ﰡ
الذي له ملك السماوات والأرض، ولم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدره تقديرا ".
المفردات والتراكيب :
( تبارك ) مادة ( ب رك ) كلها ترجع إلى معنى الثبوت، منها : بروك الإبل، استناختها، والبركة كالقربة مثل الحوض يثبت فيها الماء. والبراكاء الثبات في الحرب، و منها البركة بمعنى النماء والزيادة، و لا ينمو ويزيد إلا ما كان ثابت الأصل، وشأن ثابت الأصل أن ينموا ويزيد، فلم تخرج عن معنى الثبوت١ و تبارك من البركة فمعناه تزايد خيره.
والله تعالى له الكمال، ومنه الإنعام، فتبارك : أي تزايد كماله و إنعامه، فلا تحصى إنعاماته، ولا تحد كمالاته.
و ثبوت الكمال ينافي و ينفي ضده ؛ فيقتضي التنزه عن النقص.
فانتظم اللفظ ثلاثة معاني :
التنزه عن النقص، والاتصاف بالكمال، والإفاضة للإنعام. ( فتبارك : تقدس وتعاظم ) الفعل الأول مفيد للأول والفعل الثاني والثالث.
نزل ) مادة ( ن زل ) كلها ترجع إلى معنى الهبوط من عل، والحلول في أسفل.
ونزل المضاعف أبلغ في المعنى من أنزل، وقد يفيد كثرة النزول كما هنا ؛ لأنه نزله مفرقا على نيف و عشرين سنة. وقد يفيد القوة في نزول واحد كما في قوله تعالى :" لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " ؛ لأن تنزيل أقوى من إنزال التفصيل.
( الفرقان ) أصله مصدر فرق بمعنى فصل. و هو أبلغ في الدلالة على المعنى من فرق المصدر المجرد، بما فيه من زيادة الألف والنون، كما كان القرآن أبلغ من القراءة لذلك.
و هو هنا اسم من أسماء هذا الكتاب الكريم.
( نذير ) مادة ( ن ذ ر ) كلها ترجع على الإعلام والتحتيم، فمنها : نذر على نفسه الصوم أوجبه وحتمه و أعلم به ونذر بالعدو كفرح علم به و أنذره، أعلمه و لا يستعمل إلا في إبلاغ ما فيه تخويف، فهو إعلام بتأكيد وتحتيم. ونذير هنا بمعنى منذر من فعيل بمعنى مفعل.
( الذي نزل ) عرف المسند إليه بالموصولية لزيادة تقرير الغرض الذي إليه سيق الكلام٢ لأن الغرض بيان كمالات الله تعالى، و إنعاماته، و تنزيل الفرقان منها، فهو من أعظم نعم الله على البشر، و من آيات الله الدالة على قدرته وعلمه و حكمته.
( عبده ) إضافة تشريف لأنه أكمل العباد. ٣.
المعنى :
تقدس وتعاظم الرب الذي نزل الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال وحزبيهما من الناس. مفصلا آيات على – محمد صلى الله عليه و آله وسلم-أكمل عباده ؛ ليكون بذلك الكتاب – لجميع الإنس والجن – منذرا لهم يعلمهم بعذابه، و يخوفهم بشديد عقابه إن لم يعبدوه وحده، و يخلعوا غيره من آلهتهم الباطلة، و يدخلوا في الدين الذي جاءهم به وهو الإسلام.
توحيد :
هذا الفعل وهو( تبارك ) لا يسند إلا إلى الله تعالى٤ ؛ ذلك لأن العظمة الحقيقية بالكمال و الإنعام والتقديس بالتنزه التام ليسا إلا له. وما من كامل من مخلوقاته إلا وهو – جل جلاله – الذي كمله. وما من منعم عليه منهم إلا وهو تعالى الذي أنعم عليه، وما من زكي منهم إلا وهو- سبحانه- الذي زكاه.
سلوك :
هذا الرب الكامل المكمل، المنعم المتفضل القدوس، هو الذي أنزل هذا الفرقان. فإذا أردت أن ترقى في درجات الكمال، و تظفر بأنواع الإنعام وتزكي نفسك الزكاة التام، فعليك بهدى هذا الفرقان، فهو باسط القدس، و معراج الكمال، و مائدة الإكرام.
و قد سئلت عائشة – رضي الله عنها – عن خلق النبي – صلى الله عليه و آله وسلم – فقالت :" كان خلقه القرآن ".
فقه واستنباط :
تحكيم القرآن في كل شيء :
لما سمى الله كتابه الفرقان، علمنا أنه به يفرق بين الحق والباطل، و أهل هذا وذاك. فهو الحكم العدل، والقول الفصل بين كل متنازعين يدعي كل منهما أنه، على حق، فيما هو عليه من عقد، أو قول، أو عمل.
فما تقابل حق وباطل، و ما تعالجت حجة و شبهة إلا و في هذا الكتاب الحكيم ما يفرق ما يفرق ما بينهما. و إنما يتفاوت الناس في إدراك ذلك منه على حسب ما عندهم من قوة علم، وصدق بصيرة، وحسن إخلاص.
فعلينا – إذن – أن يكون أول فزعنا في الفرق والفصل إليه.
و أن يكون أول جهدنا في استجلاء ذلك من نصوصه و مراميه، مستعينين بالسنة القولية والعملية على استخراج لآليه.
فإذا حكم قبلنا و سلمنا و كنا مع ما حكم له، و فارقنا ما حكم عليه ؛ فالله سماه الفرقان، لنعلم أنه فارق بنفسه، ولنعمل بالفرق به، ولا يكمل إيماننا بأنه الفرقان، إلا بالعلم والعمل.
الإنذار بالقرآن :
ولما – جعل – تعالى – غاية تنزيل الفرقان أن يكون عبده نذيرا،
اقتضى ذلك أن نذارته تكون بالقرآن، لتقوم الحجة، وتتم الحكمة، وتحصل الفائدة و تشمل النعمة.
و قد صرح بهذا في قوله تعالى :
" كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به ". ٥
" أوحي إلي هذا القرآن لأنذر به ومن بلغ " ٦
" إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها، وله كل شيء، وأمرت أن أكون من المسلمين و أن أتلو القرآن " ٧
" فذكر بالقرآن من يخاف وعيد " ٨.
" و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله٩ ".
فعلينا – إذن – أن نعلم أن القرآن هو كتاب النذارة والهداية، فنستخرج أصولها وفنونها من آياته، وهذا حظ العلم. و أن يكون اهتداؤنا في أنفسنا و هدينا لغيرنا به وهذا حظ العمل وهما ركنا الإيمان.
تطبيق وتحاكم :
تنازع ورده إلى القرآن :
في العالم الإسلامي كله اليوم طائفتان من المؤمنين١٠، يتنازعان خطة الهداية والنذارة والتذكير.
ولكل منهما – في سلوكها للقيام بتلك الخطة – سبيل.
وكل منهما تدعي أنها على الصواب، و أنها الأحق و الأولى بنفع العباد.
فرأينا أن نطبق فصل الفرقان عليهما، وننظر : كيف يفرق ما بينهما ومن هي المصيبة أو المخطئة. وفي ضمن ذلك تحاكمهما إليه وفصل النزاع بينهما بحكمه.
و إنما اخترناهما للتطبيق والتمثيل، لخطر الخطة التي تنازعا عليها، و عظيم النفع والضرر الذي يحصل من خطأ المخطىء، وصواب المصيب بها.
و لأن الهداية والنذارة والتذكير أمور لها أنزل القرآن، فتنازعهما عليها تنازع عليه.
فأحق فصل أن نمثل به لنعلمه هو فصله بين المتنازعين فيه.
وها نحن نعرض بعض الحال كل طائفة في قيامها بالخطة، ثم نسوق آيات القرآن، وننظر من أسعد الطائفتين بها :
الطائفة الأولى :
يذكرون من يدعونهم بغير القرآن بأحزاب وأوراد من وضعهم، لا مما ثبت عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – إلا قليلا.
ولهم عليهم في أموالهم حق في أوقات من السنة معلومة.
والطائفة الثانية :
يذكرون الناس بالقرآن فيأمرونهم بقراءته وتدبره، و يبينون لهم معانيه، و يحثونهم على التمسك به والرجوع إليه.
و يدعونهم إلى الأذكار النبوية الثابتة في الكتب الصحاح، لرجوعها إلى القرآن لحكم قوله تعالى :" وما آتلكم الرسول فخذوه " ١١.
و لا يطلبون عليهم في ذلك أجرا.
حكم الله :
و الله تعالى يقول في الحال الأول :" فذكر بالقرآن " ١٢ وغيرها من الآيات المتقدمة في هذا المجلس.
و يقول – تعالى – في الحال الثانية لنبيه صلى الله عليه و آله وسلم :
" قل ما أسألكم عليه أجرا إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا. ١٣
" قل ما أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ". ١٤
ويقول في آية صريحة صراحة تامة في بيان من يجب أن يتبع من الدعاة :
" اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون١٥ ".
و من هم المهتدون ؟ هم المتبعون – للنبي – صلى الله عليه و آله وسلم – لقوله تعالى :" فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي "، الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ". واتباعه بالنسبة لموضوعنا هو اتباعه في طريق دعوته الخلق إلى الله.
وقد ثبت بالقرآن أنه كان يدعوا بالقرآن، ويذكر به، وأنه لا يسأل على ذلك أجرا.
بأن – والحمد لله – بما ذكرنا حكم القرى، بين الطائفتين، واتضح طريق الحق في الدعوة و الإرشاد لمن يريد سلوكه منهما.
والله نسأل لنا ولهم قبول الحق والتعاون عليه والقوة والإخلاص في الصدع به والثبات عليه.
" يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء " ١٦.
٢ و ذلك لأن الموصول يقتضي صلة توضحه وتشرحه..
٣ للإمام بحث شاف واف كاف في " من هدى النبوة " في بيان معنى العبد والعبودية، فارجع إليه إن شئت ص ٣٥. وخلاصته : أن العبد في اللغة هو خلاف الحر. والعبودية هي طاعته مع الخضوع والتذلل و المملوكية التي هي أصل المعنى مستلزمة لها، وحقيقة العبودية لله أنها وصف ثابت عام في كل مخلوق في دائرة خلقه وقبضة أمره : العبودية لله طاعته والخضوع له، وبذلك يحصل الكمال للفرد الطائع الخاضع و بذا يحصل السعادتين في الدنيا والآخرة و لذا و صف نبيا بالعبودية و التكريم..
٤ أي لا يقال لمخلوق تبارك وتعالى..
٥ الأعراف الآية ٢..
٦ الأنعام الآية ١٩..
٧ النمل، الآيتان : ٩ – ٩٢..
٨ ق الآية ٤٥..
٩ التوبة الآية ٦..
١٠ يشير على جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وعلى شاكلتها، وإلى الطرقية..
١١ الحشر، الآية ٧..
١٢ سورة ق الآية ٤٥..
١٣ سورة الفرقان الآية ٥٧..
١٤ الشورى الآية ٢٣.
١٥ سورة يس الآية ٢١..
١٦ - سورة الأعراف الآية ١٥٨.
والرسول الكريم ورد رب العالمين
" وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه و أعانه عليه قوم آخرون، فقد جاءوا ظلما و زورا.
و قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة و أصيلا.
قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات و الأرض إنه كان غفورا رحيما " ١
( سورة الفرقان الآيات ٤، ٥، ٦ )
الألفاظ
( كفروا ) غطوا الحق بإنكاره وعدم الاعتراف والإعلان به. وكل من غطى شيئا وستره فقد كفره. وسمى الليل كافرا لأنه يغطي الأشياء بظلامه، والزارع كافر لأنه يغطي البذر بالتراب.
( إفك ) : كذب مصروف عن وجه الحق، من أفكه يفكه أفكا أي صرفه.
( افتراه ) : اختلقه واخترع صورته
( جاءوا ) وردوه وانتهوا إليه.
( ظلما ) : وضع الشيء في غير موضعه.
( زورا ) : شهادة بالباطل.
( أساطير ) : جمع أسطورة أي أخبار وحكايات مسطورة في كتب الأوائل. ليست محل الثقة.
( اكتتبها ) : أمر بكتابتها له، وافتعل يأتي للطلب كاحتجم واقتصده.
( تملى ) تلقى عليه ليحفظها فيلقيها على الناس.
( بكرة ) ما بين الفجر والطلوع، ( أصيلا ) ما بعد العصر إلى الغروب ( السر ) الخفي من كل شيء.
( غفورا ) ستار للذنوب كثير التجاوز عنها ( رحيما ) دائم الإفاضة للنعم.
المعنى :
وقال الذين أنكروا الحق – مع ظهوره وجحوده مع وضوحه - : ما هذا الكلام الذي يتلوه محمد علينا، إلا كلام كذب مصروف عن وجه الحق، اخترعه وصوره، وأعانه عليه غير أناس آخرون.
فقد سموا الحق الصراح والصدق الخالص إفكا.
وجعلوا إخبار الأميين الذين كانوا يدعونه هم أمينا – افتراء.
و جعلوا القرآن الذي عجزوا عن معارضته، كلاما متعاونا على تركيبه و تصويره، فسموا الشيء بغير اسمه، ووضعوا الوصف في غير موضعه.
فانتهوا بذلك إلى ظلم عظيم أتوه ووقعوا فيه.
وقد شهدوا بالباطل فنسبوا للرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – ما هو بريء منه من الافتراء والاستعانة بغيره، فانتهوا إلى وزر عظيم تحملوه.
و قالوا – أيضا - : هذا الذي يتلوه علينا، هو من أخبار الأوائل وكتبهم المسطورة التي سطروها من أعاجيب أحاديثهم، مما يتلهى به ولا يوثق بصحته.
توصل إليها من غيره أمر فكتبت له فكاتبها له يمليها عليه دائما في طرفي النهار فيحفظها هو و يأتينا بها.
قل – يا محمد – أنزل هذا الذي أتلوه عليكم الخالق الذي يعلم الشيء الخفي، والأمر المكتوم في العالم العلوي والعالم السفلي.
أمهلكم فلم يعاجلكم بالعذاب، وبقي يجدد لكم التذكير مع إعراضكم وعنادكم، وقبح صنيعكم، و سوء ردكم، إلا أنه من شأنه الصفح والتجاوز ودوام الإنعام والتفضل.
فهل لكم أن ترجعوا إلى هذا الرب الغفور الرحيم ؟
مزيد بيان :
بسط الكلام لتوضيح المقام
بهر العرب ما رأوا وما سمعوا من رجل، كان بالأمس معرضا عنهم تاركا لهم وشأنهم، يشهد موسم الحج معهم و يحتسب مشاهد وثنيتهم، ولكنه لا يعاديهم و لا ينكر عليهم، و يسير بينهم بالصدق والجد والعفاف وكمال المروءة سيرة تخالف سيرتهم ؛ فهم لذلك يحبونه ويعظمونه ويدعونه الأمين، لقبا خصصوه به فصار يدعى به بينهم.
فأصبح اليوم – وقد جاوز الأربعين – ينكر عليهم، ويسفه أحلامهم، و يقبح عبادتهم وما يعبدون، و يصبر على أذاهم ولا يقابلهم بالمثل، ويستمر على دعوته غير مبال بهم، ولا حاسب شيئا لكثرتهم، ولا لسطوتهم.
( ومن كلام مثل كلامهم في ألفاظه وتراكيبه، ثم هم يعجزون عن معارضته بمثل أقصر سورة منه.
ثم يشهدون الفرق بينه وبين كلام محمد نفسه ؛ فهو إذا حدثهم بما اعتادوا من حديثه معهم، حتى إذا تلا عليهم القرآن جاءهم بما هو فوق كلامه وكلامهم، وما تقصر عن معارضته ألسنتهم.
مزاعم الكفار :
بهرهم هذا، وهذا، و أخذ العناد بعقولهم، واستحوذت عليهم شياطينهم فحاروا فيما يقذفون به هذا الرسول وهذا الكتاب.
فأخذوا يقولون عن الكتاب :
إنه إفك مفترى ! ! ورأوه أكبر مما كانوا يسمعون من كلام محمد فلم يكن ليأتي به وحده وهو فوق المعتاد من كلامه، فإذا هنالك أقوام يعينونه.
ومن هم الأقوام ؟ وهو- بعد – في نفر قليل ممن آمن به، وهم م في كثرتهم وتساندهم، وقد عجزوا عن الإتيان بشيء مثله، فالقليل أحرى بالعجز من الكثير٢.
حكاية الأساطير
ويقولون : إنه أساطير الأولين، وقد كان منهم من عرف شيئا من أخبار للفرس وملوكهم، وكان يحدثهم بها، ويقصها عليهم، ويزعم لهم أنها مثل ما يأتي به محمد فقالوا – وقد علموا الفرق – هذه منها وهي مثلها !.
ولكن محمدا عرفوه أميا لا يقرأ ولا يكتب، فكيف اتصل بهاته التي زعموها أساطير ؟
فاخترعوا وسيلة لذلك أنه يكتبها له غيره و يمليها عليه وهو يحفظها ! !
ومن هو هذا الذي يكتب ويملي عليه، وهم قد عرفوا مدخل محمد ومخرجه ومغداه ومجلسه، وعرفوا بلدتهم ومن يساكنهم فكيف لا يرونه و لا مرة بين يدي هذا الكاتب المملي، ولا يشاهدونه يوما في صحبته ؟ !
فاخترعوا لذلك أنه يمليها عليه في طرفي النهار في ظلام من الوقت، وسكون من الناس.
و قالوا في الرسول– صلى الله عليه وآله وسلم – إنه مفتر، يستعين على افترائه بغيره، ويتظاهر باستقلاله، وينسب لله ما هو من حكايات الأوائل و أوضاعهم. فيكذب عليه – تعالى – لديهم.
والرد عليهم
رد الله عليهم كل ما قالوا فيهما :
بأنه ظلم وزور.
و أن ما يتلوه عليه هذا النبي الكريم، من ذلك الكتاب الحكيم، ليس إلا من خالق المخلوقات، العالم بأسرارها.
أسلوب في البيان :
لقد جاءوا الظلم والزور في قولهم الأول، و قولهم الثاني٣.
إيجاز في الرد
وقوله :" قل " أمر بما يرد قولهم الأول، وقولهم الثاني. غير أنه قصد إلى الإيجاز وعدم التكرار.
فجعل مع قولهم الأول الوصف وهو الظلم، واكتفى بذكره٤هنا عن إعادته.
وجعل مع قولهم الثاني الدليل : وهو إنزال من يعلم السر واكتفى بذكره هنا عن ذكره مع الأول فحذف من كل ما أثبت مع الآخر٥وجعل الوصف مع الأول والدليل مع الثاني ترقيا من الدعوى للدليل.
وجه الدليل :
من إعجاز القرآن
القرآن أعجز العرب ببلاغته، حتى عرفوا – وعرف – العلماء بلسانهم المرتاضين ببيانهم – أنه ليس مثله من طوق البشر. هذه هي الناحية الظاهرة في إعجاز القرآن والاستدلال به وله ولمن أتي به – صلى الله عليه وآله وسلم -.
وهنالك ناحية أخرى هي أعظم وأعم / وهي ناحيته العلمية التي يذعن لها كل ذي فهم من جميع الأمم، في كل قطر وفي كل زمن.
وهذه الناحية هي التي احتج بها في هذا الموطن :
فقد استدل على القرآن لا يمكن أن يكون أتى به محمد من عنده، ولا يمكن أن يستعين عليه بغيره، و لا أن يكون من أوضاع الأوائل، بأنه ينطوي على أشياء من أسرار الأمم الخالية، وبين من أسرار الكتب الماضية :
وما أنبأ به من أحداث مستقبلة، و ما ذكر من حقائق كونية، كانت لذلك العهد عند جميع البشر مجهولة كالزوجية في كل شيء، وسبح الكواكب في الفضاء، وسير الشمس إلى مستقر مجهول معين عند الله لها.
وغير ذلك من أسرار العمران والاجتماع، وما تصلح عليه حياة الإنسان، مما تتوالى على تصديقه تجارب العلماء إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم.
فكتاب اشتمل على كل هذه الأسرار لا يمكن أن يأتي به مخلوق.
ترغيب :
قد دعانا الله إلى العلم ورغبنا في غير ما آية، وأعلمنا أنه خلق لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعا.
وأمرنا بالنظر في خلقه لنا و أعلمنا هنا أن هذه المخلوقات أسرار بينها القرآن واشتمل عليها.
وكان ذلك من حجته العلمية على الخلق فكان في هذا ترغيب لنا في التقصي في العلم والتعمق في البحث٦لنطلع على كل ما نستطيع الاطلاع عليه من تلك الأسرار : أسرار آيات الأكوان والعمران، و آيات القرآن ؛ فنزداد علما وعرفانا، ونزيد الدين حجة وبرهانا، ونجني من هذا الكون جلائل ودقائق النعم، فيعظم شكرنا للرب الكريم المنعم.
فقهنا الله في كتابه، ووفقنا إلى الاهتداء به، والسير على سننه.
٢ إذ زعموا أن أصحابة عاونوه في هذا الصدد..
٣ قولهم الأول :" إفك افتراه " والثاني :" أساطير الأولين اكتتبها "..
٤ عقب قولهم الأول..
٥ كقوله تعالى :" ومالي لا أعبد الذي فطرني و إليه ترجعون " إذ حذف : وفطركم، وإليه أرجع..
٦ علما وعملا..
" وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ".
( سورة الفرقان الآية ٢٠ )
المناسبة :
لما طعنوا في رسالته، بأنه بشر يفعل ما يفعله البشر بقولهم :" مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق "، رد الله عليهم بأن هذا هو حال جميع المرسلين من قبله، واحتج عليهم بما يعلمون من ذلك بما يسمعون من أهل الكتاب جيرانهم، وبما عندهم من أخبار عاد وثمود من بني جلدتهم.
المفردات :
( الإرسال ) هو البعث لتبليغ شيء أو قضائه و في لسان الشرع : هو إنزال الله تعالى الوحي على من اصطفاه من خلقه لينذر به من أمره بإنذاره. من قوله : تعالى :" و إنه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ". فالرسالة وحي مع أمر بالتبليغ.
التراكيب :
مفعول أرسلنا محذوف تقديره رجالا، وعليه عاد الضمير في أنهم. وهو صاحب الحال، والحال هي الجملة التي بعد إلا، والجملة الثانية١حال بالعطف على الأولى. والاستثناء مفرغ من الأحوال.
وتقدير الكلام : وما أرسلنا قبلك رجالا من المرسلين إلا حالة أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق : أي ما أرسلناهم في حالة من الأحوال إلا في هذه الحال.
و إن واللام والحصر بما و إلا، كل هذه لتأكيد المعنى الذي سيق إليه الكلام، و هو إثبات أن رسول البشر لا يكون إلا بشرا ردا على منكري ذلك المشركين.
وعبر بالمضارع في يأكلون ويمشون ؛ لأنهما من ضروريات بشريتهم، فهو يتجدد ويتكرر منهم.
وأكل الطعام والمشي في الأسواق كناية عن البشرية، لأنهما وصفان لازمان لها.
المعنى :
وما ينكر عليك هؤلاء من أكلك الطعام، ومشيك في الأسواق، مع أنك رسول الله !وقد علموا أنه ما من رسول كان قبلك إلا وهذه حالته، وما أنت إلا واحد منهم، غلا عيب عليك في ذلك، و لا حجة لهم عليك به.
تاريخ :
شنشنة معروفة
هذه المقالة شنشنة قديمة من الأمم التي أرسلت إليها الرسل، فقبلتها بالجهل والعناد.
فقد قال لنوح قومه :" ما نراك إلا بشرا مثلنا "
وقال لهود قومه :" ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ".
ولصالح :" ما أنت إلا بشر مثلنا ".
و لشعيب :" وما أنت إلا بشر مثلنا ".
و لموسى وهارون :" أنؤمن لبشرين مثلنا "
و عن قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم أنهم قالوا لرسلهم " إن أنتم إلا بشر مثلنا "
فقال المشركون للنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ما قاله أمثالهم لإخوانه المرسلين عليهم الصلاة والسلام.
تعديل :
و سوء نظر وغباوة
ما اعترض المعترضون على الرسل ببشريتهم إلا من جهلهم، وسوء نظرهم، وغباوتهم.
١ – أما جهلهم : فقد جهلوا ما في البشرية من استعداد لنيل أرقى الكمالات.
وجهلوا ما تقتضيه الرسالة من مشاكله بين الرسول والمرسل إليهم لتحصل المفاهمة والاتصال.
و جهلوا ما يؤهل به البشر لرتبة الرسالة من كمال في الروح، والعقل، والأخلاق، والسلوك، مما كان الرسل متصفين به كله أمام أعين أقوامهم.
٢- وأما سوء نظرهم :
فإنهم نظروا إلى بشرية الرسل فقاسوهم بهم، وقالوا لهم : أنتم مثلنا، مع وجود الفارق الواضح بينهم وبين الرسل في الصفات النفسية التي بها كمال الإنسان !
٣_ وأما غباوتهم : فإنهم لغلبة الجسمانيات على حسهم وإهمالهم استعمال عقولهم، لم يتفطنوا للكمال المشاهد الذي امتاز به الرسل بين أقوامهم
تعليم :
هذه العلل التي صدر اعتراض المعترضين عنها، قد علمنا الله تعالى في كتابه العزيز ما يعصمنا منها :
١ – فعلمنا : أن الإنسان مستعد لأن تخضع له العوالم بما فيه من روح الله. ٢
وأنه يلتحق بعالم الملائكة الأطهار، بتلك الروح عندما تكون على أصل طهرها وقدسها.
علمنا هذا بقوله تعالى :" فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " فأخضع له ملائكته أشرف العوالم.
وبقوله تعالى :" قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم " فاتصل بهم، وخاطبهم، وعلمهم.
فلا عجب أن يأتي المماثلون له من أبنائه في طهره وعصمته على سنته في الاتصال بالملائكة، ومخاطبتهم.
٢- وعلمنا : أن الرسول لا يكون إلا من جنس المرسل إليهم، ليحصل الاتصال، و يمكن التلقي. وأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لأرسل لهم ملك، و أنهم لو أنزل عليهم بشر لكسى حلة البشرية و لا لتلبس عليهم أمره، و لقالوا فيه مثل ما قالوا في المرسلين من البشر.
علمنا هذا بقوله تعالى :" قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ".
و بقوله تعالى :
" ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسناه عليهم ما يلبسون ".
٣- وعلمنا : أن البشر يؤهل للرسالة باصطفاء الله له، و من مقتضى ذلك الاصطفاء تطهيره من أول نشأته من أوضار البشرية، وظلم الجسمانية وتسفلها فتبقى روحه على غاية الطهر، والعلوية النورانية مستعدة للاتصال بالملأ الأعلى، حتى تستكمل قواها فيأتيها الملك بالوحي.
علمنا هذا بمثل قوله تعالى :" الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ".
وقوله تعالى :" وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ".
وقوله تعالى :" الله أعلم حيث يجعل رسالته " وغيره كثير٣.
البشر والرسل
٤- وعلمنا : أن الرسل و إن كانوا موافقين لنا الخلقة البشرية..
فإنهم مباينون لنا غاية المباينة في الخلقة النفسية، من حيث الطهر والكمال :
فنفوسهم بقيت على طهرها لم تدنس بشيء، ونفوسنا لا تخلوا من تدنس، والموفق من داوم على غسلها بالتوبة وتحليتها بالصالحات.
وكمالهم فطري، ويبلغون فيه- بعملهم المتواصل، وعصمتهم الربانية – إلى الغايات التي لا تنال، وكمالنا ليس كذلك في الأمور الثلاثة : الفطرة، والعمل المتواصل، والعصمة.
علمنا هذه بقوله تعالى :" إن نحن إلا بشرا مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ".
فبالنظر الصحيح فيما من الله تعالى عليهم به، ندرك أنهم ليسوا مثلنا، وإن ساوونا في الخلقة البشرية.
٥ – وعلمنا : ألا ننظر إلى ظواهر الأمور دون بواطنها، و إلى الجسمانيات الحسية دون ما وراءها من معان عقلية، بل نعبر من الظواهر إلى البواطن، وننظر من المحسوس إلى المعقول. ونجعل حواسنا خادمة لعقولنا، ونجعل عقولنا هي المتصرفة الحاكمة بالنظر والتفكير٤.
علمنا هذا بقوله تعلى :" لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث " فلا ينظر إلى بهرجة الكثرة، ولكن إلى حقيقة وحالة الشيء الكثير فيعتبر بحسبهما.
النظرة إلى الغنى والفقر
وبقوله :" فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه، فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن، كلا " فلا يجوز أن نغتر بالمال، والقوة، والجاه، وأنواع النعيم إذا سيقت إلينا فنحسب أنها هي نفس الكرامة الربانية التي دعينا إلى العمل لنيلها، بل إنما نعدها كذلك إذا كان معها التوفيق إلى شكرها بالقيام بحقوقها، وصرفها في وجوهها.
ولا نغتر بحالة الضيق، والعسر، والضعف فنحسب أنها إهانة من الله لصاحبها. بل علينا أن ننظر إلى ما معها من صبر ورجاء وبر، أو ضجر ويأس وفجور.. فنعلم حينئذ أنها مع الأولى للتمحيص والتثبت، ومع الأخيرة للزجر والعقاب بعدل وحكمة من أحكم الحاكمين.
وبقوله تعالى :" قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ".
فعلمنا أنه بشر، ولكنه خصص بالوحي إليه بتوحيد الله، وبما يقتضيه مقام الإيحاء إليه من طهر وكمال، حتى لا يحجب عنا بشريته التي نشاهدها بأبصارنا كمال حاله ومنزلته الذي ندركه ببصائرنا.
عقيدة :
من هو الرسول :
الرسول إنسان ذو روح طاهرة نورانية علوية ؛ بها تأتى له تلقي الوحي من الملائكة.
وذو جسد بشري عليه ضروريات البشرية الخلقية دون نقائصها الكسبية، لأنه مصرف بتلك الروح العلوية الطاهرة التي لا يصدر عنها إلا الخير، وبهذا الجسد البشري تأتى للبشر الأخذ عنه والإقتداء به.
ومأخذ هذه العقيدة من الآيات التي تلوناها في فصل التعليم المتقدم.
تحذير :
خطا النظر السطحي
علينا أن نحذر من أن نعترض أو نحكم بالأنظار السطحية، دون بحث عن الحقائق، أو أن نلحق شيء بشيء دون أن نتحقق انتفاء جميع الفوارق، فقد انتشرت بعدم الحذر من هذين الأمرين جهالات، وارتكبت ضلالات.
وبالنظر السطحي ازدرى إبليس آدم فامتنع من السجود له واعترض على خالقه، فكانت عليه اللعنة إلى يوم الدين.
وبعد النظر إلى الفوارق، قال أحد ابني آدم لأخيه لما قبل قربانه دونه هو :" لأقتلنك "، حتى ذكره أخوه بوجود الفارق فقال :" إنما يتقبل الله من المتقين ".
حقيقة الأول ترجع إلى الجهل المركب٥. وحقيقة الثاني ترجع إلى القياس الفاسد٦، وهما أعظم أصول الفساد والضلال.
سلوك :
الأنبياء والمرسلون أكمل النوع الإنساني، وهم المثل الأعلى في كماله وقد كان أصل كمالهم بطهر أرواحهم و كمالها ؛ فاقبل على روحك بالتزكية والتطهير، والترقية والتكميل، و لا سبيل إلى ذلك إلا بالإقتداء بهم، والاهتداء بهديهم.
وقد قال الله تعالى لنبينا – عليه وعليهم الصلاة والسلام :" أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ".
فاقرأ ما قصة القرآن العظيم من أقوالهم وأعمالهم، وأحوالهم وسيرهم، وتفقه فيه، وتمسك به، تكن إن شاء الله – تعالى – من الكاملين.
فتنة العباد بعضهم لبعض
" وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ؟ وكان ربك بصيرا "
وجه الارتباط
أفاد ما تقدم منت الآية، أن الرسل يأكلون الطعام فيحتاجون للغذاء وتحصيله. وأنهم يمشون في الأسواق للسعي والتكسب، و أفاد آخر الآية الحكمة الربانية في ذلك ؛ وهي أن يكون بذلك فتنة واختبارا للعباد، وتلك سنة الله تعالى في خلقه : فقد جعل بعضهم لبعض فتنة.
المفردات
قال في " لسان العرب " للأزهري وغيره : جماع معنى ( الفتنة ) الابتلاء، والامتحان، والاختبار. وأصلها مأخوذ من قولك : فتنت الفضة والذهب إذا أذبتهما بالنار لتميز الرديء من الجيد ا ه ومنه قوله تعالى :" أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا : آمنا وهم لا يفتنون " وقوله :" إنما أموالكم وأولادكم فتنة ". وقوله :" وفتناك فتونا ". وقوله :" و نبلوكم بالشر والخير فتنة ".
( أتصبرون ) الصبر حبس النفس على المكروه. والمكروه لها فعل ما فيه تعب، و ترك ما فيه لذة. ويكون في المشروع والمقدور. ففي الأول بالقيام بالمأمورات، والترك للمنهيات. وفي الثاني بالرضا والتسليم في المصائب والبلايا للخالق، وعدم الاعتراض عليه، وعدم السعي في إزالتها بغير الوجه المأذون فيه.
و ( البصير ) هو المشاهد للأشياء ظاهرها وباطنها، ذواتها ونعوتها وأحوالها ؛ مباديها وغاياتها وعواقبها.
التراكيب
الاستفهام في ( أتصبرون ) بمعنى الأمر أي اصبروا وخرج الأمر في صورة الاستفهام تنبيها على قلة البصر في الوجود. فهو من الأمر المعدوم الذي يسأل عنه : هل يوجد ؟ وفي ذلك بعث للهمم على تحصيله والتمسك به.
وجملة ( وكان ) الخ معطوفة على جملة ( وجعلنا )، وعدل عن مقتضى الظاهر وهو وكنا بصراء بالإضمار إلى ( وكان ربك بصيرا ) بالإظهار، للتنبيه على أن فتنته لعباده من مقتضى ربوبيته لهم، وحسن تدبيره فيهم. وموقع هذه الجملة بعد الجملة الأولى لبيان أن فتنته لهم هي من علم وبصر بصواب ذلك وحكمته. و ا
٢ فروحانية الإنسان إذا فا وسما، ترفعه فوق الثريا. وظلما نيته تحطه في دركات السوائم أو أقل منها. " أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا"..
٣ تعود الإمام الإكثار من الشواهد القرآنية ليقنع قلوب السامعين وللآن تجد العامي في شمال المغرب لا يقنع إلا بالدليل، ويسره تخريج الحديث، ولو كان أميا لا يقرأ و لا يكتب، أو كان أميا في دينه..
٤ وهذا هو طور الرشد البشري والكمال الإنساني، حين تشب عن الطفولة البشرية، وكم من أناس يعيشون طويلا، ثم يموتون وهم في طفولتهم البشرية..
٥ النظر السطحي..
٦ عدم دقة النظر..
" ويوم يعض الظالم على يديه، يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا.
يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا. لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني، وكان الشيطان للإنسان خذولا ".
وجه الارتباط :
لما سأل المشركون أن يروا الملائكة : أخبروا بأنهم سيرونهم في يوم يكون شره عليهم عظيما.
وذكر في الآيات السابقة ما يكون في ذلك اليوم من حبوط أعمالهم، وتشقق السماء بالغمام، وتنزل الملائكة وغير ذلك.
وذكر في هذه الآية ما يكون في ذلك اليوم من ندم الظالم وسوء حاله.
المفردات :
( الظلم ) : وضع الشيء في غير موضعه، كوضع الكفر موضع الإيمان، ووضع المعصية موضع الطاعة. وحق الله تعالى أن يؤمن به، ويوحد، ويطاع. فمن كفر أو أشرك به، أو عصاه فقد ظلم، وهو هنا الكافر والمشرك، لأنه الذي لم يتخذ مع الرسول سبيلا.
( الويلة ) : الهلكة كالويل بمعنى الهلاك. ( فلان ) : يكنى به عن الأعلام كما يكنى بالهن عن الأجناس.
( الخليل ) : فعيل بمعنى فاعل وهو ما تخللت مودته القلب، وامتزجت بالنفس، فكانت له مكانة منهما، وسلطان عليهما. هذا في جانب الخلق.
وأما في جانب الله تعالى فبالمعنى الذي يليق بقدسه وتنزيهه، فإبراهيم – عليه السلام – خليل الرحمن بما له عنده تعالى من عظيم المنزلة، ورفعة الشأن، وقبول الدعوة، وما له عليه من جزيل الإنعام.
( الإضلال ) : الصد والصرف عن طريق الحق والنجاة.
( الذكر ) : القرآن العظيم، وفسر بالشهادتين، وبالإسلام : والقرآن فيه ذلك كله، وهو الذي سيأتي على الأثر، وذكر هجرهم له، ولذلك اخترناه في معنى الذكر هنا.
( الشيطان ) : الخبيث الشرير الذي استولى عليه، وتمكن منه خلق الإفساد والإضرار من الجن والإنس. ( الخذول ) : الكثير الخذل١، أي التسليم والترك لمن نزل به البلاء في وقت الحاجة إلى إنقاذه.
التراكيب :
شأن من وقع في غيظ وحسرة وندامة أن يعض يديه، ويأكل بنانه كأنه لما لم يجد شيئا يطفيء فيه غيظه، رجع عل نفسه بذلك، فعض اليد لازم لحالة الحسرة والغيظ والندامة، فلذا يكنى به عنها من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم٢. وذلك لا يمنع من وجود العض منه حقيقة، بل وقوع ذلك هو الشأن الغالب.
وجملة ( يقول يا ليتني ) حالية فهو يعض حالة كونه قائلا : يا ليتني، فبينت هذه الجملة ما يقول. كما بينت التي قبلها ما يعمل، فصورتاه في حاله الشنيع الفظيع.
ويوم، منصوب بأذكر٣ أو معطوف على يوم يرون الملائكة، كما عطف عليه، ويوم تشقق السماء.
ويوم يرون منصوب بأذكر، أو بيمنعون البشرى كما يدل عليه " لا بشرى يومئذ للمجرمين ".
والتنكير في قوله ( سبيلا ) للإفراد : أي سبيلا واحدا لا تعدد فيه بخلاف ما كان عليه الظالم من سبل أهوائه المتعددة المتشبعة.
والألف في يا ويلتا، منقلبة عن ياء المتكلم، والأصل يا ويلتي، نادى ويلته أي هلكته لتحضر في ذلك الوقت ؛ لأنه وقتها. وليس نداؤها رغبة في حضورها، فالهلاك لا يرغب فيه، و إنما نادى الهلاك ليحضر لما حصل له من اليأس والقنوط من أسباب النجاة، فلم يبق له إلا الهلاك : كما يقول العليل للطبيب وقد يأس من معالجة جرح بيده مثلا : اقطع، فهذا وقت القطع.
وهكذا يخرج كل نداء في حالة شدة لما لا يخلص منها، و إنما يزيد في اشتدادها كما ينادي الشقي :( يا شقوتاه ). والمفتضح ( يا فضيحتاه ).
والمصاب ( يا مصيبتاه ).
وكنى ( بفلان ) لأن لكل ظالم خليلا له اسمه الخاص فلا يمكن التصريح بأسماء الجميع، فما بقي إلا الكناية عنها بفلان.
وجملة ( لقد أضلني ) بيان لسبب تثمينه السابق.
و أل في الشيطان والإنسان للجنس ؛ فيدخل في جنس الشيطان خليل الظالم الذي صده عن الذكر، وقرين خليله من الجن الذي سول له ذلك وأعانه، وقرينه هو الذي زينه له ودعاه إليه.
والجملة من كلام الظالم لإعلان خيبته، وإظهار ألمه منها، لما وجد نفسه وحده مخذولا ممن أضله وأغواه.
المعنى :
ويوم يعض الظالم لنفسه بالكفر لربه، أو الشرك على يديه ندما وحسرة على تفريطه، وعدم اتباعه لسبيل الحق مع الرسول الذي أرسل إليه، وعلى توريطه لنفسه بصحبته لخليله وطاعته له، حتى صرفه عن الإيمان بالقرآن، بعدما جاءه وسمعه وتمكن من الإيمان به، فأغواه ذلك الخليل وقرينه، وقرينه هو حتى أردوه. ثم خذلوه في ذلك اليوم العظيم في وقت الحسرة والندامة، لم يجد منهم نصرا ولا معونة، كما هو شأن الشياطين في خذلان من يغووه ويردوه.
إلحاق واعتبار :
كما علينا أن نتبع سبيل الرسول –عليه وآله الصلاة والسلام – التي جاء بها من عند الله تعالى، وهي الإسلام، كذلك علينا أن نتبع سبيله في القيام بشرائع الإسلام علما وعملا : في أبواب العبادات وأحكام المعاملات. وفي تطبيق أصول الإسلام وفروعه على الحياة العامة والخاصة. وهذه هي سنته التي كان عليها، وكان عليها أصحابه، وأهل القرن الثاني من التابعين، وأهل القرن الثالث من أتباع التابعين : تلك القرون المشهود لها بالخيرية على غيرها بلسان المعصوم٤.
وكما أن من عدل عن الإسلام ولم يسلك سبيله وقع في ضلال الكفر، كذلك من عدل عن السنة ولم يسلك سبيلها وقع في ضلال الابتداع.
وكما أن من لم يتخذ مع الرسول سبيل الإسلام يندم أشد الندم ويتحسر أعظم الحسرة على ما كان من تفريطه.
كذلك من لم يتخذ مع الرسول سبيل السنة إذ كل منهما قد ظلم نفسه، وفرط في سبيل نجاته.
عموم الآية :
فالآية وإن كانت في الكافر والمشرك، فهي تتناول بطريق الاعتبار أهل الأهواء والبدع، وبهذا كانت الآية متناولة بوعظها وترهيبها جميع الخلق ممن لم يدخل في الإسلام، أو دخل فيه ولم يلتزم سنة نبيه– صلى الله عليه وآله وسلم.
تحذير :
عين الرضا :
عندما تتخلل محبة شخص من الناس قلبك، وتمتزج بروحك ويستولي بسلطان مودته عليك.. تصير أقواله وأفعاله كلها عندك مرضية، و عيوبه ونقائصه عنك محجوبة، فتمسي طوع بنانه، ورهن إشارته، يوجهك حيث شاء و يصرفك عما أراد. وهذه حالة من أخطر الأحوال عليك، لأنك فيها قد سلبت تمييزك، وخسرت إرادتك، وصرت آلة في يد غيرك ؛ فقد ترى الخير وتدعى إليه فيصرفك عنه، و قد ترى الشر وتحذر منه فيوقعك فيه.
وهب هذا الخليل كان مخلصا لك، وحريصا عليك، فإنه غير معصوم من الخطإ والضلال. أما إذا كان شريرا مفسدا فهنالك الهلاك المحقق، والوبال الشديد.
وقد ذكر لنا الله تعالى في هذه الآية ما كان من سوء مثال الظالم بسبب انقياده لخليله، واتباعه له من غير روية وصدق تمييز.
يحذرنا من سلطان الخلة الذي يهمل معه شأن الإرادة والتمييز، ويعلمنا أن علينا أن نحافظ على إرادتنا وتمييزنا، ونظرنا لأنفسنا مع الصديق والعدو، ومع الخليل وغير الخليل، بل نحافظ عليها مع الخليل أكثر، لأنه مظنة الخوف بما له من المكانة في القلب والسلطان على النفس.
إرشاد :
لما كان خليل المرء بهذه المنزلة فعليك أن تختار من تخال٥، فلا تخال إلا من حسنت سريرته، واستقامت سيرته، وغلب الصواب على أقواله وأعماله، ليكون دليلك إلى الخير، وسائقك إليه، مع محافظتك على إرادتك وتمييزك٦ معه على كل حال.
علامة :
ميزان الخليل :
إذا أردت أن تعرف شر خلانك، و أحقهم بهجرك له. وابتعادك عنه :
فانظر فيما يرغبك هو فيه، وما يرغبك عنه. فإذا وجدته يرغبك عن٧القرآن، وعما جاء به القرآن فإياك وإياه، فتلك أصدق علامة على خبثه وسوء عاقبة قربه، فابتعد عنه في الدنيا، قبل أن تعض يديك على صحبتك له في الأخرى. وإذا وجدته يرغبك٨ في القرآن وما جاء به القرآن، فدلك الخليل الزكي الصادق، فاستمسك به، وحافظ عليه.
و إنّ خلة أسست على الرجوع إلى القرآن، والتحاب على القرآن، والتناصح بالقرآن لخلةٌ نافعة دنيا وأخرى، لأنها أسست على أساس التقوى.
وقد قال الله تعالى :" الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " ٩.
٢ اللازم عض اليد، الملزوم الحسرة والندامة..
٣ أي مقدرة.
٤ لقوله صلى الله عليه وسلم :" خير القرون قرني ".
٥ والشاعر يقول : عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه. ويقول لبيد: ما عاتب الحر الكريم كأصله والمرء يصلحه الجليس الصالح..
٦ و هكذا يكون المؤمن كالحصاة التي لا تذوب ولا تلين..
٧ أي يصرفك عنه..
٨ أي يحببك و يدعوك إليه..
٩ سورة الزخرف الآية ٦٧..
" قال الرسول : يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ".
المناسبة :
لما ذكر تعالى ما قاله المشركون من الباطل في معارضة القرآن، والإعراض والصد عنه. و ما قالوه من عبارات الحسرة والندامة يوم القيامة، على ما كان منهم من ذلك في الدنيا – ذكر ما قاله النبي - – صلى الله عليه وآله وسلم – من الشكوى لربه بهم من تركهم للقرآن العظيم وهجره.
المفردات والتراكيب :
( مهجورا ) : متروكا مقاطعا مرفوعا عنه.
( الرسول ) : محمد – صلى الله عليه وآله وسلم، ( وقومه ) قريش.
في قوله :( يا رب ) : إظهار لعظيم التجائه، وشدة اعتماده. وتمام تفويضه لمالكه ومدبر أمره، وموالي الإنعام عليه.
وفي التعبير عنهم بقومه وإضافتهم إليه، وفي التعبير عن القرآن باسم الإشارة القريب – بيان لعظيم جرمهم بتركهم للقرآن، وهو قريب منهم في متناولهم١، وقد أتاهم به واحد منهم، أقرب الناس إليهم، فصدوا وأبعدوا في الصد عمن هو إليهم قريب من قريب، وهذا أقبح الصد وأظلمه.
وفي قوله :( اتخذوا ) الخ... بيان أنهم جعلوا الهجر ملازما له ووصفا من أوصافه عندهم. وذلك أعظم من أن يقال : هجروه الذي يفيد وقوع الهجران منهم، دون دلالة على الثبوت والملازمة.
المعنى :
قال الرسول شاكيا لربه : إن قومي الذين أرسلتني إليهم بالقرآن لأتلوه عليهم، قد صدوا عنه وتركوه، وثبتوا على تركه وهجره.
استنتاج واعتبار
في شكوى النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – من هجرة القرآن دليل على أن ذلك من أصعب الأمور وأبغضها لديه.
و في حكاية القرآن لهذه الشكوى وعيد كبير للهاجرين بإنزال العقاب بهم إجابة لشكوى نبيه.
ولما كان الهجر طبقات أعلاها عدم الإيمان به.. فلكل هاجر حظه من هذه الشكوى و هذا الوعيد.
تنزيل :
هجر المسلمين للقرآن :
ونحن – معشر المسلمين – قد كان منا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمان الطويل، وإن كنا به مؤمنين :
١- بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القريبة القاطعة فهجرناها، وقلنا : تلك أدلة سمعية لا تحصل اليقين، وأخذنا في الطرائق الكلامية المعقدة، وإشكالاتها المتعددة، وإصلاحاتها المحدثة، مما يصعب أمره على الطلبة فضلا عن العامة. ٢
٢- و بين القرآن أصول الأحكام، وأمهات مسائل الحلال والحرام، ووجوه النظر والاعتبار، مع بيان حكم الأحكام وفوائدها في الصالح الخاص والعام، فهجرنا واقتصرنا على قراءة الفروع الفقهية مجردة بلا نظر، جافة بلا حكمة، محجبة وراء أسوار من الألفاظ المختصرة، تفنى الأعمار قبل الوصول إليها.
غلو وتنطع :
٣- و بين القرآن مكارم الأخلاق ومنافعه، ومساوئ الأخلاق ومضارها وبين السبيل للتخلي عن هذه والتحلي بتلك، مما يحصل به الفلاح بتزكية النفس والسلامة من الخيبة بتدسيتها.
فهجرنا ذلك كله، ووضعنا أوضاعا من عند أنفسنا، واصطلاحات من اختراعاتنا، خرجنا في أكثرها عن الحنيفية السمحة إلى الغلو والتنطع.
وعن السنة البيضاء إلى الأحداث والبدع، وأدخلنا فيها من النسك الأعجمي والتخيل الفلسفي، ما أبعدها غاية البعد عن روح الإسلام، وألقى بين أهلها بذور الشقاق والخصام، وآل الحال بهم إلى الخروج من أثقال أغلالها، والاقتصار على بقية رسومه للانتفاع منها، ومعارضة هداية القرآن بها٣.
٤- وعرض القرآن علينا هذا الكون وعجائبه ونبهنا على ما فيه من عجائب الحكمة ومصادر النعمة، لننظر ونستفيد ونعمل.
فهجرنا ذلك كله إلى خريدة العجائب، وبدائع الزهور، والحوت، والصخرة، وقرن الثور !
٥- ودعانا القرآن إلى تدبره وتفهمه، والتفكر في آياته و لا يتم ذلك إلا بتفسيره وتبينه، فأعرضنا عن ذلك وهجرنا تفسيره وتبينه.
فترى الطالب يفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية، دون أن يكون طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين مثلا، بل ويصير مدرسا متصدرا ولم يفعل ذلك !
و في جامع الزيتونة – عمره الله تعالى – إذا حضر الطالب بعد تحصيل التطويع٤في درس تفسير، فإنه ويا للمصيبة يقع في خصومات لفظية، بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه، في القواعد التي كان يحب أنه فرغ منها من قبل، فيقضي في خصومة من الخصومات أياما وشهورا، فتنتهي السنة وهو لايزال حيث ابتدأ أو ما تجاوزه إلا قليلا دون أن يحصل على شيء من حقيقة التفسير. وإنما قضى سنته في المحاكمات بدعوى أنها تطبيقات للقواعد على الآيات. كأن التفسير إنما يقرأ لأجل تطبيق القواعد الآلية، لا لأجل فهم الشرائع والأحكام الإلهية٥.
فهذا هجر آخر للقرآن، مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم في خدمة القرآن !
وعلمنا القرآن أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – هو المبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، وان عليهم أن يأخذوا ما أتاهم، و ينتهوا عما نهاهم عنه، فكانت سنته العملية والقولية تالية للقرآن. فهجرناها كما هجرناه، و عاملناها بما عاملناه، حتى أنه ليقل في المتصدرين للتدريس – من كبار العلماء في أكبر المعاهد – من يكون قد ختم كتب الحديث المشهورة كالموطأ والبخاري ومسلم ونحوها، مطالعة، فضلا عن غيرهم من أهل العلم، وفضلا عن غيرها من كتب السنة٦.
وكم وكم وكم بين القرآن ! ! ! وكم وكم وكم قابلناه بالصد والهجران ! ! !
بيان واستشهاد :
شر الهاجرين للقرآن هم الذين يضعون من عند أنفسهم ما يعارضونه به، ويصرفون وجوه الناس إليهم، وإلى ما وضعوه عنه، لأنهم جمعوا بين صدهم وهجرهم في أنفسهم وصد غيرهم، فكان شرهم متعديا، وبلاؤهم متجاوزا وشر الشر وأعظم البلاء ما كان كذلك.
وفي هؤلاء جاء ما ذكره الإمام ابن القيم، في كتاب ( إعلام الموقعين ) عن حماد بن سلمة، ثنا أيوب السختياني عن أبي قلابة عن يزيد بن أبي عميرة، عن معاذ بن جبل، قال :
فتن وبدع :
" تكون فتن، فيكثر المال، ويفتح القرآن، حتى يقرأه الرجل والمرأة والصغير والكبير، والمنافق والمؤمن.
فيقرؤه الرجل فلا يتبع، فيقول : والله لأقرأنه علانية، فيقرؤه علانية فلا يتبع. فيتخذ مسجدا ويبتدع كلاما ليس من كتاب الله، ولا من سنة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم. فإياكم وإياه، فإنه بدعة وضلالة ".
قال معاذ ثلاث مرات. ا ه.
فانظر في قطرنا وفي غير قطرنا، كم تجد ممن بنى موضعا للصلاة، ووضع كتبا من عنده، أو مما وضعه أسلافه من قبله، وروجها بين أتباعه، فأقبلوا عليها وهجروا القرآن٧.
وربما يكون بعضهم قصد بما وضع النفع فأخطأ وجهه، إذ لا نفع بما صرف عباده عن كتاب الله. و إنما يدعى لله بكتاب الله، ولذلك سمى صنيع هذا الواضع بدعة وضلالة، وحذر معاذ منه و أكد في التحذير بالتكرير.
وهذا الحديث وإن كان موقوفا على معاذ، فهو في حكم المرفوع، لأنه بمغيب مستقبل، وهذا ما كان يعلمه الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد تحقق مضمونه في المسلمين منذ أزمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
سبيل النجاة :
لا نجاة لنا من هذا التيه الذي نحن فيه والعذاب المنوع الذي نذوقه و نقاسيه.
إلا بالرجوع إلى القرآن : إلى علمه وهديه.
وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه.
والتفقه فيه و في السنة النبوية شرحه وبيانه.
والاستعانة على ذلك بإخلاص القصد، وصحة الفهم، والاعتضاد بأنظار العلماء الراسخين، والاهتداء بهديهم في الفهم عن رب العالمين.
وهذا أمر قريب على من قربه الله عليه، ميسر على من توكل على الله فيه.
وقد بدت طلائعه – والحمد لله – و هي آخذة في الزيادة٨إن شاء الله، وسبحانه من يحيي العظام وهي رميم.
٢ ولذا كتب الإمام رسالة قيمة في التوحيد عن القرآن والسنة طبعها الأستاذ محمد الصالح رمضان، و أعيد طبعها، وقدم لها العلامة البشير الإبراهيمي.
.
٣ يشير الإمام بذلك إلى ما أحدثه غلاة الصوفية وإلى الجدال في المصطلحات الفلسفية والمنحرفين من الطرقيين مما ليس من الإسلام في شيء : وذلك مثل : الخلاف الطويل والجدال العريض في تعبير " واجب الوجود "، وهذا مصطلح فلسفي، غرق فيه بعض الكلاميين، مع أن العرب كانت تؤمن بوجود الإله، وكانت مشكلتها هي التوحيد..
٤ التطويع في الزيتونة هو منح الشهادة العالية في العلوم العربية والشرعية..
٥ سارت جامعة القرويين والأزهر – قبل تطويره – في هذه الدروب الصعبة المتبعة زمنا طويلا فتعبا وأتعبا، وكان الإمام يتهلل في مجالسه الخاصة وفي "الشهاب "، حين تبدو بارقة إصلاح في هذه المعاقل الإسلامية.
وكان من خطة تطوير الأزهر سنة ١٩٦٢ تنحية سلطة الكتاب الموجه، وإعطاء الأستاذ المدرس فرصة للانتقاء والاختيار أو الدوران في المنهج بما يرجح ويختار من كتب ومراجع حتى تتهيأ سبل التأليف، وتظهر الكتب العربية والإسلامية، وقد خلت من المآخذ التي ذكرها الإمام بن باديس في هذا المقام. غير أن هذا المشروع قد تعذر بعدئذ، وعزم الأستاذ الدكتور عبد الحليم محمود بعد توليه أمانة مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر عام ١٩٦٨ م على مواصلة السير من طريق آخر هو تأليف لجان لكتابة تفسير وسيط، و إخراج موسوعات في الحديث والفقه على نمط ذكي واع حديث، هيأ الله له النجاح..
٦ وخرج الإمام بعد هذه التبعة بأن أتم القرآن الكريم تفسيرا، وأتم موطأ مالك شرحا وجمعنا منه أيضا مجالس التذكير ف " من هدى النبوة ".
٧ يشير إلى ما ابتدعه بعض الطرقيين..
٨ نشر الإمام مقالة ضافية في الشهاب مدح فيها القائمين على أمر جامعة الزيتونة بتونس، حينما عزموا على الاصلاح، وعرض القيم الإسلامية عرضا جديدا. وكذلك مدح الإمام المراغي شيخ الأزهر حينما عزم على مثل ذلك في الجامع الأزهر..
" وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين.
وكفى بربك هاديا ونصيرا ".
المناسبة :
لما شكا – عليه الصلاة والسلام – قومه، سلاه الله تعالى وعزاه، وأمره بالصبر والثبات، ووعده ورجاه.
المفردات :
( العدو ) : وزنه فعول يكون للواحد والجماعة١.
( كاف ) بمعنى مثل.
والإشارة في ( وكذلك ) للجعل المفهوم مما تقدم : أي مثل ذلك الجعل للأعداء لك جعلنا لكل نبي إلخ...
المعنى :
مثلما جعلنا لك أعداء من قومك كفروا بك، وهجروا كتابك، وصدوا عنك، وبالغوا في أذيتك – جعلنا لكل نبي ممن نبأنا أعداء من أهل الذنب والإجرام. فما أصابك إلا ما أصابهم، فاصبر كما صبروا. وكفى بربك هاديا يهديك إلى طريق الحق، ويبصرك الرشد، ويعرفك بما تؤدي به رسالة ربك.
فلا تتحير في أمرك لما ترى من صدود قومك وناصرا ينصرك على أعدائك.
يأمره بالصبر و يثبته بالتأسي، ويعده بأنه يهديه التبليغ، وينصره على معارضيه حتى يتم أمر الله على يده.
ترهيب :
هؤلاء الذين سماهم الله تعالى أعداء لنبيه، ووصفهم بالإجرام، هم أولئك الذين هجروا القرآن وصدوا عنه فهذا تخويف عظيم، ووعيد شديد لكل من كان هاجرا للقرآن العظيم بوجه من وجوه الهجران.
اقتداء وتأس :
حق على حزب القرآن الداعين به، والداعين إليه، أن يقتدوا بالأنبياء والمرسلين في الصبر على الدعوة، والمضي فيها، والثبات عليها.
وأن يداووا أنفسهم عند ألمها واضطرابها، بالتأسي بأولئك السادة الأخيار.
بشارة :
قد وعد الله تعالى نبيه – بعد ما أمره بالتأسي والصبر – بالهداية والنصر.
وفي هذا بشارة للدعاة من أمته من بعده، السائرين في الدعوة بالقرآن و إلى القرآن على نهجه، أن يهديهم و ينصرهم.
كما قال تعالى :" والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين ". معهم بالفضل والنصر والتأييد وهذا عام للمجاهدين المحسنين، والحمد لله رب العالمين.
المناسبة :
هذا اعتراض آخر من اعتراضاتهم الباطلة، نقسه مع ما تقدم منها ليجاب عنه، و يبين خطؤهم فيه، كما فعل بما تقدمه.
المفردات :
( لولا ) مع المضارع للتحضيض، نحو لولا تستغفرون الله. ومع الماضي للوم والتوبيخ، نحو لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء ". وهي هنا مع الماضي فتكون للوم على عدم حصول المذكور وحصول ضده، والمقصود من اللوم هنا الاعتراض على عدم نزوله جملة واحدة، ونزوله مفرقا. فالمعترض عليه و نزوله مفرقا.
( نزل ) يأتي مرادفا لأنزل. والتضعيف أخو الهمزة، ويأتي مفيدا للتكثير فيفيد تكرر النزول وتجديده.
وخرج على هذا قوله تعالى :" نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب، وأنزل التوراة والإنجيل١
وأما هنا فلا يصح حمله على التكثير المفيد للتدريج، لئلا يناقض قولهم جملة واحدة ؛ فيكون من التضعيف المرادف للهمزة. وعندي٢ إن " نزّل " المضاعف يرد لكثرة الفعل ولقوته ؛ فجاء لكثرته في آية آل عمران المتقدمة، وجاء لقوته في هذه الآية ؛ لأن إنزال الجملة مرة واحدة أقوى من إنزال كل جزء من الأجزاء بمفرده.
( كذلك ) الإشارة للإنزال المفرق، المفهوم من قولهم :" لولا نزل عليه القرآن جملة " ؛ لأنه في معنى : لم نزل عليه جملة ولم ينزل عليه مفرقا ؟
( التثبيت ) : ثبات الشيء إقامته ورسوخه دون اضطراب، وذلك من قوته، كما أن اضطرب المضطرب من ضعفه. فتفسير تثبيت الفؤاد هنا بتقويته تفسير بلازم معناه على أنه مراد منه أيضا أصل المعنى، وهو السكون وعدم الاضطراب. فتثبيته – إذن – هو تسكينه وتقويته.
( الترتيل ) مادة ( ر ت ل ) كلها ترجع٣ إلى تناسق الشيء وحسن تنضيده : منه ثغر رتل بالتحريك، أي مفلج بين الأسنان فرج لا يركب بعضها بعضا.
وترتيل القرآن في التلاوة هو إلقاء حروفه حرفا حرفا، وكلماته كلمة كلمة، وآياته آية آية، على تؤدة ومهل حتى يتبين للقارئ وللسامع ولا يخفى عليه شيء منه.
وأما ترتيله في نزوله – وهو المراد هنا – فإنه : إنزاله آية، وآيتين وآيات، مفرقا نجوما٤على حسب الوقائع.
التراكيب :
( وقال الذين كفروا ) وصل٥ ؛ لأنه قيل من أقوالهم ؛ فعطف على ما تقدم من مثله.
( كذلك لنثبت ) الأصل أنزلناه كذلك، فأوجز بحذف المتعلق لوجود ما يدل عليه من اعتراضهم. و فصل ؛ لأنه جواب عن اعتراضهم.
( ورتلناه ) وصل ؛ لأنه معطوف على أنزلناه المحذوف. والتنوين في ( ترتيلا ) تنوين تنويع وتعظيم، أي نوعا من الترتيل عظيما.
المعنى :
وقال الذين كفروا – وهم قريش، أو اليهود أو الجميع، وهو الظاهر ؛ لأن قريشا واليهود كان يتصل بينهم الكلام في شأن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وشأن القرآن – قالوا معترضين ومقترحين : له لم ينزل عليه القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة وغيرها، ونزل عليه مفرقا ؟. فقال الله تعالى جوابا لهم : أنزلناه كذلك الإنزال مفرقا ؛ لنثبت به قلبك فيسكن ويطمئن، ونقويه فيصبر ويتحمل. وأنزلناه مرتلا و مفرقا تفريقا مرتبا، منزلا كل قسم منه في الوقت المناسب لإنزاله والحالة الداعية إليه اللائقة به. مزيد بين للاعتراض والجواب :
أما اعتراضهم، فكان لأنهم سمعوا القرآن يذكر أن الكتاب أنزل على النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كما أنزلت الكتب على الأنبياء – عليهم السلام – من قبله بمثل قوله تعالى :
" وكذلك أنزلنا إليك الكتاب ". فقالوا : لماذا نزل هذا الكتاب مفرقا، ولم ينزل مثل تلك الكتب جملة واحدة ؟ !. وهم لما عجزوا عن معارضة أقصر سورة منه، أخذوا يباهتون بالباطل،
ويعترضون بمثل هذا الاعتراض.
وأما الجواب، فكان بيان حكمتين في إنزاله مفرقا :
الحكمة الأولى : تثبيت قلبه صلى الله عليه وآله وسلم.
والحكمة الثانية : تفريقه مرتبا على الواقع.
وكان في تينك الحكمتين مزيتان عظيمتان للقرآن العظيم على غيره من كتب الله تعالى ؛ فكان ما اعترضوا به على أنه نقص فيه عنها هو كماله عليها.
شرح الحكمة الأولى، حكمة إنزاله مفرقا :
كان كل نجم ينزل من القرآن العظيم – والنجم القسم الذي ينزل معا آية أو آيتين أو أكثر – يزداد به عجزهم وعنادهم ظهورا، وتزداد حجة النبي – صلى الله عليه وآله وسلم –
وصدقه وضوحا ؛ فيزداد بذلك سكون قلبه وطمأنينته بظهور أمره على عدوه، وعلو كلمة الحق على كلمة الباطل.
و في ذلك تقوية له و أي تقوية ! لا عن شك كان في قلبه أو تردد، ولكن البراهين المتوالية والحجج المتتالية، تزيد في سكون القلب واطمئنانه، وإن كان معقودا من أول أمره على اليقين. فهذا وجه من تثبيت فؤاده بالآيات المتفرقات في النزول.
و قد كان كل نجم من نجوم القرآن ينزل بشيء من العلم والعرفان، مما يرجع إلى العقائد أو الأخلاق أو الأحكام، أو التذكير بالأمم الماضية وأخبار الرسل المتقدمين، أو باليوم الآخر أو بسنة الله في المكذبين، إلى غير ذلك من علوم القرآن، فيقوى قلبه عند نزول كل نجم بما يكتسبه من معرفة وعلم.
وكان يلقى من الجهد والعناء في تبليغ الرسالة ما تضعف عن تحمله القوى البشرية، فإذا نزل عليه القرآن، واتصل بالملك الروحاني النوراني، وقذف في قلبه ذلك الوحي القرآني، تقوى قلبه على تحمله أعباء الرسالة ومشاق التبليغ.
و لما كان البلاء والعناء في سبيل التبليغ متكررا متجددا، كان محتاجا إلى تجديد تقوية قلبه، وكان ذلك مقتضيا لتفريق نزول الآى عليه، فهذه ثلاثة وجوه من التثبيت.
حظنا من العمل بهذه الحكمة :
حاجتنا إلى تجديد التلاوة والتدبر : قلوبنا معرضة لخطرات الوسواس، بل للأوهام والشكوك، فالذي يثبتها و يدفع عنها الاضطراب، ويربطها باليقين هو القرآن العظيم.
ولقد ذهب قوم مع تشكيكات الفلاسفة وفروضهم٦ ومماحكات المتكلمين ومناقضتهم، فما ازدادوا إلا شكا، وما ازدادت قلوبهم إلا مرضا، حتى رجع الكثير منهم في أواخر أيامهم إلى عقائد القرآن و أدلة القرآن، فشفوا بعد ما كادوا كإمام الحرمين والفخر الرازي.
و قلوبنا معرضة لران المعصية التي تظلم منها القلوب وتقسو حتى تحجب عنها الحقائق وتطمس أمامها سبل العرفان.
فالذي يجلو عنها ذلك الران ويزيل منها تلك القسوة، و يكشف لها حقائق العلم، ويوضح لها سبل المعرفة هو القرآن العظيم.
فقراؤه المتفقهون فيه قلوبهم نيرة، مستعدة لتلقي العلوم والمعارف، مستعدة لسماع الحق وقبوله، لها من نور القرآن فرقان تفرق به بين الحق والباطل، وتميز به بين الهدى والضلال.
وقلوبنا معرضة للضعف عن القيام بأعباء التكليف، وما نحن مطالبون به من الأعمال، والذي يجدد لنا فيها القوة و يبعث فيها الهمة هو القرآن العظيم.
فحاجتنا إلى تجديد تلاوته وتدبيره أكيدة جدا لتقوية قلوبنا باليقين وبالعلم وبالهمة والنشاط للقيام بالعمل.
شرح الكلمة الثانية :
من محاسن هذه الشريعة المطهرة أنها نزلت بالتدريج المناسب. وكما كان في تحريم الخمر. وكما كان في العدد المفروض عليه الثبات للعدو في آيات الأنفال٧. وكما كان في مشروعية قيام الليل في آيات سورة " المزمل " ٨. وما كان ليكون هذا التدريج بغير تفريق الآيات في التنزيل.
و من محاسنها نسخ الحكم عند انتهاء المصلحة التي اقتضت تشريعه، وانقضاء زمنها لحكم آخر، أنسب منه للبقاء في الأزمان. كما كان في آيتي المتوفى عنها في سورة البقرة٩. وما كان ذلك ليأتي إلا بتفريق الآيات في الإنزال. وكانت الوقائع تقع، والحوادث تحدث، والشبه تعرض، والاعتراضات ترد.. فكانت الآيات تنزل بما تتطلبه تلك الوقائع من بيان، وما تقتضيه تلك الحوادث من أحكام، وما تستدعيه تلك الشبه من رد، وتلك الاعتراضات من إبطال، إلى غير ما ذكرنا من : مقتضيات نزول الآيات المعروفة بأسباب النزول.
وفي بيان الواقعة عند وقوعها، وذكر حكم الحادثة عند حدوثها، ورد الشبهة عن عروضها، و إبطال الاعتراض عند وروده – ما فيه من تأثير في النفوس، ووقع في القلوب، ورسوخ في العقول، وجلاء في البيان، وبلاغة في التطبيق، واستيلاء على السامعين.
وما كان هذا كله ليأتي لولا تفريق الآيات في التنزيل، وترتيلها وتنضيدها هذا الترتيل العجيب، وهذا التنضيد الغريب الذي بلغ الغاية من الحسن والمنفعة، حتى انه ليصح أن يعد وحده وجها من وجوه الإعجاز.
حظنا من العمل بهذه الحكمة :
الدواء في القرآن : أن نقرا القرآن ونتفهمه، حتى تكون آياته على طرف ألسنتنا، ومعانيه نصب أعيننا ؛ لنطبق آياته على أحوالنا، وننزلها عليها كما كانت تنزل على الأحوال والوقائع.
فإذا حدث مرض قلبي أو اجتماعي طلبنا دواءه في القرآن وطبقناه عليه. وإذا عرضت شبهة أو ورد اعتراض طلبنا فيه الرد والإبطال. وإذا نزلت نازلة طلبناه فيه حكمها، وهكذا نذهب في تطبيقه وتنزيله على الشؤون والأحوال إلى أقصى حد يمكننا.
اقتداء :
تجديد خطب الجمعة :
انظر إلى هذه الحكمة في هذا الترتيل : كيف كان تنزل آية على حسب الوقائع ؟ أليس في هذا قدوة صالحة لأئمة الجمع وخطبائها في توخيهم بخطبهم الوقائع النازلة، وتطبيقهم خطبهم على مقتضى الحال ؟ بلى والله، بلى والله !. و لقد كانت الخطبة النبوية، والخطب السلفية كلها على هذا المنوال، تشتمل مع الوعظ والتذكير على ما يقتضيه الحال. وأما هذه الخطب المحفوظة المتلوة على الأحقاب والأجيال فما هي إلا مظهر من مظاهر قصورنا وجمودنا١٠. فإلى الله المشتكى وبه المستعان.
٢ من استقلال الشيخ في الفهم. وبصره باللغة والتعبير..
٣ دوران المادة حول نفسها..
٤ نجوما مقسما مفرقا على حسب الوقائع والحوادث..
٥ جمة : كذلك لنثبت به...
٦ لا شك أن تشكيكات الفلاسفة وافتراضاتهم، أضرت وشككت، لأنها من عمل البشر الناقص المضطرب، غير أنها أحيانا أفادت في طرق البحث والاستنباط والسير على المنهج العلمي. ونحن – ولا شك – محتاجون إليها، خاصة في وجوهها الحسنة، وخاصة ف أيامنا هذه، لأن الشباب المثقف اليوم لا يقنع إلا بالدليل، وقرع الحجة بالحجة على أساس علمي، ولا خوف على قرآننا من ذلك، وإنما المشكلة هي كيف نجد الداعي الذي يقوم بذلك..
٧ في قوله تعالى :" يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال....... إلى مع الصابرين " الآيتان : ٦٥، ٦٦ من سورة الأنفال..
٨ في قوله تعالى :" إن ربك يعلم أنك تقوم..... رحيم " الآية ٢٠ من سورة المدثر..
٩ سورة البقرة، الآيتان : ٢٤٠ ن ٢٤١..
١٠ وحاول الأزهر إعداد الداعية النافع، والمسلح بألوان الثقافة العصرية، والعارف بلغة وحال المدعوين، والقادر على إبلاغ الدعوة بلغة أجنبية؛ فأنشأت الإدارة العامة للثقافة الإسلامية سنة ١٩٥٩ معهد الإعداد والتوجيه، وابتدأت الدراسة فيه بسبع لغات للمتخرجين من الأزهر ومن هم على وشك التخرج منه، وخرجت بواكيره بعد عمين لبنة صالحة في هذا السبيل.. غير أن المعهد تحول بعدئذ إلى شيء آخر لا يمت إلى هذا الجانب بصلة.. وحبذا لو فتح أبوابه من جديد على النمط الذي بدأه من قبل..
المناسبة :
لما رد تعالى اعتراضاتهم وأبطل شبهاتهم.. أخبر تعالى بأنه لا يزال القرآن كذلك يدمغ باطلهم بحقه فيزهقه، و يصدع غشاء تمويههم بصادق بيانه فيمزقه ؛ لطمأنة قلب نبيه – صلى الله عليه وآله وسلم – و تثبيته ووعد له بدوام النصر والتأييد.
المفردات :
( المثل ) هو الشبه هذا أصله. ثم يطلق على الكلام الذي قيل أول ما قيل في مقام. ثم لحسنه و إيجازه حفظ وجرى على الألسنة، وصار يقال في كل مقام يشابه مقاله الأصلي الذي قيل فيه أولا لمشابهة المقام الثاني للمقام الأول.
المثل ومنشؤه وتدرجه :
ثم صار يطلق أيضا على كل كلام فيه بيان لشيء و تصوير له، سواء أطابق ذلك البيان والتصوير الواقع و أتى بالحق، أم لم يطابق الواقع ولم يأت بالحق. وهذا المعنى هو المراد هنا.
فإن المشركين جاءوا بكلمات في حق الله تعالى، و في حق كتابه، وفي حق ملائكته، و في حق نبيه، لم يطابقوا فيها الواقع، و لا أتوا فيها بحق : كقولهم في الله وملائكته :" لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا " ١. وفي نبيه :" ما لهذا الرسول يأكل الطعام و يمشي في الأسواق ". ٢. و في القرآن :" أساطير الأولين اكتتبها " ٣. ٣ " لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " ٤.
فهذه هي أمثالهم التي ضربوها فضلوا.
وجاء القرآن بعد كلماتهم الباطلة بالحق الدامغ مثل قوله تعالى :" قل : أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض " ٥. " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق " ٦ " كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا " ٧.
فهذه هي أمثال الله التي جاءت بالحق و أحسن تفسيرا.
( التفسير ) : الكشف عن المعنى.
التراكيب :
وصلت الجملة لمشاركتها لما قبلها في الخبرية، والمخبر عنهم والموضوع المتحدث عنه مما جاءوا به من الباطل، وما رد عليهم من الحق. وجملة ( جئناك ) خالية من كاف الخطاب المفعول في :( لا يأتونك ).
والحصر بالنفي و إلا في تلك الحال، والتقدير : و لا يأتونك بمثل في حال من أحوالك إلا في حال مجيئنا لك بالحق وأحسن تفسيرا.
والتعبير بالمضارع في ( يأتونك ) يفيد الحدوث وتجدد الإتيان منهم.
والتعبير بالماضي في ( جئناك ) مع أنه في معنى المستقبل يفيد تحقق المجيء، وهو المناسب لمقام الوعد والتثبيت٨.
المعنى :
و لا يأتيك يا محمد، هؤلاء المشركون وأمثالهم، بكلام يحسنونه ويزخرفونه، يصورون به شبهة باطلة، أو اعتراضا فاسدا، إلا جئناك بالكلام الحق الذي يدمغ باطلهم، و يدحض شبههم، و ينقض اعتراضهم، ويكون أحسن بيانا وأكمل تفصيلا.
اهتداء :
القرآن يدافع عن القرآن :
إذا تتبعت آيات القرآن وجدتها قد أتت بالعدد الوافر من شبه الضالين واعتراضاتهم، ونقضتها بالحق الواضح والبيان الكاشف في أوجز لفظ وأقربه وأبلغه.
وهذا قسم عظيم جليل من علوم القرآن يتحتم على رجال الدعوة والإرشاد أن يكون لهم به فضل عناية، ومزيد دراية وخبرة.
و لا نحسب شبهة ترد على الإسلام، إلا وفي القرآن العظيم ردها بهذا الوعد الصادق من هذه الآية الكريمة.
فعلينا عند ورود كل شبهة من كل ذي ضلالة أن نفزع إلى آي القرآن، ولا إخالنا إذا أخلصنا القصد وأحسنا النظر إلا واجديها فيها.
و كيف لا نجدها في آيات ربنا هي الحق و أحسن تفسيرا ؟ !
اقتداء :
واجب الدعاة :
لنقتد بالقرآن فيما نأتي به من كلام في مقام الحجاج، أو مقام الإرشاد. فلنتوخ دائما الحق الثابت بالبرهان أو بالعيان، ولنفسره أحسن التفسير ولنشرحه أكمل الشرح، ولنقربه إلى الأذهان غاية التقريب. وهذا يستدعي صحة الإدراك، وجودة الفهم ومتانة العلم لتصور الحق ومعرفته. ويستدعي حسن البيان، وعلوم اللسان لتصوير الحق وتجليته والدفاع عنه.
فللاقتداء بالقرآن في الإتيان بالحق وأحسن بيان، علينا أن نحصل هذه كلها، ونتدرب فيها، ونتمرن عليها، حتى نبلغ إلى ما قدر لنا منها. هذا ما على أهل الدعوة والإرشاد، وخدمة الإسلام والقرآن.
فأما ما على عموم المسلمين من هذا الاقتداء : فهو دوام القصد إلى الإتيان بالحق، وبذل الجهد في التعبير بأحسن لفظ وأقربه.
ومن أخلص قصده في شيء وجعله من وكده أعين – بإذن الله تعالى – عليه.
٢ الفرقان الآية : ٧.
٣ سورة الفرقان الآية ٥..
٤ الفرقان الآية : ٣٢..
٥ الفرقان الآية : ٦..
٦ الفرقان الآية ٧.
٧ الفرقان الآية : ٣٢..
٨ ففيه استعارة تصريحية للتصريح بلفظ المشبه به، وتبعية لأنها في الفعل..
المناسبة :
لما أبطل شبههم، بين مآلهم وجزاءهم.
المفردات :
( الحشر ) : السوق والجمع، ( المكان ) المنزل، ( والسبيل ) الطريق.
التراكيب :
فصلت الجملة١لأنها بيان لحالهم في الآخرة، وهو غير الموضوع المتقدم.
عرف المسند إليه بالإشارة : في قوله :( أولئك شر مكانا ) ؛ للتنبيه على أن المشار إليه وهو المتقدم، حقيق بما بعد اسم الإشارة من قوله :( شر مكانا وأضل سبيلا ) ؛ بسبب ما اتصف به المشار إليه المتقدم، مما دلت عليه الصلة، وهو حشرهم على وجوههم إلى جهنم، الذي ما أصابهم إلا بما قدمت أيديهم.
في الحقيقة هم أحقاء بكونهم شر مكانا، وأضل سبيلا، بسبب ما أداهم إلى ذلك الحشر، فاكتفى بذكر المسبب عن السبب٢.
وأفعل التفضيل٣ لم يذكر معه المفضل عليه ؛ ليفيد أن مكانهم شر مكان من أمكنة الشر، وسبيلهم أضل سبيل من سبل الضلال.
وإسناد الضلال للسبيل مجاز٤.
المعنى :
هؤلاء المشركون القائلون للمقالات المتقدمة، ومن كان على شاكلتهم في الكفر والعناد الذين يجمعون ويساقون إلى جهنم مقلوبين على وجوههم : أولئك شر مكانا ومستقرا، فإنهم أهل النار، وأضل طريقا فإنهم سلكوا طريق الكفر الذي أداهم إلى ذلك المستقر.
حديث :
كيفية الحشر على الوجه :
أخرج الشيخان عن أنس بن مالك – رضي الله تعالى عنه – أن رجلا قال :" يا نبي الله كيف يحشر الكافر على وجهه ؟ قال – صلى الله عليه وآله وسلم – " أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة ؟ ! ".
فقه :
الحمل على الظاهر :
من هذا الحديث علمنا : أنه يجب فيما يرد من الأخبار عن اليوم الآخر أن يحمل على ظاهره، ولو كان غير معتاد في الدنيا ؛ لأن أحوال العالم الآخر لا تقاس على أحوال هذا العالم.
توجيه :
ترفع وإذلال :
رفعوا وجوههم في الدنيا عن السجود لله، فأذل الله تلك الوجوه فمشوا عليها في المحشر. ورفعوا رؤوسهم كبرا عن الحق، فنكسها الله يوم القيامة. ومشوا في طريق النظر و الاستدلال مشيا مقلوبا، فمشوا في الآخرة مشيا مقلوبا.
فكان ما نالهم من سوء تلك الحال جزاء وفاقا لما أتوا من قبيح الأعمال، وما ربك بظلام للعبيد.
تحذير :
فيما يذكره الله – تعالى – من هذا الجزاء العادل، تخويف عظيم لنا من سوء الأعمال التي تؤدي إلى سوء الجزاء، وخصوصا من مثل ما ذكر فيما تقدم من ترك السجود والكبر على الحق، والنظر المقلوب. عصمنا الله والمسلمين أجمعين بالعلم والدين، وهدانا سنن المرسلين آمين يا رب العالمين.
٢ المسبب حشرهم على وجوههم، والسبب ما قدمت أيديهم..
٣ في "شر وأضل"..
٤ لأن الضلال يقع فيه..
" ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ".
( سورة الفرقان الآية : ٥١ )
المناسبة :
قد استفيد من الآيات المتقدمة ما كان يكابده النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – من إذاية قومه، وما كان يلقاه من مكابرتهم للحق، وتعنتهم بالباطل.
وقد أحاط به الأعداء من كل جانب، ولقيته العقبات من كل ناحية.
وما كان يعانيه من الجهد الجهيد في إنذارهم، وتبليغ دين الله تعالى إليهم.
وهو في ذلك كله جاهد في القيام بتبليغ الأمانة، ناهض بأعباء الرسالة، ماض في تلك السبيل، ليس معه من نذير.
وقد كان ذلك مما تتفسخ له القوى البشرية لولا تأييد من الله، فأراد تعالى في هذه الآية أن يثبته في مقامه، ويؤنسه في انفراده ؛ فيبين له أن تخصيصه بالقيام هذا المقام العظيم، هو لأجل تعظيمه وتكريمه، وتخصيصه بالأجر الكثير، والثواب الذي ليس له من مثيل.
المفردات :
( البعث ) الإرسال.
( القرية ) منازل الناس حيث يقيمون ويكونون مجتمعا كبيرا أو صغيرا.
( النذير ) المخوف من الوقوع في الشر والهلاك.
التراكيب :
مفعول المشيئة محذوف قياسا، وتقدير الكلام : ولو شئنا أن نبعث.
والبعث في كل قرية منتف بحكم لو، لأنها هنا تدل على امتناع جوابها لامتناع شرطها.
المعنى :
لو أردنا لأرسلنا في كل بلدة ومصر رسولا، ينذرهم ويخوفهم من حلول نقمتنا بهم، بكفرهم بنا، ومعصيتهم لنا، فيخف عنك عبء ما حملت، ويسقط عنك بذلك تعب كثير.
ولكنا لم نرد ذلك، وحملناك أنت وحدك أعباء وأثقال النذارة لجميع القرى ؛ ليظهر فضلك بعموم رسالتك ؛ ويعظم أجرك بعظم جهادك وصبرك ؛ ويكثر ثوابك بكثرة من يؤمن بك، ومن تود وتعمل ليؤمن بك.
حديث :
صح عن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – أنه قال :
" أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي١.
كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، ويبعث إلى كل أحمر وأسود٢.
وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي.
وجعلت لي الأرض طيبة طهورا ومسجدا ؛ فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان.
ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر.
وأعطيت الشفاعة ".
هكذا جاء هذا الحديث عن جابر بن عبد الله في صحيح مسلم.
وجاء فيه من طريق أبي هريرة زيادة :" وختم بي النبيون ".
فتعميم رسالته وختم النبوة به في الحديث الصحيح من طريقيه من مقتضى معنى الآية : فإنه لما عممت رسالته، ولم يكن معه رسول في حياته، وختمت به النبوة، فلا يكون كذلك بعد وفاته. ثبتت له كرامة الخصوصية، وعظمة المنزلة، وجزالة المثوبة، وهو ما كنا بيناه في معنى الآية.
وما أحسن التفسير عندما تعضده الأحاديث الصحاح ! !٣.
تأس ورجاء :
قد ثبت في السنة ما يكون من كثرة الجهل، وموت السنة، وانتشار البدعة وقد أيد ذلك الواقع والمشاهدة.
فإذا كان دعاة العلم والسنة وخصوم الجهل والبدعة، فلا بد أن يكونوا قليلا من العدد الكثير. خصوصا في مبدإ أمرهم وأول دعوتهم، ولابد أن يلقوا ما يلقون، ويقاسوا ما يقاسون.
ومما يثبت قلوبهم في عظيم مواقفهم : تأسيهم بالنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – الذي جاء وحده بالحق، والناس كلهم على الباطل، فما زال يجاهد حتى لقى ربه.
ومما يثبت قلوبهم أيضا : رجاءهم – إذا أخلصوا النية وأحسنوا الاقتداء – فيما يكون لهم من الثواب كذلك فيمن اهتدى بهم، وفيمن بذلوا جهدهم في هدايته، وكانت لهم الرغبة العظيمة في إيصال الخير إليه وإن لم يرجع إليهم.
٢ ذكر اللونين الأحمر والأسود، لقصد التعميم، إلى الناس كافة والجن..
٣ إذ السنة تفسيره وبيانه..
" فلا تطع الكافرين. وجاهدهم به جهادا كبيرا ".
المناسبة :
لما بين له ما خصصه به من الكرامة، دعاه إلى مقابلة ذلك بعدم طاعة أهل الكفر، والثبات على جهادهم بالقرآن.
المفردات :
( الفاء ) تفريعية. ( والطاعة ) الامتثال للطلب.
( والجهاد ) بذل الجهد من ناحيتك في مقابلة من هو باذل جهده في الناحية المقابلة لك، هذا مقتضى صيغة فعال١.
التراكيب :
( جهادا كبيرا ) مصدر مبين للنوع المطلوب بصفته، وهي كبيرا.
المعنى :
لما أكرمناك بعموم رسالتك، وختم النبوة بك فقابل هذه النعمة بإخلاص الطاعة لربك.
ولا تطع الكافرين أعداء الله وأعداءك، في أي شيء يدعونك إليه من مقتضيات كفرهم : كالرجوع إليهم، والسكوت عن بعض كفرهم.
وابذل كل جهدك في دعوتهم للدين الحق، ومقاومة ما هم عليه من الباطل بالقرآن العظيم، وجاهدهم بهذا القرآن جهادا كبيرا، بتحمل كل ما يأتيك من ناحيتهم من بلاء و إذاية والصبر عليه، والثبات على الدعوة والمقاومة.
تعميم :
كما لا تجوز طاعة الكافرين في شيء مما يمليه عليهم كفرهم، كذلك لا تجوز طاعة العصاة في شيء مما تمليه معصيتهم، لأن الجميع فيه مخالفة لدين الله.
وكما يجاهد أهل الكفر بالقرآن العظيم الجهاد الكبير ؛ كذلك يجاهد به أهل المعصية لأنه كتاب الهداية لكل ضال، والدعوة لكل مرشد.
وفي ذكر الكافرين تنبيه على العصاة على التنبيه بالأعلى على الأدنى ؛ لاشتراكهم في العلة وهي المخالفة.
اقتداء :
النبي لم يطع الكافرين ؛
ما كان النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ليطيع الكافرين، وإنما جاء هذا النهي تهييجا له على تمام مخالفتهم ومعاكستهم في جميع مناحي ومظاهر كفرهم.
والخطاب وإن كان له فالحكم شامل لأمته، فلا يجوز للمسلم أن يطيع كافرا أو عاصيا في أي شيء من نواحي الكفر، ونواحي المعصية.
فرضية الجهاد علينا :
وكما أن الجهاد بالقرآن العظيم هو فرض عليه، فكذلك هو فرض على أمته هكذا على الإجمال. وعند التفصيل تجده فرضا على الدعاة والمرشدين الذين يقومون بهذا الفرض الكفائي٢ على المسلمين.
فالنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – قدوة لأمته فيما اشتملت عليه الآية من نهي وأمر.
استدلال :
الدعوة بالقرآن :
هذه الآية نص صريح في أن الجهاد في الدعوة إلى الله، وإحقاق الحق من الدين.
وإبطال الباطل من شبه المشبهين وضلالات الضالين، وإنكار الجاحدين، هو بالقرآن العظيم :
ففيه بيان العقائد وأدلتها، ورد الشبه عنها.
و فيه بيان الأخلاق محاسنها ومساوئها، وطرق الوصول إلى التحلي بالأولى، والتخلي عن الثانية ومعالجتها.
وفيه أصول الأحكام وعللها.
وهكذا فيه كل ما يحتاج إليه المجاهد به في دين الله.
فيستفاد منها كما يستفاد من آيات أخرى غيرها، أن على الدعاة والمرشدين أن تكون دعوتهم وإرشادهم بالقرآن العظيم.
ميزان :
عندما يختلف عليك الدعاة، الذين يدعي كل منهم أنه يدعوك إلى الله تعالى، فانظر : من يدعوك بالقرآن إلى القرآن – ومثله ما صح من السنة لأنها تفسيره وبيانه، فاتبعه لأنه هو المتبع للنبي- – صلى الله عليه وآله وسلم – في دعوته وجهاده بالقرآن، والممتثل لما دلت عليه أمثال هذه الآية الكريمة من آيات القرآن٣.
نعمة ومنقبة :
قد سمى الله تعالى الجهاد بالقرآن جهادا كبيرا. وفي هذا منقبة كبرى للقائمين بالدعوة إلى الله بالقرآن العظيم. وفي ذلك نعمة عظيمة من الله عليهم حيث يسرهم لهذا الجهاد، حتى ليصح أن يسموا بهذا الاسم الشريف " مجاهدون " ٤. فحق عليهم أن يقدروا هذه النعمة، ويؤدوا شكرها بالقول والعمل، والإخلاص والصبر والثبات واليقين.
جعلنا الله والمسلمين منهم وحشرنا في زمرتهم أجمعين.
٢ إذا قام به البعض سقط عن الباقين..
٣ يحرص الإمام على تعقب الطرق المضلة في كل مناسبة لما كان لبعضا من أسوأ الآثار.
.
٤ وكأنما كانت تلك الكلمة ارهاصا بالثورة الجزائرية، التي قامت بعدئذ سنة ١٩٥٤ م.
وكان الإمام يشير إلى جبال أوراس وحصونها ويقول : من هنا يجب أن تقوم الثورة، فقامت فعلا من نفس المكان باسم الإسلام، والجهاد في سبيل الله، ودام الجهاد سبع سنوات ونصف، أتت على الأخضر واليابس، واستشهد مليون ونصف شهيد غير المعطوبين، ولكن ما لانت قناة الجزائريين، وما وهنوا. حتى أتى نصر الله والفتح..
" وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ".
المناسبة :
لما سأل المشركون بقولهم :( وما الرحمن ) ؟ كما يسألون عن المجهول ! ذكر لهم القرآن ما يعرفهم به من عظيم آياته، وجلائل انعاماته، التي هي من آثار رحمته ؛ فذكر لهم بروج السماء، والشمس والقمر، ثم ذكر لهم تعاقب الليل والنهار.
المفردات :
( خلفة ) يقولون : خلفت الفاكهة بعضها بعضا خلفا – بالتحريك وخلفة، إذا صارت خلفا من الأولى. وخلف زيد عمرا يخلفه إذا جاء بعده في مكانه.
فالخلفة مصدر : وهو لما كان على وزن فعلة دال على الهيأة كالركبة بمعنى الهيأة من الركوب، فالخلفة إذن هيأة من الخلوف. فإذا قلت : خلفه خلفا أو خلوفا.. فقد أردت مطلق الحدث، وإذا قلت : خلفه خلفة فقد أردت هيأة خاصة من المخلوف.
( التذكر ) قبول التذكير، واعتباره واتعاظه به.
( الشكور ) مصدر شكر بمعنى القيام بعبادته وطاعته، لأجل نعمه.
( أو ) للتفصيل و التنويع ؛ لأن المستفيدين من اختلاف الليل والنهار هم المتذاكرون والشاكرون، فلا تمنع من أن يكون الشخص الواحد متذكرا شاكرا في آن واحد.
التراكيب :
( خلفة ) مفعول ثان لجعل، على معنى جعلها ذوي خلفة. وفي الإخبار تقول : الليل والنهار خلفة، والرجلان خلفة على هذا المعنى، أي يخلف أحدهما الآخر.
وكان مفردا عن الاثنين لأنه مصدر١.
والجار في ( لمن أراد ) يتعلق بجعل وكان الجعل لهما، لأنهما المستفيدان منه، ولم يكرر الاسم الموصول لأن الشخص الواحد يمكن أن يتصف بالصفتين معا.
وكرر فعل الإرادة لأنها لا بد منها في التذكير وفي الشكر.
وقيل :( أن يتذكر ) ليفيد المضارع الحدوث والتجدد، فإن الغفلة مستولية على الإنسان، والآيات المرئية ما تزال تحدث له التذكر وتجدده له.
وقيل / ( شكورا ) لمناسبة رؤوس الآي.
المعنى :
يقول تعالى وهو الذي جعل الليل والنهار، ووضعهما يختلفان ويتعاقبان على هيأة مخصوصة في التخالف والتعاقب ؛ ليستفيد من ذلك العباد.
من أراد أن يتذكر فيعتبر بما فيهما من انتقال وتغير ونظام وتقدير.
ويستدل بذلك على وجود خالقهما، وقدرته وإرادته وعلمه وحكمته، ورحمته بمخلوقاته.
أو أراد أن يشكر ؛ فيقوم بعبادة خالقه المنعم عليه بجلائل النعم ودقائقها التي منها هذا الاختلاف والتعاقب بين هذين الوقتين، الذي لا يصلح حال الإنسان، ولا تنتظم أعماله ولا يستقيم عمرانه إلا به٢.
فقه لغوي :
اختيرت لفظة الخلفة هنا، لدلالتها على الهيأة، فتكون منبهة على هيأة هذا الاختلاف، بالطول والقصر المختلفين في جهات من الأرض. وذلك منبه على أسباب هذا الاختلاف من وضع جرم الأرض وجرم الشمس.
وذلك كله من آيات الله الدالة عليه، وبتلك الهيأة من الاختلاف المقدر المنظم عظمت النعمة على البشر، وشملتهم الرحمة.
فكانت هذه اللفظة الواحدة منبهة على ما في اختلاف الليل والنهار من آية دالة، ومن نعمة عامة. وهكذا جميع ألفاظ القرآن في انتقائها لمواضعها٣.
فقه شرعي :
لما كان جعل الليل والنهار خلفة لأجل التذكر والعمل، كان كل واحد منهما صالحا للعمل الذي يعمل صاحبه. فمن فاته عمل بالليل أتى به في النهار، ومن فاته عمل بالنهار أتى به في الليل. وهذا إذا كان من العادات فهو على سبيل التدارك، وإذا كان من العبادات فهو على سبيل القضاء.
قضاء الفوائت :
وقد روى ابن جرير – بسند حسن – أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقال : فاتتني الصلاة الليلة ؟ فقال : ادرك ما فاتك من ليلتها في نهارك، فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر، أو أراد شكورا ".
ومن هذا ما رواه مسلم والأربعة عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر. كتب له كأنما قرأه من الليل ".
فقه قرآني :
قوام الإنسان :
حياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها، مبنية على الأركان الثلاث :
الإرادة، والفكر، والعمل.
وهي المذكورات في هذه الآية، لأن التذكر بالتفكر والشكر بالعمل.
فاستفادة الإنسان مما خلقه الله له، وجعله لأجله، لا تكون إلا بهذه الثلاثة.
ثلاثة تتوقف على ثلاثة :
وهذه الثلاثة متوقفة على ثلاثة أخرى لابد للإنسان منها :
فالعمل متوقف على البدن.
والفكر متوقف على العقل.
و الإرادة متوقفة على الخلق.
فالتفكير الصحيح، والإرادة القوية من الخلق المتين، والعمل المفيد من البدن السليم.
واجب الإنسان :
فلهذا كان الإنسان مأمورا بالمحافظة على هذه الثلاثة : عقله، وخلقه، وبدنه، ودفع المضار عنها، فيثقف عقله بالعلم، ويقوم أخلاقه بالسلوك النبوي، ويقوي بدنه بتنظيم الغذاء. وتوقي الأذى، والترويض على العمل.
موعظة :
قال الإمام ابن العربي : سمعت ذا نشمند الأكبر – يعني الغزالي يقول :
إن الله خلق العبد حيا عالما وبذلك كماله. وسلط عليه آفة النوم، وضرورة الحدث، ونقصان الخلقة، إذن الكمال للأول الخالق. د
فما أمكن الرجل من دفع النوم، بقلة الأكل، والسهر في الطاعة فليفعل.
ومن الغبن العظيم أن يعيش الرجل ستين سنة، ينام ليلها فيذهب النصف من عمره لغوا.
وينام نحو سدس النهار راحة فيذهب له ثلثاه، ويبقى له من العمر عشرون سنة.
ومن الجهالة والسفاهة أن يتلف الرجل ثلثي عمره في لذة فانية، ولا يتلف عمره سهرة في لذة باقية، عند الغني الوفي، الذي ليس بعديم ولا ظلوم. ا ه.
سلوك :
حافظ على العبادات في أوقاتها، واقض ما فاتك.
واربط أعمالك بأوقاتها، وتدارك ما فاتك.
ووجه قصدك إلى ما ترى من آيات الله متفكرا.
ووجه قصدك في جميع أعمالك لله سامعا مطيعا – تكن عبدا ذاكرا شاكرا سعيدا – إن شاء الله – في الدارين.
وفقنا الله إلى ذلك والمسلمين أجمعين.
٢ " وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا"..
٣ وما أحسن التفسير تعضده الأحاديث الصحاح، كما قال الإمام..
الصفة الأولى والثانية
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا.
وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا : سلاما ".
المناسبة :
لما تجاهل المشركون الرحمن، واستكبروا عن السجود له، عرفهم القرآن بالرحمن : بخلقه، وتدبيره وإنعامه، كما مضى في الآيات المتقدمة.
ثم عرفهم بعباده الذين عرفوه بذلك، فآمنوا به وخضعوا له. بما اشتملت عليه هذه الآيات من صفاتهم.
وكما كانت مخلوقات الله المذكورة سابقا دالة عليه، ومعرفة به، بما فيها من آثار قدرته وآثار رحمته، كذلك كان عباده المذكورون أدلة عليه، ومعرفين به، بأقوالهم، وأفعالهم، وهديهم، وسلوكهم ومظاهر آثار رحمة الله عليهم.
فذكروا بعد ذكر تلك المخلوقات، وذكرت هي قبلهم ؛ لأنها كانت أدلة لهم، والدليل سابق على المستدل، سبق المستفاد منه على المستفيد.
تشريف :
وفي تعريف القرآن لعباد الرحمن بعد تعريفه بالرحمن، تشريف كبير لهم، وتبكيت لأولئك المتجاهلين المتكبرين.
ووجه آخر في المناسبة، وهو أنه لما ذكر التذاكر والشكر في الليل والنهار في الآية المتقدمة، ذكر صفات المتذكرين الشاكرين، وما أثمره لهم تذكرهم وشكرهم، ترغيبا في التذكر والشكر.
وقولهم للجاهلين سلاما من مقتضى هونهم ورفقهم، فلذلك قرن به وعطف عليه.
المفردات :
( عباد ) جمع عبد بمعنى المملوك الذليل الخاضع، أو جمع عابد كصاحب وصحاب، وتاجر وتجار : بمعنى المطيع والقائم بما يرضي ربه، والأول هنا أظهر.
( الرحمن ) المنعم الذي تتجدد نعمه في كل آن.
( يمشون على الأرض ) يتنقلون عليها.
( هونا ) هان الأمر يهون هونا بمعنى سهل. ومنه " هو علي هين " أي سهل وشيء هين على وزن فعل أي سهل، ويقال هين بالتخفيف.
ومن صفات المؤمن أنه هين لين، من الهون بمعنى السهولة في أخلاقه ومعاملته.
وفي مسند أحمد عن ابن مسعود مرفوعا :" حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس ".
وهو على ما فسرنا من السهولة في أخلاقه ومعاملته، وذلك هو الذي يقربه من الناس.
وفسر الهون في الآية بالحلم، والوقار، والسكينة، والتواضع والطاعة، وكلها ترجع إلى السهولة واللين.
( خاطبهم ) كلهم. ( الجاهلون ) السفهاء القليلو الأدب السيئو الأخلاق.
والجهل ضد العلم، ويطلق بمعنى السفه والطيش ؛ لأنهما عنه ينشآن.
ومنه قول الشاعر١ :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ومنه ( الجاهلون ) في الآية.
( سلاما ) السلام كالسلامة معناهما : التعري من الآفات والمكروهات.
التراكيب :
وصلت الجملة بما قبلها بالواو، لاشتراكهما في القصد وهو التعريف بالرحمن وبعباده. وعباد مبتدأ، والذين خبر.
وأضاف العباد للرحمن تخصيصا لهم وتفضيلا وتقريبا، وفيه تعريض بأولئك المتجاهلين المتكبرين المبعدين.
وهونا منصوبا على أنه مفعول مطلق، والتقدير مشيا هونا أو على أنه حال من فاعل يمشون، أي هينين. ومجيء المصدر حالا كثير، ولمصدريته أفراد والموصوف جمع، نظير الزيدون عدل.
إرادة المعنى الأصلي والكنائي :
( ويمشون على الأرض هونا ) تركيب كنائي، أريد به معناه، ولازم معناه :
فهم يمشون برفق وتثبت، لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا، هذا أصل المعنى وهو مراد.
ومراد أيضا لازمه٢ وهو سهولتهم وتواضعهم وعدم تكبرهم ورفقهم في الأمور. وبعدهم عن الإفساد.
ومراد لازم آخر أيضا : وهو سيرهم في الحياة وتصرفهم في جميع الأمور، ومعاملتهم للناس، فإذا كانوا أهل رفق وسهولة في مشيهم في الأرض، فكذلك هم أهل رفق وسهولة في الأمور الأخرى مما ذكرنا ؛ لأن الرفق والسهولة خلق فيهم، فكما هو في المشي هو في غيره.
وكانت الصلة بالمضارع٣ ليفيد التجدد، فإن المشي هو في الأرض ضروري للإنسان.
وكان المعطوف على الصلة بصورة الشرط٤ ؛ لأن خطاب الجاهلين لهم ليس ما يكون دائما.
وكان التعليق بإذا لأن مخاطبة الجاهلين لهم بالسوء أمر محقق.
ومتى سلم أهل العلم والدين من الجاهلين٥ ؟ ! !
ولم يذكر ما يخاطبهم به الجاهلون للعلم بأن خطاب الجاهل أي السفيه لا يكون إلا سوءا مما يمليه عليه جهله وسفهه.
ونصب ( سلاما ) على أنه مفعول مطلق و التقدير : قالوا قولا سلاما، أي ذا سلام، فيشمل كل قول فيه سلامة من الأذى والمكروه : كسلام عليكم، ويغفر الله لكم، وسامحكم الله، ونحو ذلك.
أو نصب على أنه مفعول به، أي قالوا هذا اللفظ، سلاما نفسه.
المعنى :
يقول تعالى : وعباد الرحمن ومماليكه القائمون بحق العبودية له، هم أهل الرفق والسهولة الذين يمشون على الأرض هينين في مشيهم، وفي معالجتهم لشؤون الحياة، ومعاملتهم للناس لحلمهم وتواضعهم، غير مستكبرين ولا متجبرين، ولا ساعين في الأرض بالفساد.
وإذا خاطبهم السفهاء بما لا ينبغي من الخطاب قابلوهم بالحلم، وقالوا لهم : سلاما، لأنهم سلموا من الجهل ؛ فسلم المخاطب لهم من أن يجهلوا عليه ولو جهلوا أو قالوا لهم ما فيه سلامة من الأذى والمكروه.
الأحكام :
المشي
في الآية استحباب الرفق في المشي، وكراهية العنف والاضطراب ومن العنف الضرب بالرجل والخفق بالنعل. فإذا كانا بعجب وخيلاء فهو حرام.
وفيها الإغضاء عن الجاهل ومقابلة كلمته السيئة بالكلام الحسن٦ وكراهة مجاراته في خطابه ومماثلته، وإذا كان في ذلك فتنة أو مفسدة محققة كان حراما.
تمييز :
المشي الهين
ليس من الهون في المشي لتثاقل والتماوت فيه.
وروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لجماعة رآهم كذلك :
( لاتميتوا علينا ديننا أماتكم الله ).
وأن عائشة رضي الله عنها، رأت قوما يتماوتون، فسألت عنهم ؟ فقيل لها : هؤلاء قوم من القراء. فقالت : لقد كان عمر من القراء، وكان إذا مشي أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب أوجع.
وكان مشيه – رضي الله عنه – إلى السرعة خلقة لا تكلفا. والخير في الوسط.
وليس هون المشي وحده يعرفك بأن صاحبه من عباد الرحمن، فرب ماش هونا رويدا وهو ذئب أطلس. ولكن بالهون في المشي، وبما ذكرنا في فصل التراكيب والمعنى من لوازمه.
بيان ورد
مفاد الآية محكم لا نسخ فيه
اشتملت الآية على بيان الأدب في معاملة الجاهلين من أفراد الناس، سواء أكانوا مسلمين أم غيرهم.
وما اشتملت عليه من الأدب قد جاء في آيات كثير : مثل :" وأعرض عن الجاهلين " ٧
وقوله تعالى " وإذا سمعوا اللغو وأعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين " ٨.
فهو أدب مشروع مؤكد وحكم دائم محكم، وهو في معاملات الأفراد كما ترى.
زعم ورده :
فلا ينافي ما شرع من الحزب عند وجود أسبابها، وتوفر شروطها بين الأمم والجماعات. وهي من الأمور العامة كما ترى.
فبطل قول من زعم أن هذه لآية عند وجود أسبابها، وتوفر شروطها بين الأمم والجماعات. وهي من الأمور العامة كما ترى.
وما أكثر ما قتلت أحكام بآية السيف هذه ! وهي عند التحقيق غير معارضة لها ؛ لمباينة حالها لحالها.
تمثيل واستدلال :
جاء في الصحيح من طرق مجموع ألفاظها :
أن رهطا من اليهود دخلوا على النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – فقالوا : السام عليكم ( والسام الموت ) ففهمتها عائشة – رضي الله عنها – فقالت : وعليكم السام واللعنة وغضب الله عليكم. فقال لها رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم :- مهلا يا عائشة عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش : إن الله يحب الرفق في الأمور كلها فقالت له عائشة : أو لم تسمع ما قالوا ؟ فقال لها : أو لم تسمعي ما قلت ؟ رددت عليهم : قد قلت :" وعليكم ".
فيستجاب لي فيهم ( لأنه دعاء بحق ) و لا يستجاب لهم في ؛ ( لأنه دعاء بباطل وظلم ).
فقد خاطبه هؤلاء الجاهلون بالسوء فقال لهم كلمة سالمة من القبح، ليس فيها لفظ الإذاية، وهو السام، بعيدة عن الإفحاش، خالصة للرفق، فهي من العقول السلام : أي ذي السلام من مقتضى الآية على الوجه الأول٩من وجهيها.
ففي الحديث مثال لقول السلام في خطاب الجاهل، ودليل على عموم الحكم وإحكامه.
سؤال وجوابه :
هل تسلم على الكافر ؟
على الوجه الثاني في الآية وهو أنه يقول للجاهل سلاما١٠، يقال : هل يسلم عليه إذا كان كافرا ؟.
فيقال : نعم ؛ كما قال إبراهيم لأبيه " سلام عليك ". وقد قال الله تعالى :" قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ". ولم يستثن إلا قوله لأبيه :" لأستغفرن لك ".
نعم هو سلام موادعة و متاركة، لا سلام تحية وكرمة.
لطيفة تاريخية :
أبلغ جواب :
قالوا : إن إبراهيم بن المهدي العباسي كان منحرفا١١عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- فرآه في النوم قد تقدمه لعبور قنطرة، فقال له إبراهيم : إنما تدعي هذا الأمر يعني الخلافة بامرأة، يعني فاطمة – رضي الله عنها – ونحن أحق به منك. وحكى إبراهيم رؤياه للمأمون، وقال له فما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه !
فقال له المأمون : فما أجابك به ؟ قال كان يقول لي :" سلاما سلاما " فنبهه المأمون على هذه الآية، وقال : يا عم، قد أجابك بأبلغ جواب ! فخزي إبراهيم واستحيى. ا ه.
فرضي الله عن الإمام الهاشمي ما أبلغه حيا وميتا ! !
توجيه وسلوك :
القول السلام محمود ومطلوب في كل حال، وإنما حالة الجاهل، لأنها الحالة التي تثور فيها ثائرة الغضب بما يكون من سفهه ومهاترته.
فعلى المؤمن أن يكون حاضر البال بهذه الآية عندما تسوق إليه الأقدار جاهلا، فيخاطبه بما لا يرضيه حتى يسلم من شره، ويكسر من شرته فيسلم له عرضه ومروءته ودينه. ويسلم ذلك الجاهل أيضا من اللجاج في الشر والتمادي فيه١٢.
فيكون المؤمن بقوله السلام، وتأدبه بأدب القرآن قد حصل السلامة للجميع.
وأعظم به من فضل وأجر في الدنيا والدين.
وفقنا الله لذلك والمسلمين أجمعين.
والجهل الأول في البيت حقيقي، لأنه بمعنى السفه والطيش، ولكن الثاني من المجهول عليهم، ليس جهلا، لأنه أخذ بالحق وقصاص، وسمي جهلا للمشاكلة، كقوله تعالى :" وجزاء سيئة سيئة مثلها "..
٢ نهي لازم المعنى الأصلي وهو المراد بالكناية..
٣ في يمشون..
٤ وإذا خاطبهم..
٥ لم يسلموا، حتى أغرى بعض السفهاء في الجزائر سفيها على قتل باديس، وهم المجرم بطعنه بالسكين، فأمسكه بن باديس وقبض عليه، وتداركه الناس، ثم عفى عن الجاني، لأنه آلة في يد غيره. وجاهل لا يدري " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما "..
٦ ادفع بالتي هي أحسن..
٧ " خذ العفو، وأمر بالعرف، واعرض عن الجاهلين ". الآية ١٩٩ من الأعراف..
٨ سورة القصص الآية : ٥٥.
٩ وهو كل قول فيه سلام..
١٠ بنص هذه اللفظة..
١١ لا يحبه..
١٢ وداروا سفهائكم..
" والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما "
المناسبة :
لما ذكر فيما تقدم سلوكهم١ مع الخلق.. ذكر في هذه الآية سلوكهم في القيام بعبادة لحق. وفيما تقدم بيان حالهم عند اختلاطهم بالعباد، وفي هذه بيان حالهم عند تفردهم لرب العباد.
المفردات :
( يبيتون ) من البيتوتة، وهي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم. ويقابلها الظلول وهو أن يدركك النهار.
( السجد ) جمع ساجد. ( والقيام ) جمع قائم، وهو من الأوزان التي يشترك فيها المصدر والجمع.
التراكيب :
( الذين ) عطف على الخبر الأول، وأعيد لفظ الذين لاستقلال الحالة الثانية عن الأولى.
وقدم الجار٢ ليفيد تخصيص عبادتهم بربهم، ويفيد الكلام عبادتهم وإخلاصهم.
وقدم سجدا لأن السجود أقرب أحوال العبد للرب، لحديث :" أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد " :
ووقع قياما في موقعه مناسبا للفاصلة.
المعنى :
ومن صفات عباد الرحمن أنهم يحيون الليل، فيبيتون يصلون لربهم، يراوحون بين السجود والقيام.
بين وترغيب :
هذه الآية من آيات الحث على قيام الليل، مثل قوله تعالى :
" تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون " ٣.
قيام الرسول :
وقد بينت السنة المطهرة مقداره. فثبت في الموطأ من طريق أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنها - :" أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم، ما كان يزيد في رمضان و لا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعا لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا ".
والسلام بعد كل ركعتين لحديث :" صلاة لليل مثنى مثنى ".
وثبت عند مسلم من طريق سعد بن هشام، عنها٤ بأنه كان يفتتح صلاته بالليل بركعتين خفيفتين، فتلك ثلاث عشرة.
وقد ثبت ذلك في الموطأ من طريق عروة عنها، قالت :
" كان رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة ".
وهذا هو الغالب من أحواله، وقد كان يصلي أقل منه في بعض الأحوال.
فقد ثبت عند البخاري من طريق مسروق عنها :" أن صلاته – صلى الله عليه وآله وسلم – بالليل سبع، وتسع، وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر ".
ومثل ما جاء عن عائشة من انتهاء ركعاته إلى ثلاث عشرة جاء في الموطأ من حديث ابن عباس.
وجاء فيه أيضا من حديث زيد بن خالد الجهني.
وفي هذه السنة العملية الثابتة بيان للقدر الأكمل، الذي يكون به العبد ممن يصدق عليهم هذا الوصف من صفات عباد الرحمن.
٢ لربهم.
٣ سورة السجدة، الآية: ١٦..
٤ عن عائشة رضي الله تعالى عنها..
" والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم، إن عذابها كان غراما.
إنها ساءت مستقرا ومقاما ".
المناسبة :
لما ذكر حسن سلوكهم مع الخلق، واجتهادهم في عبادة الحق، ذكر خوفهم من ربهم، واعتمادهم عليه في نجاتهم، وعدم اعتزازهم بأعمالهم، فهم يأتون ما يأتون من محاسن الأعمال، ولا يعتمدون إلا الكبير المتعال.
المفردات :
( الغرام ) مادة ( غ ر م ) تدور١على معنى الملازمة مع الثقل والشدة، ولذا فسر الغرام بالشر، وبالعذاب، وبالهلاك الملازم.
( ساءت )، بمعنى قبحت، مثل بئس لإنشاء الذم.
( المستقر ) محا الإقامة أي البقاء.
والتراكيب :
( ساءت ) فاعلة الضمير المخصوص بالذم.
و ( مستقرا ومقاما ) تمييز مفسر للضمير.
وجملة إن عذابها تعليل للجملة الدعائية٢، وفصلت عنها لكمال الانقطاع بينهما٣
وجملة :( إنها ساءت ) مؤكدة لمضمون الجملة قبلها مع اختلاف في المعنى : فإن ما أفادته الأولى من فداحة عذابها وملازمته، أكدته الثانية بما أفاده من مقامه مستقرها، ففصلت عنها لما بينهما من كمال الاتصال نظير : ذلك الكتاب لا ريب فيه.
والتأكيد فيها بأن، لأنه لوح وأشير في الكلام السابق إلى هذا الخبر، وشأن السامع لهذا أن يستشرف له استشراف المتردد الطالب، فينزل منزلة المتردد فيؤكد له الخبر. ٤
ووجه التلويح بهذا الخبر : أنه لما سئل صرف عذاب جهنم كان هذا مشيرا إلى قبح هذا العذاب وشدته. فهذا نظير ولا تخاطبني في الذين ظلموا... إنهم مغرقون.
المعنى :
من صفاتهم أنهم يدعون الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم ؛ لأن عذابها عذاب شديد، فادح، ملح، ملازم. ولأنها بئست المستقر الذي يستقر ويثبت فيه. وبئست المقام الذي يقام ويمكث فيه.
رد واستدلال :
غلو في الزعم ورده
زعم قوم أن أكمل أحوال العابد، أن يعبد الله تعالى لا طمعا في جنته، ولا خوفا من ناره. وهذه الآية وغيرها رد قاطع عليهم.
ومثلها قول إبراهيم – عليه وعلى آله الصلاة والسلام – " والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين "، وفي نصوص لا تحصى كثرة.
وزعموا أن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقاب، أو طمع في ثوابه. وأخطأوا فيما زعموا :
فإن العبادة مبناها الخضوع والذل والافتقار، والشعور بالحاجة والاضطرار.
وإظهار العبد هذه العبودية بأتمها، ومن أتم مظهر لها، أن يخاف، ويطمع، كما يذل، ويخضع ؛ ففي إظهار كمال نقص العبودية القيام بحق الإجلال والتعظيم للربوبية.
ولهذا كان الأنبياء – عليهم وآلهم الصلاة والسلام – هم أشد الخلق تعظيما لله، وأكثرهم خوفا من الله، وتعوذا من عذاب الله، وسؤالا لما عند الله، وكفى بهم حجة وقدوة.
مؤدى :
وإن هذه المقالة٥ تكاد تفضي إلى طرح الرجاء والخوف، وعليهما مبنى الأعمال، لما فيهما من ظهور العبودية بالذل والاحتياج.
ومن دعاء القنوت الثابت المحفوظ :" وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد " وهذا ضروري في الدين.
سبب الغلو :
ولكن مثل هذه المقالة إنما يجر إليها :
الغلو وقلة الفقه في الدين، وفي الكتاب والسنة، وما كان عليه هدى السابقين الأولين.
واعتبار ونصيحة :
قدر العذاب
إن جهنم هي أقبح مستقر وأقبح مقام.
وإن الدنيا هي مطية الآخرة ؛ فمن ساء مستقره ومقامه في الدنيا، ساء كذلك مستقره ومقامه في الآخرة.
وإن ملازمة العذاب في الآخرة على قدر ملازمة المعاصي في الدنيا ؛ فمن لازمها بالكفر، مات عليه، دامت له تلك الملازمة. ومن لازمها بالاصرار على الكبائر كانت له، على حسب ذلك الملازمة.
فعلى العاقل أن يحسن مقره ومقامه، وأن يجتنب كل موطن تلحقه فيه الملامة. وأن يجتنب مجالس السوء والبدعة، ويلازم مجالس الطاعة والسنة.
وأن يسرع بالتوبة مفارقا الذنوب، وألا يصر على شيء من القبائح والعيوب.
وأن يكون سريع الرجوع إلى الله ولو عظم ذنبه وبلواه، فالله يحب التوابين ويغفر للأوابين جعلنا منهم أجمعين آمين٦.
أيهما أكمل :
العبادة مع رجاء الثواب وخوف العقاب ؟
أم العبادة دونهما ؟
زيادة بيان على قوله تعالى :" والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم، إن عذابها كان غراما ".
تمهيد :
قد قال قوم : إن العبادة دون رجاء ثواب ولا خوف عقاب هي أكمل العبادات !
وأنكرنا مقالتهم فيما كتبناه على قوله تعالى :" والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم، إن عذابها كان غراما " فيما سبق.
وقلنا في الإنكار عليهم :
" وزعموا أن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه، أو طمع في ثوابه، وأخطأو فيما زعموا ".
وذكرنا إثر ذلك بعض الأدلة التي اعتمدنا عليها...
وبعد أن مضى على ذلك ثلاثة أشهر كاملة ! !نشر الشيخ المولود الحافظي مقالا ردا علينا.
دون أن يذكر جميع أدلتنا.
ودون أن يتعرض لنقضها أو متنها، أو عدم انطباقها، أو إفادتها لما سبقت لإفادته.
ودون أن يعارضها بمثلها في الرتبة والدلالة.
وأطال بما بعضه خارج عن محل النزاع، وبعضه هو نفس الدعوى المحتاجة إلى الاستدلال.
فرأينا – إثر اطلاعنا على مقاله – أن نعود لذكر أدلتنا التي اعتمدنا عليها فيما اخترناه : من أن وضع العبادة الشرعية، على رجاء الثواب وخوف العقاب، وبيان دلالتها على المدعي. ثم نتكلم على بعض ما في مقاله، فنقول : حقيقة العبادة.
مقتضى الضعف والافتقار :
إن العبادة هي غاية الذل والخضوع، مع الشعور بغاية الضعف والافتقار. ومن مقتضى الضعف أن يخاف ويوجل، ومن مقتضى الافتقار أن يرجو ويطمع :
١- فخوف العبد من عقاب ربه، هو من مقتضى اعترافه بضعفه وقوة ربه، وشهوده لعزته وقهره، وعموم تصرفه في خلقه، وأنه لا معقب لحكمه، وأنه لا يؤمن من مكروهه.
٢- وطمعه في ثوابه، هو من مقتضى اعترافه بحاجته وفقره وغنى ربه، وفضله، وتصديقه بوعده ؛ فهو يعبده ويخاف ألا يقبل عبادته، ويخشى نقمته٧. ويعبده ويرجو رحمته، وينتظر مثوبته.
وفي عبادته هذه إظهار لغاية العبودية بنقصها وحاجتها، وقيام بحق التعظيم والإجلال للربوبية، والاعتراف لذلك المقام بالقدرة والعزة، والغنى والرحمة والكمال.
فوضعت العبادة في الدين على خوف العقاب، ورجاء الثواب، لما في ذلك من إظهار غاية عبودية العبد بضعفه وافتقاره، أمام ربه الغني الرحيم القوي المتين.
الأدلة :
والدليل على هذا ستسمعه، من الكتاب، والسنة، و أقوال السلف :
أولا :
أما الكتاب : فقوله تعالى :
١- " إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون. تتجافى جنوبهم عن المضاجع٨يدعون ربهم خوفا وطمعا، ومما رزقناهم ينفقون. فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين٩جزاءا بما كانوا يعملون١٠ ".
ووجه الدليل من الآية :
أن هؤلاء المذكورين فيها، هم الكمل من عباد الله الصالحين، بدليل حديث أبي هريرة – رضي الله عنه المروي في الصحيح – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – " يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ملا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ذخرا بله ما اطلعتم عليه ".
ثم قرأ قوله تعالى :" فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ".
ومع كمالهم١١لم تتجرد عبادتهم من الخوف والطمع١٢.
ووجه أخر :
وهو أن الله تعالى ذكر لنا عبادتهم ؛ لنعرف العبادة الشرعية كيف تكون ؟ فذكرها مع الخوف والطمع، فعرفنا أن العبادة وضعت في الشرع على ذلك.
ووجه ثالث :
وهو : أنه تعالى ذكر لنا صفاتهم وعبادتهم ؛ لنقتدي بهم فيها، فعلم أن العبادة هي التي يدعونا ربنا إليها هي العبادة خوفا وطمعا.
٢- ومثل هذه الآية :
" الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.
ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته، وما للظالمين من أنصار. ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ؛ ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد١٣.
ووجه الدليل منها كالتي قبلها.
وتزيد عليها ببيان صريح دعائهم وطلبهم الوقاية من النار، وغفران وتفكر السيئات.
٣- ومثلها قوله تعالى :
" والذين يقولون : ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما١٤ ".
ووجه الدليل منها كالتي قبلها.
٤- ومثلها قوله تعالى :
" يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا١٥. ويطعمون الطعام على حبه١٦مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منك جزاء ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا١٧ ".
ووجه الدليل منها مثل ما تقدم وتزيد بيان أن خوف اليوم العبوس لا ينافي الإطعام لوجه الله.
٥- ومثلها قوله تعالى :
" أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ؟ إنما يتذكر أولو الألباب. الذين يوفون بعهد الله، ولا ينقضون الميثاق. والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب. والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة، وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية، ويدرؤون١٨ بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار " ١٩.
ووجه الدليل كما تقدم، وفيها أيضا بيان أن خوف سوء الحساب لا ينافي الصبر ابتغاء وجه الله تعالى.
٦ – ومثلها قوله تعالى :
" إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون. والذين هم بآيات ربهم راجعون. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون " ٢٠، ووجه الدليل كما تقدم.
ومعنى الآية : أنهم يعطون ما أعطوا من أعمال البر والطاعات، وقلوبهم خائفة من أنهم راجعون إلى ربهم، فيخافون ألا تقبل منهم. ففيها بيان أنهم كانوا يعملون راجين قبول الأعمال، خائفين من عدم قبولها.
فهؤلاء هم الكمل من عباد الله، وهذه هي عبادتهم في صريح هذه الآيات الكريمة التي ذكرت فيها صفاتهم.
وكلها بكثرتها وصراحتها دالة دلالة قطعية لما قلناه : من أن العبادة الشرعية موضوعة على رجاء الثواب والخوف من العقاب ؛ إذ ذلك هو أظهر مظاهر العبودية بذلها وخضوعها، وضعفها وحاجتها وفقرها، وحالتها المباينة غاية المباينة لمقام الربوبية، مقام ذي الجلال والإكرام.
و لا تجد في القرآن العظيم، آية واحدة دالة دلالة صريحة على ذكر عبادة – هكذا – دون خوف أو طمع.
٧- و نزيد على الآيات المتقدمة، آية دالة على حال عبادة المعصومين عليهم الصلاة والسلام، وهي قوله تعالى :" والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين٢١ ".
ووجه الدليل في الآية : أن إبراهيم عليه السلام : أخبر عن نفسه بصيغة المضارع، المفيد للتجدد أنه يطمع من الله أن يغفر له خطيئته ؛ فدل ذلك على أنه كان في عبادته طامعا.
و معلوم أن معصوم، وأنه مؤمن من العذاب، وأن ما سماه خطيئته هو بالنسبة إلى مقامه الرفيع من باب :" حسنات الأبرار سيئات المقربين ".
ومع ذلك كله فالمقصود من الدليل حاصل، وهو أنه خاف المؤاخذة – المؤاخذة اللائقة بمقامه – وطمع في الغفران، وكانت عبادته على الطمع والخوف.
ولا يقال : إنه كان معلما للناس ؛ لأنه إخبار عن نفسه، وخبره صدق ثابت، فلا بد أن يكون كما أخبر.
ثانيا :
وأما من السنة فمنها :
١- دع
٢ الجملة الدعائية " ربنا اصرف عنا...".
٣ إذ لأولى إنشائية، والثانية خبرية وهذا ما يسمى بكمال الانقطاع موجب للفصل: وعدم الوصل بالواو. ولقد قدرنا جملة :" إن عذابها كان غراما"، جوابا عن سؤال مقدر كأن سائلا سأل له : لماذا يصرف عنكم، ولو كانت جملة " إنها ساءت مستقرا..." جوابا لوجب الفصل أيضا بشبه كمال الانقطاع؛ إذ الجواب عن السؤال، مع الاختلاف أيضا في الانشائية والخبرية.
ومثل كمال الانقطاع؛ في وجوب الانفصال، كمال الاتصال، أو شبهه، كما سيذكر لإمام في جملة " إنها ساءت..."
.
٤ والمتردد الشاك يؤكد الخبر تأكيدا خفيفا، ليزيل شكه وتردده.. وهذا من ورود الكلام على مقتضى الحال. وبصر الإمام بالبلاغة.
.
٥ أي زعم الزاعمين..
٦ بعدما فسر الإمام – رحمه الله – الصفة الرابعة من صفات عباد الرحمن، نشر الشيخ المولود الحافظي – بعد انقضاء ثلاثة أشهر – مقالة، في جريدة البلاغ التي كانت تصدر بالجزائر وقتئذ، ذكر فيها أن العبادة يجب أن تكون لله دون رجاء ثواب، ولا خوف عقاب، لأن كمال التعظيم لله ينافيه أن يصاحب العبادة خوف من العقاب، أو رجاء في الثواب.
فانبرى له الشيخ باديس يرد عليه في هذا المقال الضافي، في غزارة علم، وطول باع، وسعة اطلاع، بعنوان : أيهما أكمل : العبادة مع رجاء الثواب وخوف العقاب؟ أم العبادة دونهما؟ ونشر ذلك الرد وقتها في مجلة " الشهاب " التي كان يحررها بن باديس ج ا، من المجلد في غرة رمضان سنة ١٣٥١ ه.
ولما لهذا الرد من صلة وثيقة بالصفة الرابعة من صفات عباد الرحمن، رأينا إثباته عقب التفسير لهذه الصفة، لما في ذلك من فوائد جمة..
٧ وقد قال أبو بكر رضي الله عنه: أنه يخشى مكر الله وغضبه، ولو كانت إحدى قدميه في الجنة!!.
٨ تتجافى: ترتفع وتنحني للعبادة. المضاجع الفرش التي يضطجع عليها..
٩ قرة أعين : موجبات المسرة والفرح..
١٠ سورة السجدة الآيات : ١٥، ١٦، ١٧..
١١ العباد الصالحين..
١٢ بل ذكرت صراحة في الآية..
١٣ سورة آل عمران الآيات : ١٩١ حتى ١٦٤..
١٤ كن غراما: لازما ممتدا مثل لزوم الغريم..
١٥ مستطيرا : منتشرا غاية الإنتشار..
١٦ على حب الله، أو حب الطعام المتصدق به، و حاجتهم إليه وإيثارهم غيرهم..
١٧ عبوسا : كالحا تكلح فيه الوجوه لهوله – والقمطرير : شديد العبوس، والكلام مجاز إذ يقع العبوس فيه. (سورة الإنسان، الآيات من ٧ حتى ١٠ ) وبعد هذه الآيات قوله تعالى :" فوقاهم الله شر ذلك اليوم، ولقاهم نظرة وسرورا، وجزاهم بما صبروا جبة وحريرا...".
١٨ يدرؤون : يدفعون..
١٩ سورة الرعد، الآيات : من ١٩ – ٢٢
.
٢٠ سورة المؤمنون – الآيات : من ٥٧ حتى ٦١..
٢١ سورة الشعراء – الآية ٨٢..
" والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم، إن عذابها كان غراما.
إنها ساءت مستقرا ومقاما ".
المناسبة :
لما ذكر حسن سلوكهم مع الخلق، واجتهادهم في عبادة الحق، ذكر خوفهم من ربهم، واعتمادهم عليه في نجاتهم، وعدم اعتزازهم بأعمالهم، فهم يأتون ما يأتون من محاسن الأعمال، ولا يعتمدون إلا الكبير المتعال.
المفردات :
( الغرام ) مادة ( غ ر م ) تدور١على معنى الملازمة مع الثقل والشدة، ولذا فسر الغرام بالشر، وبالعذاب، وبالهلاك الملازم.
( ساءت )، بمعنى قبحت، مثل بئس لإنشاء الذم.
( المستقر ) محا الإقامة أي البقاء.
والتراكيب :
( ساءت ) فاعلة الضمير المخصوص بالذم.
و ( مستقرا ومقاما ) تمييز مفسر للضمير.
وجملة إن عذابها تعليل للجملة الدعائية٢، وفصلت عنها لكمال الانقطاع بينهما٣
وجملة :( إنها ساءت ) مؤكدة لمضمون الجملة قبلها مع اختلاف في المعنى : فإن ما أفادته الأولى من فداحة عذابها وملازمته، أكدته الثانية بما أفاده من مقامه مستقرها، ففصلت عنها لما بينهما من كمال الاتصال نظير : ذلك الكتاب لا ريب فيه.
والتأكيد فيها بأن، لأنه لوح وأشير في الكلام السابق إلى هذا الخبر، وشأن السامع لهذا أن يستشرف له استشراف المتردد الطالب، فينزل منزلة المتردد فيؤكد له الخبر. ٤
ووجه التلويح بهذا الخبر : أنه لما سئل صرف عذاب جهنم كان هذا مشيرا إلى قبح هذا العذاب وشدته. فهذا نظير ولا تخاطبني في الذين ظلموا... إنهم مغرقون.
المعنى :
من صفاتهم أنهم يدعون الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم ؛ لأن عذابها عذاب شديد، فادح، ملح، ملازم. ولأنها بئست المستقر الذي يستقر ويثبت فيه. وبئست المقام الذي يقام ويمكث فيه.
رد واستدلال :
غلو في الزعم ورده
زعم قوم أن أكمل أحوال العابد، أن يعبد الله تعالى لا طمعا في جنته، ولا خوفا من ناره. وهذه الآية وغيرها رد قاطع عليهم.
ومثلها قول إبراهيم – عليه وعلى آله الصلاة والسلام – " والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين "، وفي نصوص لا تحصى كثرة.
وزعموا أن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقاب، أو طمع في ثوابه. وأخطأوا فيما زعموا :
فإن العبادة مبناها الخضوع والذل والافتقار، والشعور بالحاجة والاضطرار.
وإظهار العبد هذه العبودية بأتمها، ومن أتم مظهر لها، أن يخاف، ويطمع، كما يذل، ويخضع ؛ ففي إظهار كمال نقص العبودية القيام بحق الإجلال والتعظيم للربوبية.
ولهذا كان الأنبياء – عليهم وآلهم الصلاة والسلام – هم أشد الخلق تعظيما لله، وأكثرهم خوفا من الله، وتعوذا من عذاب الله، وسؤالا لما عند الله، وكفى بهم حجة وقدوة.
مؤدى :
وإن هذه المقالة٥ تكاد تفضي إلى طرح الرجاء والخوف، وعليهما مبنى الأعمال، لما فيهما من ظهور العبودية بالذل والاحتياج.
ومن دعاء القنوت الثابت المحفوظ :" وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد " وهذا ضروري في الدين.
سبب الغلو :
ولكن مثل هذه المقالة إنما يجر إليها :
الغلو وقلة الفقه في الدين، وفي الكتاب والسنة، وما كان عليه هدى السابقين الأولين.
واعتبار ونصيحة :
قدر العذاب
إن جهنم هي أقبح مستقر وأقبح مقام.
وإن الدنيا هي مطية الآخرة ؛ فمن ساء مستقره ومقامه في الدنيا، ساء كذلك مستقره ومقامه في الآخرة.
وإن ملازمة العذاب في الآخرة على قدر ملازمة المعاصي في الدنيا ؛ فمن لازمها بالكفر، مات عليه، دامت له تلك الملازمة. ومن لازمها بالاصرار على الكبائر كانت له، على حسب ذلك الملازمة.
فعلى العاقل أن يحسن مقره ومقامه، وأن يجتنب كل موطن تلحقه فيه الملامة. وأن يجتنب مجالس السوء والبدعة، ويلازم مجالس الطاعة والسنة.
وأن يسرع بالتوبة مفارقا الذنوب، وألا يصر على شيء من القبائح والعيوب.
وأن يكون سريع الرجوع إلى الله ولو عظم ذنبه وبلواه، فالله يحب التوابين ويغفر للأوابين جعلنا منهم أجمعين آمين٦.
أيهما أكمل :
العبادة مع رجاء الثواب وخوف العقاب ؟
أم العبادة دونهما ؟
زيادة بيان على قوله تعالى :" والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم، إن عذابها كان غراما ".
تمهيد :
قد قال قوم : إن العبادة دون رجاء ثواب ولا خوف عقاب هي أكمل العبادات !
وأنكرنا مقالتهم فيما كتبناه على قوله تعالى :" والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم، إن عذابها كان غراما " فيما سبق.
وقلنا في الإنكار عليهم :
" وزعموا أن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه، أو طمع في ثوابه، وأخطأو فيما زعموا ".
وذكرنا إثر ذلك بعض الأدلة التي اعتمدنا عليها...
وبعد أن مضى على ذلك ثلاثة أشهر كاملة ! !نشر الشيخ المولود الحافظي مقالا ردا علينا.
دون أن يذكر جميع أدلتنا.
ودون أن يتعرض لنقضها أو متنها، أو عدم انطباقها، أو إفادتها لما سبقت لإفادته.
ودون أن يعارضها بمثلها في الرتبة والدلالة.
وأطال بما بعضه خارج عن محل النزاع، وبعضه هو نفس الدعوى المحتاجة إلى الاستدلال.
فرأينا – إثر اطلاعنا على مقاله – أن نعود لذكر أدلتنا التي اعتمدنا عليها فيما اخترناه : من أن وضع العبادة الشرعية، على رجاء الثواب وخوف العقاب، وبيان دلالتها على المدعي. ثم نتكلم على بعض ما في مقاله، فنقول : حقيقة العبادة.
مقتضى الضعف والافتقار :
إن العبادة هي غاية الذل والخضوع، مع الشعور بغاية الضعف والافتقار. ومن مقتضى الضعف أن يخاف ويوجل، ومن مقتضى الافتقار أن يرجو ويطمع :
٣- فخوف العبد من عقاب ربه، هو من مقتضى اعترافه بضعفه وقوة ربه، وشهوده لعزته وقهره، وعموم تصرفه في خلقه، وأنه لا معقب لحكمه، وأنه لا يؤمن من مكروهه.
٤- وطمعه في ثوابه، هو من مقتضى اعترافه بحاجته وفقره وغنى ربه، وفضله، وتصديقه بوعده ؛ فهو يعبده ويخاف ألا يقبل عبادته، ويخشى نقمته٧. ويعبده ويرجو رحمته، وينتظر مثوبته.
وفي عبادته هذه إظهار لغاية العبودية بنقصها وحاجتها، وقيام بحق التعظيم والإجلال للربوبية، والاعتراف لذلك المقام بالقدرة والعزة، والغنى والرحمة والكمال.
فوضعت العبادة في الدين على خوف العقاب، ورجاء الثواب، لما في ذلك من إظهار غاية عبودية العبد بضعفه وافتقاره، أمام ربه الغني الرحيم القوي المتين.
الأدلة :
والدليل على هذا ستسمعه، من الكتاب، والسنة، و أقوال السلف :
أولا :
أما الكتاب : فقوله تعالى :
٦- " إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون. تتجافى جنوبهم عن المضاجع٨يدعون ربهم خوفا وطمعا، ومما رزقناهم ينفقون. فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين٩جزاءا بما كانوا يعملون١٠ ".
ووجه الدليل من الآية :
أن هؤلاء المذكورين فيها، هم الكمل من عباد الله الصالحين، بدليل حديث أبي هريرة – رضي الله عنه المروي في الصحيح – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – " يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ملا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ذخرا بله ما اطلعتم عليه ".
ثم قرأ قوله تعالى :" فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ".
ومع كمالهم١١لم تتجرد عبادتهم من الخوف والطمع١٢.
ووجه أخر :
وهو أن الله تعالى ذكر لنا عبادتهم ؛ لنعرف العبادة الشرعية كيف تكون ؟ فذكرها مع الخوف والطمع، فعرفنا أن العبادة وضعت في الشرع على ذلك.
ووجه ثالث :
وهو : أنه تعالى ذكر لنا صفاتهم وعبادتهم ؛ لنقتدي بهم فيها، فعلم أن العبادة هي التي يدعونا ربنا إليها هي العبادة خوفا وطمعا.
٧- ومثل هذه الآية :
" الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.
ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته، وما للظالمين من أنصار. ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ؛ ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد١٣.
ووجه الدليل منها كالتي قبلها.
وتزيد عليها ببيان صريح دعائهم وطلبهم الوقاية من النار، وغفران وتفكر السيئات.
٨- ومثلها قوله تعالى :
" والذين يقولون : ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما١٤ ".
ووجه الدليل منها كالتي قبلها.
٩- ومثلها قوله تعالى :
" يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا١٥. ويطعمون الطعام على حبه١٦مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منك جزاء ولا شكورا. إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا١٧ ".
ووجه الدليل منها مثل ما تقدم وتزيد بيان أن خوف اليوم العبوس لا ينافي الإطعام لوجه الله.
١٠- ومثلها قوله تعالى :
" أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ؟ إنما يتذكر أولو الألباب. الذين يوفون بعهد الله، ولا ينقضون الميثاق. والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويخشون ربهم، ويخافون سوء الحساب. والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة، وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية، ويدرؤون١٨ بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار " ١٩.
ووجه الدليل كما تقدم، وفيها أيضا بيان أن خوف سوء الحساب لا ينافي الصبر ابتغاء وجه الله تعالى.
٦ – ومثلها قوله تعالى :
" إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون. والذين هم بآيات ربهم راجعون. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون " ٢٠، ووجه الدليل كما تقدم.
ومعنى الآية : أنهم يعطون ما أعطوا من أعمال البر والطاعات، وقلوبهم خائفة من أنهم راجعون إلى ربهم، فيخافون ألا تقبل منهم. ففيها بيان أنهم كانوا يعملون راجين قبول الأعمال، خائفين من عدم قبولها.
فهؤلاء هم الكمل من عباد الله، وهذه هي عبادتهم في صريح هذه الآيات الكريمة التي ذكرت فيها صفاتهم.
وكلها بكثرتها وصراحتها دالة دلالة قطعية لما قلناه : من أن العبادة الشرعية موضوعة على رجاء الثواب والخوف من العقاب ؛ إذ ذلك هو أظهر مظاهر العبودية بذلها وخضوعها، وضعفها وحاجتها وفقرها، وحالتها المباينة غاية المباينة لمقام الربوبية، مقام ذي الجلال والإكرام.
و لا تجد في القرآن العظيم، آية واحدة دالة دلالة صريحة على ذكر عبادة – هكذا – دون خوف أو طمع.
٧- و نزيد على الآيات المتقدمة، آية دالة على حال عبادة المعصومين عليهم الصلاة والسلام، وهي قوله تعالى :" والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين٢١ ".
ووجه الدليل في الآية : أن إبراهيم عليه السلام : أخبر عن نفسه بصيغة المضارع، المفيد للتجدد أنه يطمع من الله أن يغفر له خطيئته ؛ فدل ذلك على أنه كان في عبادته طامعا.
و معلوم أن معصوم، وأنه مؤمن من العذاب، وأن ما سماه خطيئته هو بالنسبة إلى مقامه الرفيع من باب :" حسنات الأبرار سيئات المقربين ".
ومع ذلك كله فالمقصود من الدليل حاصل، وهو أنه خاف المؤاخذة – المؤاخذة اللائقة بمقامه – وطمع في الغفران، وكانت عبادته على الطمع والخوف.
ولا يقال : إنه كان معلما للناس ؛ لأنه إخبار عن نفسه، وخبره صدق ثابت، فلا بد أن يكون كما أخبر.
ثانيا :
وأما من السنة فمنها :
٧- د
٢ الجملة الدعائية " ربنا اصرف عنا...".
٣ إذ لأولى إنشائية، والثانية خبرية وهذا ما يسمى بكمال الانقطاع موجب للفصل: وعدم الوصل بالواو. ولقد قدرنا جملة :" إن عذابها كان غراما"، جوابا عن سؤال مقدر كأن سائلا سأل له : لماذا يصرف عنكم، ولو كانت جملة " إنها ساءت مستقرا..." جوابا لوجب الفصل أيضا بشبه كمال الانقطاع؛ إذ الجواب عن السؤال، مع الاختلاف أيضا في الانشائية والخبرية.
ومثل كمال الانقطاع؛ في وجوب الانفصال، كمال الاتصال، أو شبهه، كما سيذكر لإمام في جملة " إنها ساءت..."
.
٤ والمتردد الشاك يؤكد الخبر تأكيدا خفيفا، ليزيل شكه وتردده.. وهذا من ورود الكلام على مقتضى الحال. وبصر الإمام بالبلاغة.
.
٥ أي زعم الزاعمين..
٦ بعدما فسر الإمام – رحمه الله – الصفة الرابعة من صفات عباد الرحمن، نشر الشيخ المولود الحافظي – بعد انقضاء ثلاثة أشهر – مقالة، في جريدة البلاغ التي كانت تصدر بالجزائر وقتئذ، ذكر فيها أن العبادة يجب أن تكون لله دون رجاء ثواب، ولا خوف عقاب، لأن كمال التعظيم لله ينافيه أن يصاحب العبادة خوف من العقاب، أو رجاء في الثواب.
فانبرى له الشيخ باديس يرد عليه في هذا المقال الضافي، في غزارة علم، وطول باع، وسعة اطلاع، بعنوان : أيهما أكمل : العبادة مع رجاء الثواب وخوف العقاب؟ أم العبادة دونهما؟ ونشر ذلك الرد وقتها في مجلة " الشهاب " التي كان يحررها بن باديس ج ا، من المجلد في غرة رمضان سنة ١٣٥١ ه.
ولما لهذا الرد من صلة وثيقة بالصفة الرابعة من صفات عباد الرحمن، رأينا إثباته عقب التفسير لهذه الصفة، لما في ذلك من فوائد جمة..
٧ وقد قال أبو بكر رضي الله عنه: أنه يخشى مكر الله وغضبه، ولو كانت إحدى قدميه في الجنة!!.
٨ تتجافى: ترتفع وتنحني للعبادة. المضاجع الفرش التي يضطجع عليها..
٩ قرة أعين : موجبات المسرة والفرح..
١٠ سورة السجدة الآيات : ١٥، ١٦، ١٧..
١١ العباد الصالحين..
١٢ بل ذكرت صراحة في الآية..
١٣ سورة آل عمران الآيات : ١٩١ حتى ١٦٤..
١٤ كن غراما: لازما ممتدا مثل لزوم الغريم..
١٥ مستطيرا : منتشرا غاية الإنتشار..
١٦ على حب الله، أو حب الطعام المتصدق به، و حاجتهم إليه وإيثارهم غيرهم..
١٧ عبوسا : كالحا تكلح فيه الوجوه لهوله – والقمطرير : شديد العبوس، والكلام مجاز إذ يقع العبوس فيه. (سورة الإنسان، الآيات من ٧ حتى ١٠ ) وبعد هذه الآيات قوله تعالى :" فوقاهم الله شر ذلك اليوم، ولقاهم نظرة وسرورا، وجزاهم بما صبروا جبة وحريرا...".
١٨ يدرؤون : يدفعون..
١٩ سورة الرعد، الآيات : من ١٩ – ٢٢
.
٢٠ سورة المؤمنون – الآيات : من ٥٧ حتى ٦١..
٢١ سورة الشعراء – الآية ٨٢..
" والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا أو لم يقتروا، وكان بين ذلك قواما ".
المناسبة :
مضى وصفهم بأنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما، والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتربي النفس على استصغار الدنيا وما فيها، وعلى تعظيم الرب والوقوف عند حدوده. فلا يعظمن شيء من الدنيا عند أهل الصلاة فيمسكوا عن بذله في الحق، و لا يستهويهم شيء منها فينتهكوا لأجله حدود الله وحرماته.
ولما كان المال هو أعز شيء في هذه الدنيا، و هو أعظم سبب لنيل مبتغياتها، وصفوا بأنهم في تصرفاتهم فيه على أكل حال، وهي حالة العدل، التي أثمرتها لهم الصلاة، فلا يمسكونه عن حق، ولا يبذلونه في باطل.
المفردات :
( أنفقوا ) بذلوا المال في وجه من الوجوه.
( الإسراف ) مجاوزة الحد المشروع، ( الإقتار ) التقتير. التضييق.
( القوام ) العدل بين الشيئين، أي المعتدل ما بينهما. وسمي العدل بين الشيئين قواما، لاستقامة طرفيه واعتدالهما، فلا إلى هذا ولا إلى ذاك.
التراكيب :
" وكان " أي هو، أي إنفاقهم المفهوم من أنفقوا، ( بين ذلك ) خبر كان، ( وقواما ) حال مؤكدة. فلو قيل : وكان بين ذلك لكان كافيا، ولكن أكد ( بقواما )، لما فيه من صريح اللفظ المفهم للعدل، والإنفاق يكون ولا يكون والشأن أن يكون ؛ ولهذا علق، وكان التعليق بإذا.
الإسراف شر من التقتير :
وقدم نفي السرف على نفي التقتير ؛ لأن الإسراف شرهما، ففيه مجاوزة الحدود، وضياع المال، وفي التقتير مفسدته مع بقاء المال فينفقه في الخير، وقد يبقى لغيره فينتفع به.
المعنى :
إذا أنفقوا أموالهم لم يتجاوزوا الحد المشروع، ولم يضيقوا فيقصروا في القدر المطلوب. وكان إنفاقهم بين التجاوز والتضييق، عدلا مستويا لا إفراط فيه ولا تفريط.
وصفهم بالقصد الذي هو وسط بين الغلو والتقصير، وهو الحالة بين الحالتين، والحسنة بين السيئتين.
تحديد :
الإسراف مذموم فهو ما كان في منهي عنه نهي تحريم، أو كراهة، أو في مباح قد يؤدي إليهما. ١
أمثلة للإسراف والتقتير :
فالأول : كمن أولم وليمة أنفق فيها جميع ماله، وأصبح بعدها هو وأهله للضيعة والحاجة.
والثاني : كمن أولم وليمة دعته إلى الاستدانة، وإن كان يظن القدرة على الأداء، لأن الدين محذر ومستعاذ منه.
والثالث : كالاستمرار على إيلام الولائم مع القدرة عليها في الحال، مما قد يؤدي إلى الأمرين المذكورين في المآل٢.
والتقتير مذموم أيضا.
فهو ما كان إمساكا عن مأمور به أمر وجوب.
أو استحباب.
أو عن مباح يؤدي إليهما :
فالأول : كمن يمسك عن أهله شحا حتى يذيقهم ألم الجوع والبرد.
والثاني : كمن لا يذيقهم بعض الطيبات التي يخص بها نفسه من السوق.
والثالث : كمن يمسك عن تطييب خاطر زوجته ببعض الكماليات مع قدرته عليها، مما قد يفسد قلب زوجته عليه، أو يحملها على ما لا يرضيه.
الوسط :
والقوام العدل الذي هو الممدوح :
فهو أن ينفق في الواجب والمندوب، وما يؤدي إليهما، ويمسك عن الم الصفة الرابعة :
" والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم، إن عذابها كان غراما.
إنها ساءت مستقرا ومقاما ".
المناسبة :
لما ذكر حسن سلوكهم مع الخلق، واجتهادهم في عبادة الحق، ذكر خوفهم من ربهم، واعتمادهم عليه في نجاتهم، وعدم اعتزازهم بأعمالهم، فهم يأتون ما يأتون من محاسن الأعمال، ولا يعتمدون إلا الكبير المتعال.
المفردات :
( الغرام ) مادة ( غ ر م ) تدور٣على معنى الملازمة مع الثقل والشدة، ولذا فسر الغرام بالشر، وبالعذاب، وبالهلاك الملازم.
( ساءت )، بمعنى قبحت، مثل بئس لإنشاء الذم.
( المستقر ) محا الإقامة أي البقاء.
والتراكيب :
( ساءت ) فاعلة الضمير المخصوص بالذم.
و ( مستقرا ومقاما ) تمييز مفسر للضمير.
وجملة إن عذابها تعليل للجملة الدعائية٤، وفصلت عنها لكمال الانقطاع بينهما٥
وجملة :( إنها ساءت ) مؤكدة لمضمون الجملة قبلها مع اختلاف في المعنى : فإن ما أفادته الأولى من فداحة عذابها وملازمته، أكدته الثانية بما أفاده من مقامه مستقرها، ففصلت عنها لما بينهما من كمال الاتصال نظير : ذلك الكتاب لا ريب فيه.
والتأكيد فيها بأن، لأنه لوح وأشير في الكلام السابق إلى هذا الخبر، وشأن السامع لهذا أن يستشرف له استشراف المتردد الطالب، فينزل منزلة المتردد فيؤكد له الخبر. ٦
ووجه التلويح بهذا الخبر : أنه لما سئل صرف عذاب جهنم كان هذا مشيرا إلى قبح هذا العذاب وشدته. فهذا نظير ولا تخاطبني في الذين ظلموا... إنهم مغرقون.
المعنى :
من صفاتهم أنهم يدعون الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم ؛ لأن عذابها عذاب شديد، فادح، ملح، ملازم. ولأنها بئست المستقر الذي يستقر ويثبت فيه. وبئست المقام الذي يقام ويمكث فيه.
رد واستدلال :
غلو في الزعم ورده
زعم قوم أن أكمل أحوال العابد، أن يعبد الله تعالى لا طمعا في جنته، ولا خوفا من ناره. وهذه الآية وغيرها رد قاطع عليهم.
ومثلها قول إبراهيم – عليه وعلى آله الصلاة والسلام – " والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين "، وفي نصوص لا تحصى كثرة.
وزعموا أن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقاب، أو طمع في ثوابه. وأخطأوا فيما زعموا :
فإن العبادة مبناها الخضوع والذل والافتقار، والشعور بالحاجة والاضطرار.
وإظهار العبد هذه العبودية بأتمها، ومن أتم مظهر لها، أن يخاف، ويطمع، كما يذل، ويخضع ؛ ففي إظهار كمال نقص العبودية القيام بحق الإجلال والتعظيم للربوبية.
ولهذا كان الأنبياء – عليهم وآلهم الصلاة والسلام – هم أشد الخلق تعظيما لله، وأكثرهم خوفا من الله، وتعوذا من عذاب الله، وسؤالا لما عند الله، وكفى بهم حجة وقدوة.
مؤدى :
وإن هذه المقالة٧ تكاد تفضي إلى طرح الرجاء والخوف، وعليهما مبنى الأعمال، لما فيهما من ظهور العبودية بالذل والاحتياج.
ومن دعاء القنوت الثابت المحفوظ :" وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد " وهذا ضروري في الدين.
سبب الغلو :
ولكن مثل هذه المقالة إنما يجر إليها :
الغلو وقلة الفقه في الدين، وفي الكتاب والسنة، وما كان عليه هدى السابقين الأولين.
واعتبار ونصيحة :
قدر العذاب
إن جهنم هي أقبح مستقر وأقبح مقام.
وإن الدنيا هي مطية الآخرة ؛ فمن ساء مستقره ومقامه في الدنيا، ساء كذلك مستقره ومقامه في الآخرة.
وإن ملازمة العذاب في الآخرة على قدر ملازمة المعاصي في الدنيا ؛ فمن لازمها بالكفر، مات عليه، دامت له تلك الملازمة. ومن لازمها بالاصرار على الكبائر كانت له، على حسب ذلك الملازمة.
فعلى العاقل أن يحسن مقره ومقامه، وأن يجتنب كل موطن تلحقه فيه الملامة. وأن يجتنب مجالس السوء والبدعة، ويلازم مجالس الطاعة والسنة.
وأن يسرع بالتوبة مفارقا الذنوب، وألا يصر على شيء من القبائح والعيوب.
وأن يكون سريع الرجوع إلى الله ولو عظم ذنبه وبلواه، فالله يحب التوابين ويغفر للأوابين جعلنا منهم أجمعين آمين٨.
أيهما أكمل :
العبادة مع رجاء الثواب وخوف العقاب ؟
أم العبادة دونهما ؟
زيادة بيان على قوله تعالى :" والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم، إن عذابها كان غراما ".
تمهيد :
قد قال قوم : إن العبادة دون رجاء ثواب ولا خوف عقاب هي أكمل العبادات !
وأنكرنا مقالتهم فيما كتبناه على قوله تعالى :" والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم، إن عذابها كان غراما " فيما سبق.
وقلنا في الإنكار عليهم :
" وزعموا أن كمال التعظيم لله ينافيه أن تكون العبادة معها خوف من عقابه، أو طمع في ثوابه، وأخطأو فيما زعموا ".
وذكرنا إثر ذلك بعض الأدلة التي اعتمدنا عليها...
وبعد أن مضى على ذلك ثلاثة أشهر كاملة ! !نشر الشيخ المولود الحافظي مقالا ردا علينا.
دون أن يذكر جميع أدلتنا.
ودون أن يتعرض لنقضها أو متنها، أو عدم انطباقها، أو إفادتها لما سبقت لإفادته.
ودون أن يعارضها بمثلها في الرتبة والدلالة.
وأطال بما بعضه خارج عن محل النزاع، وبعضه هو نفس الدعوى المحتاجة إلى الاستدلال.
فرأينا – إثر اطلاعنا على مقاله – أن نعود لذكر أدلتنا التي اعتمدنا عليها فيما اخترناه : من أن وضع العبادة الشرعية، على رجاء الثواب وخوف العقاب، وبيان دلالتها على المدعي. ثم نتكلم على بعض ما في مقاله، فنقول : حقيقة العبادة.
مقتضى الضعف والافتقار :
إن العبادة هي غاية الذل والخضوع، مع الشعور بغاية الضعف والافتقار. ومن مقتضى الضعف أن يخاف ويوجل، ومن مقتضى الافتقار أن يرجو ويطمع :
٥- فخوف العبد من عقاب ربه، هو من مقتضى اعترافه بضعفه وقوة ربه، وشهوده لعزته وقهره، وعموم تصرفه في خلقه، وأنه لا معقب لحكمه، وأنه لا يؤمن من مكروهه.
٦- وطمعه في ثوابه، هو من مقتضى اعترافه بحاجته وفقره وغنى ربه، وفضله، وتصديقه بوعده ؛ فهو يعبده ويخاف ألا يقبل عبادته، ويخشى نقمته٩. ويعبده ويرجو رحمته، وينتظر مثوبته.
وفي عبادته هذه إظهار لغاية العبودية بنقصها وحاجتها، وقيام بحق التعظيم والإجلال للربوبية، والاعتراف لذلك المقام بالقدرة والعزة، والغنى والرحمة والكمال.
فوضعت العبادة في الدين على خوف العقاب، ورجاء الثواب، لما في ذلك من إظهار غاية عبودية العبد بضعفه وافتقاره، أمام ربه الغني الرحيم القوي المتين.
الأدلة :
والدليل على هذا ستسمعه، من الكتاب، والسنة، و أقوال السلف :
أولا :
أما الكتاب : فقوله تعالى :
١١- " إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون. تتجافى جنوبهم عن المضاجع١٠يدعون ربهم خوفا وطمعا، ومما رزقناهم ينفقون. فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين١١جزاءا بما كانوا يعملون١٢ ".
ووجه الدليل من الآية :
أن هؤلاء المذكورين فيها، هم الكمل من عباد الله الصالحين، بدليل حديث أبي هريرة – رضي الله عنه المروي في الصحيح – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – " يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ملا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ذخرا بله ما اطلعتم عليه ".
ثم قرأ قوله تعالى :" فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ".
ومع كمالهم١٣لم تتجرد عبادتهم من الخوف والطمع١٤.
ووجه أخر :
وهو أن الله تعالى ذكر لنا عبادتهم ؛ لنعرف العبادة الشرعية كيف تكون ؟ فذكرها مع الخوف والطمع، فعرفنا أن العبادة وضعت في الشرع على ذلك.
ووجه ثالث :
وهو : أنه تعالى ذكر لنا صفاتهم وعبادتهم ؛ لنقتدي بهم فيها، فعلم أن العبادة هي التي يدعونا ربنا إليها هي العبادة خوفا وطمعا.
١٢- ومثل هذه الآية :
" الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.
ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته، وما للظالمين من أنصار. ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ؛ ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد١٥.
ووجه الدليل منها كالتي قبلها.
وتزيد عليها ببيان صريح دعائهم وطلبهم الوقاية من النار،
٢ استجاب كثير من الجزائريين لنداء الشيخ، فأصبحت ترى طعام الكسكسي هو السائد في حفلات وولائم معظمهم..
٣ للإمام بصر بفقه اللغة، وتوفية المفردات اللغوية من البحث والاستشهاد بالفصيح..
٤ الجملة الدعائية " ربنا اصرف عنا...".
٥ إذ لأولى إنشائية، والثانية خبرية وهذا ما يسمى بكمال الانقطاع موجب للفصل: وعدم الوصل بالواو. ولقد قدرنا جملة :" إن عذابها كان غراما"، جوابا عن سؤال مقدر كأن سائلا سأل له : لماذا يصرف عنكم، ولو كانت جملة " إنها ساءت مستقرا..." جوابا لوجب الفصل أيضا بشبه كمال الانقطاع؛ إذ الجواب عن السؤال، مع الاختلاف أيضا في الانشائية والخبرية.
ومثل كمال الانقطاع؛ في وجوب الانفصال، كمال الاتصال، أو شبهه، كما سيذكر لإمام في جملة " إنها ساءت..."
.
٦ والمتردد الشاك يؤكد الخبر تأكيدا خفيفا، ليزيل شكه وتردده.. وهذا من ورود الكلام على مقتضى الحال. وبصر الإمام بالبلاغة.
.
٧ أي زعم الزاعمين..
٨ بعدما فسر الإمام – رحمه الله – الصفة الرابعة من صفات عباد الرحمن، نشر الشيخ المولود الحافظي – بعد انقضاء ثلاثة أشهر – مقالة، في جريدة البلاغ التي كانت تصدر بالجزائر وقتئذ، ذكر فيها أن العبادة يجب أن تكون لله دون رجاء ثواب، ولا خوف عقاب، لأن كمال التعظيم لله ينافيه أن يصاحب العبادة خوف من العقاب، أو رجاء في الثواب.
فانبرى له الشيخ باديس يرد عليه في هذا المقال الضافي، في غزارة علم، وطول باع، وسعة اطلاع، بعنوان : أيهما أكمل : العبادة مع رجاء الثواب وخوف العقاب؟ أم العبادة دونهما؟ ونشر ذلك الرد وقتها في مجلة " الشهاب " التي كان يحررها بن باديس ج ا، من المجلد في غرة رمضان سنة ١٣٥١ ه.
ولما لهذا الرد من صلة وثيقة بالصفة الرابعة من صفات عباد الرحمن، رأينا إثباته عقب التفسير لهذه الصفة، لما في ذلك من فوائد جمة..
٩ وقد قال أبو بكر رضي الله عنه: أنه يخشى مكر الله وغضبه، ولو كانت إحدى قدميه في الجنة!!.
١٠ تتجافى: ترتفع وتنحني للعبادة. المضاجع الفرش التي يضطجع عليها..
١١ قرة أعين : موجبات المسرة والفرح..
١٢ سورة السجدة الآيات : ١٥، ١٦، ١٧..
١٣ العباد الصالحين..
١٤ بل ذكرت صراحة في الآية..
١٥ سورة آل عمران الآيات : ١٩١ حتى ١٦٤..
" والذين لا يدعون مع الله إلها آخر.
" ولا يقتلون النفس التي حرم اله إلا بالحق.
" ولا يزنون.. ".
سبب النزول :
ثبت في الصحيحين – واللفظ المسلم – أن عبد الله بن مسعود قال :
" قال رجل : يا رسول الله، أي الذنب أكبر ؟
قال : أن تدعو لله ندا وهو خلقك.
قال : ثم أي ؟
قال : أن تقتل ولدك مخافة من أن يطعم معك.
قال : قلت ثم أي ؟
قال : أن تزاني حليلة جارك.
فأنزل اله تصديقها :" والذين لا يدعون مع الله إلها آخر... "
المطابقة بين الآية وسبب نزولها :
تلك الجرائم فاجتنبها :
تواردت الآية والحديث في الإثم الأول على شيء واحد، وتوارده أيضا في الثاني والثالث. إلا أن في الحديث ذكر فرد من العام هو شر أفراده وأكبرها إثما. وفي ذكر الآية ذكر العام.
ولا شك أن شر قتل النفس هو قتل الولد، لما في ذلك زيادة على قتل النفس من الخروج عن حنان الفطرة، وارتكاب ضد ما توجبه الرعاية والكفالة، وسوء الظن بالله المتكفل برزق الخليقة.
كما أن الزنا بحليلة الجار، هو شر أفراد الزنا لما فيه زيادة على الزنا من انتهاك حرمة الجار، وخيانة الأمانة، فإنهم ما تجاوروا حتى أمن بعضهم بعضا، و إدخال الفساد على أساس التكوين الاجتماعي في الناس وهو التجاوب والتقارب.
المناسبة :
لما أثبتت لهم أصول الطاعات في الآيات المتقدمة، نفى عنهم أمهات المعاصي في هذه الآية ؛ تنبيها على أن الإيمان الكامل هو ما ثبت معه الطاعات وتنتفي المعاصي، وذلك هو غاية الامتثال للأوامر والنواهي.
وفيه تعريض بما كان عليه المشركون من الاتصاف بهذه المعاصي من دعائهم آلهتهم مع الله، وقتلهم النفس وارتكابهم فاحشة الزنا.
وقدم إثبات الطاعات على انتفاء المعاصي ؛ تنبيها على أن من راض نفسه على الطاعة ودنت نفسه بالإخبات١ والانقياد للأوامر الشرعية، ضعفت منه أو زالت دواعي الشر والفساد، فانكف عن المعصية٢.
نكتة استطرادية :
فمن هنا نعلم : أن على المسلم الذي يعمل لتزكية نفسه، أن يواظب على الطاعات بأنواعها. أن يجتهد في حصول الأنس بها، والخشوع فيها فإن ذلك زيادة على ما يثبت فيه من أصول الخير، يقلع منه أصول الشر ويميت منه بواعثه.
وجه ترنيت هذه الصفات المنفيات :
قامت الشريعة على المحافظة على حقوق الله، وحقوق عباده، وحق الله على عباده أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئا ؛ فمن دعا مع الله غيره، وأشرك به سواه، فقد أبطل حق الله وأعدم عبادته.
قتل، وقتل :
ومن قتل النفس فقد تعدى على أول حق جعله الله لعباده بفضله، وهو حق الوجود، عمل على إبطال وجودهم وفناء نوعهم وزوال عبادتهم، فلهذا قرن قتل النفس بدعاء غير الله معه.
ولما كان الزنا فيه بطلان النسب وفساد الخلق والجسد، وذلك مؤد إلى الاضمحلال والزوال، والشرور والأهوال، قرن بقتل النفس فذلك قتل حقيقي، وهذا قتل معنوي.
( الدعاء ) هو النداء لطلب أمر أو تنبيه عليه.
المفردات :
( الإله ) هو المعبود.
( حرم الله النفس ) جعل لها حرمة ومنعة، فلا يجوز التعدي عليها ومادة ( ح ر م ) تفيد المنع في جميع تصاريفها.
( الحق ) هو الثابت من مقتضيات القتل في الشرع.
التراكيب :
وصف النفس بالاسم الموصول المعروف الصلة ؛ لأن تحريم الله لها أمر مركوز في النفوس، معروف للبشر بما جاءهم من جميع الشرائع. وكان النفي للفعل بصيغة المضارع للإشارة إلى استمرار ذلك النفي.
المعنى :
و الذين لا يدعون ولا يعبدون مع الله إلها آخر، فيشركون به سواه في عبادتهم إياه، ولكنهم يخلصون له العبادة، ويفردونه بالطاعة، و يوحدونه في ربوبيته وألوهيته.
و لا يقتلون النفس التي جل الله لها حرمة، وحرم قتلها بالسبب إلا الحق الثابت في دين الله المعارض لحرمتها، المقتضى لقتلها بالزنا بعد الإحصان٣.
أو الكفر بعد الإيمان، أو القتل للنفس العمد العدوان.
ولا يزنون فيأتون ما حرم الله عليهم إتيانه من الفروج.
مزيد بيان لتوحيد الرحمن :
من دعا غير الله فقد عبده :
ما يزال الذكر الحكيم يسمي العبادة دعاء و يعبر به عنها ؛ ذلك لأنه عبادة، فعبر عن النوع ببعض أفراده، وإنما اختير هذا الفرد ليعبر به عن النوع ؛ لأن الدعاء مخ العبادة وخلاصتها، فإن العابد يظهر ذله أمام عز المعبود، وفقره أمام غناه، وعجزه أمام قدرته، وتمام تعظيمه له وخضوعه بين يديه. و يعرب عن ذلك بلسانه بدعائه وندائه وطلبه منه حوائجه.
فالدعاء هو المظهر الدال على ذلك كله. ولهذا كان مخ عبادته.
وقد جاء التنبيه على هذا في السنة المطهرة : فعن النعمان بن بشير – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - :
" الدعاء هو العبادة " ثم قرأ " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ". رواه أحمد والترمذي وأبو داود رحمهم الله والنسائي وابن ماجة.
وعن أنس – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - :" الدعاء مخ العبادة " رواه الترمذي رحمه الله فتطابق الأثر والنظر على أن الدعاء عبادة فمن دعا غير الله فقد عبده وإن كان هو لا يسمي دعاءه لغير الله عبادة ؛ فالحقيقة لا ترتفع بعدم تسميته لها باسمها وتسميته لها بغير اسمها، والعبرة بتسمية الشرع التي عرفناها من الحديثين المتقدمين لا بتسميته.
من دعا شيئا فقد اتخذه إلهه :
لما ثبت أن الدعاء عبادة فالداعي عابد، والمدعو معبود، والمعبود إله، فمن دعا شيئا فقد اتخذه إلهه ؛ لأنه فعل مالا يفعل إلا للإله ؛ فهو وإن لم يسمه إلها بقوله فقد سماه بفعله : ألا ترى إلى أهل الكتاب لما أتبعوا أحبارهم ورهبانهم في التحليل والتحريم – وهما لا يكونان إلا من الرب الحق العالم بالمصالح – قال الله تعالى فيهم :
" اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله٤ " وإن كانوا لا يسمونهم فحكم عليهم بفعلهم، ولم يعتبر منهم عدم التسمية لهم أربابا بألسنتهم.
فكذلك يقال فيمن دعا شيئا أنه اتخذه إلها نظرا لفعله وهو دعاؤه ولا عبرة بعدم تسميته له إلها بلسانه.
وفي حديث عدى بن حاتم الذي رواه الترمذي وغيره، أنه قال للنبي – صلى الله عليه وآله وسلم - لما سمعه يقرأ هذه الآية٥ :( إنهم لم يكونوا يعبدونهم ؟ ).
فقال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - :
أليس كانوا حرموا عليهم شيئا حرموه، وإذا أحلوا لهم شيئا أحلوه ؟
قال : قلت نعم قال : فتلك عبادتهم إياهم ".
قال الإمام الجصاص : ولما كان التحليل والتحريم لا يجوز إلا من جهة العالم بالمصالح، ثم قلد هؤلاء أحبارهم و رهبانهم في التحليل والتحريم، وقبلوه منهم، وتركوا أمر الله تعالى فيما حرم وحلل، صاروا متخذين لهم أربابا إذ نزلوهم في قبول ذلك منهم منزلة الأرباب ا ه.
تنظير :
وعلى وزانه تقول : لما كان الدعاء عبادة، والعبادة لا تكون إلا للإله، كان الداعي لشيء من المخلوقات متخذا إياه إلها، لما نزله بدعائه إياه منزلة الإله، سواء دعاه وحده دون الله، أو دعاه مع الله. والعياذ بالله.
تحذير وإرشاد :
من دعاء غير الله :
ما أكثر ما تسمع في دعاء الناس " يا ربي والشيخ "، " يا ربي وناس ربي "، " يا ربي والناس الملاح ". وهذا من دعاء غير الله، فإياك أيا المسلم وإياه، وادع الله ربك وخالقك وحده وحده وحده، وأنف الشرك راغم.
٢ كما يقول البوصيري، رحمه الله : والنفس كالطفل إن تهمله شب على : حب الرضاع و إن تفطمه ينفطم..
٣ الإحصان : هو الزواج، فالمحصن ما له زوجة، وغيره غير محصن فعليه الجلد..
٤ التوبة : الآية ٣١..
٥ " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله "..
" ومن يفعل ذلك يلق أثاما.
يضاعف له العذاب يوم القيامة.
و يخلد فيها مهانا ".
المناسبة :
إذا أمر القرآن بشيء ذكر فائدته وثمرته للعباد في الدارين. وكذلك إذا نهى عن شيء ذكر مضرته و سوء عاقبته عليهم فيهما١. فلما ذك في صدر الآية نفى تلك المعاصي عن عباد الرحمن الذي يفيد النهي عنها ذكر هذا الوعيد لبيان سوء عاقبتها و قبح أثرها.
نكتة استطرادية :
هذه هي سنة القرآن في التربية، وهي أنجح الطرق في جعل المأمور والمنهي، يمتثل للأمر والنهي من كل نفسه، ويعمل لتنفيذها بعقله وإرادته.
فالتربية التي تنبني على امتثال الأمر والنهي من غير المعصوم، والانقياد لهما انقيادا أعمى – مخالفة لتربية القرآن. والخير كله في اتباع القرآن، في جميع ما يفيده القرآن.
اسم الإشارة راجع للثلاثة المذكورة من قبل.
المفردات :
( يليق ) يقابل ويصادف. ( أثاما ). عقابا جزاء على إثمه فالآثام جزاء الإثم.
( يضاعف ) يزاد له على الأصل فيعذب عذابين أو أنواعا من العذاب.
( يخلد ) يبقى. وطول البقاء يسمى خلودا. كما قالت العرب في أثافي الصخور : خوالد، لطول بقائها بعد دروس الأطلال لا لدوام بقائها ؛ إذ لا دوام لها.
وعلى هذا قول المخبل السعدي :
الا رمادا هامدا دفعت عنه الرياح خوالد سحم
( المهان ) الذليل المحتقر الذي يفعل به ما يذله ويحقره.
التراكيب :
( يضاعف ) بدل من ( يلق )، بدل كل من كل. قال الخليل : لأن مضاعفة العذاب هي لقى الآثام.
و عندي٢أنه بدل بعض من كل، لأن لقى العذاب على تلك الآثام يكون في الدنيا والآخرة، ومضاعفة العذاب والخلود فيه تكون في الآخرة، و بهذا تكون الآية قد أفادت أن المرتكب لما تقدم من المعاصي – الشرك وقتل النفس والزنا – ينال جزاءه دنيا، وأخرى، وعذاب الآخرة المضاعف المستمر أشد وأبقى.
وهذا هو الجاري على سنة القرآن في التخويف بسوء عاقبة المعصية عاجلا وآجلا، والتنبيه على أن الآجل أشد وأفدح من العاجل.
المعنى :
ومن يأت هذه الأفعال ؛ فدعا مع الله إلها آخر، أو قتل النفس التي حرم الله بغير حق، أو زنا، فإنه يلقى وينال جزاء معصيته في دنياه، وجزائها في أخراه ويكون عذابه عليها في الآخرة مضاعفا مزيدا عليه أنواع أخرى، ويستمر فيه باقيا ذليلا محقرا.
سر المضاعفة :
توجيه :
إنما ضوعف لأهل هذه الكبائر العذاب ؛ لأن كل كبيرة منها مضاعفة المفاسد والشرور.
ففي دعاء غير الله الجهل بالله، والكفر بنعمة الله، والإبطال لحق الله.
وفي قتل النفس تأييم، و تيتيم وتأليم لغير من قتل وفتح لباب شر بين أولياء القاتل والمقتول، وتعد على جميع النوع، وتهوين لهذا الجرم الكبير٣.
وفي الزنا جناية على النسل المقطوع، وعلى من أدخل عليهم من الزنا من ليس منهم، وعلى أصحاب الإرث في خروج حقهم لغيرهم، وغير ما ذكرنا في جميعها كثير، فكانت المضاعفة من باب جعل الجزاء من جنس العمل، وهو من مقتضى الحكمة والعدل.
تذكر :
يذكرنا القرآن بمضاعفة العذاب على كبائر الآثام، لنذكر عندما تحدثنا أنفسنا بالمعصية سواء عاقبتها، وتعدد شرورها، وتشعب مفاسدها، ومضاعفة العذاب بحسب ذلك عليها، لنزدرج وننكف، فنسلم من الشر المتراكم، والعذاب المضاعف، ونفوز بأجر التذكر و ثمرة التذكير.
جعلنا الله والمسلمين ممن انتفع بالذكرى، وسلم من فتن الدنيا والأخرى، بمنه وكرمه آمين.
٢ رأي الإمام، وبصره في اللغة..
٣ وقد ورد أن زوال الدنيا وما فيها أهون على الله من قتل نفس مؤمنة..
" " إلا من تاب وآمن وعمل صالحا، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، و كان الله غفورا رحيما ".
سبب النزول :
أخرج الشيخان١ عن ابن عباس – رضي الله عنهما واللفظ لمسلم، قال ابن عباس :( نزلت هذه الآية بمكة " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر... مهانا ".
فقال المشركون : وما يغني عنا الإسلام وقد عدلنا٢ بالله، وقد قتلنا النفس التي حرم الله، وأتينا الفواحش ؟
فأنزل اله عز وجل :" إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا.. " ) الآية.
وجه الارتباط "
لما ذكر الله تعالى عظائم الذنوب وأكبر كبائرها، وتوعد بالوعيد الشديد عليها، عقبها بذكر التوبة منها، ورغب فيها ؛ لينبه عباده على طريق الرجوع إليه، وأن من تاب منهم إلى الله تاب الله عليه.
المفردات التوبة النصوح :
( التوبة ) الرجوع إلى الله، أي الرجوع من معصية الله إلى طاعته، وذلك بالندم على ما فات، والعزم على عدم العود إليه، و هذان من عمل القلب. وبالإقلاع عما هو ملتبس به، وهذا من عمل الجوارح.
( الإيمان ) عندما يذكر مع الأعمال يراد به تصديق القلب و يقينه واطمئنانه بعقائد الحق.
والعمل الصالح هو العمل الطيب المشروع من طاعة الله على العباد، سواء كان من عمل الباطن وهو عمل القلب أو من عمل الظاهر، وهو عمل الجوارح.
والعمل الصالح من ثمرات الإيمان الدال وجودها على وجوده، وكمالها على كماله، ونقصها على نقصه، وعدمها على اضطرابه و وشك انحلاله واضمحلاله.
( التبديل ) التحويل فتجعل الحسنة مكان السيئة.
( الغفور ) الستار للذنوب، المتجاوز عنها ( الرحيم ). المنعم الدائم الإنعام.
التراكيب :
( إلا من تاب ) استثناء من يفعل، استثناء متصلا لأن الذي يتوب من جملة من فعل، والفاء في ( فأولئك ) تفريعية، لتفرع التبديل على التوبة، وعاطفة الجملة أولئك على جملة استثنى، التي قامت مقامها إلا. كما عطفت عليها الجملة الأخيرة جملة وكان، ونظير هذا من يقم منكم فله درهم إلا زيدا فله درهمان.
المعنى :
يستثنى من ذلك الوعيد الشديد بمضاعفة العذاب والخلود فيه مهانا، من رجع إلى الله عن الشرك، وقتل النفس، والزنا بالتوبة الصادقة، وشفع توبته بالعمل الصالح الدال على صدق تلك التوبة، فهؤلاء بتوبتهم وعملهم الصالح يقلبهم الله مكان سيآتهم حسنات، وكان الله غفورا يتجاوز عن ذنوب عباده ؛ فقد تجاوز عما كبن منهم من شرك أو قتل، أو زنا. رحيما منعما على عباده، فقد أنعم عليهم بالحسنات مكان ما تقدم من سيآتهم.
ترتيب وتوجيه :
يكون العاصي في غمرات معصيته، فإذا ذكر الله، ووفقه اله أسف على حاله ورجع إلى ربه، وهذه أول الدرجات في توبته، فإذا استشعر قلبه اليقين، واطمأن قلبه بذكر الله صمم على الإعراض عن المعصية، والإقبال على الطاعة ؛ فإذا كان صادقا في هذا العزم، فلابد أن يظهر أثر ذلك على عمله، فلهذا روعيت الحالة الأولى فذكرت التوبة، والثانية فذكر الإيمان، والثالثة فذكر عمل صالح.
تأييد واقتداء :
روى الأئمة عن كعب بن مالك – رضي اله عنه – أحد الثلاثة الذين خلفوا. ٣
وأنه لما جلس يدي النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بعد ما تاب الله عليه،
قال : يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي إلى الله، وإلى رسول الله– صلى الله عليه وآله وسلم -.
فقال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - :" أمسك بعض مالك فهو خير لك.
قال فقلت : فإنني أمسك سهمي الذي بخيبر ".
فهذا الصحابي الجليل رأى أن من توبته أن يعمل هذا العمل الصالح ليكون دليلا على صدق ثوبته، كما اقتضته الآية فتأيد بفهمه ما قدمنا، وكان خير قدوة للتائبين.
وجوه التبديل :
لما كانت السيئة حسنة كان معنى التبديل هو جعل الحسنة مكان السيئة.
وهذا على وجوه :
أولها : محو السيئات الماضية بالتوبة، وكتابة حسنة التوبة وما فيها من عمل باطن وظاهر كما تقدم.
وثانيها : تركه المعصية وإتيانه بالعمل الصالح، حتى صار يعمل الصالحات بعدما كان يعمل السيئات.
و ثالثهما : أن نفسه كانت بالمعصية مظلمة شريرة فتصير بالتوبة والعمل الصالح منيرة خيرة.
فالتبديل في الكتب والعمل وحالة النفس.
مسألتان أصوليتان
الأولى : هل يخرج غير التائب من النار :
التأبيد في جهنم للمشرك وغير التائب :
استثنى الله التائب من مضاعفة العذاب والخلود فيه مهانا، فبقي غير التائب للخلود.
والخلود كما قدمناه في الآية السابقة طول البقاء، و لا يقتضي التأبيد وقد لا يكون : فمع التأبيد لا خروج ومع عدمه الخروج
و غير التائب الذي بقي لخلود المطلق في الآية هو : المشرك والقاتل والزاني.
فأما المشرك فلا خروج له من النار ؛ لقوله تعالى :" إن الله لا يغفر أن يشرك به ".
عذاب أهل الإيمان ليس على التأبيد :
وأما القاتل والزاني إذا كان من أهل الإيمان فإنهما يخرجان بعد شديد العذاب بما معهما من الإيمان ؛ لأحاديث صحيحة منها ما رواه الشيخان :٤عن أنس رضي الله عنهم :
" يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ".
ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكلن في قلبه من الخير ما يزن برة.
ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة " ٥. زاد البخاري في رواية قتادة عن أنس : من إيمان مكان خير، وهذا من عدل الله ورحمته، فإنه أذاقهم من العذاب الشديد والهون المخزي جزاءهم، ثم أخرجهم من النار، وما أضاع عليهم إيمانهم، إن الله بالناس لرؤوف رحيم٦.
الثانية : هل لقاتل النفس ظلما وعدوانا من توبة ؟ :
رأي ابن عباس :
ذهب ابن عباس في المشهور عنه، الذي رواه الشيخان وغيرهما : أنه لا لا توبة له. وقال في هذه الآية : إنها نزلت في المشركين، وذكر سبب نزولها كما تقدم. وقال – إثره – أما من دخل في الإسلام وعقله، ثم قتل فلا توبة له.
وقال في هذه الآية : إنها آية مكية نسختها آية مدنية وهي آية الفرقان :" ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب اله عليه ولعنه، وأعد له عذابا عظيما " ٧.
النسخ همنا والرأي فيه :
ومراده بالنسخ التخصيص : يعني أن لفظة من في ( إلا من تاب ) عامة، تشمل القاتل فتقضي بعمومها أن له توبة. وأن آية الفرقان التي جاءت في القاتل خصصتها وأخرجته من عمومها.
قال ابن رشد :- بنقل الأبي - : وإلى هذا ذهب مالك لأنه قال :" لا يؤمن القاتل وإن تاب ". قال ابن رشد : وهذا لأن القتل فيه حق الله، وحق للمقتول، وشرطه التوبة من مظالم العباد رد التبعات أو التحلل، وهذا لا سبيل للقاتل إليه إلا بأن يعفو عنه المقتول قبل القتل٨.
رأي السلف وأهل السنة :
وذهب جمهور السلف، وأهل السنة : إلى أن للقاتل توبة، ونظروا في هذه الآية إلى عموم لفظها لا إلى خصوص سبب نزولها، وجعلوا عموم " ومن يقتل " في آية الفرقان مخصصا بمن تاب، المستثنى في هذه الآية. فابن عباس خصص من تاب بمن يقتل. وهم عكسوا فخصصوا من يقتل بمن تاب.
ويرجع تخصيصهم العمومات الدالة على قبول التوبة من كل مذنب مثل قوله تعالى :" ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ".
وقوله " إن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ".
وقوله :" وقابل التوب ".
وحديث :" التائب من الذنب كمن لا ذنب له " في عمومات كثيرة.
والظاهر إذا كثرت تفيد القطع.
قدوى في الفتوى :
قال ابن رشد : كان ابن شهاب إذا سئل يستفهم السائل ويطاوله، فإن ظهر له أنه لم يقتل يفتيه بأنه لا توبة له، وإن تعرف بأنه قتل أفتاه بأن التوبة تصح.
قال ابن رشد : وإنه لحسن من الفتوى. فهكذا ينبغي مراعاة الأحوال، في تنزيل الأقوال فإن لم يقتل يجب التشدد عليه، وسد الباب في وجهه ومن قتل ينبغي ترغيبة في الرجوع إلى الله.
وفي مراعاة هذا الأصل والاقتداء بهذا الإمام فوائد كثيرة في الحث على الخير، والكف عن الشر، والحكيم من ينزل الأشياء في منازلها، كانت أعمالا أو كانت أقوالا.
ترهيب :
ما أعظم هذا الذنب وما أكبره ! ! ونعوذ بالله من ذنب اختلف أئمة السلف في قبول توبة مرتكبه، وقد أجمعوا على قبول توبة الكافر.
ولعظم شأن الدماء ؛ كانت أول ما يقضي فيه يوم القيامة بين الخلق.
فإياك أيها الأخ أن تلقى اله تعالى بمشاركة في سفك قطرة من دم ظلما ولو بكلمة، فإن الأمر صعب، والموقف خطير ! !٩.
٢ أشر كوابه..
٣ خلفوا عن الغزو مع رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم في تبوك..
٤ البخاري ومسلم..
٥ شعيرة: حبة شعير، برة : حبة قمح، ذرة : واحدة الذر من الهباء الدقيق المنتشر في الفضاء لخفته وتناهيه في الصغر، ومع ذلك فهو معتبر في الحساب والعقاب والثواب، فسبحان الحكم العدل..
٦ ولكن غمسة في جهنم تنسي كل نعيم الدنيا، وغمسة في الجنة تنسي شقائها..
٧ سورة النساء ٩٣..
٨ وهذا محال..
٩ وسبحان الله العظيم: للكافر توبة، وخلاف في توبة القاتل، فزوال الدنيا وما فيها أهون عند الله من قتل رجل مؤمن.
.
" ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ".
( سورة الفرقان – الآية ٧١ )
المناسبة :
لما أفادت الآية السابقة أن التوبة تمحو السيئات، جاءت هذه الآية على إثرها تبين ما لأهلها من جزيل الإنعامات، وعظيم الدرجات.
المفردات :
المتاب : مصدر كالمرجع.
التراكيب :
خالف جواب الشرط وهو ( يتوب ) فعل الشرط وهو ( تاب ) بمتعلقه وهو إلى الله، ومعموله وهو متابا.
وعبر بالمضارع في الجواب ليفيد التجدد باعتبار تجدد المثوبات للراجعين إلى الله.
و نون ( متابا ) تنوين تفخيم وتعظيم.
المعنى :
ومن تاب التوبة الصادقة، وعمل صالحا دليلا على صدق توبته، فإنه يرجع إلى الله الذي يحب التوابين و يحب المتطهرين، ويحسن لقاءهم ويجزل ثوابهم – رجوعا وأي رجوع : رجوع العز والتكريم إلى الحليم الكريم !
ترغيب :
دعا الله بهذا عباده المذنبين حتى لا يتسرب القنوط إلى قلوبهم، وهو محرم عليهم١، و لا يحول بينهم وبين خالقهم ذنب وإن عظم٢.
ورغبهم في التوبة بأنها رجوع إلى إليه وكفى، وأن الرجوع إليه فيه من الخير والشرف فوق ما تصوره الألفاظ. فما أحلمه من رب كريم، وما أرحمه بعباده المذنبين !
فهذا داعي الله فأجيبوه، و هذا باب الله فلجوه٣، فإنكم مهما رجعتم إليه لا تطردوا، ومهما قصدتم إليه تقبلوا وتكرموا.
الله فكما فتحت لنا بابك فوفقنا إليه، وتب علينا لنتوب، إنك أنت التواب الرحيم.
٢ فالذنب مهما عظم، فرحمة الله أكبر منه..
٣ أدخلوه..
" والذين لا يشهدون الزور... "
المناسبة :
لما وصفهم بالصفات المتقدمة الدالة كلها على كمال أخلاقهم، واستقامة أعمالهم في ظواهرهم وبواطنهم، بانبنائها على قوة إيمانهم و صحة عملهم، فكانوا أهل الحق المتصفين به في علمهم وعملهم، القائمين عليه في جميع أحوالهم – وصفهم هنا ببعدهم عن الباطل ومشاهده ومجانبتهم لأهله.
المفردات :
الشهود : هو الحضور الذي يكون فيه إدراك بالحواس أو بالبصيرة.
والشهادة : هي الإخبار عن علم حصل عن شهود. و ( لا يشهدون ) يحتمل أن يكون من الشهود، وأن يكون من الشهادة. و ( الزور ) أصله الميل ويطلق على الكذب، لأنه ميل عن الحقيقة، وعلى كل باطل من الأقوال والأعمال، لأنه ميل عن الحق.
التراكيب :
إذا كان لا يشهدون بمعنى لا يحضرون، فالزور مفعول به. وإذا كان بمعنى لا يخبرون فالزور مفعول مطلق بعد حذف المضاف. والأصل : و لا يشهدون شهادة الزور.
المعنى :
على الاحتمال الأول : والذين لا يحضرون مشاهدة الباطل والإثم من كل مجلس تتعدى فيه الحدود، أو تنتهك فيه الحرمات، أو يحكم فيه بالجور أو تعظيم فيه الطواغيت، أو يدعى فيه بدعوى الجاهلية، أو تحيا فيه معالم الوثنية، أو تطمس فيه السنة النبوية، أو يدعى فيه أحد مع الله، أو يضرع إلى سواه.
و على الاحتمال الثاني : والذين لا يشهدون شهادة الزور و لا يخبرون إلا بالحق الواقع.
ترجيع وترجيح :
يلزم أنهم لا يشهدون مشاهدة الباطل أنهم لا يشهدون بالزور لوجهين :
الأول : لأنهم إذا كانوا لا يحضرون مجالس الباطل فبالأحرى أنهم لا يقولونه.
والثاني : أن مشهد شهادة الزور من مشاهد الباطل التي لا يحضرونها ؛ فيكون الوجه الأول أولى لأنه أشمل.
توسع في البيان :
على أنه من بلاغة القرآن أن تأتي مثل هذه الآيات بوجوه من الاحتمالات متناسبات غير متناقضات ؛ فتكون الآية الواحدة بتلك الاحتمالات كأنها آيات : نظير مجيء الآية بقراءتين، فتكون كآيتين مثل قوله تعالى :" إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ".
و قوله تعالى و آية الوضوء :" وأرجلكم " بالنصب عطفا على الوجه فيفيد غسل الأرجل، وتلك هي الحالة الأصلية العامة. وبالخفض عطفا على الرؤوس فيفيد مسح الأرجل وتلك هي حالة الرخصة عند لبس الخفاف.
فتكون هذه الآية باحتمالها مفيدة عن شهود الباطل، وعن شهادته.
موعظة :
قال جار الله١ في الكشاف، عن هؤلاء الموصوفين من عباد الرحمن :
البعد عن مجالس الخطائين :
إنهم ينفرون عن محاضر الكذابين، ومجالس الخطائين فلا يحضرونها، ولا يقربونها ؛ تنزها عن مخالطة الشر وأهله ؛ وصيانة لدينهم عما يمثله لأن مشاهدة الباطل شركة فيه.
و لذلك قيل في النظارة إلى كل ما لم تسوغه الشريعة : هم شركاء فاعليه في الإثم، لأن حضورهم دليل الرضا به وسبب وجوده والزيادة فيه ؛ لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة ورغبتهم في النظر إليه٢ا ه.
وهذا كما قال ؛ فإن حضور مشاهد الباطل إقرار لأهلها عليها، وترك للنهي عن المنكر. وقد قال الله تعالى :
" لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ".
و قال تعالى :" وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ".
فتعم الآية كل ظالم، فلا تجوز لأحد مجالستهم مع ترك النكير عليهم، و لا يكفي أن ينكر و يجلس ؛ لأنه يكون ببقائه معهم قد أظهر ما يدل على الرضا بفعلهم، ونقض بالفعل إنكاره عليهم بالقول.
لعنة الحضور :
و روى الطبراني و البيهقي بإسناد حسن عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال : رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم - :
" لا يفقهن أحدكم موقفا يقتل فيه رجل ظلما، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه ".
فأخبر أن اللعنة تنزل على الحاضرين لعدم دفعهم، واقتضى أنهم غير راضين بقلوبهم، وأحرى إذا رضوا.
فلا يجوز من هذا الحديث وغيره حضور الظلم والقبائح مع عدم دفعها، ولو مع عدم الرضا بها.
و روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – قال لأصحابه لما وصلوا الحجر – ديار ثمود :
" لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، لا يصيبكم ما أصابهم ".
فإذا كان هذا فيمن ماتوا من أهل العذاب، فمثلهم مجالس أهل السوء والفساد، فإذا نزلت اللعنة والعذاب عمتهم ومن كان معهم٣.
جريمة الزور :
وشهادة الزور المرادة بالنص على الوجه الثاني٤، أو اللزوم على الوجه الأول٥من أكبر الذنوب إثما، وشر الكبائر مفسدة تنقلب بها الحقائق، وتضيع بها الحقوق، وتبطل المعاملات، وتزول الثقة بين الناس، وتتعرض النفوس والأموال والأعراض للأذى والشر، وتنعدم طمأنينة الناس على ما يعلمون من أنفسهم.
وصح عنه – عليه وآله الصلاة والسلام – أنه قال :
" ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور، وقول الزور. وكان متكئا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا – شفقة عليه – ليته سكت ".
فجلس لها، وبقي يكررها، لعظم شرها، و كبر مفسدتها، وعظم الإثم فيها على حسب ذلك منها.
أعاذنا الله والمسلمين منها ومن كل زور.
الصفة العاشرة :
" وإذا مروا باللغو مروا كراما ".
( سورة الفرقان : الآية ٧٢ )
المناسبة :
نفي عنهم فيما تقدم حضور مشاهد الزور، وأخبر هنا أنهم لا يقفون عند اللغو، عندما يمرون عليه، ترقبا في وصفهم بالبعد عن الباطل والإثم والعبث، ومجانبة أهله.
المفردات :
( اللغو ) : مصدر لغا يلغو أي قال باطلا فهو القول الباطل، ومثله الفعل الباطل من كل ما لا فائدة فيه ؛ و لا نتيجة له، مما شأنه أن يلغى ويطرح.
( والكريم ) : الخالص العنصر فهو الزكي غير المتدنس، ومن مقتضى ذلك حسن أخلاقه، واستقامة أعماله، وسلامته من الرذائل.
( كراما ) : حال من فاعل مروا الثاني، ليبين وصفهم عند المرور.
المعنى :
وإذا مروا في طريقهم بقول يقال، أو فعل يفعل مما لا فائدة فيه جاوزوه معرضين عنه، أزكياء غير متدنسين بشيء منه، ولا ملتفين لأهله.
موعظة :
في الإقبال على اللغو شغل للبال به، وتكدير للخاطر بظلمته، وتضييع للوقت فيه، ولكل كلمة تسمعها أو فعلة تشهدها أثر في حياتك وإن قل.
وقد يعقبها ضدها فتزول بعدما شغلت وعطلت. وقد يردفها مثلها فتثبت وتنمو وتسوء عاقبتها ولو بعد حين.
وبقدر ما تلتفت إلى اللغو تلتفت عن كرمك، وبقدر ما يعلق بك منه ينقص من ذكائك.
و بقدر ما تتساهل بالوقوف عليه تقرب من الدخول فيه، وإذا دخلت فيه واستأنست بأهله جرك إلى الزور وعظائم الأمور٦.
ولشر أسباب متواصلة، وأنساب متصلة يؤدي بعضها إلى بعض، فينتقل المغرور الغافل في خفيها إلى رجليها، ومن صغيرها إلى كبيرها٧.
فالحازم من لم يسامح نفسه في قليلها، و يباعد كل البعد عنها وعن أهلها٨، وقد هدتنا هذه الآيات لنهتدي، وذكرت عباد الرحمن لنقتدي.
٢ فكأنهم محرضون. ولذا لو أهملنا الكاسيات العاريات في الطرقات، و لم ننظر إليهم، لثن إلى رشدهن، ورجعن عن غيهن..
٣ والنقمة تعم، والنعمة تخص..
٤ شهادة الزور..
٥ عدم مشاهدة الباطل..
٦ فالشر يعدي كما يعدي الأجرب السليم..
٧ ومعظم النار من مستصغر الشرر..
٨ فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه..
" والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا ".
( سورة الفرقان : الآية ٧٣ )
المناسبة :
لما وصفهم فيما تقدم بإعراضهم عن الباطل، ومجانبتهم لأهله، وبعدهم عنه، وصفهم هنا بإقبالهم على الحق، وإكبابهم عليه، متفهمين مستبصرين.
الألفاظ :
( ذكروا ) : وعظوا ونبهوا. ( بآيات ربهم ) هي آيات القرآن وفيها التذكير بآيات الأكوان١ التي ترى بالعيان.
( الخرور ) : هو السقوط كسقوط الساجد، ( الأصم ) فاقد حاسة السمع، أو الذي لا يتدبر ما يسمع فلا ينتفع به، وهو المراد هنا.
و ( الأعمى ) : فاقد حاسة البصر، أو الذي لا يعتبر فيما يبصر فلا ينتفع به، ويكون الأعمى بمعنى فاقد الإدراك و هو عمى البصيرة، وما هنا يحتمل الوجهين الأخيرين.
التراكيب :
عبر ( بإذا ) لأن التذكير مما هو واقع محقق٢كالذي يسمع من القرآن في الصلاة ومن الخطب في الجمع.
و بنى الفعل للنائب لأن التذكير بالآيات يجب قبوله من أي مذكر كان.
و ( صما وعميانا ) : حال من الواو ضمير الجماعة في لم يخروا، والنفي٣ منصب على الحال التي هي قيد في الكلام.
وإذا كان الكلام مقيدا بقيد كما هنا، فإن النفي ينصب على ذلك القيد في غالب الاستعمال العربي. ونظيره : ما رأيت زيدا راكبا نفيا للركوب لا للرؤية. ولا يلقاني مسلما نفيا للسلام لا للقاء.
فلم ينف عنهم الخرور، وإنما نفى عنهم الصمم والعمى عند الخرور.
المعنى :
ومن صفات عباد الرحمن : أنهم إذا ذكرهم مذكر بآية ربهم التي أنزلها على نبيهم – صلى الله عليه وآله وسلم - بما فيها من ذكر مخلوقاته وإنعاماته، و أيامه في أوليائه وأعدائه، ووعده ووعيده، وترغيبه وترهيبه – أقبلوا عليها، وأكبوا على سماعها، بآذان واعية، وأبصار راعية، و قلوب حاضرة، و عقول متدبرة. لا كمن يقبلون عليها و يكبون على سماعها، ولكنهم لا يسمعون و لا يبصرون، لأنهم لا يعقلون ولا يتدبرون٤
عموم الحاجة للتذكير :
المذكر وما به التذكير :
بعد ما ذكر تعالى من صفات عباد الرحمن ما ذكر.. ذكر استماعهم للتذكير، تنبيها على أن التذكير محتاج إليه في كل حال، فإذا كان الموصوفون بتلك الصفات يحتاجون إليه فغيرهم أولى، وذلك لأن الغفلة من طبع الإنسان، ودوام الغفلة صدأ القلوب، و صقالها هو التذكير.
قبول التذكير من كل مذكر :
كما تقبل كلمة الحق من كل قائل، كذلك يقبل التذكير من كل مذكر، ولو كان المذكر من أكمل العباد، والمذكر من أوساطهم، أو أدناهم.
وفي عباد الرحمن المذكورين في استماعهم إذا ذكروا من أي مذكر – القذوة الحسنة.
ما يكون به التذكير :
قال الله تعالى :" فذكر بالقرآن من يخاف وعيدي "، " ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر "، " وما أتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا "
فالتذكير بآيات القرآن والأحاديث النبوية، هذا هو التذكير المشروع المتبوع، والدواء الناجع المجرب. ولذلك تجد مواعظ السلف كلها مبنية عليه راجعة إليه. والنصح لله ولرسوله وللمسلمين في لزوم ذلك والسير عليه.
أقسام الناس عند التذكير :
ثنائيات :
الناس عند تلاوة آيات القرآن على قسمين :
( أ ) معرضين. ( ب ) ومقبلين.
فالمعرضون غير المؤمنين.
والمقبلون على قسمين :
( أ ) مقبلين بظاهرهم دون باطنهم.
( ب ) ومقبلين بظاهرهم وباطنهم.
فالمقبلون بظاهرهم دون باطنهم هم المنافقون.
والمقبلون بظاهرهم وباطنهم على قسمين :
( أ ) مستمعين، مستبصرين، حاضرين متدبرين.
( ب ) وغافلين غير متدبرين غير سامعين ولا مبصرين.
والأقسام كلها مذمومة إلا قسم المقبلين بظواهرهم و بواطنهم، المستمعين المستبصرين. وهذا القسم هو الذي وصف به عباد الرحمن، فكانوا مباينين لأهل الإعراض من الكافرين والمنافقين، ولأهل الغفلة، وعدم التدبر من المؤمنين.
تحذير وتنبيه :
قد صورت الآية حالة المؤمن بالقرآن الذي ينكب عليه، ويتلقاه بالقبول، ثم لا يتفهمه و لا يتدبره، بحالة الأصم الأعمى في عدم انتفاعه بما انكب عليه، تقبيحا لعدم التفهم والتدبر من المؤمن للآيات، وتحذيرا منه وتنبيها على أن الانتفاع بالقرآن الذي تتفتح به البصائر، وتتسع به المدارك، وتتهذب به الأخلاق، وتتزكى به النفوس، وتتقوم به الأعمال، وتستقيم به الأحوال إنما يكون بتفهمه، وتدبره، دون مجرد الانكباب عليه بلا تفهم ولا تدبر.
أمر وإرشاد :
الآيات الدالة على طلب التدبر والتفهم لآيات القرآن العظيم كثيرة، منها الآية المتقدمة، ومنها قوله تعالى :" كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر أولو الألباب ".
صدق النية سبب الفتح
فعلينا أن نحضر قلوبنا عند سماعها، ونستعمل عقولنا غي فهمها، ونحمل أنفسنا على الاتعاظ بها، فإذا صدقت النية وأخلص التوجه فتح على العبد من وجوه العلم والعمل – بإذن الله – بما لم يكن له في بال.
وإن الله وصف هذا الكتاب بأنه مبارك ؛ لزيادة خيراته وتيسيره للذاكرين – ترغيبا لنا في فهمه وتدبره، واستنزال الخيرات واستزادة البركات منه.
فأقبل – يا أخي – على القرآن : على استماعه، وعلى تفهمه والزم ذلك حتى يصير عادة لك وملكة فيك.. تر من فضل الله وإقباله عليه ما يدنيك – إن شاء الله – و يعليك، و يعود بالخير الجزيل عليك.
والله نسأل لنا ولكم الإقبال على الله بتلاوة وتدبر كتابه، والتأدب بجميع آدابه، حتى نحشر في زمرة أحبابه، بمنه وكرمه آمين.
٢ والتعبير بإذا لتحقق الوقوع، بخلاف إن فهي للشك فيه..
٣ النفي في لم يخروا..
٤ أولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا..
" والذين يقولون : ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين.
واجعلنا للمتقين إماما ".
المناسبة :
لما وصفهم في الآيات المتقدمة، بما دل على أنهم أهل الخير وكمال أنفسهم.. وصفهم في هذه بما دل على محبتهم الخير والكمال لغيرهم من قرابتهم : أزواجهم، وذرتهم، ومن سواهم.
وقدم الأزواج على الذرية لأنهم ألصق ولأنهم الأصل.
فقه هذه المناسبة :
طبيعة الإنسان الكامل والناقص :
فطر الإنسان على محبته لنفسه، لتحمله هذه الفطرة على المحافظة عليها، والدفاع عنها، وتكميلها بكل وجوه الكمال. وكان من مقتضى هذه المحبة رغبته في الوجود والبقاء، ومما هو قوة في وجوده ومظهر لبقائه أن يرى الناس على فكره وصفاته وأحواله، فيرى نفسه ممثلة في غيره، وأفكاره وصفاته وأحواله باقية ببقاء الناس.
فالخير الكامل من طبعه، ومن مقتضى فطرته.. أنه يحب انتشار الخير والكمال في الناس.
والشرير الناقص من طبعه ومن مقتضى فطرته أنه يحب انتشار الشر والنقص فيهم. فلذا كان لازما لتتميم وصف عباد الرحمن ذكر محبتهم الخير والكمال لغيرهم.
ميزان من هذه المناسبة :
ميزان الإنسان :
قد تخفى عليك دخيلة نفس الإنسان فيمكنك أن تعرفها بما يجري به لسانه، فإذا جرت كلماته بمحبة انتشار الخير والكمال فهو من أهلها، وإذا جرت بالضد فهو على الضد ؛ فما يحب الإنسان انتشاره هو الدليل على صفات نفسه، وهو ميزان تزنه به في الشر والخير، والنقص والكمال١.
المفردات :
( الهبة ) : العطاء من غير عوض، ولا تكون على الحقيقة التامة إلا من الله، فهو الغني الوهاب٢.
( من ) : ابتدائية فمن ناحية الأزواج والذرية تكون قرة الأعين.
( الأزواج ) جمع زوج، وهو يصدق على الرجل والمرأة، والنساء شقائق الرجال وهذا الدعاء كما يكون من المؤمنين يكون من المؤمنات.
كما تصدق الآيات المتقدمة٣ على الموصوفين من الصنفين بتلك الصفات.
( الذرية ) : من تناسل منهم من أبنائهم وبناتهم. وقرئت بالإفراد لاتحادها في أصل النسل، وبالجمع لاختلافها في الفروع والأنساب.
( قرة أعين ) : بردها إن كانت من القر وهو البرد، وسكونها إن كانت من القرور بمعنى الاستقرار.
( الإمام ) : هو المتبع المقتدى به، لأن المراد به الجنس، وحسن الإفراد من جهة اللفظ لوقوعه فاصلة على وزان ما قبلها وما بعدها. ومن جهة المعنى أن أئمة الهدى كنفس واحدة، لاتحاد طريقهم بالسير على الصراط المستقيم، واتحاد وجهتهم بالقصد إلى الله تعالى وحده.
التراكيب :
( قرة أعين ) : تركيب كنائي فإذا كانت القرة من القر فهو كناية عن السرور، لأن العين في حالة السرور باردة، وإذا سالت منها دموع الحزن كانت سخنة.
ومما يقال على هذا : أقر الله عين المحق، وأسخن عين المبطل.
وجاء عليه قول أبي تمام :
فأما عيون العاشقين فأسخنت وأما عيون الشامتين فقرت
فقرة أعينهم على هذا، كناية عن سرورهم بأزواجهم وذريتهم، بما عليه من الخير والكمال وإعانتهم لهم عليهما.
وإذا كانت القرة من القرور، فهي كناية عن سكون النفس بحصولها على ما يرضيها من الأزواج والذرية.
ومعنى هذا : أن النفس إذا لم تحصل على ما يرضيها، تعلقت بما عند غيرها وتشوفت إليه، فتمتد إليه العين، ويطمح إليه البصر، وإذا حصلت على ما يرضيها زالت عن ذلك التعلق و انكفت عن التشوف ؛ فسكنت العين فلم تمتد إلى غير ما عندها، ولم يطمح البصر إليه ؛ ولهذا كما كان قرور العين كناية عن رضى النفس وسكونها كان امتداد العين كناية عن اضطراب النفس وتشوفها وتعلقها. وعليه قوله تعالى :
" ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه، ورزق ربك خير وأبقى٤.
فقرة أعينهم على هذا كناية عن رضى أنفسهم بما يكون لهم من أزواج وذرية، موصوفين بالصفات المرضية، من طاعة الله في القيام بوظائف الدين والدنيا، وإعانتهم لهم على القيام بها.
المعنى :
ومن صفات عباد الرحمن : أنهم يدعون ربهم : يسألونه أن يهب لهم أزواجا وذرية، تقر بهم أعينهم، بأن يكونوا موصوفين بمثل صفاتهم سائرين على مناهجهم، معينين لهم على ما هم عليه٥، ويسألونه أن يكونوا على أكمل حال في العلم والعمل والاستقامة، يقتدى بهم فيها المتقون.
الأحكام :
الزواج والتبتل :
الأول :
التزوج وطلب النسل هو السنة : سنة النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وسنة أصحابه عليهم الرضوان، وسنة عباد الرحمن، وليس من شريعة الحنيفية السمحة، الرهبانية، والتبتل.
وقد رأى قوم من الزهاد رجحان الانقطاع إلى العبادة على التزويج والاشتغال بالسعي على الزوج والذرية، فرد عليهم أئمة الدين والفتوى بأن في التزوج اتباعا للسنة، وفي السعي على الأهل ما هو من أعظم العبادة.
وفي التزوج تكثير سواد الأمة والمدافعين عن الملة والقائمين بمصالح الدين والدنيا، وفي هذا ما فيه من الأجر والمثوبة.
وفي التبتل مخالفة السنة، وانقطاع النسل، وضعف الأمة وتعطيل المصالح، وخراب العمران، وكفى بهذا كله شرا وفسادا ! !
الثاني :
اختيار الزوجة :
سؤال العبد من ربه أن يهب له من الزوج والذرية ما تقر به عينه، يقتضي سعيه بقدر استطاعته لتحصيل ذلك فيهما، ليقوم بالسببين المشروعين من السعي والدعاء :
فعليه أن يختار ويجتهد عندما يريد التزوج.
وأن يقصد إلى ذات الدين٦.
وفي اختياره واجتهاده في جانب الزوجة سعي في اختيار الولد ؛ فإن الزوجة الصالحة شأنها أن تربي أولادها على الخير والصلاح.
ثم عليه أن يقوم بتعليم زوجه وأولاده وتهذيبهم وإرشادهم، فيكون قد قام بما عليه في الابتداء والاستمرار، مع دوام التضرع إلى الله تعالى والابتهال.
الثالث :
السرور مشروع :
ما تقر به الأعين يحصل به الفرح والسرور ؛ فالفرح والسرور بما هو خير وطاعة من حيث أنه نعمة من الله وفضل – محمود ومشروع.
الرابع :
طلب الكمال كمال :
طلب الرتب العليا في الخير والكمال والسبق إليها والتقدم فيها، مما يدعونا إليه اله، ويرغبنا بمثل هذه الآية فيه، كما قال تعالى :
" فاستبقوا الخيرات " ؛ لأن طلب الكمال كمال ؛ و لأن من كانت غايته الرتب العليا، إن لم يصل إلى أعلاها لم ينحط عن أدناها، وإن لم يساو طلب الكمال كمال ؛ و لأن من كانت غايته الرتب العليا، إن لم يصل إلى أعلاها لم ينحط عن أدناها، وإن لم يساو أهلها لم يبعد عنهم.
ومن لم يطلب الكمال بقي في النقص، ومن لم تكن له غاية سامية قصر في السعي، وتوانى في العمل.
فالمؤمن يطلب أسمى الغايات حتى إذا لم يصل لم يبعد، وحتى يكون في مظنة الوصول بصحة القصد والنية.
الخامس :
الاقتداء :
من الدين الاقتداء بأهل العلم والعمل والاستقامة في الهدى والسمت.
السادس :
التقوى :
لا يكون الإمام إلا تقيا فاق غيره في التقوى.
السابع :
إن اقتداء المتقين بأئمتهم إنما هو في التقوى ؛ لأنهم ما كانوا أئمة إلا بها فالآية أفادت : أن المتقين يقتدون بأئمتهم، وأن أئمتهم متقون مثلهم، وأكمل منهم التقوى، وإن اقتداءهم بهم في التقوى لا في غيرها فمن حاد عنها فلا إمامة له.
تمييز :
حيثيات طلب الكمال :
الخير الكامل، المقدم في الخير والكمال، المقتدى به فيهما إذا طلب الإمامة.
من حيث الخير والكمال نفسهما.
ومن حيث حمل الناس عليهما بالقدوة الصالحة له فيهما ؛ لأن فعل الخير والاتصاف بالكمال دعوة إليهما بالعمل، وهي أبلغ من الدعوة بالقول.
ومن حيث انتشارهما في الناس وسعادة الناس بهما..
إذا طلب الإمامة من هذه الحيثيات فطلبه مشروع محمود، وهو طلب عباد الرحمن المذكور في الآية.
وإذا طلب الإمامة والتقدم لأجل الترأس والتقدم، فهذا طلب مذموم من عمل المتكبرين لا من عمل المتقين.
فعلى الداعي أن يميز هذا التمييز ليخلص القصد في دعائه ويكون على صواب فيه.
كلمة عظيمة من إمام عظيم :
من هم الأئمة :
قال مجاهد التابعي الجليل الثقة الثبت المفسر الكبير :
" أئمة، نقتدي بمن قبلنا ويقتدى بنا من بعدنا ". ذكره البخاري، ورواه ابن جرير يسند صحيح : يعني أن الذين يقتدى بهم الناس من بعدهم هم الذين كانوا يقتدون بسلفهم الصالح من قبلهم.
فالذين أحدثوا في الدين ما لم يعرفه السلف الصالح لم يقتدوا بمن قبلهم، فليسوا أهلا لأن يقتدى بهم من بعدهم.
فكل من اخترع وابتدع في الدين ما لم يعرفه السلف الصالح فهو ساقط عن رتبة الإمامة فيه٧.
سلوك واقتداء :
كان الأعرابي الجاهل المشرك يأتي للنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – فيؤمن به، و يصحبه يتعلم منه الدين، ويأخذ عنه الهدى، فيستنير عقله بعقائد الحق، وتتزكى نفسه بصفات الفضل، وتستقيم أعماله على طريق الهدى ؛ فيرجع إلى قومه هاديا مهديا، إماما يقتدى به ويؤخذ عنه كما اقتدى هو بالنبي – صلى الله عليه وآله وسلم – وأخذ عنه.
فعلى كل مؤمن أن يسلك هذا السلوك، فيحضر مجالس العلم التي تذكره بآيات الله، وأحاديث رسوله ما يصحح عقيدته، ويزكي نفسه، ويقوم عمله.
وليطبق ما يسمعه على نفسه، وليجاهد في تنفيذه على ظاهره وباطنه، وليداوم على هذا، حتى يبلغ إلى ما قدر له من كمال فيه، فيرجع وهو قد صار قدوة لغيره في حاله وسلوكه.
وطلبة علم الدين، الذين وهبوا نفوسهم لله، وقصروا أعمارهم على طلب العلم لدعوة الخلق إلى اله، هم المطالبون – على الأخص – بهذا السلوك ليصلوا إلى إمامة الحق، وهداية الخلق على أكمل حالة، ومن أقرب طريق.
فاللهم وفقنا، و اهدنا إلى سنة نبينا، إذا اقتدينا وإذا اقتدي بنا. آمين يا رب العالمين.
٢ ومن الناس مجازا باعتبارهم خلفاء الله في أرضه..
٣ في صفات عباد الرحمن..
٤ طه : ٣١..
٥ ويدعون لوالديهم بعد مماتهم فتصل الحسنات إليهم كما جاء في حديث الرسول..
٦ فقد ورد أن من تزوج امرأة لمالها لم يزده الله إلا فقرا، ومن تزوج امرأة لجمالها لم يزده الله إلا دناءة، ومن تزوج امرأة لحبها أذله الله على يديها، ومن تزوج امرأة لدينها بارك الله له فيها..
٧ يقصد ما أحدثه بعض الطرقيين من البدع والخرافات..
" أولئك يجزون الغرفة بما صبروا، ويلقون فيها تحية وسلاما.
خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ".
المناسبة وفقهها :
لما ذكر في الآيات المتقدمة صفاتهم وأعمالهم، ذكر ما أعد لهم من عظيم الجزاء على تلك الأعمال، تنبيها على ما وضعه تعالى، بمشيئته وحكمته ورحمته، من الارتباط بين هذه الأعمال، وهذا الجزاء، وإفضائها إليه، إفضاء السبب لمسببه ؛ ليسعى الراجون لهذا الجزاء من طريق هذه الصفات وهذه الأعمال، كما يسعى لسائر المسببات من طريق أسبابها، وتؤتى جميع الأمور من أبوابها.
وفي هذا حث لأهل هذه الأعمال على التمسك بما هم به عاملون.
وتنبيه لأهل الغرور على بطلان ما هم به مغترون، والكيس من دان١وعمل لما بعد الموت،
والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني ).
المفردات :
( يجزون ) : يعطون في مقابلة أعمالهم.
( الغرفة ) : البيت الأعلى فوق بيت، وأل فيه لجنس، فيصدق بالمتعدد.
( صبروا ) : حبسوا نفوسهم. والباء فيه سببية.
( يلقون ) : من لقى بمعنى يجدون، ويلقون من لقى بمعنى تلقيهم الملائكة أي تقابلهم وتتلقاهم.
( تحية ) : دعاء بالحياة. ( سلاما ) : دعء بالسلامة.
( خالدين ) : باقين. ( مستقرا ) هو المكان الذي ينتهي إليه من غيره ويثبت فيه.
( مقاما ) : هو المكان يقام ويمكث فيه.
التراكيب :
جملة ( أولئك ) مستأنفة بيانية، فإن تلك الصفات والأعمال تشوق السامع إلى معرفة مآلهم، وثمرة أعمالهم، فيسأل عنهما ؛ فكانت الجملة جوابا لذلك السؤال المقدر٢.
وعرف المسند إليه٣بالإشارة تنبيها على استحقاقه للمسند٤ كان بما تقدم من صفات.
وجملة ( حسنت ) مستأنفة بيانية ؛ لأن من عرف حالتهم من الحياة والسلامة والبقاء، يتشوف لمعرفة حال مكان هذا السؤال المقدر. وهي إنشائية أفادت إنشاء مدح الغرف بالحسن، وتعظيم ذلك الحسن.
وقدم المستقر ؛ لأن أول الحلول استقرار، والمقام ببقاء الاستقرار واستمرار المكث.
المعنى :
أولئك الذين ذكرت صفاتهم وأفعالهم، يعطون جزاء أعمالهم البيوت العلالي في الجنة، بسبب صبرهم، وحسبهم لأنفسهم على الطاعات والمجاهدات وكفهم لها عن المعاصي والشهوات.
وتتلقاهم الملائكة بالتحية والسلام، باقين في هذا النعيم٥المقيم، وسكنى علالي الجنة التي هي أحسن مستقر، ينتهي إليها الإنسان، مقام يمكث فيه.
تطبيق حديث وفقهه :
من صفات أهل الجنة :
" روى الشيخان٦عن أبي سعيد الخذري ( رضي الله عنه ) أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – قال :
" إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب، لتفاضل ما بينهم.
قالوا يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟
قال : بلى، - والذي نفسي بيده – رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ".
فهذا الحديث بين أن أهل الغرف هم أكمل المؤمنين، وأعلاهم درجة في الجنة بهذا المقدار من البعد، فهم الموصوفون بالصفات المذكورة في الآية المتقدمة على أتمها. ومن لم يكن مثلهم فيها م يكن في منازلهم التي جوزوا بها عليها. وكان على حسب حظه من الإيمان، في منزلة من منازل أهل الجنة الذين يتراءون أهل الغرف.
فدرجات أهل الجنة في منازلهم على حسب سلوكهم في أعمالهم :
" م حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون. وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " ٧.
دلالة :
سبب الفوز :
دلت الآية على السبب الذي أفضى بهم إلى هذا الجزاء العظيم، وهو أعمالهم.
ودلت على السبب الذي تمكنوا به من القيام بهذه الأعمال، وهو الصبر لقوله تعالى :" بما صبروا ".
ومن أعظم الحكمة معرفة الأسباب والمسببات، وارتباط بعضها ببعض، فلا ينهض بامتثال المأمورات وترك المنهيات إلا من صبر، والصبر خلق من الأخلاق التي تتربى وتنموا بالمران والدوام، فواجب على المكلف أن يجعل تربية نفسه عليه، وتعويدها به من أكبر همه، إذ لا يقوم بالتكاليف الشرعية إلا به. بل ولا يستطيع الحياة في هذه الدار الدنيا الموضوعة على المحنة والابتلاء إلا تمسك بسببه٨.
بيان القرآن للقرآن :
في هذه الآية : إنهم يلقون تحية وسلاما ؛ وقد بين من يتلقاهم بذلك في قوله تعالى :
" وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ". فالملائكة هم الذين يتلقونهم في السلام، والدعاء لهم بالطيب، وهو مما يدخل في التحية ؛ لأن من طيبهم طيب حياتهم.
وما أكثر ما تجد في القرآن ! !، فاجعله من بالك تهتد – إن شاء الله – إليه.
اقتداء ورجاء :
هؤلاء السالكون، وما ذكر من أعمالهم وأحوالهم هو سلوكهم ؛ ولما سلكوا الصراط المستقيم، بالعمل المستقيم، انتهى بهم السير إلى أحسن قرار ومقام، إلى دار النعيم المقيم، في جوار الرحمن الرحيم.
فإذا اشتقت إلى نهايتهم فتمسك ببدايتهم، وزن أعمالك بأعمالهم.
وأحوالك بأحوالهم، فإذا جعلت ذلك من همك، وحملت عليه نفسك بصادق عزمك، وصبرت كما صبروا رجوت أن تظفر بما ظفروا.
فالله نسأل لنا ولك وللمسلمين صحة الاقتداء، وصدق الرجاء، وحسن الجزاء.
" ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ".
٢ أي فما جزاؤهم على تلك الصفات؟.
٣ أولئك..
٤ يجزون...... الخ.
٥ والعظمة في نعيم الجنة بقاؤه واستمراره..
٦ البخاري ومسلم..
٧ الجاثية الآيتان: ٢١ – ٢٢..
٨ ولذا ذكر في القرآن العظيم أكثر من سبعين مرة..
" أولئك يجزون الغرفة بما صبروا، ويلقون فيها تحية وسلاما.
خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ".
المناسبة وفقهها :
لما ذكر في الآيات المتقدمة صفاتهم وأعمالهم، ذكر ما أعد لهم من عظيم الجزاء على تلك الأعمال، تنبيها على ما وضعه تعالى، بمشيئته وحكمته ورحمته، من الارتباط بين هذه الأعمال، وهذا الجزاء، وإفضائها إليه، إفضاء السبب لمسببه ؛ ليسعى الراجون لهذا الجزاء من طريق هذه الصفات وهذه الأعمال، كما يسعى لسائر المسببات من طريق أسبابها، وتؤتى جميع الأمور من أبوابها.
وفي هذا حث لأهل هذه الأعمال على التمسك بما هم به عاملون.
وتنبيه لأهل الغرور على بطلان ما هم به مغترون، والكيس من دان١وعمل لما بعد الموت،
والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني ).
المفردات :
( يجزون ) : يعطون في مقابلة أعمالهم.
( الغرفة ) : البيت الأعلى فوق بيت، وأل فيه لجنس، فيصدق بالمتعدد.
( صبروا ) : حبسوا نفوسهم. والباء فيه سببية.
( يلقون ) : من لقى بمعنى يجدون، ويلقون من لقى بمعنى تلقيهم الملائكة أي تقابلهم وتتلقاهم.
( تحية ) : دعاء بالحياة. ( سلاما ) : دعء بالسلامة.
( خالدين ) : باقين. ( مستقرا ) هو المكان الذي ينتهي إليه من غيره ويثبت فيه.
( مقاما ) : هو المكان يقام ويمكث فيه.
التراكيب :
جملة ( أولئك ) مستأنفة بيانية، فإن تلك الصفات والأعمال تشوق السامع إلى معرفة مآلهم، وثمرة أعمالهم، فيسأل عنهما ؛ فكانت الجملة جوابا لذلك السؤال المقدر٢.
وعرف المسند إليه٣بالإشارة تنبيها على استحقاقه للمسند٤ كان بما تقدم من صفات.
وجملة ( حسنت ) مستأنفة بيانية ؛ لأن من عرف حالتهم من الحياة والسلامة والبقاء، يتشوف لمعرفة حال مكان هذا السؤال المقدر. وهي إنشائية أفادت إنشاء مدح الغرف بالحسن، وتعظيم ذلك الحسن.
وقدم المستقر ؛ لأن أول الحلول استقرار، والمقام ببقاء الاستقرار واستمرار المكث.
المعنى :
أولئك الذين ذكرت صفاتهم وأفعالهم، يعطون جزاء أعمالهم البيوت العلالي في الجنة، بسبب صبرهم، وحسبهم لأنفسهم على الطاعات والمجاهدات وكفهم لها عن المعاصي والشهوات.
وتتلقاهم الملائكة بالتحية والسلام، باقين في هذا النعيم٥المقيم، وسكنى علالي الجنة التي هي أحسن مستقر، ينتهي إليها الإنسان، مقام يمكث فيه.
تطبيق حديث وفقهه :
من صفات أهل الجنة :
" روى الشيخان٦عن أبي سعيد الخذري ( رضي الله عنه ) أن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – قال :
" إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب، لتفاضل ما بينهم.
قالوا يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟
قال : بلى، - والذي نفسي بيده – رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ".
فهذا الحديث بين أن أهل الغرف هم أكمل المؤمنين، وأعلاهم درجة في الجنة بهذا المقدار من البعد، فهم الموصوفون بالصفات المذكورة في الآية المتقدمة على أتمها. ومن لم يكن مثلهم فيها م يكن في منازلهم التي جوزوا بها عليها. وكان على حسب حظه من الإيمان، في منزلة من منازل أهل الجنة الذين يتراءون أهل الغرف.
فدرجات أهل الجنة في منازلهم على حسب سلوكهم في أعمالهم :
" م حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون. وخلق الله السموات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون " ٧.
دلالة :
سبب الفوز :
دلت الآية على السبب الذي أفضى بهم إلى هذا الجزاء العظيم، وهو أعمالهم.
ودلت على السبب الذي تمكنوا به من القيام بهذه الأعمال، وهو الصبر لقوله تعالى :" بما صبروا ".
ومن أعظم الحكمة معرفة الأسباب والمسببات، وارتباط بعضها ببعض، فلا ينهض بامتثال المأمورات وترك المنهيات إلا من صبر، والصبر خلق من الأخلاق التي تتربى وتنموا بالمران والدوام، فواجب على المكلف أن يجعل تربية نفسه عليه، وتعويدها به من أكبر همه، إذ لا يقوم بالتكاليف الشرعية إلا به. بل ولا يستطيع الحياة في هذه الدار الدنيا الموضوعة على المحنة والابتلاء إلا تمسك بسببه٨.
بيان القرآن للقرآن :
في هذه الآية : إنهم يلقون تحية وسلاما ؛ وقد بين من يتلقاهم بذلك في قوله تعالى :
" وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ". فالملائكة هم الذين يتلقونهم في السلام، والدعاء لهم بالطيب، وهو مما يدخل في التحية ؛ لأن من طيبهم طيب حياتهم.
وما أكثر ما تجد في القرآن ! !، فاجعله من بالك تهتد – إن شاء الله – إليه.
اقتداء ورجاء :
هؤلاء السالكون، وما ذكر من أعمالهم وأحوالهم هو سلوكهم ؛ ولما سلكوا الصراط المستقيم، بالعمل المستقيم، انتهى بهم السير إلى أحسن قرار ومقام، إلى دار النعيم المقيم، في جوار الرحمن الرحيم.
فإذا اشتقت إلى نهايتهم فتمسك ببدايتهم، وزن أعمالك بأعمالهم.
وأحوالك بأحوالهم، فإذا جعلت ذلك من همك، وحملت عليه نفسك بصادق عزمك، وصبرت كما صبروا رجوت أن تظفر بما ظفروا.
فالله نسأل لنا ولك وللمسلمين صحة الاقتداء، وصدق الرجاء، وحسن الجزاء.
" ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ".
٢ أي فما جزاؤهم على تلك الصفات؟.
٣ أولئك..
٤ يجزون...... الخ.
٥ والعظمة في نعيم الجنة بقاؤه واستمراره..
٦ البخاري ومسلم..
٧ الجاثية الآيتان: ٢١ – ٢٢..
٨ ولذا ذكر في القرآن العظيم أكثر من سبعين مرة..
" قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاءكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ".
المناسبة :
قد أفادت الآية السابقة كمال حال عباد الرحمن في نفوسهم وعقولهم، وأخلاقهم، وأعمالهم، وأفادت عظيم منزلتهم عند ربهم، ورفيع ما أعد لهم من درجاتهم، جزاء على صالحاتهم وحسناتهم.
وجاءت هذه الآية تفيد أن ذلك المقام العظيم الذي كان عند ربهم، إنما هو بسبب عبادتهم. وتعلن للناس أن عبادتهم هي الشيء الوحيد، الذي يكون لهم به قدر وقيمة عند ربهم، وبدونها لا يكون لها وزن عند خالقهم، ولا يكونون شيئا يبالى به.
وأن من كذب وخلع بتكذيبه ربقة العباد، فقد حقت عليه كلمة العذاب، وهو واقع به لا محالة.
المفردات :
( ما يعبأ بكم ) : ما يبالي بكم. ( العبء ) : هو الثقل فما عبأت به، بمعنى ما كان له عندي وزن ولا مقدار. وعبأت به : كان له عندي وزن ومقدار وعدي بالباء لأنه ما بليت.
( دعاؤكم ) : عبادتكم من إطلاق الجزء على الكل.
( كذبتم ) : كفرتم فلم تعبدوا.
( لزاما ) : ملازما، وأصل اللزام مصدر لازم واختير هنا للتنبيه على أن بين المكذبين والعذاب ملازمة من الطرفين : فهم بتكذيبهم قد ألزموا أنفسهم العذاب فلازمهم العذاب.
التراكيب :
جواب ( لولا ) محذوف لدلالة ما تقدم، وتقدير الكلام : لولا دعاؤكم ما عبأ بكم. وجملة ( فقد كذبتم ) واقعة موقع التعليل لكلام مقدر تقديره – والله أعلم١ – لا يعبأ بكم فقد كذبتم، أي لأنكم قد كذبتم، فالفاء تعليلية.
وأما جملة ( فسوف يكون ) فمتسببة عما قبلها، فالفاء فيها سببية. وضمير يكون عائد على العذاب المفهوم من المقام.
المعنى :
قل للذين أرسلت إليهم : ما يبالي بكم ربي، و لا يعبأ بكم، ولا يكون لكم عنده وزن، لولا إيمانكم وعبادتكم.
فإذا كذبتم وكفرتم، فهو لا يعبأ بكم، وسوف يكون العذاب ملازما لكم بسبب تكذيبكم.
تحرير في المخاطب :
المخاطبون هم الذين كذبوا، ثم إن ما لحقهم بسبب التكذيب من العذاب الملازم فهو خاص بهم، وبالمكذبين أمثالهم. وما كان موجها لهم من جهة أنهم عباد – وهو أن الله لا يعبأ بهم لولا دعاؤهم – فهو عالم لجميع العباد لماثلتهم لهم في العبودية لله، واستغناء الله عنهم، وفرض العبادة عليهم، وعدم التقدير لهم إلا بها.
تفسير أثري :
أخرج البخاري في كتاب التفسير، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :
" خمس قد مضين٢ الدخان، والقمر، والروم، والبطشة، واللزام ".
ورواه في مواضع أخرى من صحيحه.
وعني بالدخان المذكور، في قوله تعالى :" يوم تأتي السماء بدخان مبين " ٣
وبالقمر المذكور في قوله تعالى :" وانشق القمر " ٤.
وبالبطشة المذكورة، في :" يوم نبطش البطشة الكبرى٥.
وباللزام المذكور في هذه الآية.
وفسر ابن مسعود : البطشة الكبرى بيوم بدر، وفسر اللزام به أيضا.
فهي في الحقيقة أربع وعدها خمسا باعتبار الوصفين البطش والملازمة.
وفسر الحسن اللزام : بعذاب يوم القيامة.
ومن عادة السلف أنهم يفسرون اللفظ بما يدخل في عمومه دون قصد للقصر عليه. ولا منافاة حينئذ بين التفسيرين، فيكونون قد توعدوا على تكذيبهم بلزوم عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
ترهيب :
رتب لزوم العذاب على التكذيب، فأعظم الأكمل التكذيب، وهو تكذيب الكفر. ثم أصناف العذاب لازمة، لتكذيب العصيان بالعدل والحكمة في التقسيم والترتيب.
استنباط :
لما كانت مقادير العباد عند ربهم بحسب عبادتهم، فالأنبياء – عليهم السلام – أعلى الناس منزلة عند الله هم أعظم عبادة الله، هم أتقاهم له وأشدهم خشية منه. وقد قال النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – فيما رواه مالك وغيره.
" والله إني أرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقى ".
وقال أيضا :" والله إني لأتقاكم له، وأعلمكم بحدوده ".
سؤال استطرادي وجوابه :
كيف يخشى وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟
أجاب العلماء عن هذا بأجوبة :
١ – منها أنه لا يخشى العقاب، ولكنه يخشى العتاب.
٢- ومنها قول الأكثر – أنه غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، بشرط امتثاله لما أمر به.
ذكر هذين ابن العربي في " القبس ".
٣- ومنها أنها خشية الإجلال، ومشاهدة عظمة الربوبية، وأنه لا يجب عليه تعالى شيء.
وهذان الحديثان الصحيحان من الأدلة الصريحة عند أهل العلم، على أن العبادة الشرعية الإسلامية لا تتجرد من الخوف، حتى عبادة أفضل الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
تعليل :
الإنسان نوراني وظلماني :
الإنسان مهيأ للكمال بما فيه من الجزء النوراني العلوي، وهو روحه.
ومعرض للسقوط بما فيه من أخلاط عناصر جزئه الأرضي الظلماني، وهو جسده.
ولا يخلص من كدرات جثمانه، ولا ينجو من أسباب نقصانه إلا بعبادة ربه، التي بها صفاء عقله، وزكاء نفسه، وطهارة بدنه في ظاهره وباطنه.
فبعبادة ربه يكمل فيرقى في مراتب الكمال، ويدنو من الملأ الأعلى، عند الرب الأعلى ذى الجلال والإكرام٦.
فاله طيب لا يقبل إلا الطيب، وإليه يصعد الكلم الطيب، و لا طيب و لا كمال إلا للعابدين، فلا قيمة ولا قبول لغيرهم عند رب العالمين.
إرشاد وتحذير :
قد بين لك الطريق الذي يوصلك إلى مولاك، ويرقيك في مراتب كمالك وعلاك، وما هو إلا عبادة ربك ؛ فكن عبدا له في اختيارك واضطرارك وفي جميع أحوالك.
واحذر أن تعتمد على شيء غير عبادته.
واحذر أن تتوجه بشيء من عبادتك لغيره.
ومن عبادتك – بل هو مخ عبادتك – دعاؤك وسؤالك واستعانتك.
فإياك إياك أن تتوجه منه بشيء لغيره فكن دائما عبدا لله. وكن دائما عبدا له وحده، فذلك حقه عليك، وذلك السبب الوحيد الذي ينجيك ويعليك٧.
والله نسأل : أن يقصرنا على عبادته، ويديمنا على الإخلاص في التوجه إليه، حتى نلقاه على ملة الإسلام، وهدى عباده الصالحين، آمين يا رب العالمين.
٢ من علامات الساعة..
٣ سورة الدخان، الآية: ١٠.
٤ أول سورة القمر..
٥ سورة الدخان الآية : ١١.
٦ والمؤمن مطالب بأن يتخلق بأخلاق الرب وصفاته. ولا يطلب منه الإسلام أن يكون ملاكا، كما لا يرضى له أن ينحط إلى درك الحيوانية..
٧ من ثبات الإمام واعتماده على ربه: أنه عبأ الأمة الجزائرية في مؤتمر إسلامي لمطالبة فرنسا سنة ١٩٣٦ م بالحرية والاستقلال فقال له الوزير الفرنسي: إن لدى فرنسا مدافع طويلة فقال بن باديس، ولدى الجزائر مدافع أطول! إنها مدافع الله!فبهت الوزير الفرنسي..