الطعام والشراب والشم والسماع.. إلخ فهي لذة تستوعب كل جوارح الإنسان وملكاته، وما ذلك إلا حرصا على بقاء النوع ودواما للخلافة في الأرض.
﴿ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن١ أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة٢ من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ( ٣١ ) ﴾ :
ذكر هنا المقابل، فأمر النساء بما أمر به الرجال، ثم زاد هنا مسألة الزينة. والزينة : هي الأمر الزائد عن الحد في الفطرية، لذلك يقولون للمرأة الجميلة بطبيعتها والتي لا تحتاج إلى أن تتزين : غانية٣، يعني : غنيت بجمالها عن التزين فلا تحتاج إلى كحل في عينيها، ولا أحمر في خديها، لا تحتاج أن تستر قلبها٤ بأسورة، ولا صدرها بعقد.. إلخ.
فإن كانت المرأة دون هذا المستوى احتاجت لشيء من الزينة، لكن العجيب أنهن يبالغن في هذه الزينة حتى تصبح كاللافتة النيون على كشك خشبي مائل، فترى مسنات يضعن هذه الألوان وهذه المساحيق، فيظهرن في صورة لا تليق، لأنه جمال مصطنع وزينة متكلفة يسمونها تطرية، وفيها قال المتنبي، وهو يصف جمال المرأة البدوية وجمال الحضرية.
حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب٥.
ومن رحمة الله بالنساء أن قال بعد ﴿ ولا يبدين زينتهن.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ]، قال :﴿ إلا ما ظهر منها.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] : يعني : الأشياء الضرورية، فالمرأة تحتاج لأن تمشي في الشارع، فتظهر عينيها وربما فيها كحل مثلا، وتظهر يدها وفيها خاتم أو حناء، فلا مانع أن تظهر مثل هذه الزينة الضرورية.
لكن لا يظهر منها القرط مثلا، لأن الخمار يستره ولا ( الديكولتيه ) أو العقد أو الأسورة أو الدملك ولا الخلخال، فهذه زينة لا ينبغي أن تظهر. إذن : فالشارع أباح الزينة الطبيعية شريطة أن تكون في حدود، وأن تقصر على من جعلت من أجله.
ونلحظ في قوله تعالى :﴿ ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] : المراد تغطية الزينة، فالجارحة التي تحتها من باب أولى، فالزينة تغطي الجارحة، وقد أمر الله بستر الزينة، فالجارحة من باب أولى.
وقوله تعالى :﴿ وليضربن بخمرهن على جيوبهن.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] :
الخمر : جمع خمار، وهو غطاء الرأس الذي يسدل ليستر الرقبة والصدر. الجيوب : جمع جيب، وهو الفتحة العليا للثوب ويسمونها ( القبة ) والمراد أن يستر الخمار فتحة الثوب ومنطقة الصدر، فلا يظهر منها شيء.
والعجيب أن النساء تركن هذا الواجب، بل ومن المفارقات أنهن يلبسن القلادة ويعلقن بها المصحف الشريف، إنه تناقض عجيب يدل على عدم الوعي وعدم الدراية بشرع الله منزل هذا المصحف.
وتأمل دقة التعبير القرآني في قوله تعالى :﴿ وليضربن.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] : والضرب هو : الوقع بشدة، فليس المراد أن تضع المرأة الطرحة على رأسها وتتركها هكذا للهواء، إنما عليها أن تحكمها على رأسها وصدرها وتربطها بإحكام.
لذلك لما نزلت هذه الآية قالت السيدة عائشة : رحم الله نساء المهاجرات، لما نزلت الآية لم يكن عندهم خمر، فعمدن إلى المروط فشقوها وصنعوا منها الخمر٦.
إذن : راعى الشارع الحكيم زي المرأة من أعلى، فقال :﴿ وليضربن بخمرهن على جيوبهن.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] : ومن الأدنى فقال :﴿ يدنين عليهن من جلابيبهن.. ( ٥٩ ) ﴾ [ الأحزاب ].
ثم يقول تعالى :﴿ ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] : أي : أزواجهن، لأن الزينة جعلت من أجلهم ﴿ أو آبائهن أو آباء بعولتهن.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] : أبو الزوج، إلا أن يخاف منه الفتنة، فلا تبدي الزوجة زينتها أمامه.
ومعنى :﴿ أو نسائهن.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] : أي : النساء اللائي يعملن معها في البيت كالوصيفات والخادمات ﴿ أو ما ملكت أيمانهن.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] : والمراد هنا أيضا ملك اليمين من النساء دون الرجال.
ويشترط في هؤلاء النساء أن يكن مسلمات، فإن كن كافرات كهؤلاء اللائي يستقدمونهن من دول أخرى، فلا يجوز للمرأة أن تبدي زينتها أمامهن، وأن تعتبرهن في هذه المسألة كالرجال، لأنهن غير مسلمات وغير مؤتمنات على المسلمة، وربما ذهبت فوصفت ما رأت من سيدتها للرجل الكافر فينشغل بها.
ومن العلماء من يرى أن ملك اليمين لا يخص النساء فقط، إنما الرجال أيضا، فللمرأة أن تبدي زينتها أمامهم، قالوا : لأن هناك استقبالا عاطفيا وامتناعا عاطفيا في النفس البشرية، فالخادم في القصر لا ينظر إلى سيدته ولا إلى بناتها، لأنه لا يتسامى إلى هذه المرتبة، إلا إذا شجعنه، وفتحن له الباب، وهذه مسألة أخرى.
وقوله تعالى :﴿ أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] : أي : التابعين للبيت، والذين يعيشون على فضلاته، فتكون حياة التابع من حياة متبوعه، فليس عنده بيت يأويه، لذلك ينام في أي مكان، وليس عنده طعام، لذلك يطعمه الناس وهكذا، فهو ضائع لا هدف له ولا استقلالية لحياته، وترى مثل هؤلاء يأكلون فضلات الموائد ويلبسون الخرق وينامون ولو على الأرصفة.
مثل ( الأهبل ) أو المعتوه الذي يعطف الناس عليه، وليس له مطمع في النساء، ولا يفهم هذه المسألة، فلا يخاف منه على النساء، لأنه لا حاجة له فيهن، ولا يتسامى لأن ينظر إلى أهل البيت.
ومعنى :﴿ غير أولي الإربة من الرجال.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] : يعني : كأن يكون كبير السن واهن القوى، لا قدرة له على هذه المسائل، أو يكون مجبوبا٧، مقطوع المتاع، ولا خطر من مثل هؤلاء على النساء.
وقوله تعالى :﴿ أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء.. ( ٣١ ) ﴾[ النور ] :
نلحظ هنا أن الطفل مفرد، لكن وصف بالجمع ﴿ الذين لم يظهروا على عورات النساء.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] : لماذا ؟ قالوا : هذه سمة من سمات اللغة، وهي الدقة في التعبير، حيث تستخدم اللفظ المفرد للدلالة على المثنى وعلى الجمع.
كما نقول : هذا قاض عدل، وهذان قاضيان عدل، وهؤلاء قضاة عدل، ولم نقل : عدلان وعدول، فإذا وحد الوصف في الجميع بدون هوى كان الوصف كالشيء الواحد، فالقاضي لا يحكم بمزاجه وهواه، والآخر بمزاجه وهواه، إنما الجميع يصدرون عن قانون واحد وميزان واحد. إذن : فالعدل واحد لا يقال بالتشكيك، وليس لكل واحد منهم عدل خاص به، العدل واحد.
كذلك الحال في ﴿ الطفل.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] : مع أن المراد الأطفال، لكن قال ( الطفل ) لأن غرائزه مشتركة مع الكل، وليس له هوى، فكل الأطفال- إذن- كأنهم طفل واحد حيث لم يتكون لكل منهم فكره الخاص به، الجميع يحب اللهو واللعب، ولا شيء وراء ذلك، فالجمعية هنا غير واضحة لوجود التوحيد في الغرائز وفي الميول.
بدليل أنه إذا كبر الأطفال وانتقلوا إلى مرحلة البلوغ وتكون لديهم هوى وفكر وميل يقول القرآن عنهم :﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم.. ( ٥٩ ) ﴾ [ النور ] : فنظر هنا إلى الجمع لعدم وجود التوحد في مرحلة الطفولة المبكرة.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى :﴿ هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين ( ٢٤ ) ﴾ [ الذاريات ] : فوصف ضيف وهي مفرد بالجمع ( مكرمين )، ذلك لأن ضيف تدل أيضا على الجمع، فالضيف من انضاف على البيت وله حق والتزامات لا بد أن يقدمها المضيف، مما يزيد على حاجة البيت، والضيف في هذه الالتزامات واحد، سواء أكان مفردا أو جماعة، لذلك دل بالمفرد على الجمع.
وقوله تعالى :﴿ الذين لم يظهروا على عورات النساء.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] : يظهر على كذا : لها معنيان في اللغة : الأول : بمعنى يعلم كما في قوله تعالى :﴿ إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم.. ( ٢٠ ) ﴾ [ الكهف ] : يعني : إن علموا بكم وعرفوا مكانكم.
والثاني : بمعنى يعلو ويغلب ويقهر، كما في قوله تعالى :﴿ فما اسطاعوا أن يظهروه ( ٩٧ ) ﴾ [ الكهف ] : أي : السد الذي بناه ذو القرنين، فالمعنى : ما استطاعوا أن يعلوه ويرتفعوا عليه.
وهنا ﴿ لم يظهروا على عورات النساء.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] : يعني : يعرفونها ويستبينونها، أو يقدرون على مطلوباتها، فليس لهم علم أو دراية بهذه المسائل.
ثم يقول سبحانه :﴿ ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] :
الحق- تبارك وتعالى- يكشف ألاعيب النساء وحيلهن في جذب الأنظار، فإذا لم يلفتك إليها النظر لفتك الصوت الذي تحدثه بمشيتها كأنها تقول لك : يا بجم اسمع، يا للي ما نتاش شايف اسمع، وفي الماضي كن يلبسن الخلخال الذي يحدث صوتا أثناء المشي، والآن يجعلن في أسفل الحذاء ما يحدث مثل هذا الصوت أثناء المشي، وأول من استخدم هذه الحيل الراقصات ليجذبن إليهن الأنظار.
ومعلوم أن طريقة مشي المرأة تبدي الكثير من زينتها التي لا يراها الناس، وتسبب كثيرا من الفتنة، لذلك يقول تعالى بعدها وفي ختام هذه المسائل :﴿ وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] :
لم يقل الحق تبارك وتعالى : يا من أذنبتم بهذه الذنوب التي سبق الحديث عنها، إنما قال :﴿ جميعا.. ( ٣١ ) ﴾ [ النور ] : فحث الجميع على التوبة، ليدل على أن كل ابن آدم خطاء، ومهما كان المسلم متمسكا ملتزما فلا يأمن أن تفوته هفوة هنا أو هناك، والله- عز وجل- الخالق والأعلم بمن خلق، لذلك فتح لهم باب التوبة وحثهم عليها، وقال لهم : ما عليكم إلا أن تتوبوا، وعلي أنا الباقي.
٢ غير أولي الإربة: أي: غير أولي الحاجة. والإربة الحاجة. والجمع مآرب أي حوائج. قال القرطبي في تفسيره (٦/٤٧٧١): "اختلف الناس في معناه، فقيل: هو الأحمق الذي لا حاجة به إلى النساء. وقيل: الأبله. وقيل: الرجل يتبع القوم فيأكل معهم ويرتفق بهم وهو ضعيف لا يشتهي النساء" ثم قال: "وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى، ويجتمع فيمن لا فهم له ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء"..
٣ الغانية: الجارية الحسناء، ذات زوج كانت أو غير ذات زوج، سميت غانية لأنها غنيت بحسنها عن الزينة. [لسان العرب- مادة: غني]..
٤ القلب: سوار المرأة. والقلب من الأسورة: ما كان قلدا واحدا. [لسان العرب- مادة: قلب]..
٥ الحضارة: الإقامة في الحضر. والحضر: خلاف البادية، وهي المدن والقرى والريف. سميت بذلك لأن أهلها حضروا الأمصار ومساكن الديار التي يكون لهم بها قرار. [لسان العرب- مادة: حضر]..
٦ أخرجه البخاري في صحيحه (٤٧٥٨، ٤٧٥٩) من حديث عائشة رضي الله عنها. والمروط جمع مرط وهو كساء يؤتزر به وتتلفح به المرأة..
٧ الجب: القطع. والمجبوب: الخصي الذي قد استؤصل ذكره وخصياه. فهو مقطوع الذكر. [لسان العرب- مادة: جبب]..
﴿ وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم ( ٣٢ ) ﴾ :
بعد أن تكلم الحق- سبحانه وتعالى- عن مسألة حفظ الفروج ودعا إلى الحفاظ على طهارة الأنساب، أراد أن يتكلم عن هؤلاء الرجال أو النساء الذين لم يتيسر لهم أمر الزواج، ذلك ليعالج الموضوع من شتى نواحيه، لأن المشرع لا بد أن يستولي بالتشريع على كل ثغرات الحياة فلا يعالج جانبا ويترك الآخر.
﴿ والأيامى.. ( ٣٢ ) ﴾ [ النور ] : جمع أيم، والأيم من الرجال من لا زوجة له، والأيم من النساء من لا زوج لها.
ونلحظ أن الأمر في ﴿ أنكحوا.. ( ٣٢ ) ﴾ [ النور ] : جاء هكذا بهمزة القطع، مع أن الأمر للواحد ( انكح ) بهمزة الوصل، ذلك لأن الأمر هنا ( أنكحوا ) ليس للمفرد الذي سينكح الأيم، إنما لغيره أن ينكحه، والمراد أمر أولياء الأمور ومن عندهم رجال ليس لهم زوجات، أو نساء ليس لهن أزواج : عجلوا بزواج هؤلاء، ويسروا لهم هذه المسألة، ولا تتشددوا في نفقات الزواج حتى حتى تعفوا أبناءكم وبناتكم، وإذا لم تعينوهم فلا أقل من عدم التشدد والمغالاة.
وفي الحديث الشريف : " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " ١.
ومع ذلك في مجتمعاتنا الكثير من العادات والتقاليد التي تعرقل زواج الشباب أخطرها المغالاة في المهور وفي النفقات والنظر إلى المظاهر.. إلخ وكأن الحق- تبارك وتعالى- يقول لأولياء الأمور : يسروا للشباب أمور الالتقاء الحلال ومهدوا لهم سبيل الإعفاف.
وقد أعطانا القرآن نموذجا لما ينبغي أن يكون عليه ولي الأمر، فقال تعالى عن سيدنا شعيب عليه السلام :﴿ قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين.. ( ٢٧ ) ﴾ [ القصص ] : ذلك لأن موسى- عليه السلام- سيكون أجيرا عنده، وربما لا يتسامى إلى أن يطلب يد ابنته، لذلك عرضها عليه وخطبه لها وشجعه على الإقبال على زواجها، فأزال عنه حياء التردد، وهكذا يجب أن يكون أبو الفتاة إن وجد لابنته كفؤا، فلا يتردد في إعفافها.
وقوله تعالى :﴿ والصالحين من عبادكم وإمائكم.. ( ٣٢ ) ﴾ [ النور ] :
وقوله ( ص ) : " تنكح المرأة لأربع : لمالها، وجمالها، وحسبها ودينها، فاظفر بذات الدين، تربتك يداك " ٢.
ولما سئل الحسن- رضي الله عنه- عن مسألة الزواج قال لوالد الفتاة الذي جاء يستشيره : زوجها من تأمنه على دينه، فإن أحب ابنتك أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها. وماذا يريد الإنسان في زوج ابنته أكثر من هذا ؟.
فالدين والخلق والقيم السامية هي الأساس الذي يبنى عليه الاختيار، أما المال فهو شيء ثانوي وعرض زائل، لذلك يقول تعالى :﴿ إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم ( ٣٢ ) ﴾ [ النور ] :
فالفقر قد يكون سببا في عدم الإقبال على البنت، أو عدم إقبال أهل البنت على الزوج، لكن كيف يتخلى الله عنا ونحن نتقيه ونقصد الإعفاف والطهر ؟ لا يمكن أن يضن الله على زوجين التقيا على هذه القيم واجتمعا على هذه الآداب، ومن يدريك لعل الرزق يأتي للاثنين معا، ويكون اجتماعهما في هذه الرابطة الشرعية هو باب الرزق الذي يفتح للوجهين معا ؟
﴿ والله واسع عليم ( ٣٢ ) ﴾ [ النور ] : فعطاء الله دائم لا ينقطع، لأن خزائنه لا تنفذ ولا تنقص، والإنسان يمسك عن الإنفاق، لأنه يخاف الفقر، أما الحق- تبارك وتعالى- فيعطي العطاء الواسع، لأن ما عنده لا ينفذ.
٢ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٥٠٩٠)، ومسلم في صحيحه (١٤٦٦) كتاب الرضاع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال القرطبي فيما نقله عنه ابن حجر في فتح الباري (٩/١٣٦): "معنى الحديث أن هذه الخصال الأربع هي التي يرغب في نكاح المرأة لأجلها، فهو خبر عما في الوجود من ذلك، لا أنه وقع الأمر بذلك، بل ظاهره إباحة النكاح لقصد كل من ذلك، لكن قصد الدين أولى"..
﴿ وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ( ٣٣ ) ﴾ :
في حالة إذا لم ننكح الأيامى، ولم نعنهم على الزواج، ولم يقدروا هم على القيام بنفقاته يصف لهم الحق- سبحانه وتعالى- العلاج المناسب، وهو الاستعفاف، وقد طلب الله تعالى من المجتمع الإسلامي سواء- تمثل في أولياء الأمور أو في المجتمع العام- أن ينهض بمسألة الأيامى، وأن يعينهم على الزواج، فإن لم يقم المجتمع بدوره، ولم يكن لهؤلاء الأيامى قدرة ذاتية على الزواج، فليستعفف كل منهم حتى يغنيهم الله، مما يدل على أن التشريع يبني أحكامه، ويراعي كل الأحوال، سواء أطاعوا جميعا أو عصوا جميعا.
وقوله تعالى :﴿ وليستعفف.. ( ٣٣ ) ﴾ [ النور ] : يعني : يحاول العفاف ويطلبه ويبحث عن أسبابه، يجاهد أن يكون عفيفا، وأول أسباب العفاف أن يغض بصره حين يرى، فلا يوجد له مهيج ومثير، فإن وجد في نفسه فتوة وقوة فعلية أن يلجمها ويضعفها بالوسائل الشرعية كما قال النبي ( ص ) : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة- يعني : نفقات الحياة الزوجية- فليتزوج، ومن لم يجد فعليه بالصوم فإنه له وجاء١ " ٢.
والصوم يعمل على انكسار هذه الشهوة ويهدئ من شراسة الغريزة، ذلك لأنه يأكل فقط ما يقيم أوده، ولا يبقي في بدنه ما يثير الشهوة، كما جاء في الحديث الشريف : " بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه... " ٣.
أو : أن يفرغ الشاب نفسه للعمل النافع المفيد الذي يشغله ويستنفذ جهده وطاقته، التي إن لم تصرف في الخير صرفت في الشر، وبالعمل يثبت الشاب ذاته، ويثق بنفسه، ويكتسب الحلال الذي يشجعه مع الأيام على الزواج وتحمل مسئولياته.
لذلك قال تعالى :﴿ وليستعفف.. ( ٣٣ ) ﴾ [ النور ]، ولم يقل : وليعف، فالمعنى ليسلك سبيل الإعفاف لنفسه وليسع إليه، بأن يمنع المهيج بالنظر ويهدئ شراسة الغريزة بالصوم، أو بالعمل فيشغل وقته ويعود آخر النهار متعبا يريد أن ينام ليقوم في الصباح لعمله نشيطا، وهكذا لا يجد فرصة لشيء مما يغضب الله.
ومعنى :﴿ الذين لا يجدون نكاحا.. ( ٣٣ ) ﴾ [ النور ] : أي : بذواتهم قدرة أو بمجتمعهم معونة.
وقوله تعالى :﴿ حتى يغنيهم الله من فضله.. ( ٣٣ ) ﴾ [ النور ] : يدل على أن الاستعفاف وسيلة من وسائل الغنى، لأن الاستعفاف إنما نشأ من إرادة التقوى، وقد قال تعالى في قضية قرآنية : " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ( ٢ ) ويرزقه من حيث لا يحتسب ( ٣ ) } [ الطلاق ] : فمن هذا الباب يأتيه غنى الله.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم.. ( ٣٣ ) ﴾ [ النور ] :
الكتاب : معروف أنه اجتماع عدة أشياء مكتوبة في ورق، والمراد هنا المكاتبة، وهي أن تكتب عقدا بينك وبين العبد المملوك، تشترط فيه أن يعمل لك كذا وكذا بعدها يكون حرا، إن أدى ما ذكر في عقد المكاتبة.
﴿ فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا.. ( ٣٣ ) ﴾ [ النور ] : يعني : إن كانت حريتهم ستؤدي إلى خير كأن ترفع عنهم ذلة العبودية، وتجعلهم ينشطون في الحياة نشاطا يناسب مواهبهم.
لذلك جعل الحق- سبحانه وتعالى- هذه المكاتبة مصرفا من مصارف الزكاة، فقال تعالى :﴿ وفي الرقاب.. ( ١٧٧ ) ﴾ [ البقرة ] : يعني : المماليك الذين نريد أن نفك رقابهم من أسر العبودية وذلها بالعتق، وإن كان مال الزكاة يدفع للفقراء وللمساكين.. إلخ ففي الرقاب يدفع المال للسيد ليعتق عبده.
كما جعل الإسلام عتق الرقاب كفارة لبعض الذنوب بين العبد وبين ربه، ذلك لأن الله تعالى يريد أن ينهي هذه المسألة.
﴿ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم.. ( ٣٣ ) ﴾ [ النور ] :
الحق- تبارك وتعالى- هو الرازق، والمال في الحقيقة مال الله، لكن إن ملكك وطلب منك أن تعطي أخاك الفقير يحترم ملكيتك، ولا يعود سبحانه في هبته لك، لذلك يأخذ منك الصدقة على أنها قرض لا يرده الفقير، إنما يتولى ربك عز وجل رده، فيقول :﴿ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا.. ( ٢٤٥ ) ﴾ [ البقرة ]، ولم يقل سبحانه : يقرض فلانا، وإنما يقرض الله لأنه تعالى هو الخالق، ومن حق عبده الذي استدعاه للوجود أن يرزقه ويتكفل له بقوته.
واحترام الملكية يجعل الإنسان مطمئنا على آثار حركة حياته وثمرة جهده، وأنها ستعود عليه، وإلا فما الداعي للعمل ولبذل المجهود إن ضاعت ثمرته وحرم منها صاحبها ؟ عندها ستتعطل مصالح كثيرة وسيعمل الفرد على قدر حاجته فحسب، فلا يفيض عنه شيء للصدقة.
ثم يقول سبحانه :﴿ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ( ٣٣ ) ﴾ [ النور ] :
يقال للمملوك : فتى، وللمملوكة : فتاة، فقد نهى النبي ( ص ) أن يقول الرجل : عبدي٤ وأمتي إنما يقول : فتاي وفتاتي، فهذه التسمية أكرم لهؤلاء وأرفع، فالفتى من الفتوة والقوة كأنك تقول : هذا قوتي الذي يساعدني ويعينني على مسائل الحياة، فالنبي ( ص ) يريد أن يرفع من شأنهم.
ومن هؤلاء جماعة المماليك الذين حكموا مصر في يوم من الأيام، وكانوا من أبناء الملوك والسلاطين والأعيان.
والبغاء ظاهرة جاء الإسلام فوجدها منتشرة، فكان الرجل الذي يملك مجموعة من الإماء ينصب لهن راية تدل عليهن، ويأتيهن الشباب ويقبض هو الثمن، ومن هؤلاء عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق، وكان عنده ( مسيكة، ومعاذة ) وفيه نزلت هذه الآية٥.
وتأويل الآية : لا تكرهوا الإماء على البغاء، وقد كن يبكين، ويرفضن هذا الفعل، وكن يؤذين ويتعرضن للغمز واللمز، ويتجرأ عليهن الناس، وكان من هؤلاء الإماء بنات ذوات أصول طيبة شريفة، لكن ساقتهن الأقدار إلى السبي في الحروب أو خلافه، في حين أن الحرة العفيفة تسير لا يتعرض لها أحد بسوء.
ومعنى :﴿ إن أردن تحصنا.. ( ٣٣ ) ﴾ [ النور ] : يتكلم القرآن هنا عن الواقع بحيث إن لم يردن تحصنا فلا تكرهوهن ﴿ لتبتغوا عرض الحياة الدنيا.. ( ٣٣ ) ﴾ [ النور ] : طلبا للقليل من المال الزائل ﴿ ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ( ٣٣ ) ﴾ [ النور ] : لأنهن في حالة الإكراه على البغاء يفقدن شرط الاختيار، فلا يتحملن ذنب هذه الجريمة، عملا بالحديث النبوي الشريف : " رفع عن أمتي : الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ٦.
لذلك يطمئن الحق- تبارك وتعالى- هؤلاء اللاتي يردن التحصن والعفاف، لكن يكرههن سيدهن على البغاء، ويرغمهن بأي وسيلة : اطمئن فلا ذنب لكن في هذه الحالة، وسوف يغفر لكن والله غفور رحيم.
٢ حديث متفق عليه. أخرجه البخاري في صحيحه (٥٠٦٥)، ومسلم في صحيحه (١٤٠٠) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه..
٣ أخرجه أحمد في مسنده (٤/١٣٢)، والترمذي في سننه (٢٣٨٠) من حديث المقدام ابن معدي كرب وتمامه: "ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه"..
٤ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله (ص) أنه قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك. وليقل: سيدي مولاي. ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي" أخرجه البخاري في صحيحه (٢٥٥٢)، ومسلم في صحيحه (٢٢٤٩) كتاب الألفاظ من الأدب..
٥ قال الزهري: كانت جارية لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها معاذة يكرهها على الزنا، فلما جاء الإسلام نزلت ﴿ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء.. (٣٣)﴾ [النور]. أخرجه البزار في مسنده (أورده ابن كثير في تفسيره ٣/٢٨٨) وعن جابر قال: نزلت في أمة لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها مسيكة، كان يكرهها على الفجور وكانت لا بأس بها فتأبى فأنزل الله هذه الآية ﴿ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء.. (٣٣)﴾ [النور] قاله الأعمش..
٦ أخرج معناه ابن ماجة في سننه (٢٠٤٥) والدارقطني في سننه (٤/١٧٠) والحاكم في المستدرك (٢/١٩٨) وصححه على شرط الشيخين عن ابن عباس بلفظ: "إن الله تجاوز عن أمتي: الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وانظر كشف الخفاء (١/٥٢٢)..
﴿ ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ( ٣٤ ) ﴾ :
المعنى : لا عذر لكم، لأن الله تعالى قد أنزل إليكم الآيات الواضحة التي تضمن لكم شرف الحياة وطهارتها ونقاء نسل الخليفة لله في الأرض، وهذه الآيات ما تركت شيئا من أقضية الحياة إلا تناولته وأنزلت الحكم فيه، وقد نلتمس لكم العذر لو أن في حياتكم مسألة أو قضية ما لم يتناولها التشريع ولم ينظمها.
لذلك يقول سيدنا الإمام علي- رضي الله عنه- عن القرآن : فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله١.
ولا يزال الزمان يثبت صدق هذه المقولة، وانظر هنا وهناك لتجد مصارع الآراء والمذاهب والأحزاب والدول التي قامت لتناقض الإسلام، سواء كانت رأسمالية شرسة أو شيوعية شرسة. إلخ. كلها انهارت على مرأى ومسمع من الجميع.
نعم، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، لأنه خالقك، وهو أعلم بما يصلحك، فلا يليق بك- إذن- أن تأخذ خلق الله لك ثم تتكبر عليه وتضع لنفسك قانونا من عندك أنت.
وسبق أن قلنا : إن الآيات تطلق على ثلاث إطلاقات : الآيات الكونية التي تلفتك إلى الصانع المبدع عز وجل، وعلى المعجزات التي تأتي لتثبت صدق الرسول في البلاغ عن الله، وتطلق على الآيات الحاملة للأحكام وهي آيات القرآن الكريم، وفي القرآن هذا كله.
وقوله تعالى :﴿ ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ( ٣٤ ) ﴾ [ النور ] :
أي : جعلنا لكم موعظة وعبرة بالأمم السابقة عليكم، والتي بلغت شأوها في الحضارة، ومع ذلك لم تملك مقومات البقاء، ولم تصنع لنفسها المناعة التي تصونها فانهارت، ولم يبق منهم إلا آثار كالتي نراها الآن لقدماء المصريين، وقد بلغوا من الحضارة منزلة أدهشت العالم المتقدم الحديث، فيأتون الآن متعجبين : كيف فعل قدماء المصريين هذه الحضارة ؟
وكان أعظم من حضارة الفراعنة حضارة عاد التي قال الله عنها :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بعاد ( ٦ ) إرم ذات العماد ( ٧ ) التي لم يخلق مثلها في البلاد ( ٨ ) ﴾ [ الفجر ] : يعني : ليس لها مثيل في الدنيا ﴿ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ( ٩ ) وفرعون ذي الأوتاد ( ١٠ ) الذين طغوا في البلاد ( ١١ ) فأكثروا فيها الفساد ( ١٢ ) فصب عليهم ربك سوط عذاب ( ١٣ ) إن ربك لبالمرصاد ( ١٤ ) ﴾ [ الفجر ] : يعني : لن يفلت من المخالفين أحد، ولن ينجو من عذاب الله كافر.
والمثل كذلك في مسألة الزنا وقذف المحصنات العفيفات، كحادثة الإفك التي سبق الكلام عنها، وأنها كانت مثلا وعبرة، كذلك كانت قصة السيدة مريم مثلا وقد اتهمها قومها، وقالوا :﴿ يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ( ٢٨ ) ﴾ [ مريم ].
وكذلك كانت قصة يوسف عليه السلام وامرأة العزيز، وكلها مسائل تتعلق بالشرف، ولم تخل من رمي العفيفات المحصنات، أو العفيف الطاهر يوسف بن يعقوب عليهما السلام.
وهذه الآيات مبينات للوجود الأعلى في آيات الكون، مبينات لصدق المبلغ عن الله في المعجزات، مبينات للأحكام التي تنظم حركة الحياة في آيات القرآن، ثم أريناهم عاقبة الأمم السابقة سواء من أقبل منهم على الله بالطاعة، أو من أعرض عنه بالمعصية، ولا يستفيد من هذه المواعظ والعبر إلا المتقون الذين يخافون الله وتثمر فيهم الموعظة.
قلنا : فإن الله تعالى أعطانا النور الحسي الذي نرى به مرائي الأشياء، وجعله وسيلة للنور المعنوي، وقلنا : إن الدنيا حينما تظلم ينير كل منا لنفسه على حسب قدراته وإمكاناته في الإضاءة، فإذا ما طلعت الشمس وأنار الله الكون أطفأ كل منا نوره، لأن نور الله كاف، فكما أن نور الله كاف في الحسيات فنوره أيضا كاف في المعنويات.
فإذا شرع الله حكما معنويا ينظم حركة الحياة، فإياكم أن تعارضوه بشيء من عندكم، فكما أطفأتم المصابيح الحسية أمام مصباحه فأطفئوا مصابيحكم المعنوية كذلك أمام أحكامه تعالى وأوامره، والأمر واضح في الآيات الكونية.
﴿ الله نور السموات والأرض.. ( ٣٥ ) ﴾ [ النور ] : كما نقول ولله المثل الأعلى : فلان نور البيت، فالآية لا تعرف الله لنا، إنما تعرفنا أثره تعالى فينا، فهو سبحانه منور السموات والأرض، وهما أوسع شيء نتصوره، بحيث يكون كل شيء فيهما واضحا غير خفي.
ثم يضرب لنا ربنا- عز وجل- مثلا توضيحيا لنوره، فيقول :﴿ مثل نوره كمشكاة فيها مصباح.. ( ٣٥ ) ﴾ [ النور ] : أي : مثل تنويره للسموات وللأرض ﴿ كمشكاة.. ( ٣٥ ) ﴾ [ النور ] : وهي الطاقة التي كانوا يجعلونها قديما في الجدار، وهي فجوة غير نافذة يضعون فيها المصباح أو المسرجة، فتحجز هذه الفجوة الضوء وتجمعه في ناحية فيصير قويا، ولا يصنع ظلا أمام مسار الضوء.
والمصباح : إناء صغير يوضع فيه زيت أو جاز فيما بعد، وفي وسطه فتيل يمتص من الزيت فيظل مشتعلا، فإن ظل الفتيل في الهواء تلاعب به وبدد ضوءه وسبب دخانا، لأنه يأخذ من الهواء أكثر من حاجة الاحتراق، لذلك جعلوا على الفتيل حاجزا من الزجاج ليمنع عنه الهواء، فيأتي الضوء منه صافيا لا دخان فيه، وكانوا يسمونه ( الهباب ).
وهكذا تطور المصباح إلى لمبة وصعد نوره وزادت كفاءته، ومن ذلك قوله تعالى :﴿ المصباح في زجاجة.. ( ٣٥ ) ﴾ [ النور ] : لكنها ليست زجاجة عادية، إنما زجاجة ﴿ كأنها كوكب دري.. ( ٣٥ ) ﴾ [ النور ] : يعني : كوكب من الدر، والدر ينير بنفسه.
كذلك زيتها ليس زيتا عاديا، إنما زيت زيتونة مباركة.
يقول الحق سبحانه :﴿ يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية.... ٣٥ ﴾ : يعني : شجرة الزيتون لا شرقية ولا غربية، يعني : لا شرقية لأنها غربية، ولا غربية لأنها شرقية، فهي إذن شرقية غربية على حد سواء، لكن كيف ذلك ؟.
قالوا : لأن الشجرة الزيتونة حينما تكون في الشرق يكون الغرب مظلما، وحينما تكون في الغرب يكون الشرق مظلما، إذن : يطرأ عليها نور وظلمة، إنما هذه لا هي شرقية ولا هي غربية، إنما شرقية غربية لا يحجز شيء عنها الضوء.
وهذا يؤثر في زيتها، فتراه من صفائه ولمعانه﴿ يضيء ولو لم تمسسه نار.... ٣٥ ﴾( النور )، وتعطي الشجرة الضوء القوى الذي يناسب بنوتها للشمس، فإن كانت الشمس هي التي تنير الدنيا، فالشجرة الزيتونة هي ابنتها، ومنها تستمد نورها، بحيث لا يغيب عنها ضوء الشمس.
إذن : مثل تنوير الله للسماوات وللأرض مثل هذه السورة مكتملة كما وصفنا، وانظر إلى مشكاة فيها مصباح بهذه المواصفات، أيكون بها موضع مظلم ؟ فالسماوات والأرض على سعتهما كمثل هذه المشكاة، والمثل هنا ليس لنور الله، إنما لتنويره للسماوات وللأرض، أما نوره تعالى فشيء آخر فوق أن يوصف. وما المثل هنا إلا لتقريب المسألة إلى الأذهان.
وسبق أن ذكرنا قصة أبي تمام حين وصف الخليفة ومدحه بأبرز الصفات عند العرب، فقال :
إقدام عمرو في سماحة حاتم **** في حلم أحنف في ذكاء إياس
فجمع للخليفة كل هذه الصفات ومدحه بأشهر الخصال عند العرب ؛ لذلك قام إليه أحد الحاقدين وقال معترضا عليه : كيف تشبه الخليفة بصعاليك العرب ؟ فالأمير فوق من وصفت.
فأكمل أبو تمام على البديهة وبنفس الوزن والقافية :
لا تنكروا ضربي له من دونه مثلا **** شرودا في الندى والباس
فالله قد ضرب له من دونه الأقل لنوره **** مثلا من المشكاة والنبراس
فالله – تبارك وتعالى – هو نور السماوات والأرض أي : منورها، وهذا أمر واضح جدا حينما تنظر إلى نور الشمس ساعة يظهر يجلو الكون، بحيث لا يظهر معه نور آخر، وتتلاشى أنوار الكواكب الأخرى والنجوم رغم وجودها مع الشمس في وقت واحد، لكن يغلب على نورها نور الشمس، على حد قول الشاعر في المدح :
كأنك شمس والملوك كواكب **** إذا ظهرت لم يبد منهن كوكب
ثم يقول سبحانه :﴿ نور على نور....... ٣٥ ﴾( نور ) فلم يتركنا الحق- سبحانه وتعالى – في النور الحسي فقط، إنما أرسل إلينا نورا آخر على يد الرسل هو نور المنهج الذي ينظم لنا حركة الحياة، كأنه تعالى يقول لنا : بعثت إليك نورا على نور، نور حسي، ونور قيمي معنوي، وإذا شهدتم أنتم بأن نورى الحسى ينير لكم السموات والأرض، وإذا ظهر تلاشت أمامه كل أنوراكم، فاعلموا أن نور منهجي كذلك يطغي على كل مناهجكم، وليس لكم أن تأخذوا بمناهج البشر في وجود منهج الله.
وقوله تعالى :﴿ يهدي الله لنوره من يشاء..... ٣٥ ﴾( النور ) : أي : لنوره المعنوي نور المنهج ونور التكاليف، والكفار لم يهتدوا إلى هذا النور، وإن اهتدوا إلى النور الحسي في الشمس والقمر وانتفعوا به، وأطفأوا له مصابيحهم، لكن لم يكن لهم حظ في النور المعنوي، حيث أغلقوا دونه عيونهم وقلبوهم وأسماعهم فلم ينتفعوا به.
وكان عليهم أن يفهموا أن نور الله المعنوي مثل نوره الحسي لا يمكن الاستغناء عنه، لذلك جاء في أثر على بن أبي طالب :" من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ".
العجيب أن العبد كلما توغل في الهداية ازداد نورا على نور، كما قال سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا.... ٢٩ ﴾( الأنفال ).
وقال تعالى :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ١٧ ﴾( محمد ).
ثم يقول تعالى :﴿ ويضرب الله الأمثال للناس.... ٣٥ ﴾( النور ) : يعني : للعبرة والعظة مثل المثل السابق لنوره تعالى﴿ والله بكل شيء عليم٣٥ ﴾( النور ).
بدأت الآية بالجار والمجرور﴿ في بيوت.... ٣٦ ﴾ ( النور ) : ولا بد أن نبحث له عن متعلق، فالمعنى : هذا النور الذي سبق الحديث عنه في بيوت أذن الله أن ترفع. والبيت : هو ما أعد للبيتوتة، بل لمعيشة الحياة الثابتة، وإليه يأوى الإنسان بعد عناء اليوم وطوافه في مناكب الأرض، والبيت على أية صورة هو مكان الإنسان الخاص الذي يعزله عن المجتمع العام، ويجعل له خصوصية في ذاته، وإلا فالإنسان لا يرضى أن يعيش في ساحة عامة مع غيره من الناس.
وهذه الخصوصية في البيوت يتفاوت فيها الناس وتتسامى حسب إمكاناتهم، وكل إنسان يريد أن يتحيز إلى مكان خاص به ؛ لأن التحيز أمر مطلوب في النفس البشرية : الأسرة تريد أن تتحيز عن المجتمع العام، والأفراد داخل الأسرة يريدون أن يتحيزوا أيضا، كل إلى حجرة تخصه، وكذلك الأمر في اللباس، ذلك لأن لكل واحد منا مساتير بينه وبين نفسه، لا يحب أن يطلع عليها أحد.
وقد اتخذ الله له بيتا في الأرض، هو أول بيت وضع للناس، كما قال الحق سبحانه وتعالى :﴿ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا.... ٩٦ ﴾ ( آل عمران ) : وهذا هو بيت الله باختيار الله، ثم تعددت بيوت الله التي اختارها خلق الله، فكما اتخذتم لأنفسكم بيوتا اتخذ الله لنفسه بيوتا ﴿ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.... ٣٦ ﴾( النور ) : وأنتم جميعا عباد الله وعيال الله، وسوف تجدون الراحة في بيته تعالى كما تجدون الراحة في بيوتكم، مع الفارق بين الراحة في بيتك والراحة في بيت الله.
الراحة في بيوتكم راحة حسية بدنية في صالون مريح أو مطبخ ملئ بالطعام، أما في بيت الله فالراحة معنوية قيمية ؛ لأن ربك- عز وجل- غيب فيريحك أيضا بالغيب.
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما حزبه أمر يقوم إلى الصلاة١ ليلقى بأحماله على ربه. وماذا تقول في صنعة تعرض على صانعها مرة واحدة كل يوم، أيبقى بها عطل أو فساد ؟ فما بالك إن عرضت على صانعها خمس مرات في اليوم والليلة ؟.
فربك يدعوك إلى بيته ليريحك، وليحمل عنك همومك، ويصلح ما فسد فيك، ويفتح لك أبواب الفرج. إذن : فنور على نور هذه لا تكون إلا في بيوت الله التي أذن سبحانه أن ترفع بالذكر وبالطاعات وترفع عما يحل في الأماكن الأخرى وتعظم.
فالبيوت كلها. لها مستوى واحد، لكن ترفع بيوت عن بيوت وتعلى وقد رفعت بيوت الله بالطاعة والعبادة، فالمسجد مكان للعبادة لا يعصى الله فيه أبدا على خلاف البيوت والأماكن الأخرى، فعظم الله بيوته أن يعصى فيها، وعظم روادها أن يشتغلوا فيها بسفاسف الأمور الحياتية الدنيوية، فعليك أن تترك الدنيا على باب المسجد كما تترك الحذاء.
لذلك نهى الإسلام أن نعقد صفقة في بيت الله، أو حتى ننشد فيه الضالة ؛ لأن الصفقة التي تعقد في بيت الله خاسرة بائرة، والضالة التي ينشدها صاحبها فيه لا ترد عليه، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول لمن يفعل هذا المسجد :" لا ردها الله عليك " ٢.
وإن جعل الله الأرض كلها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم مسجدا وطهورا، لكن فرق بين الصلاة في المسجد والصلاة في أي مكان آخر، المسجد خصص للعبادة، ولا نذكر فيه إلا الله، أما الأماكن الأخرى فتصلح للصلاة، وأيضا لمزاولة أمور الدنيا.
وإلا، فكيف تعيش كل وقتك لأمور الدنيا على مدار اليوم والليلة، ثم تستكثر على ربك هذه الدقائق التي تؤدى فيها فرض الله عليك فتجرجر الدنيا معك حتى في بيت الله ؟ ألا تعلم أن بيوت الله ما جعلت إلا لعبادة الله ؟ لا بد للمؤمن أن يترك دنياه خارج المسجد، وأن ينوى الاعتكاف على عبادة ربه والمداومة على ذكره في بيته، فلا يليق بك أن تكون في بيت الله وتنشغل بغيره.
فإن التزمت بآداب المسجد تلقيت من ربك نورا على نور، وزال عن كاهلك الهم والغم وحلت مشاكلك من حيث لا تحتسب.
إذن : فالحق – تبارك وتعالى – جعل في الفطرة الإيمانية أن تؤمن بإله، فالإيمان أمر فطري مهما حاول الإنسان إنكاره، فالكافر الذي ينكر وجود الله ساعة يتعرض لأزمة لا منجاة منها بأسباب البشر تجده تلقائيا يتوجه إلى الله يقول : يا رب، لا يمكن أن يكذب على نفسه في هذه الحالة أو يسلم نفسه ويبيعها رخيصة.
وفي ذلك يقول تعالى :﴿ وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله ٣ نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا... ٨ ﴾ ( الزمر ).
ومن دقة الأداء القرآني في هذه المسألة قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع.... ٩ ﴾ ( الجمعة ) :
فذكر طرفا واحدا من عملية التجارة وهو البيع، ولم يقل : والشراء، قالوا : لأنه حين يمنع البيع يمنع الشراء في الوقت نفسه ؛ ولأن الإنسان يحرص على البيع لكن قد يشتري وهو كاره، فشهوة الإنسان متعلقة بالبيع لا بالشراء، لأن الشراء يحتاج منه إلى مال على خلاف البيع الذي يجلب له المال.
إذن قوله تعالى :﴿ وذروا البيع... ٩ ﴾( الجمعة ) : إنما ذكر قمة حركة الحياة وخلاصتها، فكل حركات الحياة من تجارة أو زراعة أو صناعة تنتهي إلى مسألة البيع ؛ لذلك يحزن البائع إذا لم يبع، أما المشتري فيقول حين لا يجد الشيء أو يجد المحل مغلقا : بركة يا جامع.
ثم إذا انتهت الصلاة يعيدنا من جديد إلى حركة الحياة :﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله.... ١٠ ﴾( الجمعة ) :
كأنك ذهبت للمسجد لتأخذ شحنة إيمانية تعينك وتسيطر على كل حواسك في حركتك في التجارة، وفي الإنتاج، وفي الاستهلاك، وفي كل ما ينفعك وينمي حياتك. وحين يأمرك ربك أن تفرغ لأداء الصلاة لا يريد من هذا الفراغ أن يعطل لك حركة الحياة، إنما ليعطك الوقود اللازم لتصبح حركة حياتك على وفق ما أراده الله. وما أشبه هذا الوقت الذي نختزله من مصالح دنيانا في عبادة الله بشحن بطارية الكهرباء، فحين تذهب بالبطارية إلى جهاز الشحن لا نقول : إنك عطلت البطارية إنما زدت من صلاحيتها لأداء مهمتها وأخذ خيرها.
فأنت تذهب إلى بيت الله بنور الإيمان، وبنور الاستجابة لنداء : الله أكبر، فتخرج بأنوار متعددة من فيوضات الله ؛ لذلك ضرب لنا الحق – تبارك وتعالى – مثلا لهذا النور بالمصباح الذي يتنامى نوره ويتصاعد ؛ لأنه في زجاجة تزيد من ضوئه ؛ لأنها مثل كوكب دري والنور يتصاعد ؛ لأنها بزيت زيتونة، ويتصاعد لأنها شرقية وغربية في آن واحد، إذن : عندنا ألوان متعددة في المثل، فكذلك النور في بيوت الله.
لذلك قال بعض العارفين : أهل الأرض ينظرون في السماء نجوما متلألئة، والملائكة في السماء ينظرون نجوما متلألئة من بيوت الله، ولا عجب في ذلك لأنها أنوار الله تتلألأ وتتدفق في بيته وفي مسجده، وكيف نستبعد ذلك ونحن نرى نور الشمس كيف يفعل حينما ينعكس على سطح القمر فيلقى إلينا بالضوء الذي نراه ؟ والشمس والقمر أثر من آثار نور الله الذي يسطع في بيوت الله، ألا يعطينا ذلك الإشعاع الذي يفوق إشعاع البدور ؟.
ثم يقول تعالى :﴿ يسبح٤ له فيها بالغدو والآصال ٣٦ ﴾( النور ) : فالمساجد جعلت لتسبيح الله ؛ لذلك كان بعض الصالحين إذا نزل بلدا يتحيل أن ينزلها في غير وقت الصلاة، ثم يذهب إلى المسجد فإن وجده عامرا في غير وقت الصلاة بالمسبحين علم أن هؤلاء ملتزمون بمنهج الله، حيث يجلسون قبل وقت الصلاة يسبحون الله وينتظرون الصلاة، وإن وجد الحال غير ذلك انصرف عنها وعلم أنها بلد لا خير فيها٥.
والغدو : يعني الصباح، والآصال : يعني المساء، فهي لا تخلو أبدا من ذكر الله وتسبيحه.
٢ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم:"إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة فقولوا: لا ردها الله عليك "أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة(ص٧٣) والدارمي في سننه (١/٣٢٦) والترمذي في سننه (١٣٢١)وقال: حسن غريب..
٣ خوله كذا: ملكه إياه متفضلا عليه بغير عوض. (القاموس القويم١/٢١٤)..
٤ هناك قراءة أخرى "يسبح" قرأها عبد الله بن عامر وعاصم في رواية أبي بكر عنه والحسن. بفتح الباء على ما لم يسم فاعله. ذكره القرطبي في تفسيره (٦/ ذكره القرطبي في تفسيره (٦/٤٨١٢).
٥ ذكر القرطبي في تفسيره (٦/٤٨١٢):"رأى سالم بن عبد الله أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة، فقال: هؤلاء الذين أراد الله بقوله ﴿لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله... ٣٧﴾(النور) ثم قال: "اختلف العلماء في وصف الله تعالى المسبحين. فقيل: هم المراقبون أمر الله، الطالبون رضاءه، الذين لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا".
.
﴿ رجال لا تليهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب ١ فيه القلوب والأبصار ٣٧ ﴾ :
قلنا : إن التجارة هي قمة حركة الحياة ؛ لأنها واسطة بين منتج زارع أو صانع وبين مستهلك، وهي تقتضي البيع والشراء، وهما قمة التبادلات، وهؤلاء الرجال لم تلههم التجارة عن ذكر الله لأنهم عرفوا ما في الزمن المستقطع للصلاة من بركة تنثر في الزمن الباقي.
أو نقول : إن التجارة لم تلههم عن ذكر الله في ذاتها، فهم حال تجارتهم لا يغفلون عن ذكر الله، وقد كنا في الصغر نسمع في الأسواق بين البائع والمشتري، يقول أحدهما للآخر : وحد الله، صل على النبي، مدح النبي، بالصلاة على النبي، كل هذه العبارات انقرضت الآن من الأسواق والتعاملات التجارية وحل محلها قيم وعبارات أخرى تعتمد على العرض والإعلان، بل الغش والتدليس. ولم نعد نسمع هذه العبارات، حتى إذا لم يتم البيع كنت تسمع البائع يقول : كسبنا الصلاة على النبي، فهي في حد ذاتها مكسب حتى لو لم يتم البيع.
﴿ وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة... ٣٧ ﴾( النور ) : الصلاة لأنها تأخذ وقتا من العمال، وكثيرا ما ينشغل المرء بعمله وتجارته عن إقامة الصلاة ظانا أنها ستضيع عليه الوقت، وتفوت عليه مصالح كثيرة، وكذلك ينظر إلى الزكاة على أنها تنقص من ماله، وهذه نظرة خاطئة حمقاء ؛ لأن الفلاح الذي يخرج من مخزنه أردبا من القمح ليزرع به أرضه : الأحمق يقول : المخزن نقص أردبا، أما العاقل فيثق أن هذا الأردب سيتضاعف عند الحصاد أضعافا مضاعفة.
أو : أن الله تعالى يفيض عليه من أنواره، فيبارك له في وقته، وينجز من الأعمال في الوقت المتبقى ما لا ينجزه تارك الصلاة، أو : يرزقه بصفقة رابحة تأتيه في دقائق، ومن حيث لا يحتسب، والبركة كما قلنا قد تكون سلبا وقد تكون إيجابا، وهذه كلها أنوار وتجليات يفيض الله بها على الملتزم بمنهجه.
ثم يقول سبحانه في صفات هؤلاء الرجال :﴿ يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ٣٧ ﴾( النور ) : ذلك لأنهم يتاجرون لهدف أسمى وأخلد، فأهل الدنيا إنما يتاجرون لصيانة دنياهم، أما هؤلاء فيتاجرون مع الله تجارة لن تبور، تجارة تصون الدنيا وتصون الآخرة.
وإذا قست زمن دنياك بزمن أخراك لوجدته هباء لا قيمة له، كما أنه زمن مظنون لعمر مظنون، لا تدري متى يفاجئك فيه الموت، أما الآخرة فحياة يقينية باقية دائمة، وفي الدنيا يفوتك النعيم مهما حلا وطال، أما الآخرة فنعيمها دائم لا ينقطع.
إذن : فهم يعملون للآخرة﴿ يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ٣٧ ﴾( النور ) : واليوم في ذاته لا يخاف منه، وإنما يخاف ما فيه، كما يقول الطالب : خفت يوم الامتحان، واليوم يوم عادي لا يخاف منه، إنما يخاف مما سيحدث في هذا اليوم، فالمراد : يخافون عذاب هذا اليوم.
ومعنى﴿ تتقلب فيه القلوب والأبصار ٣٧ ﴾( النور ) : يعني : رجفة القلب واضطراب حركته، وما ينتابه من خفقان شديد، ونحن نرى ما يصيب القلوب من ذلك لمجرد أحداث الدنيا، فما بالك بهول الآخرة، وما يحدث من اضطراب في القلب ؟.
كذلك تضطرب الأبصار وتتقلب هنا وهناك ؛ لأنها حين ترى الفزع الذي يخيفها تتقلب، تنظر هنا وتنظر هنا علها ترى ما يطمئنها أو يخفف عنها ما تجد، لكن هيهات فلن ترى إلا فزعا آخر أشد وأنكى.
لذلك ينتهي الموقف إلى :﴿ خاشعة أبصارهم... ٤٣ ﴾( القلم )، ﴿ قلوب يومئذ واجفة ٨أبصارها خاشعة ٩ ﴾( النازعات ) : يعني : ذليلة منكسرة حيث لا مفر ولا منجى، ولن يجد في هذا اليوم راحة إلا من قدم له العمل الصالح كالتلميذ المجتهد الواثق من نفسه ومعلوماته، يتلهف إلى ورقة الأسئلة، أما الآخر فيقف حائرا لا يدري.
﴿ ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب٣٨ ﴾ :
أي : في هذا اليوم يجزيهم الله أحسن ما عملوا، ما شاء الله على رحمة الله ! ! لكن كيف بأسوا ما عملوا ؟ هذه دعوها لرحمة الله ومغفرته ﴿ ويزيدهم من فضله.... ٣٨ ﴾( النور ) : لأن الله تعالى لا يعاملنا في الحسنات بالعدل، ولا يجازينا عليها بالقسطاس المستقيم وعلى قدر ما نستحق، إنما يزيدنا من فضله.
لذلك ورد في الدعاء : اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل، وبالإحسان لا بالميزان. فليس لنا نجاة إلا بهذا، كما يقول سبحانه :﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون٥٨ ﴾( يونس ).
﴿ والله يرزق من يشاء بغير حساب ٣٨ ﴾ ( النور ) : والرزق : كل ما ينتفع به، وكل معنى فيه فوقية لك هو رزق، فالصحة رزق، والعلم رزق، والحلم رزق، والشجاعة رزق.... إلخ.
والبعض يظن أن الرزق يعني المال، وهذا خطأ ؛ لأن الرزق مجموع أمور كثيرة، فإن كان رزقك علما فعلم الجاهل، وإن كان رزقك قوة فأعن الضعيف، وإن كان رزقك حلما فاصبر على السفيه، و إن كان رزقك صنعة تجيدها، فاصنع لآخرق لا يجيد شيئا.
وإذن : هذا كله رزق، وما دام ربك- عز وجل- يرزقك بغير حساب، ويفيض عليك من فضله فأعط المحتاجين، وارزق أنت أيضا المعدمين، واعلم أنك مناول عن الله، والرزق في الأصل من الله وقد تكفل لعباده به، وما أنت إلا يد الله الممدودة بالعطاء، واعلم أنك ما دمت واسطة في العطاء، فأنت تعطي من خزائن لا تنفد، فلا تضن ولا تبخل، فما عندكم ينفد وما عند الله باق.
والحساب : أن تحسب ثمرة الأفعال : هذه تعطي كذا، وهذا ينتج كذا، يعني ميزانية ودراسة جدوى، أما عطاء الله فيأتيك دون هذه الحسابات، فأنت تحسب ؛ لأن وراءك من سيحاسبك، أما ربك عز وجل فلا يحاسبه أحد ؛ لذلك يعطيك بلا عمل ودون أسباب، ويعطيك بلا مقدمات، ويعطيك وأنت لا تستحق، ألا ترى من تتعثر قدمه فيجد تحتها كنزا ؟.
﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب٣٩ ﴾ :
الحق – تبارك وتعالى – يريد أن يلفت أنظار من شغلتهم الدنيا بحركتها ونشاطها عن المراد بالآخرة، فيصنعون صنائع معروف كثيرة، لكن لم يخلصوا فيها النية لله، والأصل في عمل الخير أن يكون من الله ولله، وسوف يواجه هؤلاء بهذه الحقيقة فيقال لأحدهم كما جاء في الحديث : " عملت ليقال وقد قيل " ١.
لقد مدحوك وأثنوا عليك، وأقاموا لك التماثيل وخلدوا ذكراك ؛ لذلك رسم لهم القرآن هذه الصورة :﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا... ٣٩ ﴾( النور ).
﴿ أعمالهم.... ٣٩ ﴾ ( النور ) : أي : التي يظنونها خيرا، وينتظرون ثوابها، والسراب : ما يظهر في الصحراء وقت الظهيرة، كأنه ماء وليس كذلك. وهذه الظاهرة نتيجة انكسار الضوء، و " قيعة " : جمع قاع وهي الأرض المستوية مثل جار وجيرة.
وأسند الفعل﴿ يحسبه... ٣٩ ﴾( النور ) : إلى الظمآن ؛ لأنه في حاجة للماء، وربما لو لم يكن ظمآنا لما التفت إلى هذه الظاهرة، فلظمئه يجرى خلف الماء، لكنه لا يجد شيئا، وليت الأمر ينتهي عند خيبة المسعى إنما﴿ ووجد الله عنده فوفاه حسابه... ٣٩ ﴾( النور ) : فوجئ بإله لم يكن على باله حينما فعل الخير، إله لم يؤمن به، والآن فقط يتنبه، ويصحو من غفلته، ويفاجأ بضياع عمله.
إذن : تجتمع عليه مصيبتان : مصيبة الظمأ الذي لم يجد له ريا، ومصيبة العذاب الذي ينتظره، كما قال الشاعر ٢ :
كما أبرقت قوما عطاشا غمامة **** فلما رأوها أقشعت وتجلت ٣
وسبق أن ضربنا مثلا لهذه المسألة بالسجين الذي بلغ منه العطش مبلغا، فطلب الماء، فأتاه الحارس به حتى إذا جعله عند فيه واستشرف المسكين للأرتواء أراق الحارس الكوب، ويسمون ذلك : يأس بعد إطماع.
لذلك الحق- تبارك وتعالى – يعطينا في الكون أمثلة تزهد الناس في العمل للناس من أجل الناس، فالعمل للناس لا بد أن يكون من أجل الله. وفي الواقع تصادف من ينكر الجميل ويتنكر له بعد أن أحسنت إليه، وما ذلك إلا لأنك عملت من أجله، فوجدت الجزاء العادل لتتأدب بعدها ولا تعمل من أجل الناس، ولو فعلت ما فعلت من أجل الله لوجدت الجزاء والثواب من الله قبل أن تنتهي من مباشرة هذا الفعل.
وفي موضع آخر يشبه الحق سبحانه الذي ينفق ماله رياء الناس بالحجر الأملس الذي لا ينتفع بالماء، فلا ينبت شيئا :﴿ كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان٤ عليه تراب فأصابه وابل٥ فتركه صلدا ٦ لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين ٢٦٤ ﴾ ( البقرة ).
وقوله تعالى :﴿ والله سريع الحساب٣٩ ﴾( النور ) : فإياك أن تستبعد الموت والبعث، فالزمن بعد الموت وإلى أن تقوم الساعة زمن لا يحسب لأنه يمر عليك دون أن تشعر به، كما قال سبحانه :
﴿ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ٤٦ ﴾ ( النازعات ).
والله تعالى أخفى الموت أسبابا وميعادا ؛ لأن الإبهام قد يكون غاية البيان، وبإبهام الموت تظل ذاكرا له عاملا للآخرة ؛ لأنك تتوقعه في أي لحظة، فهو دائم على بالك، ومن يدريك لعلك إن خفضت طرفك لا ترفعه، وعلى هذا فالحساب قريب وسريع ؛ لذلك قالوا : من مات فقد قامت قيامته٧.
٢ هو: كثير بن عبد الرحمن أبو صخر الخزاعي، يقال له "كثير عزة" وهي عزة بنت جميل الضمرية، كان عفيفا في حبه لها، شاعر متيم مشهور، من أهل المدينة أكثر إقامته بمصر، كان مفرط القصر دميما في نفسه شمم وترفع. توفى عام(١٠٥هـ) الأعلام للزركلي(٥/٢١٩)..
٣ ديوان كثير (ص٢٠٧) وأورده شهاب الدين الحلبي (ت ٧٢٥هـ) في "حسن التوسل إلى صناعة الترسل" ص١٢١. وأقشعت الغمامة: انكشفت وذهبت..
٤ الصفوان: الحجر الأملس الذي لا يصلح للزراعة.(القاموس القويم١/٣٨٠)..
٥ الوابل: المطر الكثير القطر. والوبيل: الثقيل الغليظ جدا. (لسان العرب-مادة: وبل)..
٦ الصلد: الحجر الصلب الأملس فلا يصلح لإنبات نبات.(القاموس القويم١/٣٨١)..
٧ ذكره العجلوني في كشف الخفاء(حديث رقم ٢٦١٨) عن أنس بن مالك رضي الله عنه وتمامه: "أكثروا ذكر الموت، فإنكم إن ذكرتموه في غنى كدره عليكم، وإن ذكرتموه في ضيق وسعه عليكم، الموت القيامة، فمن مات قامت قيامته ". وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس(حديث ١١١٧) عن أنس رفعه بلفظ "إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته فاعبدوا الله كأنكم ترونه واستغفروه كل ساعة"..
﴿ أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور٤٠ ﴾ :
هذا مثل آخر توضيحي لأعمال الذين كفروا، والبحر اللجي : الواسع الكبير الذي تتلاطم فيه الأمواج، بعضها فوق بعض، وفوق هذا كله سحاب إذن : الظلام مطبق ؛ لأنه طبقات متتالية، وفي أعماق بعيدة، وقد بلغت هذه الظلمة حدا لا يرى الإنسان معها حتى يده التي هي جزء منه، فما بالك بالأشياء الأخرى ؟.
وقوله :﴿ لم يكد يراها... ٤٠ ﴾( النور ) : أي : لم يقرب من أن يراها، وإذا نفى القرب من أن يرى فقد نفى الرؤية من باب أولى ؛ ذلك لأنه ليس له نور من الله يرى به ويهتدي ﴿ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور٤٠ ﴾( النور ) : فكما أنه لم ينتفع بالنور، ولم ير حتى يده، كذلك لا ينتفع بشيء من عمله.
﴿ ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون٤١ ﴾ :
يريد الحق- سبحانه وتعالى- أن يلفتنا إلى ما يدل على وحدة الخالق الأعلى، وكمال قيوميته، وكمال قدرته، وذكرت هذه الآية بعد عدة أوامر ونواه، وكأن ربك- عز وجل- يريد أن يطمئنك على أن هذا الكون الذي خلقه من أجلك وقبل أنت تولد، بل، وقبل أن يخلق الله آدم أعد له هذا الكون، وجعله في استقباله بسمائه وأرضه وشمسه وقمره ومائه وهوائه، يقول لك ربك : اطمئن فلن يخرج شيء من هذا الكون عن خدمتك فهو مسخر لك، ولن يأتي يوم يتمرد فيه، أو يعصي أوامر الله :
﴿ ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض... ٤١ ﴾( النور ).
﴿ ألم تر... ٤١ ﴾( النور ) : يعني : ألم تعلم، كما في قوله تعالى :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل١ ﴾( الفيل ) : ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، ولم ير هذه الحادثة، فلماذا لم يخاطبه ربه بألم تعلم ويريح الناس الذين يتشككون في الألفاظ ؟
قالوا : ليدلك على أن ما يخبرك الله به – غيبا عنك- أوثق مما تخبرك به عينك مشهدا لك ؛ لأن مصدر علمك هو الله، ألا ترى أن النظر قد يصيبه مرض فتختل رؤيته، كمن عنده عمى ألوان أو قصر نظر.... إلخ إذن : فالنظر نفسه وهو أوثق شيء لديك قد يكذب.
والتسبيح : هو التنزيه، والتنزيه أن ترتفع بالمنزه عن مستوى ما يمكن أن يجول بخاطرك : فالله تعالى له وجود، وأنت لك وجود، لكن وجود الله ليس كوجودك، الله له ذات وصفات، لكن ليست كذاتك وصفاتك... إلخ.
إذن : نزه ذات الله تعالى عن الذوات التي تعرفها ؛ لأنها ذوات وهبت الوجود، أما ذات الله فغير موهوبة، ذات الله ذاتية، كذلك لك فعل، والله تعالى فعل.
وقد ذكرنا في قوله تعالى :﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.... ١ ﴾( الإسراء ).
إن الذين اعترضوا على هذا الفعل اعترضوا بغباء، فلم يفرقوا بين فعل الله وفعل العبد، فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل : سريت من مكة إلى بيت المقدس. إنما قال : أسري بي.
فالاعتراض على هذا فيه مغالطة، فإن كنتم تضربون إليها أكباد الإبل شهرا ؛ فذلك لأن سيركم خاضع لقدرتكم وإمكاناتكم، أما الله تعالى فيقول للشيء : كن فيكون، فلا يحتاج في فعله سبحانه إلى زمن. فمن الأدب ألا تقارن فعل الله بفعلك، ومن الأدب أن تنزه الله عن كل ما يخطر لك ببال، نزه الله ذاتا، ونزهه صفاتا، ونزهه أفعالا.
ألا ترى أن ( سبحان ) مصدر للتسبيح، يدل على أن تنزيه الله ثابت له سبحانه قبل أن يخلق من ينزهه، كما جاء في قوله تعالى :﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو.... ١٨ ﴾( آل عمران ) : فشهد الحق –تبارك وتعالى –لنفسه قبل أن تشهدوا، وقبل أن تشهد الملائكة، فهذه هي شهادة الذات للذات. وقبل أن يخلق الله الإنسان المسبح سبح لله السموات والأرض ساعة خلقهما سبحانه وتعالى.
وحين تتبع ألفاظ التسبيح في القرآن الكريم تجدها جاءت مرة بصيغة الماضي ﴿ سبح لله ما في السماوات والأرض.... ١ ﴾( الحديد ) : فهل سبحت السموات والأرض مرة واحدة، فقالت : سبحان الله ثم سكتت عن التسبيح ؟ لا إنما سبحت في الماضي، ولا تزال تسبح في الحاضر :﴿ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض.... ١ ﴾( الجمعة ) :
وما دام أن الكون كله سبح لله، وما يزال يسبح فلم يبق إلا أنت يا ابن آدم :﴿ سبح اسم ربك الأعلى ١ ﴾( الأعلى ) : يعني : استح أن يكون الكون كله مسبحا وأنت غير مسبح، فصل أن تسبيحك بتسبيح كل هذه المخلوقات.
وعجيب أن نسمع من يقول أن( من ) في الآية للعاقل، فهو الذي يسبح أما السموات والأرض فلا دخل لهما في هذه المسألة، ونقول : لا دخل لها في تصورك أنت، أما الحقيقة فإنها مثلك تسبح كما قال تعالى :﴿ كل قد علم صلاته وتسبيحه... ٤١ ﴾( النور ).
وقال :﴿ ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته.... ١٣ ﴾( الرعد ) : فليس لك بعد كلام الله كلام.
وآخر يقول لك : التسبيح هنا ليس على الحقيقة، إنما هو تسبيح دلالة وحال، لا مقال، يعني : هذه المخلوقات تدل بحالها على تسبيح الله وتنزيهه، وأنه واحد لا شريك له، على حد قول الشاعر :
وفي كل شيء له آية **** تدل على أنه الواحد
وهذا القول مردود بقوله تعالى :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم.... ٤٤ ﴾( الإسراء ).
إذن : فهذه المخلوقات تسبح على الحقيقة ولها لسان ولغة، لكنك لا تفهم عنها ولا تفقه لغاتها، وهل فهمت أنت كل لغات بني جنسك حتى تفهم لغات المخلوقات الأخرى ؟ إن العربي إذا لم يتعلم الإنجليزية مثلا لا يستطيع أن يفهم منها شيئا، وهي لغة منطوقة مكتوبة، ولها ألفاظ وكلمات وتراكيب مثل العربية.
إذن : لا تقل تسبيح حال، هو تسبيح مقال، لكنك لا تفهمه، وكل شيء به مقال ويعرف مقاله، بدليل أن الله تعالى إن شاء أطلع بعض أهل الاصطفاء على هذه اللغات، ففهمها كما فهم سليمان عليه السلام عن النملة ﴿ فتبسم ضاحكا من قولها... ١٩ ﴾( النمل ) : وسمع كلام الهدهد وفهم عنه ما يقول عن ملكة سبأ.
ونقول لأصحاب هذا الرأي : تأملوا الخلية المسدسة التي يصنعها النحل وما فيها من هندسة تتحدى أساطين الهندسة والمقاييس أن يصنعوا مثلها، تأملوا عش الطائر وكيف ينسج عيدان القش، ويدخل بعضها في بعض، ويجعل للعش حافة تحمى الصغار، فإذا وضعت يدك في العش وهو من القش وجدت له ملمس الحرير، تأملوا خيوط العنكبوت وكيف يصطاد بها فرائسه ؟.
لقد شاهدت فيلما مصورا يسجل صراعا بين دب وثور، الدب رأى قرون الثور طويلة حادة، وعلم أنها وسيلة الثور التي ستقضي عليه، فما كان منه إلا أن هجم على الثور وأمسك قرنيه بيديه، وظل ينهش رأس الثور بأسنانه حتى أثخنه جراحا حتى سقط فراح يأكله.
إذن : كيف نستبعد أن يكون لهذه المخلوقات لغات تسبح الله بها لا يعرفها إلا بنو جنسها، أو من أفاض الله عليه بعلمها ؟.
ثم ألم يتعلم الإنسان من الغراب كيف يدفن الموتى لما قتل قابيل هابيل ؟ كما يقول
سبحانه :﴿ فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه.... ٣١ ﴾( المائدة ) : وكأن ربنا- عز وجل – يعلمنا الأدب وعدم الغرور.
وقرأنا أن بعض الباحثين والدارسين لحياة النمل وجدوا أنه يكون مملكة متكاملة بلغت القمة في النظام والتعاون، فقد لاحظوا مجموعة تمر هنا وهناك، حتى وجدت قطعة من طعام فتركوها وانصرفوا، حيث أتوا، ثم جاءت بعدهم كوكبة من النمل التفت حول هذه القطعة وحملتها إلى العش، ثم قام الباحث بوضع قطعة أخرى ضعف الأولى، فإذا بمجموعة الاستكشاف ( أو الناضورجية ) تمر عليها وتذهب دون أن تحاول حملها، وبعدها جاء جماعة من النمل ضعف الجماعة الأولى، فكأن النمل يعرف الحجم والوزن والكتلة ويجيد تقديرها.
وفي إحدى المرات لاحظ الباحث فتاتا أبيض أمام عش النمل، فلما فصحه وجده من جنين الحبة الذي يكون النبتة، وقد اهتدى النمل إلى فصل هذا الجنين حتى لا تنبت الحبة فتهدم عليهم العش، لهذا الحد علم النمل قانون صيانته، وعلم كيف يحمي نفسه، وهو من أصغر المخلوقات، أبعد هذا كله نستبعد أن يكون للنمل أو لغيره لغته الخاصة ؟
ثم يقول سبحانه :﴿ والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه... ٤١ ﴾( النور ) : فلماذا خص الطير بالذكر مع أنها داخلة في ﴿ من في السماوات والأرض.... ٤١ ﴾( النور ) :
قالوا : خصها لأن لها خصوصية أخرى وعجيبة، يجب أن نلتفت إليها ؛ لأن الله تعالى يريد أن يجعل الطير مثلا ونموذجا لشيء أعظم، فالطير كائن له وزن وثقل، يخضع لقانون الجاذبية التي تجذب للأرض كل ثقل يعلق في الهواء.
لكن الحق- سبحانه وتعالى – يخرق هذا القانون للطير حين يصف أجنحته في الهواء، يظل معلقا لا يسقط :{ أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا
الرحمان.... ١٩ }( الملك ).
وكأن الخالق – عز وجل يقول : خذوا من الطير المشاهد نموذجا ووسيلة إيضاح، فإذا قلت لكم :﴿ ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه... ٦٥ ﴾( الحج ) : فصدقوا وآمنوا أن الله يمسك السماء، بل :﴿ إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكها من أحد من بعده.... ٤١ ﴾( فاطر ).
فخذ من المشهد الذي تدركه دليلا على ما لا تدركه.
لكن، من الفاعل في ﴿ علم صلاته وتسبيحه... ٤١ ﴾( النور ) ؟.
يمكن أن يكون الفاعل الطير وكل ما في الوجود، وأحسن منه أن نقول : علم الله صلاتها وتسبيحها ؛ لأنه سبحانه خالقها وهاديها إلى هذا التسبيح١. إذن : فكل ما في الوجود يعلم صلاته ويعلم تسبيحه، كما تعلم أنت المنهج، لكنه استقام على منهجه لأنه مسخر وانحرفت أنت لأنك مخير.
فإن أردت أن تستقيم أمور حياتك فطبق منهج الله كما جاءك ؛ لذلك لا تجد في الكون خللا أبدا إلا في منطقة الاختيار عند الإنسان، كل شيء لا دخل للإنسان فيه يسير منتظما، فالشمس لم تعترض في يوم من الأيام ولم تتخلف، كذلك القمر والنجوم والهواء، إنها منضبطة غاية الانضباط، حتى إن الناس يضبطون عليها حساباتهم ومواعيدهم واتجاهاتهم.
لذلك يقول تعالى :﴿ الشمس والقمر بحسبان٥ ﴾( الرحمن ) : يعني : بحساب دقيق، وما كان للشمس أن تضبط الوقت إلا إذا كانت هي في ذاتها منضبطة.
﴿ والله عليم بما يفعلون٤١ ﴾ ( النور ) : أي : لقيوميته تعالى على خلقه.
﴿ ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير٤٢ ﴾ :
يريد ربك – عز وجل- أن يطمئنك أن الذي كلفك بما كلفك به يضمن لك مقومات حياتك، فلن ينقطع عنك الهواء في يوم من الأيام، ولن تتأبى عليك الشمس أو القمر أو الأرض ؛ لأنها ملك لله، لا يشاركه سبحانه في ملكيتها أحد يمنعها عنك، فاطمئن إلى أنها ستؤدي مهمتها في خدمتك إلى يوم القيامة، ولا تشغل نفسك بها، فقد ضمنها الله.
﴿ ألم تر أن الله يزجى سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق ١ يخرج من خلا له وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا٢ برقه يذهب بالأبصار ٤٣ ﴾ :
قوله تعالى :﴿ ألم تر... ٤٣ ﴾( النور ) : يعني : ألم تعلم، وقد وقفنا مع تطور العلم على كيفية تكون المطر بين التبخير والتكثيف الذي يكون السحاب، وقلنا سابقا : إن مسطح الماء على الأرض ثلاثة أرباع اليابسة حتى تكفي هذه المساحة البخر اللازم لتكون المطر، ونحن نجرى مثل هذه العملية في تقطير الماء حين نغلى الماء ونستقبل البخار على سطح بارد، فتحدث له عملية التكثيف.
وقد أوضحنا هذه العملية بكوب الماء حين تتركه ممتلئا وتسافر مثلا، فحين تعود تجد الكوب قد نقص قليلا، أما إذا أرقته على الأرض، فإنه يجف سريعا، وقبل أن تغادر المكان، لماذا ؟ لأنك وسعت مساحة البخر.
ومعنى﴿ يجزي سحابا... ٤٣ ﴾( النور ) : أي : يرسله برفق ومهل ؛ لذلك لما وصف الشاعر مشي الفتاة قال :
كأن مشيتها من بيت جارتها مر **** السحابة لا ريث٣ ولا عجل
﴿ ثم يؤلف بينه... ٤٣ ﴾( النور ) : أي : يجمع بعضه على بعض. وحين يجمع الشيء بعضه على بعض لا بد أن يبقى بينه فاصل، فلا يلتحم بغيره التحاما تاما، ولولا هذه الفواصل بين قطع السحاب، ولولا هذه الفتوق ما نزل الودق من خلاله.
ولو شاء سبحانه لجعل السحاب قطعة واحدة، ولكنه سبحانه يؤلف بينه ويجمعه بعضه على بعض دون أن يوحده تكوينا، فيحدث بذلك فراغا بين قطع السحاب. أرأيت حين نلصق الورق بالصمغ مثلا فمهما وضعت عليه من ثقل لا بد أن يبقى بينه فراغات ؛ لأنه ليس ذاتا واحدة.
وعملية تفريغ الهواء هذه تلاحظهما حين تضع كوبا مبلولا وتتركه لفترة، فيتبخر الماء من تحته ويخرج الهواء، فإذا أردت رفعه وجدته صعبا لماذا ؟ لتفريغ الهواء من تحت قاعدة الكوب، وفي هؤلاء الذين يعالجون الآلام الناتجة عن البرد، فيضعون الكوب مقلوبا على مكان الألم، ثم يشعلون بداخله قطعة من القماش مثلا لتحرق الهواء بداخل الكوب.
وبذلك نمنع الخلل في التقاء الكوب بالجسم، وهذه المسألة هي سر عظمة قدماء المصريين في البناء، حيث تتماسك الحجارة دون وجود( مونة ) تربط بينهما.
إذن : وجود الهواء بين الشيئين يحدث خللا بينهما، ولولا هذا الخلل في السحاب ما نزل منه الماء، والمطر آية عظيمة من آيات الله لا نشعر بها، ولك أن تتصور كم يكلفنا كوب الماء المقطر حين نعده في المعمل، فما بالك بالمطر الذي يسقي الأرض كلها ؟
ثم يقول تعالى :﴿ ثم يجعله ركاما... ٤٣ ﴾( النور ) : يعني : مكدسا بعضه على بعض، وفي آية أخرى :﴿ وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم٤٤ ﴾( الطور ) متراكم بعضه على بعض﴿ فترى الودق... ٤٣ ﴾( النور ) : أي : المطر :﴿ يخرج من خلاله... ٤٣ ﴾( النور ) : أي : من خلال هذه الفجوات والفواصل التي تفصل بين السحب.
وهذا الماء الذي ينزل من السماء فيحيي به الله الأرض قد يأتي نقمة وعذابا، كما قال سبحانه :﴿ وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء... ٤٣ ﴾( النور ) : ولنا في أهل مأرب الذين أغرقهم الله عبرة وعظة.
ولو تأملت لوجدت الماء والنار عدوين متقابلين يصعب مقاومتهما ؛ لذلك كان العرب إلى عهد قريب يخافون الماء لما عاينوه من غرق بعد انهيار سد مأرب ؛ لذلك آثروا أن يعيشوا في الصحراء بعيدا عن الماء.
وبالماء نجى الله تعالى موسى- عليه السلام- وأغرق عدوه فرعون، ففعل سبحانه الشيء وضده بالشيء الواحد.
وقوله تعالى :﴿ يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار٤٣ ﴾( النور ) : أي : الضوء الشديد الذي يحدثه السحاب يكاد أن يخطف الأبصار، وفي البرق تتولد النار من الماء ؛ لذلك حينما يقول تعالى :﴿ وإذا البحار سجرت٤٦ ﴾( التكوير ) : فصدق هذه الآية الغيبية ؛ لأنك شاهدت نموذجا لها في مسألة البرق.
.
٢ السنا: ضوء النار والبرق. قال أبو زيد: سنا البرق ضوؤه من غير أن ترى البرق أو ترى مخرجه في موضعه، فإنما يكون السنا بالليل دون النهار، وربما كان في غير سحاب(لسان العرب- مادة: سنا)..
٣ الريث: الإبطاء. راث يريث: أبطأ. وتريث فلان علينا. أي: أبطأ. (لسان العرب –مادة: ريث)..
٤ أي: امتلأت ماء، أو امتلأت نارا يوم القيامة. (القاموس القويم ١/٣٠٣)..
﴿ يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار٤٤ ﴾ :
فالليل والنهار آيتان يتتابعان لكن دون رتابة، فالليل قد يأخذ من النهار، والنهار يأخذ من الليل، وقد يستويان في الزمن تماما. ومن تقليب الليل والنهار ما يعتريهما من حر أو برد أو نور وظلمة.
إذن : فالمسألة ليست ميكانيكية رتيبة، إنما هي قيومية الله تعالى وقدرته في تصريف الأمور على مراده تعالى ؛ لذلك يقول تعالى بعدها :﴿ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار٤٤ ﴾( النور ) :
العبرة والعبرة والعبور والتعبير كلها من مادة واحدة، نقول : هذا مكان العبور يعني الانتقال من جهة إلى جهة أخرى، وفلان عبر عن كذا، يعني : نقل الكلام النفسي إلى كلام باللسان، والعبرة أن ننظر في الشيء ونعتبر، ثم ننتقل منه إلى غيره، وكذلك العبرة لأنها حزن أسال شيئا، فنزل من عينى الدمع.
والعبرة هنا لمن ؟ ﴿ لأولي الأبصار٤٤ ﴾ ( النور ) : والمراد : الأبصار الواعية لا الأبصار التي تدرك فقط، والإنسان له إدراكات بوسائلها، وله عقل يستقبل المدركات ويغربلها، ويخلص منها إلى قضايا، ومن الناس من يبصر لكنه لا يرى شيئا ولا يصل من رؤيته إلى شيء، ومنهم أصحاب النظر الواعي المدقق، فالذي اكتشف قوة البخار رأى القدر وهي تغلي وتفور فيرتفع عليها الغطاء، وهذا منظر نراه جميعا الرجل والمرأة، والكبير والصغير، لكن لم يصل أحد إلى مثل ما وصل إليه.
إذن : المراد الأبصار التي تنقل المبصر إلى العقل ليحلله ويستنبط ما فيه من أسباب، لعله يستفيد منها بشيء ينفعه، والله تعالى قد خلق في الكون ظواهر وآيات لو تأملها الإنسان ونظر إليها بتعقل وتبصر لاستنبط منها ما يثري حياته ويرتقي بها.
﴿ والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير٤٥ ﴾ :
الدابة : كل ما يدب على الأرض، سواء أكان إنسانا أو أنعاما أو وحشا، فكل ما له دبيب على الأرض خلقه الله من ماء حتى النملة لها على الأرض دبيب.
وكل شيء يضخم قابل لأن يصغر، وقد يضخم تضخيما لدرجة أنك لا تستطيع أن تدرك كنهه، وقد يصغر تصغيرا حتى لا تكاد تراه، وتحتاج في رؤيته إلى مكبر، ومن عجائب الخلق أن النملة أو الناموسة فيها كل أجهزة الحياة ومقوماتها، وفيها حياة كحياة الفيل الضخم، ومن عظمة الخالق سبحانه أن يخلق الشيء الضخم الذي يفوق الإدراك لضخامتها، ويخلق الشيء الضئيل الذي يفوق الإدراك لضآلته.
ألا ترى أن ساعة ( بج بن ) أخذت شهرتها لضخامة حجمها، ثم جاء بعد ذلك من صنع الساعة في حجم فص الخاتم. وفيها نفس الآلات التي في ساعة ( بج بن )، كذلك خلق الله من الماء الفيل الضخم، وخلق الناموسة التي تؤرق الفيل رغم صغرها... سبحان الخالق.
ولما كان الماء هو الأصل في خلقة كل شيء حي وجدنا العلماء يقتلون حتى الميكروب الصغير الدقيق بأن يحجبوا عنه المائية فيموت، ومن ذلك مداواة الجروح بالعسل ؛ لأنه يمتص المائية أو يحجبها، فلا يجد الميكروب وسطا مائيا يعيش فيه.
وهذه الخلقة ليست على شكل واحد ولا وتيرة واحدة في قوالب ثابتة، إنما هي ألوان وأشكال ﴿ فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع... ٤٥ ﴾( النور ).
والمشي : هو انتقال الموصوف بالمشي من حيز مكاني إلى حيز مكاني آخر، والناس تفهم أن المشي ما كان بالقدمين، لكن يوضح لنا سبحانه أن المشي أنواع : فمن الدواب من يمشي على بطنه. ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع١.
وربنا- سبحانه وتعالى – بسط لنا هذه المسألة بسطا يتناسب وإعجاز القرآن وإيجازه، فلم يذكر مثلا أن من الدواب من له أربع وأربعون مثلا، وفي تنوع طرق المشي في الدواب عجائب تدلنا على قدرته تعالى وبديع خلقه.
لذلك قال بعدها :﴿ يخلق الله ما يشاء... ٤٥ ﴾( النور ) لأن الآية لم تستقص كل ألوان المشي، إنما تعطينا نماذج، وتحت ﴿ يخلق الله ما يشاء.... ٤٥ ﴾( النور ) : تندرج مثلا( أم أربعة وأربعين ) وغيرها من الدواب، والآية دليل على طلاقة قدرته سبحانه.
وكما سخر الإنسان لخدمة الإنسان، كذلك سخر الحيوان لخدمة الحيوان ليوفر له مقومات حياته، ألا ترى الطير يقتات على فضلات الطعام بين أسنان التمساح مثلا فينظفها له، إذن : فما في فم التمساح من الخمائر والبكتيريا هي مخزن قوت لهذه الطيور، ويحدث بينهما توافق وانسجام وتعاون، حتى إن الطير إن رأى الصياد الذي يريد أن يصطاد التمساح فإنها تحدث صوتا لتبنه التمساح حتى ينجو.
ومن المشي أيضا السعي بين الناس بالنميمة، كما قال تعالى :﴿ هماز٢ مشاءبنميم١١ ﴾( القلم ).
٢ الهماز: صيغة مبالغة. والهمزة: كثير الهمز واللمز والغمز واغتياب الناس وعيبهم. وقيل "الهمز" في القفا والسر، و"المز "عيب في الوجه في العلانية.(القاموس القويم ٢/٣٠٧).
﴿ لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم٤٦ ﴾ :
يعني : من ملك هذا الملك وحده، وخلق لكم هذه العجائب أنزل لكم آيات بينات تحمل إليكم الأحكام، فكما فعل لكم الجميل، ووفر لكم ما يخدمكم في الكون، سمائه وأرضه، فأدوا أنتم ما عليكم نحو منهجه وأحكامه، واتبعوا هذه الآيات البينات.
ومعنى﴿ مبينات... ٤٦ ﴾( النور ) : أي : لاستقامة حركة الحياة ؛ لأن حركة الحياة تحتاج لأن يتحرك الجميع ويؤدي كل مهمته حتى تتساند الحركات ولا تتعاند، فالذي يتعب الدنيا أن تبني وغيرك يهدم.
إذن : لا بد من ضابط قيمي يضبط كل الحركات ويحث كل صانع أن يتقن صنعته ويخلص فيها، والإنسان غالبا لا يحسن إلا زاوية واحدة في حياته، هي حرفته وتخصصه، وربما لا يحسنها لنفسه ؛ لأنه لا يتقاضى عليها أجرا، لذلك يقولون ( باب النجار مخلع ) أما إن عمل للآخرين فإنه يحسن عمله ويتقن صنعته، وكذلك يتقن الناس لك ما في أيديهم، فتستقيم الأمور، فأحسن ما في يدك للناس، يحسن لك الناس ما في أيديهم.
وقوله تعالى :﴿ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ٤٦ ﴾( النور ) :
ولقائل أن يسأل : وما ذنب من لم يدخل في هذه المشيئة فلم يهتد ؟ وسبق أن قلنا : إن الهداية نوعان : هداية الدلالة وهداية المعونة على الدلالة.
فالله تعالى يهدي الجميع هداية الدلالة، ويبين للكل أسباب الخير وسبل النجاة وطريق الفلاح والأسلوب الأمثل في إدارة حركة الحياة، فمن سمع كلام الله ووثق في توجيهه وأطاع في هداية الدلالة أعانه بهداية المعونة.
فساعة تسمع :﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ١٠٨ ﴾( المائدة ).
﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ٢٥٨ ﴾( البقرة ).
فاعلم أنهم امتنعوا عن هداية الدلالة فامتنعت عنهم هداية المعونة، لا هداية الدلالة والإرشاد والبيان.
وقلنا : إن كلمة﴿ أنزلنا.... ٤٦ ﴾( النور ) : تشعر باحترام الشيء المنزل ؛ لأن الإنزال لا يكون إلا من العلو إلى الأدنى، فكأن ربك – عز وجل- حين يكلفك يقول لك : أريد أن أرتفع بك من مستوى الأرض إلى علو السماء ؛ لذلك يقول تعالى في موضع آخر :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم.... ١٥١ ﴾( الأنعام ) :
أي : لا تضعوا لأنفسكم القوانين، ولا تسيروا خلف آرائكم وأفكاركم، إنما تعالوا إلى الله وخذوا منه سبحانه منهج حياتكم، فهو الذي خلقكم، وخلق لكم هذه الحياة.
{ ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك
بالمؤمنين٤٧ } :
وفي آية أخرى يقول سبحانه :﴿ وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا٦١ ﴾( النساء ) : وهؤلاء هم المنافقون، وخيبة المنافق أنه متضارب الملكات النفسية ؛ ذلك لأن للإنسان ملكات متعددة تتساند حال الاستقامة، وتتعاند حال المعصية، فالإنسان تراه طبيعيا حين ينظر إلى ابنته أو زوجته، لأن ملكاته منسجمة مع هذا الفعل، أما حين ينظر إلى محارم الغير فتراه يختلس النظرة، يخاف أن يراه أحد يتلصص ويحتاط ؛ لأن ملكاته مضطربة غير منسجمة مع هذا الفعل.
لذلك يقولون : الاستقامة استسامة ١، فملكات النفس بطبيعتها متساندة لا تتعارض أبدا، لكن المنافق فضلا عن كذبه، فهو متضارب الملكات في نفسه ؛ لأن القلب كافر واللسان مؤمن.
لذلك فكرامة الإنسان تكون بينه وبين نفسه قبل أن تكون بينه وبين الناس، فقد يصنع الإنسان أمام الناس صنائع خير تعجب الآخرين، لكنه يعلم من نفسه الشر، فهو وإن كسب ثقة المجتمع من حوله، إلا أنه خسر رأي نفسه في نفسه، وإذا خسر الإنسان نفسه فلن يعوضه عنها شيء حتى إن كسب العالم كله ؛ لأن المجتمع لا يكون معك طول الوقت، أما نفسك فملازمة لك كل الوقت لا تنفك عنها، فأنا كبير أمام الناس ما دمت معهم، أما حين أختلى بنفسي أجدها حقيرة : فعلت كذا، وفعلت كذا.
إذن : أنت حكمت أن رأي الناس أنفس من رأيك، ولو كان لرأيك عندك قيمة لحاولت أن يكون رأيك في نفسك صحيحا، لكن أنت تريد أن يكون رأي الناس فيك صحيحا، وإن كان رأيك عند نفسك غير ذلك.
ويقول تعالى في هؤلاء :﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا٦٠ ﴾( النساء ).
فقد حكم عليهم أنهم يزعمون، والزعم مطية الكذب، والدليل على أنهم يزعمون أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، ولو كانوا مؤمنين بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ما تحاكموا إلى الطاغوت، وهكذا فضحوا هم أنفسهم، فالثانية فضحت الأولى.
لذلك قالوا : إن الكافر أحسن منهم ؛ لأنه منسجم الملكات : قلبه موافق للسانه، قلبه كافر ولسانه كذلك، ومن هنا كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار.
والحق- تبارك وتعالى – يعطينا صورة ونموذجا يحذرنا ألا نحكم على القول وحده، فيقول تعالى عن المنافقين :﴿ إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون١ ﴾( المنافقون ).
وهذه المقولة ﴿ إنك لرسول الله.... ١ ﴾( المنافقون ) مقولة صادقة، لكن القرآن يكذبهم في أنهم شهدوا بها.
وقد نزلت هذه الآية ٢ في أحد المنافقين أظن أنه بشر٣، وكانت له خصومة مع يهودي، فطلب اليهودي أن يتحاكما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب المنافق أن يتحاكما عند كعب لما يعلمه من تزييف وعدم أمانته- والإنسان وإن كان في نفسه مزيفا إلا أنه يجب أن يحتكم في أمره إلى الأمين العادل- وفعلا تغلب اليهودي وذهبا إلى رسول الله فكم لليهودي. وفي هذا دلالة على أن اليهودي كان ذكيا فطنا، يعرف الحق ويعرف مكانة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكن المنافق لم يرض حكم رسول الله، وانتهى بهما الأمر إلى عمر رضي الله عنه وقصا عليه ما كان، ولما علم أن المنافق رد حكم رسول الله قام عمر وجاء بالسيف يشهره في وجه المنافق وهو يقول : من لم يرض بقضاء رسول الله فذلك قضائي فيه.
إذن : فهؤلاء يقولون :﴿ آمنا بالله وبالرسول وأطعنا... ٤٧ ﴾( النور ) : كلام جميل وأكثر الله من خيركم، لكن هذا قول فقط لا يسانده تطبيق عملي، والإيمان يقتضي أن تجيء الأعمال على وفق منطوق الإيمان.
فهذا منهم مجرد كلام، أما التطبيق :﴿ ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك..... ٤٧ ﴾( النور ) : والتولي : الانصراف عن شيء كان موجودا إلى شيء مناقض{ وما أولئك
بالمؤمنين٤٧ }( النور ) : فما داموا قد تولوا فهم لم يطيعوا ولم يؤمنوا.
٢ يقصد الآيتين التاليتين من سورة النور آية ٤٨-٤٩..
٣ هذه القصة وردت في سبب نزول آية أخرى ﴿ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت... ٦٠﴾(النساء). أوردها الواحدي في أسباب النزول (ص٩٢)عن ابن عباس قال: "نزلت- أي آية سورة النساء- في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد. وقال المنافق: بل نأتي كعب بن الأشرف وهو الذي سماه تعالى الطاغوت، فأبى اليهودي إلا أن يخاصمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختصما إليه، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي، فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال: ننطلق إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إلى عمر. فقال اليهودي: اختصمنا أنا وهذا إلى محمد فقضى عليه فلم يرض بقضائه: وزعم أنه مخاصم إليك وتعلق بي فجئت إليك معه. فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم. فقال لهما: رويدا حتى أخرج إليكما. فدخل عمر وأخذ السيف فاشتمل عليه، ثم خرج إليهما وضرب به المنافق حتى برد. وقال: هكذا أقضي لمن يرض بقضاء الله وقضاء رسوله، وهرب اليهودي ونزلت هذه الآية. وقال جبريل: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمي الفاروق"
وقد أوردها أيضا في أسباب النزول (ص١٨٨) وكذا أوردها القرطبي في تفسيره (٦/٤٨٣١)..
المراد ما كان من أمر بشر واليهودي، وقد أعرضا عن حكم الله ورسوله، وإن كان إعراض المنافق واضحا فالآية لا تريد تبرئة ساحة اليهودي، لأنه ما رضي بحكم الله إلا لأنه واثق أن الحق له وواثق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يحكم إلا بالحق، حتى وإن كان ليهودي، وإذن : ما أذعن لحكم الله ورسوله محبة فيه أو إيمانا به، إنما لمصلحته الشخصية، لذلك يقول تعالى بعدها :﴿ أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف١ الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون٥٠ ﴾ :
المراد ما كان من أمر بشر واليهودي، وقد أعرضا عن حكم الله ورسوله، وإن كان إعراض المنافق واضحا فالآية لا تريد تبرئة ساحة اليهودي، لأنه ما رضي بحكم الله إلا لأنه واثق أن الحق له وواثق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يحكم إلا بالحق، حتى وإن كان ليهودي، وإذن : ما أذعن لحكم الله ورسوله محبة فيه أو إيمانا به، إنما لمصلحته الشخصية، لذلك يقول تعالى بعدها :﴿ أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف١ الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون٥٠ ﴾ :
والمرض : خروج الشيء عن استقامة سلامته، فكل عضو من أعضائك له سلامة : العين لها سلامة، والأذن لها السلامة... الخ والعجيب أن تعيش بالجارحة لا تدري بها طالما هي سليمة صحيحة، فإذا أصابها مرض تنبهت إليها، وأحسست بنعمة الله عليك فيها حال سلامتها.
﴿ أم ارتابوا... ٥٠ ﴾( النور ) : يعني : شكوا في رسول الله﴿ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله... ٥٠ ﴾( النور ) يعني : يجور ويظلم﴿ بل أولئك هم الظالمون ٥٠ ﴾ ( النور ) : أي : لأنسفهم أولا، وذلك منتهى الحمق أن يظلم الإنسان نفسه، لو ظلم غيره لقلنا : خير يجلبه لنفسه، لكن ما الخير في ظلم الإنسان لنفسه ؟ ومن ظلم نسفه لا تلمه إن ظلم الآخرين.
والحق- تبارك وتعالى – حينما يعاقب الظالم، فذلك لمصلحته حتى لا يتمادى في ظلمه، ويجر على نفسه جزاء شر بعد أن كان الحق سبحانه يمنيه بجزاء خير.
﴿ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ٥١ ﴾ :
فما دمت قد آمنت، والإيمان لا يكون إلا عن رغبة واختيار لا يجبرك أحد عليه، فعليك أن تحترم اختيار نفسك بأن تطيع هذا الاختيار، وإلا سفهت رأيك واختيارك، لذلك كان حال المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله أن يقولوا : سمعنا وأطعنا.
ولو تأملت الكون من حولك لوجدته يسير على هذه القاعدة، فما دون الإنسان في كون الله مسير لا مخير، وإن كان الأصل أنه خير أولا، فاختار أن يكون مسيرا من البداية، وأراح نفسه، كما قال سبحانه :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها.... ٧٢ ﴾.
وتصدير الآية الكريمة ب( إنما ) يدل على أنها سبقها مقابل، هذا المقابل على النقيض لما يجيء بعدها، فالمنافقون أعرضوا وردوا حكم الله ورسوله، والمؤمنون قالوا سمعنا وأطعنا، كما تقول : فلان كسول إنما أخوه مجد. فقول المنافقين أنهم لا يقبلون حكم الله ورسوله، أما المؤمنون فيقبلون حكم الله ورسوله.
ومعنى﴿ سمعنا وأطعنا... ٥١ ﴾( النور ) : يعني : سمعنا سمعا واعيا يليه إجابة وطاعة، لا مجرد أن يصل الصوت إلى أذن السامع دون أن يؤثر فيه شيء.
ويقول تعالى في موضع آخر :﴿ وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق.... ٨٣ ﴾( المائدة ) :
فالسمع له وظيفة، وهو هنا بمعنى : أجبنا يا رب، وصممنا على الإجابة، وهذا وعد كلامي يتبعه تنفيذ وطاعة. مثل قولنا في الصلاة : سمع الله لمن حمده، يعني : أجاب الله من حمده.
﴿ وأولئك هم المفلحون٥١ ﴾( النور ) : المفلحون : الفائزون الذين بلغوا درجة الفلاح، ومن العجيب أن يستخدم الحق سبحانه كلمة الفلاح، وهي من فلاحة الأرض ؛ لأن الفلاحة في الأرض هي أصل الاقتيات، وكل من أتقن فلاحة أرضه جاءت عليه بالثمرة الطيبة، وزاد خيره، وتضاعف محصوله، حتى إن حبة القمح تعطي سبعمائة حبة، فإذا كانت الأرض وهي مخلوقة لله تعالى تعطي من يزرعها كل هذا العطاء، فما بالك بخالق الأرض كيف يكون عطاؤه ؟.
﴿ ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ٥٢ ﴾ :
كان سيدنا الشيخ موسى شريف- رحمه الله ورضي عنه – يدرس لنا التفسير، فلما جاءت هذه الآية قال : اسمعوا، هذه برقية من الله تعالى :﴿ ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون٥٢ ﴾( النور ) : فلم تدع هذه الآية حكما من أحكام الإسلام إلا جاءت به في هذه البرقية الموجزة التي جمعت المنهج كله١.
ومعنى﴿ يطع الله ورسوله... ٥٢ ﴾( النور ) : آمن بالله وأطاعه وصدق رسوله ﴿ ويخش الله.... ٥٢ ﴾( النور ) : أي : يخافه لما سبق من الذنوب ﴿ ويتقه. ٥٢ ﴾( النور ) : في الباقي من عمره﴿ فأولئك هم الفائزون ٥٢ ﴾( النور ) : وهكذا جمعت الآية المعاني الكثيرة في اللفظ القليل الموجز.
ومعلوم أن التعبير الموجز أصعب من الإطناب والتطويل، وسبق أن ذكرنا قصة الخطيب الإنجليزي المشهور حين قالوا له : إذا طلب منك إعداد خطاب تلقيه في ربع ساعة في كم تعده ؟ قال : في أسبوع، قالوا : فإن كان في نصف ساعة ؟ قال : أعده في يومين، قالوا : فإن كان في ثلاث ساعات ؟ قال : أعده الآن.
وقالوا : إن سعد باشا زغلول رحمه الله أرسل من فرنسا خطابا لصديق في أربع صفحات قال فيه : أما بعد، فإني أعتذر إليك عن الإطناب ( الإطالة ) ؛ لأنه لا وقت عندي للإيجاز.
﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون٥٣ ﴾ :
القسم : هو اليمين و الحلف، والإنسان يقسم ليؤكد المقسم عليه يريد أن يطمئن المخاطب على أن المقسم عليه حق، وهؤلاء لم يقسموا بالله سرا في أنفسهم، إنما { جهد
أيمانهم..... ٥٣ }( النور ) : يعني : بالغوا وأتوا بمنتهى الجهد في القسم، فلم يقل أحدهم : وحياة أمي أو أبى، إنما أقسموا بالله، وليس هناك قسم أبلغ من هذا القسم، لذلك يقول النبي صبى الله عليه وسلم : " من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت ". ١
فلما أقسموا بالله للرسول أن يخرجوا من بيوتهم وأولادهم وأموالهم إلى الجهاد مع رسول الله فضح الله سرائرهم، وكشف سترهم، وأبان عن زيف نواياهم، كما قال في آية أخرى :﴿ ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول.... ٨١ ﴾( النساء ).
وتأمل دقة الأداء القرآني في :﴿ بيت طائفة منهم.... ٨١ ﴾( النساء ) : وهذا احتياط ؛ لأن منهم أناسا يرواد الإيمان قلوبهم ويفكرون في أن يخلصوا إيمانهم ونواياهم لله تعالى، ويعودوا إلى الإسلام الصحيح.
والقرآن يفضح أمر هؤلاء الذين يقسمون عن غير صدق في القسم، كمن تعود كثرة الحلف والحنث فيه ؛ لذلك ينهاهم عن هذا الحلف :﴿ قل لا تقسموا.... ٥٣ ﴾( النور ) : ولا يمكن أن ينهى المتكلم المخاطب عن القسم خصوصا إذا أقسم على خير، لكن هؤلاء حانثون في قسمهم، فهو كعدمه، فهم يقسمون باللسان، ويخالفون بالوجدان.
وقوله تعالى :﴿ طاعة معروفة.... ٥٣ ﴾( النور ) : يشعر بتوبيخهم، كأنه يقول لهم : طاعتكم معروفة لدينا ولها سوابق واضحة، فهي طاعة باللسان فحسب، ثم يؤكد هذا المعنى فيقول :﴿ إن الله خبير بما تعملون ٥٣ ﴾( النور ) : والذي يؤكد هذه الخبرة أنه يفضح قلوبهم ويفضح نواياهم.
والعجيب أنهم لا يعتبرون بالأحداث السابقة، ولا يتعظون بها، وقد سبق لهم أنه كان يجلس أحدهم يحدث نفسه الحديث فيفضح الله ما في نفسه ويخبر به رسول الله، فيبلغهم بما يدور في نفوسهم، كما جاء في قول الله تعالى :﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول.... ٨ ﴾( المجادلة ).
ومع ذلك لم يعتبروا ولم يعترفوا لرسول الله بأنه مؤيد من الله، وأنه تعالى لن يتخلى عن رسوله، ولن يدعه لهم يخادعونه ويغشونه، وهذه سوابق تكررت منهم مرات عدة، ومع ذلك لم ينتهوا عما هم فيه من النفاق، ولم يخلصوا الإيمان لله.
قل اطيعواالله واطيعواالرسول فان تولوا فانما عليه ماحمل وعليكم ما حملتم وان تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين٥٤ } :
وكأنه تعالى لا يريد أن يغلق الباب دونهم، فيعطيهم الفرصة : جددوا طاعة لله، وجددوا طاعة لرسوله، واستدركوا الأمر ؛ ذلك لأنهم عباده وخلقه.
وكما ورد في الحديث الشريف : " لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم وقع على بعيره وقد أضله في فلاة.... " ١.
ونلاحظ في هذه الآية تكرار الأمر أطيعوا﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.... ٥٤ ﴾( النور )، وفي آيات أخرى يأتي الأمر مرة واحدة، كما في الآية السابقة :{ ومن يطع الله
ورسوله... ٥٢ }( النور )، وفي :﴿ أطيعوا الله ورسوله.... ٢٠ ﴾( الأنفال )، وفي﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله.... ٨٠ ﴾( النساء ) : أي : أن طاعتهما واحدة.
قالوا : لأن القرآن ليس كتاب أحكام فحسب كالكتب السابقة، إنما هو كتاب إعجاز، والأصل فيه أنه معجز، ومع ذلك أدخل فيه بعض الأصول والأحكام، وترك البعض الآخر لبيان الرسول وتوضيحه في الحديث الشريف، وجعل له صلى الله عليه وسلم حقا في التشريع بنص القرآن :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا... ٧ ﴾( الحشر ).
والقرآن حين يورد الأحكام يوردها إجمالا ثم يفصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالصلاة مثلا أمر بها الحق- تبارك وتعالى – وفرضها، لكن تفصيلها جاء في السنة النبوية المطهرة، فإنه أردت التفصيل فانظر في السنة.
كالذي يقول : إذا غاب الموظف عن عمله خمسة عشر يوما يفصل، مع أن الدستور لم ينص على هذا، نقول : لكن في الدستور مادة خاصة بالموظفين تنظم مثل هذه الأمور، وتضع لهم اللوائح المنظمة للعمل.
وذكرنا أن الشيخ محمد عبده سأله بعض المستشرقين : تقولون في القرآن﴿ ما فرطنا في الكتاب من شيء.... ٣٨ ﴾( الأنعام ) : فهات لي من القرآن : كم رغيفا في إردب القمح ؟ فما كان من الشيخ إلا أن أرسل لأحد الخبازين وسأله هذا السؤال فأجابه : في الإردب كذا رغيف. فاعترض السائل : أريد من القرآن.
فرد الشيخ : هذا من القرآن ؛ لأنه يقول :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ٤٣ ﴾( النحل ) :
فالأمر الذي يصدر فيه حكم من الله وحكم من رسول الله، كالصلاة مثلا :﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا١٠٣ ﴾( النساء ).
وفي الحديث :" الصلاة عماد الدين " ٢.
ففي مثل هذه المسألة نقول : أطيعوا الله والرسول ؛ لأنهما متواردان على أمر واحد، فجاء الأمر بالطاعة واحدا.
أما في مسائل عدد الركعات وما يقال في كل ركعة وكونها سرا أو جهرا، كلها مسائل بينها رسول الله. إذن : فهناك طاعة لله في إجمال التشريع أن الصلاة مفروضة، وهناك طاعة خاصة بالرسول في تفصيل هذا التشريع، لذلك يأتي الأمر مرتين﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول.... ٥٤ ﴾.
كما نلحظ في القرآن﴿ وأطيعوا الرسول... ٥٦ ﴾( النور ) هكذا فحسب.
قالوا : هذه في المسائل التي لم يرد فيها تشريع ونص، فالرسول في هذه الحالة هو المشرع، وهذه من مميزات النبي صلى الله عليه وسلم عن جميع الرسل، فقد جاءوا جميعا لاستقبال التشريع وتبليغه للناس، وكان صلى الله عليه وسلم هو الوحيد الذي فوض من الله في التشريع.
ثم يقول تعالى :﴿ فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم... ٥٤ ﴾( النور ) : لأنه تعالى أعلم بحرص النبي على هداية القوم، وكيف أنه يجهد نفسه في دعوتهم، كما خاطبه في موضع آخر :﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين٣ ﴾( الشعراء ) : وكأن الحق- تبارك وتعالى – يقول لنبيه : قل لهم وادعهم مرة ثانية لتريح نفسك﴿ قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول... ٥٤ ﴾( النور ) : وإن كنت غير مكلف بالتكرار، فما عليك إلا البلاغ مرة واحدة.
ومعنى :﴿ فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم... ٥٤ ﴾( النور ) : أي : من الله تعالى، فالرسول حمل الدعوة والبلاغ، وأنتم حملتم الطاعة والأداء، فعليكم أن تؤدوا ما كلفكم الله به.
﴿ وإن تطيعوه وتهتدوا... ٥٤ ﴾( النور ) : نلحظ أن المفعول في﴿ وإن تطيعوه... ٥٤ ﴾( النور ) : مفرد، فلم يقل : تطيعوهما، لتناسب صدر الآية﴿ أطيعوا الله وأطيعوا الرسول... ٥٤ ﴾( النور ) : ذلك لأن الطاعة هنا غير منقسمة، بل هي طاعة واحدة.
وقوله :﴿ وما على الرسول... ٥٤ ﴾( النور ) تكليفا من الله﴿ إلا البلاغ المبين ٥٤ ﴾( النور ) : المحيط بكل تفصيلات المنهج التشريعي لتنظيم حركة الحياة.
٢ تمام الحديث: "من أقامها فقد أقام الدين، ومن تركها فقد هدم الدين" قال الحافظ العراقي في تخريجه لأحاديث الإحياء(١/١٤٧):"رواه البيهقي في الشعب بسند ضعفه من حديث عمر "وقال الملأ على القاري في "الأسرار المرفوعة "(حديث ٥٧٨): "قال ابن الصلاح في "مشكل الوسيط":"إنه غير معروف". وذكره السيوطي في الدرر المنتثرة (ح٢٧٩)..
﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون٥٥ ﴾ :
في أول الحديث عن سورة النور قلنا : إنها سميت بالنور ؛ لأنها تبين للناس النور الحسي في الكون، وتقيس عليه النور المعنوي في القيم، وما دمنا نطفئ أنوارنا الحسية حين يظهر نور الله في الشمس، يجب كذلك أن نطفئ أنوارنا المعنوية حين يأتينا شرع من الله.
فليس لأحد رأى مع شرع الله ؛ ذلك لأن الخالق- عز وجل- يريد لخليفته في الأرض أن يكون في نور حسي ومعنوي، ثم ضمن له مقومات بقاء حياته بالطعام والشراب شريطة أن يكون من حلال حتى تبني خلاياه وتتكون من الحلال فيسلم له جهاز الاستقبال عن الله وجهاز الإرسال إن أراد الدعاء.
وفي الحديث الشريف : " أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال :﴿ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعلموا صالحا إني بما تعملون عليم ٥١ ﴾( المؤمنون ) : وقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم... ١٧٢ ﴾( البقرة ) : ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعت أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك ؟ " ٢.
فهذه أجهزة معطلة خربة أشبه ما تكون بالراديو الذي لا يحسن استقبال ما تذيعه محطات الإذاعة، فالإرسال قائم يستقبله غيره، أما هو فجهاز استقباله غير سليم.
فإذا ضمنت سلامة تكوينك بلقمة الحلال ضمن الله لك إجابة الدعاء، وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه :" أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة " ٣.
ثم ضمن الله للإنسان مقومات بقاء نوعه بالزواج لاستمرار الذرية لتستمر الخلافة في الأرض طاهرة نظيفة، ثم تحدثت السورة محذرة إياكم أن تجترئوا على أعراض الناس، أو ترموا المحصنات، أو تدخلوا البيوت دون استئذان، حتى لا تطلعوا على عورات الناس... إلخ.
فالحق- سبحانه وتعالى – يريد سلامة المجتمع وسلامة الخلافة في الأرض، وكل هذه الأحكام والمعاني تصب في هذه الآية :
﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض... ٥٥ ﴾( النور ) : فمن فعل ذلك كان أهلا للخلافة عن الله، إنها معركة ابتلاءات وتمحيص تبين الغث٤ من السمين، ألا ترى المسلمين الأوائل كيف كانوا يعذبون ويضطهدون، ولا يجرؤ أحد على حمايتهم حتى اضطروا للهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وقد قال تعالى :﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون٢ ﴾( العنكبوت ).
وهؤلاء الصحابة هم الذين حملوا للدنيا مشاعل الهداية، وساحوا بدعوة الله في أنحاء الأرض، فلا بد أن يربوا هذه التربية القاسية، وأن يمتحنوا كل هذا الامتحان، وهم يعلمون جيدا ثمن هذه التضحية وينتظرون ثوابها من الله، فأهل الحق يدفعون الثمن أولا، أما أهل المبادئ الباطلة فيقبضون الثمن أولا قبل أن يتحركوا في اتجاه مبادئهم، هذا الابتلاء الذي عاشه المسلمون الأوائل هو من تنقية الخليفة ليكون أهلا لها.
لذلك قال سبحانه :﴿ وعد الله... ٥٥ ﴾( النور ) : والوعد : بشارة بخير لم يأت زمنه بعد، حتى يستعد الناس بالوسيلة له، وضده الوعيد أو الإنذار بشر أو الإنذار بشر لم يأت زمنه بعد، لتكون هناك فرصة للاحتياط وتلافى الوقوع في أسبابه.
وما دام الوعد من الله تعالى فهو صدق، كما قال سبحانه :﴿ ومن أصدق من الله قيلا١٢٢ ﴾( النساء )، وقال سبحانه :﴿ ومن أوفى بعهده من الله١١١ ﴾( التوبة ) :
والذي يفسد على الناس وعودهم، ويجر عليهم عدم الوفاء أن الإنسان متغير بطبعه متقلب، فقد يعد إنسانا بخير ثم يتغير قلبه عليه فلا يفي له بما وعد، وقد يأتي زمن الوفاء فلا يقدر عليه، أما الحق –تبارك وتعالى- فلا يتغير أبدا، وهو سبحانه قادر على الوفاء بما وعد به، فليست هناك قوة أخرى تمنعه، فهو سبحانه واحد لا إله غيره ؛ لذلك فوعده تعالى ناجز.
﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات... ٥٥ ﴾( النور ) : قلنا : إن الإيمان الذي يقوم على صفاء الينبوع والعقيدة ليس مطلوبا لذاته، إنما لا بد أن تكون له ثمرة، وأن يرى أثره طاعة وتنفيذا لأوامر الله، فطالما آمنت بالله فنفذ ما يأمرك به، وهناك من الناس من يفعل الخير، لكن ليس من منطلق إيماني مثل المنافقين الذين قال الله فيهم :﴿ قالت الأعراب آمنا... ١٤ ﴾( الحجرات )، فرد الله عليهم :﴿ قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا... ١٤ ﴾( الحجرات ) : يعني : خضعنا للأوامر، لكن من غير إيمان، إذن : فقيمة الإيمان أن تنفذ مطلوبه.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى :﴿ والعصر١ إن الإنسان لفي خسر ٢ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر٣ ﴾( العصر ).
فبماذا وعد الله الذين آمنوا ؟ ﴿ ليستخلفنهم في الأرض... ٥٥ ﴾ ( النور ) وهذه ليست جديدة، فقد سبقهم أسلافهم الأوائل ﴿ كما استخلف الذين من قبلهم... ٥٥ ﴾( النور )، فاستخلاف الذين آمنوا ليس بدعا، إنما هو أمر مشاهد في مواكب الرسل والنبوة ومشاهد في المسلمين الأوائل من الصحابة الذين أوذوا وعذبوا واضطهدوا وأخرجوا من ديارهم وأولادهم وأموالهم ولم يؤمروا برد العدوان.
حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في جمع من صحابته استقبله الأنصار بالحفاوة، واحتضنوا هؤلاء المهاجرين، وفعلوا معهم نموذجا من الإيثار ليس له مثيل في تاريخ البشرية، وهل هناك إيثار أعظم من أن يعرض الأنصاري زوجاته على المهاجر يقول : اختر إحداهما أطلقها لك، إلى هذه الدرجة فعل الإيمان بنفوس الأنصار.
ولما رأى كفار قريش ما صنعه الأنصار مع المهاجرين توقدوا نارا : كيف يعيش المهاجرون في المدينة هذه العيشة الهنية وتكتلوا جميعا ضد هذا الدين ليضربوه عن قوس واحدة، وتآمروا على القدوة ليقضوا على هذا الدين الوليد الذي يشكل أعظم الخطر عليهم.
حتى إن الأمر قد بلغ بالمهاجرين والأنصار أنهم لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا بالسلاح مخافة أن ينقض عليهم أعداؤهم، حتى إن أحد الصحابة يقول لإخوانه : أترون أنا نعيش حتى نأمن ونطمئن ولا نبيت في السلاح ونصبح فيه، ولا نخشى إلا الله ؟ يعني : أهناك أمل في هذه الغاية ؟.
وآخر يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون ؟ ألا يأتينا ألا يأتينا يوم نضع فيه السلاح ونبيت آمنين ؟.
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم بلسان الواثق من وعد ربه، وليس كلاما قد يكذب فيما بعد :" لا تصبرون إلا يسيرا، حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليست فيه حديدة " ٥ يعني : في الملأ الواسع، والاحتباء جلسة المستريح الهانئ، والحديدة كناية عن السلاح.
وقد قال صلى الله عليه وسلم :" إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتى ما زوي لي منها " ٦.
ومعنى " إن الله زوى لي الأرض " معلوم أن للإنسان مجال رؤية يلتقي فيه إلى نهاية الأفق، أما الأرض ذاتها فواسعة، فزويت الأرض لرسول الله يعني : جمعت في زاوية، فصار ينظر إليها كلها.
إذن : فهم في هذه المرحلة يشتهون الأمن وهدوء البال، وقد قال تعالى عنهم في هذه الفترة :﴿ وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله.... ٢١٤ ﴾( البقرة ) :
وفي غمرة هذه الشدة وقمة هذا الضيق ينزل تعالى على رسوله :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر٤٥ ﴾( القمر ) حتى إن الصحابة ليتعجبون، يقول عمر رضي الله عنه : أي جمع هذا ؟ وقد نزلت الآية وهم في مكة في أشد الخوف لا يستطيعون حماية أنفسهم.
لكن بعد بدر وبعد أن رأى ما نزل بالكفار قال : صدق الله ﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر٤٥ ﴾( القمر ).
ثم ينزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بعض الآيات التي تطمئن المؤمنين وتصبرهم :﴿ أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه... ٤١ ﴾( الرعد ).
فاطمئنوا، فكل يوم ننقص من أرض الكفر، ونزيد في أرض الإيمان، فالمقدمات في صالحكم، ثم يأتي فتح مكة ويدخلها النبي صلى الله عليه وسلم في موكب مهيب مطأطئا رأسه، تواضعا لمن أدخله، مظهرا ذلة العبودية لله.
حتى إن أبا سفيان لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموكب يقول للعباس : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، فيقول العباس : إنها النبوة يا أبا سفيان٧، يعني : المسألة ليست ملكا إنما هي بشائر النصر لدين الله وظهوره على معقل الأصنام والأوثان في مكة.
ثم يذهب إلى خيبر معقل أهل الكتاب من بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وينتصر عليهم، ثم تسقط في يده البحرين ومجوس هجر، ويدفعون الجزية.
بعد ذلك يرسل صلى الله عليه وسلم كتبه إلى الملوك والرؤساء يدعوهم إلى الإسلام، فيرسل إلى النجاشي ملك الحبشة، وإلى المقوقس، وإلى هرقل، وإلى كسرى، وتأتيه الهدايا من كل هؤلاء.
ويستمر المد الإسلامي والوفاء بوعد الله تعالى لخليفة رسول الله، فإن كان المد الإسلامي قد شمل الجزيرة العربية على عهد رسول الله، فإنه تعداها إلى شتى أنحاء العالم في عهد الخلفاء الراشدين، حتى ساد الإسلام العالم كله، وأظهره الله على أكبر حضارتين في ذلك الوقت : حضارة فارس في الشرق، وحضارة الروم في الغرب في وقت واحد، ويتحقق وعد الله للذين آمنوا بأن يستخلفهم في الأرض.
وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تتحقق النبوءات التي أخبر بها، ومنها ما كان من أمر سراقة بن مالك الذي خرج خلف رسول الله في رحلة الهجرة يريد طلبه والفوز بجائزة قريش، وبعد أن تاب سراقة وعاد إلى الجادة كان الصحابة يعجبون لدقة ساعديه ويصفونهما بما يدعو إلى الضحك فكان صلى الله عليه وسلم يقول عن ساعدي سراقة : " كيف بهما في سواري كسرى ؟ " ٨.
ويفتح المسلمون بعد ذلك ملك كسرى، ويكون سوارا كسرى من نصيب سراقة، فيلبسهما، ويراهما الناس في يديه.
هذه كلها بشائر ومقدمات لوعد الله يراها المؤمنون في أنفسهم، لا فيمن يأتي بعد ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم..... ٥٥ ﴾( النور ) : يعني : المسألة لن تطول.
كذلك أم حرام بنت ملحان٩ التي خرجت في غزوة الصواري وركبت البحر ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينام هناك ثم يصحو وهو يضحك، فقالت له : ما يضحكك يا رسول الله ؟ قال : " أناس من أمتى يركبون زبد هذا البحر، ملوك على الأسرة أو كالملوك على الأسرة " فقال : ادع الله أن أكون منهم، فدعا لها فاستجاب الله دعاءه، وخرجت في الغزوة، ولما ركبوا البحر الأبيض أرادت أن تخرج فماتت١٠.
إذن : فالبشارة في هذه الآية ليست بشارة لفظية، إنما هي بشارة واقعية لها واقع يؤديها، قد حدث فعلا.
لكن، ما المراد بالأرض في ﴿ ليستخلفنهم في الأرض... ٥٥ ﴾( النور ). ؟ إذا جاءت الأرض هكذا مفردة غير مضافة لشيء فتعني كل الأرض، كما في قوله تعالى :﴿ وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض..... ١٠٤ ﴾( الإسراء ) : يعني : تقطعوا في كل أنحائها، ﴿ فإذا جاء وعد الآخرة... ١٠٤ ﴾( الإسراء ) : الذي وعد الله به ﴿ جئنا بكم
٢ أخرجه مسلم في صحيحه (١٠١٥) كتاب الزكاة، وأحمد في مسنده (٢/٣٢٨) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٣ أورده الهيثمي في مجمع الزوائد(١٠/٢٩١) من حديث ابن عباس قال: تليت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا... ١٦٨﴾(البقرة) فقال سعد: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال صلى الله عليه وسلم:"يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن العبد يقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه العمل أربعين يوما، وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به". قال الهيثمي: "رواه الطبراني في الصغير وفيه من لم أعرفهم"..
٤ العث: الردئ من كل شيء. ولحم غث: مهزول.(لسان العرب- مادة: غثث)..
٥ أورده ابن كثير في تفسيره (٣/٣٠١) سببا في نزول الآية مرويا عن أبي العالية..
٦ أخرجه مسلم في صحيحه (٢٨٨٩) كتاب الفتن، وأحمد في مسنده (٥/٢٧٨-٢٨٤) من حديث ثوبان رضي الله عنه..
٧ أورده ابن هشام في السيرة النبوية (٤/٤٠٤) أن جيوش المسلمين عرضت على أبي سفيان في فتح مكة وهو مع العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما، قال: قلت يا أبا سفيان، إنها النبوة. قال: فنعم إذن..
٨ أخرج البيهقي في دلائل النبوة(٦/٣٢٥) أن عمر بن الخطاب أتى بفروة كسرى فوضعت بين يديه وفي القوم سراقة بن مالك قال: فألقى إليه سواري كسرى بن هرمز فجعلهما في يديه فبلغا منكبيه، فلما رآها في يدي سراقة قال: الحمد لله، سوارا كسرى بن هرمز في يد سراقة ابن مالك بن جعشم أعرابي من بني مدلج وذكر الحديث. قال الشافعي – رحمه الله: وإنما ألبسهما سراقة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسراقة ونظر إلى ذارعيه:" كأنى بك قد لبست سواري كسرى"..
٩ أخت أم سليم، أسلمت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقيل في بيتها وتزوجها عبادة بن الصامت. قال هشام بن الغاز: قبر أم حرام بقبرس، وهم يقولون: هذا قبر المرأة الصالحة. "المؤمنات الصالحات لتقي الدين الحصنى توفي ٨٢٩هـ. ص٥٣، ٥٤-دار البشير تحقيق عادل أبو المعاطي "..
١٠ أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء(٢/٦١)بهذا اللفظ، وأخرجه البخاري في صحيحه (٦/١٠٢-فتح الباري) وأبو نعيم في الحلية (٢/٦٢) بلفظ: "أول جيش من أمتى يغزون البحر قد أوجبوا" قالت أم حرام: أنا منهم؟ قال: "أنت منهم"..
دائما ما يقرن القرآن بين هذين الركنين، وتأتي الزكاة بعد الصلاة ؛ ذلك لأن الصلاة هي الركن الوحيد الذي فرض من الله مباشرة، أما بقية الأركان فقد فرضت بالوحي، وضربنا لذلك مثلا، ولله تعالى المثل الأعلى بالرئيس الذي يكلف مرؤوسية بتأشيرة أو بالتليفون، فإن كان الأمر مهما استدعى الموظف المختص إلى مكتبه وكلفه بهذا الأمر مباشرة لأهميته.
فكذلك الحق- تبارك وتعالى- أمر بكل التكاليف الشرعية بالوحي، إلا الصلاة فقد فرضها على رسول الله بعد أن استدعاه إلى رحلة المعراج فكلفه بها مشافهة دون واسطة، ولما يعلمه الله تعالى من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته قال له : أنا فرضت عليك الصلاة بالقرب، وكذلك أجعلها للمصلي في الأرض بالقرب، فإن دخل المسجد وجدني.
وإن كانت أركان الإسلام خمسة، فإن الشهادة والصلاة هما الركنان اللذان لا ينحلان عن المؤمن بحال من الأحوال، فقد لا تتوفر لك شروط الصوم أو الزكاة أو الحج فلا تجب عليك، كما أن الصلاة هي الفريضة المكررة على مدار اليوم والليلة خمس مرات، وبها يتم إعلان الولاء لله دائما، وقد وزعها الحق سبحانه على الزمن ليظل المؤمن على صلة دائمة بربه كلما شغلته الدنيا وجد ( الله أكبر ) تناديه.
وانظر إلى عظمة الخالق- عز وجل – حين يطلب من صنعته أن تقابله وتعرض عليه كل يوم خمس مرات، وهو سبحانه الذي يطلب هذا اللقاء ويفرضه عليك لمصلحتك أنت، ولك أن تتصور صنعة تعرض على صانعها كل يوم خمس مرات أيصيبها عطب ؟.
وربك هو الذي يناديك ويدعوك للقائه ويقول : " لا أمل حتى تملوا " ١ ومن رحمته بك ومحبته لك ترك لك حرية اختيار الزمان والمكان، وترك لك حرية إنهاء المقابلة متى تشاء، فإن أردت أن تظل في بيته وفي معيته فعلى الرحب والسعة.
ولأهمية الصلاة ومكانتها في الإسلام اجتمع فيها كل أركان الإسلام، ففي الصلاة تتكرر الشهادة : لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفي الصلاة زكاة ؛ لأن الزكاة فرع العمل، والعمل فرع الوقت، والصلاة تأخذ الوقت نفسه، وفيها صيام حيث تمتنع في الصلاة عما تمتنع عنه في الصوم بل وأكثر، وفيها حج لأنك تتجه في صلاتك إلى الكعبة.
إذن : فالصلاة نائبة عن جميع الأركان في الاستبقاء، لذلك كانت هي عمود الدين، والتي لا تسقط عن المؤمن بحال من الأحوال حتى إن لم يستطع الصلاة قائما صلى جالسا أو مضجعا، ولو أن يشير بأصبعه أو بطرفه أو حتى يخطرها على باله ؛ ذلك لاستدامة الولاء بالعبودية لله المعبود.
والصلاة تحفظ القيم، فتسوي بين الناس، فيقف الغني والفقير والرئيس والمرؤوس في صف واحد، الكل يجلس حسب قدومه، وهذا يحدث استطراقا عبوديا في المجتمع، ففي الصلاة مجال يستوي فيه المجتمع.
وإن كانت الصلاة قوام القيم، فالزكاة قوام المائدة لمن ليست له قدرة على الكسب والعمل. إذن : لدينا قوانين للحياة، ولاستدامة الخلافة على الأرض قوام القيم في الصلاة، وقوام المادة في الزكاة.
ثم يقول سبحانه :﴿ وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ٥٦ ﴾ ( النور ) : وهنا في الصلاة والزكاة خص الرسول بالإطاعة ؛ لأنه صاحب البيان والتفصيل لما أجمله الحق سبحانه في فرضية الصلاة والزكاة، حيث تفصيل كل منهما في السنة المطهرة، فقال :﴿ وأطيعوا الرسول... ٥٦ ﴾( النور ).
﴿ لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير٥٧ ﴾ :
يعود السياق للحديث عن الكافرين :﴿ لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض... ٥٧ ﴾( لنور ) : يعني : لا تظنن، والشيء المعجز هو الذي يثبت العجز للمقابل، نقول : عملنا شيئا معجزا لفلان يعني : لا يستطيع الإتيان بمثله.
فإياك أن تظن أن الكافرين مهما علت مراتبهم ومهما استشرى طغيانهم يفلتون من عقاب الله، فلن يثبتوا له سبحانه العجز عنهم أبدا، ولن يعجزوه، إنما يملي لهم سبحانه ويمهلهم حتى إذا أخذهم، أخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهو سبحانه مدركهم لا محالة.
وجاء على لسان الجن :﴿ وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا١٢ ﴾( الجن ) :
ونلحظ في قوله تعالى :﴿ ومأواهم النار... ٥٧ ﴾( النور ) : أنها عطفت هذه الجملة على سابقتها، وهي منفية﴿ لا تحسبن... ٥٧ ﴾( النور ) : فهل يعني هذا أن معناها : ولا تحسبن مأواهم النار ؟ قالوا : لا، إنما المعنى : ولا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض لأن مأواهم النار.
﴿ ولبئس المصير ٥٧ ﴾( النور ) : أي : المرجع والمآب.
﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم٥٨ ﴾ :
تعلمنا هذه الآية آداب الاستئذان داخل الأسرة المكونة من الأبوين والأبناء، ثم الأتباع مثل الخدم وغيرهم، والحق- تبارك وتعالى – يريد أن ينشئ هذه الأسرة على أفضل ما يكون، ويخص بالنداء هنا الذين آمنوا، يعني : يا من آمنتم بي ربا حكيما مشرعا لكم حريصا على مصلحتكم استمعوا إلى هذا الأدب :﴿ ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات... ٥٨ ﴾( النور ).
معلوم أن طلب المتكلم من المخاطب يأتي على صورتين : فعل الأمر وفعل المضارع المقترن بلام الأمر، فقوله تعالى :﴿ ليستأذنكم... ٥٨ ﴾( النور ) : يعني : علموا هؤلاء أن يستأذنوا عليكم، مثل :﴿ وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا... ٣٣ ﴾( النور ) : يعني : استعفوا، لأن اللام هنا لام الأمر، ومثل :﴿ لينفق ذو سعة من سعته... ٧ ﴾( الطلاق ).
وهذا الأدب تكليف من الله تعالى يكلف به كل مؤمن داخل الأسرة، وإن كان الأمر هنا لغير المأمور، فالمأمور بالاستئذان هم ملك اليمين والأطفال الصغار، فأمر الله الكبار أن يعلموا الصغار، كما ورد في الحديث الشريف :" مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر " ١.
فلم يكلف بهذا الصغار إنما كلف الكبار ؛ لأن الأطفال لم يبلغوا بعد مبلغ التكليف من ربهم، إنما بلغوا مبلغ التكليف عندكم أنتم، لذلك أنت الذي تأمر وأنت الذي تتابع وتعاقب٢.
وأمر الصغير بالصلاة أو بالاستئذان لتربي فيه الدربة والتعود على أمر قد يشق عليه حال كبره، إنما إن عودته عليها الآن فإنها تسهل عليهم عند سن التكليف، وتتحول العادة في حقه إلى عبادة يسير عليها.
وشرع الله لنا آداب الاستئذان ؛ لأن للإنسان ظاهرا يراه الناس جميعا ويكثر ظاهره للخاصة من أهله في أمور لا يظهرها على الآخرين، إذن : فرقعة الأهل والملاصقين لك أوسع، وهناك ضوابط اجتماعية للمجتمع العام، وضوابط اجتماعية للمجتمع الخاص وهو الأسرة، وحرية المرء في أسرته أوسع من حريته في المجتمع العام، فإن كان في حجرته الخاصة كانت حريته أوسع من حريته مع الأسرة.
فلا بد إذن من ضوابط تحمي هذه الخصوصيات، وتنظم علاقات الأفراد في الأسرة الواحدة، كما سبقت ضوابط تنظم علاقات الأفراد خارج الأسرة. ومعنى :﴿ الذين ملكت أيمانكم... ٥٨ ﴾( النور ) : هم العبيد الذين يقومون على خدمة بعض الناس وليس الأجير لأن الأجير حر يستطيع أن يتركك في أي وقت، أما العبد فليس كذلك ؛ لأنه مملوك الرقبة لا حرية له، فالمملوكية راجحة في هؤلاء، وللسيد السيطرة والمهابة فلا يستطيع أن يفلت منه.
﴿ والذين لم يبلغوا الحلم منكم.... ٥٨ ﴾( النور ) : هم الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا مبلغ التكليف، ويقضون المصالح ؛ فتراهم في البيت يدخلون ويخرجون دون ضوابط، فهل نتركهم هكذا يطلعون على خصوصياتنا ؟
وللخدم في البيت طبيعة تقتضي أن يدخلوا علينا ويخرجوا، وكذلك الصغار، إلا في أوقات ثلاثة لا يسمح لهم فيها بالدخول إلا بعد الاستئذان :﴿ من قبل صلاة الفجر... ٥٨ ﴾( النور ) : لأنه وقت متصل بالنوم، والإنسان في النوم يكون حر الحركة واللباس ﴿ وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة... ٥٨ ﴾( النور ) : وهو وقت القيلولة، وهي وقت راحة يتخفف فيها المرء من ملابسه﴿ ومن بعد صلاة العشاء... ٥٨ ﴾( النور ) : وبعد العشاء النوم. هذه أوقات ثلاثة، لا ينبغي لأحد أن يدخل عليك فيها إلا بإذنك.
وانظر إلى هذا التحفظ الذي يوفره لك ربك- عز وجل- حتى لا تقيد حريتك في أمورك الشخصية ومسائلك الخاصة، وكأن هذه الأوقات ملك لك أيها المؤمن تأخذ فيها راحتك وتتمتع بخصوصياتك، والاستئذان يعطيك الفرصة لتتهيأ لمقابلة المستأذن.
أما في بقية الأوقات فالكل يستأذن عليك حتى الزوجة.
وسبب نزول هذه الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد سيدنا عمر في أمر من الأمور، فأرسل إليه غلاما٣ من الأنصار، فلما ذهب الغلام دفع الباب ونادى : يا عمر نائما على وضع لا يصح أن يراه عليه أحد، واستيقظ عمر ولحظ أن الغلام قد رآه على هذا الوضع، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله نريد أن يستأذن علينا أبناؤنا ونساؤنا وموالينا وخدمنا، فقد حدث من الغلام كيت وكيت، فنزلت هذه الآية٤.
ويسمى الله تعالى هذه الأوقات الثلاثة عورة :﴿ ثلاث عورات لكم... ٥٨ ﴾( النور ) والعورة : هي ما يحب الإنسان ألا يراها أحد، أو يراه عليها ؛ لأنها نوع من الخلل والخصوصية، والله لا يريد أن يراك أحد على شيء تكرهه.
لذلك يقولون لمن به خلل في عينه مثلا : أعور، والعرب تقول للكلمة القبيحة : عوراء٥، كما قال الشاعر :
وعوراء جاءت من أخ فرددتها **** بسالمة العينين طالبة عذرا٦
يعني : كلمة قبيحة لم أرد عليها بمثلها، إنما بسالمة لا عين واحدة، بل بسالمة العينين الاثنين.
ثم يقول سبحانه :﴿ ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن... ٥٨ ﴾( النور ) : يعني : بعد هذه الأوقات : لا إثم ولا حرج عليكم، ولا على المماليك، أو الصغار أن يدخلوا عليكم، ففي غير هذه الأوقات يجلس المرء مستعدا لممارسة حياته العادية، ولا مانع لديه من استقبال الخدم أو الأطفال الصغار دون استئذان ؛ لأن طبيعة المعيشة في البيوت لا تستغني عن دخول هؤلاء وخروجهم باستمرار.
لذلك قال تعالى بعدها :﴿ طوافون عليكم بعضكم على بعض... ٥٨ ﴾( النور ) : يعني : حركتهم في البيت دائمة، دخولا وخروجا، فكيف نقيدها في غير هذه الأوقات ؟.
﴿ كذلك يبين الله لكم الآيات.... ٥٨ ﴾( النور ) : أي : بيانا واضحا، حتى لا يحدث في المجتمع تناقضات فيما بعد﴿ والله عليم... ٥٨ ﴾( النور ) : بكل ما يصلح الخلافة في الأرض﴿ حكيم٥٨ ﴾( النور ) : في تشريعاته وأوامره، لا يضع الحكم إلا بحكمة.
٢ قال الشيخ أبو يحيى زكريا الأنصاري في كتابه "فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن"ص٢٨٩:"إن قلت: كيف أمر الله تعالى بالاستئذان لهم، مع أنهم غير مكلفين؟ قلت: الأمر في الحقيقة لأوليائهم ليؤدبوهم"..
٣ هو: مدلج الأنصاري. ذكره ابن حجر العسقلاني في"تمييز الصحابة" (ترجمة رقم ٧٨٥٢) وذكر هذا الحديث وقال: "أخرجه ابن منده من طريق السدى الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس "ذكره ثم قال:"وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للغلام"أنت ممن يلج الجنة"..
٤ قال القرطبي في تفسيره (٦/٤٨٤٠): "قال مقاتل: نزلت في أسماء بنت مرثد، دخل عليها غلام لها كبير، فاشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية. وقيل: سبب نزولها دخول مدلج على عمر"..
٥ قال أبو هيثم: يقال لكلمة القبيحة عوراء، وللكلمة الحسناء: عيناء. وقال الليث: العوراء الكلمة التي تهوي في غير عقل ولا رشد. (لسان العرب-مادة: عور)..
٦ ذكره ابن منظور في لسان العرب- مادة عور. ولم يذكر اسم الشاعر..
﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم٥٩ ﴾ :
الطفل حين كان طفلا لم يبلغ الحلم كان يدخل دون استئذان في غير هذه الأوقات، فإن بلغ الحلم فعليه أن يستأذن، لا نقول : إنه تعود الاستئذان في هذه الأوقات فقط، لا، إنما عليه أن يستأذن في جميع الأوقات فقد شب وكبر، وانتهت بالنسبة له هذه الحالة.
وبلوغ الحلم أن ينضج الإنسان نضجا يجعله صالحا لإنجاب مثله، فهذه علامة اكتمال تكوينه، وهذا لا يتأتى إلا باستكمال الغريزة الجنسية التي هي سبب النسل والإنجاب، ومثلنا ذلك بالثمرة التي لا تحلو إلا بعد نضجها، فإن تركتها بعد النضج سقطت من نفسها، وهذه آية من آيات الله لبقاء النوع، فلو أكلنا الثمرة قبل نضجها لا تنبت بذرتها وينقرض نوعها، فمن حكمة الله في الخلق ألا تحلو الثمرة إلا بعد النضج.
كذلك الولد حين يبلغ يصبح صالحا للإنجاب، ونقول له : انتهت الرخصة التي منحها لك الشرع، وعليك أن تستأذن في جميع الأوقات.
لذلك يقول تعالى في موضع آخر :﴿ أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء... ٣١ ﴾( النور ) :
وجاء بالطفل بصيغة المفرد ؛ لأن الأطفال في هذه السن لم تتكون لديهم الغريزة، وليست لهم هذه الميول أو المآرب، فكأنهم واحد، أما بعد البلوغ وتكون الميول الغريزية قال :﴿ الأطفال.... ٥٩ ﴾( النور ) : لأن لكل منهم بعد البلوغ ميوله وشخصيته وشطحاته.
وقوله :﴿ كما استأذن الذين من قبلهم.... ٥٩ ﴾( النور ) : أي : من الكبار الذين يستأذنون في كل الأوقات ﴿ كذلك... ٥٩ ﴾( النور ) : أي : مثل ما بينا في الاستئذان الأول﴿ يبين الله لكم آياته... ٥٩ ﴾( النور ) : لأنه سبحانه ﴿ عليم.... ٥٩ ﴾( النور ) : بما يصلحكم ﴿ حكيم٥٩ ﴾( النور ) : لا يشرع لكم إلا بحكمة.
﴿ والقواعد من النساء التي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم٦٠ ﴾ :
نعلم أن الشارع الحكيم وضع للمرأة المسلمة قواعد تسير عليها في زيها وسلوكها ومشيتها، حماية لها وصيانة للمجتمع من الفتنة، وحتى لا يطمع فيها أصحاب النفوس المريضة، فجعل لها حجابا يسترها يخفي زينتها لا يكون شفافا ولا واصفا، وقال :﴿ يدنين عليهن من جلابيبهن... ٥٩ ﴾.
لكن القواعد من النساء والكبيرات منهن لهن حكم آخر.
والقواعد : جمع قاعد لا قاعدة، قاعدة تدل على الجلوس، أما القاعد ذكرا أو أنثى فهو الذي قعد عن دورة الحياة، ولم يعد له مهمة الإنجاب، ومثل هؤلاء لم يعد فيهن إربة ولا مطمع ؛ لذلك لا مانع أن يتخففن بعض الشيء من اللباس الذي فرض عليهن حال وجود الفتنة، ولها أن تضع( طرحتها ) مثلا.
لكن هذه المسألة مقولة بالتشكيك : نسبية يعني : فمن النساء من ينقطع حيضها ويدركها الكبر، لكن ما يزال فيها جمال وفتنة ؛ لذلك ربنا- تبارك وتعالى – وضع لنا الحكم الاحتياطي﴿ فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة.... ٦٠ ﴾( النور ) : فلا يجوز للمرأة أن تضع ثيابها أخذا بهذه الرخصة، ثم تضع الزينة وتتبرج. ونخشى أن نعلم النساء هذا الحكم فلا يأخذن به حتى لا نقول عنهن : إنهن قواعد ! !
وتعجب حين ترى المرأة عندما تبلغ هذه السن فتجدها ورعة في ملبسها، ورعة في مظهرها، ورعة في سلوكها، فتزداد جمالا وتزداد بهاء وآسرية، على خلاف التي لا تحترم سنها فتضع على وجهها المساحيق والألوان فتبدو مسخا مشوها.
ومعنى﴿ يستعففن.... ٦٠ ﴾( النور ) : أي : يحتفظن بملابسهن لا يضعن منها شيئا، فهذا أدعى للعفة.
قوله تعالى :﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج.... ٦١ ﴾( النور ) : الحرج : هو الضيق، كما جاء في قوله سبحانه :﴿ ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء.... ١٢٥ ﴾( الأنعام ).
أو الحرج بمعنى : الإثم، فالحرج المرفوع عن هؤلاء هو الضيق أو الإثم يتعلق بالحكم الآتي في مسألة الأكل، بدليل أنه يقول ﴿ ولا على أن أنفسكم... ٦١ ﴾( النور ).
والأعمى يتحرج أن يأكل مع الناس ؛ لأنه لا يرى طعامه، وربما امتدت يده إلى أطيب الطعام فيأكله ويترك أدناه، والأعرج يحتاج إلى راحة خاصة في جلسته، وربما ضايق بذلك الآخرين، والمريض قد يتأفف منه الناس، فرفع الله تعالى عن عباده هذا الحرج، وقال :﴿ ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا.... ٦١ ﴾( النور ).
فيصح أن تأكلوا معا ؛ لأن الحق- سبحانه وتعالى- يريد أن يجعل التكامل في الذوات لا في الأعراض، وأيضا أنك إن رأيت شابا مؤوفا١ يعني به آفة، ثم تعامله معاملة خاصة فربما جرحت شعوره، حتى إن كان ما به أمرا خلقيا من الله لا يتأباه، والبعض يتأبى أن يخلقه الله على هيئة لا يرضاها.
لذلك كانوا في الريف نسمعهم يقولون : اللي يعطي العمى حقه فهو مبصر، لماذا ؟ لأنه يرضى بهذا الابتلاء، وتعامل مع الناس على أنه كذلك، فطلب منهم المساعدة ؛ لذلك ترى الناس جميعا يتسابقون إلى مساعدته والأخذ بيده، فإن كان قد فقد عينا فقد عوضه الله بها ألف عين، أما الذي يتأبى ويرفض الاعتراف بعجزه ويرتدي نظارة سوداء ليخفي بها عاهته فإنه يسير متعسرا يتخبط لا يساعده أحد.
وكأنه الحق- تبارك وتعالى – يريد لأصحاب هذه الآفات أن يتوافقوا مع المجتمع، لا يأخذون منه موقفا، ولا يأخذ المجتمع منهم موقفا٢ ؛ لذلك يعطف على﴿ ليس على الأعرج حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج.... ٦١ ﴾( النور )، ثم يقول سبحانه ﴿ ولا على أنفسكم... ٦١ ﴾( النور ) : يعني : هم مثلكم تماما، فلا حرج بينكم في شيء.
﴿ أن تأكلوا من بيوتكم.... ٦١ ﴾( النور )إلخ.
وكان في الأنصار قزازة ٣، إذا جلس في بيت لا يأكل منه إلا إذا أذن له صاحب البيت، وقد يسافر الرجل منهم ويترك التابع عنده في البيت دون أن يأذن له في الأكل من طعام بيته ويعود، فيجد الطعام كما هو، أو يجده قد فسد دون أن يأكل منه التابع شيئا، فأراد الحق سبحانه أن يرفع هذا الحرج عن الناس، فقال :﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم.... ٦١ ﴾( النور )، إلى آخر هذه المعطوفات.
ولقائل أن يقول : وأي حرج في أن يأكل المرء من بيته ؟ وهل كان يخطر على البال أن تجد حرجا، وأنت تأكل من بيتك ؟.
قالوا : لو حاولت استقصاء هؤلاء الأقارب المذكورين في الآية لتبين لك الجواب، فقد ذكرت الآية آباءكم وأمهاتكم وإخوانكم وأخواتكم وأعمامكم وعماتكم وأخوالكم وخالاتكم، ولم تذكر شيئا عن الأبناء وهم في مقدمة هذا الترتيب، لماذا ؟.
قالوا : لأن بيوت الأبناء هي بيوت الآباء، وحين تأكل من بيت ولدك كأنك تأكل من بيتك، على اعتبار أن الولد وما ملكت يداه ملك لأبيه، إذن : لك أن تضع مكان﴿ بيوتكم.... ٦١ ﴾( النور ) : بيوت أبنائكم. ذلك لأن الحق- تبارك وتعالى- لم يرد أن يجعل للأبناء بيوتا مع الآباء، لأنهما شيء واحد.
إذن : لا حرج عليك أن تأكل من بيت ابنك أو أبيك أو أمك أو أخيك أو أختك أو عمك أو عمتك أو خالك أو خالتك ﴿ أو ما ملكتم مفاتحه... ٦١ ﴾( النور ) : يعني : يعطيك صاحب البيت مفتاح بيته٤، وفي هذا إذن لك بالتصرف والأكل من طعامه إن أردت.
﴿ أو صديقكم... ٦١ ﴾( النور ) : وتلحظ في هذه أنها الوحيدة التي وردت بصيغة المفرد في هذه الآية، فقبلها : بيوتكم، آبائكم، أمهاتكم.... إلخ إلا في الصديق فقال﴿ أو صديقكم... ٦١ ﴾ ( النور ) : ولم يقل : أصداقئكم.
ذلك لأن كلمة صديق مثل كلمة عدو تستعمل للجميع بصيغة المفرد، كما في قوله تعالى :﴿ فإنهم عدو لي... ٧٧ ﴾( الشعراء )
لأنهم حتى إن كانوا جماعة لا بد أن يكونوا على قلب رجل واحد، وإلا ما كانوا أصدقاء، وكذلك في حالة العداوة نقول عدو، وهم جمع ؛ لأن الأعداء تجمعهم الكراهية، فكأنهم واحد.
ثم يقول سبحانه :﴿ ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا... ٦١ ﴾( النور )، ﴿ جميعا.... ٦١ ﴾( النور ) : سويا بعضكم مع بعض. ﴿ أو أشتاتا... ٦١ ﴾( النور ) : متفرقين، كل وحده.
وقوله تعالى :﴿ فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم٥ تحية من عند الله مباركة طيبة... ٦١ ﴾( النور ) : على أنفسكم، لأنك حين تسلم على غيرك كأنك تسلم على نفسك، لأن غيرك هو أيضا سيسلم عليك، ذلك لأن الإسلام يريد أن يجعل المجتمع الإيماني وحدة متماسكة، فحين تقول لغيرك : السلام عليكم سيرد : وعليكم السلام. فكأنك تسلم على نفسك.
أو : أن المعنى : إن دخلتم بيوتا ليس فيها أحد فسلموا على أنفسكم، وإذا دخلوا المسجد قالوا : السلام على رسول الله وعلينا من ربنا. قالوا : تسمع الملائكة وهي ترد.
وقوله تعالى :﴿ تحية من عند الله مباركة طيبة... ٦١ ﴾( النور )، وفي آية أخرى يقول سبحانه :﴿ وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها.... ٨٦ ﴾( النساء ) :
والتحية فوق أنها من عند الله فقد وصفها بأنها﴿ مباركة.... ٦١ ﴾( النور ) : والشيء المبارك : الذي يعطي فوق ما ينتظر منه ﴿ كذلك... ٦١ ﴾( النور ) : أي : كما بين لكم الأحكام السابقة يبين لكم ﴿ الآيات لعلكم تعقلون٦١ ﴾( النور ) :
أي : أن الذي كلفكم بهذه الأحكام رب يحب الخير لكم، وهو غني عن هذه، إنما يأمركم بأشياء ليعود نفعها عليكم، فإن أطعتموه فيما أمركم به انتفعتم بأوامره في الدنيا، ثم ينتظركم جزاؤه وثوابه في الآخرة.
٢ قال ابن عباس: لما أنزل الله تبارك وتعالى ﴿ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل.... ١٨٨﴾(البقرة) تحرج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعرج وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يبصر موضع الطعام الطيب، والمريض لا يستوفي الطعام. فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج... ٦١﴾(النور) (أورده الواحدي في أسباب النزول ص١٨٩)..
٣ القزازة: الحياء. قزت نفسي عن الشيء: أبته وعافته. وتقزز الرجل من الشيء: لم يطعمه ولم يشربه بإرادته.(لسان العرب –مادة: قزز)..
٤ عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول في هذه الآية: أنزلت في أناس كانوا إذا خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك، وكانوا يتقون أن يأكلوا منها ويقولون: نخشى أن لا تكون أنفسهم بذلك طيبة، فأنزل الله تعالى هذه الآية. (أورده الواحدي في أسباب النزول ص١٩٠)..
٥ قال القرطبي في تفسيره(٦/٤٨٥٧):"الأوجه أن يقال: إن هذا عام في دخول كل بيت، فإن كان فيه ساكن مسلم يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإن لم يكن فيه ساكن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وإن كان في البيت من ليس بمسلم قال: السلام على من اتبع الهدى أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"..
﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع ١ لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم٦٢ ﴾ :
المؤمن : من آمن بإله وآمن بالرسول المبلغ عن الإله، وما دمت قد آمنت بالرسول المبلغ عن الله فلا بد أن تكون حركتك خاضعة لأوامره، ويجب أن تكون ذاتك له، فإذا رأى الرسول أمر جامعا يجمع المسلمين في خطب أو حدث أو حرب، ثم يدعوكم إلى التشاور ليدلي كل منكم برأيه وتجربته، ويوسع مساحة الشورى في المجتمع ليأتي الحكم صحيحا سليما موافقا للمصلحة العامة.
فالمؤمن الحق إذا دعي إلى مثل هذا الأمر الجامع، لا يقوم من مجلسه حتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس إلزاما أن يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن أمر المسلمين الجامع لهم قد يكون أهم من الأمر الذي يشغلك، وتريد أن تقوم من أجله، وتترك مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى :﴿ إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله.... ٦٢ ﴾( النور ) : فالاستئذان هنا من علامات الإيمان، لا يقوم خلسة ( وينسلت ) من المجلس، لا يشعر به أحد، لا بد من أن يستأذن رسول الله حتى لا يفوت مصلحة على المؤمنين، ولربما كان له رأي ينتفع له.
والرسول إنما يستشير أصحابه ليستنير برأيهم وتجاربهم، فحين يدعوهم إلى أمر جامع يجب أن يفهم هذا الأمر على نطاق منزلة الرسول من بلاغه عن الله للأمة، فإذا دعا نفر نفرا للتشاور، فإنما يتشاورون في أمر شخصي يخص صاحبه، لكن حين يدعوهم رسول الله لا يدعو لخصوصية واحدة، وإنما لخصوصية أمة، شاء الله أن تكون خير أمة أخرجت للناس، وسوف يستفيد أيضا من هذه الدعوة، وربما كانت استفادته من الاستجابة للدعوة العامة التي تنتظم كل الناس خيرا من استفادته من دعوته الخاصة، فيجب أن يقدر المدعو هذا الفارق.
ومع وجود هذا الفارق لم يحرم الله بعض الناس الذين لهم مشاغل أن يستأذنوا فيها رسول الله وينصرفوا ؛ لذا شرع لهم الاستئذان، لكن يجب أن يضعوا هذا الفارق في بالهم، وأن يذكروا أنهم انصرفوا لبعض شأنهم، والرسول قائم في أمر لشئون الدنيا كلها إلى أن تقوم الساعة.
فكأنه إن شارك في هذا الاجتماع فسيستفيد كفرد، وستستفيد أمته : المعاصرون منهم والآتون إلى أن تقوم الساعة، فإن فضل شأنه الخاص على هذه الشئون فقد أساء، وفعل ما لا يليق بمؤمن ؛ لذلك أمر رسول الله أن يأذن لمن يشاء، ثم يستغفر له الله.
يقول سبحانه :﴿ فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم... ٦٢ ﴾( النور ) : فالأمر متروك لرسول الله يقدره حسب مصلحة المسلمين العامة، فله أن يأذن أو لا يأذن.
إذن : لا بد من استئذان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأذن لمن يشاء منهم ممن يرى أن في الباقين عوضا عنه وعن رأيه، فإن استأذن صاحب رأي يستفيد منه المسلمون لم يأذن له.
ثم يقول سبحانه :﴿ واستغفر لهم الله... ٦٢ ﴾( النور )، وكأن مسألة الاستئذان والقيام من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر لا يريده الله تعالى.
حتى إن استأذنت لأمر يهمك، وحتى إن أذن لك رسول الله، فالأفضل ألا تستأذن ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حين يدعو لأمر جامع يهم جماعة المسلمين، يجب ألا ينشغل أحد عما دعي إليه، وألا يقدم على مصلحة المسلمين ومجلس رسول الله شيئا آخر، ففي الأمر الجامع ينبغي أن يكتل الجميع مواهبهم وخواطرهم في الموضوع، وساعة تستأذن لأمر يخصك فأنت منشغل عن الجماعة شارد عنهم.
فحين تنشغل بأمرك الخاص عن أمر المسلمين العام، فهذه مسألة تحتاج إلى استغفار لك من رسول الله، فالرسول يأذن لك، ثم يستغفر لك الله.
﴿ لا تجعلون دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم٦٣ ﴾ :
قوله سبحانه :﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا.... ٦٣ ﴾( النور ) : فأنتم يدعو بعضكم بعضا في مسألة خاصة، لكن الرسول يدعوكم لمسألة عامة تتعلق بحركة حياة الناس جميعا إلى أن تقوم الساعة.
أو : إن الدعاء هنا بمعنى النداء يعني : يناديكم الرسول أو تنادونه ؛ لأن لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم آدابا يجب مراعاتها، فهو ليس كأحدكم تنادونه : يا محمد، وقد عاب القرآن على جماعة لم يلتزموا أدب النداء مع رسول الله، فقال :﴿ إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ٤ ﴾( الحجرات ).
فأساءوا حين قالوا : يا محمد، ولو قالوا حتى : يا أيها الرسول فقد أساءوا ؛ لأنه لا يصح أن يتعجلوا رسول الله، ويجب أن يتركوه على راحته، إن وجد فراغا للقائهم خرج إليهم، إذن : أساءوا من وجهين.
ولا يليق أن نناديه صلى الله عليه وسلم باسمه : يا محمد، لأن الجامع بين الرسول وأمته ليس أنه محمد، إنما الجامع أنه رسول الله، فلا بد أن نناديه بهذا الوصف. ولم لا وربه عز وجل وهو خالقه ومصطفيه قد ميزه عن سائر إخوانه من الرسل، ومن أولى العزم، فناداهم بأسمائهم :
﴿ يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة.... ٣٥ ﴾( البقرة ).
وقال :﴿ يا نوح اهبط بسلام منا... ٤٨ ﴾( هود ).
وقال :﴿ يا إبراهيم ١٠٤ قد صدقت الرؤيا.... ١٠٥ ﴾( الصافات ).
وقال :﴿ يا موسى إني أنا الله... ٣٠ ﴾( القصص ).
وقال :﴿ يا عيسى ابن مريم أأنت قلت الناس.... ١١٦ ﴾( المائدة ).
وقال :﴿ يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض... ٢٦ ﴾( ص ).
لكن لم يناد رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه أبدا، إنما يناديه ب " يا أيها " الرسول، يا أيها النبي. فإذا كان الحق- تبارك وتعالى- لم يجعل دعاءه للرسول كدعائه لباقي رسله، أفندعوه نحن باسمه ؟ ينبغي أن نقول : يا أيها الرسول، يا أيها النبي، يا رسول الله، يا نبي الله، فهذا هو الوصف اللائق المشرف.
وكما نميز دعاء رسول الله حين نناديه، كذلك حين ينادينا نحن يجب أن نقدر هذا النداء، ونعلم أن هذا النداء لخير عام يعود نفعه على الجميع.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم٦٣ ﴾( النور ).
لا شك أن الذين يستأذنون رسول الله فيهم إيمان، فيراعون مجلس رسول الله، ولا يقومون إلا بإذنه، لكن هناك آخرون يقومون دون استئذان :﴿ يتسللون... ٦٣ ﴾( النور ) : والتسلل : هو الخروج بتدريج وخفية كأن يتزحزح من مكان لآخر حتى يخرج، أو يوهمك أنه يريد الكلام مع شخص آخر ليقوم فينسلت من المجلس خفية، وهذا معنى﴿ يتسللون منكم لواذا.... ٦٣ ﴾( النور ) : يلوذ بآخر ليخرج بسببه.
ويحذر الله هؤلاء :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره... ٦٣ ﴾( النور ) : والتحذير إنذار بالعاقبة السيئة التي تترتب على الانسحاب من مجلس رسول الله، كأنه يقول لهم : قارنوا بين انسحابكم من مجلس الرسول وبين ما ينتظركم من العقاب عليه.
وقال :﴿ يخالفون عن أمره.... ٦٣ ﴾( النور ) : لا يخالفون أمره، فجعل في المخالفة معنى الإعراض، لا مجرد المخالفة، فالمعنى : يعرضون عنه.
والأمر : يراد به فعل الأمر أو النهي أو الموضوع الذين نحن بصدده يعني : ليس طلبا، وهذا المعنى هو المراد هنا : أي الموضوع الذي نبحثه ونتحدث فيه، فانظروا ماذا قال رسول الله ولا تخالفوه ولا تعارضوه ؛ لأنه وإن كان بشرا مثلكم إلا أنه يوحي إليه.
لذلك يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم مركزه كبشر وكرسول، فيقول : " يرد علي- يعني من الحق الأعلى- فأقول : أنا لست كأحدكم، ويؤخذ مني فأقول : ما أنا إلا بشر مثلكم ".
لذلك كان الصحابة يفهمون هذه المسألة، ويتأدبون فيها مع رسول الله، ويسألونه في الأمر : أهو من عند الله قد نزل فيه وحي، أم هو الرأي والمشورة ؟ فإن كان الأمر فيه وحي من الله فلا كلام لأحد مع كلام الله، وإن كان لم يرد فيه من الله شيء أدلى كل منهم برأيه ومشورته.
وهذا حدث فعلا في غزوة بدر حين نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا رأي بعض الصحابة أن غيره خير منه، فسألوا رسول الله : أهذا منزل أنزلكه الله، أم هو الرأي والمشورة ؟ فقال :" بل هو الرأي والمشورة " ١ فأخبروه أنه غير مناسب، وأن المكان المناسب كذا وكذا.
وقوله تعالى :﴿ أن تصيبهم فتنة... ٦٣ ﴾( النور ) : أي : في الدنيا ﴿ أو يصيبهم عذاب أليم٦٣ ﴾( النور ) : أي : في الآخرة، فإن أفلتوا من فتنة الدنيا فلن يفلتوا من عذاب الآخرة.
﴿ ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم٦٤ ﴾ :
ألا : أداة تنبيه لشيء مهم بعدها، والتنبيه يأتي لأن الكلام سفارة بين المتكلم والمخاطب، المتكلم عادة يعد كلامه، ولديه أنس بما سيقول، لكن المخاطب قد لا يكون خالي الذهن فيفاجئه القول، وربما شغله ذلك عن الكلام، فيضيع منه بعضه.
والحق- تبارك وتعالى- يريد ألا يضيع منك حرف واحد من كلامه، فينبهك بكلمة هي في الواقع لا معنى لها في ذاتها، إلا أنها تنبهك وتذهب ما عندك من دهشة أو غفلة، فتعي ما يقال لك، وهذا أسلوب عربي عرفته العرب، وتحدثت به قبل نزول القرآن.
ويقول الشاعر١ الجاهلي يخاطب المرأة التي تناوله الكأس :
ألا هبي بصحنك فاصبحينا **** ولا تبقي خمور الأندرينا٢
يريد أن ينبهها إلا الكلام المفيد الذي يأتي بعد.
وبعد ألا التنبيهية يقول سبحانه :﴿ إن لله ما في السماوات والأرض.... ٦٤ ﴾ : والسماوات والأرض ظرف فيهما كل شيء في الكون العلوي والسفلي، فلله ما في السماوات وما في الأرض أي : المظروف فيهما، فما بال الظرف نفسه ؟ قالوا : هو أيضا لله، كما جاء في آية أخرى :﴿ لله ملك السماوات والأرض... ٤٢ ﴾( النور ) : إذن : فالظرف والمظروف ملك له سبحانه.
وعادة ما يكون الظرف أقل قيمة من المظروف فيه، فما بداخل الخزينة مثلا أثمن منها، وما بداخل الكيس أثمن منه، وكذلك عظمة السموات والأرض بما فيهما من مخلوقات. لذلك إياك أن تجعل المصحف الشريف ظرفا لشيء مهم عندك فتحفظه في المصحف : لأنه لا شيء أغلى ولا أثمن من كتاب الله، فلا يليق أن تجعله حافظة لنقودك، أو لأوراقك المهمة ؛ لأن المحفوظ عادة أثمن من المحفوظ فيه.
وفي الآية :﴿ ألا إن لله ما في السماوات والأرض.... ٦٤ ﴾( النور ) : أسلوب قصر بتقديم الجار والمجرور، فكل ما في السماوات، وكل ما في الأرض ملك لله وحده، لا يشاركه فيه أحد، وعلى كثرة المفترين في الألوهية والفرعونية لم يدع أحد منهم أن له ملك شيء منها.
حتى إن النمرود الذي جادل أبانا إبراهيم عليه السلام وقال : أنا أحي وأميت لما قال له إبراهيم :﴿ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب... ٢٥٨ ﴾( البقرة ) : لم يستطع فعل شيء وبهت وانتهت المسألة.
وملكه تعالى لم يقتصر على الخلق، فخلق الأشياء ثم تركها تؤدي مهمتها وحدها، إنما خلقها وله تعالى قيومية على ما خلق، وتصرف في كل شيء، فلا تظن الكون من حولك يخدمك آليا، إنما هو خاضع لإرادة الله وتصرفه سبحانه.
فالماء الذي ينساب لك من الأمطار والأنهار قد يمنع عنك ويصيب أرضك الجفاف، أو يزيد عن حده، فيصبح سيولا تغرق وتدمر، إذن : المسألة ليست رتابة خلق، وليست المخلوقات آلات( ميكانيكية )، إنما لله الملك والقيومية والتصرف في كل ما خلق.
ثم يقول سبحانه :﴿ قد يعلم ما أنتم عليه.... ٦٤ ﴾( النور ) : لفهم هذه الآية لا بد أن نعلم أن علاقة الحق- تبارك وتعالى- بالأحداث ليست كعلاقتنا نحن، فنحن نعلم من علم النحو أن الأفعال ماض، وهو ما وقع بالفعل قبل أن تتكلم به مثل : جاء محمد، ومضارع وهو إما للحال مثل : يأكل محمد. أو للاستقبال مثل : سيأكل محمد.
أما بالنسبة لله تعالى، فالأحداث سواء كلها ماض وواقع، وقد تكلمنا في هذه المسألة في قوله تعالى :﴿ أتى أمر الله فلا تستعجلوه.... ١ ﴾( النحل ).
ومعلوم أن الاستعجال يكون للأمر الذي لم يأت بعد، والقيامة لم تأت بعد لكن عبر عنها بالماضي ( أتى ) لأنه سبحانه لا يعوقه ولا يخرجه شيء عن مراده، فكأنها أتت بالفعل، إذن :﴿ فلا تستعجلوه... ١ ﴾( النحل ) ليست منطقية مع كلامك أنت، إنما هي منطقية مع كلام الله.
كذلك في قوله تعالى :﴿ قد يعلم ما أنتم عليه... ٦٤ ﴾( النور ) : فقد : للتحقيق، ويعلم بالنسبة لله تعالى تعني علم، لكنه بالنسبة لك أنت يعلم. إذن : فهناك طرف منك وطرف من الحق سبحانه، فبالنسبة للتحقيق جاء بقد، وبالنسبة للاستقبال جاء بيعلم.
ثم يقول سبحانه :﴿ ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم ٦٤ ﴾( النور )، وجاء في آية أخرى :﴿ وما يعزب٣عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين٦١ ﴾( يونس ).
فإياك أن تفهم أن نظر الله ورؤيته سبحانه للأبعاض المختلفة في الأماكن المختلفة رؤية جزئية، تتجه إلى شيء فلا ترى الآخر، إنما هي رؤية شاملة، كأن لكل شيء رؤية وحده، وهذا واضح في قوله تعالى :﴿ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت... ٣٣ ﴾( الرعد ) :
فسبحانه لا يشغله سمع عن سمع، ولا بصر عن بصر، فبصره سبحانه محيط، واطلاعه دقيق ؛ لذلك يأتي جزاؤه حقا يناسب دقة اطلاعه، فإياك إذن أن تغفل هذه الحقيقة، فربك قائم عليك، ناظر إليك، لا تخفى عليه منك خافية.
فيا من تسلل لواذا احذر، فلا شيء أهم من مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله نفسه كان حريصا أن يرى أصحابه في مجلسه باستمرار، والله تعالى يوصيه بذلك فيقول له :﴿ ولا تعد عيناك عنهم.... ٢٨ ﴾( الكهف ).
وكان بعض أصحابه يصلي خلفه، فكان عندما يسلم ينصرف الرجل مسرعا فيراه صلى الله عليه وسلم في أول الصلاة، ولا يراه في آخرها، فاستوقفه في إحدى الصلوات وقال له : " أزهدا فينا " ؟ وكأنه يعز على رسول الله أن يجد أحد أصحابه لا يتواجد مع حضرته، أو يزهد في مجلسه، فيحرم من الخيرات والتجليات التي تتنزل على مجلس رسول الله، ويحرم من إشعاعات بصيرته وبصره إليه.
لذلك أحرج الرجل، وأخذ يوضح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدفعه كل صلاة إلى الإسراع بالانصراف، وأن هذا منه ليس زهدا في حضرة رسول الله ومجلس رسول الله، فقال : يا رسول الله إن لي امرأة بالبيت تنتظر ردائي هذا لتصلي فيه.
يعن : ليس لديه في بيته إلا ثوب واحد، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالخير، فلما عاد لزوجته سألته عن سبب غيابه، فقص علها ما كان من أمر رسول الله، وأنه استوقفه وحكى لها ما دار بينهما، فقالت لزوجها : أتشكو ربك لمحمد ؟.
ولما سألوها بعد ذلك قالت : " غاب عني مقدار مائة تسبيحة " فانظر إلى ساعتها التي تضبط عليها وقتها.
٢ البيت من معلقة عمرو بن كلثوم. والصحن: القدح العظيم. والأندرون: قرى بالشام. قال الزوزني في شرحه (ص١٢٥):" ألا استيقظي من نومك أيتها الساقية واسقيني الصبوح بقدحك العظيم ولا تدخري خمر هذه القرى"..
٣ عزب الأمر يعزب: بعد وغاب وصعب مطلبه. أي: لا يغيب ولا يبعد عنه أي شيء فهو يعلم الصغير والكبير من الأمور والأشياء.(القاموس ٢/١٨)..